صلح الحسن (عليه السلام)

صلح الحسن (عليه السلام)10%

صلح الحسن (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 400

  • البداية
  • السابق
  • 400 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47969 / تحميل: 8355
الحجم الحجم الحجم
صلح الحسن (عليه السلام)

صلح الحسن (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

النظر اليها من ناحيتها الدنيوية فحسب. بينما الانسب بقضية « امام » ان يستنطقها الباحث من ناحيتها الدينية على الاكثر. وكثير هو الفرق بين الدنيا والدين في نظر امام. والقضية من هذه الناحية ظفر لا خسارة - كما سنأتي على توضيحه في محله المناسب - وهي وان تكن معرض آلام، ولكنها آلام في سبيل الاسلام، ومن أولى من الحسن بالاسلام وتحمّل آلامه. وانما هو نبت بيته.

واما ثالثاً:

فلم يكن الحسن في رفعة مكانه من زعماء المسلمين، وفي نسبه الممتاز ومركزه من العلم، بالذي يستطيع الفراغ وان أراده عن عمد، ولا بالذي يتركه الناس وان أراد هو ان يتركهم، وكان لابد للرجات العنيفة في المجتمع الاسلامي، أن تتدافع اليه، تستدعيه للوثوب احقاقاً للحق وانكاراً للمنكر - كما وقع لاخيه الحسينعليه‌السلام في ظرفه.

وأيضاً. فلو ترك الناس وتجافى عن بيعتهم، أو تركه الناس وأعفوه خلافتهم، فلن يتركه المتغلبون على الناس. وانهم لينظرون اليه - دائماً - كشبح مخيف، بما يدور حوله من الدعوة الى الاصلاح، او النقمة الصارخة على الوضع، التي كان يتطوع لها مختلف الطبقات، من الساخطين والمعارضين والدعاة للّه، ولن يجد هؤلاء يومئذ ملجأ يفيئون اليه، خيراً من ابن رسول اللّه الامام المحبوب. وهل كانت الوفود التي عرضت عليه استعدادها لمناوأة الحكام الامويين واعادة الكرة(١) لاسترجاع الحق المغصوب، الا ظاهرة هذه النقمة الصارخة التي كان يعج بها المجتمع الاسلامي يوم ذاك. وأنى لسلطان المتغلبين أن يستقر ما دام هذا المنار قائماً يفيء اليه الناس.

ولنتذكر أنه قتل مسموماً. ولماذا يقتلونه وقد صالحهم وترك لهم الدنيا برمتها، لولا أنهم خافوه على سلطانهم، ورأوا من وجوده حاجزاً

____________

١ - الامامة والسياسة ( ص ١٥١ ).

٦١

يمنعهم من النفوذ الى قلوب الناس؟ وهل ذلك الا دليل انقياد الناس - في عقيدتهم - اليه دونهم؟

وهذا كله بعد الصلح، وبعد ظهور جماعات من شيعته وغير شيعته ينكرون عليه موقفه من الصلح.

ترى فكيف كانت قوته في الناس لو انه أبى الخلافة من أول الامر، وبقي شغف المسلمين الى بيعته على حدّته، فهل كان من المحتمل، أن يظل محور الامل ومفزع الناقمين والمعارضين، ثم تنام عنه العيون الحذرة على دنياها، فلا تعاجله بما ختمت به حياته المقدسة اخيراً؟ وهل كان الا طعمة الاغتيالات الكافرة في سنته الاولى بعد ابيه - على اغلب الظن -؟.

فأيّ منطق هذا الذي يرى من قبول الحسن للخلافة تسرّعاً!

والخلافة - في أصلها - مقام ابيه وميراثه وميراث أخيه - على حد تعبير الامام علي بن موسى بن جعفرعليهم‌السلام .

واما الزعازع التي لوّح بها هذا النقد، فما كانت الا خطط المناوئين في الكوفة، وليس شيء منها بالذي يضير الحسن ابان نشاط الناس معه - كما هو في ابان بيعته - وأي خليفة أو زعيم ليس له مناوئون؟

فلم لا يكون قبول البيعة هو الارجح على مختلف الوجوه؟.

بل هو الواجب لضرورة الوقت وللمصلحة العامة ولاحقاق الحق.

٦٢

 

الكوفة ايام البيعة

٦٣

الكوفة كما يصفها صعصعة بن صوحان العبدي(١) : « قبة الاسلام وذروة الكلام، ومصان(٢) ذوي الاعلام، الا ان بها أجلافاً(٣) تمنع ذوي الامر الطاعة وتخرجهم عن الجماعة، وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة ».

مصّرها المسلمون في السنة السابعة عشرة(٤) للهجرة بعد فتح العراق مباشرة.

وكان بناؤها الاول بالقصب، فأصابها حريق، فبنيت باللبن وكانت شوارعها العامة بعرض عشرين ذراعاً - بذراع اليد -، وأزقتها الفرعية بعرض سبعة أذرع. وما بين الشوارع أماكن البناء وهي بسعة أربعين ذراعاً، والفطايع وهي بسعة ستين ذراعاً.

وكان المسجد أول شيء خطّوه فيها. فوقف في وسط الرقعة التي أريدت للمدينة. رجل شديد النزع، رمى الى كل جهة بسهم، ثم اقيمت المباني فيما وراء السهام، وترك ما دونها للمسجد وساحته. وبنوا في مقدمة المسجد رواقاً، أقاموه على أساطين من رخام كان الاكاسرة قد جلبوها من خرائب الحيرة، وجعلوا على الصحن خندقاً لئلا يقتحمه أحد ببنيان.

وزاد عمران الكوفة زيادة مفاجئة، حين هاجر اليها أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاتخذها مقراً له بعد وقعة الجمل سنة ٣٦ للهجرة وكان دخوله اليها في الثاني عشر من شهر رجب.

__________________

١ - تجد ترجمته في « زعماء الشيعة المروعين » في الكتاب، وروى كلمته هذه المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٦ ص ١١٨ ).

٢ - بفتح اوله غلاف القوس.

٣ - الجلف هو الغليظ الجافي.

٤ - البلاذري في فتوح البلدان والبراقي في تاريخ الكوفة، وذكره الحموي في المعجم ثم ناقض نفسه اذ قال في مادة « البصرة »: « وكان تمصير البصرة في السنة الرابعة عشرة قبل الكوفة بستة أشهر! ».

٦٤

وكان من بواعث هذه البادرة - هجرة علي الى الكوفة - ضعف موارد الحجاز، واعتماده في موارده على غيرها، وما من علة تتعرض لها دولة أضرّ من اعتمادها في الموارد على غيرها، وكانت الكوفة وبلاد السواد تكفي نفسها وتفيض. وهذا عدا الاسباب العسكرية التي اضطرته لها الثورات المسلحة التي كانت تتخذ من بلاد الرافدين ميادين لاعمالها العدوانية.

وتقاطر على الكوفة - اذ هي عاصمة الخلافة - كبار المسلمين من مختلف الآفاق. وسكنتها القبائل العربية من اليمن والحجاز، والجاليات الفارسية من المدائن وايران. وعمرت فيها الاسواق التجارية. وزهت فيها الدراسات العلمية. وأنشئت حولها الحدائق والبساتين والارباض والقريات. وأغفت على ذراعها أمجاد التاريخ والآداب والعلوم زمناً طويلاً.

وغلب على الكوفة تحت ظل الحكم الهاشمي التشيّع لعلي واولادهعليهم‌السلام ، ثم لم يزل طابعها الثابت اللون. ووجد معه بحكم اختلاف العناصر التي يممت المصر الجديد أهواء مناوئه اخرى، كانت بعد قليل من الزمن أداة الفتن في اكثر ما عصف بالكوفة من الزعازع التاريخية والرجّات العنيفة لها وعليها.

وجاءت بيعة الحسنعليه‌السلام يوم بايعته الكوفة، عند ملتقى الآراء من سائر العناصر الموجودة فيها يوم ذاك، على أنها كانت قلَّ ما تلتقي على رأي.

وكان للحسن من اسلوب حياته في هذه الحاضرة، مدى اقامته فيها، ما جعله قبلة الانظار ومهوى القلوب ومناط الآمال، وملأ أجواء المدينة الجديدة « عاصمة ابيه » بكرائم المكرمات التي تنتقل في آل محمد بالارث: جود يد، وسجاحة خلق، ونبل شعور، وظرف شمائل، وسعة حلم، ورجاحة عقل وعلم وزهادة وعبادة. وضحك منبر الخلافة - في بحران

٦٥

حزنه على الامام الراحل - بما شاع في أكنافه من شيم الانبياء الموروثة في خليفته الجديد، ولم يكن ثمة أعمل بالتقوى، ولا أزهد بالدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه، لذلك كان الشخصية الفذة التي تتفق عليها الآراء المختلفة عن رغبة وعمد، وتجتمع فيها عناصر الزعامة كما يجب في قائد أمة أو امام قوم.

وانتهت مهرجانات البيعة في الكوفة على خير ما كان يرجى لها من القوة والنشاط والتعبئة، لولا ان للقدر أحكاماً لا تجري على أقيسة العقول، ولا تسير على رغائب الانفس، فكان الجوّ السياسي في الحاضرة التي تحتفل لاول مرة في تاريخها بتنصيب خليفة، لا يزال راكداً متلبداً مشوباً بشيء كثير من التبليل المريب، وذلك هو ما ورثته الكوفة من مخلّفات الحروب الطاحنة التي كانت على مقربة منها في البصرة والنهروان وصفين. وفي الكوفة يومئذ انصار كثيرون لشهداء هذه الحروب وضحاياها من الفريقين يشاركونهم الرأي، ويتمنون لو يسّر لهم اخذ الثار، ويعملون ما وسعهم العمل لتنفيذ اغراضهم.

ومن هذه الاغراض، الاغراض الصالحة المؤاتية، ومنها الفاسدة المبرقعة الاهداف التي لا تفتأ تخلق ذرائع الخلاف في المجموع.

اما الحسن - وهو في مستهل خلافته - فقد كانت القلوب كلها معه لانه ابن بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولان من شرط الايمان مودته، ومن شرط البيعة طاعته.

قال ابن كثير: « وأحبوه أشد من حبهم لابيه(١) ».

وكان لا يزال بمنجاة من هؤلاء وهؤلاء، ما دام لم يباشر عملاً ايجابياً يصطدم بأهداف البعض، أو يمس الوتر الحساس من عصبيات البعض الآخر. ذلك لان الوسائل التي أصبح يعيش بها الاسلام يومئذ، كانت

__________________

١ - البداية والنهاية ( ج ٨ ص ٤١ ).

٦٦

تخضع في أمثال هؤلاء المسلمين للاهداف الشخصية تارة، وللعصبيات اخرى.

وخيل للكثيرين من اولئك الذين تتحكم فيهم الانانية والنفعية حتى تتجاوز بهم حدود العقيدة، أنهم اذ يبايعون الحسن بالخلافة، انما يتسورّون بهذه البيعة الى اسناد قضاياهم، وارضاء مطامعهم، عن طريق الخلق الثري الواسع، الذي ألفوه في الحسن بن علي منذ عرفوه بين ظهرانيهم، والذي كان يذكّرهم - دائماً - بخلق جده الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يحفظون من صحابة الرسول أن الحسن أشبه آله به خلقاً وخلقاً.

والواقع انهم فهموا هذا الخلق العظيم على غير حقيقته.

وتسابق على مثل هذا الظن كثير من ذوي المبادئ التي لا تتفق والحسن في رأي ولا عقيدة، فبايعوه راغبين، كما يبايعه المخلصون من المؤمنين. ثم كان هؤلاء - بعد قليل من الزمن - أسرع الناس الى الهزيمة من ميادينه لا يلوون على شيء، ذلك لانهم حين عركوا مواطن طمعهم من ليونة الحسنعليه‌السلام ، وجدوها بعد تسلّمه الحكم واضطلاعه بالمسؤولية، أعنف من زبر الحديد، حتى ان كلاً من أخيه وابن عمه وهما اقرب الناس اليه وأحظاهم منزلة عنده عجز ان يعدل به عن رأي أراده، ثم مضى معتصماً برأيه في غير تكلّف ولا اكتراث.

ولهذا، فلم يكن عجيباً أن تدب روح المعارضة وئيدةً في الجماعات القلقة من هؤلاء الرؤساء والمترئسين في الكوفة، ولم يكن عجيباً ان يعودوا متدرجين الى سابق سيرتهم مع الامام الراحل الذي « ملأوا قلبه غيظاً وجرّعوه نغب التهمام انفاساً »، وهكذا تنشأت - في هذا الوسط الموبوء - الحزبية الناقمة التي لا تعدم لها نصيراً قوياً في الخارج. وهكذا انبثقت مع هذه الحزبية المشاكل الداخلية بمختلف الوانها.

واستغل هذه المرحلة الدقيقة فئات من النفعيين، تمكنوا ان يخلقوا من

٦٧

أنفسهم همزة وصل بين الكوفة والشام، بما في ذلك من تمرد على الواجب. وخروج على الخلق، وخيانة للعهد الذي فرضته البيعة في أعناقهم.

وقديماً مرن هذا النمط من « أشباه الرجال » على الشغب والقطيعة والنفور، منذ انتقلت الخلافة الاسلامية الى الحاضرة الجديدة في العراق بما تحمله معها من الصراحة في الحكم والصرامة في العدل. وكان قلق هؤلاء وتبرمهم ونفورهم، نتيجة اليأس من دنيا هذه الخلافة، لانها لم تكن خلافة دنيا ولكن خلافة دين. وعلموا أنها لن تقرهم على ما هم عليه من سماحة التصرفات في الشؤون العامة والاستئثار بالدنيا، وأنها ستأخذ عليهم الطريق دون آمالهم واعمالهم ومختلف تصرفاتهم.

ووجد هؤلاء من نشوء الخلافة الجديدة في الكوفة، ومن استمرار معاوية على الخلاف لها في الشام، ظرفاً مناسباً لبعث النشاط واستئناف أعمال الشغب واستغلال الممكن من المنافع العاجلة، ولو من طريق اللعب على الجانبين، فاما أن يحتلوا من الامارة الجديدة أمكنتهم التي ترضي طموحهم، واما أن يعملوا على الهدم ويتعاونوا على الفساد. وكانت خزائن الشام لا تفتأ تلوح بالمغريات من الاموال والمواعيد، وكانت الاموال والمواعيد أمضى أسلحة الشام في مواقفها من الكوفة على طول الخط.

وهكذا فتَّ في أعضاد كوفة الحسن تقلّب الهوى وتوزّع الرأي وتداعي الخلق وتوقح الخصومة في الكثير الكثير من أهلها.

وكان على هذه الشاكلة من عناصر الكوفة ابان بيعة الحسنعليه‌السلام أقسام من الناس.

لنا ان نصنّفهم كما يلي:

١ - الحزب الاموي:

واكبر المنتسبين اليه عمرو بن حريث، وعمارة بن الوليد بن عقبة، وحجر بن عمرو، وعمر بن سعد بن ابي وقاص، وأبو بردة بن أبي موسى الاشعري، واسماعيل واسحق ابنا طلحة بن عبيد اللّه، واضرابهم.

٦٨

وفي هذا الحزب عناصر قوية من ذوي الاتباع والنفوذ، كان لها أثرها فيما نكبت به قضية الحسن من دعاوات ومؤامرات وشقاق.

« فكتبوا الى معاوية بالسمع والطاعة في السرّ، واستحثوه على المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن اليه عند دنوّهم من عسكره، أو الفتك به(١) ».

وفيما يحدثنا المسعودي في تاريخه(٢) : « أن أكثرهم اخذوا يكاتبونه - يعني معاوية - سراً، ويتبرعون له بالمواعيد، ويتخذون عنده الايادي ».

« ودس معاوية الى عمرو بن حريث والاشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيسةً، وآثر كل واحد منهم بعين من عيونه، انك اذا قتلت الحسن، فلك مائة الف درهم، وجند من اجناد الشام، وبنت من بناتي. فبلغ الحسنعليه‌السلام ذلك فاستلأم ( لبس اللامة ) ولبس درعاً وكفرها، وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم الا كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم، فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة(٣) ».

ومثلٌ واحد من هذه النصوص يغني عن أمثال كثيرة.

وهكذا كان يعمل هؤلاء عامدين، شر ما يعمله خائن يتحين الفرص، وكانت محاولاتهم اللئيمة، لا تكاد تختفي تحت غمائم الدجل والنفاق، حتى

__________________

١ - المفيد في الارشاد ( ص ١٧٠ ) - والطبرسي في اعلام الورى.

٢ - هامش ابن الاثير ( ج ٦ ص ٤٢ ). اقول: وما يدرينا أن يكون كثير من أهل الشام كاتبوا الحسن يومئذ، بمثل ما كاتب به الكوفيون معاوية. وقد علمنا ان الفريقين - أهل الشام واهل الكوفة - كانوا سواء في افلاسهم الخلقي الذي ينزع الى الخيانة كلما أغرتهم المظاهر. وعليك ان ترجع الى البيهقي في المحاسن والمساوي ( ج ٢ ص ٢٠٠ ) لتشهد مكاتبة أصحاب معاوية علياًعليه‌السلام ، وترجع الى اليعقوبي ( ج ٣ ص ١٢ ) لتشهد مكاتبة عامة أصحاب عبد الملك بن مروان لمصعب بن الزبير وطلبهم الامان والجوائز منه. فلعل مكاتبة الشاميين للحسن انما خفيت علينا لان الحسن كان آمن من صاحبه على السر فلم يبح بما وصله منهم، أو لان المؤرخين شاءوا اغفالها ككثير من امثالها.

٣ - علل الشرائع ( ص ٨٤ ).

٦٩

تبدو عارية سافرة في ساعة نداء الواجب.

وهكذا كانوا - على طول الخط - قادة السخط، وأعوان الثورة، وأصابع العدو في البلد.

ومالأهم « الخوارج » على حياكة المؤامرات الخطرة، بحكم ازدواج خطة الفئتين، على مناهضة الخلافة الهاشمية في عهديها الكريمين. ودل على ذلك اشتراك كل من الاشعث بن قيس وشبث بن ربعي فيما يرويه النص الاخير من هذه الامثلة الثلاث، وكان هذان من رؤوس الخوارج في الكوفة.

٢ - الخوارج:

وهم أعداء عليعليه‌السلام منذ حادثة التحكيم، كما هم اعداء معاوية.

وأقطاب هؤلاء في الكوفة: عبد اللّه بن وهب الراسبي، وشبث بن ربعي، وعبد اللّه بن الكوّاء، والاشعث بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن.

وكان الخوارج أكثر اهل الكوفة لجاجة على الحرب، منذ يوم البيعة، وهم الذين شرطوا على الحسن عند بيعتهم له حرب الحالّين الضالّين - أهل الشام -، فقبض الحسن يده عن بيعتهم على الشرط، وأرادها ( على السمع والطاعة وعلى أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم )، فأتوا الحسين أخاه، وقالوا له: « ابسط يدك نبايعك على ما بايعنا عليه أباك يوم بايعناه، وعلى حرب الحالين الضالين أهل الشام ». فقال الحسين: « معاذ اللّه أن ابايعكم ما دام الحسن حياً ». فانصرفوا الى الحسن ولم يجدوا بداً من بيعته على شرطه(١) ».

أقول: وما من ظاهرة عداء للحسنعليه‌السلام ، فيما اقترحه هؤلاء

__________________

١ - يراجع كتاب الامامة والسياسة ( ص ١٥٠ ).

٧٠

الخوارج لبيعتهم اياه، ولا في اصرارهم على الحرب، وقد كان في شيعة الحسن من يشاطرهم الالحاح على الحرب، ولكنك سترى فيما تستعرضه من مراحل قضية الحسنعليه‌السلام ، أن الخوارج كانوا أداة الكارثة في أحرج ظروفها. ورأيت فيما مرّ عليك - قريباً - أن زعيمين من زعمائهم ساهما في أفظع مؤامرة أموية في الكوفة.

وللخوارج في دعاوتهم الى « الخروج » أساليبهم المؤثرة المخيفة، التي كانت تزعزع ايمان كثير من الناس بالشكوك. وكان هذا هو سرّ انتشارهم بعد نكبتهم الحاسمة على شواطئ النهروان.

وكان زياد بن ابيه يصف دعوة الخوارج بقوله: « لكلام هؤلاء أسرع الى القلوب من النار الى اليراع(١) ». وكان المغيرة بن شعبة يقول فيهم: « انهم لم يقيموا ببلد يومين الا افسدوا كل من خالطهم »(٢) .

والخارجي يقول الزور ويعتقده الحق، ويفعل المنكر ويظنه المعروف، ويعتمد على اللّه ولا يتصل اليه بسبب مشروع.

وسنعود الى ذكرهم في مناسبة اخرى عند الكلام على « عناصر الجيش ».

٣ - الشكاكون:

ورأينا ذكر هؤلاء فيما عرضه المفيدرحمه‌الله من عناصر جيش الحسنعليه‌السلام . والذي يغلب على الظن، أن تسميتهم بالشكاكين ترجع الى تأثرهم بدعوة الخوارج من دون أن يكونوا منهم، فهم المذبذبون لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء.

ورأيت المرتضى في أماليه ( ج ٣ ص ٩٣ ) يذكر « الشكاك » استطراداً ويلوّح بكفرهم، وكأنه فهم عنهم التشكيك بأصل الدين.

__________________

١ - اليراع: القصب.

٢ - الطبري ( ج ٦ ص ١٠٩ ).

٧١

وكانوا طائفة من سكان الكوفة ومن رعاعها المهزومين، الذين لا نية لهم في خير ولا قدرة لهم على شر، ولكن وجودهم لنفسه كان شراً مستطيراً وعوناً على الفساد وآلة « مسخرة » في أيدي المفسدين.

٤ - الحمراء:

وهم عشرون الفاً من مسلحة الكوفة ( كما يحصيهم الطبري في تاريخه ). كانوا عند تقسيم الكوفة في السبع الذي وضع فيه أحلافهم من بني عبد القيس، وليسوا منهم، بل ليسوا عرباً، وانما هم المهجّنون من موالٍ وعبيد، ولعل اكثرهم من أبناء السبايا الفارسيات اللائي اخذن في « عين التمر » و « جلولاء » من سنة ١٢ - ١٧ فهم حملة السلاح سنة ٤١ وسنة ٦١ في ازمات الحسن والحسينعليهما‌السلام في الكوفة ( فتأمل ).

والحمراء شرطة زياد الذين فعلوا الافاعيل بالشيعة سنة ٥١ وحواليها، وكانوا من اولئك الذين يحسنون الخدمة حين يغريهم السوم، فهم على الاكثر أجناد المتغلبين وسيوف الجبابرة المنتصرين.

وقويت شوكتهم بما استجابوا له من وقايع وفتن في مختلف الميادين التي مرّ عليها تاريخ الكوفة مع القرن الاول. وبلغ من استفحال امرهم في الكوفة أن نسبوها اليهم فقالوا « كوفة الحمراء ».

وكان في البصرة مثل ما في الكوفة من هؤلاء المهجَّنين الحمر. وخشي زياد ( وكان والي البصرة اذ ذاك ) قوّتهم فحاول استئصالهم، ولكن الاحنف بن قيس منعه عما أراد.

ووهم بعض كتّاب العصر، اذ نسب هؤلاء الى التشيع، أبعد ما يكونون عنه آثاراً ونكالاً بالشيعيين وأئمتهم. ولا ننكر ان يكون فيهم أفراد رأوا التشيّع، ولكن القليل لا يقاس عليه.

٧٢

وكان الى جنب هذه العناصر العدوّة في الكوفة « شيعة الحسن » وهم الاكثر عدداً في عاصمة عليعليه‌السلام ، وفي هؤلاء جمهرة من بقايا المهاجرين والانصار، لحقوا علياً الى الكوفة، وكان لهم من صحبتهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يفرض لهم المكانة الرفيعة في الناس.

وبرهن رجالات الشيعة في الكوفة على اخلاصهم لاهل البيتعليهم‌السلام ، منذ نودي بالحسن للخلافة، ومنذ نادى - بعد خلافته - بالجهاد، وفي سائر ما استقبله من مراحل. ولو قدّر لهؤلاء الشيعة أن يكونوا - يومئذ - بمنجاة من دسائس المواطنين الآخرين، لكانوا العدّة الكافية لدرء الاخطار التي تعرّضت لها الكوفة من الشام، وكان في هذه المجموعة المباركة من الحيوية والقابلية ما لا يستطيع أحد نكرانه، ونعني بالحيوية القابليات التي تهضم المشاكل وتفهمها، وتعطيها الاهمية المطلوبة في حلولها.

وما ظنك بقيس بن سعد بن عبادة الانصاري وحُجر بن عديّ الكندي، وعمرو بن الحمِقِ الخزاعي، وسعيد بن قيس الهمداني، وحبيب بن مظاهر الاسدي، وعديّ بن حاتم الطائي، والمسيّب بن نجية، وزياد بن صعصعة، وآخرين من هذا الطراز.

اما الطوارئ المستعجلة المعاكسة، والاصابع المأجورة الهدامة، فقد كانت تعمل دائماً، لتغلب هذه القابليات، ولتغيرّ من هذا التقدير.

ولم يخف على الحسنعليه‌السلام ما كانت تتمخض عن لياليه الحبالى في الجوّ المسحور بشتى النزعات، والمتكهرب بشواجر الفتن والوان الدعاوات. وكان لا بدّ له - وهو في مطلع خلافته - أن يعالن الناس بخطته وأن يصارحهم عن موقفه، وأن يستملي خطته من صميم ظروفه وملابساتها في الداخل والخارج معاً.

وكان معاوية هو العدو « الخارج » الذي يشغل بال الكوفة يما يكيده

٧٣

لها من انواع الكيد، وبما يتمتع به من وسائل القوة والاستقرار في رقعته من بلاد الشام. وما كان معاوية بالعدو الرخيص الذي يجوز للحسنعليه‌السلام ، أن يتغاضى عن أمره، ولا بالذي يأمن غوائله لو تغاضى عنه، وكان الحسن - في حقيقة الواقع - أحرص بشر على سحق معاوية والكيل له بما يستحق، لو أنه وجد الى ذلك سبيلاً من ظروفه.

واما في « الداخل » فقد كان أشد ما يسترعي اهتمام الامامعليه‌السلام موقف المعارضة المركزة، القريبة منه مكاناً، والبعيدة عنه روحاً ومعنى وأهدافاً.

ولقد عز عليه أن يكون بين ظهراني عاصمته، ناس من هؤلاء الناس، الذين استأسدت فيهم الغرائز، وأسرفت عليهم المطامع، وتفرقت بهم المذاهب، وأصبحوا لا يعرفون للوفاء معنى، ولا للدين ذمة، ولا للجوار حقاً. نشزوا بأخلاقهم، فاذا بهم آلة مسخرة للانتقاض والغدر والفساد، ينعقون مع كل ناعق ويهيمون في كل واد. ولا يكاد يلتئم معهم ميدان سياسة ولا ميدان حرب. وحسبك من هذا مثار قلق ومظنة شغب وباعث مخاوف مختلفات.

وهكذا كان للعراق - منذ القديم - قابلية غير عادية لهضم المبادئ المختلفة والانتفاضات الثورية العاتية باختلاف المناسبات.

وللحسن في موقفه الممتحن من هذه الظروف، عبقرياته التي كانت على الدوام بشائر ظفرٍ لامع، لولا ما فوجئ به من نكسات مروعات كانت تنزل على موقفه كما ينزل القضاء من السماء.

وتنبأ لكثير من الحوادث قبل وقوعها، وكان يمنعه الاحتياط للوضع، من الاصحار بنبوءته، فيلمح اليها الماحاً. وعلى هذا النسق جاءت كلمته اللبقة الغامضة، التي اقتبسها من الآي الكريم، والتي قصد لها الغموض عن ارادة وعمد، وهي قوله في خطبته الاولى - يوم البيعة -: « اني أرى ما لا ترون ».

٧٤

ترى، هل كان بين يديه يومئذ، الا المهرجانات النشيطة التي دلت قبل كل شيء، على عظيم اخلاص المجتمع لخليفته الجديد؟ فما بال الخليفة الجديد لا يرى منهم الا دون ما يرون؟.

انها النظرة البعيدة التي كانت من خصائص الحسن في سلمه وفي حربه وفي صلحه وفي سائر خطواته مع اعدائه ومع اصدقائه.

وعلى أن الموسوعات التاريخية لم تُعنَ بذكر الامثلة الكثيرة التي يصح اقتباسها كعرض تاريخيّ عن سياسة الحسن، ولا سيما في الدور الاول من عهده القصير، وهو الدور الذي سبق اعلانه الجهاد في الكوفة، فقد كان لنا من النتف الشوارد التي تسقّطناها من سيرته، ما زادنا وثوقاً ببراعته السياسية التي لا مجال للريب فيها. فقد اقتاد الوضع المترنح الذي صحب عهده من اوله الى آخره، قيادته الحكيمة التي لا يمكن أن تفضلها قيادة اخرى لمثل هذا الوضع.

وليكن من أمثلة سياسته في قيادة ظروفه قبل الحرب ما يلي:

١ - أنه وضع لبيعته صيغةً خاصة، وقبض يده عما أريد معها من قيود، وأرادها هو على السمع والطاعة والحرب لمن حارب والسلم لمن سالم. فكان عند ظن المعجبين ببلاغته الادارية، بما ذكر الحرب ولوح بالسلم فأرضى الفريقين من أحزاب الكوفة - دعاة الحرب، والمعارضين -. وكان لديه من الوضع العام ( في كوفته ) ما يكفيه نذيراً لاتخاذ مثل هذه الحيطة الحكيمة لوقتٍ ما.

٢ - أنه زاد المقاتلة مائةً مائةً، وكان ذلك أول شيء أحدثه حين الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده عليه(١) .

__________________

١ - شرح النهج لابن ابي الحديد ( ج ٤: ص ١٢ ).

٧٥

وللانعاش في ترفيع مخصصات الجيش سلطانه المحبَّب على النفوس، وله أثره في تأليف العدد الاكبر من الناس للخدمة في الجهاد.

وكانت ظاهرةً تحتمل الاستعداد للحرب، ولكنها - مع ذلك - غير صريحة بالتصميم عليه، ما دامت ظاهرة انعاش في عهدٍ جديد. وهي على هذا الاسلوب، من التصرفات التي تجمع الكلمة ولا تثير خلافاً، في حين أنها استعداد حكيم للمستقبل الذي قد يضطرّه الى حرب قريبة.

٣ - أنه امر بقتل رجلين كانا يتجسّسان لعدوّه عليه. وهدّد بتنفيذ هذا الحكم روح الشغب التي كان يستجيب لها عناصر كثيرة في المِصرين ( الكوفة والبصرة ).

قال المفيدرحمه‌الله : « فلما بلغ معاوية وفاه أمير المؤمنين وبيعة الناس ابنه الحسن، دسّ رجلاً من حمير الى الكوفة، ورجلاً من بني القين الى البصرة، ليكتبا اليه بالاخبار، ويفسدا على الحسن الامور. فعرف بذلك الحسن، فأمر باستخراج الحميري من عند لحام بالكوفة، فأخرج، وأمر بضرب عنقه. وكتب الى البصرة باستخراج القيني من بني سليم، فأخرج وضربت عنقه(١) ».

وروى أبو الفرج الاصفهاني نحواً مما ذكره المفيد، ثم قال: « وكتب الحسن الى معاوية: أما بعد فانت دسست اليَّ الرجال، كأنك تحب اللقاء، لا أشك في ذلك، فتوقعه ان شاء اللّه، وبلغني انك شمتَّ بما لم يشمت به ذوو الحجى ( يشير الى ما تظاهر به معاوية من الفرح بوفاة أمير المؤمنينعليه‌السلام )، وانما مثَلك في ذلك كما قال الاول:

فانّا ومن قد مات منا لكالذي

يروح ويمسي في المبيت ليغتدي

فقل للذي يبغي الخلاف الذيمضى

تجهَّز لاخرى مثلها فكأن قَدِ

٤ - تمهّله عن الحرب رغم الحاح الاكثرين ممن حوله على البدار اليها،

____________

١ - الارشاد ( ص ١٦٨ ) والبحار وكشف الغمة.

٧٦

منذ تسنّمه الحكم في الكوفة.

وسنأتي في « الفصل ٥ » الذي ستقرؤه قريباً، على تحليل الموقف السياسي يوم ذاك، وسنرى هناك، أن هذا التمهّل المقصود كان هو التدبير الوحيد في ظرفه.

٥ - استدراجه معاوية من طريق التبادل بالرسائل، الى نسيان موقفه المتأرجح الذي لم تقو على دعمه الدعاوى الفارغة الكثيرة، فاذا باضمامة من الغلطات هي أجوبة معاوية للحسن وهي التي كشفت للناس معاوية المجهول، ومهدت للحسن معذرته تجاه الرأي العام في حربه لمعاوية، واذا بمعاوية الفريق المغلوب في منطق العقلاء، وان يكن الغالب بعد ذلك في منطق القوة.

ومثلٌ واحدٌ من هذه التدابير اللبقة التي أملى فيها الحسن خطته السياسية في العهد القصير، بين وفاة أبيهعليه‌السلام وبين تصميمه على الحرب، كاف عن كثير.

٧٧

٧٨

التصميم على الحرب

٧٩

ودل التتبع في مختلف الفترات التاريخية، على أن لانتصار الدين في المجتمع شأناً كبيراً في تدرج الاخلاق. ذلك لان الشعوب تنطبع على غرار قادتها، وتكيّف بأهداف قوانينها. ولو لم يكن للدين الا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنزيه النفس عن الطمع بالمادة، لكفى.

أما هذا النفر من بقايا الجاهلية، فقد كانوا - كغيرهم من دعاة الطبقية - مطبوعين على المحافظة والتمسك بعادات الآباء والجدود والنظم البالية والاوضاع الظالمة. وكانوا من الدين الجديد خصومه الالداء في ابان دعوته، ثم نظروا اليه كوسيلة الى الدنيا، ابان اعتناقهم له.

وضاعت تحت ظل هذه النوازع أهداف الدين، وخسر المجتمع تدرّجه الى الصلاح المنشود، فاذا بالناس عند مطامع الدنيا « والدين لعق على السنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فاذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون ».

ولآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسالتهم التي لا يتراجعون عنها، لانقاذ الناس لا لنفع أنفسهم، ولاقامة حامية الدين لا اقامة عروشهم، وصيانة المعنويات لا صيانة ذاتياتهم.

فاذا كان معاوية لا يزال يعاند هذه الاهداف ويحارب المنادين بها، ثم يظل منفرداً عن المسلمين ببغيه وعدوانه، مأخوذاً بشهوة الحكم مأسوراً بحب الاستئثار في مشاعره ومذاهبه، فَليَسرِ الحسنُ اليه بالمسلمين، وليحاكمه الى اللّه، وكفى باللّه حكماً.

قال أبو الفرج الاصفهاني: « وكان أول شيء أحدثه الحسنعليه‌السلام أنه زاد المقاتلة مائة مائة. وقد كان عليعليه‌السلام فعل ذلك يوم

٨٠

الجمل. وفعله الحسن حال الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك » قال: « وكتب الحسنعليه‌السلام الى معاوية مع حرب بن عبد اللّه الازدي: من الحسن بن علي امير المؤمنين الى معاوية بن أبي سفيان. سلام عليك فاني أحمد اليك اللّه الذي لا اله الا هو. أما بعد، فان اللّه جل جلاله بعث محمداً رحمة للعالمين ومنّةً للمؤمنين، وكافة للناس أجمعين، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فبلغ رسالات اللّه، وقام بأمر اللّه، حتى توفاه اللّه غير مقصّر ولا وان، وبعد أن اظهر اللّه به الحق، ومحق به الشرك.

وخصّ به قريشاً خاصة، فقال له: وانه لذكر لك ولقومك. فلما توفي، تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته واسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب أن القول ما قالت قريش، وأن الحجة في ذلك لهم، على من نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم وسلمّت اليهم.

ثم حاججنا نحن قريشاً، بمثل ما حاججت به العرب، فلم تتصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا - أهل بيت محمد وأولياءهُ - الى محاجتهم وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد اللّه، وهو الولي النصير.

ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان بيتنا. واذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام، أمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والاحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من افساده.

فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا اثر في الاسلام محمود. وانت ابن حزب من الاحزاب وابن أعدى قريش لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكتابه.

٨١

والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار. وبالله لتلقينَّ عن قليل ربك، ثم ليجزينَّك بما قدمت يداك. وما اللّه بظلام للعبيد.

« ان علياً لما مضى لسبيله رحمة اللّه عليه يوم قبض ويوم منَّ اللّه عليه بالاسلام ويوم يبعث حياً، ولانى المسلمون الامر من بعده. فأسأل اللّه ان لا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة. وانما حملني على الكتابة اليك، الاعذار فيما بيني وبين اللّه عز وجل في امرك، ولك في ذلك ان فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين.

« فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فانك تعلم أني أحق بهذا الامر منك عند اللّه وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتق اللّه، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به. وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفئ اللّه النائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين.

« وان أنت أبيت الا التمادي في غيّك سرتُ اليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين(١) ».

ولقد ترى ما ينكشف عنه كتاب الحسنعليه‌السلام في خواتيمه، من التهديد الصريح بالحرب. وكان لا مناص للحسن من اتباع هذه الطريقة فيما يفضي به الى معاوية، حين يطلب اليه « أن يدع التمادي في الباطل، وأن يدخل فيما دخل فيه الناس من بيعته » وهي الطريقة السياسية الحكيمة التي يقصد بها اضعاف الخصم عن المقاومة باضعاف عزمه. ثم هو لا يقول له ذلك الا بعد أن يقيم عليه الحجة بما سبق من حجاجهم لقريش.

فدعاه مرشداً، وتوعّده مهدداً، ثم أنذره الحرب صريحاً.

__________________

١ - ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١٢ ).

٨٢

واتبع خطة ابيه معه. وما كان الحسن في ما أحيط به من ظروف، وفي ما مُني به من أعداء، الا ممثّل أبيه حقاً، حتى لكأن قطعة من الزمن كانت من عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، تأخرت عن حياته فاذا هي عهد ابنه الحسن في الكوفة. وكما كانت الحرب ضرورة لا مفرَّ منها، في عهد الاب الراحلعليه‌السلام ، كانت كذلك ضرورة لا يغني عنها شيء في عهد الابن القائم على الامر.

وكان مما يزين الخلافة الجديدة، أن تزهو في فتوّتها بما تملكه من قوة وسلطان، ولن يتم ذلك الا بأن تضرب على أيدي العابثين، لتبعث الهيبة في النفوس، وتشق طريقها الى الاستقرار لتقبض على نواصي الامور. فلا عجب اذا جاء كتاب الحسن هذا صريحاً في تهديده، شديداً في وعظه، قوياً في لغته الآمرة الناهية « واتق اللّه ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فواللّه ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في السلم والطاعة ولا تنازع الامر أهله ومن هو أحق به منك ».

أما الشعار الاموي في الشام، فقد ظل مغاضباً للخلافة الهاشمية في الكوفة، متنمراً على بيعة الحسن تنّمره على بيعة أبيه من قبل. ولم تجد معه الرسائل المناصحة المصارحة، ولا كبحت من جموحه أساليبها الحكيمةَ وحججها الواضحة.

ونحن اذا تصفحنا ما وصل الينا من رسائل الحسنعليه‌السلام الى معاوية، لم نجد فيها كلمة تستغرب من مثله، أو تتجاوز حد الحجة التي تنهض بحقه فيما فرضه اللّه من مودة أهل البيتعليهم‌السلام ، وفيما سجله « الكتاب » من الحكم بطهارتهم من الرجس، أو لوّح اليه من ولايتهم على الناس، وبما صح عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نصوص الامامة وتعيين الامام، وبالدعوة - اخيراً - الى الطاعة وحقن الدماء واطفاء النائرة واصلاح ذات البين.

٨٣

اما رسائل معاوية الى الحسن، فقد رأيناها تأخذ - على الغالب - بأعراض الموضوع دون جوهرياته، وتفزع في الكثير من مضامينها الى نبش الدفائن وتأريث النعرات الخطرة بين الاخوان المسلمين.

ومن الحق ان نعترف لمعاوية بسبقه استفزاز « الشعور الطائفي » لاول مرة في تاريخ الاسلام. بما كان يقصد اليه من طريق نبش هذه الدفائن، وتأريث هذه النعرات. فكان بذلك أول داعٍ الى فصم الوحدة التي بنِي عليها دين التوحيد، والتي هي - بحق - جوهر اصلاحه وسرّ نجاحه بين الاديان.

وكأنّ معاوية حين عجز عن اصطياد المغفلين من الناس، عن طريق نفسه أو عن طريق أبيه « أبي سفيان بن حرب » - ولهذين الطريقين سوابقهما المعروفة لدى المسلمين بأرقامها وتواريخها - رفع عقيرته في رسائله الى الحسن، باسم أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ولوّح فيها بخلاف أهل البيتعليهم‌السلام على بيعة أبى بكر

وكانت [ رسائل معاوية ] بجملتها لا ينقصها في الموضوع الذي ابردت لاجله الا الحجة لاثبات الحق الشرعي - عبر العرش المقدس -. وحتى الشبهة المتخاذلة التي كان يصطنعها لمقارعة عليعليه‌السلام ، في حروبه الطويلة الامد، باسم الثأر لعثمان، قد طويت صفحتها بموت الامام الاول، وها هو ذا تجاه الامام الثاني، الذي كان قد جثم بنفسه على باب دار عثمان يوم مقتله، يدافع الناس عنه، حتى لقد « خضب بالدماء » كما يحدثنا به عامة المؤرخين، ويقول الطقطقي في تاريخه(١) : « ان الحسن قاتل عن عثمان قتالاً شديداً، حتى كان يستكتفه وهو يقاتل عنه، ويبذل نفسه دونه ».

كل ذلك وعثمان بالموقف الدقيق الذي كان لا يفتأ يؤلب عليه فيه الآخرون، ويخذله الاقربون(٢) .

__________________

١ - الفخري ( ص ٧٤ ).

٢ - لعل من الخير لمن أراد شرح هذا الاجمال، أن يرجع الى ما صوره الاستاذ عبد اللّه العلايلي حفظه اللّه، من احوال المجتمع على عهد عثمان، في

٨٤

__________________

كتابه « أيام الحسن » ( من صفحة ١١٢ الى ١٢٨ ) ولعل من الافضل أن نختزل هنا الخطوط الرئيسة من تلك الصورة المفصلة، اتماماً للفائدة قال:

« وهؤلاء الامويون لم يكتفوا بأن يفرضوا انفسهم ووجودهم الخالي من الحياة والجهد، بل تجاوزوا هذا، الى تعبئة المجتمع في طبقات واذا بالثروات الفاحشة تصير وتجتمع في أيدي الامويين وانصارهم، واذا بمروان يستبد بالمقدرات العليا على هواه، واذا بأكثر الاقاليم تذهب اقطاعات بين فلان وفلان فيعلى بن امية يملك ما قيمته مائة الف دينار، عدا عقاراته الكثيرة. وعبد الرحمن بن عوف يملك ما قيمته خمسمائة الف دينار. وزيد بن ثابت يملك من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس فلا بدع ان استنكرت الكثرة خطة هذا الجديد، ولا بدع ان تحدوا انصاره واتهموهم بالمروق، ولا بدع ان دخلوا معهم في صراع بدأ خفياً ثم امتد حمياً.

« ولقد باتت الحالة العامة تجيء في كلمتين: حكومة تتآمر بالشعب وشعب يتآمر بالحكومة. ولكن للشعب الكلمة الاخيرة والعليا دائماً ومن الانصاف والخير ان نذكر ان الجمهور مع ذلك لم يكن أرعن في ثورته، فقد اتصل بأولياء الامور والسلطة، وطالب بواسطة ممثليه مراراً وتكراراً ولكن مطاليبه في كل مرة كانت تبوء بالفشل وكان فشلاً ذريعاً متواصلاً، ومن النوع المثير.

« وكان عمرو بن العاص في هذه الاثناء يحرض الناس على عثمان ويجبه سياسته علانية ويتجسس عليه ويفضح الاحاديث التي تجري داخل داره، ولا يلقى احداً الا أدخل في روعه كراهيته ويقابله حينما خطب عثمان على ملأ من الصاخبين المتمردين بقوله: « يا امير المؤمنين انك قد ركبت نهابير وركبناها معك فتب نتب ». وهذه عائشة تجترئ وهو يخطب فتقول وقد نشرت قميص النبي: « هذا قميص النبي لم يبل وقد ابليت سنته ». وهذا طلحة والزبير يعينان الثائرين بالمال ولكن علياً مع كل ما هو عاتب وواجد بادر الى تقديم ولديه لاعتباراتهما التقديرية ومواليه لكي ينهنهوا عوادي الاحداث

« وحين بلغه أن الناس حصروا داره ومنعوه الماء بعث اليه بثلاث قرب وقال للحسن والحسين اذهبا بسيفكما حتى تقوما على بابه ولا تدعا احداً يصل اليه بمكروه. وكان أن خضب الحسن بالدماء وشج قنبر مولاه.

« هذا ما عرف التاريخ عن علي وبنيه ازاء المصرع، بينما عرف من ناحية ثانية، أن عثمان وهو محاصر كتب الى معاوية وهو بالشام: « أن اهل المدينة قد كفروا واخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة، فابعث الي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول ». فاذا بمعاوية حينما جاءه

٨٥

نعم كانت حجة معاوية الوحيدة في رسائله الى الحسن، ادعاؤه « اني اطول منك ولاية واقدم منك بهذا الامر تجربة واكبر منك سنّاً!(١) » ولا شيء غير ذلك.

ولو كان لدى معاوية من وراء هذه الجمل المتعاطفة، حجة حرية بالقول أو عسية بالقبول، لافضى بها، ولترك النزوع الى نبش الدفائن وتأريث النعرات.

وليت شعري، أيَّ تجاربك تعني أبا يزيد؟!

أيوم ضجّت الشام منك الى عمر حتى قام لشكاويها وقعد، واستقدمك - مع البريد - وكنت أخوف منه من غلامه « يرفأ ».؟ أم يوم ضربك بالدرة على رأسك حين دخلت عليه معجباً بملابسك الخضر؟

أم يوم كنت تقتطع الامور من دون عثمان، ثم تقول: « هذا أمر عثمان » كذباً حتى لقد كنت أحد أسباب نكبته؟

أم يوم سعيت برجلك وجيشك تحارب امام زمانك بالسلاح باغياً - غير متحرج ولا متأثم -؟

وهل في هذا القديم « من تجاربك » ما يشعر بالحجة على استحقاقك الولاية أو الاستمرار على مثلها؟. فأين اذاً استحقاق الخلافة يا ترى؟

وهل في ولاية تتقادم على مثل هذا النسق المجلوب عليه، والقائم على الكذب والبهتان واراقة الدماء، ما يدل على أهلية المقام الديني الرفيع؟.

__________________

كتابه يتربص به، فقد كره - على حد دعواه - مخالفة أصحاب الرسول، وقد علم اجتماعهم على ذلك. ومن تهكمات القدر أن يحرض عمرو بن العاص على قتل عثمان ونجبهه عائشة علانية ويتخلى معاوية عن نجدته ويعين عليه طلحة والزبير كلاهما، ثم ينفر هؤلاء أنفسهم هنا وهناك يطالبون بدمه علي بن ابي طالب الذي أخلص له النصيحة وحذره من هذا المصير وكان مجنه دون رواكض الخطوب ».

١ - شرح النهج ( ٤ - ١٣ ).

٨٦

جمل تتعاطف كما تتعاطف الحجج النواصع، ثم هي لا ترجع في خلاصتها الا الى معنى واحد، هو التماس الحجة ( بطول المدة! ).

ولا نعرف في منطق الحق مقياساً يثبت الخلافة بطول المدة أو بكبر السن!!

وقد يكون الرجل أبصر الرجال في شراء ضمائر الناس، أو في تأريث الفتن في الناس، ولكن ذلك لا يعني استحقاق هذا الرجل لنيابة النبوة في الاسلام.

وقد يكون الرجل أقوم الرجال في ضبط أعصابه وفي كبت عواطفه، حتى ليعده الناس من كبار الحلماء، ولكن ذلك ليس دليل الامامة الدينية في الناس، لان الحلم العظيم كما يكون في الامام، يكون في المتزعمين المنافقين.

وقد يكون الرجل في حنكته أقدر الناس على تربيب العقائد وتوجيه الرأي العام الى الاخذ برأيه الخاص - سواء كان رأيه من رأي اللّه أو من رأي العاطفة - ولكن ذلك لا يعدو بهذا الرجل ان يكون المبتدع في الدين، لا الخليفة على المسلمين. لان الخليفة لا رأي له الا رأي القرآن، ولا سند له الا من الحديث، ولا مرجع له الا الى اللّه عزّ وجل.

اذاً، فليس الرجل الصالح لملكوت الخلافة الاسلامية، والنيابة عن النبوة في الدين، الا مخلوق من نوادر الخلق، يختاره اللّه من عباده ويصطفيه من جميع خلقه، لمزايا ينفرد بها عن العباد، وفضائل يتميز بها عن الخلق. واللّه سبحانه الذي برأ العباد أعرف بذلك العبد الصالح الذي انفرد بهذه المزايا، وانماز بهاتيك الفضائل. وهو الذي يوحي باسمه الى نبيه فيختاره من دون غيره. وليس لاحد - بعد ذلك - أن يختار.

اما معاوية فلم يكن له من سوابقه وسوابق أبيه، ولا من كيفية اسلامه واسلام أبيه، ولا من مواقفه مع عمر وعثمان ومع عليعليه‌السلام ما يزعه عن التطاول الى ادعاء أعظم المراتب في الاسلام، حتى جاء يقول

٨٧

للحسن ابن رسول اللّه (ص) وقد بايعه المسلمون في آفاق الارض بما فيهم صحابة الرسول وأهل بيته وخاصته وجميع المعنييّن باسلاميتهم: « اني اكبر منك سناً واقدم منك وأطول منك ..!! ».

وهل تجد في دنيا الحجاج، أبلغ من هذا المنطق في اعلان العجز عن الحجة؟.

وكاتبة ثانيةً، ولكنه حاول في هذه المرة، التهديد بالاغتيال والاغراء بالاقوال، وكأنه عرف الحسن على غير حقيقته، فاَسفّ الى مثل هذا الاسلوب المبتذل الذي لا يخاطب به مثله، قال:

« اما بعد، فان اللّه يفعل في عباده ما يشاء. لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، فاحذر ان تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس، وايأس من أن تجد فينا غميزة!! ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها والسلام(١) ».

وكان جوابه الاخير الذي جبه رسولي الحسن اليه، وهما جندب بن عبد اللّه الازدي والحرث بن سويد التيمي أنه قال لهما: « ارجعا فليس بيني وبينكم الا السيف!(٢) ».

وهكذا ابتدأ معاوية العدوان، وخرج عامداً على طاعة الخليفة المفروضة طاعته عليه، الخليفة الذي لم يخالف على بيعته أحد من المسلمين غيره وغير جماعته من جند الشام الذين صقل قرائحهم على الخلاف، ورباهم على رأيه، وحبسهم عن الاختلاط بغيرهم، فكانوا حقاً، كما وصفهم صعصعة بن صوحان العبدي حين سأله معاوية عنهم فقال: « أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق، عصاة الجبار وحلفة الاشرار(٣) ».

__________________

١ و ٢ - شرح النهج ( ج ٤ ص ١٣ و١٠ ).

٣ - المسعودي هامش ابن الاثير ( ج ٦ ص ١١٩ ).

٨٨

ودارت الكوفة دورتها، وهي تستمع الى تهديد معاوية وتتلقف الاخبار عن زحفه الى العراق. وارتجزت للحرب على لسان شيعتها البهاليل.

وهكذا جدَّ الجدّ ولا مندوحة لولي الامر على الاستجابة للظرف المفاجئ والنزول على حكم الامر الواقع.

وكان حرب البغاة واجبه الذي يستمده من عقيدته ويستمليه من أعماق مبدئه، ولا استقرار للخلافة دون القضاء على هذا الانقسام الذي يفرضه معاوية على صفوف المسلمين، بثوراته المسلحة في وجه الخلافة الاسلامية قرابة ثلاث سنوات متتاليات، أحوج ما يكون المسلمون فيها الى الاستقرار والاستعداد.

وكانت حروب الشام منذ تجنّد لها معاوية، أشأم الحروب على الاسلام، واكثرها دماً مهراقاً، وحقاً مضاعاً، واجتراء على الحقايق، وانتصاراً للنزق الطائش، والاهواء الدنيوية الرخيصة.

وان الاسلام بمبادئه الانسانية السامية لم يشرع الحرب الا في سبيل اللّه وابتغاءاً الخير الناس وذياداً عن حياضه، اما نهب الثغور واخافة الآمنين، ومحاربة الشعوب المؤمنة باللّه وبرسوله ( لانه يريد أن يتأمّر عليهم ) فذلك ما لا تعرفه المبادئ الاسلامية، ولا تعترف بمثله الا الجاهلية الهوجاء. وذلك هو مصدر الصدمات التي مزّقت الكلمة وفرّقت الدين، وفرضت العداوات بين فئات المسلمين.

واستجاب لمعاوية في هذه الحروب « سفهاء طغام » على حد تعبير شبث بن ربعي التميمي حين واجهه في أحدث سنة ٣٦، فاستغل تفسخ أخلاقهم، وأتّجر بفساد أذواقهم، وقذف بهم في لهوات الموت، وكلهم راضٍ مطيع.

وكانت الشنشنة الموروثة في هاشم، أنهم لا يبدأون أحداً قط بقتال. وتجد فيما عهد به الحسن الى قائده « عبيد اللّه بن عباس » تأييداً صريحاً

٨٩

لهذا الخلق الهاشمي الافضل. وكان للحسن على الخصوص، مواريث شخصية كثيرة من وصايا ودساتير، آثره بها سيد العرب أبوه امير المؤمنينعليه‌السلام . وكان ابوه كما يحدثنا التاريخ شديد العناية بابنه الحسن « وكان يكرمه اكراماً زائداً ويعظمه ويبجله(١) ». وكانت هذه الوصايا، المثل التي لا يقربها الباطل ولا تزيغ عن الصواب على اختلاف موضوعاتها في الدين والدنيا وفي التربية والاخلاق. وكان فيما أوصى به علي الحسن قوله: « لا تدعونَّ الى مبارزة، فان دُعيت اليها فأجب، فان الداعي اليها باغ. والباغي مصروع ».

لذلك كنّا نرى الحسن في ابان بيعته، وفي قوة اندفاع أصحابه للهتاف بالحرب، لا يجيب اليها صريحاً، ولا يعمل لها جادّاً، لانه كان ينظر الى الحرب نظرته الى ضرورة بغيضة، يلجأ اليها حين لا حيلة له في اجتنابها، وكان ينتظر تنظيم حرب يضمن لها القوة، أو قوة تضمن له الحرب، وقد حالت الظروف المتأزمة - يومئذ - والذاهبة صعداً في ازماتها بينه وبين ما يريد.

وقد أتينا في الفصل السابق على استكشاف الاوكار التي كان ينتمي اليها المتحزّبون المتحمسون في الكوفة، من أموية، ومحكّمة، وشكاكين، وحمراء. وأشرنا هناك الى ما كانت تعج به هذه المجتمعات من روح الهدم والتخريب، والوقوف في وجه السياسة القائمة بشتى الاساليب.

وكان كل ذلك - وبعضه كاف - سبب التمهل في الحرب، الامر الذي عورض به الحسنعليه‌السلام من قبل فئات من أصحابه المناصحين له. وكان للنشاط المؤقت المحدود، الذي غمر الكوفة في أيام البيعة، أثره في اغراء هذه الفئات من الاصحاب، ليظنوا كل شيء ميسراً لخليفتهم الجديد. ولكنها كانت النظرة القصيرة التي لا تمتد الى ما وراء الستار. ولا تزن في حسابها ما تهدفه هاتيك « الاوكار ».

__________________

١ - ابن كثير ( ج ٨ ص ٣٦ - ٣٧ ).

٩٠

اما الحسن فقد كان ينظر بالبصيرة الواعية الى أبعد مما ينظرون، ويعرف بالعقل اليقظان من مشاكلهم اكثر مما يعرفون، ويغار - بدينه - على الصالح العام أعنف مما يحسبون.

انه يدرك جيداً دقة الموقف، بما يسيطر عليه من ميوعة الاخلاق، في قسم عظيم ممن معه في جيشه، وممن حوله في كوفته وكان ينتظر لهذا التفسخ الاخلاقي الذي باع الدنيا بالدين، أثره السيئ في ظروف الحرب، لو أنه استبق الى الحرب قبل أن يضطره الموقف اليها.

ورأى أن في تحمّل قليل من مفاسد هؤلاء كثيراً من الصلاح لسياسته الحاضرة مع ظرفه الخاص.

ورأى ان يعالج الموقف من وجهه الثاني، فترفق بالناس، ولم يتنكّر لاحد من رعيّته ولم يبد له أمراً، وأخذ بسياسة التهدئة واسدال الستار، لئلا يتسع الفتق وتعم الفتنة، وارجأ التصفية الى وقتها المناسب لها، ليضع الندى في موضعه والسيف على أهله.

وهنا يسبق الى الذهن استفهام لا يجوز للباحث أن يتجاوزه من دون أن يقف على سرّه. انه كان الاولى برئيس الدولة اذ جوبه من ظروفه بمثل هذا الجوّ المتلبد بالغيوم، أن يعمد الى الحزم في استئصال الشغب، فيستعمل الشدة ويكشف المؤامرات وينكّل بالخونة ويكيل لهم الجزاء الذي يستحقون. فما الذي حدا بالحسنعليه‌السلام ، الى العزوف عن طريقة الشدة الى الرفق أحوج ما يكون موقفه الى الاول منهما تعجيلاً للاستقرار واستعداداً لمستقبله المهدّد بالحروب؟.

وللجواب على هذا الاستفهام، وجوهه الثلاث التي ستقرؤها في خاتمة الفصل الثامن. ونقول هنا: ان الحسن لو أراد الاخذ بسياسة الشدة - وكانت من أوضح الاساليب التي تتخذ لمثل هذه الظروف - لتعجّل الفتنة عن عمد، ولفتح ميدانه للثورات الداخلية التي لن تكون أقلَّ خطراً على

٩١

مقدراته من حروب الشام. وكان معاوية العدوّ الذي لا يفتأ يمدّ فكرة الثورة في الكوفة بكل ما اوتي من ثراء أو دهاء.

لذلك كان ما اختاره الحسن هو الاحسن لموقفه الدقيق.

ونقول في الجواب على مقترح بعض نصحائه من أصحابه في تعجيل الحرب حين طلب اليه « بأن يبدأ معاوية بالمسير حتى يقاتله في أرضه وبلاده وعمله(١) »: انه لو فعل ذلك لفتح للمعارضين من زعماء الاحزاب في الكوفة وللمتفيهقين من القراء و ( أهل الهيأة والقناعة ) فيها، منفداً للخلاف عليه لا يعدم الحجة، اذا اريد الاحتجاج به من ناحية « الابتداء بالعدوان » وهي الحجة التي لا يجد كثير من الناس أو من بسطاء الناس الجواب عليها، والتي قد يؤول بها النقاش الى مجاهرة هذه الجماعات بنكث البيعة علناً، والتخلي عن الحسن جهاراً، ومعنى ذلك التعرض الى أفظع انشقاق داخلي، له عواقبه ومخاوفه.

ولهذا وذاك آثر الحسن التهدئة متمهلاً بالحرب بادئ ذي بدء.

ثم ارتجل الامر بالجهاد.

وما كان اذ أمر بالجهاد الا مستجيباً للظرف الطارئ الذي لم يكن يحتمل - في نظر الجميع - الا الامر بالجهاد، وذلك حين بادر معاوية الى العدوان مبتدئاً، وتحلبت أشداقه بالمطامع الاقليمية ولكن في صميم بلاد الاسلام!، فزحف الى « جسر منبج(٢) » باتجاه العراق، وذلك بعد وفاة امير المؤمنينعليه‌السلام ، بقليل من الزمن اختصره اليعقوبي(٣) كثيراً

__________________

١ - ابن ابي الحديد ( ج ٤: ص ١٣ ).

٢ - « منبج » بلد قديم كبير، بينه وبين جسره على الفرات ثلاثة فراسخ، وبينه وبين « حلب » عشرة فراسخ، وفي المعجم: « بينهما يومان »، قال: « ومنها الى ( ملطية ) اربعة ايام والى الفرات يوم واحد، وخرج منها جماعة منهم البحتري وابو فراس الحمداني ».

٣ - ( ج ٢: ص ١٩١ ).

٩٢

فحدّده بثمانية عشر يوماً.

ومن هناك حيث بلغ أعالي الفرات، رفع صوته « بالعواء » الذي حاول أن يجعل منه زئيراً وجلجلة، ليخيف الثغور الآمنة المطمئنة، ولينبّه مرابض الاسود في كوفة الجند فيستدرجها الى النزال.

ونظر معاوية الى مصرع عليعليه‌السلام ، كأحسن فرصة للاجراءات الحاسمة بين الكوفة والشام. وكان ذلك هو القرار الاخير الذي تم عليه الاتفاق بينه وبين مشاوريه، الذين كانوا يتحلّقون حوله ليل نهار، وينظمون معه حركة المعارضة للخلافة الهاشمية، بحنكة تشبه الدهاء، أمثال المغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، والوليد بن عتبة، ويزين بن الحر العبسي، ومسلم بن عقبة، والضحاك بن قيس الفهري.

ونجح معاوية في اختيار الظرف المناسب.

ونجح في خلق الشغب المزعج في كوفة الحسن، بما أولاه من عناية بالغة بشراء الضمائر الرخيصة فيها، وبما بثه من جواسيس يتأبطون في رواحهم الوان الاكاذيب، ويتزوّدون في غدوّهم الاخبار والمعلومات، عما يجدّ في الكوفة من تصاميم، وعما يوجد لديها من امكانيات. وكان سلاح معاوية من هذا النوع، أقوى من سلاحه بالرجال والحديد وأشدّ منهما مضاء وأبعد أثراً.

« واستنفر عشائره وجيوشه، فكتب الى عماله على النواحي التابعة له، بنسخة واحدة، يقول فيها: « فاقبلوا اليَّ حين يأتيكم كتابي هذا بجدكم وجهدكم وحسن عدتكم(١) ».

ومضى الحسنعليه‌السلام - بدوره - على تصميمه في الاستعداد

__________________

١ - ابن أبي الحديد ( ج ٤ ص ١٣ ).

٩٣

للجواب على هذا العدوان. فدعا الى الجهاد، وتألب معه المخلصون من حملة القرآن وقادة الحروب وزهاد الاسلام، أمثال حجر بن عدي الكندي وأبي ايوب الانصاري، وعمرو بن قرضة الانصاري، ويزيد بن قيس الارحبي، وعديّ بن حاتم الطائي، وحبيب بن مظاهر الاسدي، وضرار بن الخطاب، ومعقل بن سنان الاشجعي، ووائل بن حجر الحضرمي [ سيد الاقيال ]، وهانئ بن عروة المرادي، ورشيد الهجري، وميثم التمار، وبرير بن خضير الهمداني، وحبة العرني، وحذيفة بن أسيد، وسهل بن سعد، والاصبغ بن نباتة، وصعصعة بن صوحان، وابي حجة عمرو بن محصن، وهانئ بن أوس، وقيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن قيس، وعابس بن شبيب، وعبد اللّه بن يحيى الحضرمي، وابراهيم بن مالك الاشتر النخعي، ومسلم بن عوسجة، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وبشير الهمداني، والمسيب بن نجية، وعامر بن واثلة الكناني، وجويرية بن مشهر، وعبد اللّه بن مسمع الهمداني، وقيس بن مسهر الصيداوي، وعبد الرحمن بن عبد اللّه بن شداد الارحبي، وعمارة بن عبد اللّه السلولي، وهانئ بن هانئ السبيعي، وسعيد بن عبد اللّه الحنفي، وكثير بن شهاب، وعبد الرحمن بن جندب الأزدي، وعبد اللّه بن عزيز الكندي، وأبي ثمامة الصائدي، وعباس بن جعدة الجدلي، وعبد الرحمن بن شريح الشيباني، والقعقاع بن عمر، وقيس بن ورقاء، وجندب بن عبد اللّه الازدي، والحرث بن سويد التيمي، وزياد بن صعصعة التيمي، وعبد اللّه بن وال، ومعقل بن قيس الرياحي.

وهؤلاء هم الجناح القويّ في جبهة الحسنعليه‌السلام . وهم السادة الذين وصفهم الحسن فيما عهد به الى « عبيد اللّه بن عباس » بأن الرجل منهم يزيد الكتيبة، ووصفهم معاوية في حروب صفين بأن قلوبهم جميعاً كقلب رجل واحد، وقال عنهم: « انهم لا يقتلون حتى يقتلوا أعدادهم ». وهم الذين عناهم يومئذ بقوله: « ما ذكرت عيوبهم تحت المغافر بصفين الا لُبس على عقلي ». وشهادة العدوّ وأصدق

٩٤

الشهادات مجداً.

وهزّ أعصاب الكوفة في فورة الدعوة الى الجهاد، تفاؤل عنيف غلب الناس على منازعها، فاذا بالناس يتسابقون الى صفوفهم بما فيهم العناصر المختلفة التي لا يعهد منها النشاط للدعاوات الخيرة والاعمال الصالحة والمساعي الخالصة للّه عز وجل.

فجمع المعسكر الى جنب أولئك المخلصين من أنصار الحسن سواداً من الناس غير معروفين، وجماعة من أبناء البيوت المرائين، وجمهوراً من مدخولي النية الذين لا يتفقون معه في رأي، وربَّما لا يكونون الا عين عدوه عليه وعلى أصحابه، وآخرين من الضعفاء الرعاديد الذين اذا أُكرهوا على القتال اتقوه بالفرار، وربما لم يكن لهم من الامل الا أمل الغنائم « وليس أحد منهم يوافق احداً في رأي ولا هوى، مختلفون لا نيّة لهم في خير ولا شر(١) ». - وفيهم الى ذلك، المشاجرات الحزبية التي ستكون في غدها القريب شجرة الشوك في طريق التجهيزات التي تستدعيها ظروف الحرب.

وتخوَّف الحسن - منذ اليوم الاول - نتائج هذا التلوّن المؤسف الذي انتشر في صفوفه، والذي لا يؤمن في عواقبه من الخذلان، وهو ما تشير اليه بعض المصادر(٢) صريحاً.

فكان ينظر الى الجماهير المرتجزة بين يديه للحرب، غير واثق بثباتهم معه، ولا مؤمن باخلاصهم لاهدافه.

وتراءت له من وراء هؤلاء ( في الكوفة )، الرؤوس ذوات الوجهين التي يئس من اصلاحها الهدى، أمثال الاشعث بن قيس، وعمرو بن حريث

__________________

١ - كلمة الحسن نفسه فيما وصف به أهل الكوفة كما يرويها ابن الاثير ( ج ٣: ص ٦٢ ).

٢ - يراجع شرح النهج ( ج ٤: ص ١٤ ).

٩٥

ومعاوية بن خديج، وأبي بردة الاشعري، والمنذر بن الزبير، واسحق بن طلحة، وحجر بن عمرو، ويزيد بن الحارث بن رويم، وشبث بن ربعي، وعمارة بن الوليد، وحبيب بن مسلمة، وعمر بن سعد، ويزيد بن عمير، وحجار بن أبجر، وعروة بن قيس، ومحمد بن عمير، وعبد اللّه بن مسلم بن سعيد، وأسماء بن خارجة، والقعقاع بن الشور الذهلي، وشمر بن ذي الجوشن الضبابي.

وعلم أن له من هؤلاء ليوماً.

وهؤلاء هم الكوفيون الناشزون، الذين كانوا يشرعون الاخلاق لانفسهم وللناس الذين يماثلونهم - رغم ادّعائهم الاسلام!. وكان الاسلام الذي عمر الاخلاق في النفوس وزخر به النعيم على المسلمين، قد هزمته المادة بين أوساط هذا المجتمع المأفون، فتباعدت بينهم وبينه القربى، وعجزوا عن مسايرته بتعاليمه وتربيته وتثقيفه، فما بايعوا الحسن على السمع والطاعة حتى كانوا عملاء أعدائه على الشغب والعصيان، يرقبون الحوادث، ويتربصون الدوائر، وينتهزون الفرص، ويتآمرون على اخطر الموبقات غير حافلين بعواقبها ولا عارها ولا نارها.

وكان الخطر المتوقع من انخراط هؤلاء في الجيش، أكبر من الخطر المنتظر من أعدائه الذين يصارحونه العداء وجهاً لوجه.

فلمَ لا يتخوّف عاهل الكوفة من الخذلان، ولم لا يتمهل بالحرب ما وسعه التمهّل، وللنتائج الغامضة حكمها الذي يفرض الاناة ويذكّر بالصبر، ويلوّح بالخسران.

ولكنه - وقد دُعي الآن الى المبارزة - خليق أن يرجع الى الميراث النفيس الذي يشيع في نفسه من ملكات أبيه العظيم ( وكان لا بد للشبل أن ينتهي الى طبيعة الاسد ).

فليرجع الى وصية أبيه له، وكان مما أوصاه به أبوه: « لا تدعونَّ

٩٦

الى مبارزة، فان دُعيت لها فأجب، فان الداعي لها باغ ».

وليرجع الى واجبه الشرعي بما له من ولاية أمر المسلمين، وليس للامام الذي قلده الناس بيعتهم، أن يغضي على الجهر بالمنكر والبغي على الاسلام ما وجد الى ذلك سبيلاً.

واللّه تعالى شأنه يقول: « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر اللّه ».

ورسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: « من دعا الى نفسه، أو الى أحد، وعلى الناس امام، فعليه لعنة اللّه فاقتلوه ».

اما السبيل الى ذلك، ولا نعني به الا القوة على انكار المنكر، فقد كان للكوفة من القوى العسكرية في مختلف الثغور الخاضعة لها، ما يؤكد الظن بوجود الكفاية للحرب، رغم الاوضاع الشاذة التي نزع اليها كثير من خونة الكوفيين المواطنين.

وكان للدولة الاسلامية في أواسط القرن الاول، أعظم جيش تحتفل بمثله تلك القطعة من الزمن، لولا أن الالتزام بقاعدة « المرابطة » التي تفرضها حماية الثغور والتي كان من لوازمها توزيع القسم الاكثر من الجيوش الاسلامية على مختلف المواقع البعيدة عن المركز، كان يحول دائماً دون استقدام العدد الكثير من تلك الوحدات للاستعانة به في الحروب القريبة من المركز، ولا سيما مع صعوبة العمليات السوقية بنظامها السابق ووسائطها القديمة المعروفة.

وكان الجيش المقدَّر على الكوفة وحدها. تسعين الفاً أو مائة الف - على اختلاف الروايتين(١) -. وكان الجيش المقدَّر على البصرة ثمانين الفاً(٢) . وهؤلاء هم أهل العطاء في المصرين، أعني الجنود الذين يتقاضون

__________________

١ - يرجع الى اليعقوبي ( ج ٢: ص ٩٤ )، والى الامامة والسياسة ( ص ١٥١ ).

٢ - حضارة الاسلام في دار السلام لجميل مدور.

٩٧

الرواتب من خزينة الدولة. وفي المصرين العسكرّيين - الكوفة والبصرة - مثل هؤلاء عدداً من اتباعهم ومواليهم ومن متطوّعة الجهاد غالباً.

فهذه زهاء ثلاثمائة وخمسين الفاً، هي مقاتلة العراق، فيما يحسب على العراق من القدرة العسكرية، عدا جيوش فارس واليمن والحجاز والمعسكرات الاخرى.

وكان من تحمّس الشيعة للحرب ( يوم الحسن )، ومن الحاح الخوارج على حرب الحالّين الضالّين اهل الشام - على حدّ تعبيرهم -، ومن انسياح الناس الى صفوفهم يوم نجحت دعاوة الدعاة الى الجهاد في الكوفة. ما يكفي وحده رصيداً للظن بوجود الكفاية بل اليقين بوجودها، لو انهم صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه، يوم التقت الفئتان وحميت الصدور واحمَرَّت الحدق.

٩٨

النفير والقيادة

٩٩

ونادى منادي الكوفة - الصلاة جامعة -، واجتمع الناس فخرج الحسنعليه‌السلام ، وصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال:

« أما بعد، فان اللّه كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها، ثم قال لاهل الجهاد: اصبروا ان اللّه مع الصابرين. فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون الا بالصبر على ما تكرهون. انه بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير اليه فتحرك. لذلك اخرجوا رحمكم اللّه الى معسكركم في النخيلة(١) حتى ننظر وتنظرون، ونرى وترون ».

قال مؤرخو الحادثة: « وسكت الناس فلم يتكلم أحد منهم ولا أجابه بحرف ».

- ورأى ذلك « عديّ بن حاتم » وكان سيد طيء والزعيم المرموق بسوابقه المجيدة في صحبته للنبيّ والوصيّ معاً ( صلى اللّه عليهما ) فانتفض انتفاضته المؤمنة الغضبى، ودوّى بصوته الرزين الذي هز الجمع، فاستدارت اليه الوجوه تستوعب مقالته وتعنى بشأنه - وفي الناس كثير ممن عرف لابن حاتم الطائي، تاريخه وسؤدده وثباته على القول الحق - واندفع الزعيم محموم اللهجة قاسي التقريع، يستنكر على الناس سكوتهم، ويستهجن عليهم ظاهرة التخاذل البغيض.

وقال:

« أنا عديّ بن حاتم، ما أقبح هذا المقام!. ألا تجيبون امامكم وابن

__________________

١ - تصغير نخلة، موضع قرب الكوفة على سمت الشام، اقول: ويوجد اليوم على سمت كربلاء بناية تعرف بخان النخيلة، بينها وبين الكوفة اثنا عشر ميلاً.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400