قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار16%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190901 / تحميل: 7573
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ملاحظة اخف الوسائل وأنسبها.

نعم ان الوسائل الاجرائية المتخذة لحماية الحكم لا بُدّ من ان تكون جارية علىٰ وفق القوانين المجعولة في الشريعة المقدّسة في هذه المرحلة ، من قبيل كون ايقاع الضرر بالفاعل مالاً أو نفساً باذن من ولي الأَمر أو باشراف منه ـ كما ذكرناه في محلّه ـ.

٢ ـ الموضع الثاني : ان يكون مصب الحكم ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية عقلائية ويؤتى بها عادة بداعي ترتيب تلك الآثار التي يحترمها القانون ويمضيها ويحميها في مرحلة الإجراء ـ وذلك كالعقود والايقاعات.

ومحتوى الصيغة في هذا الفرض هو عدم ترتب الأَثر المزبور علىٰ المتعلق في مورد النهي والنفي ك‍ ( لا بيع الا في ملك ) و ( لا طلاق إلا لمن اراد الطلاق ) أو علىٰ غير المتعلق في مورد الأَمر والاثبات ك‍( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (١) . ولذا يكون الحكم في ذلك حكماً ارشادياً.

والعامل العام الموجب لتعيّن هذا المعنىٰ كمحتوى للصيغة ، هو التناسب الطبيعي بين الهدف والوسيلة ، وتوضيح ذلك : ان مثل هذه الطبيعة اذا كانت ذا مفسدة بنظر المشرّع فانه يكفي في تحقّق هدف الشارع من الانزجار عنها فصلها عن اثارها القانونية ، فيستوجب ذلك انزجار المكلف عن الطبيعة ، وتحديد الداعي الموجب لايجادها ، لان الرغبة في الطبيعة ـ بحسب الفرض في هذا الموضع ـ ليس باعتبارجهة تكوينية فيها تنسجم مع قوة نفسية للانسان مثلاً ـ كما في المورد الأَوّل ـ وانما هي بلحاظ أثرها القانوني ، فاذا فصلت عن الأَثر القانوني انزاح الداعي إلىٰ تحقيقها. فالغاء الأَثر القانوني هو الوسيلة المناسبة لتحقيق الهدف المزبور عادة.

__________________

(١) سورة الطلاق ٦٥ / ١.

١٤١

( نعم ) ربما لا يكفي مجرد الغاء الاثر ، لقوة الداعي إلىٰ ايجادها أو لعدم الاحتياج البالغ إلىٰ الحماية القانونية في المورد ـ كما في مورد النهي عن بيع الخمر أو النهي عن الربا فان مورد الربا من المنقولات مثلاً ولا تحتاج المعاملة فيها إلىٰ حماية قانونية ـ فيجعل الحرمة التكليفية زيادة علىٰ الفساد الوضعي.

وعلى هذا : فالتناسب المذكور هو الموجب لتعيّن محتوى الكلام في الغاء الاثر القانوني.

فهذا هو العامل الاساسي العام في هذا الموضع ، الموجّه لمحتوى الصيغة.

وهناك عامل آخر أخصّ يتواجد في مورد تحديد الموضوع فحسب ـ دون مورد النهي عن الطبيعة مطلقاً ـ وهو تفاعل الصيغة مع العامل النفسي للمأمور ، وذلك لأن مرغوبية الطبيعة في هذا المورد إنما تكون في ضوء هدف مُسبق للمكلف ، وهو الوصول إلىٰ الأَثر المطلوب كانفصام العلقة الخاصة مثلاً ـ كما في الطلاق ـ او تحققها ـ كما في الزواج ـ.

فإذا كان الاعتبار الصادر يحدّد تأثير الطبيعة ، فان هذا يرجع إلىٰ تحديد الوسيلة لتحقق الهدف المفروض فيكون الهدف المفروض كموضوع مفترض لهذا الاعتبار ، فاذا قيل ( لا طلاق الا بشاهدين ) فهو في قوة ان يقال ( اذا اردت انفصال العلقة الزوجية فلا تطلق الا بشاهدين ) فيكون الأَثر المطلوب كشرط مقدر بالنسبة إلىٰ الخطاب ، فيكون مفاد الخطاب طبعاً ارتباط الغاية المفروضة بالحدّ الخاصّ.

وهذا العامل كما قلنا انما يكون في مورد تحديد الطبيعة لا في مورد الغاء اثرها مطلقاً ، لان الغاء اثرها يرجع إلىٰ اسقاط الغاية المسبقة لا تحديد وسيلتها كما هو واضح.

١٤٢

( ويلاحظ ) : ان استعمال صيغة الأمر والنهي في هذا الموضع ليس مجازاً بل هو استعمال حقيقي لان فصل العلقة بين الطبيعة وبين الأثر المرغوب منها ينسجم مع صيغة الزجر تمام الانسجام لأنّه يوجب انزجار المكلف عن ذلك بالامكان وكلما كان المحتوى المعنوي في اللفظ يحقق للعنصر الشكلي فيه التأثير المطلوب منه المسانخ اياه فإن الاستعمال يكون حينئذٍ حقيقياً بعد تمام المحتوىٰ المزبور إذ يتأتىٰ للمتكلم حينئذٍ ان يقصد المدلول الاستعمالي بالكلام جدّاً ، وفصل العلقة في المقام مستوجب لفاعلية الزجر الانشائي ، كما أن الوعيد في النهي المولوي مستوجب لفاعلية الزجر الانشائي. وهكذا في صيغة البعث في مورد الامر بالحصة ك‍( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (١) يكون الاستعمال حقيقياً ، فان تحديد الوسيلة بعد تعلق الغرض مسبقاً باثرها نوع من البعث للشخص نحو الوسيلة المشروعة.

وبذلك يظهر : انه لا يتجه ما في كلمات جماعة من الاصوليين من اعتبار الارشاد معنىٰ مجازياً للامر والنهي ، وكان منشأ ذلك عدم التنبّه لكيفيّة تفاعل الاعتبار مع الملابسات المحيطة به علىٰ ما أوضحنا ذلك.

واما صيغة الاثبات والنفي ك‍ ( لا طلاق الا ما اريد به الطلاق ) و ( لا سبق الا في خفّ أو حافر او نصل ) و ( لا بيع الا في ملك ) ، فانه يكون من قبيل اثبات الحكم بلسان اثبات موضوعه ، أو نفيه بلسان نفيه مبالغة في ذلك ، بلحاظ ان فصل الشيء عن اثره القانوني تسبيب إلىٰ انتفائه في الخارج علىٰ ما سبق توضيحه.

٣ ـ الموضع الثالث : ان يكون مصب الحكم موضوعاً لحكم شرعي خاص من دون رغبةٍ طبيعية نحوه ـ في مورد الزجر ـ أو انزجارطبيعي عنه ـ في

__________________

(١) سورة الطلاق ٦٥ / ١.

١٤٣

مورد البعث اليه ـ ك‍ ( لا شك لكثير الشك ) و ( لا سهو للامام مع حفظ المأموم ) فان الشك في الصلاة موضوع لجملة من الاحكام.

ومحتوى الصيغة في هذا الموضع ـ حيث تكون صيغة نفي ـ ليس هو التسبيب إلىٰ عدم تحقّق الموضوع إذ لا وجه لارادة ذلك ، وانما هو عدم ترتب ذلك الحكم الشرعي بالنسبة إلىٰ الحصة الخاصة ، فان ارتباط الطبيعة في ذهن المخاطب بتلك الأَحكام ، يوجب ان يكون محتوى الكلام ناظراً لهذا الارتباط بمقتضى التفاعل الطبيعي بين الكلام وبين التصورات الذهنية للمخاطب ، فيكون مؤداه تحديد هذا الارتباط وخروج المنفي عنه.

٤ ـ الموضع الرابع : أن يكون مصب الحكم حصة خاصة من ماهية مامور بها يظنّ سعتها لهذه الحصة فيكون الداعي لاتيانها تفريغ الذمة واداء الوظيفة كما في ( لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ) و ( لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة ).

ومحتوى الصيغة في هذا الموضع هو عدم ترتب الاثر المذكور ـ وهو ـ فراغ الذمة علىٰ الاتيان بالحصة ، فيرجع إلىٰ اشتراط المتعلق بالقيد الخاصّ ، ولذا يكون الحكم حكماً ارشادياً إلىٰ الجزئية والشرطية.

وسرّ تعين هذا المعنىٰ كمحتوى للصيغة هنا عاملان ـ علىٰ غرار ما سبق في الموضع الثاني ـ :

الأَوّل : التناسب الطبيعي بين الهدف والوسيلة فانه يكفي في حصول هدف الشارع ـ وهو عدم تحقّق الحصة المذكورة تحديد الأمر بالطبيعي لتخرج هي عن المتعلق ، وذلك موجب لانزجار المكلف عنها ، لان الاتيان بها إنما يكون بقصد امتثال الأمر بالطبيعة وهو ينتفي مع تحديده بحصة خاصة.

الثاني : تفاعل الكلام مع الحالة النفسية للمخاطب ، وذلك لان باعث

١٤٤

المكلف علىٰ الاتيان بهذه الحصة هوتفريغ الذمة عن الطبيعي المأمور به ، فالنفي الملقى في هذه الحالة يتفاعل حسب التناسب مع هذا الباعث النفسي ويفيد تحديد العامل فيه وهو الأمر الشرعي بحصة معينة.

وكيفية استعمال صيغ الأمر والنهي والاثبات والنفي في هذا الموضع يماثل ما مضى في الموضع الثاني.

٥ ـ الموضع الخامس : ان يكون مصب الحكم حصة من ماهية منهي عنها يظن سعتها لهذه الحصة ، فيكون الرادع النفسي عنها هو قصد اطاعة الحكم المتعلق بالطبيعي كما في ( لا ربا بين الوالد والولد ).

ومحتوىٰ الصيغة في هذا الموضع نفي تعلق الحكم التحريمي بالحصة ، فيرجع إلىٰ تقييد متعلق الحرمة بالقيد الخاصّ ، وذلك لنظير ما تقدّم في الموضع الثالث فان ارتباط الطبيعي في ذهن المخاطب بالحكم التحريمي يوجب ان يكون محتوى الكلام ناظراً لهذا الارتباط وتحديداً للحكم التحريمي بتحديد متعلقه.

٦ ـ الموضع السادس : ان يكون مصّب الحكم طبيعة يرغب المكلف عنها أو يرغب إليها ، اما لانسجام المتعلق مع القوى النفسية والشهوية ، أو للأثر القانوني المترتب علىٰ الشيء عادة أو لاجل تفريغ الذمة وامتثال القانون ، لكنه معرض عنها لتصوّر ثبوت حكم مخالف لجهة رغبته وهذا هو الفارق بين هذا الموضع والموضع الأَوّل كما هو واضح ، سواء كان هناك حكم كذلك بالفعل ، او كان هذا التصوّر توهماً أو احتمالاً ، وقسم من هذا الموضع هو الذي يتعرض له في علم الأصول بعنوان ( الأَمر بعد الحظر ).

وفي هذا الموضع يتفاعل الكلام مع التصوّر الذهني المضاد ، فيكون محتواه نفي الحكم المتصور ، ، مع انه لولا التصور المذكور لافاد الحكم المولوي أو الحكم الارشادي ولا فرق في ذلك بين أن تكون صيغة الحكم

١٤٥

انشاءاً أو خبراً.

ففي الانشاء تتبدل الصيغة من اداة ايجابيّة بنَّاءة إلىٰ اداة هدم سلبيّة ـ حيث يكون محتواها سلب الحكم السابق فحسب ـ رغم ان عنصرها الشكلي يمثل معنىٰ ايجابياً من قبيل الطلب والزجر ، ولذلك يكون استعماله مجازياً يختلف فيه المراد التفهيمي عن المراد الاستعمالي.

لكن مصحح الاستعمال المذكور هو ان هدم الاعتبار السابق أو رفع توهمه ، يتيح المجال للعامل النفسي ويرفع العائق امام فاعليته ، فيخيل بذلك أن هذا الهدم أو الرفع هو العامل الفاعل للبعث والزجر ، وذلك من قبيل الامر بالاصطياد بعد تحريمه أوّلاً في حال الاحرام في قوله تعالىٰ :( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) (١) فانّ هذا الأَمر ليس محتواه الا رفع التحريم السابق ، دون بناء حكم ايجابي ـ كما هو مقتضىٰ مدلوله ـ الا انه صحّ استعمال صيغة البعث لان هدم التحريم السابق يستتبع الانبعاث نحو الاصطياد بفاعلية العامل الطبيعي عند الانسان نحو الصيد ، فيكون استعمال صيغة الأمر في ذلك بلحاظ استتباع محتواه الهادم للانبعاث نحوه حتىٰ كانه العامل لذلك.

واما استعمال صيغة الاخبار في هذا الموضع فهو أيضاً استعمال مجازي ، لان مفاد صيغة النفي مثلاً هو مجرد الاخبار عن نفي وجود الطبيعة خارجاً ، لا سلب وجود حكم موجب لتحقّقها خارجاً لولا هذا النفي ، لكن صحّح ذلك أن سلب الحكم وان كان في الواقع مجرد عدم تسبيب إلىٰ وجود الطبيعة ، لكن حيث تكون الطبيعة مرغوباً عنها لذاتها ـ أو غير مرغوب اليها ـ الا علىٰ تقدير ثبوت هذا الحكم كان نفي الحكم في هذا السياق بمثابة التسبيب إلىٰ عدم تحقّق الطبيعة ، وبذلك صح نفيها خارجاً نفياً تنزيلياً.

__________________

(١) سورة المائدة ٥ / ٢.

١٤٦

وذلك كما لو قيل ـ نفياً لمانعية بعض ما يحتمل مانعيته للصلاة ـ : ( لا اعادة للصلاة بكذا ) ، فان الاعادة لا يرغب اليها المكلّف بطبعه الا لطلب شرعي فحسب فلو دل الدليل علىٰ نفي الطلب الشرعي لزم من ذلك عدم تحققها عادة بفاعلية الرغبة الطبيعية عنها فصح نفيها تنزيلاً.

ثم ان هذا الموضع لا يختص بما لو كان متعلق الحكم نفسه مورداً لحكم منساق او متوهم ـ كما في مثال الاصطياد والصلاة ـ بل يعم ما لو كان متعلقه امراً مسبّباً عن الحكم السابق أو المتوهم ، وذلك كأن يقال في معرض توهم جعل الشارع لتكليف مؤدّ إلىٰ الحرج : ـ ( لا حرج في الدين ) أو ( لا تحرج نفسك ) فهنا أيضاً يتفاعل الكلام مع التوهم المذكور ويكون محتواه ومفاده ـ التفهيمي نفي جعل حكم مسبب إلىٰ الحرج. ومقطع ( لا ضرر ) من الحديث من هذا القبيل علىٰ ما يتضح قريباً.

فهذه مواضيع عامة يتغير بمقتضاها المحتوى الذي تستنبطه صيغ الحكم ومنها النفي ، وقد اتضح من خلال ذلك ان المحتويات المختلفة للنفي وغيره انما هي مرهونة بتناسبات مختلفة يتفاعل معها الكلام فترسم له علىٰ ضوئها معان مختلفة تكون محتوى له. هذا تمام الكلام عن المرحلة الأولى.

واما المرحلة الثانية : فهي من تطبيق الضابط المذكور علىٰ الحديث أو توضيح معنىٰ الحديث علىٰ ضوء ذلك :

اما المقطع الأَوّل : من الحديث وهو ( لا ضرر ) ، فهو يندرج في المورد السادس الذي ذكرناه فيفيد نفي جعل حكم ضرري وذلك علىٰ ضوء أمور ثلاثة :

١ ـ الأَوّل :

ان من الواضح جداً أن متعلق النفي في هذا المقطع ـ وهو الضرر ـ

١٤٧

ليس ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية حتىٰ يرجع نفيها إلىٰ فصلها عن آثارها ويندرج في الموضع الثاني ، ولا هو حصة من موضوع ذي حكم شرعي. او متعلق للوجوب أو للحرمة حتىٰ يراد نفي الحكم المترتب علىٰ الطبيعي فيندرج في احد المواضع المتوسطة الباقية ، فلا محالة يدور الأَمر فيه بين احتمالين :

أ ـ ان يكون ماهية مرغوباً إليها لانسجامها مع القوى الشهوية أو الغضبية ـ من قبيل الموضع الأَوّل ـ فيكون مفاد نفيه حينئذٍ التسبيب إلىٰ عدم تحقّقه بتحريمه والمنع عن ايجاده خارجاً ، فيصح حمل النفي في الحديث حينئذٍ علىٰ النهي كما هو مؤدى بعض المسالك في المقام.

ب ـ ان يكون ماهية مرغوباً عنها ، لكن النفي لرفع توهم تسبيب الشارع اليه بالزامه به بما يوجب الضيق والضرر للمكلف ، فيندرج في المورد السادس ويكون مفاد نفيه نفي التسبيب إلىٰ الضرر ، بجعل حكم ضرري نظير ( لا حرج ) كما نسب إلىٰ المشهور.

٢ ـ الثاني : ان هذين الاحتمالين يتفرعان علىٰ كون معنىٰ هيئة ( الضرر ) معنىٰ مصدرياً محتوياً للنسبة الصدورية إلىٰ الفاعل ـ أي الضارّ ـ كالاضرار والضرار ، أو معنىٰ اسم مصدري خالٍ عن هذه النسبة كالضيق والحرج والمنقصة.

فعلى الأَوّل : يمثل الضرر كالاضرار طبيعة موافقة للقوى النفسية للانسان ـ كالغضب والحقد وحب الايذاء ونحوها ـ التي يلجأ اليها الانسان كثيراً ارضاءً لنفسه. وحينئذٍ يكون مفاد لا ضرر تحريمه وتشريع ما يمنعه خارجاً.

وعلى الثاني : يكون الضرر بمعنىٰ المنقصة الواردة علىٰ المتضرّر ، وهو امر لا يتحمله الانسان بطبعه بل هو مكروه له أشد الكراهة ، وانما يتحمله

١٤٨

لو ظنّ ان الشارع حمله اياه فنفي الضرر في هذا السياق النفسي يرجع إلىٰ نفي تسبيب الشارع له دفعاً لتوهم ايجابه علىٰ المكلف وتحميله عليه.

٣ ـ الثالث : ان الصحيح هو الاحتمال الثاني ، لان الحس اللغوي لمن عرف اللغة العربية يشهد بان الضرر انما يمثل المعنىٰ نازلاً بالمتضرر لا صادراً من الفاعل ، فهو معنىٰ اسم مصدري كالمضرة والمنقصة ، وليس معنىٰ مصدرياً كالاضرار ، كما تقدّم ذكر ذلك في البحث من معنىٰ الهيئة الافرادية للكلمة.

وعلى هذا فيكون مثل هذا التركيب مثل سائر الأَمثلة المماثلة له حالاً ك‍ ( لا حرج ) ما يكون المعنىٰ المنفي عنه عملاً مرغوباً عنه للمكلف بحسب طبعه وانما يتحمله بتصور تشريع يفرضه عليه فيكون المنساق من النفي قصد نفي التشريع المتوهم أو المترقب فحسب.

وبذلك يكون مفاد ( لا ضرر ) نفي التسبيب إلىٰ الضرر لجعل حكم ضرري كما هو مسلك المشهور.

واما المقطع الثانى : من الحديث ـ وهو ( لا ضرار ) ـ فانه يندرج في الموضع الأَوّل من المواضع السابقة علىٰ ما اتضح بما ذكرناه في مورد ( لا ضرر ) آنفاً ـ لان الضرار هو الاضرار المتكرر أو المستمر ، وقد ذكرنا ان الاضرار بالغير عمل يمارسه الانسان بطبعه لأجل ارضاء الدواعي الشهوية والغضبيّة ، فاذا نهي عنه كما في جملة من الآيات(١) فهو ظاهر في النهي التحريمي زجراً للمكلفين عن هذا العمل كما هو واضح.

__________________

(١) كقوله تعالىٰ( لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ) البقرة ٢ / ٢٣٣ و( وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ) البقرة ٢ / ٢٨٢( وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) الطلاق ٦٥ / ٦٧٦.

١٤٩

و اذا نفي كما في هذا الحديث فانه يدل علىٰ التسبيب إلىٰ عدم تحقّق هذا العمل وذلك من خلال ثلاثة امور.

الأَمر الأَوّل : جعل الحكم التكليفي الزاجر عن العمل وهو الحرمة.

وهذا الحكم يستبطن الوعيد علىٰ الفعل ويترتب عليه بحسب القانون الجزائي الشرعي :

أوّلاً : العذاب الاخروي في عالم الآخرة.

وثانياً : العقوبة الدنيوية بالتعزير ونحوه حسب رأىٰ وليّ الأَمر بالحدود المستفادة من الأدلة الشرعية.

وثالثاً : الضمان في موارد الاتلاف وكون الشيء المتلف ذا مالية لدىٰ العقلاء.

الأَمر الثاني : تشريع اتخاذ وسائل مانعة عن تحققه خارجاً ، وذلك من قبيل تجويز إزالة وسيلة الضرر وهدمها اذا لم يمكن منع ايقاعه إلا بذلك ، كالأمر باحراق مسجد ضرار(١) والحكم بقلع نخلة سمرة ونحو ذلك.

وهذا التشريع يرتكز علىٰ قوانين ثلاثة :

١ ـ قانون النهي عن المنكر فان للنهي مراتب متعذّدة ـ كما ذكر في الفقه ـ اخفّها النهي القولي وأقصاها الاضرار بالنفس ، وبينهما مراتب متوسطة ، ولا تصل النوبة إلىٰ مرحلة اشدّ الا بعد تعذر المرحلة السابقة عليها أو عدم تأثيرها في الكفّ عن المنكر.

٢ ـ قانون تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس. وهذا من شؤون الولاية في الأَمور العامة الثابتة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وائمة الهدى عليهم

__________________

(١) ورد ذكر في كتب التفسير في تفسير قوله تعالىٰ :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ) التوبة ٩ / ١٠٧ لاحظ مجمع البيان ط ٣ : ٧٢ ـ ٧٣.

١٥٠

السلام ، والفقهاء في عصر الغيبة إذ لا بُدّ من العدالة في حفظ النظام.

٣ ـ حماية الحكم القضائي فيما إذا كان منع الاضرار حكماً قضائياً من قبل الوالي بعد رجوع المتخاصمين اليه ـ كما في مورد قضية سمرة حيث شكا الأَنصاري دخوله في داره بلا استئذان فقضى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم جواز دخوله كذلك ، وحيث أبىٰ سمرة عن العمل بالحكم ، أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع النخلة لتنفيذ الحكم بعدم الدخول عملاً.

( ويلاحظ ) : ان ولاية اتخاذ وسيلة اجرائية لمنع الاضرار ، انما هي للحاكم الشرعي دون عامة المسلمين ، أما علىٰ القانونين الاخيرين فالامر واضح لان تحقيق العدل وحماية القضاء انما هو من وظيفة الحاكم المتصدي للحكومة والقضاء وأما علىٰ القانون الاول : فلأَنَّ المختار أن ولاية النهي عن المنكر فيما كان بالاضرار بالفاعل نفساً أو مالاً تختصّ بالحاكم الشرعي خلافاً لما افتى به جمع من الفقهاء.

( ويلاحظ أيضاً ) أن هذا الجزء من مفاد ( لا ضرار ) هو مبنى تعليل الأَمر بقلع النخلة في قضية سمرة بهذه الكبرىٰ ، وهو أمر أشكل علىٰ جمع من الفقهاء حتىٰ استند إلىٰ ذلك بعض الاعاظم في جعل النهي في الحديث حكماً سلطانيّاً ، بتصور تبريره حينئذٍ للأَمر بالقلع وهو ضعيف. وسيأتي توضيح الموضوع في التنبيه الأَوّل من تنبيهات القاعدة.

الأَمر الثالث : تشريع احكام رافعة لموضوع الاضرار من قبيل جعل حق الشفعة لرفع الشركة ، التي هي موضوع لإضرار الشريك ، أو عدم جعل ارث للزوجة في العقار لعدم الاضرار بالورثة ـ كما في الحديث(١) .

فاتضح مما ذكرناه مجموعاً : أن الحديث بجملة ( لا ضرر ) يدل على

__________________

(١) الوسائل ـ كتاب الفرائض ـ أبواب ميراث الأزواج ـ الباب ٩ ج ٢٦ : ٢٠٨ / ٣٢٨٤٢.

١٥١

نفي جعل الحكم الضرري وبجملة ( لا ضرار ) يدل علىٰ تحريم الاضرار وتشريع الصد عنه خارجاً ورفعه في بعض الموارد موضوعاً.

( ويلاحظ ) : انه ربما يعترض علىٰ تفسير ( لا ضرر ) بنفي الحكم الضرري بعلة وجوه ذكرها العلامة شيخ الشريعة في ( رسالة لا ضرر ) ، ترجيحاً لمسلك النهي في تفسير الحديث ، وسوف يأتي استعراض تلك الوجوه ونقدها في البحث عن هذا المسلك بما يتضح به جملة من الجهات التي ترتبط بهذا التفسير.

ونذكر هنا كلاماً للشيخ الأنصاري (قده) من ترجيح هذا التفسير وما ذكره العلاّمة شيخ الشريعة في تعقيبه ونقده مع تحقيق القول في ذلك تكميلاً للقول في هذا المبنى.

قال الشيخ (قده) في الرسائل بعد ذكر المعاني المحتملة في الحديث : ( والاظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنىٰ الأَوّل(١) يعني بذلك تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري.

وهذا الكلام ينحل إلىٰ دعاوٍ اربع وقعت جميعاً مورداً للانكار من قبل العلامة شيخ الشريعة فقال :

( والشواهد الأَربعة كلها منظورة فيها ممنوعة علىٰ مدعيها. اما نفس الفقرة فقد عرفت ظهورها في الحكم التكليفي. واما نظائرها فقد قدمنا عدم النظير لهذا المعنىٰ في هذا التركيب(٢) .

__________________

(١) المصدر ط رحمت الله ص ٣١٥ ، الرسائل ٢ : ٥٣٥.

(٢) قال في ص ٤١ من الرسالة ( ان المعنىٰ الثالث من نفي المسبّب وارادة السبب لم يعهد في مثل هذا التركيب ابداً وانما المعهود النهي أو نفي الكمال في ( لا صلاة لجار المسجد الا

١٥٢

واما موارد ذكرها في الروايات ففيه : انه قد اتضح عدم ذكرها في شيء من الروايات ، الا في قضية سمرة المناسب للتحريم وجداناً ، وان حديث الشفعة والناهي عن منع الفضل لا مساغ لما فيها إلا النهي التكليفي تحريماً أو تنزيهاً ، واما فهم العلماء فهو أيضاً ممنوع ، ولم نجد للمتقدمين والمتأخرين ما يعيّن انهم فهموا هذا المعنىٰ الا عن قليل نادر لا يكفي فهمهم في تعيين المعنىٰ ، وقد ذكر في حديث الدعائم تعليلاً لحرمة الترك )(١) .

ولتحقيق القول فيما ذكر ( ره ) لا بد من ملاحظة كل واحد من هذه الجهات :

اما الجهة الأولىٰ ـ من ظهور نفس الفقرة ـ فقد يشكل ما ذكره الشيخ من ظهورها في نفي الحكم الضرري وما ذكره هذا القائل من ظهورها في النهي عن الاضرار جميعاً ، بتقريب : ان نفس الفقرة بملاحظة عدم ارادة المعنىٰ الاستعمالي الظاهر منها ليس لها ظهور في حدّ ذاتها في المعنىٰ المجازي المقصود بها ، وانما ذلك رهين قرينة اخرى وذلك : لأنّه لا اشكال في ان المعنىٰ الاستعمالي الظاهر من الفقرة ـ وهو الاخبار عن نفي تحقّق الضرر خارجاً ـ ليس بمقصود بها علىٰ كل حال ، سواء فسّر المراد الجدي بنفي الحكم الضرري أو بالنهي عن الاضرار لاختلاف المدلول الاستعمالي مع هذين المعنيين بوضوح ، وحينئذٍ فيدور الأَمر بين أن يراد بها نفي التسبيب إلىٰ الضرر بجعل حكم موجب له ، أو يراد التسبيب إلىٰ عدم نفي الاضرار الذي ينتج النهي عنه ، ولا معين لشيء منهما في نفس الفقرة.

__________________

في المسجد ) ولا علم إلا مانفع و ( لا سفر إلا برفيق ) و لا كلام إلا ما أفاد وان أمكن ارجاع الثلائة إلىٰ جهة واحدة.

(١) رسالة ( لا ضرر ) ص ٤٢.

١٥٣

وبعبارة اخرى ان كلا المعنيين يشتركان في كون حمل الفقرة عليهما بحاجة إلىٰ تجوّز وعناية فالاول بحاجة إلىٰ التجوّز بارادة نفي السبب ـ وهو الحكم الضرري ـ من نفي المسبّب ـ وهو الضرر كما ان الثاني بحاجة إلىٰ التجوز في ارادة النهي الذي هو سنخ معنىٰ إنشائي من النفي الذي هو معنىٰ خبريّ. فليس ادعاء ظهور الفقرة بذاتها في احد الاحتمالين بأولى من ادعاء ظهوره في الآخر بل لا قضاء لذات الفقرة بعد عدم ارادة مدلولها الاستعمالي لشيء من المعنيين.

ولكن التحقيق : عدم ورود هذا الايراد علىٰ ما ادعاه الشيخ من ظهورها في نفي الحكم الضرري لما اوضحناه من ان طبيعة معنىٰ الضرر ـ حيث انه معنىٰ اسم مصدري ـ يجعل الفقرة ظاهرة في هذا المعنىٰ ، لأنّه يمثل معنىٰ مرغوباً عنه لا يتحمله أحد الا بتوهم تسبيب شرعي ، ومفاد النفي في مثل ذلك نفي التسبيب المتوهم ، فيكون ذلك قرينة داخلية علىٰ التجوز المذكور.

( نعم ) هذا الايراد يرد على القول بظهور الفقرة في النهي عن الاضرار مع عدم وجود قرينة عليه منها ، بل ما ذكرناه قرينة على خلافه ، فان ارادة النهي لا يناسب مع نوع الموضوع المنفي لعدم وجود علاقة بين نفي الضرر والنهي عن الاضرار شرعاً.

واما الجهة الثانية : وهي مدى تناسب معاني نظائر الفقرة مع ذلك التفسير ، فالبحث تارة في وجود مماثل لهذه الفقرة بنفس هذا المعنى. ( واخرى ) في وجود مماثل لها بخلاف هذا المعنى كمعنى النهي مثلاً.

اما الأَوّل : فقد جاء في رسالة لا ضرر للشيخ تنظير ذلك بقوله ( لا

١٥٤

حرج في الدين )(١) وذكرت هذه الجملة تنظيراً في كلام السيد الأستاذ أيضاً(٢) لكنا لم نطلع علىٰ مصدر لها ، والذي يوجد في القران الكريم هو قوله تعالىٰ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٣) وقوله( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ) (٤) وهما ليستا بنفس سياق الحديث ، فانهما كالصريح في نفي الحكم الحرجي حيث لا يحتمل فيهما ارادة النهي عن الاحراج كما هو ظاهر.

واما الثاني : فقد ذكر هذا القائل في كلام آخر له بعد ان ساق موارد كثيرة من استعمالات ( لا ) النافية للجنس من الكتاب والسنة : ( ان نظائر هذه الفقرة فيهما وفي استعمالات الفصحاء قد اريد بها النهي )(٥) وسيأتي نقل كلامه ونقده تفصيلاً في البحث عن مسلك النهي.

ونقتصر هنا علىٰ القول بأن في اعتبار تركيب آخر نظيراً لهذه الفقرة ينبغي عدم الاقتصار علىٰ ملاحظة تماثله معها في تركيب ( لا ) النافية للجنس ، لأَن التماثل بهذا المقدار تماثل شكلي محض ، وعدم وجود المماثل للفقرة شكلاً وبهذا المعنىٰ لا يكون نقطة ضعف في تفسيرها بذلك ، لأن الاختلاف بينهما في المعنىٰ ينشأ حينئذٍ عن اختلاف الخصوصيات المؤثرة في ترسيم محتوى الكلام ، فلا يقاس بعضها حينئذٍ ببعض.

بل ينبغي في مقام التنظير اعتبار توفر الخصوصيات الموجودة في هذه الفقرة فيما يدعى نظيراً لها ، بان يكون المنفي ماهية لا رغبة اليها لذاتها ،

__________________

(١) المكاسب للشيخ : ٣٧٢.

(٢) لاحظ الدراسات ص ٣٢٦ فانه قال ( كما في قضية لا حرج في الدين ).

(٣) الحج ٢٢ / ٧٨.

(٤) المائدة ٥ / ٦.

(٥) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة ص ٣٧ ـ ٣٩.

١٥٥

إلا بتصور تسبيب شرعي اليه ك‍ ( لا حرج في الدين ) لأَن هذه الجهة مؤثرة في تشكيل محتوى الكلام باعتبار تفاعل الكلام مع الحالة النفسية والذهنية للمخاطب.

فإذا اعتبر هذا المقياس في التماثل ، يعلم ان شيئاً من الموارد الكثيرة التي ذكرها هذا القائل مما يماثل هذه الفقرة ، انما تشترك معها في العنصر الشكلي فحسب حيث استخدمت في جميعها صيغة النفي.

واما الجهة الثالثة : ـ وهي مدى تناسب مواردها في الروايات مع هذا التفسير ـ : فلا بد في تحقيقها من استعراض المهم منها :

١ ـ أما قضية سمرة فما ذكر من مناسبتها مع التحريم وجداناً محل تأمّل ، وتوضيح ذلك : ان سمرة كان يرى دخوله في دار الانصاري عملاً سائغاً له باعتبار حقه في الاستطراق إلىٰ نخلته ، فان حق الاستطراق عرفاً يترتب عليه جواز الدخول مطلقاً ـ في كل زمان وحال ـ لا خصوص الدخول بالاستئذان ، فان اناطة الدخول بالاستئذان يناسب عدم الحقّ رأساً ، وقد احتج بذلك سمرة في حديثه مع الانصاري ومع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي رواية ابن بكير بعد ذكر طلب الأَنصاري من سمرة ان يستاذن اذا جاء ( فقال : لا أفعل ، هو مالي أدخل عليه ولا استأذن ، فأتىٰ الأنصاري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكى اليه وأخبره فبعث إلىٰ سمرة فجاء ، فقال له استأذن ، فأبىٰ وقال له مثل ما قال للأنصاري ) ، وفي رواية ابن مسكان ، بعد ذلك : ( فقال : لا استأذن في طريقي وهو طريقي إلىٰ عذقي ، فقال : فشكا الأنصاري إلىٰ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل اليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاه فقال : فلان قد شكاك وزعم انك تمر عليه وعلىٰ اهله بغير اذنه فاستأذن عليه اذا اردت ان تدخل فقال : يا رسول الله استأذن في طريقي إلىٰ عذقي ؟ ).

١٥٦

وعلى هذا فلو كان المراد بالحديث مجرد النهي التكليفي لبقي استدلال سمرة بلا جواب ، لأنّه يتمسك بحقه في الاستطراق و ( لا ضرر ) يقول ( لا تضر بالانصاري ) ومن المعلوم ان النهي التكليفي عن ذلك ليس الا اعمال سلطة ، وليس جواباً عن وجه تفكيك الجواز المطلق عن حق الاستطراق.

وهذا بخلاف ما لو اريد به نفي التسبيب إلىٰ الضرر بجعل حكم ضرري ، فانه يرجع إلىٰ الجواب عن هذا الاستدلال بان الإسلام لم يمض الأَحكام العرفية متى استوجبت تفويت حقّ الآخرين والاضرار بهم ، فلا يترتب علىٰ حق الاستطراق جواز الدخول مطلقاً ولا يثبت حق الاستطراق مطلقاً بل ذلك مقيد بعدم كون الدخول ضرراً علىٰ الانصاري في حقه ـ من التعيش الحرّ في داره ـ.

وبذلك يظهر ان ( لا ضرر ) علىٰ هذا التفسير اكثر تناسباً وأوثق ارتباطاً بقضية سمرة منه علىٰ تفسيره بالنهي عن الاضرار.

٢ ـ وأما قضية الشفعة فلا شهادة فيها لأَحد المعنيين ، لا لما ذكره هذا القائل من عدم ثبوت تذييلها ب‍ ( لا ضرر ) اصلاً ، وإنما الجمع بينهما من قبل الراوي ، فانه غير تام كما سبق في الفصل الأَوّل ، وانما بملاحظة ما تقدّم هناك من أن ( لا ضرر ) فيها انما هو حكمة للتشريع فلا يرتبط بما هو مبحوث عنه من كونه بنفسه حكماً كليّاً.

وعلى اي تقدير فلا يتم ما ذكره هذا القائل من إنّه لا مساغ فيها الا للنهي التكليفي.

٣ ـ وأما قضية منع فضل الماء فهي تناسب التفسير المذكور ، لما ذكرناه في الفصل الأَوّل من انه لا يبعد ثبوت حق الشرب من الماء للآخرين سواء كان مباحاً أو مملوكاً ، فيمكن تطبيق ( لا ضرر ) فيها بعناية نفي جواز منع

١٥٧

الآخرين من الاستفادة من فضل الماء لأنّه ضرر بهم وتنقيص لحقهم وحاصله ( أن حق الحائزين علىٰ الماء ليس مطلقاً شاملاً لجواز منع الآخرين منه ).

وربما يشكل فيها أيضاً ـ كقضية الشفعة ـ بعدم ثبوت ( لا ضرر ) ذيلاً لها وقد سبق مناقشة ذلك.

٤ ـ واما حديث هدم الحائط : فلا يتعيّن كون ( لا ضرر ولا ضرار ) فيها تعليلاً لحرمة ترك الحائط بعد هدمه ، بل يمكن أن يكون بلحاظ وجود حقّ للجار في المورد ، بحيث يكون جواز هدم الجدار حكماً ضررياً بالنسبة إلىٰ الجار بملاحظة منافاته مع حقّه فيرتفع ب‍ ( لا ضرر ).

فظهر : ان ما ذكر من عدم تناسب ( لا ضرر ) بهذا التفسير مع موارد تطبيقه في الروايات ليس بتامّ بل هو بهذا التفسيرأنسب ببعضها منه بتفسيره بالنهي ـ كما في قضية سمرة ـ.

واما الجهة الرابعة : ـ وهي مدى ذهاب العلماء إلىٰ هذا الرأي في تفسير الحديث ـ فالمقصود بالعلماء اما علماء اللغة أو الفقهاء.

اما علماء اللغة : فقد ذكر هذا القائل اتفاقهم علىٰ تفسير الفقرة بالنهي ذاكراً في ذلك بعض كلماتهم وسيأتي مناقشة ذلك ، وتقييم آراء اللغويين في مثل هذا الموضوع مما يتعلق بالفقه والتشريع الإسلامي في تحقيق مسلك النهي ، حيث اعتبر هذه الجهة مؤيدة لهذا المسلك.

واما الفقهاء : فالظاهر أن اكثر فقهاء الفريقين قد فهموا من الحديث نفي الحكم الضرري كما ذكر الشيخ.

اما علماء العامة : فيكفي في تصديق ذلك عنهم ملاحظة ما نقله السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك عن ابي داود : من انه قال

١٥٨

( ان الفقه يدور على خمسة احاديث هذا احدها )(١) فإنه يبتني على تفسيره بهذا الوجه ، لأنّه حينئذٍ يكون محدّداً عاماً للادلة الدالة على الأَحكام الأولية في مختلف الأبواب وليس كذلك على تفسيره بالنهي ، كما أن تعبيره بأن الفقه يدور قد يدل على ان ذلك هو الرأي السائد لدى فقهائهم.

ويؤكد ذلك ما ذكره السيوطي في كتاب الأَشباه والنظائر حيث قال : ( اعلم أن هذه القاعدة ينبني عليها كثير من ابواب الفقه ، ومن ذلك الردّ بالعيب وجميع انواع الخيار من اختلاف الوصف المشروط والتعزير وافلاس المشتري وغير ذلك والحجر بأنواعه والشفعة لانها شرعت لدفع ضرر القسمة والقصاص والحدود والكفارات وضمان المتلف والقسمة ونصب الأئمة والقضاة ودفع العائل وقتال المشركين والبغاة وفسخ النكاح بالعيوب أو الإعسار أو غير ذلك ).

ثم قال : ( ويتعلق بهذه القاعدة قواعد : الاولى : الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها.

ومن ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة واساغة اللقمة بالخمر والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه وكذا اتلاف المال الخ )(٢) .

فان الاستدلال بها لكثير من هذه المواضع متفرع على تفسيرها بنفي الحكم الضرري كما هو واضح.

واما علماء الخاصة : فيكفي في معرفة موقفهم ملاحظة ما ذكره صاحب العناوين فيها في ذكر المقامات التي استندوا فيها إلى هذه القاعدة قال : ( ويندرج تحته لزوم دية الترس المقتول على المجاهدين وسقوط النهي عن المنكر واقامة الحدود مع عدم الأَمن ، وعدم الإجبار على القسمة مع عدم

__________________

(١) ٢ / ١٢٢.

(٢) الاشباه والنظائر ط مصر دار احياء الكتب العربية ص ٩٢ ـ ٩٣.

١٥٩

تحقّق الضرر ، وعدم لزوم اداء الشهادة كذلك وحرمة السحر والغش والتدليس ، ومشروعية التقاصّ وجواز بيع امّ الولد في مواقع التسعير على المحتكر إن أجحف ، وحرمة الاحتكار مع حاجة الناس وتفريق الأُمّ عن الولد وجواز قلع البائع زرع المشتري بعد المدة وتخير المسلم في الفسخ مع انقطاع المسلم فيه عند الحلول وتخيّر الرابح عند الكذب والخديعة ، وفي خيار التأخير وما يفسد ليومه والرؤية والغبن وعدم سقوط خيار الغبن بالخروج عن الملك وخيار العيب والتدليس )(١) إلى آخر ما ذكره مما يطول نقله.

وكثير من هذه المواضيع أيضاً يتفرع على التفسير المذكور كما هو واضح.

البحث الثاني : في استعراض المسالك الاخرى في تفسير الحديث.

ويلاحظ : أن هذه المسالك غالباً فسرت ( لا ضرر ) و ( لا ضرار ) بمعنى واحد ولم تفرّق بين الجملتين من حيث المعنى التركيبي ـ كما تقدّم ـ وإن كان محل العناية والأَهمية في الجملة الاولى كما ذكر الشيخ الأنصاري (قده) في رسالة ( لا ضرر ) بعد البحث في معنى الضرار : ( فالتباس الفرق بين الضرر والضرار لا يخلّ بما هو المقصود من الاستدلال بنفي الضرر في المسائل الشرعيّة )(٢) .

و هي مسالك خمسة :

المسلك الأول : تفسير ( لا ضرر ) بنفي الحكم الضرري وذلك بتقريب ذكره المحقق النائيني ، وتبعه عليه غير واحد(٣) وهو أن الضرر المنفي

__________________

(١) العناوين : ٩٦.

(٢) ص ٤١٨ ( طبعت مع كتبه الفقهية سنة ١٣١٢ ه‍ ).

(٣) المكاسب ( رسالة في قاعدة نفي الضرر : ٣٧٢ ).

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الألطاف.

ويحتمل أن يراد هذا المعنى من الآية التي ذكرها الخصم.

الرابع : التيسير والتسهيل ، وبالإضلال تشديد الامتحان ، ولعلّ منه هذه الآية ، فإنّه سبحانه يضرب الأمثال المذكورة في الآية امتحانا ، فتسهل عند قوم ، وتشتدّ عند آخرين ، هذا كلّه في الهداية والإضلال.

وأمّا الختم المذكور في قوله تعالى :( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) (١) .

فالمراد به : التشبيه ، ضرورة عدم الختم حقيقة على سمعهم ، وعدم الغشاوة على أبصارهم ، فكذا على قلوبهم.

والمعنى : إنّ الكفر تمكّن من قلوبهم فصارت كالمختوم عليها ، وصاروا كمن لا يعقل ، ولا يسمع ، ولا يبصر ، كما قال تعالى :( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (٢) .

ويحتمل(٣) أن يكون الختم كناية عن ضيق قلوبهم عن النظر إلى الدلائل ، وعدم انشراح صدورهم للإسلام ، وإنّما نسبه إلى الله تعالى على الوجهين لخذلانه سبحانه لهم ، وعدم رعايته لهم بمزيد الألطاف ، لكثرة ذنوبهم ، وتتابع مناوأتهم للحقّ ، ولكن لا تزول به القدرة والاختيار ، ولذا قال سبحانه في آية أخرى :( بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) (٤) .

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٧.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٧١.

(٣) في مطبوعة طهران : ولا يحتمل.

(٤) سورة النساء ٤ : ١٥٥.

٢٦١

فاستثنى القليل وأثبت لهم الإيمان بعدما طبع على قلوبهم ؛ لأنّ لهم أفعالا حسنة تجرّهم إلى الإيمان والسعادة.

ويحتمل أن يريد :( فَلا يُؤْمِنُونَ )

إلّا إيمانا قليلا لعدم تصديقهم بكلّ ما يلزم التصديق به.

وأمّا تأويله لقوله تعالى :( أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) فتأويل بعيد ؛ لأنّ ظاهرها أنّه أحسن الخالقين الفاعلين حقيقة ، كعيسى المذكور بقوله تعالى :

( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ ) (٢) لا الخالقين بالزعم والتقدير ، بل لا يصحّ أوّل التأويلين ؛ لأنّ عبدة الأصنام لا يزعمون أنّها خالقة ، بل يرونها مقرّبة إلى الله تعالى.

وأمّا الآية التي ادّعى مناسبتها لحال العدليّة ، فخطأ ؛ لأنّ مذهبهم لا يناسب الإشراك كما عرفت(٣) ، وإنّما يناسبه مذهب من يدّعي تعدّد القدماء وتركّب الإلهية ، ويرون أنفسهم شركاء لله تعالى في صفاته الذاتية ؛ لأنّ صفاتهم كصفاته زائدة على الذات(٤) !

* * *

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٢) سورة المائدة ٥ : ١١٠.

(٣) تقدّم في ج ٢ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٤) راجع ردّ الفضل في ج ٢ / ١٧٥.

٢٦٢

الجواب عن شبه المجبّرة

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب الحادي عشر

في نسخ شبههم

إعلم أنّ الأشاعرة احتجّوا على مقالتهم بوجهين ، هما أقوى الوجوه عندهم ، يلزم منهما الخروج عن العقيدة!

ونحن نذكر ما قالوا ، ونبيّن دلالتهما على ما هو معلوم البطلان بالضرورة من دين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :

الأوّل : قالوا : لو كان العبد فاعلا لشيء ما بالقدرة والاختيار ، فإمّا أن يتمكّن من تركه أو لا

والثاني : يلزم منه الجبر ؛ لأنّ الفاعل الذي لا يتمكّن من ترك ما يفعله موجب لا مختار ، كما يصدر عن النار الإحراق ولا تتمكّن من تركه.

والأوّل إمّا أن يترجّح الفعل حالة الإيجاد ، أو لا والثاني ؛ يلزم منه ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجّح ؛ لأنّهما لمّا استويا من كلّ وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وبالنسبة إلى القادر الموجد ، كان ترجيح القادر للفعل على الترك ترجيحا للمساوي بغير مرجّح ، وإن ترجّح ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢١.

٢٦٣

فإن لم ينته إلى حدّ الوجوب ، أمكن حصول المرجوح مع تحقّق الرجحان ، وهو محال.

أمّا أوّلا ؛ فلامتناع وقوعه حالة التساوي ، فحالة المرجوحية أولى.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّه مع قيد الرجحان يمكن وقوع المرجوح ، فلنفرضه واقعا في وقت ، والراجح في آخر ، فترجيح أحد الوقتين بأحد الأمرين لا بدّ له من مرجّح غير المرجّح الأوّل ، وإلّا لزم ترجيح أحد المتساويين بغير مرجّح ، فينتهي إلى حدّ الوجوب ، وإلّا تسلسل.

وإذا امتنع وقوع الأثر إلّا مع الوجوب ـ والواجب غير مقدور ، ونقيضه ممتنع غير مقدور أيضا ـ فيلزم الجبر والإيجاب ، فلا يكون العبد مختارا(١) .

الثاني : إنّ كلّ ما يقع فإنّ الله تعالى قد علم وقوعه قبل وقوعه ، وكلّ ما لم يقع فإنّ الله قد علم في الأزل عدم وقوعه.

وما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع ، وإلّا لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا ، وهو محال.

وما علم عدم وقوعه فهو ممتنع ، إذ لو وقع انقلب علم الله تعالى جهلا ، وهو محال أيضا ، والواجب والممتنع غير مقدورين للعبد ، فيلزم الجبر(٢) .

* * *

__________________

(١) المطالب العالية من العلم الإلهي ٨ / ١١ ـ ١٢ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨١ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢١ ، المواقف : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٩ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٩ ـ ١٥١.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٨ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٨ / ١٨ ، المواقف : ٣١٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٣١ ، شرح المواقف ٨ / ١٥٥.

٢٦٤

وقال الفضل (١) :

أوّل ما ذكره من الدليلين للأشاعرة قد استدلّ به أهل المذهب ، وهو دليل صحيح بجميع مقدّماته كما ستراه واضحا إن شاء الله تعالى.

وأمّا الثاني ممّا ذكره من الدليلين فقد ذكره الإمام الرازي على سبيل النقض(٢) ، وليس هو من دلائل الأئمّة الأشاعرة ، وقد ذكر الإمام هذا النقض في شبهة فائدة التكليف والبعثة بهذا التقرير.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكروه في لزوم سقوط التكليف ، إن لزم القائل بعدم استقلال العبد في أفعاله ، فهو لازم لهم أيضا لوجوه :

الأوّل : إنّ ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا.

وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز الانقلاب.

ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته ، لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال ، فقد لزمكم في مسألة علم الله

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩١.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٨ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٨ / ١٨.

٢٦٥

تعالى بالأشياء.

قال الإمام الرازي : « ولو اجتمع جميع العقلاء لم يقدروا أن يوردوا على هذا الوجه حرفا »(١) .

وقد أجابه شارح « المواقف » كما سيرد عليك(٢) .

* * *

__________________

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٨.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

٢٦٦

وأقول :

ما نقله عن الرازي من النقض به لا ينافي الاستدلال به ، فإنّه إن تمّ دلّ على أنّ أفعال العباد جبرية ليست من آثار قدرتهم.

وقد صرّح القوشجي بأنّ الأشاعرة استدلّوا به ، كما ذكره في بحث العلم من الأعراض(١) ، عند قول نصير الدين1 في « التجريد » : « وهو تابع بمعنى أصالة موازنة في التطابق »(٢) .

والظاهر أنّ الخصم إنّما فرّ من تسميته دليلا ليكون فساده أهون على نفسه!

* * *

__________________

(١) شرح التجريد : ٣٣٥.

وقد جاء مؤدّاه في : الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦ ، تبصرة الأدلّة في أصول الدين ٢ / ٦٢٤.

وكذا جاء مؤدّاه في : المواقف وشرحها وشرح المقاصد كما مرّ آنفا في الصفحة ٢٦٤.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١٧١.

٢٦٧

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ (١) :

والجواب عن الوجهين من حيث النقض ومن حيث المعارضة

أمّا النقض ، ففي الأوّل من وجوه :

الأوّل ـ وهو الحقّ ـ : إنّ الوجوب من حيث الداعي والإرادة ، لا ينافي الإمكان في نفس الأمر ، ولا يستلزم الإيجاب وخروج القادر عن قدرته وعدم وقوع الفعل بها.

فإنّا نقول : الفعل مقدور للعبد ، يمكن وجوده منه ، ويمكن عدمه ، فإذا خلص الداعي إلى إيجاده ، وحصلت الشرائط ، وارتفعت الموانع ، وعلم القادر خلوص المصالح الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة ألبتّة ، وجب من هذه الحيثية إيجاد الفعل.

ولا يكون ذلك جبرا ولا إيجابا بالنسبة إلى القدرة والفعل لا غير.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٢.

٢٦٨

وقال الفضل (١) :

هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار ، سواء كان ممكنا في نفس الأمر أو لا.

وكلّ من لا يتمكّن من الفعل وتركه فهو غير قادر ، سواء كان منشأ عدم تمكّنه عدم الإمكان الذاتي لفعله ، أو عدم حصول الشرائط ووجود الموانع ، فما ذكره ليس بصحيح.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩٤.

٢٦٩

وأقول :

لمّا زعم الأشاعرة في أوّل الدليلين أنّ العبد إمّا أن يتمكّن من ترك ما فعله أو لا ، فإن لم يتمكّن كان موجبا لا مختارا ، ويلزم الجبر ، أجاب المصنّفرحمه‌الله : « إنّا نختار أنّه لا يتمكّن ».

قولكم : « كان موجبا لا مختارا ».

قلنا : ممنوع ؛ لأنّ عدم التمكّن من الترك إنّما هو بسبب اختيار الفعل وتمام علّته ، فلا ينفي كونه مختارا ، ولا ينافي إمكان الفعل في نفسه وتأثير قدرة العبد فيه.

وهذا معنى ما يقال : « الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ».

وأورد عليه الخصم بأنّ هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار ، ومرادنا نفي الاختيار ، وهو كلام لا محصّل له.

ولعلّه يريد أنّا ندّعي أنّ الفعل اضطراري غير اختياري ، لعدم التمكّن من تركه بعد الاختيار والإرادة المؤثّرة ، وإن لم يصر فاعله بذلك موجبا.

وفيه ـ مع أنّ دليل الأشاعرة صريح في لزوم كون الفاعل موجبا ـ يشكل بأنّ عدم التمكّن من الترك بعد الإرادة المؤثّرة لا ينفي حدوثه بالاختيار ، ولا ينافي كونه مقدورا بالذات ، وغاية ما يثبت أنّ الفعل بعد الإرادة التامّة يصير واجبا بالغير ، لا واجبا بالذات ، ولا صادرا بالجبر.

وأمّا ما زعمه من أنّ من لم يتمكّن من الفعل لعدم حصول شرائطه غير قادر عليه ، فهو ممّا لا دخل له بمطلوب الأشاعرة من أنّ الفعل الواقع

٢٧٠

من العبد مجبور عليه!

على أنّ انتفاء شرائط الفعل لا ينفي القدرة عليه ما دامت الشرائط ممكنة.

ولست أعرف كيف بنى الخصم أنّه أجاب عن كلام المصنّف ، مع إنّه سيذكر معنى كلام المصنّف بلفظ شرح « المواقف » ويبني عليه ، ولعلّ الفرق أنّه وجده في الشرح فاعتبره من غير تمييز!

* * *

٢٧١

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

الثاني : يجوز أن يترجّح الفعل ، فيوجده المؤثّر ، أو العدم فيعدمه ، ولا ينتهي الرجحان إلى الوجوب على ما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين(٢) ، فلا يلزم الجبر ولا الترجيح من غير مرجّح.

قوله : « مع ذلك الرجحان لا يمتنع النقيض ، فليفرض واقعا في وقت ، فترجيح الفعل وقت وجوده يفتقر إلى مرجّح آخر ».

قلنا : ممنوع ؛ بل الرجحان الأوّل كاف ، فلا يفتقر إلى رجحان آخر.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٢.

(٢) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢٩ ، شرح المقاصد ١ / ٤٨١ ـ ٤٨٢.

٢٧٢

وقال الفضل (١) :

لا يصحّ أن يكون المرجّح في وقت ترجيح الفعل هو المرجّح الأوّل ، ولا بدّ أن يكون هذا المرجّح غير المرجّح الأوّل ؛ لأنّ هذا المرجّح موجود عند وقوع الفعل مثلا في وقت وقوعه ، ولهذا ترجّح الفعل.

فلو كان هذا المرجّح موجودا عند عدم الفعل ، ولم يترجّح به الفعل ، فلا يكون مرجّحا ، وإذا ترجّح به الفعل فيكون حكم الوقتين مساويا.

ويلزم خلاف المفروض ؛ لأنّا فرضنا أنّ الفعل يوجد في وقت ويعدم في الآخر ، ولا بدّ من مرجّح غير المرجّح الأوّل ليترجّح به الفعل في وقت وينتهي إلى الوجوب ، وإلّا يتسلسل فيتمّ الدليل بلا ورود نقض.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩٦.

٢٧٣

وأقول :

لا يخفى أنّ عندنا مسألتين :

الأولى : إنّه هل يمكن ترجّح أحد طرفي الممكن على الآخر برجحان ناش عن ذات الممكن ، غير منته إلى حدّ الوجوب ، بحيث يجوز أنيوجد ممكن بذلك الرجحان من غير احتياج إلى فاعل ، فينسدّ باب إثبات الصانع أو لا يمكن؟

لا ريب أنّه لا يمكن ؛ لأنّ فرض إمكان الشيء يقتضي جواز وقوع الطرفين بالنظر إلى ذاته.

وفرض مرجوحية أحد الطرفين بالنظر إلى ذاته ، يقتضي امتناع وقوع المرجوح ؛ لامتناع ترجّح المرجوح بالضرورة.

ولذا قال نصير الدين1 في « التجريد » : « ولا يتصوّر الأولوية لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته »(١) .

الثانية : إنّه هل يمكن ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بمرجّح لا ينتهي إلى حدّ الوجوب ـ كما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين(٢) ونقله المصنّف عنهم ـ أو لا يمكن؟

ودليل الأشاعرة من فروع هذه المسألة ، ومبنيّ على عدم إمكان الترجيح بذلك المرجّح ، وهو ممنوع ؛ لأنّ إمكان وقوع الفعل لأجله وكفايته

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ١١٣.

(٢) راجع ما تقدّم انفا في الصفحة ٢٧٢.

٢٧٤

في الإقدام على الفعل ، لا يستلزم خروجه عن المرجوحية ، مع فرض عدم الفعل.

هذا إذا أريد بالمرجّح الأمر الداعي إلى الاختيار.

وأمّا لو أريد به المركّب منهما ومن سائر أجزاء العلّة ، كما هو المقصود في مقام ترجيح أحد طرفي الممكن ، فلا محالة يكون المرجّح موجبا ؛ ولأجله جعل المصنّف الحقّ هو الجواب الأوّل السابق.

* * *

٢٧٥

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

الثالث : لم لا يوقعه القادر مع التساوي؟ فإنّ القادر يرجّح أحد مقدوريه على الآخر ، من غير مرجّح.

وقد ذهب إلى هذا جماعة من المتكلّمين(٢) ، وتمثّلوا في ذلك بصورة وجدانية ، كالجائع يحضره رغيفان متساويان من جميع الوجوه ، فإنّه يتناول أحدهما من غير مرجّح ، ولا يمتنع من الأكل حتّى يترجّح لمرجّح ، والعطشان يحضره إناءان متساويان من جميع الوجوه ، والهارب من السبع إذا عنّ(٣) له طريقان متساويان فإنّه يسلك أحدهما ولا ينتظر حصول المرجّح.

وإذا كان هذا الحكم وجدانيا ، كيف يمكن الاستدلال على نقيضه؟!

الرابع : إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم ، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ؛ لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين(٤) ، فالمتمكّن من الفعل يخرج عن القدرة ؛ لعدم التمكّن من الترك.

وإن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين ، لزمهم وجود الضدّين دفعة

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٣.

(٢) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ١ / ١٠٨ ، شرح المقاصد ١ / ٤٨٤.

(٣) عنّ الشيء : ظهر أمامك ؛ انظر : لسان العرب ٩ / ٤٣٧ مادّة « عنن ».

(٤) تمهيد الأوائل : ٣٢٦ و ٣٣٦ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ٢٠١ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٣ ، المواقف : ١٥٣.

٢٧٦

واحدة ؛ لأنّ القدرة لا تتقدّم على المقدور عندهم(١) .

وإن فرضوا للعبد قدرة موجودة حال وجود قدرة الفعل لزمهم ، إمّا اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل.

فانظر إلى هؤلاء القوم الّذين لا يبالون في تضادّ أقوالهم وتعاندها!

* * *

__________________

(١) تمهيد الأوائل : ٣٣٦ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٩٧ ـ ١٩٨ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ١٥٢ ، المواقف : ١٥١.

٢٧٧

وقال الفضل (١) :

اتّفق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، والحكم بعد تصوّر الطرفين ، أي تصوّر الموضوع الذي هو إمكان الممكن ، وتصوّر المحمول ـ الذي هو معنى كونه محوجا إلى السبب ـ ضروري بحكم بديهة العقل بعد ملاحظة النسبة بينهما ، ولذلك يجزم به الصبيان الّذين لهم أدنى تمييز

ألا ترى إلى كفّتي الميزان إذا تساوتا لذاتيهما ، وقال قائل : ترجّحت إحداهما على الأخرى بلا مرجّح من خارج ، لم يقبله صبي مميّز ، وعلم بطلانه بديهة.

فالحكم بأنّ أحد المتساويين لا يترجّح على الآخر إلّا بمرجّح مجزوم به عنده بلا نظر وكسب ، بل الحكم مركوز في طباع البهائم ، ولذا تراها تنفر من صوت الخشب(٢) .

وما ذكر من الأمثلة ، كالجائع في اختيار أحد الرغيفين وغيره ، فإنّه لمّا خالف الحكم البديهي ، يجب أن يكون هناك مرجّح لا يعلمه الجائع ، والعلم بوجود المرجّح من القادر غير لازم ، بل اللازم وجود المرجّح.

وأمّا دعوى كونه وجدانيا مع اتّفاق العقلاء بأنّ خلافه بديهي ، دعوى باطلة كسائر دعاويه ؛ والله أعلم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٩٩.

(٢) انظر : شرح المواقف ٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

٢٧٨

وأمّا قوله في الوجه الرابع : « إنّ هذا الدليل ينافي مذهبهم ، فلا يصحّ لهم الاحتجاج به ؛ لأنّ مذهبهم أنّ القدرة لا تصلح للضدّين » إلى آخره.

فنقول في جوابه : عدم صلاحية القدرة للضدّين لا يمنع صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة ، فإنّ المراد من الاحتجاج نفي الاختيار عن العبد ، وإثبات أنّ الفعل واجب الصدور عنه ، وليس له التمكّن من الترك ، وذلك يوجب نفي الاختيار.

فإذا كان المذهب أنّ القدرة لا تصلح للضدّين ، وبلغ الفعل حدّ الوجوب لوجود المرجّح الموجب ، لم يكن العبد قادرا على الترك ، فيكون موجبا لا مختارا ، وهذا هو المطلوب

فكيف يقول : إنّ كون القدرة غير صالحة للضدّين يوجب عدم صحّة الاحتجاج بهذه الحجّة؟!

فعلم أنّه من جهله وكودنيّته لا يفرّق بين ما هو مؤيّد للحجّة وما هو مناف لها!

ثمّ ما ذكر أنّهم [ إن ](١) خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدين ، لزمهم إمّا اجتماع الضدّين ، أو تقدّم القدرة على الفعل ؛ فهذا شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا.

والأشاعرة إنّما نفوا هذا المذهب وقالوا : إنّ القدرة لا تصلح للضدّين(٢) ؛ لأنّ القدرة عندهم مع الفعل(٣) ، فيجب أن لا يكون صالحا

__________________

(١) أثبتناه من « إبطال نهج الباطل ».

(٢) راجع تخريجه المارّ آنفا في الصفحة ٢٧٦ ه‍ ٤.

(٣) راجع تخريجه المارّ آنفا في الصفحة ٢٧٧ ه‍ ١.

٢٧٩

للضدّين ، وإلّا لزم اجتماع الضدّين!

أنظروا معاشر المسلمين إلى هذا السارق الحلّي ، الذي اعتاد سرقة الحطب من شاطئ الفرات ، حسب أنّ هذا الكلام حطب يسرق! كيف أتى بالدليل وجعله اعتراضا! والحمد لله الذي فضحه في آخر الزمان ، وأظهر جهله وتعصّبه على أهل الإيمان.

* * *

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360