الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة30%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 198

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 198 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 101299 / تحميل: 7977
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ١

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وإذا كان لهذا المرض آثاره السلبية في الحياة الاجتماعية ، فإنّ له آثاراً مدمّرة في الحياة الزوجية ، لأنّه يتناقض تماماً مع متطلبات الحياة المشتركة ، والاعتراف بحقوق ورؤى وآراء الطرف الآخر ، ولا يتوقف خطر ذلك على الزوج أو الزوجة بل يمتد ليشمل مصير الصغار أيضاً.

إنّ الأنانية والنرجسية تجعل الحياة ضيقة خانقة بالنسبة للأزواج الذين قد يتحملون ذلك لاعتبارات عديدة ، ولكن مع تحمّل الآلام والمرارة إضافة إلى سقوط شخصية الأنانيين في نظر أزواجهم ونظر الجيمع.

٤ - الشعور بالنقص:

قد يكون التكبر نتيجة للشعور بالنقص ، وفي محاولة لتعويض ذلك يَجْنح الإنسان للسير في خُيلاء مصعّراً خده للآخرين ، في حين يعاني في أعماقه خواءً وإحساساً بالحقارة.

ولعل للأزمات التي تعصف في حياة بعض الناس وعجزهم عن الدفاع والمقاومة دوراً في ظهور هذه العقد في نفوسهم ، وتؤدي بهم في النهاية - وفي محاولة التعويض عن هذا الإحساس - إلى الميل للتكبر والاستعلاء على الآخرين.وعادة ما يعاني المتكبرون من خواء نفسي وشعور بالمهانة يتحمل آلامها أولئك الذين يرتبطون معهم برباط الزواج ، إذ عليهم أن يتحملوا ألواناً من الممارسات المعقدة التي تشف عن تلك المشاعر المريضة.

أمّا أولئك الذين يتمعتون بغنىً روحي ، فعادة ما يكونون على جانب كبير من اللياقة التي تؤهلهم لإدارة أنفسهم وجلب احترام الآخرين لهم.

تقييم الذات:

القليل من الناس من يعرف قدر نفسه ، ويتصرف على ضوء ذلك ، بينما يخطىء الكثير في تقييم ذواتهم أو يرونها بغير حجمها الطبيعي ، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور عقدة الغرور.

وفي الحياة الزوجية تتجلى ضرورة الرؤية السليمة للطرفين لنفسيهما

٦١

ولكل منهما ؛ والأساس في ذلك أن تستند تلك الرؤية إلى الاحترام الكامل للطرف الآخر على أساس إنسانية الإنسان.ولا مجال هنا لأي محاولة ، أو سعي ، لإثبات خطر التفوق والشعور بالاستعلاء الذي يهدد سلامة الحياة الزوجية.

إنّ حلاوة الحياة المشتركة هي في تلك الألفة والمودّة التي تربط الطرفين بوشائج متينة ، حيث تذوب جميع الفروقات بينهما في اتحاد فريد.وعندما يبدأ الزوجان في المقارنة بينهما عندها تقرأ الفاتحة عليهما وعلى حياتهما معاً.

ومن الخطأ الجسيم أن يحاول المرء توظيف موقعه - مهما بلغ من العلو - في علاقاته مع زوجه وشريك حياته ، أو يسعى إلى تحقير الطرف الآخر ؛ الذي يجد نفسه مضطراً للبحث عن عيوبه وبثّها هنا وهناك.

ضرورة التغيير:

إنّ مصلحة الحياة الزوجية تتطلب من الزوجين البحث عن السبل التي تؤدي إلى الاتحاد بينهما والتضامن ، بروح المحبة.ينبغي عليهما أن يلاحظا ذلك في أحاديثهما ، وفي طريقة تفكيرهما ومواقفهما.ينبغي أن يكون سلوكهما باعثاً على الأمل في الحياة والمستقبل.

أيَّة لذة يجنيها الزوج الذي يحوّل زوجه إلى إنسانة تشعر بالحقارة والمهانة والصَغَار من أجل أن يروي ظمأه وتعطّشه للتفوق والاستعلاء ؟! وأيَّ مجد سيحصل عليه إذا جعل من زوجه بوقاً يسبح بحمده وثنائه ليل نهار ؟!.

نعم ، إنّ الرجل سيد الأسرة ، ولكن عليه أن يعيَ مسؤوليته جيداً في إدارة الأسرة كهمّ كبير ، لا كمنصب يستعدي التفاخر والاعتداء

إنّ أدبياتنا كمسلمين ، تدعونا - ومن أجل إسعاد الآخرين - إلى أن ننأى بأنفسنا عن كل أشكال الأنانية ، والعمل بكل ما من شأنه أن يفيد المجتمع ويجعل الحياة فيه بسيطة وجميلة.

٦٢

طريق الحياة المشتركة:

أن يتجمل الزوجان لبعضهما أمر حسن ، ولا يحتاج إلى بحث أو نقاش.وأن يكون أحدهما في نظر الآخر عزيزاً غالياً - هو الآخر - لا غبار عليه.ومن وجهة نظر الإسلام كنظام اجتماعي يحث المرء بعد الارتباط بالزواج أن ينظر إلى شريكه في الحياة على أنّه المعشوق الوحيد في هذا العالم.

على أنّ هذا لا يستدعي التمثيل والتظاهر ، بل ينبغي أن تكون العلاقات صميمية يسودها الصفاء والسلام.ينبغي أن يكون هناك تعاون في كل شؤون الحياة أن تكون هناك مشاركة مخلصة بين الزوجين وتقاسم للحياة بكل حلاوتها ومرارتها.

لقد منح الله الإنسان العديد من النعم التي لا يمكنه إحصاؤها ، فضلاً عن استقصائها ، ولا يليق بالإنسان - كإنسان - أن يوظف تلك الهبات والمزايا في طريق الآثام ، ناهيك عن الأضرار الجسيمة التي تؤدي إلى تدمير حياته.

اجتناب المعاملة الفظّة:

وأخيراً ؛ يوصي الإسلام الزوجين بتعزيز الأُلفة والمحبة بينهما ، وأن لا يتوقف الزوجان عند مسألة الذوق - مثلاً - أو الرؤية ، بل يسعيان ما أمكنهما ذلك إلى توحيد ذوقهما وطريقة تفكيرهما بعيداً عن روح التفوق والسيطرة ، التي تتناقض مع الحب والمودّة ينبغي أن يكون البيت الزوجي عشاً دافئاً زاخراً بالمحبة والحنان لا معسكراً تدوّي فيه صرخات الأوامر التي لا تقبل النقاش.

إنّ الإحساس بالغرور ، والفظاظة في التعامل يحوّل الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق ، ولذا فإنّ طريق الحياة المشتركة يحتاج إلى اعتدال وتحمل وتسامح.وإذا كان هناك تفوّق في شأن يمتاز به أحد الزوجين على الآخر ، فإنّ هذا يستدعي الشكر لله والثناء عليه ، لا أن يكون سلطة يستخدمها لقمع زوجه وشريك حياته.

٦٣

الفصل السادس

تعيين الحدود

الحرية من نعم الله الكبرى التي تنشدها الإنسانية في تاريخها الطويل الحرية ، هي تلك الكلمة التي تطفح بالمعاني الجميلة والأحلام ، وتلك الأمنية التي من أجلها تثور الشعوب وتُقَدِّم - من أجل تحقيقها - الغالي والنفيس.

للحرية جذورها في أعماق الإنسان ، بل وحتى الحيوان.فالطائر السجين في القفص يضرب بجناحيه القضبان هنا وهناك بحثاً عن نافذة أو كوّة يمكنه من خلالها الخلاص من الأسر ، والعودة إلى دنيا الحرية.وما أكثر الطيور التي ماتت في أقفاصها حزناً وكمداً.

أمّا الإنسان فهو أكثر تعلقاً بالحرية وتشبّثاً بها من كل المخلوقات ، فهو دائم السعي للحفاظ عليها وصيانتها ، حتى إذا شاهد يوماً عائقاً يقف في طريقه حاول إزالته وإزاحته جانباً لكي يستأنف تقدمه نحو الهدف المنشود.

الحياة العائلية والحدود:

لا ريب في أن يتزوج ويدخل عالم الحياة المشتركة مع إنسان آخر ، هو بحد ذاته نوع من التقيّد ببعض الحدود والضوابط التي تستدعي منه مراعاتها.وعليه يفقد المرء جزءاً من حريته لصالح الطرف الآخر الذي يشاركه حياته ؛ وإذن فإنّ حرية المتزوج تنتهي عندما يبدأ حق الآخرين ، فهناك ما يقيدها ويجعلها في إطار محدود خدمة للصالح العام - إذا صح

٦٤

التعبير - ؛ ذلك لأنّ الأسرة ، وإن بدت كمجتمع صغير ، إلاّ أنّها تحمل كل مقومات المجتمع الكبير.

فلو أن كان عضو في الأسرة يعمل ويتحرك في ضوء أهوائه وأذواقه ، دون أن يأخذ بنظر الاعتبار ( الآخرين ) في ذلك ، ستعمّ الفوضى وسيطغى الاضطراب ، وبالتالي ستتفكك الأسرة.

وإذن ، فإنّ هناك حدّاً للحريات والطموحات الشخصية التي ينبغي أن تنتهي عندما تصطدم ومصلحة الأسرة ، والحياة المشتركة.وقد تكون المرأة معنيّة أكثر بهذا الموضوع ؛ باعتبار أنّ الرجل أكثر ميلاً للاستمتاع بالحرية ، وقد يشعر بالغضب عندما يرى أنّ حريته تتعرض للقيود ، وفي هذه الحالة على المرأة اتخاذ أسلوب مناسب ؛ يعتمد المداراة والتخفيف من حدة بعض الالتزامات ، ريثما تتوفر الأرضية المناسبة.وفي غير هذه الصورة ، سوف يَجْنَح الرجل إلى الاستبداد في رأيه ، وربّما النزاع.

وفي هذه المناسبة ينبغي أن نذكر الرجل أيضاً ، بأنّ زمن الحرية المطلقة قد انتهى وأنّ الزواج بداية لعهد من المسؤوليات التي تتطلب منه غض النظر عن كثير من الأمور والحريات.

على هامش الحدود:

من أجل الإشارة إلى مدى نطاق هذه الحدود ، يمكن إدراج ما يلي:

١ - تنظيم الحضور:

وهذه من أبرز المسائل وأكثرها حساسية ، وينبغي للزوجين الاتفاق عليها بعد أن اختارا الحياة سوية في بيت واحد وتحت سقف مشترك.ولذا ، فإنّ على الرجل أن ينظم وقته بحيث يكون له حضور في المنزل إلى جانب زوجته وأولاده ، بمعدل يقترب من نصف ساعات اليوم ، ذلك أنّ المرأة ترغب في تواجد زوجها مثلما يرغب الرجل في حضور زوجته وتواجدها داخل البيت.

ومن الخطأ أن يبعثر الزوجان وقتيهما خارج المنزل هنا وهناك ، دون أن يفكرا بمسؤولياتهما تجاه الأسرة.وخلاصة المسألة أنّه ينبغي على الزوجين

٦٥

تنظيم وقتيهما دون حساسية أو انزعاج من سؤال أو استفسار.وفي المقابل ، إذا ما حدث وخرق أحد الطرفين عادته في عودته، فلا ينبغي أن يكون هذا مثاراً للجدل أو النزاع.

٢ - المعاشرة:

المرأة والرجل أحرار في التعبير عن آرائهما في الحياة المشتركة ، وأسسها ، وما يتعلق بها.غير أنّنا نجد - ومع الأسف - ممارسات قمعية لدى أحدهما ، تقذف الرعب في قلب الآخر وتمنعه من أبداء رأيه في شؤون الأسرة.

فقد نجد لدى أحد الطرفين رغبة في الحديث عن شأن ما ، تمنع من ظهورها الخشية من حدوث نزاع ، أو يودُّ أحدهما لو أبدى رأيه في مسألة من المسائل ولكنّه يخاف أن يكون عرضة للسخرية فيجنح إلى الصمت المطبق ، محتفظاً بآرائه لنفسه يعالج همه في أعماقه دون أن يفصح عن أسرار ألمه إلى أحد.

٣ - التقيد في الإجراءات:

قد نرى التقيد في بعض الأحيان في إجراء يتخذه الأب - مثلاً - لتأديب ابنه عندما يرتكب خطأً يستحق العقوبة ، وفي هذه اللحظة بالذات تظهر الأم كحاجز يوقف تنفيذ الإجراءات ممّا يؤدي إلى النزاع والمواجهة.

قد يتخذ بعض الآباء إجراءات غاية في القسوة ربّما تعرّض إلى مخاطر كبرى ، وفي هذه الحالة على الأم أن تتدخل لمنع إجراء كهذا.

إنّ التدخل من قبل أحد الطرفين في شؤون وأعمال الطرف الآخر خطأ كبير يقود إلى النزاع ، وعوضاً عن هذا الأسلوب الصِدامي ، ينبغي على الزوجين أن يفكّرا بوسيلة مناسبة في تقديم النصح اللازم تحفظ للطرفين جميع الحقوق والاعتبارات.

٤ - في الميزانية:

ربّما يقتضي الجانب الاقتصادي في حياة الأسرة أن يبسط الرجل في الإنفاق ، وأن تكف المرأة يدها في الاستهلاك.إنّ الكرم والسخاء في حياة

٦٦

الرجل صفة طيبة ومحمودة ، ولذا فعليه أن يوسّع في الإنفاق على عياله وأسرته ، وأن لا يقصر في ذلك ما أمكنه ، وعلى المرأة أن تدير شؤون منزلها حسب الإمكانات المتوفرة وأن لا تتخطى الحدّ المعقول في ذلك.

إنّ البُخل في حياة الرجل خصلة مذمومة كما الإتلاف في حياة المرأة.إنّنا - ومع الأسف - نجد بعض الرجال الذين وهبهم الله من نعمه ولكنّهم يبخلون على أهليهم وأنفسهم ، ويكدّسون الأموال فوق بعضها تحسّباً لفقر محتمل ، في حين يعيش أهلهم وأبنائهم في فقر مدقع صنعوه بأنفسهم !.

٥ - الطمأنينة وراحة البال:

نجد في بعض الحالات نزاعاً ينشب في الأسرة بسبب شعور أحد الطرفين بالتهديد المستمر من قبل الطرف الآخر ، فمثلاً: نجد زوجاً يقضي جلَّ نهاره في العمل والكدح خارج المنزل ، ثمّ يضيف إلى ذلك أعمالاً أخرى إضافية من أجل تأمين دخل يغطي مصروفات عياله ، وعندما يعود إلى المنزل من أجل التقاط أنفاسه إذا به يواجه امرأة ناكرة للجميل تحول ساعة إستراحة إلى جحيم لا يطاق.

أو بالعكس ، حيث تجد امرأة تنهض للعمل في المنزل مع خيوط الفجر ، تدير شؤون بيتها ، وترعى صغارها ، وتغسل الثياب ، وتطهو الطعام ، وعندما يحلّ المساء وتحاول أن تستريح إذا بالرجل يصرخ في وجهها: لماذا لم تغسلي الثوب الفلاني ؟ أو تكْوي القميص العلاني ؟ لماذا طعامك مالح ؟ أو عديم المذاق ؟ غافلاً عن أن زوجته لم تفعل ذلك عمداً ، أو لم تجد الوقت الكافي لكي تكوي له ثيابه - مثلاً -.إنّ محاولات كهذه ، وإن بدت بواعثها صغيرة وتافهة ، إلاّ أنّها تهدد الكيان الأسري بالخطر.

٦ - طرح الأسئلة:

تنشب النزاعات في بعض الأحيان إثر إلحاح في الأسئلة التي يطرحها

٦٧

أحد الطرفين ، وبصورة غالبة الرجل ، حتى يتحوّل الأمر في بعض المرات إلى محضر تحقيقي ، تحسّ فيه المرأة بشكل أو بآخر بأنها نابعة من سوء ظن أو شك ، وعندما تعتقد المرأة ببراءتها فإنّها تشعر بالمرارة لذلك.وقد تتراكم تلك المرارات في أعماقها وتتفاقم ، وعندما تجد فرصة مناسبة تتفجر عن نزاع رهيب يهدد الأسرة بالدمار.

وعادة ما تثير الأسئلة المكررة نوعاً من الحساسية ، وتزرع في النفس نوعاً من سوء الظن ، حتى لو كانت نابعة عن حسن ظن.ولذا ، فعلى الرجل أن يلتفت إلى هذا الجانب في حياة المرأة ؛ لأنّ صفاء البيت في الواقع يعتمد على صفائها ، وعندما يتعكر مزاجها فإنّ صفاء الأسرة برمّته يتعرض للخطر.

الأسباب:

ومحاولةً للإشارة إلى بواعث تلك القيود ، يمكن الإشارة إلى ما يلي:

١ - الجهل:

قد تتصور المرأة أنّ عمل زوجها خارج المنزل هو ضرب من ضروب التسلية والمتعة ، غافلة عن مصاعب عمل زوجها والإرهاق الذي قد يشعر به.وفي مقابل ذلك يتصور الرجل أنّ زوجته ناعمة البال في مأمن من هجمات البرد وضربات الحر ، وأنّ المنزل مجرّد مكان للاستراحة والاسترخاء.ولو اطلع كل منهما على معاناة صاحبه لتصححت رؤيتهما ، ولارتفع رصيد كل منهما لدى الطرف الآخر ، ولارتفعت الكثير من القيود التي يحاول كل منهما فرضها على الآخر.

٢ - سوء الظن:

قد تبرز القيود في بعض الأحيان بسبب سوء الظن ، الذي قد ينجم عن الخيال أو سوابق الماضي.ومن الضروري للزوجين أن يجعلا أنفسهما محلاً للشبهات ، إذ أنّ من السهل جداً أن يتهم الإنسان بشيء ما ، ولكن من الصعب إزالة آثار هذا الاتهام.وإذن ، ينبغي أن تكون المعاشرة والممارسات بعد

٦٨

الزواج بشكل لا يستثير الظنون والشكوك ؛ وذلك صوناً للسعادة الزوجية وحفاظاً على البناء الأسري.

٣ - إيحاءات الآخرين:

ربّما تنشأ القيود والحدود نتيجة لإيحاءات الآخرين الخاطئة ، انطلاقاً من نوايا مغرضة ، وحتى بسبب الجهل ؛ فقد نشاهد - ومع الأسف - بعض الافراد الذين يحاولون مغرضين تقويض بناء أُسر تعيش في حالة من الصفاء والمودّة ، وممّا يزيد الطين بلّة بساطة بعض الأزواج وسرعتهم في التأثر بتلك الإيحاءات ، ممّا يؤدي إلى تزلزل الحياة العائلية ونشوب حالة النزاع

وفي هذه الحالة ينبغي على الزوجين المنع والتصدي لمثل هكذا محاولات خبيثة ، وتفويت الفرصة على هؤلاء في إثارة الفتن والمشكلات.

٤ - النرجسية:

وأحياناً نشاهد بعض الذين لا يرون سوى أنفسهم ولا يقيمون للآخرين أي حساب ، انطلاقاً من اعتبار أنفسهم في مستوى يفوق الآخرين في كل شيء ، ولذا فهم يرون من حقهم الإمساك بزمام الآخرين من أعضاء الأسرة وقيادتهم ، بالرغم من أنّ بعضهم إنّما يفعل ذلك بنوايا حسنة باعتبارهم يفوقون الباقين في مستوى تفكيرهم ومعرفتهم ، ولذا فمن حقهم فرض رؤيته على الآخرين.

٥ - غياب الحب:

وأخيراً يقف غيابُ الحبِّ كسبب وراء بعض القيود والضغوط التي يمارسها أحد الزوجين من أجل إجبار الطرف الآخر على الفرار وإخلاء الساحة ، ولذا يوجه أحدهما أسلحته بكلمة جارحة، أو بإهانة مقصودة ، أو بفرض بعض الحدود ؛ لحمل الطرف الآخر على التفكير بالانسحاب والفرار.

ونحن هنا لا نتهم الرجل أو المرأة بذلك ، فقد يكون ذلك رغبة من الرجل في التخلص من زوجته ، أو ميلاً من المرأة للخلاص من زوجها ، وكل هذا إنّما ينبعث من عدم الإحساس بالمسؤولية وعدم إدراك الواجب

٦٩

الملقى على عاتق الزوجين إزاء حياتهما المشتركة.

إنّ الحياة الزوجية تتطلب من كلا الطرفين تجاوز بعض المسائل ، من قبيل: الحرية ، والأنانية ، والتكبر ، والإعجاب بالنفس ؛ لكي يتسنّى لهما الحياة في ظلال من المحبة والسلام.

ضرورة استمرار الحياة الزوجية:

ينبغي أن نذكّر البعض من الرجال أو النساء ممّن يهدفون - ومن خلال التنازع مع أزواجهم وفرض القيود عليهم - إلى العيش بسلام في منازلهم أو منازل أخرى بأن المستقبل مجهول تماماً ، ولا يمكن التنبؤ به أبداً.

وأيضاً نذكّر بعض الأزواج الشباب الذين يحاولون - ومن خلال التهديد المستمر واستخدام القوة - انتزاع حماية الطرف الآخر لهم ، بالحقيقة التي تفرض نفسها بقوة وهي أنّ العنف لا يمكن أن يولّد الحب الحب الذي ينهض على أساسه البناء الأسري والعائلي.

إنّ الحياة الزوجية تستلزم شكلاً من أشكال التضحية والإيثار والحب ، وأن يتجاوز الطرفان عن بعض رغباتهما وأهوائهما من أجل الآخر ، لكي يمكن الحصول على دعمه وتضامنه وولائه.

٧٠

الفصل السابع

تحمّل الآخر

من أجل تشكيل الأسرة ينبغي البدء بحياء الأُلفة ، حيث يعتبر الزوجان أنفسهما مسؤولين عن بعضهما ، وعليه ينبغي أن يتحمل أحدهما الآخر ويصبر عليه ، لكنّنا - ومع الأسف الشديد - نجد البعض - وبسبب التحريضات أو ضغوط العمل والحياة - يفتقد هذا الجانب في حياته ، فلا يعود يتحمّل صاحبه وشريك حياته ، ويثور من أجل سبب تافه ، ممّا يعرّض الحياة المشتركة للزوجين إلى الخطر.

وفي هذا الفصل سوف نتعرض إلى البحث في جذور هذه المسألة والإشارة إلى الأسباب التي تقف وراء عدم تحمّل الأزواج من الشباب لأخلاق بعضهم البعض ، انطلاقاً من أنّ معرفة الداء يساهم في اكتشاف الدواء ، إلى حدٍّ ما.

صور متعددة:

تزخر الحياة بصور متعددة من السلوك والممارسات والمواقف ، ويمكن القول إنّ لكل إنسان طريقة عمل وسلوك معين ، وفي عالم الحياة الزوجية يتصرف بعض الأزواج كما لو كانوا سادة يصدّرون الأوامر إلى عبيدهم ، وما على شركاء حياتهم إلاّ الطاعة والتسليم.

فقد نرى زوجاً يتصرف مع زوجته ويعاملها كما لو كانت خادمة أو جارية ، لا حظّ لها بشيء سوى الطاعة ، يثور من أجل كل شيء ، وبسبب أي شيء لماذا لم تقومي بالعمل الفلاني ؟ ولماذا الطعام الفلاني غير

٧١

جاهز ؟ لماذا ولماذا ؟؟ غافلاً عن أنّ الزوجة ومن وجهة نظر شرعية وقانونية ليس مكلّفة أبداً بالقيام بهذه المهمات ، وأنّ تعهدها بذلك هو عمل إنساني نبيل ، تستحق من أجله التقدير والإجلال والثناء.

وفي مقابل ذلك نرى نساءً يعاملن أزواجهن كما لو كانوا عبيداً أذلاء ، يتحركون كما تتحرك بيارق الشطرنج وفق حساب معين ، أو أمر معين ، أو نهي محدد.فإنّ كان الزوج فقيراً ذكّرته بذلك مراراً وتكراراً ، وأشارت إلى ثرائها وغناها ومنّت بالحياة معه.

إنّ مثل هكذا ممارسات لا تتفق مع حقيقة الإنسانية وأصول وأسس الحياة المشتركة التي يدلّ اسمها على الاشتراك في كل شيء.

سوء الخلق:

إن سوء الخلق والفظاظة في التعامل وعدم تحمل الآخرين يقف وراء الكثير من المشاكل والنزاعات التي تعصف بالحياة الأسرية ، بل يمكن القول: بأنّها نار مجنونة تلتهم الأخضر واليابس ، وتحوِّله إلى هشيم تذروه الرياح.

لقد أثبتت الدراسات أنّ سوء الخلق ، والإساءة في التعامل ، وعدم التحمل ، يؤدي إلى الشيخوخة.حيث يغزوه الشيب قبل وقته ، كما أثبتت البحوث أيضاً ، أنّ أكثر أمراض القلب وأمراض العصبية إنّما تنشأ بسبب النزاعات وعدم التحمّل ، خاصة لدى الأزواج المغامرين ، إضافة إلى أنّ الحياة تفقد معناها إذا تحولت إلى جحيم مستعرة بسبب هذه الأخلاق.

إن الأجواء المتشنجة والمتوترة ، التي يصنعها التعامل الفظ ، والاساليب القمعية في الأسرة ، تعرِّض الاطفال إلى خطر كبير ، حيث تتأثر نفوسهم الغضّة ويصيبهم الدمار الذي لا يمكن إصلاحه ، كما يفقدهم الشعور بالطمأنينة التي هي أكبر حاجة لتنشئة الطفل نشأة سليمة ؛ هذا إذا لم يحدث الانفصال الذي يعرّض الأطفال إلى أخطار حقيقية مدمّرة ، وقد يسلمهم إلى الضياع والشوارع والليل.

٧٢

البواعث:

للبحث في الأسباب التي تكمن وراء ما ذكرنا يمكن الإشارة إلى ما يلي:

١ - غياب التفاهم:

إنّ غياب التفاهم بين الزوجين وعدم إدراكهما الضوابط التي ينبغي مراعاتها في التعامل يؤدي إلى ظهور المشاكل العديدة ونشوء النزاع ، ذلك أنّ التفاهم هو الذي يهيء الأرضية اللازمة للبحث في الكثير من الأمور ذات الاهتمام المشترك.وتعدد أسباب عدم التفاهم والانسجام ، فمنها ما يعود إلى الاختلاف الفاحش في السن والتجربة والخبرة في الحياة ، ومنها ما يعود إلى اختلاف الأذواق بشكل يؤدي إلى التصادم العنيف.وممّا يبعث على الأسف أنّ الزوجين - وبعد مضي شهور عديدة أو سنوات على حياتهما المشتركة - قد أخفقا في إدراك بعضهما البعض بشكل يمكن فيه تلافي الكثير من المشكل ببعض التحمل والمداراة.

٢ - الفوضى في الحياة:

هناك الكثير من الأفراد ممّن يهتمون بالنظام إلى حدٍّ يتحول فيه ذلك إلى هاجسهم الوحيد ، فأقل إخلال يدفعهم إلى الثورة والعصبية.

وفي مثل هكذا حالة ماذا يمكن أن يحدث لو عاد الرجل - مثلاً - إلى منزله وهو يتصور أن كل شيء على ما يرام ، وإذا به يرى الفوضى تعمّ كل شيء فلا يجد حتى مكاناً يستبدل فيه ثيابه.ربّما يعتبر البعض أنّ الأمر ليس بهذه الخطورة ، ولكن الحقيقة تقول عكس ذلك.إنّ ذلك يبعث المرارة في قلب الرجل ، بل ويهيء ظروف تفجر نزاع لا تُحمد عقباه.

٣ - الإجهاد في العمل:

ما أكثر الأشخاص الذين نراهم يثورون لأتفه الأسباب.وعندما نحاول البحث عن العلة في ذلك نجد أنّ العمل المتواصل، والإرهاق ، قد أضعف

٧٣

أعصابهم وأفقدهم القدرة على التحمل ، فإذا بهم يهاجمون أزواجهم بشراسة ، ودون رحمة ، ودون سبب وجيه ولو في الظاهر.

وقد نرى هذه الظاهرة حتى لدى النساء ، من اللواتي يصل عملهن داخل المنزل حداً وسواسياً رهيباً ، يجعلهن في النهاية جنائز - إذا صح التعبير - حيث يفقدن القدرة على التعامل مع أزواجهن بلباقة وأدب.

إنّنا نوصي الأزواج - نساء ورجالاً - في اتخاذ جانب الاعتدال في العمل والحفاظ على الحدود التي تكفل التوازن المنشود.

٤ - الاضطراب الفكري:

قد نجد أفراداً يعانون من اضطرابات فكرية ومن تشوش ذهني ، وتعصف في رؤوسهم عشرات المسائل والمشاكل والهموم.

إنّ هذه المشاكل ، وما يتبعها من وسوسة فكرية ، تجعلهم سريعي الإثارة ، قليلي التحمل شديدي العناد ، ولذا فإنّهم ينفجرون لأقلّ اصطدام ، ممّا يدفعهم إلى إفراغ ما في أعماقهم من ثورة وغضب.

٥ - عوامل خارجية:

قد ينشأ النزاع في الأسرة بسبب عوامل خارجية ، فمثلاً: يعمل الزوج في مكان ما ، ثمّ يحصل له نزاع مع زملائه في العمل ممّا يخلّف في نفسه شعوراً بالمرارة يدفعه إلى إفراغ غضبه في محيط أسرته، لسبب أو لغير سبب.أو نجد إحدى السيدات تتطلع إلى حياة جارتها المرفَّهة ، فلا تملك نفسها ، حيث تتولد في أعماقها الحسرة ، التي تعبر عن نفسها أحيانا بالتشكّي والبكاء.

ولعل الشباب يدركون مدى وضاعة مثل هذه التصرفات ، عندما يواجه أحدهم مشكلة في الخارج فينطوي على نفسه ، فإذا عاد إلى منزله يحاول إفراغ همّه وصبّ غضبه على أفراد لا ذنب لهم في ذلك.

٧٤

٦ - عدم التحمّل:

قد يفقد المرء صبره أمام أسئلة توجهها زوجته إليه فيثور في وجهها.قد تكون تلك الأسئلة بريئة ولكنّه ينزعج منها ويصرخ: لماذا لا تكفّي عنّي ؟! دعيني وشأني.

وقد تنجم المشاكل بسبب نوايا حسنة تماماً ، مثلاً: ينتظر الزوج طعاماً ، ولكنّ الزوجة ، ومن أجل إعداد طعام لذيذ ، تتأخر قليلاً.عندها يثور الزوج فيقيم الدنيا ولا يقعدها.وربّما يكون المرض علّة وراء عدم التحمّل أيضاً ، حيث تتأمل الزوجة في ملامح زوجها وتتساءل خائفة: لماذا وجهك مصفّر أو لماذا تبدو هكذا ؟ فيتأفّف الزوج ، ثمّ سرعان ما يثور معبّراً عن استيائه وغضبه من تلك الأسئلة التافهة.

٧ - انعدام التوازن النفسي:

نصادف بعض الأحيان أزواجاً يفقدون التوازن النفسي ، الأمر الذي يجعلهم مهزومين نفسياً ، كما أن بعضهم يعاني من إحساس بالصَغار والذلّة ، ولذا فهم يفرغون عقدهم تلك في محيط أسرهم ، فترى أزواجهم وأولادهم يعانون الأمرّين في ذلك ، وقد يعاني بعضهم من هوس نفسي يفقدهم حالة الاستقرار الروحي المطلوب ، فيصبّون غضبهم على هذا وذاك ، كما نجد البعض مصاباً بنوع من الساديّة ، حيث يتلذذ بتعذيب الآخرين من خلال السخرية بهم ، فإذا لم يمكنهم ذلك مع الناس أفرغوا عقدهم تلك داخل البيت على أسرهم.

ولا شك أنّ ما ذكرناه هو حالات مرضيّة تستدعي العلاج ، غير أنّ المشكلة تكمن في أنّ أولئك لا يدركون أنّهم يعانون من حالة مرضية ، وإلى أن يفهموا ذلك يكون الوقت قد فات.

٨ - غياب المداراة:

وأخيراً: فإن عدم اعتماد المداراة في التعامل واحترام مشاعر الآخرين يؤدي إلى نشوب الكثير من المنازعات التي يمكن تجنّبها بشيء من اللباقة.

٧٥

الصراحة صفة حميدة إذا لم تخرج عن دائرة الخلق والأدب ، كما ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار الطرف المقابل وقدرته على التحمّل.

يقوم بعض الأزواج - ومع الأسف ، وحيث لم تمر بعد إلاّ أيام معدودة على زواجه - بمصارحة زوجه بعيوبه ، الأمر الذي يجعل الطرف الآخر عرضة لتلقّي الطعنات ، فينطوي على نفسه حزيناً يتحيّن الفرصة للانتقام في المستقبل.

أيّة صراحة هذه التي تؤدي إلى اشتعال النار لتحرق البيت ومن فيه ؟! وأية صراحة هذه إذا كانت تفعل في نفس الإنسان فعل الخنجر المسموم ؟!.

إنّ الحياة الزوجية تتطلب دقّة في الحديث وحذراً في التعامل ، وإذا كانت الصراحة تؤدي إلى ظهور آثار مدمرة فينبغي إقصاؤها بعيداً ، فهناك من الأساليب ما يغني عن ذلك ، ويؤدي إلى أطيب النتائج.وفي كل ما ورد من أسباب يتحمّل الرجل والمرأة مسؤوليتهما تجاه ذلك على حدٍّ سواء ، قد يتحمّل الرجل في بعض الأحيان مسؤولية كاملة تجاه ما ينشب من نزاع ، وقد تتحمّل المرأة المسؤولية كاملة ، ولكن في أغلب الأحيان يشارك الاثنان في صنع المأساة التي تشملهما معاً فيما بعد.

وفي كل ما ذكرناه يكمن غياب العقل كسبب مباشر في تلك النزاعات التي تعصف بالحياة الزوجية.

ففي بحث جميع تلك المشاكل يستلزم الزوجان فقط قدراً من التعقّل لتنقشع جميع السحب من سماء الأسرة.

ضرورة ضبط النفس:

من الخطأ أن يقدم المرء على رد فعل عنيف تجاه ما يصدر عن زوجه من عمل خاطىء ؛ إنّ المواقف المتشددة وردود الفعل المتشنجة تخلق في البيت حالة من التوتر الذي قد يفجّر الوضع في كل لحظة.ولذا فمن الضروري جداً ضبط النفس ومراعاة حالة الزوجة ومحاولة

٧٦

التعرف على السبب الكامن وراء ذلك العمل الخاطىء.إنّنا إذ نخاطب الرجل في ذلك ؛ لِعِلمنا جميعاً بأنّه أقل عاطفية من المرأة. وقد ورد في الروايات أنّ من يتحمّل أذى زوجته ولا يطلب في ذلك إلا مرضاة الله وهبه الله ثواب الشاكرين.

إنّ التحمّل والتسامح مفتاح الكثير من المشاكل وجانب مهم في حياة الإنسان وقدرته على الإرادة.

السعي الدائم للتفاهم:

من الممكن جداً أن يعيش الزوجان حالة من المودة والصفاء إذا قرّرا ذلك فإرادتهما للتفاهم والسعي الدائم للتقارب الأخلاقي والروحي ومحاولة التركيز على النقاط الإيجابية المشتركة يمكّنهما من خلق الأرضية المناسبة لبناء علاقة وطيدة.

إنّ الرقّة في الحديث المتبادل وتركيز الزوجين على بعض النقاط وتسليط الضوء عليها على أساس أنّها السبب في انتخاب بعضهما البعض يشجع الطرفين على التقارب أكثر فأكثر ، وتذويب الجليد الذي قد يقف حائلاً بينهما.

فقد تكون زوجتك عصبية المزاح - مثلاً - وفي هذه الحالة ومن خلال تحمّلك الإمساك بزمام الأمور دون حدوث مشكلة ما، هذا إذا قررت العيش معها.فالإرادة دائماً - وكما يقول المثل - تصنع الوسيلة.

إن تعاطفك مع زوجتك وهي تمر في أزمة نفسية حادة يجعلها عصبية عنيفة سوف يخفف من حدتها ويهدأها شيئاً فشيئاً.

التأثير الأخلاقي:

من الجدير بالذكر أنّ الأخلاق لها قدرة فائقة في التأثير ، سواء كانت حسنة أم سيئة ؛ إنّ نشاطك وحيويتك سوف يؤثر على زوجتك دون أن تشعر بذلك ، وسرعان ما تبدو ملامح النشاط في وجهها ، وينعكس على تصرفها ،

٧٧

وبالعكس ؛ ذلك أنّ النفس الإنسانية تبدو ، في بعض الأحيان ، وكأنّها مرآة تنعكس فيها المؤثرات الخارجية بسرعة.فإذا بدت زوجتك عنيفة حادّة الطبع عصبية المزاج ، فإن ابتسامتك وطلاقة وجهك ستفعل فعلها وستدفع بها إلى التراجع والشعور بقدر من الحياء.

إن أفضل ما يقوم به الزوج تجاه زوجته هو ليس التشكّي بل السعي إلى الاقتراب من زوجته وفهم ما يدور في خِلدها وما يعتمل في قلبها ، ولا شك أنّ إدراك ذلك سيساهم في حل المشكلة ، أو التخفيف من حدتها على الأقل.

٧٨

الفصل الثامن

الأهداف المادية

الزواج رباط إلهي مقدس ، والحياة الأسرية حياة سامية.ولذا ، فإنّ تشكيل الأسرة ينبغي أن ينهض على أسس رفيعة ومن أجل أهداف عالية ، لكي يمكن لها الديمومة والاستمرار والثبات.

إن ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك ما أيّدته التجارب والمشاهدات اليومية ، لَيؤكد بأنّ الزواج الذي يقوم على أساس الجمال أو الثراء هو زواج لا بدّ وأن ينتهي إلى الإخفاق والفشل ، ذلك أنّ هذه الأهداف قصيرة المدى ضعيفة الأساس ، خاوية المعنى ، وهي سرعان ما تنهار ، وبالتالي ينهار البناء برمّته.

إن الحياة الزوجية يجب أن تنهض على أساس الاحترام الكامل والمتبادل لكرامة الإنسان وإنسانيته ، وهو أمر - ومع بالغ الأسف - قد قوضّته إلى حد ما المدنية الحديثة.

وفي هذا العصر كثيراً ما نشاهد أزواجاً أو زوجات ، ومن أجل مظاهر الحياة الدنيا - يحوّلون بيوتهم ، التي ينبغي أن تكون أعشاشاً دافئة ، إلى ميادين للحرب والصراع ، حيث يكون همّ كلّ منهما قهر صاحبه.

تأمين الميزانية:

لا ريب في أنّ الحياة الأسرية تحتاج ، ومن أجل تسيير شؤونها اليومية إلى ميزانية يمكنها تغطية الحاجات الأساسية ، وغير الأساسية ، بشكل متوازن.إن النظام الإسلامي يجعل هذه المسألة من مهمّات الرجل التي لا تقبل

٧٩

نقاشاً ، حتى لو بلغت المرأة من الثراء حداً يمكنها القيام بذلك.ولذا ، فليس من حق الرجل أن يمدّ عينيه إلى ثروة زوجته ، أو يقرر له حقاً فيها ، أو يأمرها بالمساهمة في الإنفاق على شؤون الأسرة.

وفي مقابل هذا يوصي الإسلام المرأة أن تتكيف مع المستوى المعاشي لزوجها ، وأن تنتهج منهجاً معتدلاً في الإنفاق بما يتوافق مع إمكانات الرجل ، وأن لا تفعل ما من شأنه أن يدفع بالزوج إلى مضاعفة عمله والإجهاد من أجل تغطيه نفقات البيت ، أو يدفعه - لا سمح الله - إلى ارتكاب الحرام من أجل ذلك.وهذه المسألة نراها واضحة جلية في حياة الأزواج من الشباب ، فمن أجل إثبات حبهم يتمسكون بهذا الجانب دون رعاية لوضعهم الاقتصادي.

وفي البحث عن الأسباب التي تؤدي إلى النزاعات ذات الصبغة المادية ، والتي غالباً ما تؤدي إلى شلّ الحياة المشتركة أوالتفكير بالانفصال ، يمكن الإشارة إلى ما يلي:

١ - الوعود الكاذبة:

لقد أشرنا فيما مضى إلى أنذ بعض الزيجات تنهض على أساس خاطىء حيث يكون الهدف - مثلاً - كسب الثراء والتمتع بأملاك الطرف الآخر.

ومن أجل هذا يقوم البعض بدور الثري ويحاول من خلال ذلك النفوذ إلى قلب الفتاة وأهلها ، وبالتالي موافقتهم على الزواج على أساس بعض الوعود ، ثمّ سرعان ما تظهر الحقيقة كاملة ولكن بعد فوات الأوان وحينها ينشب النزاع.

وقد يحصل ذلك حتى بعد الزواج حيث تشترط الزوجة ذلك ، فيقوم الزوج ، ومن أجل إثبات حبه لها ، بإطلاق الوعود الذهبية التي لا تجد لها في أرض الواقع مكاناً مما يؤدي بالزوجين إلى النزاع.

٢ - الكماليات:

من أسباب النزاع في الحياة الزوجية ، بل وحتى الوقوع في الحرام

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

يصبح نجساً شرعاً بالموت. ويستفاد من ظاهر الأدلّة أنّ علّة النجاسة هي الموت. وعلى هذا الأساس، فكلّ شخصٍ لامست يده جسد الميت، ينبغي له أن يغسلها ويغتسل لمس ّالميت. يقول صاحب الجواهر: المستثنى من هذه القاعدة الكليّة أجساد المعصومينعليه‌السلام والشهداء. ففيما يخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورد حديث(٧٢) يدلّ على أنّه طاهر مطَهَّر، وتوجد رواية بهذا المعنى حول الزهراءعليه‌السلام (٧٣) ، ويتمّ في غيرهما من المعصومينعليه‌السلام ، بعدم القول بالفصل، وبالقطع بالاشتراك في العلّة، ولظهور ما دلّ على سقوط الغسل للشهيد(٧٤) بعدم نجاسته بهذا الموت، إكرامً وتعظيماً له من الله الّذي لا يعدّ الشهداء أمواتاً(٧٥) ؛ حيث يقول القرآن الكريم:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الّذين قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٧٦) .

ــــــــــــــ

٧٢ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج٢، ص٩٢٨.

٧٣ ـ النوري الطبرسي، مُستدرَك الوسائل ومستنبَط المسائل، ج٢، ص٤٢، الباب٧ من أبواب الحيض، الحديث ١٦.

٧٤ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج٢، ص٦٩٨، الباب ١٤ من أبواب غسل الميت، ٧٠١.

٧٥ ـ النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام، ج٥، ص٣٠٧.

٧٦ ـ سورة آل عمران: الآية ١٦٩.

١٢١

٢ ـ ٨ ـ إرث الجد للأب والجد للأم: حين يجتمع أجداد المتوفى لأبيه مع أجداده لأمه، كيف ينبغي قسمة التركة بينهم؟

يستفاد من تحديد ميراث الجدّين للأب والأم من نصوص الروايات؛ الّتي تجعل الجد بمنزلة الأخ والجدة بمنزلة الأخت(٧٧) .

يقول صاحب الجواهر(٧٨) : من الروايات الواردة بشأن ميراث الأبناء والأخوات والأخوة، وكذلك من علّة الأفضليّة؛ الّتي منحت للرجال على النساء، يمكن إدراك أنّ عدم وجوب الجهاد على النساء وضرورة إعطائها النفقة... هو الّذي أوجد الفوارق في كيفيّة قسمة الإرث بين الرجال والنساء. والنتيجة المترتّبة على ذلك، أنّه في مقابل ما يتحمّله الرجال من نفقات النساء، ينبغي أن تُراعى هنا أيضاً حقوق الرجال في قسمة الإرث. فضلا ًعن أنّ الروايات الّتي تجعل الجَدَّين بمنزلة الأخت والأخ تفيد هذا الحكم أيضاً. وعلى هذا، فبإدراك المِلاك يمكن أن يُفهَم أن سهم الجد سيكون كسهم الأخ، وسهم الجدة كسهم الأخت في الإرث.

ــــــــــــــ

٧٧ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج١٧، ص٤٤٧، الباب٦، من أبواب ميراث الإخوّة والأجداد.

٧٨ ـ النجفي، محمد حسن، جواهر الكلام، ج٣٩، ص١٥٥.

١٢٢

٢ ـ ٩ ـ فسخ عقد الزواج بكشف العيب: عندما يعقد الرجل والمرأة عقد الوفاء لبعضهما في سبيل تكوين أسرة، فإنّ المفترض بهذا العقد أن يلعب فيه الصدق دوراً أساسيّاً، فتُكشَف جميع التفاصيل، من أجل استمرار هذه العلاقة وديمومة هذا العقد. وعلى هذا، فإنْ كانت هناك قضايا ومعضلات أو حقائق معينة، يمكن أن تكون ـ في حالة انكشافها ـ عائقاً يحول دون استمرار الزواج، ففي هذه الحالة، إذا أخفاها الرجل أو المرأة وأتمّ عقد الزواج(٧٩) ، وبعد عقده ظهرت تلك الحقائق، يمكن للطرف الّذي وقع عليه الضرر، أن يفسخ هذا العقد.

وقد ذُكرت أمثلة عدّة للعيوب الّتي توجب جواز فسخ العقد، ومنها الجنون. فلو كان أحد الزوجين مجنوناً، وأخفى هذا الأمر عن الآخر خلال العقد، ثُمّ انكشف ذلك بعد الزواج، يَحقّ حينئذ للطرف المتضرِّر أن يفسخ عقد الزواج. لكن إذا كان كل من الرجل والمرأة فيه عيب، ترى هل يكون من حق الاثنين ـ الرجل والمرأة ـ أن يفسخا العقد، أم أنّه لا يحقّ لكليهما الفسخ؟؛ بسبب كونهما لم يتضررا، وهما متساويان في وجود العيب؟، يقول صاحب الجواهر: إنّ القول بأنّ لكليهما الحق في الفسخ، لا يخلو من إشكال؛ باعتبار ظهور النص(٨٠) في اشتراط تضرّر أحد الزوجين بوجود العيب في الآخر، بينما في حالة وجود العيب في كلا الزوجين ـ خاصة في الأمور المتعلقة بالمضاجعة ـ لن يتضرّر أيّ منهما؛ لاشتراكهما في وجود العيب(٨١) .

٢ ـ ١٠ ـ وطء الفتاة غير البالغة: في الموثَّقة عن أبي جعفرعليه‌السلام (٨٢) : أنّه ورد عن الإمام عـليّعليه‌السلام قوله:((لا توطأ فتاة لأقل من عشر سنين)) ، وقد استنبط الفقهاء من هذه الرواية، أنّ علّة عدم جواز المضاجعة، هي عدم اكتمال نضج الجهاز التناسلي. ومن ناحيّة أخرى، لمّا لم تكن لديها القدرة على تحمل مشاق الحمل، فسيلحِقُ هذا العمل أفدح الأضرار النفسيّة والجسديّة بتلك الفتاة الّتي لم تبلغ

ــــــــــــــ

٧٩ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج١٤، ص٥٩٢ ـ ٦١٧، أبواب العيوب والتدليس.

٨٠ ـ نفس المصدر، ج١٤، ص٥٩٣، الحديث٣.

٨١ ـ النجفي، جواهر الكلام، ج٣٠، ص٣٦١.

٨٢ ـ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج١٤، ص٧١، الباب٤٥، من أبواب مقدّمات النكاح، الحديث٧.

١٢٣

بعد؛ لذا فإنّه لا يجوز وطء الفتاة الّتي لم تبلغ عشر سنوات من عمرها، ولو كانت تمتلك النمو الجسدي الكافي، فإنّ ذلك العمل يعتبر قبيحاً عقلاً.

ورغم أنّ الرواية واردة في واقعة خاصّة، إلاّ أنّ صاحب الجواهر(٨٣) ، لأجل اكتشافه للعلّة، ولأجل إجماع الأصحاب، يحكم بعدم جواز وطء الفتاة الّتي لم تبلغ. ولا يميِّز بين الزوجة الدائمة والمستمْتَع بها (الزوجة المؤقَّتة)، ويقول: مع أخذ اشتراك العلّة بنظر الاعتبار، فإنّ تخصيص الحكم في بعض الروايات بكلمة (الزوجة)، لا يتنافى والتعميم؛ ((لأنّ التخصيص بالذِّكْر لا يقتضي تخصيص الحكم)).

ــــــــــــــ

٨٣ ـ النجفي، جواهر الكلام، ج٢٩، ص٤١٤.

١٢٤

التخصّص في الأبواب الفقهيّة مدخل إلى التَّطوير والمعاصرة(*)

الشيخ عبد الأمير قبلان

شهد العالمان العربي والإسلامي خلال القرن العشرين، بل ومنذ أوخر القرن التاسع عشر، بروز دعوات مخلِصة للنهوض بحيّة المسلمين، ولإصلاح الفكر الإسلامي وتجديده.

وقد جاءت هذه الدعوات ـ بصرف النظر عن مضامينها ـ بفعل عوامل متعدّدة، نذكر في طليعتها حالة اليقظة والوعي لدى بعض علماء الأمّة والنابهين من أبنائها، والّتي ساهم في إحداثها ردّة الفعل على التغلغل التدريجي لفكر الغرب المادي وقوانينه الوضعيّة(١) ضمن حياة المسلمين. وقد وصل تأثير الدعوات المذكورة إلى الحوزات الفقهيّة الإسلاميّة، ومنها حوزتا النجف وقم، وإنْ في وقت متأخر نسبيّاً(٢) .

في هذا السياق، انطلق الحديث من قبل العديد من الفقهاء المخلصين عن الحاجة إلى تطوير الدراسات الفقهيّة تلبيّة لمتطلبات العصر، ولكن شريطة أن لا يمسّ ذلك الثوابت الدينيّة الأصليّة؛ أي بتعبير مختصر: ((النزوع إلى المعاصرة مع التّمسّك بالأصالة)).

ــــــــــــــ

(*) أُلقيت هذه الدراسة في المؤتمر الدولي الخامس عشر للوحدة الإسلاميّة، موضوعه ((الأصالة والمعاصرة في فقه المذاهب الإسلاميّة))، الّذي يقيمه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، المصادف ١٥ ـ ١٧ ربيع الأول/ ٢٨ ـ ٣٠ أيار ٢٠٠٢م.

١ ـ لعلّ أوّل خطوة سُجِّلت على صعيد تغلغل القوانين الوضعيّة الغربيّة في العالم الإسلامي، هي إقدام الخلافة العثُمانيّة سنة ١٨٤٠م على اعتماد قانون للعقوبات مترجَم عن قانون العقوبات الفرنسي، مع شيء من التعديل. وتزايد هذا التغلغل بالتدريج، مقابل انحسار في مساحة تطبيق الشريعة الإسلاميّة، وذلك مع ازدياد النفوذ الغربي، حتّى انتهى الحال في أكثر أنحاء العالم الإسلامي إلى انحصار تطبيق الشريعة الإسلاميّة في إطار أنظمة الأسرة أو ((الأحوال الشخصيّة)). ولكن حصل قدر من التبدُّل الإيجابي في الفترة الزمنيّة الأخيرة؛ بتأثير الصحوة الإسلاميّة المعاصرة، وقيام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران.

٢ ـ من جملة المظاهر المبكّرة الّتي انعكست فيها هذه الدعوات على صعيد حوزة النجف، تأسيس جمعيّة منتدى النشر، على يد الشيخ محمّد رضا المظفَّر ورفاقه من العلماء... هذه الجمعيّة الّتي أنشأت ((كليّة الفقه)) الجامعيّة.

١٢٥

ويبدو أنّ مؤتمركم الكريم هذا، بجعله فكرة ((الأصالة والمعاصرة في فقه المذاهب الإسلاميّة)) عنواناً رئيساً لأبحاثه، إنّما أراد أن يعبّر عن اهتمامه بتطوير الدراسات الفقهيّة الإسلاميّة، وإنّنا إذ نشكر له ذلك، نتمنى له كل النجاح، وأن يتمخّض عن أفكار مفيدة في هذا المجال. وقد استوقفنا من جملة العناوين الفرعيّة الّتي اشتملت عليها ورقة الدعوة إلى المؤتمر، عنوان مهم يتَّصل بعمليّة تجديد الاجتهاد الفقهي، ألا وهو: ((تشجيع الاختصاص في الأبواب الفقهيّة)).

وسنحاول فيما يلي أن نطلّ إطلالة سريعة على الفكرة الّتي تضمّنها العنوان، موزّعين الكلام على عدة نقاط.

منشأ الحاجة المستمرَّة إلى الاجتهاد:

حيث إنّ الشريعة الإسلاميّة شاملة لمختلف شؤون الحياة؛ فإنّ المسلم المكلَّف، بحكم تبعيته لهذه الشريعة، لابدّ أن يكون سلوكه العملي منسجماً مع أحكامها في شتّى المجالات.

ونظراً لكون تحديد الموقف العملي، على أساس الشريعة، ليس بالأمر السهل، خصوصاً مع البُعد الزمني عن عصر النص، كما هو حالنا اليوم، وما يطرحه مثل هذا الابتعاد من إشكالات. هذا فضلاً عن طروء مسائل وحصول وقائع جديدة باستمرار؛ لذلك فقد توقّفت معرفة الموقف العملي في أكثر الحالات على بذل جهد خاص، مع تحصيل مسبَّق لجملة من العلوم بمستوى الاختصاص. وهو ما يصطلح عليه باسم ((الاجتهاد)). ومثل ذلك ليس متاحاً لكل الناس، بل لطائفة منهم فقط هم المجتهدون. ولم يبق أمام عامّة الناس غير التقليد لهؤلاء المجتهدين (أو اختيار طريق الاحتياط بالنسبة للبعض القليل منهم فقط، نظراً لصعوبة اعتماده).

١٢٦

وباب الاجتهاد أو الاستنباط ظلّ مفتوحاً ولم يُقْفَل لدى الفقه الشيعي. وممّا أسهم في تعزيز مسيرة الاستنباط لديه، ذهاب معظم الفقهاء الشيعة الأصوليين إلى حرمة تقليد الميت ابتداءً(٣) مع ما يعنيه ذلك من الحاجة المستمرَّة إلى وجود المجتهدين الأحياء، المؤهَّلين لإصدار الفتاوى للمقلِّدِين في كل عصر.

أمّا بالنسبة للفقه السنّي، فقد أقفِل ـ مع الأسف ـ باب الاجتهاد في وجهه بتأثير عوامل مختلفة، وذلك منذ منتصف القرن الرابع الهجري(٤) . ولكن شهدنا ونشهد في عصرنا الراهن دعوات متواصِلة لإعادة فتح هذا الباب بصورة واسعة، وذلك من قبل فقهاء كبار؛ بحيث لا يقتصر الأمر على الاجتهادات الجزئيّة المتعلِّقة بالمسائل المستحدَثة، بل يصل حتّى إلى الاجتهاد في الأصول(٥) .

الاجتهاد الجماعي كبديل عن النمط السائد:

إنّ النمط التاريخي المتعارف للاجتهاد، والّذي هو السائد عملياً حتّى اليوم، يقوم على أساس أنْ يتوجَّه كلّ فقيه مجتهد بمفرده لاستنباط الأحكام المتعلِّقة الشؤون بكافّة؛ بحيث يُغطِّي باجتهاده مختلف أبواب الفقه وأقسامه. وهذا النمط يمكن تسميته اصطلاحاً بالاجتهاد العام (بلحاظ شموله المجالات الحياتيّة كافّة)، أو الاجتهاد الفردي (حيث يقوم به فقيه واحد، وليس جماعة من الفقهاء المتعاونين).

وقد نهض الفقهاء الأجلاَّء دائماً ـ ومن خلال نمط الاجتهاد هذا ـ ولا زالوا ينهضون بواجبهم مشكورين في خدمة الأمّة واستنباط الأحكام الاجتهاديّة للمسائل الفقهيّة موضع ابتلائها.

ولكن إذا كان نمط الاجتهاد الفردي قد أدّى ولا يزال يؤدّي ما عليه في خدمة أبناء الأمّة، فإنّ طبيعة الحياة المتغيِّرة، وما شهده عصرنا الراهن من قفزات تطور

ــــــــــــــ

٣ ـ لاحظ مثلاً: حسين بن شهاب الدين العاملي (المتوفى سنة ١٠٧٦ هـ)، هديّة الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار، النجف، ١٩٧٧م، ص٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٤ ـ د. ناديّة شريف العمري، الاجتهاد في الإسلام ـ أصوله، أحكامه، آفاقه، ط١، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ١٩٨١م، ص٢١٨ ـ ٢١٩.

٥ ـ لاحظ مثلاً: د. يوسف القرضاوي، المصدر نفسه، ص٤٢. والشيخ مرتضى مطهري، الاجتهاد في الإسلام، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، دون تاريخ، ص٣٥.

١٢٧

كبيرة، على الصعيدين المادي والمعرفي، أدّت إلى توسّع واضح في مجالات الاجتهاد (من خلال بروز مسائل ومشكلات وتحدّيات أكبر أمامه)، بحيث غدا أكثر صعوبة بالنسبة للفقيه الفرد.

كلّ ذلك قد دفع ببعض الفقهاء(٦) إلى طرح صيغة جديدة، وهي تعاون جماعة من الفقهاء في ممارسة الاجتهاد، بدلاً من النمط السائد. وهذه الصيغة الجديدة أطلق عليها اصطلاحاً اسم ((الاجتهاد الجماعي)).

أسلوبان مطروحان لممارسة الاجتهاد الجماعي:

وفكرة الاجتهاد الجماعي، الّتي لم تطبَّق عملياً إلاّ بصورة محدودة كما سنشير بعد قليل، يُقصد بها ـ في كلام القائلين بها ـ أحد أسلوبين للتعاون بين الفقهاء في ممارسة الاجتهاد:

الأسلوب الأوّل:

ويسمّى ((شورى الفقهاء)) أو ((المجمع الفقهي))؛ ويعني تبادل الرأي بين جماعة من المجتهدين بخصوص المسألة الواحدة؛ بحيث تكون الفتوى المتعلِّقة بالمسألة صادرة عن مجموعهم أو أكثريَّتهم، حسب النظام المتّفَق عليه بينهم. ويمكن لهؤلاء المجتهدين أن يستعينوا بخبراء فنيّين مختصّين في مجالات الحياة المختلِفة.

وقد دعا إلى اعتماد هذا الأسلوب، المؤتمر الأوّل لمجمع البحوث الإسلاميّة بالأزهر المنعقد بتاريخ شوال ١٣٨٣هـ، وتصدّى للكتابة عن كيفيّة تنظيمه العديد من الكتّاب المسلمين المعاصرين(٧) . وبادر الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا (من سوريا) إلى تقديم اقتراح بشأنه إلى مؤتمر ((رابطة العالم الإسلامي)) الّذي عُقِد في مكّة المكرَّمة سنة ١٣٨٤ هـ، وجاء في اقتراحه: ((وطريقة ذلك ـ أي اجتهاد الجماعة ـ تأسيس مجمع الفقه الّذي يضم أشهر فقهاء العالم

ــــــــــــــ

٦ ـ لاحظ مثلاً: د. يوسف القرضاوي، الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ٢٠٠١م، ص٤٢.

والشيخ مرتضى مطهري، الاجتهاد في الإسلام، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، دون تاريخ، ص٣٥.

٧ ـ د. ناديّة العمري، المصدر نفسه، ص٢٦٤ ـ ٢٦٥.

١٢٨

الإسلامي، ممّن جمعوا بين العلم الشرعي والاستنارة الزمنيّة، وصلاح السيرة والتقوى، ويُضُّم إلى هؤلاء علماء موثوقون في دينهم من مختلف الاختصاصات الزمنيّة اللاّزمة في شؤون الاقتصاد والاجتماع والقانون والطب ونحو ذلك؛ ليكونوا بمثابة خبراء يعتمد الفقهاء رأيهم في الاختصاصات الفنيّة))(٨) .

ويظهر من هذا الاقتراح أنّ مجال الاجتهاد المطلوب هو خصوص المسائل والوقائع الجديدة الّتي حصلت في عصرنا الراهن، لا عموم المسائل، وقد وافقت ((رابطة العالم الإسلامي)) على هذا الاقتراح، وبادرت لاحقاً إلى إنشاء ((مجمع الفقه الإسلامي)). وهو يعقد اجتماعات دوريّة يتداول أعضاؤه الفقهاء خلالها بمساعدة بعض ذوي الاختصاص، في بعض الموضوعات أو المسائل المهمّة الّتي يُبتلى بها المسلمون اليوم. غير أنّ هذا المجمع لم يتقيّد بكل الضوابط الّتي تضمنها الاقتراح المشار إليه(٩) .

أما بالنسبة للمسلمين الشيعة، فقد تحقَّقت قبل حوالي عشر سنوات أوّل مبادرة ملموسة في هذا المجال، حين أقدم مُرشد الجمهوريّة الإسلاميّة سماحة السيّد عليّ الخامنئي على إصدار قرار بتأسيس هيئة فقهيّة تَضّم عدداً من الفقهاء البارزين. ووظيفة هذه الهيئة هي أن تقوم، وبصورة جماعيّة، ((بالإجابة الفقهيّة العلميّة التحقيقيّة على المسائل الّتي يتطلّبها وضع العالم الحاضر، والتقدم العلمي الجديد للفرد والمجتمع الإسلامي الحديث))(١٠) . وقبل صدور القرار المذكور بأمد غير قليل، دعا بعض علماء الشيعة إلى اعتماد هذا الأسلوب الجماعي في ممارسة الاجتهاد، باعتبار أن تبادل وجهات النظر بين العلماء بخصوص النقطة أو المسألة الواحدة، في أيّ مجال من المجالات العلميّة ـ ومنها الفقه ـ هو عامل مهم من عوامل التقدّم والتطوّر العلميّين. ومن آثار هذا التعاون والتعرّف على

ــــــــــــــ

٨ ـ منّاع القطّان، تاريخ التشريع الإسلامي، ط١٤، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ١٩٩٦م، ص٣٣٩.

٩ ـ لاحظ: المصدر السابق نفسه، الصفحة نفسها.

١٠ ـ د. جعفر الباقري، ثوابت ومتغيّرات الحوزة العلميّة، دار الصفوة، بيروت، ١٩٩٤م، ص٩٣ ـ ٩٤.

١٢٩

وجهات نظر الآخرين، أنّ النظريّة إذا كانت نافعة وصحيحة تأخذ طريقها إلى الانتشار بسرعة، في حين يمكن ـ وبالسرعة نفسها ـ إيقاف انتشارها إذا كانت باطلة.

ولكن من وجهة نظر البعض الآخر، فإنّ هذا الأسلوب الاجتهادي يثير اشكالات عمليّة لابدّ أن تُحلّ. خاصّة في حالة اختلاف المجتهدين، والقول باعتماد رأي أكثريّتهم؛ إذ ما هو الدليل على حجيّة رأي الأكثريّة هنا؟(١١)

وقد طرح أحد فقهاء الشيعة مؤخَّراً ـ على أساس اعتماد هذا الأسلوب في الاجتهاد ـ إصدار رسالة فقهيّة عمليّة موحّدة من قبل نخبة من الفقهاء المراجع مجتمعين، كبديلٍ عن الرسائل المتعدّدة الّتي يحمل كلّ منها الآراء الاجتهاديّة لواحد من مراجع التقليد(١٢) .

وعلى كلّ حال، فإنّنا نكتفي بالإشارة السريعة إلى هذا الأسلوب الاجتهادي المقترَح؛ إذ إنّ الحديث التفصيلي عنه، وعمّا يمكن أن يُثار حوله من إشكالات، خارج عن الإطار المرسوم لبحثنا، ويحتاج إلى بحث مستقل.

الأسلوب الثاني:

المطروح للاجتهاد الجماعي، هو التخصّص في الأبواب الفقهيّة، أي توزّع أبواب الفقه أو مجالات الاجتهاد بين مجموعة من المجتهدين الحاصلين على درجة الاجتهاد المطلق؛ بحيث يتّجه كلّ منهم إلى الاستنباط في إطار قسم محدَّد منها فقط.

وهذا الأسلوب هو الّذي نتناوله هنا بالبحث التفصيلي. ويمكن أن نعبِّر عنه أيضاً بـ ((التخصّص في الاجتهاد)) أو ((الاجتهاد التخصّصي)).

ــــــــــــــ

١١ ـ لاحظ بالنسبة لتأييد الأسلوب الاجتهادي هذا: مطهري، المصدر نفسه، ص٣٥. ولاحظ بالنسبة للتحفّظ على هذا الأسلوب: آراء في المرجعيّة الشيعيّة، لمجموعة من الباحثين، ط١، دار الروضة، بيروت ١٩٩٤، ص١٢١ ـ ١٢٢.

١٢ ـ السيّد كاظم الحائري، أساس الحكومة الإسلاميّة، ط١، الدار الإسلاميّة، بيروت، ١٩٧٩م، ص١٩٥.

١٣٠

موجبات ((التخصّص في الأبواب الفقهيّة)) وفوائده:

إنّ أول من دعا إلى اعتماد هذا الأسلوب ـ أي التخصّص في عمليّة الاجتهاد الفقهي ـ في حدود اطلاعنا هو مؤسِّس حوزة قم الحديثة، الفقيه الشيعي الكبير الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري (قدس سره)، المتوفى سنة ١٣٥٥ هـ. هذا العالم المجاهد، الّذي تميّز إلى جانب علمه الغزير بحكمته الفائقة وصبره على أنواع المحن والبلايا في زمنه، الّتي تعرّض له المسلمون في إيران، وخصوصاً الحوزة، ، على يد الطاغية رضا شاه. كما تمّيز أيضاً إلى جانب تمسّكه الشديد بالأصالة، بروحه المنفَتِحة على العصر وإيجابيّاته. وهذا ما يظهر من اقتراحه لأسلوب التخصّص في ممارسة الاجتهاد، مضافاً إلى ما يتكشّف من بعض مواقفه الأخرى، من قبيل دعوته لتنظيم امتحانات دوريّة لطلبة الحوزة، مستفيداً ذلك ـ كما يبدو ـ من الطريقة المعتمدة في المدارس الحديثة.

وقد نقَلَ عنه اقتراح الأسلوب المذكور بعض تلاميذه كالشيخ الأراكي (قدس سره) والسيّد أحمد الزنجاني(١٣) . ومضمون اقتراح الشيخ الحائري ـ حسب المنقول عنه ـ هو تقسيم الفقه إلى أقسام تخصّصيّة. وتتوزّع هذه الأقسام على مجموعة من العلماء المجتهدين، الّذين تفقَّهوا في دورة فقهيّة عامّة وبلغوا درجة الاجتهاد المطلق، حيث يُعيِّن كلّ منهم لنفسه باباً فقهياً معيناً يختصّ فيه، ويقلّده الناس في ذلك القسم وحده. كأن يتخصّص بعض في العبادات مثلاً، وبعض آخر يتخصّص في المعاملات، وبعض في السياسات، وهكذا... كما هو الحال في الطب في الوقت الحاضر؛ حيث تشعّبت الاختصاصات: فهذا أخصّائي في القلب، وذاك في العين، وآخر في الأذن والأنف والحنجرة، وغير ذلك. فلو حصل هذا، لأمكن توفر تحقيق علمي أعمق في كلّ قسم من أقسام التخصّص الفقهي(١٤) .

ــــــــــــــ

١٣ ـ آراء في المرجعيّة الشيعيّة، مصدر سابق، ص٢٣١ ـ ٢٣٢.

١٤ ـ مطهري، الاجتهاد في الإسلام، ص٣٢ ـ ٣٣.

١٣١

ويظهر من هذا الاقتراح، أنّ الداعي إليه أمران:

الأمر الأوّل: هو توسّع مجالات الاجتهاد وتشعُّبها، إلى درجة أصبحت معها مهمّة الفقيه المتصدّي لممارسة الاجتهاد في الشؤون الحياتيّة كافّة، والحريص على درجة عالية من الجودة في عمله الاستنباطي، أصبحت معها مهمّته أكثر صعوبة ومشقّة.

وقد حصل التوسع المذكور بحكم التطور الكبير الّذي طرأ على واقع الحياة اليوم، وما طرحه هذا التطور من مسائل وتحدّيات جديدة. ثُمَّ هناك عامل إضافي آخر أدّى إلى توسيع مجالات الاجتهـاد ـ وبدرجة أخصّ بالنسبة إلى الفقيه الشيعي في وقت متأخر عن زمن الحائري ـ وهو الاهتمام الفقهي الكبير والطارئ بالمجالات الاجتماعيّة، والسياسيّة، وشؤون الدولة عموماً؛ وذلك بفعل الصحوة الإسلاميّة المعاصرة الّتي تُوِّجت بقيام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. ونقول الاهتمام الطارئ أو الجديد بالمجالات المذكورة، باعتبار أنّ اهتمام الفقه الشيعي كان منصباً في الماضي، على المجالات الفرديّة من حياة الإنسان، بسبب الظروف القاهرة الّتي أحاطت بالفقهاء الشيعة، وقلّصت دورهم.

أمّا الأمر الثاني: الّذي دعا إلى طرح اقتراح التخصّص في الأبواب الفقهيّة، فهو الاستفادة ممّا عليه الحال اليوم في سائر العلوم (البحتة منها والإنسانيّة)، كالطبّ، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، والقانون، والاقتصاد، وما إلى ذلك.

ويفصّل أحد الكتّاب المسلمين المختصّين(١٥) في شرح هذه الناحية، فيقول: إنّ النهوض بالفقه الإسلامي، شأنه شأن النهوض بأيّ علم أو فن، لا يمكن أن يتحقّق في هذا العصر إلاّ باحترام مبدأ التخصّص. هذا المبدأ الّذي يقوم على أساسه نظام التعليم الجامعي الحديث. فقد تقدّمت وتعقدّت واتّسعت دائرة مختلف العلوم في عصرنا، وتعدّدت فروع كلّ علم؛ بحيث لم يَعُد صحيحاً أن

ــــــــــــــ

١٥ ـ د. عبد الحميد متولّي، الشريعة الإسلاميّة كمصدر أساسي للدستور، ط٢، منشأة المعارف بالاسكندريّة، مصر، ١٩٧٥م، ص٣١٧.

١٣٢

نَعُدُّ أيّ فرد من الأفراد عالِماً أو أخصّائيّاً، بالمعنى الدقيق للكلمة، إلاّ في فرع من فروع أحد العلوم أو الفنون.

فأستاذ القانون، أو الطلب، أو الهندسة مثلاً، هو ـ في الحقيقة ـ أستاذ في فرع من الفروع الّتي يشتمل عليها كلّ علم من العلوم المذكور.

وكلام هذا الكاتب يتّجه إلى نظام تدريس الفقه، قبل أن يتّجه إلى عمليّة الاستنباط. ولكن هناك رباط وثيق بين الأمرين كما لا يخفى، باعتبار أنّ التدريس هو الّذي يُعِدّ الفقهاء المؤهَّلين للاستنباط.

وقد أيّد العديد من علماء الشيعة المعاصرين هذا الاقتراح، ومن بينهم الشهيد الشيخ مرتضى مطهري، الّذي روَّج له بشيءٍ من الحماس، معتبِراً بأنّ الضرورة لاعتماد التخصّص في الأبواب الفقهيّة قد حصلت منذ أكثر من قرن من الزمن، بفعل تغيّر الظروف الحياتيّة.

ويؤكّد مطهري أنّ كلّ علم من العلوم، سواء في ذلك الفقه أم غيره، ينمو تدريجيّاً حتّى يصل إلى مرحلة لا يكون بمقدور الفرد الواحد الإحاطة به من جميع جوانبه، فتأتي ضرورة التقسيم إلى فروع للتخصّص.

وبتعبير اوضح: إنّ ظهور الفروع التخصّصيّة في أيّ علم من العلوم هو، من جهة، نتيجة لتكامل ذلك العلم وتقدّمه، وهو، من جهة ثانية، يُعَدُّ سبباً لأطّراد تقدّم العلم، فتركيز الفكر حول المسائل الّتي تتعلَّق بفرع تخصُّصيٍّ معين، لابدّ أن يؤدّي إلى تقدّم هذا الفرع تقدّماً كبيراً.

ويَخْلُص الشيخ مطهري إلى القول بأنّ عدم التسليم بضرورة تنفيذ هذا الأقتراح ـ أي التخصّص في الأبواب الفقهيّة ـ يعني الوقوف بوجه تكامل الفقه وتطوّره(١٦) .

وفي طليعة مَن أيّد اقتراح التخصّص في أيامنا هذه، مُرشد الجمهوريّة

ــــــــــــــ

١٦ ـ مطهري، المصدر السابق نفسه، ص٣٣ ـ ٣٥.

ومن المفيد أن نذكِّر، بأنّ من جملة الفقهاء الّذين نوّهوا بهذا الأسلوب الاجتهادي: المرحوم الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في كتابه ((الإجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي))، ط١، المؤسّسة الإسلاميّة للدِّراسات والنشر، بيروت، ١٩٩٩م، ص٣٤.

١٣٣

الإسلاميّة السيّد الخامنئي؛ الّذي أكّد على ضرورة أن يتّخذ التخصّص في الفقه وغيره من العلوم طابعاً جدّياً، فالمعاملات والعبادت وغيرها ـ كما يقول ـ وإن كانت مرتبِطة ببعضها، هي أبواب متعدّدة يمكن أن يتخصّص الفقيه في أحدها(١٧) .

ويرى بعض علماء الشيعة المتأخرين، بأنّ الفائدة من التخصّص، بعد افتراض ضرورة تحصيل الاجتهاد العام قبل مرحلته، تكمن في تفرّغ الفقيه لاستيعاب المسائل الفقهيّة الداخلة في مجال اختصاصه، كما تكمن أيضاً في زيادة كفاءته العلميّة فيما يتعلّق باستخدام الأدلة في الحق المختص به. ويضاف إلى ذلك أن طائفة واسعة من المسائل الفقهيّة تحتاج إلى خبرات غير فقهيّة إلى جانب الخبرة في المجال الفقهي(١٨) . ولا تتيسّر الخبرة الواسعة، من النوع الأول، للفقيه العام، وذلك مثل مسائل العُملة والمصارف والشركات، ومسائل القضاء المعقَّدة في المحاكم الحديثة وكذلك مسائل العلاقات والمعاهدات الدوليّة الحديثة.

كيف ندفع باقتراح التخصّص في اتّجاه التنفيذ؟

لقد مضى على تقديم هذا الاقتراح، من قبل الفقيه الكبير الشيخ الحائري، ما يناهز السبعين عاماً على الأقل. وبالرغم من مسوّغاته الوجيهة، فقد بقي خارج دائرة النقاش والتداول الجدّيّين، في أوساط الحوزات الفقهيّة الشيعيّة. والنقاش والتداول يُشكِّلان مرحلة لابدّ أن تسبق الحديث عن وجود مسعى جدّي لتنفيذ الاقتراح المذكور.

وقد يكون السبب في عدم أخذه بالجديّة الكافية، من قِبَل الحوزة حتّى الآن، هو تأثير العادة والألفة التاريخيّة الطويلة لنمط الاجتهاد السائد من جهة، ثُمَّ عدم حصول الترويج الكافي للاقتراح من جهة ثانية.

وما يكفل تنفيذ اقتراح التخصّص في الأبواب الفقهيّة، في تصوّرنا، هو:

ــــــــــــــ

١٧ ـ لاحظ: مجلة ((حوزة))، قم، العدد رقم ٤٦، ص٣١ ـ ٣٢.

١٨ ـ لاحظ: السيّد محمّد الصدر، ما وراء الفقه، دار الأضواء، بيروت، ١٩٩٩م، ج١، ص٧ ـ ١٠. والشيخ محمّد مهدي الآصفي، مقالة: ((سؤال وجواب حول الاجتهاد والتقليد))، مجلّة رسالة الثقلين، سنة٥، العدد المزدوج ١٧ و١٨، ص١٩٢ ـ ١٩٣، إيران.

١٣٤

ـ توفّر الأرضيّة النظريّة المناسبة أوّلاً؛ أي أن تكون عمليّة التبويب الفقهي ملائمة للتخصّص.

ـ توفّر الإرادة العمليّة لدى الفقهاء ثانياً؛ أي أن تّتجه مجموعة من الفقهاء إلى تطبيقه.

وسنتناول، بشيء من التفصيل، هاتين النقطتين، فيما يلي.

ضرورة ملاءمة التبويب الفقهي للتخصص:

يمكن القول بأنّ التبويب الفني الأشهر في تاريخ الفقه الشيعي، هو ذلك الّذي اعتمده المحقِّق جعفر بن الحسن الحلّي (المتوفى سنة ٦٧٦ هـ) في كتابه ((شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام)). وقد استفاد المحقِّق في تبويبه من طريقة من سبقه مع إجراء تطوير مهمّ في تلك الطريقة(١٩) . وهو قد وزّع أبواب كتابه الخمسين ونيّفاً على أربع مجموعات أو أقسام:

قسم العبادات: ويشتمل على مجموعة أبواب؛ منها: الطهارة، والصلاة، والصوم، والزكاة...

قسم العقود: ويشتمل على مجموعة أبواب؛ منها: التجارة، والرهن، والمفلَّس، والحَجر، والنكاح...

قسم الإيقاعات: ويشتمل على مجموعة أبواب؛ منها: الطلاق، والخُلع والمباراة، والظهار، والإيلاء، واللِّعان...

قسم الأحكام: ويشتمل أيضاً على مجوعة أبواب؛ منها: الصيد، والذباحة، والأطعمة والأشربة... والفرائض (أو المواريث)، والقضاء، والحدود...

وقد تَرك تبويب الحلّي لأبواب كتابه بصماته الواضحة على الكتب الفقهيّة من بعده، ويكفي أن نشير إلى المتن الفقهي الشهير: ((اللُّمعة الدمشقيّة)) لمؤلِّفه

ــــــــــــــ

١٩ ـ لاحظ ما يقوله آقا بزرك الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ط١، النجف، ١٩٥٩م، ج١٣، ص٤٧.

ولاحظ أيضاً: تقديم العلاّمة السيّد محمد تقي الحكيم للطبعة الجديدة من كتاب ((شرائع الإسلام)) للحلّي، دار الأضواء، بيروت، ١٩٨٣م.

١٣٥

الفقيه الكبير الشهيد الأوّل محمّد بن مكي (٧٨٦ هـ)، الّذي اتبع الطريقة نفسها في التبويب وترتيب الأبواب، باستثناء بعض التعديلات الطفيفة(٢٠) .

وقد بيّن الشهيد الأول، في كتابه (القواعد والفوائد) خلفيّة التقسيم الرباعي؛ حيث قال (ما مضمونه): الفقه، إمّا أن يرتبط بالجهات الروحيّة والأُخرويّة، وإمّا أن يرتبط بالجهات المعيشيّة الدنيويّة وتنظيمها. فالقسم الأول هو العبادات، بينما الثاني الّذي ربما نجد من يسمّيه بالمعاملات، ينقسم إلى قسمين: قسم يَضُمُّ الأحكام الّتي تترتّب على تعهُّدات لفظيّة من قبل الأفراد المكلَّفين، وآخر يضُمّ الأحكام الّتي لا تترتّب على مثل تلك التعهُّدات. والقسم الأخير يقال له الأحكام، وهو يشمل مباحث القضاء والجزاء (العقوبات) والإرث. أما القسم الأول فينقسم بدوره إلى قسمين: قسم منه يتعلّق بالتعهُّدات بين طرفين ويسمّى العقود، وقسم يتعلَّق بالتعهُّدات من طرف واحد ويسمّى الإيقاعات(٢١) .

وهذا التقسيم الرباعي يستبطن في داخله تقسيماً ثنائيّاً أساسيّاً، كما لاحظنا، هو: العبادات والمعاملات. والتقسيم الثنائي هو المتَّبع في العديد من الرسائل العمليّة المتأخرة ،مثل: ((وسيلة النجاة))، و((تحرير الوسيلة)) و((منهاج الصالحين)).

ــــــــــــــ

٢٠ ـ ما فعله الشهيد الأوّل (رحمه الله) في ((اللّمعة الدمشقيّة)) فقط، هو أنّه أدمج باب ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ضمن كتاب الجهاد، كما دج بابي اليمين والنذر، ووضعهما بعد بابي ((الجهاد)) و((الكفّارات))، بدلاً من موقعهما في كتاب ((شرائع الإسلام)) بعد باب ((الجعالة)) (في القسم الثالث)، كما أنّه ـ أي الشهيد الأوّل ـ دمج أبواب التدبير والمكاتبة والاستيلاد في باب واحد.

٢١ ـ محمد بن مكّي العاملي، القواعد والفوائد، تحقيق: الدكتور السيّد عبد الهادي الحكيم، القسم الأوّل، ص٣٠ ـ ٣١، منشورات مكتبة المفيد، قم، دون تاريخ.

١٣٦

وإذا ما نظرنا إلى التبويب والتقسيم المعتمدين في المتون الفقهيّة السنيّة، فإنّنا نلمس بوضوح نقاط التشابه مع التبويب الفقهي الشيعي(٢٢) .

بعد هذا الاستعراض للنمط المتعارف في التبويب أو التقسيم الفقهي لدى فقهاء المسلمين (وبالأخصّ الشيعة منهم)، نلاحظ أنّ التقسيم الّذي اعتمدوه بالنسبة لأبواب المعاملات ـ وإن استند إلى مقْسَم معيّن؛ هو ((تعهّدات المكلَّفين)) ـ قد جاء، في الدرجة الأولى كما يبدو، بدافع فنّي هو تسهيل عمليّة الكتابة والبحث النظري. أمّا الأبواب الفقهيّة المتفرِّعة عن الأقسام الرئيسة، ـ وإن كانت تعبيراً عن العلاقة بين النصوص الدينيّة ومجالات الواقع الحياتي الّتي تحقِّقه

ــــــــــــــ

٢٢ ـ لاحظ مثلاً: الشيخ محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، دار الشروق، بيروت ـ القاهرة، ط١٣، ١٩٨٥م، ص٧٣. وصبحي المحمصاني، فلسفة التشريع في الإسلام، ط٣، دار العلم للملايين، بيروت ١٩٦١م، ص٢٤ ـ ٢٥.

١٣٧

عمليّة الاجتهاد ـ فهي ترتبط بالمجالات الحياتيّة الموجودة في زمن الفقهاء الأوائل كالشيخ الطوسي والمحقِّق الحلي. وهذه المجالات قد حصل فيها، مع مرور هذا الزمن الطويل، تغيّر ونموّ كبيران ويكفي، مثالاً على ذلك، أن نُشاهد التوسُّع والتشعّب الحاصلين على صعيد العلاقات الاقتصاديّة، بالقياس إلى ما كانت عليه قبل مئات السنين(٢٣) .

من هنا، يبدو الحديث عن ضرورة إجراء تعديلٍ في التبويب الفقهي السائد منطقيّاً، بإضافة أبواب جديدة تعكس ما استجدّ على صعيد الاقتصاد والمال والشؤون الاجتماعيّة وغير ذلك، وكذلك إضافة أبواب تتعلَّق بشؤون الدولة والمجتمع السياسي، الّتي كان الفقه الشيعي مقصيَّاً عن البحث فيها فيما سبق، كما أسلفنا القول. ولابدّ أيضاً، في الوقت نفسه، من إلغاء بعض الأبواب الّتي فُقد موضوعها كباب العتق؛ حيث لم يَعُد للرقّ وجود في عالم اليوم. ولا ضير في كلّ هذه التعديلات، ما دام التبويب ليس أمراً تعبّديّاً يجب التقيّد به.

وبالنسبة لتقسيمات الفقه الرئيسة المتعلِّقة بالمعاملات، قد يكون من المناسب استبدالها بتقسيمات جديدة يُستفاد فيها، ما أمكن، من العناوين المستخدَمة في القانون الوضعي الحديث... بحيث يكون هناك، مثلاً، قسم للفقه الدستوري الإسلامي، وقسم لفقه العلاقات الدوليّة، وقسم للفقه الجنائي (أو فقه العقوبات)، إلى ما هنالك من أقسام متنوعة(٢٤) .

وعلى سبيل المثال، نذكر أحد التغييرات المطلوبة والمترتِّبة على إعادة النظر في التقسيم الفقهيح وهو الحاجة إلى تجميع أبواب النكاح والطلاق والإرث تحت عنوان واحد جديد هو ((فقه الأسرة))، بدل أن تظلّ هذه الأبواب موزَّعة على الأقسام الثلاثة التقليديّة: حيث النكاح يتعلّق بقسم العقود، والطلاق بقسم الإيقاعات، وباب الإرث بقسم الأحكام.

ــــــــــــــ

٢٣ ـ لاحظ: محمّد باقر الصدر، المدرسة القرآنيّة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ١٩٨٠م، ص٣٠ ـ ٣١.

٢٤ ـ من جملة من نادى بتقسيم الفقه الإسلامي وفق الطريقة نفسها المعتمَدة في القانون الحديث، الكاتب الإسلامي المختص الدكتور عبد الكريم زيدان، وذلك في كتابه ((نظرات في الشريعة الإسلاميّة))، ط١، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ٢٠٠٠م، ص١٣٩.

١٣٨

ومن الفوائد الإضافيّة المترتِّبة على الاستفادة من التقسيم القانوني الحديث، على الصعيد الفقهي، تسهيل إجراء المقارنة بين الشريعة الإسلاميّة والقانون الوضعي؛ بحيث يظهر تفوّق الشريعة وأسبقيّتها في تقديم الحلول الصحيحة للمشكلات الإنسانيّة.

وقد أكّد العديد من الفقهاء المسلمين المعاصرين، ضرورة إجراء تعديل في التبويب أو التقسيم الفقهي، نذكر منهم، مثلاً، الشهيد السيّد محمد باقر الصدر، وأبو الأعلى المودودي.

فقد اقترح السيّد الصدر تقسيماً رباعياً جديداً في مقدِّمة كتابه ((الفتاوى الواضحة))؛ وهو يتضمّن قسم العبادات، ثُمَّ قسم الأموال، المتفرّع إلى: الأموال العامّة (وهي المجعولة للمصالح العامّة)، والأموال الخاصّة (وهي الّتي لها مالك أو مُلاّك محدَّدون)، ثُمَّ قسم السلوك والآداب الشخصيّة، ويتفرّع بدوره إلى فرعين؛ هما: الروابط العائليّة وعلائق الجنسين من جهة، وما يتصّل بتنظيم السلوك الفردي في غير ذلك المجال من جهة ثانيّة، ثُمَّ هناك أخيراً قسم السلوك العام، ويتعلّق بسلوك الأجهزة الحكوميّة في الشؤون الداخليّة والخارجيّة(٢٥) .

أمّا أبو الأعلى المودودي، فيدعو إلى ترتيب موضوعات الكتب الفقهيّة على أسلوب كتب القانون في العصر الحديث، مع إمكانيّة وضع عناوين جديدة لها، ليستعين بها علماء القانون على الفهم الصحيح للفقه الإسلامي(٢٦) .

توفر الإرادة العمليّة، لدى فقهاء الحوزة، لتنفيذ الاقتراح:

وهذا يقتضي أوّلاً، مبادرة مَن يقتنع بهذا الأسلوب الاجتهادي من العلماء إلى طرحه، والتداول الكافي بشأنه مع مدرسي الحوزة، وخصوصاً الفقهاء الكبار

ــــــــــــــ

٢٥ ـ السيّد محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة، ط٣، منشورات دار الكتاب اللُّبناني، بيروت، ١٩٧٧م، ص٤٦ ـ ٤٧.

٢٦ ـ أبو الأعلى المودودي، القانون الإسلامي وطرق تنفيذه (ضمن مجموعة: نظريّة الإسلام وهدْيِه)، دار الفكر، بيروت، ١٩٦٧م، ص٢٠٩.

١٣٩

فيها؛ أي أساتذة مستوى ((الخارج))؛ وذلك على أمل أن يقتنع به جماعة منهم، فيعمدوا إلى تطبيقه على مستوى التدريس في البداية، قبل أن يصل إلى مستوى مرجعيّة التقليد فيما بعد؛ وذلك بحيث يشيع اللجوء إلى ((التبعيض في التقليد) المرتبط بأبواب الفقه بين جمهور المقلّدين. وبالتالي، نسمع هؤلاء ينقلون عن أهل الخبرة قولهم: ((إنّ فلاناً هو الأعلم في مسائل العبادات، وفلاناً الآخر هو الأعلم في مسائل الاقتصاد والماليّات، وفلاناً الثالث هو الأعلم في المسائل السياسيّة)) وهكذا...

وإنّنا نرجو، في الختام، أن يساعد مؤتمركم الكريم هذا، في إذكاء النقاش حول هذا الاقتراح وبَلورته بصورة أكبر، بما يزيد من فرص النجاح في تحقيقه على أكمل وجه ممكن. وآخر دعوانا أنْ الحمد لله ربّ العالمين.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198