صلح الحسن (عليه السلام)

صلح الحسن (عليه السلام)10%

صلح الحسن (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 400

  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47970 / تحميل: 8355
الحجم الحجم الحجم
صلح الحسن (عليه السلام)

صلح الحسن (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وعلى كل من التقديرين، فما كل مندوحة لوحت بنجاح، يجوز الاخذ بها، ورب تدبير في ظرف هو نفسه مفتاح مآزق صعابٍ لظرفٍ آخر. وهذه هي القاعدة التي يجب الالتفات اليها عند الاخذ بأيّ اقتراح في أيّ من المآزق.

وهنا ايضاً، فهل فكَّر مقترح هذا التدبير، في المدة التي كان يمكن أن تستوعبها حرب أربعة آلاف - هم جيش الحسن في مسكن - لستين الفاً هم جيش معاوية أو ثمانية وستين الفاً؟ واستغفر اللّه، بل حرب مجموعة من جيش تنازل مجموعة من جيش تزيدها خمسة واربعين ضعفاً! [ ارجع الى تحليل النسبة العددية بين الفريقين عسكر مسكن وعسكر الشام في الفصل - ١١ - ].

وهل فكَّر مقترح هذه المندوحة، فيما عسى ان يكون موقف الحسن عند انتهاء اللحظات القصيرة من عمر هذه الحرب، وعندما يتفانى المساعير من أنصاره في مسكن.

انه ولا شك الموقف الذي سيضطره - لو بقي حياً - الى التسليم بدون قيد ولا شرط.

وانه ولا شك الطالع الجديد الذي كان ينتظره معاوية للاجراءات الحاسمة بين الكوفة والشام، الاجراءات التي لا تعدو الاحتلال العسكري المظفر بويلاته ونقماته التي لا حدَّ لفظاعتها في أهل البيت وشيعتهم، وأخلق باحتلال كهذا أن يطوّح بكل أماني البلاد، وبشعائرها الممتازة، ومبادئها التي قامت على جماجم عشرات الالوف من صفوة الشهداء المجاهدين في اللّه.

ولا اخال أنّ أحداً يفطن الى هذه النتائج المحتمة، ثم لا يحكم بفشل هذه المندوحة المنتقضة على نفسها، وانّ من أبرز اخطائها انها تنقل الحسن - في أقصر زمان - من خصم مرهوب يملي الشروط على عدوه، الى محارب مغلوبٍ لا مفرّ له من التسليم بدون قيد ولا شرط.

وهذا فيما لو انكشفت الحرب والحسن حيّ يحال بينه وبين

٢٤١

الاشتراك فيها.

وأما لو قدر لهذه الحرب القصيرة العمر، أن تجتاح في طاحونتها حتى الحسن لينال الشهادة، وافترضنا أنه كان قد استطاع التسلل الى مسكن والاشتراك في القتال - الامر الذي لا ينسجم وسير الحوادث هناك كما عرفت قريباً - فالجواب هو أن الشهادة التي يكون ثمنها امحاء المبدأ امحاءً أبدياً، لا يمكن ان تكون وسيلة نجاح في اللّه ولا في التاريخ.

وان التاريخ الذي سيناط به ذكر هذه الحرب، بعد شهادة الحسن وذيولها المؤسفة، سيروي للاجيال من شؤون الحسن وحروبه، ما لا يخرج بمفهومه عن معنى « الخروج ». وذلك هو ما أردنا التلميح اليه في كلامنا على « خطة معاوية تجاه أهداف الحسن » من هذا الفصل.

ولكي نزيد هذا الاجمال توضيحاً نقول:

علمنا مما تقدم، أن الصفوة من حملة الكتاب، والبقية من الصحابة الابرار، والنخبة المختارة من الشيعة الاوفياء، كانوا قد اجتمعوا للحسنعليه‌السلام فيمن دلف به الى معاوية في زحفه هذا. ولا نعرف أن احداً من هذا الطراز تخلَّف مختاراً عن تلبية الحسن فيما دعا اليه من الجهاد.

فكان الموقف في هذه اللحظة المبدئية الدقيقة بين الحسن ومعاوية، أشبه بالموقف الآنف بين أبويهما رسول اللّه (ص) وأبي سفيان بن حرب يوم كان يبرز الايمان كله للشرك كله.

وعلمنا مما تقدم ايضاً أنه لم يكن في الدنيا كلها مجموعة اخرى تؤتمن على الثقل الاكبر من نواميس الاسلام، والمبادئ المثالية الصحيحة على وجهها الصحيح، مثل هذه المجموعة التي اجتمعت للحسن في هذا الزحف.

فكان معنى تنفيذ فكرة الحرب، والتورّط بهذه الزمرة في القتال المستميت الذي لن ينكشف منهم على نافخ ضرمة قط، هو التفريط بالثقل الاكبر الذي يحملونه ولا يحمله في الدنيا أحد غيرهم.

٢٤٢

وكان معنى التفريط به، انقطاع الصلة بين عليّ واولاده الائمة الميامين، وبين الاجيال الآتية الى يوم الدين.

ثم لتعودن قضية الحسن - بعد ذلك - أشبه بقضايا الاشراف العلويين، الذين نهضوا في ظروف مختلفة من أيام الحكم الاسلامي، يهتفون بالاصلاح، ويحتجون بالرحم الماسة من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم غلبوا على امرهم، فلم يبق من دعوتهم الا اسماؤهم في أطواء التاريخ أو في كتب الانساب.

وما يدرينا، فيما لو صُفّي الحساب مع آل محمد تصفيته الاموية الاخيرة، فقتل الحسن، وقتل معه جميع أهل بيته، وقتل معهم الصفوة المختارة من عباد اللّه المخلصين، وانقلب الاسلام أموياً، ماذا سيكون من ذكريات محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التاريخ؟. وماذا سيكون من شأن المثاليات التي نفخ الاسلام روحها في الصفوة من رجالاته؟. وهل رجالاته المصطفون الا هذه الاشلاء التي طحنتها سيوف الشام في هذه الحروب؟.

وعلمنا - مما تقدم - مبلغ ما تهتز به أوتار معاوية بن أبي سفيان من العنعنات القبلية والانانيات والترات. فهل لنا - وقد أيسنا من ذكر عليّ وأولاده في أعقاب هذه التصفية الا بالسوء، أن نطمئن الى ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر تعاليمه ومبادئه الصحيحة بخير؟.

والعدوّ المنتصر هو معاوية بن أبي سفيان، الذي ضاق بذكر الناس لاخي هاشم ( النبي ص ) في كل يوم خمس مرات كما تقتضيه السنة الاسلامية في « الاذان »، حتى قال للمغيرة بن شعبة: « فأي عملٍ يبقى بعد هذا لا أُمَّ لك، الا دفنا دفناً(١) !! ».

__________________

١ - مروج الذهب ( ج ٢ ص ٣٤٣ )، وابن أبي الحديد ( ج ٢ ص ٣٥٧ ) « قال مطرف بن المغيرة بن شعبة: وفدت مع أبي المغيرة الى معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده، ثم ينصرف الي فيذكر معاوية ويذكر عقله، ويعجب مما يرى منه، اذ جاء ذات ليلة، فأمسك عن العشاء، فرأيته مغتمَّاً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لشيء حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: مالي

٢٤٣

ورجاله المنتصرون هم: أخوه [ الشرعي؟! ] « زياد ابن ابيه »، والصحابي المسنّ « عمرو بن العاص »، والداهية [ النزيه؟! ] « المغيرة بن شعبة »، وفاتح الحرمين!! « مسلم بن عقبة »، وامثال هذه النماذج من الغيارى على روحيات الاسلام!!

وفي مجازر ( زياد ) في الكوفة، وفتن ( عمرو ) في صفين ودومة الجندل، ومساعي أول مرتشٍ في الاسلام ( المغيرة بن شعبة ) لتنصيب يزيد للخلافة ولالحاق زياد للاخوة، ومواقف ( ابن عقبة ) من المدينة والكعبة، كفاية للاطمئنان على الرقم القياسي الذي صعدت اليه غيرة كلٍّ من هؤلاء، على التراث الاسلامي، وعلى مقدسات الاسلام، وعلى مصالح المسلمين.

انهم عملوا ما عملوا، وهم اذ ذاك على مسمع ومشهد، من آل محمد والصفوة الباقية من تلامذة محمد (ص) ومن أشياعهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والواقفين لهم بالمرصاد.

فكيف بهم، وماذا كانوا يعملون، لو أصفرت الدنيا من آل محمد وعباد اللّه الصالحين؟؟.

ان النتائج الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها، هي أن الامام

__________________

أراك مغتماً منذ الليلة. قال: يا بني اني جئت من أخبث الناس. قلت له: وما ذاك. قال: قلت له وقد خلوت به: انك قد بلغت مناك يا امير المؤمنين فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، فانك قد كبرت، ولو نظرت الى اخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فواللّه ما عندهم اليوم شيء تخافه، فقال لي: هيهات هيهات، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فواللّه ما عدا ان هلك، فهلك ذكره، الا أن يقول قائل أبو بكر. ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين، فواللّه ما عدا ان هلك فهلك ذكره، الا أن يقول قائل عمر، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل ما عمل وعمل به، فواللّه ما عدا أن هلك ذكره وذكر ما فعل به. وان أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات أشهد ان محمداً رسول اللّه. فأي عمل يبقى بعد هذا لا ام لك، الا دفنا دفناً ».

٢٤٤

الحسنعليه‌السلام لو سخا بنفسه وبشيعته، وفرضنا أنه كان قد استطاع حضور ميدانه في « مسكن »، لحكم على نفسه بالموت حتى لا يبقى اسمه الا في كتب الانساب، وعلى مبدئه المقدس بالاعدام حتى لا يبقى منه أيّ أثر بين سمع الارض وبصرها، ولرأيت تاريخه المجيد وتاريخ بيته العتيد، أسطورة مشوهة من أبشع الاساطير، يمليها معاوية كما يشتهي، ويشرحها بعده مروان وآل مروان كما يشاؤون.

وكان معنى ذلك نهاية تاريخ الروحية الاسلامية، وبداية تاريخ اموي له طابعه المعروف وخصائصه الغنية عن البيان.

وفي الحديث الشريف: « لو لم يبق من بني أمية الا عجوز درداء لبغت دين اللّه عوجاً(١) ».

ترى، فهل كان في امكان الحسن غير ما كان؟.

وان أقل استقراء وتدبر، يثبتان أنها كانت افضل طريقة للتخفيف من عرامة الاجراءات المتوقعة، بل كانت الطريقة الوحيدة التي لا ثانية لها.

وحفظ الحسن بها - حين استيقن هذه النتائج كحقائق واقعة - خطوط اتصاله بالاجيال، بل خطوط اتصال أبيه وجده عليهما الصلاة والسلام، من طريق الابقاء على شيعته، وأنقذ بذلك مبدأه من الابادة المحققة، وصان تاريخه من التشويه والتزوير والمسخ والازدراء.

وانتزع من الخذلان الذي حاق به في دنياه، الانتصار اللامع لروحيته وعقيدته واخراه.

وهكذا ترك الدنيا ليحفظ الدين.

وذلك هو طابع الامامة في هذه الزمرة المباركة من آل اللّه.

__________________

١ - الخرائج والجرائح لسعيد بن هبة اللّه الراوندي المتوفى سنة ٥٧٣ ( ص ٢٢٨ ).

٢٤٥

القسم الثالث

الصلح

٢٤٦

 

دوافع الفريقين للصلح

٢٤٧

وما كان بدعاً من محاولات معاوية فيما يهدف اليه، أن يبتدر هو الى طلب الصلح(١) ، فيعطي الحسن كل شرط، ليأخذ عليه شرطاً واحداً هو « الملك ».

وقرر معاوية خطته هذه، في بحران نشاط الفريقين للحرب، وكان في توفره على تنفيذ هذه الخطة، أعنف منه في عمله لتنظيم المعسكرات وتدبير شؤون الحرب. ورأى ان يبادئ الحسن بطلب الصلح، فان أجيب اليه فذاك، والا فلينتزعه انتزاعاً، دون أن يلتحم والحسن في قتال.

وكان عليه قبل كل شيء، أن يصطنع في سبيل التمهيد الى غايته، ظرفاً من شأنه ان ينبّه خصومه الى تذكر الصلح.

ومن هنا طلعت على معسكرات الحسنعليه‌السلام ، الوان الاراجيف، وعمرت سوق الرشوات، وجاء في قائمة وعوده التي خلب بها ألباب كثير من الزعماء أو المتزعمين: رئاسة جيش، وولاية قطر، ومصاهرة على أميرة اموية!! وجاء في أرقام رشواته النقدية الف الف [ مليون ]!.

واستعمل في سبيل هذه الفكرة كل قواه وكل مواهبه وكل تجاربه، واستجاب له كثير من باعة الضمائر الذين كانوا لا يفارقون الحسن ظاهراً فاذا هم عيون معاوية التي ترى، وأصابعه التي تعمل، وعملاؤه الذين لا يدخرون وسعاً في ترويج اهدافه.

__________________

١ - هذا هو الصحيح كما دل عليه خطاب الحسن فيما استشار به اصحابه في « المدائن » فقال: « ألا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عز ولا نصفة »، وكما دلت عليه مصادر أخرى خلافاً لبعض المؤرخين الآخرين، والترجيح لخطاب الحسنعليه‌السلام .

٢٤٨

وكانت الجيوش والاسلحة والحركات السوقية في الزحف الى المعسكرات، هي الاخرى بعض وسائله الى الصلح، ولم يشأ أن يبدأ بهم غاراته على العراق، لانه لن يلتحم مع الحسن بقتال، الا اذا اعيته الوسائل كلها، والوسائل في عرف معاوية، غير الوسائل في عرف الناس أو في عرف الدين الجديد.

ومن الحق أن نقول: ان وسائله في هذا الميدان، كانت من النوع المحبوك الصنع، الدقيق الاساليب، الموفق كل التوفيق، في سبيل الغرض الذي رمى اليه، من اصطناع الظرف الخاص الذي يذكر عدوه بالصلح.

فاذا باع القائد في جبهة العراق ضميره لمعاوية بالمال، وباع معه أكثر الرؤساء ضمائرهم بالعِدات.

واذا أصبح المعسكران في مسكن والمدائن يعجان بالشائعات التي راحت تمطرهما بوابل من الويل والثبور والمخاوف.

واذا أصبح الحسن نفسه لا يتسنى له تنفيذ أوامره في جيشه بما فعلته الاراجيف من حوله، بل لا يستطيع الظهور بشخصه أمام الكثرة من جنوده، الا ليغتال بين مضاربه وعلى سواعد أصحابه.

فهل من سبيل الا الصلح؟

انه الظرف الذي استعصى صلاحه بفساد ناسه، ولا تثريب على الحسن من ظرفه اذا فسد، وناسه اذا فشت فيهم الفتنة، وان لانحراف الطبائع حكمه، ولحداثة الاسلام خاصتها، في القلقين من المسلمين أو في المفروضين على الاسلام فرضاً.

واذا قدر للحسن أن يخسر بخيانة جنوده، أو ببراعة الفتن التي تسلح بها عدوه « معركته الاولى »، فليكن منذ اليوم عند « معركته الثانية » التي لا تنالها خيانة الجنود، ولا يضيرها انحراف الطبائع، ولا تزيدها

٢٤٩

دسائس العدوّ ولا أساليب فتنه البارعة الا مضاءً ونفوذاً وانتصاراً مع الايام.

وتلك هي « الفذلكة » التي أجاد الحسن استغلالها كأحسن ما تكون الاجادة، واستغفل بها معاوية أشد ما يكون في موقفه من الحسن يقَظةً ونشاطاً وانتباهاً.

انه لبى طلب معاوية للصلح، ولكنه لم يلبه الا ليركسه في شروط لا يسع رجلاً كمعاوية الا أن يجهر في غده القريب بنقضها شرطاً شرطاً. ثم لا يسع الناس - اذا هو فعل ذلك - الا ان يجاهروه السخط والانكار، فاذا بالصلح نواة السخط الممتد مع الاجيال، واذا بهذا السخط نواة الثورات التي تعاونت على تصفية السيطرة الاغتصابية في التاريخ.

وليكن هذا هو التصميم السياسي الذي نزل الحسن من طريقه الى قبول الصلح، ولتكن هذه هي الفذلكة التي استغفل بها معاوية فكانت من أبرز معاني العبقرية المظلومة في الامام المظلوم.

وأيّ غضاضة على الحسن - بعد هذا - اذا هو وقّع الصلح وفق الخطط المرسومة.

وان له من حراجة ميدانه الاول، ومن الامل بنتائج ميدانه الثاني ما يزين له حديث الصلح، فضلاً عما يستأثر به هذا الحديث من ظاهرة الاصلاح في الامة، وما يتفق معه من حقن الدماء وصيانة المقدسات، وتحقيق وجهة النظر الاسلامي.

وكانت اشهراً لم تناهز عدد الاصابع العشر، ولكنها ناهزت عدد النجوم هزاهز وزعازع، وكانت قطعة من الزمن يتجه اليها القلب بكل ما يملكه من حبٍّ واعجاب، فاحت بروائح النبوة، وتجلت فيها مزايا الامامة الصادقة، وتكشفت على قلتها وقصر مدتها عن حقائق كثير كثير من

٢٥٠

الناس هنا وهناك. وهي الاشهر التي ختمت أعمالها بأفضل خواتيم الاعمال في الاصلاح، ووصلت بخاتمتها الفضلى مصلحة الدنيا بمصلحة السماء.

واذا بالحسن بن علي، هو ذلك المصلح الاكبر، الذي بشّر به جده رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الذي سبق ذكره: « ان ابني هذا سيد وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ».

وان اللّه سبحانه عوّد أهل هذا البيت أن يحفظ لهم الشرف في أعلى مراتبه وفي مختلف ميادينه، فان لم يكن بالانتصار بالسلاح، فليكن بالشهادة الكريمة في اللّه وفي التاريخ. وان لم يكن بهذا ولا ذاك فليكن بالاصلاح وجمع الكلمة وتوحيد أهل التوحيد. وكفى بالاصلاح شرفاً وكفى ببقاء الشرف انتصاراً. وبقاء الشرف ضمان لبقاء العزة. والعزة حافز دائب يدفع الى الحياة ويقوم على السيادة.

ومن السهل ان نفهم دوافع الحسن الى الصلح مما ذكرنا.

أما دوافع معاوية التي اندلف بها من جانبه الى طلب الصلح، فقد كانت من نوع آخر لا يرجع في جوهره الى العجز عن القتال، ولا ينظر في واقعه الى وجهة نظر دين أو اصلاح أو حقن دماء، فلا الاصلاح ولا حقن الدماء بالذي يعنى به معاوية فينزل له عن مطامعه في الفتح. وفي غاراته على المدينة ومكة واليمن، ومواقفه الجريئة بصفين، ما يزيدنا بصيرةً في معرفة الرجل وان قلّ عارفوه.

اذاً، فليكن طموحاً نفعياً خالصاً، هو الاشبه بتاريخ معاوية الذي جاء تاريخه أشبه باسطورة.

انه خُيّل اليه بأن تنازل الحسن له عن الحكم، سيكون معناه في الرأي العام، تنازله عن « الخلافة ». وظن أنه سيصبح - على هذا -

٢٥١

« الخليفة الشرعي في المسلمين(١) ».

وكان الحلم اللذيذ الذي استرخص في سبيله كل غال، وخفي عليه أن الاسلام أعز جانباً من أن يهضم الاساليب الهوج، أو يعطي اقليده للطلقاء وأبناء الطلقاء.

هذا، ولا ننكر ان يكون لمعاوية بواعث أخرى جعلت منه انساناً آخر ينكر الحرب ويمد يده الى الصلح ويوقع الشروط ويحلف الايمان ويؤكد المواثيق. ولكنا - اذ نتحرى بواعثه الاخرى - لا نزول عن الاعتقاد بأن الحلم اللذيذ الذي ذكرنا، كان أكبر دوافعه وأشد بواعثه.

وفيما يلي قائمة مناسبات، تصلح لان تكون بعض دوافعه الى الصلح:

١ - انه كان يرى أن الحسن بن عليعليهما‌السلام ، هو صاحب الحق في الامر، ولا سبيل الى اقتناص « الامر » الا من طريق اسكات الحسن - ولو ظاهراً -، ولا سبيل الى اسكاته الا بالصلح.

اما رأيه بأولوية الحسن بالامر، فقد جاء صريحاً في كتاب اليه قبيل زحفهما للصراع في مَسكِن، بقوله له: « انك أولى بهذا الامر وأحق به ». وجاء صريحاً فيما قاله لابنه يزيد على ذكر أهل

__________________

١ - وللحسن البصري كلمته الذهبية في هذا الموضوع [ انتظرها فيما تقرأه عن « معاوية والخلافة » في الفصل ١٧ ]. وأخرج أحمد في مسنده وأبو يعلى والترمذي وابن حيان وأبو داود والحاكم قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الخلافة بعدي ثلاثون ثم ملك بعد ذلك » وبلفظ ابي نعيم في الفتن والبيهقي في الدلائل وغيرهما: « ثم تكون ملكاً عضوضاً ». والحديث عند جماعة أهل السنة صحيح على شرطهم، وقال قائلهم فيما علق عليه: « انتهت الثلاثون سنة بعده صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم بخلافة الحسن بن عليعليهما‌السلام »، وأخرج أبو سعيد عن عبد الرحمن بن أبزي عن عمر أنه قال: « هذا الامر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل احد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء ».

أقول: أما بيعته التي أخذها على الناس بأساليبها المعروفة، فلن تجعل غير الجائز جائزاً.

٢٥٢

البيت: « يا بنيَّ ان الحق حقهم(١) »، وفيما كتبه الى زياد ابن ابيه حيث يقول له على ذكر الحسنعليه‌السلام : « وأما تسلطه عليك بالامر فحق للحسن أن يتسلط(٢) ».

وكذلك رأيناه يستفتي الامام الحسن، فيما يعرض له من معضلات كمن يعترف بامامته(٣) .

ويعترف للحسن بأنه « سيد المسلمين(٤) ». وهل سيد المسلمين الا امامهم؟.

٢ - انه كان - على كثرة الوسائل الطيعة لامره - شديد التوجس من نتائج حربه مع الحسن، ولم يكن كتوماً ( كما يدّعي لنفسه ) يوم قال في وصف خصومه العراقيين: « فواللّه ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصفين الا لبس على عقلي(٥) »، ويوم قال فيهم « ما لهم غضبهم اللّه بشر، ما قلوبهم الا كقلب رجل واحد(٦) »، فكان يرى في الجنوح الى الصلح، مفراً من منازلة هؤلاء ومواجهة عيونهم تحت المغافر!!.

٣ - انه كان يهاب موقع الحسن ابن رسول اللّه (ص) في الناس، ومقامه الروحيّ الفريد في العقيدة الاسلامية، فيتقي حربه بالصلح.

وكان يرى من الجائز، أن يقيض اللّه لمعسكر الشام من يتطوع لتنبيه الناس فيه الى حقيقة أمر الحسن وفظاعة موقفهم منه، الامر الذي من شأنه ان لا يتأخر بمسلمة الجيش في جبهة معاوية عن

__________________

١ و ٢ - ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ٥ وص ١٣ وص ٧٣ ).

٣ - وتجد الشواهد الكثيرة على ذلك فيما أورده اليعقوبي في تاريخه ( ج ٢ ص ٢٠١ وص ٢٠٢ )، وفيما استعرضه ابن كثير في البداية والنهاية ( ج ٨ ص ٤٠ )، وفيما رواه في البحار ( ج ١٠ ص ٩٨ ).

٤ - الامامة والسياسة ( ص ١٥٩ - ١٦٠ ).

٥ - المسعودي هامش ابن الاثير ( ج ٦ ص ٦٧ ) وغيره.

٦ - الطبري ( ج ٦ ص ٣ ).

٢٥٣

الانتقاض عليه والنكول عنه، وبالجيش كله عن الانهيار اخيراً.

وكان معاوية لا يزال يتذكر في زحفه على الحسن، حديث النعمان بن جبلة التنوخيّ معه في « صفين » - وهو اذ ذاك أحد رؤساء جنوده المحاربين -، وقد صارحه بما لم يصارحه بمثله شاميّ آخر، وسخر منه بما لم يسخر بمثله رعية من سلطان. وما يؤمن معاوية أن يشعر الناس تجاهه - اليوم - شعور ذلك التنوخي المغلوب على أمره - يومئذ.

وكان مما قاله هذا التنوخي لمعاوية في صفين: « واللّه لقد نصحتك على نفسي، وآثرت ملكك على ديني، وتركت لهواك الرشد وأنا أعرفه، وحدت عن الحق وأنا ابصره، وما وافّقت لرشد وأنا أقاتل عن ملك ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم وأول مؤمن به ومهاجرٍ معه، ولو اعطيناه ما اعطيناك، لكان أرأف بالرعية وأجزل في العطية، ولكن قد بذلنا لك الامر، ولابد من اتمامه كان غياً أو رشداً، وحاشا أن يكون رشداً. وسنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها، اذا حرمنا أثمار الجنة وأنهارها!(١) ».

وكان من سياسة معاوية، حبس أهل الشام عن التعرف على أحد من كبراء المسلمين - خارج الشام - لئلا يكون لهم من ذلك منفذ الى انكاره أو الانقسام عليه. ولذلك فلا نعرف كيف تسنى لهذا الشامي معرفة ابن عم رسول اللّه (ص) ومعرفة سبقه الى الايمان ورأفته بالناس وكرمه في العطاء وأولوّيته بالامر.

وحرى معاوية على تجهيل أهل الشام بأعلام الاسلام الى آخر عهده، وكانت سياسته هذه، هي أداته في التجمعات التي ساقها لحروب صفين اولاً، ولحرب الحسن بن علي في مسكن أخيراً.

وتجد ظاهرة هذه السياسة - بما فيها من اعلان عن ضعف

__________________

١ - المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٥ ص ٢١٦ ).

٢٥٤

صاحبها - فيما قاله معاوية ذات يوم لعمرو بن العاص وفد تحدّى الحسن بن عليعليهما‌السلام ، فردّ عليه الحسن بحدّياه البليغة التي لم يسلم منها المحرّض عليها - ايضاً -، فقال معاوية لعمرو: « واللّه ما أردت الا هتكي، ما كان أهل الشام يرون أنَّ أحداً مثلي حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا(١) ».

٤ - وكان من الرشاقة السياسية التي لا يخطئها معاوية في سبيل طموحه الاناني الا نادراً، أن يدعو الى « الصلح » فيلح عليه ويشهد على دعوته هذه أكبر عدد ممكن من الناس في القطرين - الشام والعراق - وفي سائر الآفاق التي يصلها صوته من بلاد الاسلام. ثم هو لا يقصد من وراء هذه الدعوة - على ظاهرتها - الا التمهيد لغده القريب الذي ستنكشف عنه نتائج الحرب بينه وبين الحسن. وكان أحد الوجهين

__________________

١ - المحاسن والمساوئ للبيهقي ( ج ١ ص ٦٤ ).

وفي القصص التاريخي نوادر كثيرة عن جهل أهل الشام بأعلام الاسلام فمن ذلك أن أحدهم سأل رجلاً من زعمائهم وذوي الرأي والعقل فيهم: « من أبو تراب الذي يلعنه الامام - يعني معاوية! - على المنبر؟ » قال: « أراه لصاً من لصوص الفتن!!! ». وسأل شامي صديقاً له وقد سمعه يصلي على محمد (ص): « ما تقول في محمد هذا، أربنا هو؟ ».

ولما فتح عبد اللّه بن علي الشام سنة ١٣٢ هجري وجه الى أبي العباس السفاح أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرئاسة، فحلفوا لابي العباس أنهم ما علموا لرسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية، حتى وليتم الخلافة..!! « يراجع عنه مروج الذهب على هامش الجزء السادس من الكامل لابن الاثير ( ص ١٠٧ و١٠٨ و١٠٩ ).

أقول: وهذا يدل على أن عامة الملوك الامويين نهجوا على سياسة معاوية في تجهيل الناس بعظمائهم ولا سيما بأهل البيتعليهم‌السلام ومنع نفوذ أسمائهم الى الشام. ويدل - ايضاً - على مبلغ عناية أولئك الشاميين باسلاميتهم. والمظنون أن الشام - على العهد الاموي - كانت لا تزال تزخر بأكثرية غير مسلمة من بقايا أهلها الاصليين - الروم والآراميين -. ولا نعهد غير قضية الفتح عملاً جدياً آخر كان من شأنه أن يغير القديم عن قدمه، ولا نعهد تصريحاً تاريخياً ينقض علينا هذا الظن.

٢٥٥

المحتملين، أن يدال للشام من الكوفة وأن تقضي الحرب وذيولها على الحسن والحسين وعلى من اليهما من أهل بيتهما وشيعتهما. ولا تدبير - يومئذ - للعذر من هذه البائقة الكبرى أروع من أن يلقي معاوية مسؤوليتها على الحسن نفسه، ويقول للناس - غير كاذب - « اني دعوت الحسن للصلح، ولكن الحسن أبى الا الحرب، وكنت اريد له الحياة، ولكنه أراد لي القتل، وأردت حقن الدماء، ولكنه أراد هلاك الناس بيني وبينه ».

ولمعاوية من هذه اللباقة الرائعة أهدافه التي لا تتأخر به عن تصفية الحساب مع آل محمد (ص) تصفيته الاموية الاخيرة، وهو اذ ذاك المنتصر العادل المتظاهر بالانصاف، الذي يشهد له على انصافه كل من كان قد أشهده - قبل الحرب - على ندائه بالصلح. أما الحسنعليه‌السلام ، فلم يكن الرجل الذي تفوته الرشاقة السياسية ولا الاساليب الدقيقة التي يبرع فيها عدوه للنكاية به. وانما كان - على كل حال - أكبر من عدوه دهاء، وأبرع منه في استغلال الظروف واقتناص الفرص السانحة التي تجتمع عليها كلمة اللّه وكلمة المصلحة معاً. فرأى من ظروفه المتداعية، ومن سوء نوايا عدوّه فيما أراد من الدعوة الى « الصلح »، ما استدعاه الى الجواب بالايجاب.

ثم لم يكفه أنه قضى بذلك على خطط معاوية وشلها عن التنفيذ، حتى أخذ يضع الخطة الحكيمة من جانبه للقضاء على خصومه باسم الصلح. وسيجيء في الفصول القريبة التوضيح اللائق بالموضوع.

٢٥٦

 

معاهدة الصلح

٢٥٧

وروى فريق من المؤرخين، فيهم الطبري وابن الاثير: « أن معاوية أرسل الى الحسن صحيفة بيضاء مختوماً على أسفلها بختمه »، وكتب اليه: « أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت، فهو لك(١) ».

ثم بتروا الحديث، فلم يذكروا بعد ذلك، ماذا كتب الحسن على صحيفة معاوية. وتتبعنا المصادر التي يُسّر لنا الوقوف عليها، فلم نر فيما عرضته من شروط الحسنعليه‌السلام ، الا النتف الشوارد التي يعترف رواتها بأنها جزء من كل. وسجّل مصدر واحد صورة ذات بدء وختام، فرض أنها [ النص الكامل لمعاهدة الصلح ]، ولكنها جاءت - في كثير من موادّها - منقوضة بروايات أخرى تفضلها سنداً، وتزيدها عدداً.

ولنا لو أردنا الاكتفاء، أن نكتفي - في سبيل التعرّف على محتويات المعاهدة - برواية ( الصحيفة البيضاء )، كما فعل رواتها السابقون، فبتروها اكتفاءً باجمالها عن التفصيل، ذلك لان تنفيذ الصلح على قاعدة « اشترط ما شئت فهو لك » معناه أن الحسن أغرق الصحيفة المختومة في أسفلها، بشتى شروطه التي أرادها، فيما يتصل بمصلحته، أو يهدف الى فائدته، سواء في نفسه أو في أهل بيته أو في شيعته أو في أهدافه، ولا شيء يحتمل غير ذلك.

واذا قدّر لنا - اليوم - أن لا نعرف تلك الشروط بمفرداتها، فلنعرف أنها كانت من السعة والسماحة والجنوح الى الحسن، بحيث صححت ما يكون من الفقرات المنقولة عن المعاهدة أقرب الى صالح الحسن،

__________________

١ - الطبري ( ج ٦ ص ٩٣ ) وابن الاثير ( ج ٣ ص ١٦٢ ).

٢٥٨

ورجّحته على ما يكون منها في صالح خصومه، كنتيجة قطعية لحرية الحسنعليه‌السلام في أن يكتب من الشروط ما يشاء.

ورأينا بدورنا، وقد أخطأنا التوفيق عن تعرّف ما كتبه الحسن هناك، أن ننسق - هنا - الفقرات المنثورة في مختلف المصادر من شروط الحسن على معاوية في الصلح، وأن نؤلف من مجموع هذا الشتات صورة تحتفل بالاصح الأهم، مما حملته الروايات الكثيرة عن هذه المعاهدة، فوضعنا الصورة في مواد، وأضفنا كل فقرة من الفقرات الى المادة التي تناسبها، لتكون - مع هذه العناية في الاختيار والتسجيل - أقرب الى واقعها الذي وقعت عليه.

واليك هي

صورة المعاهدة التي وقعها الفريقان

المادة الاولى:

تسليم الامر الى معاوية، على أن يعمل بكتاب اللّه وبسنة رسوله(١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبسيرة الخلفاء الصالحين(٢) .

المادة الثانية:

أن يكون الامر للحسن من بعده(٣) ، فان حدث به حدث

__________________

١ - المدائني - فيما رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج - ( ج ٤ ص ٨ ).

٢ - « فتح الباري » شرح صحيح البخاري - فيما رواه عنه ابن عقيل في النصايح الكافية - ( ص ١٥٦ الطبعة الاولى )، والبحار ( ج ١٠ ص ١١٥ ).

٣ - تاريخ الخلفاء للسيوطي ( ص ١٩٤ )، وابن كثير ( ج ٨ ص ٤١ )، والاصابة ( ج ٢ ص ١٢ و١٣ )، وابن قتيبة ( ص ١٥٠ ) ودائرة المعارف الاسلامية لفريد وجدي ( ج ٣ ص ٤٤٣ الطبعة الثانية ) وغيرهم.

٢٥٩

فلأخيه الحسين(١) ، وليس لمعاوية أن يعهد به الى احد(٢) .

المادة الثالثة:

أن يترك سبَّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة(٣) ، وأن لا يذكر علياً الا بخير(٤) .

المادة الرابعة:

استثناء ما في بيت المال الكوفة، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسليم الامر. وعلى معاوية أن يحمل الى الحسين كل عام الفي الف درهم، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين الف الف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد(٥) .

المادة الخامسة:

« على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه، في شامهم

__________________

١ - عمدة الطالب لابن المهنا ( ص ٥٢ ).

٢ - المدائني - فيما يرويه عنه في شرح النهج - ( ج ٤ ص ٨ )، والبحار ( ج ١٠ ص ١١٥ )، والفصول المهمة لابن الصباغ وغيرهم.

٣ - أعيان الشيعة ( ج ٤ ص ٤٣ ).

٤ - الاصفهاني في مقاتل الطالبيين ( ص ٢٦ )، وشرح النهج ( ج ٤ ص ١٥ ) وقال غيرهما: « ان الحسن طلب الى معاوية أن لا يشتم علياً، فلم يجبه الى الكف عن شتمه، وأجابه على أن لا يشتم علياً وهو يسمع ». قال ابن الاثير: « ثم لم يف به أيضاً ».

٥ - تجد هذه النصوص متفرقة في الامامة والسياسة ( ص ٢٠٠ ) والطبري ( ج ٦ ص ٩٢ ) وعلل الشرائع لابن بابويه ( ص ٨١ ) وابن كثير ( ج ٨ ص ١٤ ) وغيرهم.

و ( دار ابجرد ) ولاية بفارس على حدود الاهواز. وجرد أو جراد: هي البلد أو المدينة بالفارسية القديمة والروسية الحديثة، فتكون داراب جرد بمعنى ( مدينة داراب ).

٢٦٠

وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمّنَ الاسود والاحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع احداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق باحنة(١) ».

« وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن اصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاً، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل الى كل ذي حق حقه، وعلى ما أصاب اصحاب عليّ حيث كانوا(٢) ».

« وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لاخيه الحسين، ولا لاحد من أهل بيت رسول اللّه، غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم، في أفق من الآفاق(٣) ».

الختام:

قال ابن قتيبة: « ثم كتب عبد اللّه بن عامر - يعني رسول معاوية الى الحسن (ع) - الى معاوية شروط الحسن كما أملاها عليه، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكدة، والايمان المغلَّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام، ووجه به الى عبد اللّه

__________________

١ - المصادر: مقاتل الطالبيين ( ص ٢٦ )، ابن أبي الحديد ( ج ٤ ص ١٥ )، البحار ( ج ١٠ ص ١٠١ و١١٥ )، الدينوري ( ص ٢٠٠ )، ونقلنا كل فقرة من مصدرها حرفياً.

٢ - يتفق على نقل كل فقرة أو فقرتين أو أكثر، من هذه الفقرات التي تتضمن الامان لاصحاب عليعليه‌السلام وشيعته، كل من الطبري ( ج ٦ ص ٩٧ )، وابن الاثير ( ج ٣ ص ١٦٦ )، وأبي الفرج في المقاتل ( ص ٢٦ )، وشرح النهج ( ج ٤ ص ١٥ )، والبحار ( ج ١٠ ص ١١٥ )، وعلل الشرائع ( ص ٨١ )، والنصائح الكافية ( ص ١٥٦ ).

٣ - البحار ( ج ١٠ ص ١١٥ )، والنصائح الكافية ( ص ١٥٦ - ط. ل ).

٢٦١

ابن عامر، فاوصله الى الحسن(١) ».

وذكر غيره نص الصيغة التي كتبها معاوية في ختام المعاهدة فيما واثق اللّه عليه من الوفاء بها، بما لفظه بحرفه:

« وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك، عهد اللّه وميثاقه، وما أخذ اللّه على أحد من خلقه بالوفاء، وبما أعطى اللّه من نفسه(٢) .

وكان ذلك في النصف من جمادى الاولى سنة ٤١ - على أصح الروايات -.

__________________

١ - الامامة والسياسة ( ص ٢٠٠ ).

٢ - البحار ( ج ١٠ ص ١١٥ ).

٢٦٢

دراسة النصوص البارزة في المعاهدة

٢٦٣

لتكن صيغة المعاهدة بما لولوت عليه من عناصر موضوعية لها أهميتها في الناحيتين الدينية والسياسية، شاهداً جديداً على ما وفّق له واضع بنودها من سمو النظر في الناحيتين جميعاً.

ومن الحق ان نعترف للحسن بن عليعليهما‌السلام - على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل اليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه - بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدّر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها، لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين وحكام المسلمين اللامعين. ولن يكون الحرمان يوماً من الايام، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان، دليلاً على ضعف أو منفذاً الى نقد، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير وسموّ الرأي، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش.

وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل، مهما حدّ من تيارها الحرمان أو ثنى من عنانها الفشل. وها هي ذي من لدن هذا الرجل العظيم تستجدّ - منذ الآن - ميدانها البكر، القائم على الفكرة الجديدة القائمة على صيانة حياة أمة بكاملها في حاضرها ومستقبلها، بما تضعه في هذه المعاهدة من خطوط، وبما تستقبل به خصومها من شروط.

وانك لتلمح من بلاغة المعاهدة بموادها الخمس، أن واضعها لم يعالج موضوعه جزافاً، ولم يتناوله تفاريق وأجزاءً، وانما وضع الفكرة وحدة متماسكة الاجزاء متناسقة الاتجاهات. وتوفر فيها على تحرّي أقرب المحتملات الى التنفيذ عملياً، في سبيل الاحتياط لثبوت حقه الشرعي، وفي

٢٦٤

سبيل صيانة مقامه ومقام أخيه، وتيسير شؤون أسرته وحفظهم، واعتصم فيها بالامان لشيعته وشيعة أبيه وانعاش أيتامهم، ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ووفائهم مع أبيه، وليحتفظ بهم أمناء على مبدئه وانصاراً مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه، يوم يعود الحق الى نصابه. وسلّم فيها « الأمر » الى معاوية مشروطاً بالعمل على سنّة النبي (ص) وسيرة الخلفاء الصالحين، فقلص بذلك من نفوذ عدوه في « الأمر » بما عرضه - من وراء هذا الشرط - للمخالفات التي لا عدَّ لها ولا حدَّ لنقمتها، وهو اذ ذاك اعرف الناس بمعاوية وبقابلياته الخلقية تجاه هذا الشرط.

والمعاهدة - بعدُ - هي الصكّ الذي وَقّعه الفريقان ليسجلا على أنفسهما الالتزام بما أعطى كل منها صاحبه وبما أخذ عليه. وهي هنا - على الاكثر - قضية « ماديَّات » محدودة لجّ في تحصيلها أحد الفريقين لقاء « معنويات » لا حدَّ لها استأثر بها الفريق الثاني.

فلم يهدف معاوية في صلحه مع الحسن (ع)، الا للاستيلاء على الملك، ولم يرض الحسن بتسليم الملك لمعاوية الا ليصون مبادئه من الانقراض، وليحفظ شيعته من الابادة، وليتأكد السبيل الى استرجاع الحق المغصوب يوم موت معاوية.

ومن سداد الرأي أن لا نفهم مغزى هذه المعاهدة الا على هذا الوجه.

ولكي نتبين صحة هذا التفسير لاهداف الفريقين يوم صلحهما، علينا ان نتحلل هنا في سبيل الكشف عن حقيقة تاريخية لها أهميتها، من التعبّد بأقوال المؤرخين وبتصرفاتهم، وأن نرجع توّاً الى التصريحات الشخصية التي فاه بها كل من المتعاقدين أنفسهما، فيما يمت الى عناصر اتفاقيتهما هذه، أو فيما يلقي الضوء على تفسير ما يفتقر الى التفسير منها. ولعلنا سنصل من وراء هذا الاسلوب في طريقة الاستنتاج، الى حل شيء كثير من الرموز التي استعصى حلها على كثير من الاصدقاء في التاريخ.

٢٦٥

١ - تصريحات الفريقين:     

ويكفينا الآن من تصريحات معاوية بعد الصلح، فيما يمتّ الى معاهدته مع الحسنعليه‌السلام قوله فيما يرويه عنه كثير منهم ابن كثير(١) : « رضينا بها ملكاً »، وقوله في التمهيد لهذه المعاهدة - قبل الصلح - فيما كان يراسل به الحسن: « ولك أن لا يستولى عليك بالاساءة ولا تقضى دونك الامور ولا تعصى في أمر(٢) ».

ويكفينا من تصريحات الحسن (ع) ما قاله أكثر من مرة في سبيل افهام شيعته حيثيات صلحه مع معاوية: « ما تدرون ما فعلت واللّه للذي فعلت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس ». وما قاله مرة أخرى لبشير الهمداني وهو احد رؤساء شيعته في الكوفة: « ما أردت بمصالحتي الا ان أدفع عنكم القتل(٣) »، وما قاله في خطابه - بعد الصلح -: « أيها الناس ان اللّه هداكم بأوّلنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وقد سالمت معاوية، وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين(٤) ».

وليس في شيء من هذه التصريحات ولا في الكثير مما جرى على نسقها، سواء من معاوية أو من الحسنعليه‌السلام ، ما يستدعينا الى الالتواء في فهم العقد القائم بينهما، الذي لم يقصد منه الا الاهداف التي أشرنا اليها آنفاً. فلمعاوية طموحه الى الملك، وللحسن خطته في حماية الشيعة من القتل، وصيانة المبادئ الدينية التي هي خير مما طلعت عليه الشمس، والمسالمة الى حين.

ولا بدع - بعد هذا - في تقرير هذه الحقيقة على واقعها، وفي التنبيه الى جنف كثير من المؤرخين فيما حرّفوا من أهداف كل من المتعاقدين، وفيما أساءوا فهمه من نصوصهما. ولقد ترى، ان المعاهدة نفسها

__________________

١ - في تاريخه ( ج ٦ ص ٢٢٠ ).

٢ - ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١٣ ).

٣ - الدينوري ( ص ٢٠٣ ).

٤ - اليعقوبي ( ج ٢ ص ١٩٢ ).

٢٦٦

وتصريحات المتعاقدين أنفسهما، لم تنبس قط، بذكر بيعة ولا امامة ولا خلافة. فأين اذاً، ما يدعيه غير واحد من هؤلاء المؤرخين وعلى رأسهم ابن قتيبة الدينوري، من أن الحسن بايع معاوية على الامامة!!

وقبل الانتقال الى مناقشة هذا الموضوع، أو مناقشة القائلين به نتقدم بتمهيد عابر عن نسبة الخلافة الاسلامية الى معاوية بن أبي سفيان، وامتناع البيعة الشرعية لمثله، فنقول:

معاوية والخلافة:      

لقد مرّ فيما ذكرناه بين أطواء المناسبات الآنفة، أن خلافة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الاسلام لا ينبغي ان تكون الا في أقرب المسلمين شبهاً به في سائر مزاياه الفضلى، وانه ليس لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء في هذا الامر ( كما قاله عمر )، وأن الخلافة بعد رسول اللّه ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً ( الحديث كما صححه أهل السنة )، وأن لا امامة الا بالنص والتعيين ( كما عليه الشيعة والمعتزلة )، وأن الغلبة والقوة لا تجعل غير الجائز جائزاً، فلا يصح أخذ الخلافة عنوة ولا فرضها على المسلمين قسراً، وأن الذي يكون خليفة النبي (ص) لا يمكن أن ينقاد - لا ظاهراً ولا سراً - الى مناقضته في أحكامه، فيلحق العهار بالنسب ويصلي الجمعة يوم الاربعاء وينقض عهد اللّه بعد ميثاقه.

ونزيد هنا: أن قادة الرأي في الامة الاسلامية منذ عهد معاوية والى يوم الناس هذا، لم يفهموا من استيلاء معاوية على الامر، معنى الخلافة عن رسول اللّه (ص) بما في هذا اللفظ من معنى، رغم الدعاوة الاموية النشيطة التي تجنّد لها الخلفاء الاسميون من بني أمية ومن اليهم، زهاء الف شهر، هي مدة حكمهم في الاسلام، أنفقوا فيها الرشوات بسخاء، ووضعوا فيها الاحاديث والاقاصيص وفق الخطط والاهواء، ثم بقي معاوية - مع كل ذلك - ملكاً دنيوياً وخليفة اسمياً لا اقلَّ ولا أكثر.

دخل عليه - بعد أن استقر له الامر - سعد بن أبي وقاص فقال له:

٢٦٧

« السلام عليك أيها الملك » فضحك له معاوية وقال: « ما كان عليك يا أبا اسحق لو قلت: يا أمير المؤمنين »، قال: « أتقولها جذلان ضاحكاً، واللّه ما أحب اني وليتها بما وليتها به(١) ».

وقال ابن عباس لابي موسى الاشعري في كلام طويل: « وليس في معاوية خصلة تقربه من الخلافة(٢) ».

وقال أبو هريرة في سبيل انكاره خلافة معاوية فيما يرويه عن رسول اللّه (ص): « الخلافة بالمدينة والملك بالشام(٣) ».

وسئل سفينة مولى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله - فيما أخرجه ابن أبي شيبة - عن استحقاق بني أمية للخلافة، فقال: « كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شرِّ الملوك، وأول الملوك معاوية(٤) ».

وأنكرت عائشة على معاوية ادعاءه الخلافة وبلغه ذلك، فقال: « عجباً لعائشة تزعم اني في غير ما أنا اهله، وأن الذي أصبحت فيه ليس لي بحق، مالها ولهذا يغفر اللّه لها(٥) ».

وحضر أبو بكرة ( أخو زياد لامه ) مجلس معاوية، فقال له: « حدثنا يا ابا بكرة »، فقال [ فيما أخرجه ابن سعيد ]: « اني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: الخلافة ثلاثون ثم يكون الملك قال عبد الرحمن بن أبي بكرة: « وكنت مع أبي فأمر معاوية فوجئ في أقفائنا حتى أخرجنا(٦) ».

__________________

١ - ابن الاثير في الكامل ( ج ٣ ص ١٦٣ ) والنصائح الكافية ( ص ١٥٨ ).

٢ - المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٦ ص ٧ ).

٣ - ابن كثير ( ج ٦ ص ٣٢١ ).

٤ - النصائح الكافية ( ص ١٥٣ - طبع ايران ).

٥ - شرح النهج ( ج ٤ ص ٥ ).

٦ - النصائح الكافية ( ص ١٥٩ - ط. أ ).

٢٦٨

وسأل معاوية صعصعة بن صوحان العبدي قائلاً: « أي الخلفاء رأيتموني؟ »، فقال صعصعة: « أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً ودانهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً. أما واللّه ما لك في يوم بدر مضرب ولا مرمى، ولقد كنت أنت وابوك في العير والنفير، ممن أجلب على رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم. وانما أنت طليق وابن طليق أطلقكما رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم. فأنّى تصلح الخلافة لطليق؟!(١) ».

ودخل عليه صديقه المغيرة بن شعبة، ثم انكفأ عنه وهو يقول لابنه: « اني جئت من أخبث الناس!!(٢) ».

ولعنه عامله سمرة يوم عزله عن ولاية البصرة، فقال: « لعن اللّه معاوية واللّه لو اطعت الله كما أطعته لما عذبني ابداً(٣) ».

وقال الحسن البصري: « أربع خصال كُنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهن الا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها امرها ( يعني الخلافة ) بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً، ويل له من حجر وأصحاب حجر، ( مرتين )(٤) ».

وأبى المعتزلة بيعة معاوية بعد الصلح، واعتزلوا الحسن ومعاوية جميعاً، وبذلك سموا أنفسهم « المعتزلة »(٥) .

__________________

١ - المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٦ ص ٧ ).

٢ - مروج الذهب ( ج ٢ ص ٣٤٢ )، وابن ابي الحديد ( ج ٢ ص ٣٥٧ ).

٣ - ابن الاثير فيما يرويه عنه في النصائح ( ص ٩ ).

٤ - الطبري ( ج ٦ ص ١٥٧ - الطبعة الاولى ).

٥ - كتاب التنبيه والرد على أهل الاهواء والبدع: لمحمد بن أحمد الملطي المتوفى سنة ٣٧٧ هجري ( ص٢٨ ).

٢٦٩

ثم مشى موكب الزمان بتاريخ معاوية، فاذا به المثال الذي يضربه فقهاء المذاهب الاربعة، للسلطان الجائر(١)

واذا به الباغي الذي يجب قتاله برأي أبي حنيفة النعمان بن ثابت(٢) .

فأين الخلافة المزعومة، ياترى؟.

وجاء المعتضد العباسي، فنشر من جديد فعال معاوية وبوائقه الكبرى وما قيل فيه، وما روي في شأنه. ودعا المسلمين الى لعنه، في مرسوم ملكي اذيع على الناس سنة ٢٨٤ للهجرة(٣) .

وقال الغزالي بعد ذكره لخلافة الحسن بن علي (ع): « وأفضت الخلافة الى قوم تولوها بغير استحقاق(٤) ».

وكان أروع ما ذكره به القرن السادس، قول نقيب البصرة فيه: « وما معاوية الا كالدرهم الزائف(٥) ».

وصرّح ابن كثير بنفي الخلافة عن معاوية استناداً الى الحديث، قال: « قد تقدم أن الخلافة بعدهعليه‌السلام ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً، وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فأيام معاوية أول الملك(٦) ».

وقال الدميري المتوفى سنة ٨٠٨ هجري بعد ذكره مدة خلافة الحسن (ع): « وهي تكملة ما ذكره رسول اللّه صلى اللّه عليه ( وآله ) وسلم من مدة

__________________

١ - وذلك في اتفاقهم على جواز تقلد القضاء من السلطان الجائر، استناداً الى عمل الصحابة في تقلدهم القضاء من معاوية.

٢ - قال أبو حنيفة: « أتدرون لم يبغضنا أهل الشام؟ ». قالوا: « لا ». قال: « لانا نعتقد أن لو حضرنا عسكر علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، لكنا نعين علياً على معاوية، ونقاتل معاوية لاجل علي، فلذلك لا يحبوننا ». يراجع النصائح الكافية لابن عقيل ( ص ٣٦ ) فيما يرويه عن أبي شكور في كتابه « التمهيد في بيان التوحيد ».

٣ - نجد نص المرسوم على طوله في تاريخ الطبري ( ج ١١ ص ٣٥٥ ).

٤ - دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي ( ج ٣ ص ٢٣١ ).

٥ - ابو جعفر النقيب ( ص ٤١ - طبع بغداد ).

٦ - البداية والنهاية ( ج ٨ ص ١٩ ).

٢٧٠

الخلافة، ثم تكون ملكاً عضوضاً ثم تكون جبروتاً وفساداً في الارض، وكان كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(١) ».

وجاء محمد بن عقيل - اخيراً - فكتب كتابه الجليل « النصائح الكافية لمن يتولى معاوية » وهو بحق: القول الفصل في موضوع معاوية، وقد طبع الكتاب مرتين، فليراجع.

وفي اباء التشريع الاسلامي مثل هذه الخلافة - أولاً -.

وفي المخالفات الصلع التي ثبتت على معاوية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - ثانياً -.

وفي انكار قادة الرأي المسلمين عليه - في مختلف العصور الاسلامية - ادعاءه الخلافة - ثالثاً - ما يكفينا مؤنة البحث في موضوع ( معاوية والخلافة ).

وكذلك كان الحسن نفسه بعد تسليم الامر لمعاوية، صريحاً في نفي الخلافة عنه، شأنه في ذلك شأن سائر القادة من المسلمين. فقال في خطابه يوم الاجتماع في الكوفة: « وان معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أر نفسي لها اهلاً، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب اللّه عزّ وجل وعلى لسان نبيه ». وسيأتي ذكر خطابه هذا في [ الفصل ١٨ ].

وقال في خطاب آخر له - بعد الصلح - وكان معاوية حاضراً: « وليس الخليفة من دان بالجور وعطل السنن واتخذ الدنيا أباً وأماً، ولكن ذلك ملك أصاب ملكاً يمتع به، وكان قد انقطع عنه، واستعجل لذته وبقيت عليه تبعته، فكان كما قال اللّه جل وعزّ: وان أدري لعله فتنة ومتاع الى حين(٢) ».

__________________

١ - حياة الحيوان ( ج ١ ص ٥٨ ).

٢ - ذكرها البيهقي في المحاسن والمساوئ ( ج ٢ ص ٦٣ ) وذكرها غيره.

٢٧١

٢ - حديث البيعة:

وجاء فيما يرويه الكلينيرحمه‌الله ( ص ٦١ ): « ان الحسن اشترط على معاوية أن لا يسميه أمير المؤمنين ».

وجاء فيما يرويه ابن بابويهرحمه‌الله في العلل ( ص ٨١ )، وروا غيره أيضاً: « أن الحسن اشترط على معاوية أن لا يقيم عنده شهادةً ».

ولا أكثر مما تضمنته هاتان الروايتان تحفظاً عن الاعتراف بصحة خلافة معاوية فضلاً عن البيعة له. ولم يكن ثمة الا تسليم الملك الذي عبرت عنه المعاهدة « بتسليم الامر » وعبر عنه آخرون بتسليم الحكم.

اما قول الدينوري في « الامامة والسياسة » أن الحسن بايع معاوية على الامامة، فهو القول الذي يصطدم قبل كل شيء بقابليات معاوية التي عرفنا قريباً النسبة بينها وبين الخلافة وصلاحية البيعة على المسلمين، ويصطدم ثانياً بتصريحات الحسن في انكار خلافة معاوية. سواء في خطابيه الآنفين، أو في تحفظاته الواضحة في هاتين الروايتين.

وهكذا دلّ الدينوري فيما مرَّ عليه من قضايا الحسن ومعاوية، على تحيز واضح لا يليق بمؤرخ يعيش في القرن الثالث حيث لا معاوية ولا رشواته ولا دعاواته، ولكنها الدوافع العاطفية التي لم يسلم من تأثيرها كثير من مؤرخينا المسلمين فقال مرة اخرى: « ولم ير الحسن والحسين طول حياة معاوية منه سوءاً في أنفسهما ولا مكروهاً! ». اقول: وأي سوء يصاب به انسان أعظم من قتله سماً؟. وأي مكروه ينزل بانسان أفظع من اغتصاب عرشه ظلماً؟. فأين مقاييس الدينوري بعد هذا يا ترى؟

ونحن اذ أردنا هنا، ان نتعسف للمتسرعين الى ذكر البيعة عذراً أو شبه عذر، حملناهم على التأثر بالدعاوات الكثيرة التي كانت لا تزال آخذة بالاسماع، ولم يكن في التاريخ قضية أبرز من انتقال الحكم في الاسلام من سبط النبي نفسه، الى طليق من الطلقاء المعروفين بتاريخهم القريب، ولذلك

٢٧٢

فقد بلغ الكلف بالمنكرين على الصلح حداً استساغوا به الاسترسال في ذيوله وحواشيه، فحوَّروا ما كان، وزوَّروا ما لم يكن. ومن هنا نسج الخيال حديث البيعة، وكان في اللغط بهذا الحديث - المصطنع - غرض قويّ للقوة القائمة على الحكم بعد حادثة الصلح، لأنه الدعامة التي تسند دعاوتهم باستحقاق الخلافة المزعومة، الامر الذي تصايح المسلمون بانكاره لهم وانكارهم له، منذ قال سفينة مولى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك وأول الملوك معاوية ».

ثم جاءت السطحية الساذجة التي تقمصها اخواننا المؤرخون فيما جمعوه أو فيما فرّقوه من تاريخ الاسلام، فمرّوا على هذه الاقصوصة المصطنعة كحقيقة واقعة، وكان القليل منهم من وقف عن الفضول في الكلام، وكان منهم من جاوز الحقيقة فخلط وخبط، حتى نسب الى الحسن نفسه الاعتراف بالبيعة صريحاً!. وكان منهم من أوقعه الخلط والخبط في فرية وضيعة لا تجمل بمروءة الرجل المسلم فيما يكتبه عن سبط من أسباط نبيه العظيم (ص)، فضلاً عن نبوها المكشوف بأمانة التاريخ، فادّعى انه باع الخلافة بالمال!!

ولسنا الآن بصدد الردّ على تقولات الافاكين.

ولكننا اذ نبرئ حديث الصلح بواقعه الاول الذي رضيه الفريقان من قضية البيعة المزعومة، لا نعتمد في التبرئة الا على الفهم الذي يجب ان يفهمه المسلم من معنى البيعة ومن معنى الامامة على حقيقتهما - هذا أولاً وأما ثانياً فلما مرّ عليك قريباً من روايات الحادثة، ومن تصريحات ذوي الشأن في الموضوع.

وما من حقيقة تتعاون على تقريرها مثل هذه الادلة فتبقي مجالاً للشك.

وقديماً اعتاد الناس أن يرجعوا في كشف الوقائع الماضية الى اقوال المؤرخين القدامى، ممن عاصر تلك الوقائع أو جاء بعدها بقليل أو كثير من الزمن. وكان من الجمود على هذه الطريقة ما أدى في الاجيال المتأخرة

٢٧٣

الى مختلف الآراء وشتى التحزّبات، بين المجتمع الواحد وفي الافق الواحد والدين الواحد، ذلك لان مراجع هذا التاريخ أنفسهم، كانوا يعيشون تحت تأثير آراء وتحزبات لا معدى لهم عنها في مثل عصورهم. ومن الصعب جداً أن يطيق كاتب ما يومئذ التحلل - فيما يكتب - من المؤثرات العاطفية التي تشترك في تكوينه أدبياً وفي تدوير أعماله ومصالحه اجتماعياً. ومن هنا كان هذا القلق الملموس - المأسوف عليه - في كثير من موضوعات التاريخ الاسلامي.

ومن الحق أن نعتقد هنا، بأن قصة « البيعة » التي طعنت بها قضية الحسن في صلحه مع معاوية، انما كانت وليدة تلك المؤثرات التي كتب المؤرخون تحت تأثيرها تواريخهم، فرأوا من الدعاوات المغرضة لتسجيل هذه القصة كحقيقة واقعة ما يحفزهم الى حسن الاحتذاء، تطوعاً للمنفعة العاجلة أو جهلاً بالواقع، ورأوا من التصريح « بتسليم الامر » في صلب المعاهدة ما يسوّغ لهم - أو قل - ما ييسر لهم التوسع الى ادعاء الاعتراف بالخلافة، ثم الى ادعاء الانقياد بالبيعة!!. وخفي عليهم ان الخلافة - بما هي منصب الهي - لا يمكن ان تنقاد الى مساومة أو تسليم، ولا يمكن ان تمسها الظروف الزمنية في « صلح » أو « تحكيم ».

ولكي نزداد بصيرة في تفهم معنى « تسليم الامر » الوارد في المادة الاولى من معاهدة الصلح، علينا أن نرجع الى طريقتنا في استنتاج الحدّ بين هزل المؤرخين فندرس على المتعاقدين أنفسهما تفسير هذا المجمل من حيث التقييد والاطلاق.

٣ - تسليم الامر:

علمنا - مما تقدم - أن معاوية قال لابنه يزيد، وهو يشير الى أهل البيتعليهم‌السلام : « ان الحق حقهم ».

وعلمنا انه كتب الى الحسن في التمهيد للصلح « ولا تقضى دونك الامور ولا تعصى في أمر ».

٢٧٤

وعلمنا أنه قال بعد الصلح: « رضينا بها ملكاً ».

وعلمنا أنه خطب على منبر الكوفة يوم وصوله اليها. فقال: « اني لم اقاتلكم لتصلوا ولا لتزكوا وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم ».

وعلمنا أن الحسن بن علي أنكر عليه الخلافة وجاهاً، فسكت ولم يرد عليه.

فلنعلم اذاً، بأن معاوية حين رضيها ملكاً نفاها عن نفسه خلافة، وحين قال: « لم اقاتلكم لتصلوا ولا لتزكوا » دل على أنه ليس خليفة دين، ولكنه ملك دنيا لا همَّ له في صلاة ولا زكاة، وانما كل همه في التأمر على الناس. وهو حين يقول للحسن: « لا تقضى دونك الامور » ويقول لابنه: « ان الحق حقهم »، يعترف للحسن بالمقام الاعلى وبالسلطة التي لا تعصى في أمر. وما ذلك الا مقام الخلافة فحسب. وكان لابد لمعاوية أن يسكت - والحال هذه - حين يصارحه الحسن بانكار خلافته، ويكذبه على ادعائها بغير استحقاق.

فأين من هذا، تسليم الخلافة الذي فسّروا به تسليم الامر؟.

وشيء آخر، قد يكون في مغزاه أدق دلالة على اعتراف معاوية ببراءته من استحقاق الخلافة، وذلك هو ضحكته المخذولة لسعد بن أبي وقاص يوم دخل عليه وقال له: « السلام عليك ايها الملك »، ولم يقل يا امير المؤمنين، فقد كانت هذه الضحكة بلغتها المبطنة، صريحة بالاعتراف بالخطأ اذ يريد أن يأخذ الخلافة لقباً من غنائم الحرب، لا واسطةً بين المسلمين ونبيهم (ص)، وبهذا استحق من سعد، وهو الرجل الذي لا تغلبه مداورات معاوية، أن يقول له: « واللّه ما أحب أني وليتها بما وليتها به »، يعني أنه كان يترفع عنها لقباً ينبت على الدماء المحرمة، والفتن السود، والعهود الخائسة.

وترى - على هذا - أن سعداً لم يفهم من تسليم الامر الا تسليم الملك وهو ما يجب أن يفهمه كل من فهم لغة القرآن في الخلافة، أو لغة الفريقين

٢٧٥

المتعاقدين في المعاهدة. ولما مرّ البحاثة الاسلامي الجليل السيد أمير علي الهنديرحمه‌الله ، على ذكر هذا الصلح عبّر عنه « بالتنازل عن الحكم(١) ».

وكان فيما قاله الحسنعليه‌السلام في سبيل التعبير عن صلحه مع معاوية جواباً لبعضهم: « لا تقل ذلك يا أبا عامر، لم أذل المؤمنين ولكني كرهت أن أقتلهم على الملك(٢) ».

وقال لآخر: « أضرب هؤلاء بعضهم ببعض في ملك من ملك الدنيا لا حاجة لي به(٣) ».

وهكذا نجد الفريقين - الحسن ومعاوية - يتفقان على أن الحرب التي زحفا اليها بجيوشهما، انما كانت حرباً على الملك. ومعنى ذلك أن الصلح الذي اتفقا عليه في معاهدتهما، انما كان صلحا على الملك، لانهما يصطلحان اليوم على ما تنازعا عليه أمس. وليس في وجهة النظر القائمة بين الاثنين في خلال هذه التصريحات ولا يوم صلحهما، ذكر للخلافة تسلّماً ولا تسليماً.

ثم نجدهما يتفقان في هذه التصريحات، على ايثار أحدهما دون الآخر بالمركز الذي لا تقضى دونه الامور وهو المركز الذي سوّغ للحسن أن يقول عن معاوية كما لو قلده عملاً من اعماله وهو اذ ذاك حاضر مجلسه: « انه أعرف بشأنه وأشكر لما ولّيناه هذا الامر(٤) » يعني امر الملك.

أقول: وكم هو الفرق بين هذا المركز وبين ما توهمه المتحذلقون من حديث البيعة أو من تفسير تسليم الامر بتسليم الخلافة؟.

وكانت فيما نظن غلطة سبق اليها كاتب عن قصد، ثم أخذها عنه

__________________

١ - مختصر تاريخ العرب والتمدن الاسلامي ( ص ٦١ ).

٢ - ابن كثير ( ج ٨ ص ١٩ )، واعيان الشيعة ( ج ٤ ص ٥٢ )، والمستدرك للحاكم.

٣ - الاصابة ( ج ٢ ص ١٢ ).

٤ - المحاسن والمساوئ للبيهقي ( ج ١ ص ٦٤ ).

٢٧٦

كتّاب عن غير قصد، واندست على مثل هذا الاسلوب اخطاء كثيرة في التاريخ، شوّهت من حقائقه وبدلت من روعته وضاعفت من جهد الباحثين فيه، ثم اذا أنت عُنيت بموضوعك فدققت مراجعه، رأيته لا يرجع الا الى أصل واحد، ثم اذا محصت الاصل رأيته لا يرجع الى أصل!.

هذا، واما الخلافة الاسمية، فلا خلاف فيها على معاوية ولا على أحد من هؤلاء المتنفذين الذين ادعوها لانفسهم، أو غزوها بسلاحهم، أو ورثوها من الغزاة والمدّعين.

واذا صح في عرف المجتمع الذي بايع معاوية، أو بايع أحد هؤلاء، ان ينتزع من الادعاء أو قوة السلاح « خلافة » فلا مشاحة في الاصطلاح.

وليكن معاوية - على هذا - خليفة النفوذ والسلطان، وليبق الحسن بن علي خليفة النبي وشريك القرآن.

وليكن ما ورد في بعض النصوص - على تقدير صحة السند والامن من التحريف - تطبيقاً عملياً لاستعمال الكلمة في مصطلحها الجديد!.

٤ - مصير الامر بعد معاوية  

ولم يعهد في كتب معاوية الى الحسن فيما كان يراسله به في سبيل التمهيد للصلح، كتاب يغفل تعيين المصير الذي كان يجب أن يرجع اليه الامر من بعد معاوية. وهو اذ يطلب من الحسن في هذه الرسائل تسلم الامر محدوداً بحياته، يقول في بعضها: « ولك الامر من بعدي(١) » ويقول في بعضها الآخر: « وأنت اولى الناس بها(٢) ».

وهكذا جاء النص في المعاهدة.

وهكذا فهم الناس الصلح، انتزاعاً للسلطة محدوداً بعمر معاوية

__________________

١ و ٢ - ابن ابي الحديد في شرح النهج ( ج ٤ ص ١٣ ).

٢٧٧

الذي كان يكبر الحسن زهاء ثلاثة عقود، فكان من المتوقع القريب أن يسبقه الى الموت، وأن يعود الحق الى نصابه، والحسن بعدُ في أوائل كهولته أو اواخر شبابه، لولا أن للخطط الجهنمية حساباً لا يخضع للمقاييس!!.

وظلت المادة الصريحة باستحقاق الحسن الامر بعد معاوية، أبرز مواد المعاهدة في المجتمعات الاسلامية، وأكثرها ذيوعاً بين الناس، مدى عقد كامل من السنين. ثم طغت عليها الدعاوات العدوة، وأخذها حملة الاخبار الى مصانعهم الجديدة، فبدلوا من معالمها وغيروا من حقائقها، وصاغها بعضهم بقوله: « ليس لمعاوية أن يعهد الى أحد ». وتلطف آخر بها من عنده فقال: « ويكون الامر بعده شورى بين المسلمين ». - أما الصادقون فرووها على حقيقتها. وفات المؤرخين المحترفين، أن صرف الحقيقة عن واقعها في هذا النص، لن يجديهم في صرف الواقع عن حقيقته في مرحلة التطبيق، فلم يكن من المحتمل عادة، أن يتجاوز المسلمون - في شوراهم أو في غير شوراهم - ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لو قدر له أن يكون حياً يوم يموت معاوية، وقدّر للمسلمين أن يختاروا الخليفة أحراراً، أو يتشاوروا أمرهم مختارين. فالروايتان - الصحيحة والمحرفة - بل الصور الثلاث المزعومة للرواية الواحدة، تتحد عملياً ما دام الحسن حياً.

اذاً، فلماذا التهرب من أمانة التاريخ الا أن يكون تعاوناً رخيصاً مع السلطة القائمة على التمهيد لبيعة يزيد؟!!.

وخيل للمؤرخ البارع الذي الغى التعيين الصريح، ونقل الامر الى الشورى، أنه أحسن اتخاذ الاسلوب للوضع والتحريف، وخفي عليه، أنه لم يزد فيما هدف اليه على صاحبه الذي الغاهما معاً، وذلك لان الشورى التي عناها لا تكون في انتخاب الخليفة، وانما تكون في الشؤون التي يديرها الخليفة أو رئيس المسلمين من أمورهم، وهكذا كان تشريعها الاول يوم

٢٧٨

قال سبحانه « وشاورهم في الامر »، وعلى ذلك مدحهم بقوله تعالى « وامرهم شورى بينهم ».

والآية في نفي الرئاسات التي جعلها الناس، أصرح منها في فرضها على الناس.

وليس فيما توهمه هذا المؤرخ أو توهمه آخرون، من الاستناد الى الكتاب في قضية الانتخاب الا الوهم - ولذلك فان عائشة لما أرادت الدعوة الى الشورى لم تنسبها الى اللّه عزّ وجل وانما نسبتها الى عمر بن الخطاب ولو وجدت في نسبتها الى اللّه سبيلاً لما تأخرت عنه لانه كان - اذ ذاك - أدعم لحجتها، فقالت يوم دخولها البصرة: « ومن الرأي ان تنظروا الى قتلة عثمان فيُقتلوا به، ثم يُردّ هذا الامر شورى على ما جعله عمر بن الخطاب(١) ».

واخيراً، فان القرائن القطعية الكثيرة، لا تقبل لهذا النص - موضوع البحث - الا الرواية الصريحة التي ذكرناها في المادة الثانية من صورة المعاهدة.

أما اولاً - فلما دلت عليه كتب معاوية الى الحسن (ع) - كما أشير اليه قريباً -.

واما ثانياً - فلأنها الانسب بشروط يضعها الحسن نفسه - كما نبهنا اليه في حديث ( الصحيفة البيضاء ).

واما ثالثاً - فلأن رواتها أكثر، وروايتها أشهر.

واما رابعاً - فلما أشرنا اليه من ذيوع المادة الثانية بنصها الصريح مدة حياة الحسنعليه‌السلام ، حتى لقد كانت الشاهد في كثير من الخطب والاحاديث.

فنرى سليمان بن صرد يشير اليها فيما يعرضه للحسن

__________________

١ - دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي ( ج ٤ ص ٥٣٥ ).

٢٧٩

بعد الصلح. ونرى جارية بن قدامة يذكر لمعاوية حق الحسن بالأمر بعده كقرار معروف. ونرى الاحنف بن قيس يرسله ارسال المسلّمات، في خطبته التي يرد بها على البيعة، ليزيد، وهو اذ ذاك يخاطب معاوية نفسه في حفل حاشد.

قال: « وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليه مقصاً. ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود اللّه ما قد علمت، ليكون له الامر من بعدك، فان تفِ، فأنت أهل الوفاء، وان تغدر تظلم. واللّه ان وراء الحسن خيولاً جياداً وأذرعاً شداداً وسيوفاً حداداً، ان تدنُ له شبراً من غدر، تجد وراءه باعاً من نصر. وانك تعلم من أهل العراق، ما أحبوك منذ أبغضوك(١) ».

الى كثير من الشواهد الاخرى التي يزهدنا في استيعابها رغبتنا في الاختصار.

٥ - بقية المواد

ولقد ترى - الى هنا - بأن دراستنا للنقاط البارزة في مواد المعاهدة لم تتجاوز المادتين - الاولى والثانية -.

اما المادة الثالثة، فقد سبق في ( الفصل: ١٤ ) مناقشة معاوية في موضوعها كما يجب - فليراجع -، وسبق في الكلام على حديث الصحيفة البيضاء التي أرسلها معاوية الى الحسنعليه‌السلام ، ليكتب عليها ما يشاء من شروط، ( في الفصل: ١٦ ) أن حديث هذه الصحيفة هو القرينة على ترجيح ما يكون من روايات المعاهدة أقرب الى صالح الحسن منه الى صالح خصومه، وعلى هذا فالمادة الثالثة لا تعني الا الاطلاق في منع معاوية من شتم

__________________

١ - تجد تمام هذه الخطبة وذكر مصادرها في ( الفصل ٢٠ ) عند ذكرنا طريقة التمهيد لبيعة يزيد.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400