قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار11%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190802 / تحميل: 7563
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الامر الاول : إنّ المبدأ الذي يكون احد جزءي المعنىٰ في المشتق بالمعنى الأعم المؤلف من المادة والهيئة الشامل للفعل المزيد فيه علىٰ قسمين :

١ ـ المبدأ الجلي ، وهو المعنىٰ الفعلي للمادة دون اضافة عنصر آخر اليه كالعلم في العالم والقصد في القاصد ، فإنّ مثل هذه المشتقات لو حللّت ، يلاحظ انّ المبدأ فيها نفس المعنىٰ الفعلي للمادة دون اضافة جهة أُخرى كالمضي والقابلية ونحو ذلك.

٢ ـ المبدأ الخفي ، وهو معنىٰ المادة ملحوظاً في المشتق علىٰ نحو خاص ؟ هو علىٰ أصناف.

منها : أن يلحظ فيه بنحو القابلية ، كما في اسم الآلة كالمفتاح والمنشار والمكنسة ، فإنّ المبدأ فيها قابلية الفتح والنشر والكنس لا فعلية هذه الأُمور.

ومنها : أن يلحظ فيه علىٰ نحو الحرفة والمهنة كما في التاجر والنجار والزارع فإنّ المبدأ فيها حرفة التجارة والنجارة والزراعة لا فعليتها.

ومنها : أن يلحظ فيه بنحو الاقتضاء كما في توصيف النار بأنها محرقة ، والسم بأنّه قاتل ، فإنّ المبدأ في ذلك اقتضاء هذه المعاني لا فعليتها.

فيلاحظ أن الخصوصية المضافة إلىٰ معنىٰ المادة في هذه الحالات ، إنما هي باعتبار اشراب المادة إياها ، ثم صياغتها مقرونة بها بالصيغة الخاصة ، وليست الخصوصية مستفادة من ذات الصيغة والهيئة بل من المادة حين تطعيمها بمعنىٰ آخر.

وعلى ضوء هذا يتجلّى لنا ما وقع من الخلط بين مفاد الهيئة ومفاد المادة في كلمات كثير من اللغويين والاصوليين ، حيث جعلوا كل خصوصية

١٢١

معنوية زائدة علىٰ اصل معنىٰ المادة ، مدلولة للهيئة ومستفادة منها مبنياً علىٰ تصور اختصاص المبدأ في المشتقات بالمبدأ الجلي ، بينما تستند كثير من الخصوصيات إلىٰ المبدأ الخفي كما ذكرنا.

وقد انتج الخلط المذكور اخطاء كثيرة في تحقيق معنىٰ الهيئات ، حيث أن اسناد تلكم الخصوصيات إلىٰ الهيئة اوجب الحكم باشتراكها بين معاني متعددة في موارد كثيرة ، منها المقام علىٰ وفق الاتجاه الاول المبني علىٰ تعدد المعنىٰ في صيغ باب المفاعلة ، وربما جعلت احدى تلك الخصوصيات معنىٰ عاماً للصيغة ، كما في المقام علىٰ مبنى من جعل باب المفاعلة للمشاركة فقط ، ومنه أيضاً ما ذكر في مبحث المشتق حيث لاحظ كثير من الاصوليين التلبس وعدمه بالقياس إلىٰ المبدأ الجلي في الامثلة المتقدمة كالمفتاح والمنشار والتاجر والنجار فاستدلوا بها علىٰ قول من يرى أن المشتق اعم من المتلبس بالمبدأ والمنقضي عنه التلبس مع أن الصحيح ملاحظة التلبس بالنسبة إلىٰ المبدأ الخفي وهو الاقتضاء والقابلية ـ كما ذكرناه ـ ، فلا تكون في الامثلة المذكورة ونحوها شهادة علىٰ القول بوضع المشتق للأَعم.

الامر الثاني : إنّ المبدأ الخفي بما انه لا يتجلى غالباً إلا في بعض المشتقات ، أوجب ذلك الخلط بينه وبين مفاد الهيئة في كثير من الحالات ـ كما اشرنا اليه ـ ، ولكن يمكن التمييز بينهما بملاحظة بعد المعنىٰ ـ بطبيعته ـ عن أن يكون مفاداً للهيئة لعدم التسانخ بينه وبينها بحسب الحس اللغوي للعارف باللغة ، أو بملاحظة عدم اطراده في سائر موارد الهيئة بعد استظهار وحدة معنىٰ الهيئة في جميعها ، فيتعين ان يكون منشأ استفادة المعنىٰ الخاص غيرها.

ويمكن اختبار ذلك في بعض الامثلة كمثال التاجر ، فإنّه يستعمل

١٢٢

فيمن كانت حرفته ومهنته التجارة وإن لم يشتغل بها فعلاً ـ وهو استعمال غير مقرون بالعناية ليعد استعمالاً مجازياً ـ ، فهنا يمكن تشخيص عدم نشوء المعنىٰ المذكور عن الهيئة اما بلحاظ أن مفاد صيغة ( فاعل ) حسب ما يقضي به الحس اللغوي ، إنّما هو وقوع المعنى من الذات من غير ان يتضمن دلالة على الحرفة والمهنة أصلاً ، وبذلك تكون الدلالة عليها اجنبية عن مفاد الهيئة ، أو بلحاظ أن امثلة هذه الصيغة في سائر الموارد لا تدل على المعنى المذكور ، فمع استظهار وحدة المعنى المستفاد من الهيئة في جميعها ـ كما يساعده الحس اللغوي ـ يتعين أن تكون الخصوصية المذكورة ملحوظة في المادة لتكون من قبيل المبدأ الخفي.

إذا اتضح ما ذكرناه فنقول : إنّ معنى السعي إلى الفعل في بعض امثلة باب المفاعلة إنّما يستند إلى المبدأ الخفي لا إلىٰ هيئة هذا الباب نظير معنى الغلبة في ( شاعر ) والمفاخرة في ( كارم ) ، والدليل على ذلك مضافاً إلىٰ أنّ الأنسب بمعنى هذا الباب بحسب الحس اللغوي هو نوع معنى يكون من قبيل الامتداد ( كسافر ) أو التكرر ( كضاعف ) أو المشاركة ( كضارب ) لا من قبيل السعي ، أن هذا المعنى لو كان مفاد هيئة باب المفاعلة لوجب الالتزام بتعدد معناها بحسب اختلاف الموارد ، وهذا على خلاف تقدير هذا المسلك وسائر المسالك الآتية في هذا الاتجاه ، لما سبق من أن معنى السعي لا يتمثل في جميع موارد هذا الباب بل في القليل منها جداً.

وعلى ضوء هذا يتضح أن السعي نحو الفعل لا يصلح أن يكون هو المعنى الموحد العام للهيئة ، ولا يمكن طرحه بديلاً عن معنى المشاركة ، كما يتضح عدم صحة النقض على استفادة المشاركة من هذه الهيئة ، بجملة من الامثلة المتقدمة ك‍ ( ضارب ) و ( قاتل ) ، لأن بناء النقض بها على تصور أن المبدأ فيها هو القتل والضرب فيقال إنه لا مشاركة فيها ، وأمّا إذا لوحظ

١٢٣

المبدأ فيها بمعنى السعي إلى الفعل فإنّ معنى المشاركة متحقّق فيه بوضوح ، لأن المضاربة والمقاتلة لا يستعملان إلا في موارد اشتراك الطرفين في السعي إلىٰ الفعل ، فهذان المثالان قد يشهدان للقول بدلالة هيئة المفاعلة على المشاركة ، ولا شهادة فيهما علىٰ خلاف ذلك.

المسلك الثاني : ما اختاره المحقق الاصفهانيقدس‌سره من انّ هيئة المفاعلة معناها تعدية المادة وإسراؤها إلى الغير ممّا لم تكن تقتضي التعدي اليه بنفسها ، وتختلف نتيجة ذلك بحسب اختلاف الموارد ، فإنّ هذه الهيئة تارة توجب اخذ الفعل مفعولاً لم يكن يأخذه مباشرة وإنّما كان يصل اليه بحرف الجر ، اما لأنّه لم يكن متعدياً أصلاً كما في ( جلس اليه ) و ( جالسه ) ، أو لأنه كان متعدياً ولكن إلىٰ أمر آخر غير ما اصبح متعدياً اليه بهذه الهيئة كما في ( كتب الحديث اليه ) و ( كاتبه الحديث ) ، فإنّ المعنىٰ في ( كتب ) لم يكن يتعدى إلىٰ الهاء بنفسه فتعدى اليه في ( كاتب ).

و ( أُخرى ) لا توجب اخذ الفعل مفعولاً زائداً علىٰ ما كان يأخذه في المجرد كما في ( ضرب زيد عمراً ) و ( ضاربه ) ، وأثر باب المفاعلة في حصول التعدية إلىٰ الغير في الحالة الأولىٰ واضح ، وأما في الحالة الثانية فربما يستشكل في ذلك بتحقق التعدية في المجرد فيكون تحققها بهيئة المفاعلة من قبيل تحصيل الحاصل ، إلا انّه يندفع بأنّ التعدي في المجرد تعدية ذاتية بمعنىٰ أنّ إنهاء المادة وتعديتها إلى المفعول غيرملحوظ في الهيئة وإنّما هو لازم نسبة الفعل لمفعوله وأما في المزيد فالتعدية والانهاء إلىٰ المفعول ملحوظة في مفاد الهيئة فهي تعدية لحاظية.

فالحاصل ان هيئة المفاعلة تقتضي تعدي المادة إلى ما لم تكن تقتضي هيئة المجرد تعديها اليه سواء أكانت تتعدى اليه في المجرد باعتبار كون ذلك لازم النسبة ، أم كانت تصل اليه بوسط حرف الجّر.

١٢٤

وقد رتّبقدس‌سره علىٰ ذلك استفادة معنىٰ التصدي ( التعمد والتقصد ) لالحاق المعنىٰ بالغير من هيئة باب المفاعلة دون المجرد ، إما لكونه لازماً لهذا الباب مطلقاً كما يظهر من بعض كلماته(١) أو واقع فيه في الجملة كما يظهر من بعض كلماته الأُخرىٰ(٢) ، وقد مثل لذلك ب‍ ( ضارب ) و ( خادع ) بالقياس إلىٰ ( ضرب ) و ( خدع ) فإنّ الاخيرين لا يقتضيان تعمد الفاعل في الفعل بخلاف الاولين ، ولكن المثال الثاني لا يخلو عن اشكال لان الخدعة في نفسها من المعاني القصدية اذ تتقوم بقصد ايهام الشخص خلاف الواقع ، فلا يكون ثمة ، فرق بين ( خدع ) و ( خادع ) من هذه الجهة ، وانّما تظهر التفرقة المذكورة حيث لا يكون المعنىٰ في المجرد عنواناً قصدياً كما في المثال الأَوّل.

وقد نسب اليه (قده) المسلك الأَوّل(٣) في بعض الكلمات ، مع انّ الفرق بين هذا المسلك والمسلك السابق واضح لأَن مفاد هذا المسلك تحقّق المعنىٰ في باب ( فاعل ) كتحققه في المجرد مثل ضرب وقتل ، إلا أن الفارق بين ـ فاعل ـ كضارب والمجرد كضرب حصول القصد في ـ فاعل ـ دون المجرد ، وإنما كان مفاد هذا المسلك هو تحقّق المعنىٰ لأن التحقق لازم تعدية المادة إلىٰ الغير ، بخلاف المسلك الاول فإنّه كان يرى أن مفاد هذا الباب هو السعي إلىٰ تحقّق الفعل سواء تحقّق الفعل أم لا فالفرق بينهما واضح.

ولكن يلاحظ علىٰ هذا المسلك :

أولاً : إنّ ما ذكره من الفرق بين المزيد والمجرد ـ كضارب وضرب ـ من كون التعدية في الأول لحاظية وفي الثاني ذاتية : غير واضح بل الظاهر

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ / ٣١٨.

(٢) تعليقة المكاسب ٢ / ٢.

(٣) مصباح الفقاهة في المعاملات ٢ / ٢٧ ـ ٢٨ ، ومصباح الأصول ٢ / ٥١٢.

١٢٥

أن التعدية فيهما علىٰ نسق واحد بحكم الوجدان.

( فإن قيل ) : ان الفعل المجرد المتعدي يصح استعماله من دون نسبة إلىٰ المفعول كأن يقال : ( ضرب زيد ) ولا يصح ذلك في ( فاعل ) بأن يقال ( ضارب زيدٌ ) وهذا دليل الفرق المذكور.

( قيل ) : إن هذا مجرد ادعاء لا يسنده دليل لعدم ثبوت فرق بين البابين من هذه الجهة.

وثانيا ً : إن المقدار الذي ذكره لا يفسّر ما يستفاد في مختلف موارد المادة من الاشتراك أو التكرار أو الامتداد أو نحو ذلك ـ بل ربما كانت استفادة التعمد احياناً بهذا الاعتبار لأنّ التكرار ونحوه يناسب التقصد والعمد كما ذكر في النظر إلىٰ الأَجنبية أن النظرة الأولىٰ تقع لا عن قصد بخلاف النظرة بعد النظرة.

وثالثاً : إنّه لم يتضح الترابط بين اقتضاء باب المفاعلة للنسبة إلىٰ المفعول وبين اقتضائه التعمد فإنّ ملحوظية تعدي النسبة إلىٰ المفعول في هذه الهيئة لا يقتضي كون الفعل قصدياً فإنّ تلك جهة لفظية فحسب كما لا يخفى.

نعم قد تدل الكلمة علىٰ التعمّد في بعض الموارد لدلالته علىٰ السعي نحو المادة ـ ومصدر هذه الدلالة إنّما هو المبدأ الخفي ـ كما ذكرناه آنفاً ـ دون دلالة الهيئة علىٰ التعدية ـ ولا يلزم تحقّق المادة حينئذٍ أصلاً كما في خادعه وقاتله وغالبه وما إلىٰ ذلك.

المسلك الثالث : ما عن المحقق الطهراني من أنّ معنىٰ باب المفاعلة هو معنىٰ المجرد إلا أن المجرّد يدل علىٰ أصل حركة المادة فحسب وباب المفاعلة يدل علىٰ تلك الحركة بعينها بنحو من الطول والامتداد ـ وهو الامتداد في نسبتها بين اثنين ـ فمعنى ( هاجر ) و ( طالب ) و ( سافر ) و ( باعد )

١٢٦

اطال الهجرة والطلب والسفر والبعد ـ وبذلك يفترق عن ( هجر وطلب وسفر وبعد ) التي تدل علىٰ مجرّد التلبس بهذه المعاني.

وهذا التفسير :

أوّلاً : يتضمن التناسب بين المبرِز والمبرَز ـ أي اللفظ والمعنىٰ ـ.

وثانياً : إنّه لا ينفك عن جميع الموارد المختلفة التي وردت من هذا الباب فهو مطّرد فيها واطّراد المعنىٰ في جميع موارد استعمال اللفظ يؤيد كونه مفهوماً له.

أما الأؤل : من التناسب الذاتي بين المبرِز والمبرَز ـ فلأن هيئة ( فاعل ) تتميّز عن هيئة ( فعل ) ، باضافة الف بين حركتي هيئة المجرد ـ وهي حركة الفاء والعين ـ والألف هي نحو اشباع للفتحة واطالة لها فهي تناسب الطول والامتداد بطبيعتها.

وأما الثاني : ـ من اطّرادّ هذا المعنىٰ في موارد المادة ـ فتوضيحه :

إنّ الامتداد في مورد هذه المادة إنّما تكون في نسبتها بين اثنين :

أ ـ فإذا كانت المادة بذاتها مقتضية لامتداد النسبة ـ كما في المجاروة والمحاذاة ونحوهما حيث إنّها لا محالة تقتضي نسبة ممتدة بين طرفيها ـ فلا تصلح لها هيئة إلاّ هيئة المفاعلة ولذلك تصاغ بها ضماناً لاداء هذا المعنى.

وليس لخصوص كونها بين اثنين علىٰ نحو الاشتراك مدخلية كما توهّم بعض النحاة فأدرجوا بذلك خصوصية مورد الاستعمال في أصل المعنىٰ المستعمل فيه المنطبق علىٰ هذا المورد الخاصّ. بل معناها هو الامتداد الأعم.

ب ـ وإذا لم تكن المادة مقتضية لامتداد النسبة بطبيعتها ـ بأنّ كانت صالحة في نفسها للانتساب إلىٰ واحد واثنين كسار وساير وبعد وباعد وطلب وطالب وقبل وقابل ونحو ذلك ـ : فإنّ معنىٰ الامتداد يقتضي إضافتها إلىٰ الغير فاذا لوحظت منضافة إلىٰ الغير حدثت هناك نسبة ممتدّة بين اثنين تنحلّ

١٢٧

إلى نسبتين ـ كما في القسم الأول ـ.

ثم في هذه الحالة ( تارة ) لا يكون الغير الذي وقع طرفا لهذه النسبة الممتدة مفعولاً لأَصل المادة و ( اخرى ) يكون مفعولاً لها.

ففي الفرض الأَول يكون مفاد الهيئة التعدية إلىٰ الواحد ان كانت المادة لازمة في المجرد ـ كجلست اليه وجالسته وبرزت اليه وبارزته ـ والى الاثنين ان كانت متعدية لواحد ـ ك‍ : ( جذبت الثوب ) و ( جاذبته الثوب ).

وفي الفرض الثاني : لا يستفاد من الهيئة تعدية جديدة علىٰ المجرد ، ولكن يتغير نوع التعدية وسنخها ـ فالتعدي في ( ضرب زيد عمراً ) عبارة عن صدور الضرب من زيد ووقوعه علىٰ عمرو واما في ( ضارب ) فلا نظر إلىٰ جهة الوقوع علىٰ المفعول ، لأَن نوع تعديه علىٰ نسق تعدي ( جاور ) و ( حاذى ) ، وانما هو ناظر إلىٰ انهما طرفا هذه النسبة الممتدة.

وتوضيح ذلك : ان الضرب بلحاظ صدوره من الطرفين تعتبر فيه نسبة ممتدة بينهما هي مدلول هيئة ( ضارب ) و ( قاتل ) و ( جاذب ) ، وهذه النسبة المخصوصة بحاجة إلىٰ مبدأ تصدر عنه يسمى ( فاعلاً ) ومحل تقع عليه يسمى ( مفعولاً ) ـ فيلاحظ فيها مبدأ صدور النسبة الممتدة ومحل وقوعها بالاعتبارين. وربما يصلح كل من الطرفين لكل من الاعتبارين اذا استويا في استناد الحدث اليهما كما تقول ( ضارب زيد عمرا ) و ( ضارب عمرو زيداً ) فتارة يكون زيد مبدأ صدور النسبة وعمرو محل وقوعها ـ كما في المثال الأَول ـ واخرى يكون الامر بالعكس ـ كما في الثاني ـ وليس للبادئ بأصل الفعل والسابق فيه بالشروع خصوصية.

فالمفعول في هذا الباب من وقع طرفاً للنسبة الممتدة لا من وقع عليه اصل المادة ـ كما في المجرد ـ ولذا ينفك احد الامرين عن الآخر كما في ( جاذب زيد عمرو الثوب ) فان ما وقع عليه اصل المادة هو الثوب فهو

١٢٨

المجذوب ، ومن وقعت عليه النسبة الممتدة هو ( عمرو ) واذا اجتمع الامران ـ اي كان المفعول طرفاً للنسبة الممتدة ومحلاً لوقوع اصل المادة ـ كما في ( عمرو ) في مثال ( ضارب زيد عمرا ) فانهما يختلفان بالاعتبار ، فعمرو مفعول لضارب من حيث انه مضارب لا من حيث انه مضروب كما في المجردّ.

هذا تقرير هذا المسلك.

( لكن ) يلاحظ عليه ـ انه رغم قربه من جهة ضمانه التناسب بين المبرِز والمبرَز وقدرته علىٰ تفسير بعض موارد المادّة ـ الا ان ما ذكر في موارد الاشتراك من تصوير الامتداد بلحاظ نسبة منتزعة من النسبتين الموجودتين بين الشخصين اللذين وقعت المادة في كل منهما ـ رغم اختلاف النسبتين من الأَطراف ـ لا يخلو عن تكلف وبعد ظاهر.

وعلى هذا فلا يمكن قبول كون هذا المعنىٰ هو المعنىٰ الوجداني العام للهيئة.

واما التناسب المذكور فهو وان صحّ ـ الا ان مجرد التناسب الذاتي لا يحسم الامر في الدلالات اللغوية ، بل لا بد من تحقيق الموضوع باستقراء الامثلة والموارد وملاحظة مدى توافقها مع هذا التناسب واعتباره في مرحلة الوضع.

المسلك الرابع : ما هو المختار. وبيانه بحاجة إلىٰ ذكر مقدمة هي :

ان الدلالات التي تنضم إلىٰ اصل المادة في مدلول الكلمة في باب المفاعلة ليست جميعها مستندة إلىٰ هيئة هذا الباب ، كما كان هو الانطباع السائد لدى اللغويين وكثير من الاصوليين ـ بل هي علىٰ قسمين : ـ فمنها ما يستند إلىٰ الهيئة.

ومنها : ما يستند إلىٰ المبدأ الخفي الملحوظ في بعض موارد الباب.

١٢٩

وهذا الامر لا يختص بهذا الباب بل هو امر سارٍ في اكثر الهيئات ان لم نقل جميعها ، فكثيراً ما نرى ان هناك معنىٰ او معان تظهر في بعض المواد مع أنها لا تنشأ عن المادة ولا عن الهيئة وانما مصدرها المبدأ الخفي للكلمة.

وقد سبق ان اوضحنا هذه الفكرة وبعض الأمثلة لها في ابطال المسلك الاول ، وبينّا انه كيف يتدخل المبدأ الخفي في ايجاد معان غريبة عن المادة في وصفي الفاعل والمفعول ، من الاقتضاء والحرفة والمضيّ وغيرٍ ذلك رغم وحدة مفاد الهيئة فيهما بحسب الوجدان اللغوي.

ففي باب المفاعلة أيضاً يستند قسم من الدلالات المتفرقة إلىٰ المبدأ الخفي كالسعي إلىٰ الفعل والغلبة والفخر ونحو ذلك ، مما يظهر بالتتبع. وقد اوجبت الغفلة عن هذا المبدأ ـ بعض الاقتراحات في مفاد الهيئة كالمسلك الأَوّل.

( نعم ) : بعض آخر من الدلالات يستند إلىٰ الهيئة وهذا هو المقصود تحليله في هذا البحث.

وبعد اتضاح هذه المقدّمة نقول :

ان الظاهر بملاحظة الموارد المختلفة للهيئة ان هذه الهيئة تدلّ علىٰ نسبة مستتبعة لنسبة اخرى بالفعل أو بالقوة ، وذلك مما يختلف بحسب اختلاف الموارد ( فتارة ) تكون النسبة الاخرى ـ كالأول ـ صادرة من نفس هذا الفاعل بالنسبة إلىٰ نفس الشيء. و ( اخرى ) تكون احداهما صادرة من الفاعل والاخرى من المفعول ـ كما في ( ضارب ) فيعبّر عن المعنىٰ حينئذٍ بالمشاركة.

وفي الحالة الأُولى : قد يكون تعدد المعنى من قبيل الكم المنفصل فيعبر عنه بالمبالغة ـ كما ذكر في كلام المحقق الرضي (قده)(١) أو يعبر عنه

__________________

(١) شرح الشافية ط الحجر ص ٢٨.

١٣٠

بالامتداد ـ اذا لم يكن التعدد واضحاً كما فسر لفظ المطالعة في بعض الكتب اللغوية كالمنجد ـ بادامة الاستطلاع مع انه استطلاعات متعدّدة في الحقيقة وقد يكون المعنىٰ من قبيل الكم المتصل فيكون تكرره بلحاظ انحلاله إلىٰ افراد متتالية كما في ( سافر ) ونحوه وحينئذٍ يعبر عنه بالامتداد والطول. ولازمه التعمد والقصد في بعض الموارد نحو تابع وواصل كما مرّ آنفاً.

و لا يرد علىٰ ما ذكرنا ما اورده المحقق الاصفهاني علىٰ القول بدلالة الهيئة علىٰ المشاركة ، من انه لا يمكن ان يكون المدلول الواحد محتوياً لنسبتين(١) لان المدلول المطابقي علىٰ ما ذكرنا نسبة واحدة لكنها مقيدة بان تتبعها نسبة أخرى علىٰ نحو دخول التقيد وخروج القيد.

وعلى ضوء ذلك يمكن القول بان الضرار يفترق عن الضرر بلحاظ انه يعني تكرر صدور المعنىٰ عن الفاعل أو استمراره. وبهذه العناية أطلق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ سمرة انّه مضارّ لتكرر دخوله في دار الانصاري دون استيذان.

وبما ذكرناه يظهر النظر فيما سبق في أول هذا الفصل عن بعض اللغويين في تفسير الضرار في الحديث ـ مقارنة بين مدلوله ومدلول الضرر ـ بعدة تفسيرات.

احدها : ان الضرر هو فعل الواحد والضرار فعل الاثنين.

وقد سبق عدم تمامية هذا الوجه لان ضراراً لا يدل على المشاركة.

الوجه الثاني : ان الضرر ابتداء الفعل والضرار الجزاء عليه.

والظاهر ان هذا التفسير لا يبتني على دعوى فهم الابتداء والجزاء من

__________________

(١) لاحظ نهاية الدراية ٢ : ٣١٧ ـ ٣١٨.

١٣١

مادة الكلمتين أو هيئتهما ، لوضوح عدم افادة شيء منهما لذلك ، وانما هو نحو توجيه لمفاد الحديث ومع ذلك فلا قرينة علىٰ هذا التحديد لمدلول المادة في الحديث.

الوجه الثالث : ان الضرر ما تضر به وتنتفع به أنت والضرار ان تضره من غير ان تنتفع به.

وهذا الوجه أيضاً ليس مبنياً ظاهراً علىٰ دعوىٰ دلالة المادة أو الهيئة علىٰ هذا التحديد ، وانما يبتنى علىٰ جهة اخرى وهي قيام قرينة خارجيّة علىٰ ذلك من قبيل بعض موارد تطبيق هذه الكبرى.

لكن لم تثبت القرينة المذكورة علىٰ هذا التحديد.

الوجه الرابع : ان يكون الضرار بمعنىٰ الضرر بعينه وعلىٰ ذلك يبتني ما ذكر من ان ( لا ضرار ) انما هو لمجرد التاكيد.

ووجه هذا الاعتقاد : تصوّر ان باب المفاعلة من مادة ( الضرار ) انما هو بمعنىٰ المجرد منها ـ كما ذكروا ذلك في مواد اخرى ـ بناء علىٰ مبناهم من تعدّد معنىٰ هيئة المفاعلة علىٰ ما تقدم. وقد صرّح بذلك في بعض كلماتهم ففي لسان العرب مثلاً ( ضره يضره ضراً وضرّ به وأضرّ به وضاره مضارة وضراراً ـ بمعنىٰ )(١) .

لكن اتضح مما ذكرناه في معنىٰ الهيئة فيهما وجود الفرق بين معناهما فالضرر معنىٰ اسم مصدري ماخوذ من المجرد ، والضرار مصدر يدل علىٰ نسبة صدورية مستتبعة لنسبة أخرى ، ولذلك ذكر المحقق الرضي (قده) ، ان الصيغة تفيد معنىٰ المبالغة ، واوضحنا في المسلك المختار ان افادة معنىٰ المبالغة انما هي باعتبار الدلالة علىٰ تكرر النسبة أو استمرارها. هذا ما يتعلق

__________________

(١) ط بيروت ١٩٥٥ ه‍ ١٣٧٥ ه‍ ٤ / ٤٨٢.

١٣٢

بمفاد هيئة ( ضرار ).

واما الاضرار ـ الوارد في نسخة اخرى في الجملة الثانية للحديث بدلاً عن ( ضرار ) فقد ذكر انه بمعنىٰ المجرد. وهو أحد معاني هذا الباب في علم الصرف كقال وأقال(١) ولكن أفاد المحقق الرضي في شرح الشافية ان ذلك تسامح منهم وان المقصود افادته التأكيد والمبالغة(٢) كما أن ما ذكر في علم الصرف لهذه الهيئة من المعاني الكثيرة إنما ينشأ أكثرها عن المبدأ الخفي للكلمة علىٰ نسق ما اوضحناه في باب المفاعلة.

واما تحديد المفاد الحقيقي لنفس الهيئة ففيه وجوه واحتمالات.

لكن لا يهمنا تحقيق الحال فيها في المقام بعد عدم ثبوت هذه الصيغة في الحديث علىٰ ما اوضحناه في الفصل الأَوّل.

المقام الثالث : في مفاد الهيئة التركيبية.

وهذا البحث هو اهمّ الأَبحاث في الموضوع ـ اذ هو المقصد الأَصلي ـ وقد اشترك فيه اللغويون وفقهاء الفريقين ، الا ان العمدة ما طرحه المتاخرون من فقهائنا. ويلاحظ عليهم ان المسالك المطروحة عندهم في تفسير الحديث غالباً لم تفرق بين المفاد التركيبي للجملتين ( لا ضرر ـ ولا ضرار ) ـ مع أن بينهما فرقاً واضحاً علىٰ المختار.

ونحن نتعرض للوجه المختار في كيفية تفسير الحديث وتحقيق معناه ، ثم نتعرض لسائر المسالك التي طرحت في ذلك فهنا بحثان :

البحث الأَول : في بيان المسلك المختار في تحقيق معنىٰ الحديث.

والمختار في معنىٰ الحديث : ان مفاد القسم الأَوّل منه ـ وهو قوله ( لا

__________________

(١) لاحظ الشافية وشرحها للرضي ط الحجري ص ٢٤ ، ٢٦ وغيرهما.

(٢) لاحظ شرح الشافية ط الحجر ص ٢٦.

١٣٣

ضرر ) ما ذهب اليه الشيخ الانصاري من نفي التسبيب إلىٰ الضرر بجعل الحكم الضرري. واما القسم الثاني منه ـ وهو ( لا ضرار ) ـ فان معناه التسبيب إلىٰ نفي الاضرار ، وذلك يحتوي علىٰ تشريعين :

الأَوّل : تحريم الاضرار تحريماً مولوياً تكليفياً.

والثاني : تشريع اتخاذ الوسائل الإجرائية حماية لهذا التحريم.

و بذلك يحتوي الحديث علىٰ مفادين :

١ ـ الدلالة علىٰ النهي عن الاضرار.

٢ ـ والدلالة علىٰ نفي الحكم الضرري. ومضافاً لذلك دلالته بناء ( علىٰ المختار ) علىٰ تشريع وسائل اجرائية للمنع عن الاضرار خارجاً ، وهذا المفاد استفدناه من الجملة الثانية وبعض الأَعاظم استفاده من الجملة الأولىٰ بجعل النهي المستفاد منها نهياً سلطانياً وهو مناقش مبنى وبناءً كما سيتضح في موضعه ان شاء الله.

ولتوضيح استفادة ذلك من الحديث علىٰ المنهج المختار نتعرض لبيان ذلك في ضمن وجهين اجمالي وتفصيلي :

اما الوجه الاجمالي : فهو أن نفي تحقّق الطبيعة خارجاً في مقام التعبير عن موقف شرعي بالنسبة اليها ، يستعمل في مقامات مختلفة كإفادة التحريم المولوي أو الإرشادي أو بيان عدم الحكم المتوهّم وما إلىٰ ذلك. ولكن استفادة كل معنىٰ من هذه المعاني من الكلام رهين بنوع الموضوع ، وبمجموع الملابسات المتعلقة به.

وملاحظة هذه الجهات تقضي في الفقرتين بالمعنى الذي ذكرناه لهما.

أمّا الفقرة الأُولىٰ : ـ وهي ( لا ضرر ) ـ فلأن الضرر معنى اسم مصدري يعبر عن المنقصة النازلة بالمتضرر ، من دون احتواء نسبة صدورية كالاضرار

١٣٤

والتنقيص ، وهذا المعنى بطبعه مرغوب عنه لدى الانسان ، ولا يتحمله أحد عادة الا بتصور تسبيب شرعي اليه ، لان من طبيعة الانسان ان يدفع الضرر عن نفسه ويتجنّبه ، فيكون نفي الطبيعة في مثل هذه الملابسات يعني نفي التسبيب اليها بجعل شرعي ولمثل ذلك كان النهي عن الشيء بعد الأَمر به أو توهّم الأَمر به دالاً على عدم الأَمر به كما كان الأَمر بالشيء بعد الحظر أو توهمه معبراً عن عدم النهي فحسب كما حقق في علم الأصول ، وعلىٰ ضوء هذا كان مفاد ( لا ضرر ) طبعاً ، نفي التسبيب إلى الضرر بجعل حكم شرعي يستوجب له.

وامّا الفقرة الثانية : ـ وهي لا ضرر ـ فهي تختلف في نوع المنفي وسائر الملابسات عن الفقرة الأُولى لان الضرار مصدر يحتوي علىٰ النسبة الصدورية من الفاعل كالاضرار. وصدور هذا المعنى من الانسان أمر طبيعي موافق لقواه النفسية غضباً وشهوة. وبذلك كان نفيه خارجاً من قبل الشارع ظاهراً في التسبيب إلى عدمه والتصدي له ، ومقتضى ذلك.

أوّلاً : تحريمه تكليفاً فإن التحريم التكليفي خطوة أولى في منع تحقّق الشيء خارجاً.

وثانياً : تشريع اتخاذ وسائل إجرائية ضد تحقّق الاضرار من قبل الحاكم الشرعي ، وذلك لان مجرد التحريم القانوني ما لم يكن مدعماً بالحماية اجراءً ـ لا سيّما في مثل ( لا ضرار ) ـ لا يستوجب انتفاء الطبيعة ولا يصحح نفيها خارجاً.

واما الوجه التفصيلي : لدلالة الحديث علىٰ ذلك فتوضيحه : ان هذا الحديث يمثل نفياً لمفهومين ( هما الضرر والضرار ) ، وهذه الصيغة ـ أعني صيغة النفي ـ رغم وحدتها صورة ووحدة المراد الاستعمالي منها تحتوي علىٰ معان مختلفة بحسب اختلاف الموارد :

١٣٥

فربما : يكون محتواها التحريم المولوي كما في( لا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) (١) .

و اخرى : تكون ارشاداً إلىٰ عدم ترتب الاثر القانوني المترتب علىٰ الشيء كما في ( لا طلاق الا لمن اراد الطلاق )(٢) فانه يدل علىٰ عدم حصول الفراق القانوني بانشاء الطلاق اذا لم يكن مراداً جدياً.

وثالثةً : تكون ارشاداً إلىٰ محدودية متعلق الأمر كما في ( لا صلاة إلا بطهور )(٣) فانه يدل علىٰ محدودية الصلاة الواجبة بالطهارة.

ورابعة : تقتضي عدم وجود حكم يبعث علىٰ وجود شيء كما في ما لو قيل ( لا حرج في الدين ) ٠ إلىٰ غير ذلك من محتوياتها.

وعلى هذا فلا بُدّ في معرفة معنىٰ الحديث ، وتحقيقه من تحقيق ميزان اختلاف محتوى الكلام في هذه الموارد وغيرها رغم وحدة عنصره الشكلي ، ثم تحقيق معنىٰ الحديث علىٰ ضوء هذا الضابط العام فهنا مرحلتان :

أمّا في المرحلة الأولىٰ : فلا بُدّ قبل توضيح الميزان فيها من التنبيه علىٰ نكتة عامة فيما يتعلق بتفسير الكلام سواء أكان من قبيل صيغة الأَمر أو النهي أو النفي أو الاثبات فنقول :

ان الكلام يتألف من عنصرين عنصر شكلي يتمثل في مدلوله اللفظي ، وعنصر معنوي كامن تحت المدلول اللفظي يكون هو المحتوى الواقعي للصيغة والمصحح لاستعمالها ، وهذان العنصران لا يتحدان دائماً وان كان لا بُدّ بينهما من تسانخ وعلاقة ، ولذا تكون الصيغة الواحدة ذات

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٩٧.

(٢) جامع الأحاديث ١ : ٢٢٦ / ١٨٨٧ ، الفقيه ٤ : ٢٢ / ٦٧.

(٣) الوسائل ٢٢ : ٣٠ / ٢٧٩٤١ ، الكافي ٦ : ٦٢ / ٢.

١٣٦

محتويات متعدّدة بحسب اختلاف الموارد كاستعمال صيغة الامر والنهي في معان كثيرة. فان هذه المعاني ليست هي المدلول الاستعمالي للكلام ، ولا هي مجرد دواعٍ واغراض لاستعماله ـ كما اوضحناه في محله من علم الأصول وانما هي محتوى الكلام وباطنه.

واختلاف مفاد النفي علىٰ الانحاء السابقة وغيرها يرتبط بالعنصر المعنوي الكامن للكلام ـ كما هو واضح لوحدة العنصر الشكلي حسب الفرض وهو النفي ـ ومعرفة الضابط العام لتشخيص محتوى الكلام ، يتوقّف علىٰ التعرف المسبق علىٰ العوامل المختلفة التي تؤثر في تعيين محتواه وتحديده لكي يتم استخراج هذا الضابط علىٰ أساسها.

وذلك : لأَن تفسير الكلام في حدّ نفسه عملية معقدة لا تكفي فيها معرفة الجهات اللفظية من المفردات اللغوية والهيئات العامة فحسب علىٰ ما أشرنا إليه.

بل يمكن القول بأن العوامل اللفظية بالنسبة إلىٰ سائرالجهات المؤثرة في معنىٰ الكلام ، مثل ما يظهر من الجبل الثابت في البحر بالنسبة إلىٰ ما كان منه كامناً تحت الماء ، لان هذه العوامل لا تؤلف الا جزءً يسيراً من مجموع ما يؤثر في محتوى الكلام ، وان كانت ظاهرة اكثر من غيرها.

وسر ذلك : ان الكلام بما انه ظاهرة حية من الظواهر النفسية او الاجتماعية فانه يتفاعل بحسب محتواه مع جميع الملابسات التي تحيط به من محيط وشائعات واعراف وغير ذلك ، فاذا ما أريد تفسيركلام ما فلا بد من ملاحظة جميع الخصوصيات التي تقترن به من الأَطار الذي القي فيه ، ومن طبيعة الموضوع الذي يتحدّث عنه ، ومن الصفات النفسية للمتكلم والمخاطب فربما تختلف الكلمة الواحدة من زمان إلىٰ زمان او من موضوع إلىٰ موضوع أو من متكلم إلىٰ متكلم أو من مخاطب إلىٰ مخاطب.

١٣٧

فاذا لاحظنا الجهات المختلفة التي تحتضن الكلام وقدّرنا نوع التفاعل المناسب معها : أمكننا تفسير الكلام في ظل مجموع تلك الجهات.

وقد عبرنا عن هذا المنهج في تفسير الكلام ب‍ ( منهج التفسير النفسي ) نظراً إلىٰ أن تأثير هذه الجهات في الكلام انما هو بلحاظ تأثيرها في الحالة النفسية للمتكلم أو المخاطب معها.

وبعد اتضاح هذه المقدّمة نقول : ـ ان اختلاف محتوى صيغة النفي في الموارد المذكورة ، إنما ينشأ عن اختلاف المواضيع وملابساتها وتناسبات المورد بحسبها ، كما يوجد نظير هذا الاختلاف في سائر الصيغ التي تعبّر عن الموقف الشرعي في موضوع ما.

و نحن نقتصر في هذا المجال علىٰ عرض جملة من هذه المواضيع بشكل عام لمختلف الصيغ كصيغة الأمر والنهي والنفي والاثبات في الجملة الخبرية مع توضيح كيفية تأثيرها في اختلاف محتوى الصيغة :

١ ـ الموضع الأَوّل : ان يكون مصب الحكم طبيعة تكوينية ذات اثار خارجيّة يرغب المكلفون فيها أو عنها من جهة نسبتها مع القوى الشهوية والغضبية للنفس ، من دون ان يكون هذا الحكم مسبوقاً بحكم مخالف له علماً أو احتمالاً كالأَمر بعد الحظر أو بعد توهمه.

ففي هذا الموضع يتضمن محتوى الخطاب أمرين : أحدهما : عامّ والاخر خاص بمورد صيغتي الاثبات والنفي.

اما محتواه العامّ : فهو الوعيد علىٰ الفعل أو الترك فان كانت الصيغة بعثاً كان محتواها الوعيد علىٰ الترك فيكون الفعل واجباً تكليفاً ، وان كانت الصيغة زجراً كان محتواها الوعيد علىٰ الفعل فيكون الفعل حراماً تكليفاً ، ومجموع الصيغة والمحتوى يؤلّف الحكم المولوي الخاص من ايجاب أو تحريم.

١٣٨

واحتواء الصيغة لهذا المحتوى لم يكن لمجرد خصوصية الصيغة اذ هي لا تدلّ إلا علىٰ البعث أو الزجر اللزومي ، وهذا المقدار ينحفظ في ظل محتويات اخرى من قبيل الارشاد ونحوه مما يأتي ، وانما تعيّن مدلول الوعيد بدلالة الاقتضاء بعد أن امتنع فرض محتوى اخر للصيغة لعدم وجود مبادئه في الجهات المكتنفة بها.

وتوضيح ذلك : ان مدلول الصيغة ـ من البعث أو الزجر ـ لا معنىٰ لاعتباره بما هو هو مجرداً عن أي معنىٰ أو اعتبار آخر ، لأنّه لا يكون بذلك مثار أثر خارجاً أو عقلاءً ، فلا بُدّ له من محتوى مسانخ له كامن فيما وراء اللفظ يكون سبباً للأثر العقلائي ، وما يكون محتوى للكلام علىٰ قسمين :

أ ـ ما يتوقّف علىٰ مبادئ مسبقة غير موجودة ولا قابلة للاعتبار في متعلق الصيغة ( ومثال ذلك ) رفع توهم الحكم السابق ـ كما يراد ذلك في الامر بعد توهم الحظر ـ فانه يتوقّف علىٰ فرض توهم خارجي للحظر. ومنه الارشاد إلىٰ عدم ترتّب الاثر المطلوب علىٰ الشيء حيث يكون للشيء اثر اعتباري بطبيعته ، وهذا يتوقّف علىٰ فرض اثر اعتباري ثابت للشيء مسبقاً ، إلىٰ غير ذلك من المحتويات الآتية.

ب ـ ما يكون امراً اعتبارياً لا بُدّ من جعله من قبل الشارع وهو الوعيد علىٰ الترك المقوّم للوجوب أو الوعيد علىٰ الفعل المقوم للحرمة.

وعلى هذا فحيث لم يتواجد في هذا الموضع شيء من العوامل النفسية وغيرها مما يندرج في القسم الأَوّل ليتفاعل معه المعنىٰ حسب الفرض ، فيتعين كون المحتوى هو القسم الثاني تصحيحاً لاعتبار البعث والزجر من الحكيم.

وعلى هذا الاساس يستفاد الحكم المولوي من البعث والزجر.

وبذلك يتضّح انه لا يتجه ما اشتهر في كلمات الأَصوليين من ان

١٣٩

الاصل في الامر والنهي ان يكون مولوياً ولا يحمل علىٰ الارشاد الا بقرينة. بل الصحيح هو العكس لان حمل الأَمر والنهي علىٰ الارشاد انما يكون وفق تناسبات ثابتة بحسب طبيعة الموضوع ، فلا يحتاج كونه للارشاد إلىٰ مؤونة زائدة ، وهذا بخلاف حمله علىٰ المولوية لأنّه إنّما يكون بموجب دلالة الاقتضاء بعد فقد سائر الجهات التي ترسم للكلام محتوى إرشادياً ، فهي في طول تلك الجهات المقتضية لإرشادية الإنشاء طبعاً.

ويلاحظ هنا : أنّه لا يفرق في استفادة الحكم المولوي من الصيغة في هذا الموضع بين ان تكون صيغة الانشاء من قبيل الامر والنهي او صيغة الاخبار من النفي والاثبات ، نعم استعمال صيغة الاخبار في هذا المجال تجوز لأنّه يخالف مفاده الاستعمالي ، وانما صحّح ذلك التناسب بين الاخبار عن وجود الشيء مع التسبيب اليه بالأَمر به ـ وكذلك التناسب بين الاخبار عن الانتفاء مع التسبيب إلىٰ ذلك بالنهي عنه ـ كما اوضحناه في البحث عن مدلول الجملة الخبرية في علم الأصول.

فهذا هو المحتوى العام للكلام في هذا الموضع.

( واما محتواه الخاص ) ـ بمورد الاثبات والنفي(١) ـ فهو تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية علىٰ اختلاف مراتبها ـ لتحقيق مقتضىٰ الحكم ـ فيما كان المورد مقتضياً لمثل هذا التشريع وهذه الوسائل كاِعمال القدرة في المنع عن الحرام أو الاكراه علىٰ فعل الواجب ، ويدخل في ذلك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو بما يتضمن ايقاع الضرر علىٰ الفاعل نفساً أو مالاً مع

__________________

(١) ووجه عدم اقتضاء الامر والنهي لذلك واضح لان مفادهما بالمطابقة اعتبار طلبي أو زجري فلا دلالة لهما علىٰ اكثر من ذلك وهذا بخلاف الاثبات والنفي فان مفادهما التسبيب إلىٰ الفعل أو الترك حتىٰ كأنهما متحققان فعلاً.

فيكون الاثبات والنفي منسجماً مع تشريع الوساثل الاجرائية أكثر من الأمر والنهي.

١٤٠

ملاحظة اخف الوسائل وأنسبها.

نعم ان الوسائل الاجرائية المتخذة لحماية الحكم لا بُدّ من ان تكون جارية علىٰ وفق القوانين المجعولة في الشريعة المقدّسة في هذه المرحلة ، من قبيل كون ايقاع الضرر بالفاعل مالاً أو نفساً باذن من ولي الأَمر أو باشراف منه ـ كما ذكرناه في محلّه ـ.

٢ ـ الموضع الثاني : ان يكون مصب الحكم ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية عقلائية ويؤتى بها عادة بداعي ترتيب تلك الآثار التي يحترمها القانون ويمضيها ويحميها في مرحلة الإجراء ـ وذلك كالعقود والايقاعات.

ومحتوى الصيغة في هذا الفرض هو عدم ترتب الأَثر المزبور علىٰ المتعلق في مورد النهي والنفي ك‍ ( لا بيع الا في ملك ) و ( لا طلاق إلا لمن اراد الطلاق ) أو علىٰ غير المتعلق في مورد الأَمر والاثبات ك‍( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (١) . ولذا يكون الحكم في ذلك حكماً ارشادياً.

والعامل العام الموجب لتعيّن هذا المعنىٰ كمحتوى للصيغة ، هو التناسب الطبيعي بين الهدف والوسيلة ، وتوضيح ذلك : ان مثل هذه الطبيعة اذا كانت ذا مفسدة بنظر المشرّع فانه يكفي في تحقّق هدف الشارع من الانزجار عنها فصلها عن اثارها القانونية ، فيستوجب ذلك انزجار المكلف عن الطبيعة ، وتحديد الداعي الموجب لايجادها ، لان الرغبة في الطبيعة ـ بحسب الفرض في هذا الموضع ـ ليس باعتبارجهة تكوينية فيها تنسجم مع قوة نفسية للانسان مثلاً ـ كما في المورد الأَوّل ـ وانما هي بلحاظ أثرها القانوني ، فاذا فصلت عن الأَثر القانوني انزاح الداعي إلىٰ تحقيقها. فالغاء الأَثر القانوني هو الوسيلة المناسبة لتحقيق الهدف المزبور عادة.

__________________

(١) سورة الطلاق ٦٥ / ١.

١٤١

( نعم ) ربما لا يكفي مجرد الغاء الاثر ، لقوة الداعي إلىٰ ايجادها أو لعدم الاحتياج البالغ إلىٰ الحماية القانونية في المورد ـ كما في مورد النهي عن بيع الخمر أو النهي عن الربا فان مورد الربا من المنقولات مثلاً ولا تحتاج المعاملة فيها إلىٰ حماية قانونية ـ فيجعل الحرمة التكليفية زيادة علىٰ الفساد الوضعي.

وعلى هذا : فالتناسب المذكور هو الموجب لتعيّن محتوى الكلام في الغاء الاثر القانوني.

فهذا هو العامل الاساسي العام في هذا الموضع ، الموجّه لمحتوى الصيغة.

وهناك عامل آخر أخصّ يتواجد في مورد تحديد الموضوع فحسب ـ دون مورد النهي عن الطبيعة مطلقاً ـ وهو تفاعل الصيغة مع العامل النفسي للمأمور ، وذلك لأن مرغوبية الطبيعة في هذا المورد إنما تكون في ضوء هدف مُسبق للمكلف ، وهو الوصول إلىٰ الأَثر المطلوب كانفصام العلقة الخاصة مثلاً ـ كما في الطلاق ـ او تحققها ـ كما في الزواج ـ.

فإذا كان الاعتبار الصادر يحدّد تأثير الطبيعة ، فان هذا يرجع إلىٰ تحديد الوسيلة لتحقق الهدف المفروض فيكون الهدف المفروض كموضوع مفترض لهذا الاعتبار ، فاذا قيل ( لا طلاق الا بشاهدين ) فهو في قوة ان يقال ( اذا اردت انفصال العلقة الزوجية فلا تطلق الا بشاهدين ) فيكون الأَثر المطلوب كشرط مقدر بالنسبة إلىٰ الخطاب ، فيكون مفاد الخطاب طبعاً ارتباط الغاية المفروضة بالحدّ الخاصّ.

وهذا العامل كما قلنا انما يكون في مورد تحديد الطبيعة لا في مورد الغاء اثرها مطلقاً ، لان الغاء اثرها يرجع إلىٰ اسقاط الغاية المسبقة لا تحديد وسيلتها كما هو واضح.

١٤٢

( ويلاحظ ) : ان استعمال صيغة الأمر والنهي في هذا الموضع ليس مجازاً بل هو استعمال حقيقي لان فصل العلقة بين الطبيعة وبين الأثر المرغوب منها ينسجم مع صيغة الزجر تمام الانسجام لأنّه يوجب انزجار المكلف عن ذلك بالامكان وكلما كان المحتوى المعنوي في اللفظ يحقق للعنصر الشكلي فيه التأثير المطلوب منه المسانخ اياه فإن الاستعمال يكون حينئذٍ حقيقياً بعد تمام المحتوىٰ المزبور إذ يتأتىٰ للمتكلم حينئذٍ ان يقصد المدلول الاستعمالي بالكلام جدّاً ، وفصل العلقة في المقام مستوجب لفاعلية الزجر الانشائي ، كما أن الوعيد في النهي المولوي مستوجب لفاعلية الزجر الانشائي. وهكذا في صيغة البعث في مورد الامر بالحصة ك‍( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (١) يكون الاستعمال حقيقياً ، فان تحديد الوسيلة بعد تعلق الغرض مسبقاً باثرها نوع من البعث للشخص نحو الوسيلة المشروعة.

وبذلك يظهر : انه لا يتجه ما في كلمات جماعة من الاصوليين من اعتبار الارشاد معنىٰ مجازياً للامر والنهي ، وكان منشأ ذلك عدم التنبّه لكيفيّة تفاعل الاعتبار مع الملابسات المحيطة به علىٰ ما أوضحنا ذلك.

واما صيغة الاثبات والنفي ك‍ ( لا طلاق الا ما اريد به الطلاق ) و ( لا سبق الا في خفّ أو حافر او نصل ) و ( لا بيع الا في ملك ) ، فانه يكون من قبيل اثبات الحكم بلسان اثبات موضوعه ، أو نفيه بلسان نفيه مبالغة في ذلك ، بلحاظ ان فصل الشيء عن اثره القانوني تسبيب إلىٰ انتفائه في الخارج علىٰ ما سبق توضيحه.

٣ ـ الموضع الثالث : ان يكون مصب الحكم موضوعاً لحكم شرعي خاص من دون رغبةٍ طبيعية نحوه ـ في مورد الزجر ـ أو انزجارطبيعي عنه ـ في

__________________

(١) سورة الطلاق ٦٥ / ١.

١٤٣

مورد البعث اليه ـ ك‍ ( لا شك لكثير الشك ) و ( لا سهو للامام مع حفظ المأموم ) فان الشك في الصلاة موضوع لجملة من الاحكام.

ومحتوى الصيغة في هذا الموضع ـ حيث تكون صيغة نفي ـ ليس هو التسبيب إلىٰ عدم تحقّق الموضوع إذ لا وجه لارادة ذلك ، وانما هو عدم ترتب ذلك الحكم الشرعي بالنسبة إلىٰ الحصة الخاصة ، فان ارتباط الطبيعة في ذهن المخاطب بتلك الأَحكام ، يوجب ان يكون محتوى الكلام ناظراً لهذا الارتباط بمقتضى التفاعل الطبيعي بين الكلام وبين التصورات الذهنية للمخاطب ، فيكون مؤداه تحديد هذا الارتباط وخروج المنفي عنه.

٤ ـ الموضع الرابع : أن يكون مصب الحكم حصة خاصة من ماهية مامور بها يظنّ سعتها لهذه الحصة فيكون الداعي لاتيانها تفريغ الذمة واداء الوظيفة كما في ( لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ) و ( لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة ).

ومحتوى الصيغة في هذا الموضع هو عدم ترتب الاثر المذكور ـ وهو ـ فراغ الذمة علىٰ الاتيان بالحصة ، فيرجع إلىٰ اشتراط المتعلق بالقيد الخاصّ ، ولذا يكون الحكم حكماً ارشادياً إلىٰ الجزئية والشرطية.

وسرّ تعين هذا المعنىٰ كمحتوى للصيغة هنا عاملان ـ علىٰ غرار ما سبق في الموضع الثاني ـ :

الأَوّل : التناسب الطبيعي بين الهدف والوسيلة فانه يكفي في حصول هدف الشارع ـ وهو عدم تحقّق الحصة المذكورة تحديد الأمر بالطبيعي لتخرج هي عن المتعلق ، وذلك موجب لانزجار المكلف عنها ، لان الاتيان بها إنما يكون بقصد امتثال الأمر بالطبيعة وهو ينتفي مع تحديده بحصة خاصة.

الثاني : تفاعل الكلام مع الحالة النفسية للمخاطب ، وذلك لان باعث

١٤٤

المكلف علىٰ الاتيان بهذه الحصة هوتفريغ الذمة عن الطبيعي المأمور به ، فالنفي الملقى في هذه الحالة يتفاعل حسب التناسب مع هذا الباعث النفسي ويفيد تحديد العامل فيه وهو الأمر الشرعي بحصة معينة.

وكيفية استعمال صيغ الأمر والنهي والاثبات والنفي في هذا الموضع يماثل ما مضى في الموضع الثاني.

٥ ـ الموضع الخامس : ان يكون مصب الحكم حصة من ماهية منهي عنها يظن سعتها لهذه الحصة ، فيكون الرادع النفسي عنها هو قصد اطاعة الحكم المتعلق بالطبيعي كما في ( لا ربا بين الوالد والولد ).

ومحتوىٰ الصيغة في هذا الموضع نفي تعلق الحكم التحريمي بالحصة ، فيرجع إلىٰ تقييد متعلق الحرمة بالقيد الخاصّ ، وذلك لنظير ما تقدّم في الموضع الثالث فان ارتباط الطبيعي في ذهن المخاطب بالحكم التحريمي يوجب ان يكون محتوى الكلام ناظراً لهذا الارتباط وتحديداً للحكم التحريمي بتحديد متعلقه.

٦ ـ الموضع السادس : ان يكون مصّب الحكم طبيعة يرغب المكلف عنها أو يرغب إليها ، اما لانسجام المتعلق مع القوى النفسية والشهوية ، أو للأثر القانوني المترتب علىٰ الشيء عادة أو لاجل تفريغ الذمة وامتثال القانون ، لكنه معرض عنها لتصوّر ثبوت حكم مخالف لجهة رغبته وهذا هو الفارق بين هذا الموضع والموضع الأَوّل كما هو واضح ، سواء كان هناك حكم كذلك بالفعل ، او كان هذا التصوّر توهماً أو احتمالاً ، وقسم من هذا الموضع هو الذي يتعرض له في علم الأصول بعنوان ( الأَمر بعد الحظر ).

وفي هذا الموضع يتفاعل الكلام مع التصوّر الذهني المضاد ، فيكون محتواه نفي الحكم المتصور ، ، مع انه لولا التصور المذكور لافاد الحكم المولوي أو الحكم الارشادي ولا فرق في ذلك بين أن تكون صيغة الحكم

١٤٥

انشاءاً أو خبراً.

ففي الانشاء تتبدل الصيغة من اداة ايجابيّة بنَّاءة إلىٰ اداة هدم سلبيّة ـ حيث يكون محتواها سلب الحكم السابق فحسب ـ رغم ان عنصرها الشكلي يمثل معنىٰ ايجابياً من قبيل الطلب والزجر ، ولذلك يكون استعماله مجازياً يختلف فيه المراد التفهيمي عن المراد الاستعمالي.

لكن مصحح الاستعمال المذكور هو ان هدم الاعتبار السابق أو رفع توهمه ، يتيح المجال للعامل النفسي ويرفع العائق امام فاعليته ، فيخيل بذلك أن هذا الهدم أو الرفع هو العامل الفاعل للبعث والزجر ، وذلك من قبيل الامر بالاصطياد بعد تحريمه أوّلاً في حال الاحرام في قوله تعالىٰ :( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) (١) فانّ هذا الأَمر ليس محتواه الا رفع التحريم السابق ، دون بناء حكم ايجابي ـ كما هو مقتضىٰ مدلوله ـ الا انه صحّ استعمال صيغة البعث لان هدم التحريم السابق يستتبع الانبعاث نحو الاصطياد بفاعلية العامل الطبيعي عند الانسان نحو الصيد ، فيكون استعمال صيغة الأمر في ذلك بلحاظ استتباع محتواه الهادم للانبعاث نحوه حتىٰ كانه العامل لذلك.

واما استعمال صيغة الاخبار في هذا الموضع فهو أيضاً استعمال مجازي ، لان مفاد صيغة النفي مثلاً هو مجرد الاخبار عن نفي وجود الطبيعة خارجاً ، لا سلب وجود حكم موجب لتحقّقها خارجاً لولا هذا النفي ، لكن صحّح ذلك أن سلب الحكم وان كان في الواقع مجرد عدم تسبيب إلىٰ وجود الطبيعة ، لكن حيث تكون الطبيعة مرغوباً عنها لذاتها ـ أو غير مرغوب اليها ـ الا علىٰ تقدير ثبوت هذا الحكم كان نفي الحكم في هذا السياق بمثابة التسبيب إلىٰ عدم تحقّق الطبيعة ، وبذلك صح نفيها خارجاً نفياً تنزيلياً.

__________________

(١) سورة المائدة ٥ / ٢.

١٤٦

وذلك كما لو قيل ـ نفياً لمانعية بعض ما يحتمل مانعيته للصلاة ـ : ( لا اعادة للصلاة بكذا ) ، فان الاعادة لا يرغب اليها المكلّف بطبعه الا لطلب شرعي فحسب فلو دل الدليل علىٰ نفي الطلب الشرعي لزم من ذلك عدم تحققها عادة بفاعلية الرغبة الطبيعية عنها فصح نفيها تنزيلاً.

ثم ان هذا الموضع لا يختص بما لو كان متعلق الحكم نفسه مورداً لحكم منساق او متوهم ـ كما في مثال الاصطياد والصلاة ـ بل يعم ما لو كان متعلقه امراً مسبّباً عن الحكم السابق أو المتوهم ، وذلك كأن يقال في معرض توهم جعل الشارع لتكليف مؤدّ إلىٰ الحرج : ـ ( لا حرج في الدين ) أو ( لا تحرج نفسك ) فهنا أيضاً يتفاعل الكلام مع التوهم المذكور ويكون محتواه ومفاده ـ التفهيمي نفي جعل حكم مسبب إلىٰ الحرج. ومقطع ( لا ضرر ) من الحديث من هذا القبيل علىٰ ما يتضح قريباً.

فهذه مواضيع عامة يتغير بمقتضاها المحتوى الذي تستنبطه صيغ الحكم ومنها النفي ، وقد اتضح من خلال ذلك ان المحتويات المختلفة للنفي وغيره انما هي مرهونة بتناسبات مختلفة يتفاعل معها الكلام فترسم له علىٰ ضوئها معان مختلفة تكون محتوى له. هذا تمام الكلام عن المرحلة الأولى.

واما المرحلة الثانية : فهي من تطبيق الضابط المذكور علىٰ الحديث أو توضيح معنىٰ الحديث علىٰ ضوء ذلك :

اما المقطع الأَوّل : من الحديث وهو ( لا ضرر ) ، فهو يندرج في المورد السادس الذي ذكرناه فيفيد نفي جعل حكم ضرري وذلك علىٰ ضوء أمور ثلاثة :

١ ـ الأَوّل :

ان من الواضح جداً أن متعلق النفي في هذا المقطع ـ وهو الضرر ـ

١٤٧

ليس ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية حتىٰ يرجع نفيها إلىٰ فصلها عن آثارها ويندرج في الموضع الثاني ، ولا هو حصة من موضوع ذي حكم شرعي. او متعلق للوجوب أو للحرمة حتىٰ يراد نفي الحكم المترتب علىٰ الطبيعي فيندرج في احد المواضع المتوسطة الباقية ، فلا محالة يدور الأَمر فيه بين احتمالين :

أ ـ ان يكون ماهية مرغوباً إليها لانسجامها مع القوى الشهوية أو الغضبية ـ من قبيل الموضع الأَوّل ـ فيكون مفاد نفيه حينئذٍ التسبيب إلىٰ عدم تحقّقه بتحريمه والمنع عن ايجاده خارجاً ، فيصح حمل النفي في الحديث حينئذٍ علىٰ النهي كما هو مؤدى بعض المسالك في المقام.

ب ـ ان يكون ماهية مرغوباً عنها ، لكن النفي لرفع توهم تسبيب الشارع اليه بالزامه به بما يوجب الضيق والضرر للمكلف ، فيندرج في المورد السادس ويكون مفاد نفيه نفي التسبيب إلىٰ الضرر ، بجعل حكم ضرري نظير ( لا حرج ) كما نسب إلىٰ المشهور.

٢ ـ الثاني : ان هذين الاحتمالين يتفرعان علىٰ كون معنىٰ هيئة ( الضرر ) معنىٰ مصدرياً محتوياً للنسبة الصدورية إلىٰ الفاعل ـ أي الضارّ ـ كالاضرار والضرار ، أو معنىٰ اسم مصدري خالٍ عن هذه النسبة كالضيق والحرج والمنقصة.

فعلى الأَوّل : يمثل الضرر كالاضرار طبيعة موافقة للقوى النفسية للانسان ـ كالغضب والحقد وحب الايذاء ونحوها ـ التي يلجأ اليها الانسان كثيراً ارضاءً لنفسه. وحينئذٍ يكون مفاد لا ضرر تحريمه وتشريع ما يمنعه خارجاً.

وعلى الثاني : يكون الضرر بمعنىٰ المنقصة الواردة علىٰ المتضرّر ، وهو امر لا يتحمله الانسان بطبعه بل هو مكروه له أشد الكراهة ، وانما يتحمله

١٤٨

لو ظنّ ان الشارع حمله اياه فنفي الضرر في هذا السياق النفسي يرجع إلىٰ نفي تسبيب الشارع له دفعاً لتوهم ايجابه علىٰ المكلف وتحميله عليه.

٣ ـ الثالث : ان الصحيح هو الاحتمال الثاني ، لان الحس اللغوي لمن عرف اللغة العربية يشهد بان الضرر انما يمثل المعنىٰ نازلاً بالمتضرر لا صادراً من الفاعل ، فهو معنىٰ اسم مصدري كالمضرة والمنقصة ، وليس معنىٰ مصدرياً كالاضرار ، كما تقدّم ذكر ذلك في البحث من معنىٰ الهيئة الافرادية للكلمة.

وعلى هذا فيكون مثل هذا التركيب مثل سائر الأَمثلة المماثلة له حالاً ك‍ ( لا حرج ) ما يكون المعنىٰ المنفي عنه عملاً مرغوباً عنه للمكلف بحسب طبعه وانما يتحمله بتصور تشريع يفرضه عليه فيكون المنساق من النفي قصد نفي التشريع المتوهم أو المترقب فحسب.

وبذلك يكون مفاد ( لا ضرر ) نفي التسبيب إلىٰ الضرر لجعل حكم ضرري كما هو مسلك المشهور.

واما المقطع الثانى : من الحديث ـ وهو ( لا ضرار ) ـ فانه يندرج في الموضع الأَوّل من المواضع السابقة علىٰ ما اتضح بما ذكرناه في مورد ( لا ضرر ) آنفاً ـ لان الضرار هو الاضرار المتكرر أو المستمر ، وقد ذكرنا ان الاضرار بالغير عمل يمارسه الانسان بطبعه لأجل ارضاء الدواعي الشهوية والغضبيّة ، فاذا نهي عنه كما في جملة من الآيات(١) فهو ظاهر في النهي التحريمي زجراً للمكلفين عن هذا العمل كما هو واضح.

__________________

(١) كقوله تعالىٰ( لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ) البقرة ٢ / ٢٣٣ و( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ) البقرة ٢ / ٢٨٢( وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) الطلاق ٦٥ / ٦٧٦.

١٤٩

و اذا نفي كما في هذا الحديث فانه يدل علىٰ التسبيب إلىٰ عدم تحقّق هذا العمل وذلك من خلال ثلاثة امور.

الأَمر الأَوّل : جعل الحكم التكليفي الزاجر عن العمل وهو الحرمة.

وهذا الحكم يستبطن الوعيد علىٰ الفعل ويترتب عليه بحسب القانون الجزائي الشرعي :

أوّلاً : العذاب الاخروي في عالم الآخرة.

وثانياً : العقوبة الدنيوية بالتعزير ونحوه حسب رأىٰ وليّ الأَمر بالحدود المستفادة من الأدلة الشرعية.

وثالثاً : الضمان في موارد الاتلاف وكون الشيء المتلف ذا مالية لدىٰ العقلاء.

الأَمر الثاني : تشريع اتخاذ وسائل مانعة عن تحققه خارجاً ، وذلك من قبيل تجويز إزالة وسيلة الضرر وهدمها اذا لم يمكن منع ايقاعه إلا بذلك ، كالأمر باحراق مسجد ضرار(١) والحكم بقلع نخلة سمرة ونحو ذلك.

وهذا التشريع يرتكز علىٰ قوانين ثلاثة :

١ ـ قانون النهي عن المنكر فان للنهي مراتب متعذّدة ـ كما ذكر في الفقه ـ اخفّها النهي القولي وأقصاها الاضرار بالنفس ، وبينهما مراتب متوسطة ، ولا تصل النوبة إلىٰ مرحلة اشدّ الا بعد تعذر المرحلة السابقة عليها أو عدم تأثيرها في الكفّ عن المنكر.

٢ ـ قانون تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس. وهذا من شؤون الولاية في الأَمور العامة الثابتة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وائمة الهدى عليهم

__________________

(١) ورد ذكر في كتب التفسير في تفسير قوله تعالىٰ :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ) التوبة ٩ / ١٠٧ لاحظ مجمع البيان ط ٣ : ٧٢ ـ ٧٣.

١٥٠

السلام ، والفقهاء في عصر الغيبة إذ لا بُدّ من العدالة في حفظ النظام.

٣ ـ حماية الحكم القضائي فيما إذا كان منع الاضرار حكماً قضائياً من قبل الوالي بعد رجوع المتخاصمين اليه ـ كما في مورد قضية سمرة حيث شكا الأَنصاري دخوله في داره بلا استئذان فقضى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم جواز دخوله كذلك ، وحيث أبىٰ سمرة عن العمل بالحكم ، أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع النخلة لتنفيذ الحكم بعدم الدخول عملاً.

( ويلاحظ ) : ان ولاية اتخاذ وسيلة اجرائية لمنع الاضرار ، انما هي للحاكم الشرعي دون عامة المسلمين ، أما علىٰ القانونين الاخيرين فالامر واضح لان تحقيق العدل وحماية القضاء انما هو من وظيفة الحاكم المتصدي للحكومة والقضاء وأما علىٰ القانون الاول : فلأَنَّ المختار أن ولاية النهي عن المنكر فيما كان بالاضرار بالفاعل نفساً أو مالاً تختصّ بالحاكم الشرعي خلافاً لما افتى به جمع من الفقهاء.

( ويلاحظ أيضاً ) أن هذا الجزء من مفاد ( لا ضرار ) هو مبنى تعليل الأَمر بقلع النخلة في قضية سمرة بهذه الكبرىٰ ، وهو أمر أشكل علىٰ جمع من الفقهاء حتىٰ استند إلىٰ ذلك بعض الاعاظم في جعل النهي في الحديث حكماً سلطانيّاً ، بتصور تبريره حينئذٍ للأَمر بالقلع وهو ضعيف. وسيأتي توضيح الموضوع في التنبيه الأَوّل من تنبيهات القاعدة.

الأَمر الثالث : تشريع احكام رافعة لموضوع الاضرار من قبيل جعل حق الشفعة لرفع الشركة ، التي هي موضوع لإضرار الشريك ، أو عدم جعل ارث للزوجة في العقار لعدم الاضرار بالورثة ـ كما في الحديث(١) .

فاتضح مما ذكرناه مجموعاً : أن الحديث بجملة ( لا ضرر ) يدل على

__________________

(١) الوسائل ـ كتاب الفرائض ـ أبواب ميراث الأزواج ـ الباب ٩ ج ٢٦ : ٢٠٨ / ٣٢٨٤٢.

١٥١

نفي جعل الحكم الضرري وبجملة ( لا ضرار ) يدل علىٰ تحريم الاضرار وتشريع الصد عنه خارجاً ورفعه في بعض الموارد موضوعاً.

( ويلاحظ ) : انه ربما يعترض علىٰ تفسير ( لا ضرر ) بنفي الحكم الضرري بعلة وجوه ذكرها العلامة شيخ الشريعة في ( رسالة لا ضرر ) ، ترجيحاً لمسلك النهي في تفسير الحديث ، وسوف يأتي استعراض تلك الوجوه ونقدها في البحث عن هذا المسلك بما يتضح به جملة من الجهات التي ترتبط بهذا التفسير.

ونذكر هنا كلاماً للشيخ الأنصاري (قده) من ترجيح هذا التفسير وما ذكره العلاّمة شيخ الشريعة في تعقيبه ونقده مع تحقيق القول في ذلك تكميلاً للقول في هذا المبنى.

قال الشيخ (قده) في الرسائل بعد ذكر المعاني المحتملة في الحديث : ( والاظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنىٰ الأَوّل(١) يعني بذلك تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري.

وهذا الكلام ينحل إلىٰ دعاوٍ اربع وقعت جميعاً مورداً للانكار من قبل العلامة شيخ الشريعة فقال :

( والشواهد الأَربعة كلها منظورة فيها ممنوعة علىٰ مدعيها. اما نفس الفقرة فقد عرفت ظهورها في الحكم التكليفي. واما نظائرها فقد قدمنا عدم النظير لهذا المعنىٰ في هذا التركيب(٢) .

__________________

(١) المصدر ط رحمت الله ص ٣١٥ ، الرسائل ٢ : ٥٣٥.

(٢) قال في ص ٤١ من الرسالة ( ان المعنىٰ الثالث من نفي المسبّب وارادة السبب لم يعهد في مثل هذا التركيب ابداً وانما المعهود النهي أو نفي الكمال في ( لا صلاة لجار المسجد الا

١٥٢

واما موارد ذكرها في الروايات ففيه : انه قد اتضح عدم ذكرها في شيء من الروايات ، الا في قضية سمرة المناسب للتحريم وجداناً ، وان حديث الشفعة والناهي عن منع الفضل لا مساغ لما فيها إلا النهي التكليفي تحريماً أو تنزيهاً ، واما فهم العلماء فهو أيضاً ممنوع ، ولم نجد للمتقدمين والمتأخرين ما يعيّن انهم فهموا هذا المعنىٰ الا عن قليل نادر لا يكفي فهمهم في تعيين المعنىٰ ، وقد ذكر في حديث الدعائم تعليلاً لحرمة الترك )(١) .

ولتحقيق القول فيما ذكر ( ره ) لا بد من ملاحظة كل واحد من هذه الجهات :

اما الجهة الأولىٰ ـ من ظهور نفس الفقرة ـ فقد يشكل ما ذكره الشيخ من ظهورها في نفي الحكم الضرري وما ذكره هذا القائل من ظهورها في النهي عن الاضرار جميعاً ، بتقريب : ان نفس الفقرة بملاحظة عدم ارادة المعنىٰ الاستعمالي الظاهر منها ليس لها ظهور في حدّ ذاتها في المعنىٰ المجازي المقصود بها ، وانما ذلك رهين قرينة اخرى وذلك : لأنّه لا اشكال في ان المعنىٰ الاستعمالي الظاهر من الفقرة ـ وهو الاخبار عن نفي تحقّق الضرر خارجاً ـ ليس بمقصود بها علىٰ كل حال ، سواء فسّر المراد الجدي بنفي الحكم الضرري أو بالنهي عن الاضرار لاختلاف المدلول الاستعمالي مع هذين المعنيين بوضوح ، وحينئذٍ فيدور الأَمر بين أن يراد بها نفي التسبيب إلىٰ الضرر بجعل حكم موجب له ، أو يراد التسبيب إلىٰ عدم نفي الاضرار الذي ينتج النهي عنه ، ولا معين لشيء منهما في نفس الفقرة.

__________________

في المسجد ) ولا علم إلا مانفع و ( لا سفر إلا برفيق ) و لا كلام إلا ما أفاد وان أمكن ارجاع الثلائة إلىٰ جهة واحدة.

(١) رسالة ( لا ضرر ) ص ٤٢.

١٥٣

وبعبارة اخرى ان كلا المعنيين يشتركان في كون حمل الفقرة عليهما بحاجة إلىٰ تجوّز وعناية فالاول بحاجة إلىٰ التجوّز بارادة نفي السبب ـ وهو الحكم الضرري ـ من نفي المسبّب ـ وهو الضرر كما ان الثاني بحاجة إلىٰ التجوز في ارادة النهي الذي هو سنخ معنىٰ إنشائي من النفي الذي هو معنىٰ خبريّ. فليس ادعاء ظهور الفقرة بذاتها في احد الاحتمالين بأولى من ادعاء ظهوره في الآخر بل لا قضاء لذات الفقرة بعد عدم ارادة مدلولها الاستعمالي لشيء من المعنيين.

ولكن التحقيق : عدم ورود هذا الايراد علىٰ ما ادعاه الشيخ من ظهورها في نفي الحكم الضرري لما اوضحناه من ان طبيعة معنىٰ الضرر ـ حيث انه معنىٰ اسم مصدري ـ يجعل الفقرة ظاهرة في هذا المعنىٰ ، لأنّه يمثل معنىٰ مرغوباً عنه لا يتحمله أحد الا بتوهم تسبيب شرعي ، ومفاد النفي في مثل ذلك نفي التسبيب المتوهم ، فيكون ذلك قرينة داخلية علىٰ التجوز المذكور.

( نعم ) هذا الايراد يرد على القول بظهور الفقرة في النهي عن الاضرار مع عدم وجود قرينة عليه منها ، بل ما ذكرناه قرينة على خلافه ، فان ارادة النهي لا يناسب مع نوع الموضوع المنفي لعدم وجود علاقة بين نفي الضرر والنهي عن الاضرار شرعاً.

واما الجهة الثانية : وهي مدى تناسب معاني نظائر الفقرة مع ذلك التفسير ، فالبحث تارة في وجود مماثل لهذه الفقرة بنفس هذا المعنى. ( واخرى ) في وجود مماثل لها بخلاف هذا المعنى كمعنى النهي مثلاً.

اما الأَوّل : فقد جاء في رسالة لا ضرر للشيخ تنظير ذلك بقوله ( لا

١٥٤

حرج في الدين )(١) وذكرت هذه الجملة تنظيراً في كلام السيد الأستاذ أيضاً(٢) لكنا لم نطلع علىٰ مصدر لها ، والذي يوجد في القران الكريم هو قوله تعالىٰ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٣) وقوله( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ) (٤) وهما ليستا بنفس سياق الحديث ، فانهما كالصريح في نفي الحكم الحرجي حيث لا يحتمل فيهما ارادة النهي عن الاحراج كما هو ظاهر.

واما الثاني : فقد ذكر هذا القائل في كلام آخر له بعد ان ساق موارد كثيرة من استعمالات ( لا ) النافية للجنس من الكتاب والسنة : ( ان نظائر هذه الفقرة فيهما وفي استعمالات الفصحاء قد اريد بها النهي )(٥) وسيأتي نقل كلامه ونقده تفصيلاً في البحث عن مسلك النهي.

ونقتصر هنا علىٰ القول بأن في اعتبار تركيب آخر نظيراً لهذه الفقرة ينبغي عدم الاقتصار علىٰ ملاحظة تماثله معها في تركيب ( لا ) النافية للجنس ، لأَن التماثل بهذا المقدار تماثل شكلي محض ، وعدم وجود المماثل للفقرة شكلاً وبهذا المعنىٰ لا يكون نقطة ضعف في تفسيرها بذلك ، لأن الاختلاف بينهما في المعنىٰ ينشأ حينئذٍ عن اختلاف الخصوصيات المؤثرة في ترسيم محتوى الكلام ، فلا يقاس بعضها حينئذٍ ببعض.

بل ينبغي في مقام التنظير اعتبار توفر الخصوصيات الموجودة في هذه الفقرة فيما يدعى نظيراً لها ، بان يكون المنفي ماهية لا رغبة اليها لذاتها ،

__________________

(١) المكاسب للشيخ : ٣٧٢.

(٢) لاحظ الدراسات ص ٣٢٦ فانه قال ( كما في قضية لا حرج في الدين ).

(٣) الحج ٢٢ / ٧٨.

(٤) المائدة ٥ / ٦.

(٥) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة ص ٣٧ ـ ٣٩.

١٥٥

إلا بتصور تسبيب شرعي اليه ك‍ ( لا حرج في الدين ) لأَن هذه الجهة مؤثرة في تشكيل محتوى الكلام باعتبار تفاعل الكلام مع الحالة النفسية والذهنية للمخاطب.

فإذا اعتبر هذا المقياس في التماثل ، يعلم ان شيئاً من الموارد الكثيرة التي ذكرها هذا القائل مما يماثل هذه الفقرة ، انما تشترك معها في العنصر الشكلي فحسب حيث استخدمت في جميعها صيغة النفي.

واما الجهة الثالثة : ـ وهي مدى تناسب مواردها في الروايات مع هذا التفسير ـ : فلا بد في تحقيقها من استعراض المهم منها :

١ ـ أما قضية سمرة فما ذكر من مناسبتها مع التحريم وجداناً محل تأمّل ، وتوضيح ذلك : ان سمرة كان يرى دخوله في دار الانصاري عملاً سائغاً له باعتبار حقه في الاستطراق إلىٰ نخلته ، فان حق الاستطراق عرفاً يترتب عليه جواز الدخول مطلقاً ـ في كل زمان وحال ـ لا خصوص الدخول بالاستئذان ، فان اناطة الدخول بالاستئذان يناسب عدم الحقّ رأساً ، وقد احتج بذلك سمرة في حديثه مع الانصاري ومع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي رواية ابن بكير بعد ذكر طلب الأَنصاري من سمرة ان يستاذن اذا جاء ( فقال : لا أفعل ، هو مالي أدخل عليه ولا استأذن ، فأتىٰ الأنصاري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكى اليه وأخبره فبعث إلىٰ سمرة فجاء ، فقال له استأذن ، فأبىٰ وقال له مثل ما قال للأنصاري ) ، وفي رواية ابن مسكان ، بعد ذلك : ( فقال : لا استأذن في طريقي وهو طريقي إلىٰ عذقي ، فقال : فشكا الأنصاري إلىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل اليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاه فقال : فلان قد شكاك وزعم انك تمر عليه وعلىٰ اهله بغير اذنه فاستأذن عليه اذا اردت ان تدخل فقال : يا رسول الله استأذن في طريقي إلىٰ عذقي ؟ ).

١٥٦

وعلى هذا فلو كان المراد بالحديث مجرد النهي التكليفي لبقي استدلال سمرة بلا جواب ، لأنّه يتمسك بحقه في الاستطراق و ( لا ضرر ) يقول ( لا تضر بالانصاري ) ومن المعلوم ان النهي التكليفي عن ذلك ليس الا اعمال سلطة ، وليس جواباً عن وجه تفكيك الجواز المطلق عن حق الاستطراق.

وهذا بخلاف ما لو اريد به نفي التسبيب إلىٰ الضرر بجعل حكم ضرري ، فانه يرجع إلىٰ الجواب عن هذا الاستدلال بان الإسلام لم يمض الأَحكام العرفية متى استوجبت تفويت حقّ الآخرين والاضرار بهم ، فلا يترتب علىٰ حق الاستطراق جواز الدخول مطلقاً ولا يثبت حق الاستطراق مطلقاً بل ذلك مقيد بعدم كون الدخول ضرراً علىٰ الانصاري في حقه ـ من التعيش الحرّ في داره ـ.

وبذلك يظهر ان ( لا ضرر ) علىٰ هذا التفسير اكثر تناسباً وأوثق ارتباطاً بقضية سمرة منه علىٰ تفسيره بالنهي عن الاضرار.

٢ ـ وأما قضية الشفعة فلا شهادة فيها لأَحد المعنيين ، لا لما ذكره هذا القائل من عدم ثبوت تذييلها ب‍ ( لا ضرر ) اصلاً ، وإنما الجمع بينهما من قبل الراوي ، فانه غير تام كما سبق في الفصل الأَوّل ، وانما بملاحظة ما تقدّم هناك من أن ( لا ضرر ) فيها انما هو حكمة للتشريع فلا يرتبط بما هو مبحوث عنه من كونه بنفسه حكماً كليّاً.

وعلى اي تقدير فلا يتم ما ذكره هذا القائل من إنّه لا مساغ فيها الا للنهي التكليفي.

٣ ـ وأما قضية منع فضل الماء فهي تناسب التفسير المذكور ، لما ذكرناه في الفصل الأَوّل من انه لا يبعد ثبوت حق الشرب من الماء للآخرين سواء كان مباحاً أو مملوكاً ، فيمكن تطبيق ( لا ضرر ) فيها بعناية نفي جواز منع

١٥٧

الآخرين من الاستفادة من فضل الماء لأنّه ضرر بهم وتنقيص لحقهم وحاصله ( أن حق الحائزين علىٰ الماء ليس مطلقاً شاملاً لجواز منع الآخرين منه ).

وربما يشكل فيها أيضاً ـ كقضية الشفعة ـ بعدم ثبوت ( لا ضرر ) ذيلاً لها وقد سبق مناقشة ذلك.

٤ ـ واما حديث هدم الحائط : فلا يتعيّن كون ( لا ضرر ولا ضرار ) فيها تعليلاً لحرمة ترك الحائط بعد هدمه ، بل يمكن أن يكون بلحاظ وجود حقّ للجار في المورد ، بحيث يكون جواز هدم الجدار حكماً ضررياً بالنسبة إلىٰ الجار بملاحظة منافاته مع حقّه فيرتفع ب‍ ( لا ضرر ).

فظهر : ان ما ذكر من عدم تناسب ( لا ضرر ) بهذا التفسير مع موارد تطبيقه في الروايات ليس بتامّ بل هو بهذا التفسيرأنسب ببعضها منه بتفسيره بالنهي ـ كما في قضية سمرة ـ.

واما الجهة الرابعة : ـ وهي مدى ذهاب العلماء إلىٰ هذا الرأي في تفسير الحديث ـ فالمقصود بالعلماء اما علماء اللغة أو الفقهاء.

اما علماء اللغة : فقد ذكر هذا القائل اتفاقهم علىٰ تفسير الفقرة بالنهي ذاكراً في ذلك بعض كلماتهم وسيأتي مناقشة ذلك ، وتقييم آراء اللغويين في مثل هذا الموضوع مما يتعلق بالفقه والتشريع الإسلامي في تحقيق مسلك النهي ، حيث اعتبر هذه الجهة مؤيدة لهذا المسلك.

واما الفقهاء : فالظاهر أن اكثر فقهاء الفريقين قد فهموا من الحديث نفي الحكم الضرري كما ذكر الشيخ.

اما علماء العامة : فيكفي في تصديق ذلك عنهم ملاحظة ما نقله السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك عن ابي داود : من انه قال

١٥٨

( ان الفقه يدور على خمسة احاديث هذا احدها )(١) فإنه يبتني على تفسيره بهذا الوجه ، لأنّه حينئذٍ يكون محدّداً عاماً للادلة الدالة على الأَحكام الأولية في مختلف الأبواب وليس كذلك على تفسيره بالنهي ، كما أن تعبيره بأن الفقه يدور قد يدل على ان ذلك هو الرأي السائد لدى فقهائهم.

ويؤكد ذلك ما ذكره السيوطي في كتاب الأَشباه والنظائر حيث قال : ( اعلم أن هذه القاعدة ينبني عليها كثير من ابواب الفقه ، ومن ذلك الردّ بالعيب وجميع انواع الخيار من اختلاف الوصف المشروط والتعزير وافلاس المشتري وغير ذلك والحجر بأنواعه والشفعة لانها شرعت لدفع ضرر القسمة والقصاص والحدود والكفارات وضمان المتلف والقسمة ونصب الأئمة والقضاة ودفع العائل وقتال المشركين والبغاة وفسخ النكاح بالعيوب أو الإعسار أو غير ذلك ).

ثم قال : ( ويتعلق بهذه القاعدة قواعد : الاولى : الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها.

ومن ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة واساغة اللقمة بالخمر والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه وكذا اتلاف المال الخ )(٢) .

فان الاستدلال بها لكثير من هذه المواضع متفرع على تفسيرها بنفي الحكم الضرري كما هو واضح.

واما علماء الخاصة : فيكفي في معرفة موقفهم ملاحظة ما ذكره صاحب العناوين فيها في ذكر المقامات التي استندوا فيها إلى هذه القاعدة قال : ( ويندرج تحته لزوم دية الترس المقتول على المجاهدين وسقوط النهي عن المنكر واقامة الحدود مع عدم الأَمن ، وعدم الإجبار على القسمة مع عدم

__________________

(١) ٢ / ١٢٢.

(٢) الاشباه والنظائر ط مصر دار احياء الكتب العربية ص ٩٢ ـ ٩٣.

١٥٩

تحقّق الضرر ، وعدم لزوم اداء الشهادة كذلك وحرمة السحر والغش والتدليس ، ومشروعية التقاصّ وجواز بيع امّ الولد في مواقع التسعير على المحتكر إن أجحف ، وحرمة الاحتكار مع حاجة الناس وتفريق الأُمّ عن الولد وجواز قلع البائع زرع المشتري بعد المدة وتخير المسلم في الفسخ مع انقطاع المسلم فيه عند الحلول وتخيّر الرابح عند الكذب والخديعة ، وفي خيار التأخير وما يفسد ليومه والرؤية والغبن وعدم سقوط خيار الغبن بالخروج عن الملك وخيار العيب والتدليس )(١) إلى آخر ما ذكره مما يطول نقله.

وكثير من هذه المواضيع أيضاً يتفرع على التفسير المذكور كما هو واضح.

البحث الثاني : في استعراض المسالك الاخرى في تفسير الحديث.

ويلاحظ : أن هذه المسالك غالباً فسرت ( لا ضرر ) و ( لا ضرار ) بمعنى واحد ولم تفرّق بين الجملتين من حيث المعنى التركيبي ـ كما تقدّم ـ وإن كان محل العناية والأَهمية في الجملة الاولى كما ذكر الشيخ الأنصاري (قده) في رسالة ( لا ضرر ) بعد البحث في معنى الضرار : ( فالتباس الفرق بين الضرر والضرار لا يخلّ بما هو المقصود من الاستدلال بنفي الضرر في المسائل الشرعيّة )(٢) .

و هي مسالك خمسة :

المسلك الأول : تفسير ( لا ضرر ) بنفي الحكم الضرري وذلك بتقريب ذكره المحقق النائيني ، وتبعه عليه غير واحد(٣) وهو أن الضرر المنفي

__________________

(١) العناوين : ٩٦.

(٢) ص ٤١٨ ( طبعت مع كتبه الفقهية سنة ١٣١٢ ه‍ ).

(٣) المكاسب ( رسالة في قاعدة نفي الضرر : ٣٧٢ ).

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360