قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار38%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190519 / تحميل: 7533
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

فهذا إن دلَّ على شيء فإنَّه يدل على أنَّه لا أقلَّ كتب شروح بعض الأدعية ولكن لم تصل إلينا ، وإلّا فما معنى نقله لما قدمه هناك.

نرجو العلي القدير أن يوفقنا للعثورعلى بقية هذا الشرح القيّم انه سميع مجيب.

وأمَّا الشرح فهو غني عن التعريف لما سوف تلمسه فيه مما أبدع فيه المؤلف من تطعيمه بشتى البحوث الفلسفية والطبيعية ، والكلامية ، وبحوث الهيئةوالنجوم ، وغيرها.

ولا غرابة فالمؤلف هو من عكف على آرائه الرياضية والنجومية علماء الشرق والغرب ، ولا زالوا ولم يتمكنوا من الوصول إلى حل قسم من مسائله.

ونظرا لأهمّيّة الكتاب فقد اعتمده جمع ممّن تأخر عنه ، منهم صاحب الرياض في شرحه للدعاء الثالث والأربعين من رياضه المتقدم.

ومنهم شيخ الإسلام العلّامة المجلسي كأحد مصادر كتابه « بحار الأنوار » وأورد أغلبه فيه ، اُنظر بحار الأنوار ٥٨ / ١٧٨ ـ ١٩٩ و ٢٩١ ـ ٢٩٣.

* * *

٢١

ترْجَمة المؤَلّف

اسمه ونسبه

هو : الفقيه المحقق ، والحكيم المتألّه ، والعارف البارع ، والمؤلف المبدع ، والبحاثة المكثر المُجيد ، والأديب الشاعر ، والضلّيع في الفنون بأَسرها ، نابغة الامة الاسلامية في عصره :

الشيخ أبو الفضائل محمد بن الحسين بن عبد الصمد بن محمّد بن علي بن الحسن بن محمد بن صالح بن إسماعيل الحارثي الهَمْداني العاملي الجبعي.

نعم ، هوحارثي هَمْداني ، إذن هو من بيت المجد والشرف والولاء للعترة الطاهرة ، منذ عهد جدّه الأعلى الحارث بن عبد الله الأعور الهَمْداني(١) ، الذي بشّره أميرالمؤمنينعليه‌السلام  عند وفاته بنتيجة عقيدته الصحيحة به ، وولائه المخلص له.

وصحة هذا النسب الطاهر مما تسالم عليه جميع من ترجم له ، أو لوالده ،

________________________

(١) الحارث بن عبدالله الاعور ، عدّ في الأولياء من أصحاب أميرالمومنينعليه‌السلام  ، روى القرطبي في تفسيره الجامع ، باب ذكرجمل من فضائل القران ج ١ : ٥ ما لفظه وكفاه : الحارث : رماه الشعبيّ بالكذب ، وليس بشيء ولم يبن من الحارث كذب ، وإنّما نقم عليه إفراطه في حبّ علي وتفضيله له على غيره ، ومن هاهنا والله أعلم كذّبه الشعبي.

وهذا ديدنهم في كلّ من أحب علياً وآل علي.

ترجم له في تنقيح المقال ١ : ٢٤٥ ت ٢١٠٨ / رجال البرقي : ٤ / اختيار معرفة الرجال ١٨ ت ١٤٢١٤٣ وسير أعلام النبلاء ٤ : ١٥٢ / ت ٥٤ / تهذيب الكمال ٥ : ٥ : ٢٤٤ ت١٠٢٥. وغيرها كثير.

٢٢

وكما صرّح به جمع من أعلام الاُمة وأساطين الطائفة ممن عاصرها ، ومن تأخر عنهما في إجازاتهم(١) ، وقد عد منهم صاحب الغديرقدس‌سره عشرين علماً(٢) .

وأشاد به نظماً جمع ، منهم الشيخ جعفر الخطّي البحراني(٣) في قصيدة منها :

فيابن الاُولى أثنى الوصيّ عليهم

بماليس تثني وجهه يد إنكار(٤)

يلتقي نسبه الشريف مع نسب علم من أعلام القرن الجامع بين ، العلم والأدب ، والناشر لألوية الحديث ، الشيخ تقي الدين إبراهيم بن الشيخ علي الكفعمي ، مؤلف المصباح ، والبلد الأمين ، وشرح الصحيفة ، ومحاسبة النفس ، الى غيرها.

وذلك أن الشيخ البهائي حفيد أخ الشيخ الكفعمي واليك مخططاً يوضح هذا :

________________________

(١) انظر البحارقسم الإجازات ج ١٠٥ : ١٤٦ و ١٠٧ : ١٤ و ٣٢ و ٣٨ وغيرها.

(٢) الغدير ١١ : ٢١٩ ، ضمن ترجمة والد الشيخ البهائي.

(٣) أبو الحر جعفر بن محمد بن علي بن ناصر بن عبد الامام الخطّي البحراني ينتهي نسبه الى عدنان عالم غلب عليه الادب والشعر فكان من الادباء الكاملين والشعراء المفلقين له إجازة من الشيخ البهائي وله ديوان شعر وغيره مات سنه ١٢٠٨ هـ ، له ترجمة في امل الآمل ٢ / ٥٤ ت ١٣٩ ، سلافة العصر٥٢٤ ، انوار البدرين : ٢٨٨ ت ٤ رياض العلماء ١ / ١١١ ، الروضة النضرة : ١١٣ ، نجوم السماء ١ / ٧٩.

(٤) اُنظر : الغدير ١١ : ٢٢١ / لؤلؤة البحرين : ١٦ ت ٥.

٢٣

٢٤

إذن فالشيخ البهائي محمد بن الحسين بن عبد الصمد بن محمد أخ الشيخ إبراهيم الكفعمي.

هذا نسبه يصفه هوبنفسه قائلا : « إنّ آباءنا وأَجدادنا في جبل عامل كانوا دائماً مشتغلين بالعلم والعبادة والزهد ، وهم أصحاب كرامات ومقامات ».

في هذه البيئة ، ومن هذا البيت العلمي ورث المجد والسؤدد ، ومن هكذا محيط خرج الى الدنيا ، وليس بمنكرما للمحيط من أثر.

ولادته

تاريخها ومكانها

تاريخها :

اختلف المؤرخون فيها :

فمن ذاهب الى أنّها كانت عند المغرب يوم الخميس لثلاث عشر بقين من المحرم سنة ٩٥٣ ، واليه مال الشيخ البحراني وجمع(١) .

ومن ذاهب الى أنها كانت عند غروب شمس يوم الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة(٢) .

ومن ذاهب ـ كالافندي وجمع ـ الى أنّها كانت « عند غروب الشمس يوم الاربعاء ١٧ ذي الحجة سنة ٩٥٣ »(٣) وذلك استناداً الى نص وجده بخط الشيخ البهائي على نسخة من إرشاد العلّامة الحلي حكاه عن خط والده حيث سجل فيه مواليد ووفيات جمع من الاُسرة.

وهناك من مال الى أَنها كانت سنة ٩٥١ ولم أجد من أيّده على ذلك ولعلها تصحيف ٩٥٣(٤) .

________________________

(١) لؤلؤة البحرين : ٢٢.

(٢) سلافة العصر : ٢٩٠ / خلاصة الأثر ٣ : ٤٤٠ / الحدائق النديّة : ٣ ، ٤٥.

(٣) رياض العلماء ٢ : ١١٠.

(٤) رياض العلماء٥ : ٩٧.

٢٥

ولهذا فقد ضبطها الشيخ القمي في هديته وكناه بقوله : ظنج.

وبناءً على نقل الشيخ المجلسي الاول فيكون مولده اما سنة ٩٤٨ أو ٩٤٩(١) .

وأما محلّها :

فالذي يستفاد من بعض سوانحه(٢) ، وبعض النصوص أَنّها كانت فيموطنه الأَصلّي بعلبك من جبل عامل.

وهو الحق في المقام.

وما ذهب اليه الطالوي في سانحاته من أنّها في قزوين(٣) .

والصنعائي من أنّها في أصفهان(٤) .

وأحمد رفعت(٥) ، وسامي باشا(٦) ، وقدري طوقان(٧) من أنها في آمل المازندرانية أو الخراسانية الى غير ذلك.

فهو مما لا شاهد له ولا دليل عليه ، اللهم إلّا التشابه اللفظي بين آمل وعامل.

* * *

________________________

(١) انظر روضة المتّقين ١٤ : ٤٣٥.

(٢) انظر الكشكول ١ : ٢١٣.

(٣) سانحات دمى العصر ٢ : ١٢٨.

(٤) نسمة السحر ٢ : ٢٥٥.

(٥) لغات تاريخية ٦ : ٢٠٠.

(٦) قاموس الاعلام ٢ : ١٤١١.

(٧) تراث العرب العلمي : ٤٧٤.

٢٦

أساتذته ومشايخه

« إنّ رحلات شيخنا البهائيّ لاقتناء العلوم ردحا من عمره ، وأسفاره البعيدة الى حواضر العالم الاسلامي حينذاك دون ضالّته المنشودة ، وتجوله دهراً في المدن والأمصار وراء اُمنيته الوحيدة ، واجتماعه في تلكم الحواضر مع أساطين الدين ، وعباقرة المذهب ، وأعلام الاُمّة ، وأساتذة كل علم وفنّ ، ونوابع الفواضل والفضائل.

تستدعي كثرة مشايخه في الأخذ والقراءة والرواية غير أنّ المذكور منهم في غضون المعاجم »(١) قلة لاتناسب ما سنعرف عن سياحته وتنقلاته وهم :

١ ـ والده المقدّس الشيخ حسين بن عبد الصمد بن محمّد ، صاحب النفس الطاهرة الزكية ، والهمّة الباهرة العليّة ، كان عالماً ماهراً ، محققاً متبحراً ، جامعاً أديباً منشأ شاعراً ، عظيم الشأن ، جليل القدر ، ثقةً ، من فضلاء تلامذة الشهيد الثانيقدس‌سره .

توفيقدس‌سره سنة ٩٨٤ ثامن ربيع الأول ، في المصلّى من قرى هجر من بلاد البحرين ، عن عمربلغ ٦٦ سنه ، حيث كانت ولادته سنة ٩١٨ في غرة محرم الحرا م(٢) .

وقد قرأ عليه ابنه ـ الشيخ البهائي ـ العلوم العربية والحديث والتفسير ، وروى عنه قراءةً وسماعاً واجازة لجميع ما للإجازة فيه مدخل من سائر العلوم العقلية والنقلية ، بحق روايته عن شيخنا الإمام قدوة المحققين الشهيد الثاني

________________________

(١) الغدير ١١ : ٢٥٠.

(٢) ترجم له جمع منهم : البحراني في لؤلؤته : ٣٣ رقم ٦ / وألأميني في الغدير ١١ : ٢١٨ / والبغدادي في هديته ٢ : ٢٧٣ / والأفندي في رياضه ٢ : ١٠٨ / والحرّفي أمله ١ : ٧٤ رقم ٦٧ / والخوانساري فيروضاته ٢ : ٣٣٨ رقم ٢١٧ / والمامقاني في تنقيحه ١ : ٣٣٢ رقم ٢٩٤٨ / والقمي في سفينته ١ : ٢٧٢ ، وكناه ٢ : ١٠٢ ، وفوائده الرضوية : ١٣٨ / والشيخ النوري في خاتمة مستدركه ٣ : ٤٢١ / والسيد الأمين في أعيانه ٦ : ٥٦.

٢٧

طاب ثراه(١) .

٢ ـ الفقيه المحقق ، والمحدّث المتكلم ، الشيخ عبد العالي بن الشيخ علي بن عبد العالي العاملي الكركي ، نجل صاحب جامع المقاصد ، المولود سنة ٩٢٦ ، والمتوفى ٩٩٣ باصفهان ، ونقل منها بعد ثلاثين سنة ودفن في المشهد الرضوي على من حلّ فيه آلاف التحية والثناء(٢) .

٣ ـ محمّد بن محمّد بن محمّد بن أبي اللطف بن علي بن منصور المقدسي الشافعي الأشعري العلوي ، المولود سنة ٩٤٠ ، برع وهوشاب حتى فُضّل وقدم على من هو أسنّ منه حتى على أخويه ، وصار مفتياً للقدس الشريف على المذهب الشافعي ، مات سنة ٩٩٣(٣) .

وقد أَجاز الشيخ البهائي بإجازة مؤرخة سنة ٩٩٢ في شهرجمادى الأُولى منه(٤) .

ومن لطيف الأسانيد والطرق طريق الشيخ البهائي لرواية صحيح البخاري عن مؤلفه ، وهم ثلاثة عشر شيخاً جميعهم من المسمين بمحمّد ، إليك السند ـ مع حذف الألقاب والاقتصار على الإسم فقط ـ مع تتمته للشيخ البحراني :

.. الشيخ محمّد بن يوسف بن كنبار ، عن الشيخ محمّد بن ماجد البحراني ، عن الشيخ محمّد باقر المجلسي صاحب البحار ، عن أبيه الشيخ محمّد تقي المجلسي ، عن الشيخ محمّد بن الحسين البهائي ، عن محمّد بن محمّد بن محمّد أبي اللطف المقدسي ، عن أبيه محمّد بن محمّد ، عن شيخه محمّد بن ابي الشريف المقدسي ، عن محمّد بن أبي بكر ، عن محمّد المراغي ، عن محمّد بن إسماعيل القرشيدي ، عن السيّد محمّد بن سيف الدين قليج بن كيكذي العلائي ، عن محمّد ابن مسلم بن محمّد بن مالك الحنبلي ، عن أبي محمّد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد

________________________

(١) أعيان الشيعة ٩ : ٢٤٣.

(٢) له ترجمة في الأمل ١ : ١١٠ رقم ١٠٠ / ونقد الرجال : ١٨٨ رقم ١ / عالم آرا ١ : ١٥٤ / وأعيان الشيعه ٨ : ١٧ / ورياض العلماء ٣ : ١٣١ / وتكملة الأمل : ٢٦٥ رقم ٢٣٢ / واحياء الداثر : ١٢٢.

(٣) له ترجمة في شذرات الذهب ٨ : ٤٣١ / والكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة ١ : ٧.

(٤) بحار الأنوار ١٠٦ : ٩٧ رقم ٦٩.

٢٨

المقدسي ، عن محمّد بن عبد الواحد البزاز ، عن محمد بن أحمد حمدان ، عن محمّد ابن اليتيم ، عن محمّد بن يوسف الفريري ، عن محمّد بن إسماعيل البخاري بكتابهالمذكور ، وجميع مصنفاته.

٤ ـ الشيخ الفاضل الكامل المنطقي المولى عبدالله بن الحسين اليزدي الشهابادي المتوفى سنة ٩٨١(١) في اصفهان ، كان علّامة زمانه ، جليل القدر ، عالي المنزلة ، له مؤلفات منها : الحاشية على تهذيب المنطق للتفتازاني ، وحاشية على الأستبصار.

تلّمذ عليه جمع منهم صاحب المعالم ، والمدارك ، وشيخنا المؤلّف ، حيث أخذ عنه الحكمة والكلام وبعض المنقول.

٥ ـ المولى علي المذهب المدرس ، تلمّذ عليه في الرياضيات(٢) .

٦ ـ القاضي المولى أفضل القايني(٣) .

٧ ـ الشيخ أحمد الكجائي الكَهدمي الكَيلاني النُهْمَني(٤) ، المعروف بپير أحمد ، قرأ عليه في قزوين(٥) الرياضيات والحكمة ‎.

٨ ـ النطاسي المحنّك عماد الدين محمد بن مسعود الشيرازي ، قرأ عليه

________________________

(١) ترجم له كل من القمي في فوائده : ٢٤٩ : وسفينته ٢ : ١٣٢ / والحرّ في أمله ٢ : ١٦٠ ت ٤٦٥ / والأفندي في رياضه ٣ : ١٩١ / وروملوفي أحسن التواريخ : ١٢ : ٤٥٨ / والمدني في سلافته ٤٩٠ / وشيخ الذريعة في إحياء الداثر : ١٣٥ / والذريعة ٦ : ٥٣ ت ٢٦٨ / وكحّالة في معجم المؤلفين ٦ : ٤٩ / والمحبي في خلاصته ٣ : ٤٠ / والخوانساري في روضاته ٤ : ٢٢٨ رقم ٣٨٦ / والبغدادي في هديته ٤٧٣١.

هذا ويذهب البعض إلى أنّ وفاته كانت سنة ١٠١٥ منهم المحبي والبغدادي وانظر ماضي النجف وحاضره ٣ : ٣٨٣ حيث ترجم له ولمجموعة من ذريته.

(٢) عالم آرا ١ : ١٥٦.

(٣) عالم آرا ١ : ١٥٦ / إحياء الداثر : ٢٣.

(٤) قال شيخ الذريعة : إن كجاء قد تسمى ( نه مَنِيهَ ) لأن بها قراناً كبيراً مشهوراً بـ( نه من ) ، حيث كان وزنه تسعه أمنان ، بخط كوفي جلّي ، على جلد ظبي ، يقال أنّه بخط أميرالمؤمنينعليه‌السلام . انظر الروضة النضرة : ٣٤

(٥) له ترجمة في الروضة النضرة : ٣٤ / انظر الذريعة ١ : ٥١٩ ت ٢٥٣٣ ، ٥ : ١٣٩ ت ٥٧٨.

٢٩

الطب(١) .

٩ ـ الشيخ عمر العرضي ، أفاد منه في حلب(١) .

١٠ ـ الشيخ محمد بن محمد بن أبي الحسن علي بن محمد البكري ، اجتمع معه في مصر ، وحضر دروسه في الأزهر. المتوفى سنة ٩٩٣ هـ(٢) ، له : شرح مختصرأبي شجاع ، وديوان شعر(٣) .

١١ ـ محمد باقر بن زين العابدين اليزدي المتوفى حدود ١٠٥٦ ، كان من أعاظم الرياضيين ، له : عيون الحساب ، مطالع الأنوارفي الهيئة ، وغيرها(٤) .

ومما لاشك فيه أنّ هذا العدد المذكور من أساتذته وشيوخه لايلائم تلك السياحة التي أخذت من عمره أكثر من الثلث ، بل ومشابهته لفنون عدّة حتى الف في أغلبها الكتب.

ولكن ما الحيلة وهذا هو المحفوظ والذي عثرنا عليه منهم.

________________________

(١) ترجم له كلا من صاحب عالم آرا ١ : ١٦٨ وكذلك في ضمن ترجمة البهائي ١ : ١٥٦ / وإحياء الداثر : ٢٤٠ / والذريعة ٢ : ٢٦٢ ت ١٠٧١ ، ١١ : ١٣٣ ت ٨٣٠ ، ١٦٨ت ١٠٥٤ ، ١٨ : ١٩١ ت ١٣٥٩ و ٢١ : ٢٥٨ ت ٤٩٢٥.

(٢) عمربن عبدالوهاب بن ابراهيم العرضي الحلبي ألشافعي ، مفتي حلب ومحدّثها ، له : شرح الشفا للقاضي. واسمه فتح الغفار ، ذيل تاريخ ابن الحنبلي ، الدّر الثمين وغيرها.

مات سنة ١٠٢٤ هـ ١٦١٥ م.

خلاصة الأثر ٣ : ٢١٥ / ريحانة الألبا ١ : ٢٧٩ رقم ٤١ / كشف الظنون : ١٠٥٤ / هدية العارفين ١ : ٧٩٦ / معجم المؤلفين ٧ : ٢٩٦ وغيرها.

(٣) ترجم له الحنبلي في شذراته ٨ : ٤٣١ / والعبدروسي في نوره السافر ٢ : ٣٦٩ / والخفاجي في ريحانته٢ : ٢٢٠ ت ١٤٩ وانظر هامشه / والمحبي في خلاصته ١ : ١٤٥ / والمدني في سلافته : ٤٠٠.

(٤) من لطيف شعره :

قد بلينا بأمير

ظلم الناس وسبح

فهو كالجزار فيهم

يذكر الله ويذبح

 (٥) الروضة النضرة : ٧٥ / الذريعة ١٥ : ٣٨٧ ت ٢٣٧٦

٣٠

تلامذته

إنّ التأريخ حفظ لنا أسماء جمّ غفير ممن أخذ عن الشيخ المصنف علوم الدين ، والفلسفة والأدب من العلماء الأفذاذ ، ومن استجاز عنه للرواية.

وقد تجمع لدينا منهم عدد كبير ، أرجأنا تعدادهم الى موعد قريب. إن شاء الله(١) .

رحلاته

كانت رحلته الاُولى مع والده من مسقط رأسه إلى إيران ، وفيها تعلم الفارسية واتقنها حتى كأنّه ابن بجدتها ، درس وتعلم في حاضرتي العلم قزوين واصفهان على أبيه وغيره ممن مرّ من أساتذته ، وارتقى الى أوج الكمال ، وفي هذه الأثناء اقترن بزوجة صالحة فاضلة هي كريمة الشيخ العالم العامل شيخ الإسلام في الديار الإيرانية في حينه الشيخ زين الدين علي منشار العاملي(٢) .

ولمّا كانت وحيدة أبيها ، اذ لم يعقب غيرها ، فقد آلت اليها ـ واليه لا محالة ـ تركة أبيها ، ومنها مكتبته العامرة.

حيث كانت للشيخ المنشار مكتبة عظيمة كبيرة تربو على أربعة آلاف كتاب ، جلب أغلبها من الديار الهندية ، إذ كان قاطناً فيها فترة من الزمن(٣) .

فكانا ينتفعان منها وينهلان منها نميراً صافياً.

وعلى أية حال فقد حاز لدى سلطان وقته ـ الشاه عباس الكبير ـ أعلى المراتب وهي مشيخة الاسلام ، وله ألف الجامع العباسي في الفقه.

________________________

(١) في مقدمة كتاب شرح قصيدته « سرى البرق » للشيخ جعفر النقدي إن شاء الله تعالى.

(٢) الشيخ زين الدين علي منشار العاملي ، شيخ الاسلام ، فاضل جليل من المعاصرين للشاه طهماسب الصفوي ، ومن تلامذة الشيخ علي الكركي.

ترجم له في رياض العلماء ٢٦٦ / ٤ ، عالم ارا ١٥٤ / ١.

(٣) الفوائد الرضوية : ٥١٠.

٣١

ولكن الذي يظهر جلّياً لمن يسبر أحوال الشيخقدس‌سره يرى وبوضوح أنه لم يكن يرى لتلك المناصب الدنيوية قيمة ، بل كان يجعلها وراء ظهره ، وهذا واضح لحبه للوحدة والعزلة وللسير على طريقة أهل السلوك والعرفان والسياحة مختاراً للفقر الذي كان به يفخر فخر الكائناتصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومرجحاً له على تمام المناصب والرتب.

هذا وبعد أن ولي في حاضرة العلم وعاصمة الحكومة مشيخة الاسلام ؛بعد والد زوجته الشيخ علي المنشار حيث كان فيها شيخ الاسلام أيام الشاه طهماسب الصفوي ؛ « رغب في الفقر والسياحة ، واستهب من مهاب التوفيق رياحه ، فترك تلك المناصب ، ومال لما هو لحاله مناسب »(١) .

وقد بدأ سياحته بحج بيت الله الحرام ، ومن ثم زيارة المدينة المنورة على من حلّ فيها الآف الثناء ، ومن ثم شهرعصا الترحال وساح في أرض الله الواسعة ردحاً من عمره(٢) ، كان خلالها متخفياً مستتراً كما يظهر من الحوادث والمجريات ، مع أنّ شهرته كانت مطبقة في الآفاق.

فقد زار خلالها كلاً من الأعتاب المقدسة في العراق ، والإمام الرضاعليه‌السلام  في خراسان ، ومن ثمّ قصد هرات وعاد منها الى مشهد الامام الرضا ، ومنها آذربايجان وزار خلالها مصر ، والقدس الشريف ، ودمشق الشام ، وحلب ، وغيرها من البلاد.

توقف في كلّ بلد مدة ، صاحب جمعاً كثيراً من أهل الكمال والمعرفةوالفضل مما لم يكن ميسورا لكلّ أحد ، وكان خلالها مورد احترام الآخرين ، واستفاد وأفاد كثيراً.

هذا ، وقد وقعت له مباحثات علمية ومذهبية كثيرة مع علماء المذاهب الاخرى أذعن فيها الجميع له.

________________________

(١) السلافة : ٢٩٠.

(٢) يذهب السيد المدني الى أنها طالت مدة ثلاثين سنة ، وقد استبعدها العلامة المحقق الحجّة السيد الخرسان ، انظر مقدمة الكشكول : ٦٥.

٣٢

ومن المؤسف حقاً عدم تدوين الشيخ البهائي لاخبار سياحته التي استمرت هذه المدة الطويلة ، مع فضله وكثرة علومه واطلاعه ، اذ مما لاشك فيه وقوع امور لطيفه وقضايا عجيبة تظهر من ثناء بعض من تعرض لسياحته ، فلودونت لكانت من أنفس الكتب.

إليك شطراً منها :

.. كان يجتمع مدة إقامته بمصر بالاستاذ محمد بن أبي الحسن البكري(١) وكان يبالغ في تعظيمه.

فقال له الشيخ البهائي مرة : يا مولانا أنا درويش فقير فكيف تعظمني هذا التعظيم؟!

قال : شممت منك رائحة الفضل.

فامتدح استاذه بقصيدته التي مطلعها :

يا مصر سقياً لك من جنة

قطوفها يانعة دانية

ويصف الرضي المقدسي(٢) الشيخ ـ عند لقائه له في القدس الشريف ـ ومحاولته القراءة عليه قائلاً :

« ورد علينا من مصر رجل من مهابته محترم ، فنزل في بيت المقدس بفناء الحرم ، عليه سيماء الصلاح ، وقد اتسم بلباس السياح ، وقد تجنب الناس ، وأنس بالوحشة دون الايناس ، وكان يألف من الحرم فناء المسجد الاقصى ، ولم يسند أحد مدة الإقامة إليه نقصاً ، فاُلقي في روعي أنّه من كبار العلماء الأعاظم ، فما زلت لخاطره أتقرب ، ولما لا يرضيه أتجنب ، فاذا هو ممن يرحل اليه للأخذ منه ، وتشدّ له الرحال للرواية عنه ، يسمى بهاء الدين محمد الهمداني الحارثي ، فسألته عند ذلك القراءة عليه »(٣) .

________________________

(١) تقدمت ترجمته ومصادرها في صحيفة : ١٢.

(٢) يوسف بن أبي اللطف رضي الدين المقدسي الحنفي ، فاضل أديب ، له تعليقة على تفسير ارشاد العقل السليم ، شرح قصيدة البردة ، توفي سنة ١٠٠٦.

ترجم له في : معجم المؤلفين ٣٢٦ / ١٣ ، هدية العارفين ٥٦٥ / ٢ ، خلاصة الاثر ٤ / ٢٧٢.

(٣) خلاصة الأثر ٣ : ٤٤١ / السانحات ٢ : ١٢٦.

٣٣

وهذه نادرة تدلّنا على مدى ما للمظاهر من تأثير في النفوس ، وهي حادثة جرت للشيخ في دمشق الشام مع الشيخ البوريني الصفوري(١) يحكيها لناالمحبي(٢) وخلاصتها :

أنّ الشيخ البهائي لما ورد دمشق نزل عند بعض التجار الكبار في محله الخراب ، واجتمع مع صاحب الروضات في مزارات تبريز الحافظ حسين الكربلائي القزويني التبريزي(٣) .

ثم إنّ الشيخ طلب من مضيفه الاجتماع بالشيخ البوريني ، فأعد التاجر دعوة تأنق فيها ، ودعا غالب أهل الفضل من محلته ومنهم البوريني.

دخل البوريني المجلس ، والبهائي بهيئة السياح متصدراً له ، والجمع محدق به بأدب.

عجب البوريني من ذلك ، لعدم معرفته وسماعه بقدوم الشيخ ، فلم يعبأبه ، ونحاه عن مجلسه ، وجلس فيه غير ملتفت إليه ، شارعاً في بث معارفه الى أن حانت صلاة العشاء.

________________________

(١) بدر الدين ، الحسن بن محمد بن محمد البوريني الشافعي ، ولد في قرية صفورية ، وهاجر الى دمشق ، ومنها الى بيت المقدس ، اشتغل بالدرس والوعظ في مدارس ومساجد الشام ، كان عالماً محققاً ، فصيح العبارة ، طليق اللّسان ، له : تراجم الأعيان ، ديوان شعر ، ومن بديع شعره :

يقولون : في الصبح الدعاء مؤثر

فقلت : نعم ، لو كان ليلي له صبح

 ومنه

أيا قمراً بتّ في ليل هجره

اُراقب أسراب الكواكب حيرانا

خبأتك في عيني لتخفى الورى

لذلك قالوا : إنّ في العين إنسانا

 ويروى الشطر الثاني :

وما كنت أدري أنّ للعين إنسانا

مات سنة ١٠٢٤ هـ.

خلاصة الأثر ٢ : ٥١ / ريحانة الألباء ١ : ٤٢.

(٢) محمد أمين بن فضل الله المحبي الاموي الدمشقي ، مؤرخ أديب شاعر ، مشارك ، له : نفحة الريحانة ، خلاصة الأثر ، ديوان شعر ، وغيرها توفي سنة ١١١١ هـ ١٦٩٩ م.

سلك الدرر ٤ : ٨٦ / معجم المؤلفين ٩ : ٧٨ / هدية العارفين ٢ : ٣٠٧

(٣) انظر الذريعة ١١ : ٢٧٩ رقم ١٧١١ و ٢٨٠ رقم ١٧١٤.

٣٤

ثم جلسوا ، فابتدر الشيخ البهائي في نقل بعض القضايا والأبحاث ، وهكذا الى أن أورد بحثاً في التفسير عويصاً ، فتكلم عليه بعبارة سهلة فهمها الجميع ، ثم دقّق العبارة حتى لم يفهم ما يقوله إلّا البوريني ، ثم أغمض في العبارة فلم يفهم حتى البوريني.

هذا والجمع صموت جمود ، لا يدرون ما يقولون ، غير أنّهم يسمعون تراكيب واعتراضات وأجوبة تأخذ بالألباب.

عندها نهض البوريني واقفاً على قدميه فقال : إن كان ولابد فأنت البهائيّ الحارثيّ ، إذ لا أحد اليوم بهذه المثابة إلّا هو.

فاعتنقا ، وأخذا في إيراد أنفس ما يحفظان.

وسأله الشيخ البهائي كتمان أمره ، وافترقا ، ولم يقم بعدها ، بل رحل الى حلب(١) .

ويذكر العرضي(٢) في ترجمته قال : قدم ( حلب ) مستخفياً في زمن السلطان مراد بن سليم(٣) ، مغيراً صورته بصورة رجل درويش ، فحضردرس الوالد الشيخ عمر(٤) ، وهولايظهر أنّه طالب عالم ، حتى فرغ من الدرس.

فسأل الوالد عن أدلة تفضيل الصدّيق على المرتضى ، فذكر أحاديث منها حديث « ما طلعت الشمس » وغيرها.

فردّ عليه ، ثم ذكرأشياء كثيرة تقتضي التفضيل للمرتضى ، فشتمه الوالد!!! وقال له : رافضي شيعي ، وسبّه وسكت!!

________________________

(١) خلاصة الأثر ٣ : ٤٤٣ ، وانظر : سانحات دمى القصر ٢ : ١٢٧.

(٢) أبوالوفاء بن عمر بن عبد الوهاب الشافعي العرضي ، عالم فاضل ، مشارك ، مفتي الشافعية بحلب ، له : معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب ، طريق الهدى ، شرح الألفية ، حاشية على أنوار التنزيل ، وغيرها.

توفي سنة : ١٠٧١ هـ ـ ١٦٦١ م.

كشف الظنون ١ : ١٤٨ / هدية العارفين ٢ : ٢٨٨ / ريحانة الألبا ١ : ٢٦٩ رقم ٣٩ خلاصة الأثر١ : ١٤٨ / معجم المؤلفين ١٣ : ١٦٥ وغيرها.

(٣) هو السلطان مراد بن السلطان سليم بن السلطان سليمان القانوني المتوفى ٤ ج ١ سنة ١٠٠٣.

(٤) تقدمت ترجمته صحيفة : ٤.

٣٥

ثم إنّ الشيخ البهائي أمر بعض التجار أن يصنع وليمة يجمع فيها بين الشيخ عمر وبينه.

امتثل التاجر ذلك ، ودعاهما وأخبر الشيخ الوالد أنّ هذا هو الملّا بهاء الدين عالم بلاد العجم.

وعندما استقر المقام بهما.

قال الشيخ البهائي للوالد : شتمتمونا.

فقال : ما علمت أنّك الملا بهاء الدين!!! ولكن إيراد مثل هذا الكلام بحضور العوامّ لا يليق!

بعد هذه الفترة الطويلة عاد الى محطته الاُولى أصفهان ، فتوجهت اليه أنظار الأعاظم ، منتهلة من نميره الصافي العذب ، مستفيدة من أنوار أفكاره البكر ، حتى اختصه الشاه عباس الصوفي حضراً وسفراً حتى صحبه معه في سفره الى التربة المقدسة ، حيث مرقد الإمام الثامن سيراً على الأقدام وفاءاً لنذر كانه نذره.

وقد اشتهرت عنه حكايات في سياحته كثيرة ، منها ممكنة ، ومنهامستبعدت أو ملحقة بالخرافات.

* * *

٣٦

آيات المدح وجمل الثناء

اعترف عامة من ترجم للمصنفقدس‌سره بل وجميع من تأخّرعنه ، بعظم شخصيته العلمية العملاقة في افق العلم ، وسماء المعرفة ، تقدم اليك نبذاً يسيرة :

قال شيخ الحفاظ والمحدثين العلّامة الأميني :

.. بهاء الملّة والدين ، واستاذ الأساتذة والمجتهدين ، وفي شهرته الطائلة وصيته الطائر في التضلّع من العلوم ، ومكانته الراسية من الفضل والدين ، غنى عن تسطير ألفاظ الثناء عليه ، وسرد جمل الإطراء له.

فقد عرفه من عرفه ، ذلك الفقيه المحقق ، والحكيم المتأله ، والعارف البارع ، والمؤلّف المبدع ، والبحاثة المكثر المجيد ، والأديب الشاعر ، والضلّيع من الفنون بأسرها ، فهو أحد نوابع الامة الإسلامية ، والأوحدي من عباقرتها الأماثل(١) .

ويصفه المحبّي بقوله :

.. بطل العلم والدين الفذ ، صاحب التصانيف والتحقيقات ، وهوأحق من كلّ حقيق بذكر أخباره ، ونشر مزاياه ، وإتحاف العالم بفضائله وبدائعه.

وكان اُمة مستقلة في الأخذ بأطراف العلوم ، والتضلع بدقائق الفنون ، وما أظن الزمان سمح بمثله ، ولا جاد بندّه ، وبالجملة فلم تتشنف الأسماع بأعجب من أخباره(٢) . وقال شيخ الأمل في ترجمته :

حاله في الفقه والعلم والفضل والتحقيق والتدقيق وجلالة القدر وعظم الشأن وحسن التصنيف ورشاقة العبارة وجمع المحاسن أظهر من أن يذكر ، وفضائله أكثر من أن تحصر ، وكان ماهراً متبحراً جامعاً كاملاً شاعراً أديباً منشئاً

________________________

(١) الغدير ١١ : ٢٤٩.

(٢) خلاصة الأثر ٣ : ٤٤٠.

٣٧

ثقةً ، عديم النظير في زمانه في الفقه والحديث والمعاني والبيان والرياضي وغيرها(١) .

ويطريه السيد التفرشي بقوله :

جليل القدر ، عظيم المنزلة ، رفيع الشأن ، كثير الحفظ ، ما رأيت بكثرة علومه ووفور فضله وعلوّ رتبته في كل فنون الاسلام كمن له فن واحد ، له كتب نفيسة جيدة(٢) .

وأمّا الأردبيلي فيطريه قائلاً :

جليل القدر ، عظيم المنزلة ، رفيع الشأن ، كثير الحفظ ، ما رأيت بكثرة علومه ووفورفضله ، وعلوّمرتبته أحداً في كلّ فنون الإسلام كمن كان له فن واحد ، له كتب نفيسة جيده منها(٣) .

ويصفه المجلسي الأول قائلاً :

الشيخ الاعظم ، والوالد المعظم ، الامام العلّامة ، ملك الفضلاء والاُدباء والمحدثين ، بهاء الملة والحق والدين(٤) .

وفي مورد آخر يقول :

شيخنا واستاذنا ومن استفدنا منه ، بل كان الوالد المعظم ، كان شيخ الطائفة في زمانه ، جليل القدر ، عظيم الشأن ، كثير الحفظ ، ما رأيت بكثرة علومه ، ووفورة فضله ، وعلو مرتبته أحداً …(٥) .

ووصفه السيد المدني في سلافته قائلاً :

« علم الائمة الأعلام ، وسيد علماء الاسلام ، وبحر العلم المتلاطمة بالفضائل أمواجه ، وفحل الفضل الناتجة لديه أفراده وأزواجه ، وطود المعارفالراسخ ، وقضاؤها الذي لاتحدّ له فراسخ ، وجوادها الذي لايؤمل له لحاق ،

________________________

(١) أمل الآمل ١٥٥ : ١.

(٢) نقد الرجال : ٣٠٣ رقم ٢٦٠.

(٣) جامع الرواة ٢ : ١٠٠.

(٤) روضة المتقين ١ : ٢٢.

(٥) روضة المتقين ١٤ : ٤٣٤.

٣٨

وبدرها الذي لا يعتريه محاق ، الرُحَلَة الذي ضربت اليها أكباد الإبل ، والقبلة التي فطركل قلب على حبها وجبل.

فهو علّامة البشر ، ومجدّد دين الأئمة على رأس القرن الحادي عشر ، اليه انتهت رياسة المذهب والملّة ، وبه قامت قواطع البراهين والأدلة ، جمع فنون العلم وانعقد عليه الإجماع ، وتفرد بصنوف الفضل فبهر النواظر والأسماع ، فما من فنّ إلاوله فيه القدح المعلّى والمورد العذب المحلّى ، إن قال لم يدع قولاً لقائل ، أو طال لم يأت غيره بطائل ، وما مثله ومن تقدّمه من الأفاضل والأعيان إلّا كالملة المحمدية المتأخّرة عن الملل والاديان ، جاءت اخر ففاقت مفاخراً وكل وصف قلته في غيره فإنه في تجربة الخواطر »(١) .

ويطريه صاحب نسمة السحر قائلاً :

« رجل الدهر ، وجامع الفخر ، ورب الشوارد ، وقيد الأوابد ، فهو وارث علم الرئيس ابن سينا في تلك الفنون والحال لاهل الطريقة حقيقة نورطور سيناء فيه يهتدون ، لم يلحق في طريق ، ولم يرفع في فريق ، فهوحيناً وزير السيف والعلم ، وإذ به وزير الدفتر والنون والقلم »(٢) .

ويطريه شيخ الخزانة الشيرازي بقوله :

« بهاء الحق وضياؤه ، وعزّالدين وعلاؤه ، واُفق المجد وسماؤه ، ونجم الشرف وسناؤه ، وشمس الكمال وبدره ، وروض الجمال وزهره ، وبحر الفيض وساحله ، وبر اِلبر ومراحله ، وواحد الدهر ووحيده وعماد العصر وعميده ، وعلم العلم وعلامته ، وراية الفضل وعلامته ، ومنشأ الفصاحة ومولدها ، ومصدر البلاغة وموردها ، وجامع الفضائل ومجمعها ، ومنبع الفواضل ومرجعها ، ومشرق الافادة ومشرعها ، وسلطان العلماء وتاج قمتهم ، وبرهان الفقهاء وتتمة أئمتهم ، وخاتم المجتهدين وزبدتهم ، وقدوة المحدثين وعمدتهم ، وصدر المدرسين واُسوتهم ، وكعبة الطالبين وقبلتهم ، مشهورجميع الآفاق ، وشيخ الشيوخ على الاطلاق ، كهف

________________________

(١) سلافة العصر : ٢٨٩.

(٢) نسمة السحر : ٣٠٣ مخطوط

٣٩

الإسلام والمسلمين ، مروج أحكام الدين ، العالم العامل الكامل الأوحد بهاء الملّة والحق والدين »(١) .

ويطريه الخفاجي قائلاً :

« زين بمآثره العلوم النقلية والعقلية ، وملك بنقد ذهنه جواهرها السنية ، لاسيما الرياضيات وهو في ميدان الفصاحة فارس وأيَّ فارس ، وإن غصنه أينع وربا بربوة فارس فإنّ شجرته نبتت عروقها بنواحي الشام الزاهية المغارس ، والعرق نزّاع وإنْ أثّر الجوار في الطباع »(٢) .

وهذا الحنفي في شرحه على رائية المصنف والمسماة « وسيلة الفوزوالامان » يقول في حقه :

« صاحب التصانيف والتحقيقات ، وهوم أَحقّ من كل حقيق بذكرأَخباره ونشر مزاياه ، وإتحاف العالم بفضائله وبدائعه ، وكان اُمّة مستقلة في الأَخذ بأطراف العلوم والتضلّع من دقائق الفنون ، وما أَظن أَنّ الزمان سمح بمثله ولا جاد بنده ، وبالجملة فلم تتشنّف الأسماع بأَعجب من أَخباره »(٣) .

وقد ذكره الشهاب في كتابيه وبالغ في الثناء عليه(٤) وقد أطال أَبوالمعالي الطالوي في الثناء عليه وكذلك البديعي(٥) .

هذا غيض من فيض مما قيل أَويمكن أن يقال في حقّ شيخنا المصنف ، علم الأعلام ومن عُرِفت مكانته السامية في دنيا الفضل والفضيلة والدين ، حتى قيل في حقه : « لايدرك بحر وصفه الاغراق ، ولا تلحقه حركات الأَفكار ،

________________________

(١) خزانة الخيال : ٤٢١.

(٢) إشارة للحديث الشريف « العرق دساس » وانظر ريحانة الألبا ١ : ٢٠٧.

(٣) فتح المنان شرح قصيدة الفوز والأمان : ٣٦٧ من الطبعة الاولى ، حيث إن الطبعة الملحقة بالكشكول والتي بتحقيق طاهرأحمد الزاوي ـ طالتها يد الخيانة العلمية فحرفتهما ، وأسقطت منها مواردة إحداها ترجمة الشيخ المصنف.

(٤) أي في ريحانة الألباء ١ : ٢٠٧ رقم ٧٢ ونفحة الريحانة ٢ : ٢٨٢ رقم ٩٤.

(٥) سانحات دمي القصر ٢ : ١٢٦. والبديعي ، هو يوسف بن عبدالله الدمشقي الحلبي ، ولعل ذلك فيحدائق الأدب ـ انظر معجم المؤلفين ١٣ : ٢٨٠.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

في الحديث عنوان ثانوي متولد من الحكم ، ونسبته اليه نسبة السبب التوليدي إلىٰ مسبّبه ، كالقتل إلىٰ قطع الرقبة والاحراق إلىٰ الإلقاء في النار والايلام إلىٰ الضرب ونحو ذلك.

واطلاق العناوين التوليدية علىٰ اسبابها شائع متعارف لا يحتاج إلىٰ أية عناية فيكون مجازاً والمقام من هذا القبيل ، فيكون المراد من نفي الضرر نفي سببه المتحد معه وهو الحكم ، والفرق بين هذا المسلك ومسلكنا أننا نرى أن المنفي هو التسبيب للضرر ولازمه نفي الحكم الضرري بينما هذا المسلك يرى أن المنفي مباشرة هو الحكم الضرري.

( ان قيل ) : انه يعتبر في العنوان التوليدي عدم تخلل ارادة من فاعل مختار بينه وبين السبب كعدم تخلّلها بين الإلقاء والاحراق ، والمقام ليس من هذا القبيل في مثل ايجاد الوضوء والحج الضرريين ، لأَن الحكم فعل للشارع والضرر انما يترتب علىٰ امتثال العبد بارادته واختياره ، فكيف يحمل الضرر علىٰ الحكم.

( قيل ) : إن ارادة العبد في عين كونها اختيارية مقهورة لارادة الله سبحانه ، لان العبد ملزم عقلاً ومجبور شرعاً بالامتثال ، فالعلة التامة لوقوع المتوضئ أو الشريك أو الجار في الضرر هي الجعل الشرعي.

ولكن هذا التقريب ضعيف :

أوّلاً : لان الإشكال المطروح لا واقع له ، فان المقام ليس من قبيل الأَسباب والمسببات التوليدية ، ومجرد كون ارادة العبد مقهورة لارادة المولى لا يجعله من قبيلها موضوعاً ولا يلحقه بها حكماً ، مضافاً إلىٰ أن ذلك انما يتأتى في ارادة العبد المطيع دون العاصي كما اعترف به ومن المعلوم أن الاحكام لا تختص بالمطيعين دون العصاة.

وثانياً : ان الضرر المترتب علىٰ العمل لا يترتب عليه دائماً مباشرة ،

١٦١

بل قد يكون العمل مجرد معدّ للضرر كما لو كان الوضوء مما يوجب استعداد المزاج لمرض ما. وحينئنذٍ لا يمكن اتصاف الحكم بانه ضرر بلحاظ توليده للعمل المضرّ.

وثالثاً : إن العنوان التوليدي إنما ينطبق علىٰ سببه بالمعنى المصدري المتضمّن للنسبة الصدورية لا بالمعنى الاسم المصدري ونحوه مما لا يتضمن نسبة صدورية ولذا لا يقال علىٰ الالقاء انه احتراق ولكن يقال إنه احراق ، لأن الاحراق يتضمن نسبة صدورية دون الاحتراق ، وعلىٰ هذا فما ينطبق علىٰ الحكم هو عنوان الاضرار والضرار لا عنوان ( الضرر ) لأنّه معنىٰ اسم مصدري علىٰ ما سبق.

ورابعاً : ان هذا المقدار ليس إلا تصويراً لتفسير الحديث بنفي الحكم الضرري وذلك لا يقتضي تعيّنه بعد عدم انحصار ما يحتمل معنىٰ للحديث بهذا التصوير.

المسلك الثاني : أن يكون المراد بالحديث النهي عن الضرر والاضرار.

وهذا المسلك هو العمدة في تفسير الحديث في مقابل تفسيره بنفي الحكم الضرري ، وقد ذهب اليه جمع من اللغويين ونقل عن بعض فقهاء العامة. وقد اختاره من المتأخرين جماعة منهم صاحب العناوين والعلامة شيخ الشريعة.

وعلى هذا المسلك يكون مفاد ( لا ضرر ) متحداً مع مفاد ( لا ضرار ) ـ بعد الاعتراف بوحدة معنىٰ المادة فيهما علىٰ ما تقدّم تحقيقه ـ فيكون التكرار لمجرّد التأكيد كما نقل عن بعض اللغويين علىٰ ما مرّ. وربما قال جمع منهم بالتفرقة بينهما تخلّصاً عن التكرار بوجوه ضعيفة سبق التعرض لها ولنقدها.

١٦٢

وينحلّ هذا المسلك في نفسه الىٰ عدة وجوه ، لأن النهي الذي يتضمنه الحديث تارة يجعل نهياً تحريمياً أولياً ، واخرىٰ يقال إنّه نهي تحريمي سلطاني وثالثة يدعى أنّه جامع بين النهي التكليفي والإرشادي.

ونحن نتعرض لتحقيق أصل هذا المسلك وفق الوجه الاول من هذه الوجوه لأنّه اقواها وأرجحها ، ثم نتعرض للوجهين الآخرين عقيب ذلك ، وان كانت جملة من الأبحاث الآتية في هذا الصدد ممّا يتعلق بأصل هذا المسلك فتنطبق علىٰ جميع الوجوه.

ولتحقيق هذا المسلك لا بُدّ من البحث :

أولا ً : في تصويره.

وثانياً : فيما ذكر ترجيحاً له واثباتاً لتعيّنه.

وثالثاً : فيما يرد علىٰ هذا المسلك أو اورد عليه.

ورابعاً : في الوجهين الأخيرين مما قيل بناءً عليه.

فهنا ابحاث اربعة :

البحث الأَوّل : في تصوير هذا المبنى. وهو يتوقّف علىٰ توضيح امرين :

الأَوّل : كيفية ارادة النهي من هذا التركيب.

لا اشكال في ان مفاد ( لا ) في الحديث هو النفي فيكون معنىٰ الحديث استعمالاً الإخبار عن نفي الضرر والضرار علىٰ ما هو المنساق منه ، وانما اريد النهي ـ علىٰ تقديره ـ في مرحلة الإرادة تجوزاً.

والجهة المصححة لهذا الاستعمال هي التناسب الموجود بين نفي الطبيعة وبين التسبيب إلىٰ انتفائها باعتبارها فعلاً محرماً.

واما العناية الموجبة لهذا التجوز فهي اظهار المبالغة في الزجر عن الشيء حتىٰ كأنّ الفعل لا يوجد خارجاً أصلاً ، كما تستعمل صيغة الاثبات

١٦٣

في البعث إلىٰ الشيء بمثل هذه العناية وقد ذكرفي علم المعاني أنّه قد يقع الخبر موقع الانشاء لاظهار الحرص في وقوع الفعل حتىٰ يخيّل اليه حاصلاً وقد اوضحنا القول في ذلك بتفصيل في بحث استعمال الجملة الخبرية في مقام الطلب من علم الاصول.

الثاني : في ثبوت استعمال هذا التركيب في النهي.

لا إشكال في ثبوت استعمال الجملة الخبرية بأقسامها في غير مورد الانشاء الطلبي والزجري سواء كانت جملة اسمية ك‍ ( هي طالق ) أو جملة فعلية بالفعل الماضي ك‍ ( بعت ) و ( اشتريت ) أو بالفعل المضارع نحو ( إني أريد أن انكحك ).

لكن الامر ليس كذلك في مورد الإنشاء الطلبي والزجري علىٰ ما يشهد به موارد الاستعمالات فلم يثبت استعمالها في مورد إنشاء هذين المعنيين ، اذا كانت الجملة اسمية من قبيل ( زيد قائم ) أو ( زيد ليس بقائم ) بان يراد بالأَوّل بعثه إلىٰ القيام وبالثاني زجره عنه وإن كان الاستعمال صحيحاً ممكناً كأن يقول الولد لولده ( أنا مسافر غداً وأنت معي ) ومراده طلب السفر معه.

واما في مورد الفعل الماضي فربما قيل انه لم يثبت أو لا يصح أيضاً كما عن السيد الأستاذ (قده)(١) .

لكنه ليس بواضح فانه يشيع استعماله في الدعاء ك‍ ( رحمك الله وأعزك ) كما يستعمل في معنىٰ الأمر اذا كان جزاءً ك‍ ( اذا استيقن انه زاد في صلاته ركعة اعاد صلاته ) وربما استعمل فيه ابتداءً كقولهعليه‌السلام ( أجزء امرؤ قرنه آسى أخاه بنفسه )(٢) .

__________________

(١) المحاضرات ج ٢ ص ١٣٧.

(٢) نهج البلاغة ( في حث اصحابه علىٰ القتال : ١٨٠ ـ ١٨١ ).

١٦٤

واما في مورد الفعل المضارع فلا اشكال في ثبوت استعمالها في البعث والزجر كما هو شائع ك‍ ( يعيد صلاته ) أو ( لا يعيد صلاته ) علىٰ ما هو واضح.

( واما تركيب لا النافية ) : ـ وهو مورد البحث هنا ـ فربما يشكل ذلك كما ذكر المحقق الخراساني ( ان ارادة النهي من النفي وان كان غير عزيز الا انه لم يعهد في مثل هذا التركيب )(١) وردّ عليه العلاّمة شيخ الشريعة بشيوع هذا المعنىٰ في التركيب وذكر جملة كثيرة من الأمثلة ادعى فيها انها تعني النهي(٢) .

والحق ان القولين لا يخلوان عن افراط وتفريط ، اما الأوّل فلمعهودية ارادة النهي من النفي كما في قوله تعالىٰ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) (٣) وغير ذلك من الاستعمالات. واما الثاني : فلأن شيوع هذا المعنىٰ في التركيب المزبور بالمستوى الذي يمثله ذكر تلك الامثلة غير ثابت فان جملة منها ليست بهذا المعنىٰ كما يأتي تفصيله في التعرض لما ذكر في ترجيح هذا المسلك.

لكن يكفي في ما هو الغرض في المقام ( من تصوير هذا المسلك ) اصل ثبوت استعمال هذا التركيب في هذا المعنى. وعلىٰ ضوء هذا يتضح تمامية هذا المسلك تصويراً.

البحث الثاني : في تعيين هذا المسلك وترجيحه.

و يستفاد من كلام العلاّمة شيخ الشريعة في هذا الصدد وجوه :

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٨٢.

(٢) رسالة لا ضرر له : ٣٧ ـ ٣٩.

(٣) البقرة ٢ : ١٩٧.

١٦٥

الوجه الأَوّل : ما يظهر من مجموع كلامه(١) من تعين ارادة النهي في الحديث نظراً إلىٰ شيوع ارادته من هذا التركيب في مثل هذا الموضوع دون غيره من المعاني التي يصح ان تراد بهذا التركيب.

وهذا ينحلّ إلىٰ عقدين سلبي وايجابي.

اما العقد السلبي : وهو عدم شيوع غيره ، فلأَن في قبال احتمال النهي وجهين :

احدهما : نفي المسبّب وارادة نفي السبب كما هو مبنى تفسيره بنفي الحكم الضرري.

والثاني : نفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

والأَوّل غير معهود في هذا التركيب أصلاً. والثاني معهود لكن فيما لا يماثل المقام موضوعاً وهو ما اذا ثبت حكم لموضوع عامّ واريد نفيه عن بعض اصنافه ك‍ ( لا سهو في سهو ) ومن الواضح ان المقام ليس من هذا القبيل ، اذ لم يجعل لنفس الضرر حكم يراد نفيه عن بعض اصنافه ، واما نفي حكم موضوع آخر عنه فارادته تحتاج إلىٰ قرينة واضحة وهي منتفية في مقامنا.

واما العقد الإيجابي : ـ وهو شيوع ارادة النهي من هذا التركيب ـ فقد ذكر له امثلة من الكتاب والسنة وقال بعدها ( ولو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء ـ نظماً ونثراً ـ لطال المقال وأدى إلى الملل وفيما ذكرنا كفاية في اثبات شيوع هذا المعنى في هذا التركيب ، اعني تركيب ( لا ) التي لنفي الجنس(٢) .

__________________

(١) يظهر ذلك بملاحظة ما ذكره أوّل الفصل الثامن من شيوع ارادة النهي وما ذكره بعد ذلك ص ٣٧ ـ ٤٠ حول سائر الاحتمالات.

(٢) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة ص ٣٧ ـ ٣٩.

١٦٦

والامثلة التي ذكرها هي كما يلي :

١ ـ قوله تعالى :( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) (١) .

٢ ـ وقوله تعالى :( فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ ) (٢) في مجمع البيان : معنىٰ ( لا مساس ) أي لا يمسّ بعضنا بعضاً(٣) .

٣ ـ ومثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام ).

٤ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا جلب ولا جنب ولا اعتراض ).

٥ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا خصى في الإسلام ولا بنيان كنيسة ).

٦ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا حمى في الإسلام ولا مناجشة ).

٧ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا حمى في الاراك ).

٨ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا حمى الا حمى الله ورسوله ).

٩ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا سبق إلا في خفّ أو حافر أو نصل ).

١٠ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا صمات يوم إلىٰ الليل ).

١١ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا صرورة في الإسلام ).

١٢ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ).

١٣ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة ايام ).

١٤ ـ وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا غش بين المسلمين ).

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٧.

(٢) طه ٢٠ : ٩٧.

(٢) ط جديد ج ٤ ص ٢٨.

١٦٧

و يرد على هذا الوجه :

أوّلا ً : ما تقدّم من ان شيوع ارادة النهي من هذا التركيب لا يؤثّر في تقوية هذا الاحتمال وتضعيف سائر الاحتمالات بمجرّد التماثل التركيبي بين المقام وبين الموارد الاخرى ، مع اختلافها في ملابسات وخصوصيات مؤثرة في تغيير المعنى ، بل لا بد من احراز اتحادها في ذلك. وجملة ( لا ضرر ) لا تشترك مع الامثلة المضروبة في هذه الجهة لان طبيعة الموضوع المنفي فيها امر مرغوب عنه مما يجعل الانسان لا يتحمله الا بتصوّر تسبيب شرعي فالنفي الوارد في هذا السياق النفسي يهدف بالطبع إلى ابطال التصوّر المذكور ، ونفي التسبيب الشرعي إلى ذلك ، وليس شيء من هذه الأمثلة من هذا القبيل فانها بين طبائع خارجيّة مرغوبة لذاتها لانسجامها مع القوى الشهوية والغضبية ، وبين طبائع اعتبارية مرغوبة لآثارها القانونية ـ كما سيتّضح مما يأتي ـ فشيوع ارادة النهي في هذا المجال لا يحسم الموقف لصالح احتمال النهي في الحديث.

وثانيا ً : ان استعمال هذا التركيب في النهي ليس بشائع بالمستوى المدعى ، إذ جملة من الأمثلة المذكورة انما هي من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، اما لتعذّر ارادة النهي فيها وان افادت التحريم أو لعدم ظهورها في ذلك.

اما القسم الأَوّل : ـ وهو ما يتعذر ارادة النهي منها ـ فهو ما اقترن بكلمة ( في الإسلام ) فان وجود هذه الكلمة يقتضي كون نفي الماهية بلحاظ عالم التشريع أي عدم وقوعه موضوعاً للحكم لا نفيها خارجاً بداعي الزجر عن ايجادها.

ففي هذا القسم حتى لو اريد التحريم ـ كما في ( لا خصى في الإسلام ) مثلاً ـ فانما يكون ذلك على سبيل نفي الحكم ( اي الجواز ) بلسان نفي

١٦٨

موضوعه لا علىٰ ارادة النهي ، وان كان نفي الجواز والنهي يرجعان إلىٰ مؤدى واحد ، إلا انه لا ينبغي الخلط بينهما في مقام التدقيق في انحاء استعماله هذا التركيب كما هو واضح.

واما القسم الثاني : ـ وهو ما لا يكون ظاهراً في التحريم ـ فهو الموارد التي كان المنفي فيها ماهية اعتبارية ، فان نفي الماهية الاعتبارية ظاهر حسب تناسبات الحكم للموضوع في نفي صحتها ـ كما تقدّم توضيح ذلك في ذكر الضابط العام لتشخيص محتوى صيغ الحكم ـ فتكون هذه الموارد من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

سواء في ذلك ما كان النفي فيه نفياً للماهية خارجاً أو في وعاء التشريع.

فمن الأَوّل قوله ( لا سبق إلا في خفّ أو حافر أو نصل ) فان المراد بالسبق العقد الخاص فالمقصود بالحديث بطلانه الا في الموارد المستثناة ، وثبوت حرمته بدليل آخر لا يقضي باستفادته من هذا الدليل.

ومن الثاني : قوله ( لا شغار في الإسلام ) فان الشغار نوع خاص من النكاح كان معروفاً في الجاهلية وقوله ( لا حمى في الإسلام ) فان المراد بالحمى اعتبار مرعى ومرتع مختصاً بشخص أو قبيلة ، فيمنع الغير من الرعي فيه وهذا نوع من الحكم الوضعي الذي يندمج فيه الحكم التحريمي ومرجع نفيه إلىٰ الغائه أو اسقاط ما كان يترتب عليه من الآثار في العرف الجاهلي لا تحريمه تحريماً مولويّاً.

ويحتمل ان يكون من هذا القبيل قوله ( لا رهبانية في الإسلام ) بناءً علىٰ انها التزام وتعهّد نفسي بترك الاشتغال بالدنيا وملاذها والعزلة من اهلها والتعمد إلىٰ مشاقها ، فيكون المراد بنفيها الغاء هذا العهد وعدم استتباعه لوجوب الوفاء فلا يكون في هذا المورد تحريم مولوي.

١٦٩

وبذلك ظهر أن معنىٰ النهي لا يتجه في الأَمثلة المذكورة ، إلا فيما لم يقترن بزيادة في الإسلام وكان المتعلق ماهية خارجيّة يؤتى بها لبعض الدواعي الشهوية والغضبية ك‍( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ ) (١) .

الوجه الثاني : تبادر النهي من الحديث وانسباقه إلىٰ الذهن. قال (قده) ( في كلام له عن هذا المسلك ) : ( وهو الذي لا تسبق الأَذهان الفارغة عن الشبهات العلمية إلا اليه )(٢) وقال ( وبالجملة : فلا اشكال في ان المتبادر إلىٰ الأذهان الخالية من اهل المحاورات قبل ان ترد عليها شبهة التمسك بالحديث في نفي الحكم الوضعي ليس الا النهي التكليفي )(٣) .

( ويلاحظ عليه ) : انه لا يتجه التمسك بالتبادر في المقام ـ كما سبق ـ وذلك لان الشك ( تارة ) يكون في تشخيص المراد الاستعمالي وضعاً أو انصرافاً و ( أخرى ) في تشخيص توافق المراد التفهيمي مع المراد الاستعمالي وعدمه. ( وثالثة ) في تشخيص المراد التفهيمي المردد بين وجوه بعد العلم بعدم توافقه مع المراد الاستعمالي. والتمسّك بالتبادر انما يتّجه في المرحلة الأولىٰ لاثبات العلقة الوضعية أو الانصراف. واما في المرحلتين الاخيرتين فلا عبرة بادعاء التبادر بل المناط في المرحلة الثانية وجود القرينة المعينة لهذا المعنىٰ او ذاك بعد وجود القرينة الصارفة عن المراد الاستعمالي. ومن المعلوم ان حمل الحديث علىٰ النهي ليس تحديداً لمدلوله الاستعمالي وانما هو اقتراح في المراد التفهيمي بعد الاعتراف بتخالفه مع المراد الاستعمالي.

فلا بُدّ اذن من ملاحظة الجهات المحيطة بهذا الحديث لملاحظة مدى توفّر القرينة علىٰ أحد الوجوه المقترحة في تحديد المراد التفهيمي وقد

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٧.

(٢ و ٣) رسالة لا ضرر : ٤٠ ـ ٤١ ( الفصل الثامن ).

١٧٠

عرفت مقتضاها في كل من الجملتين.

الوجه الثالث : ما ذكره بعد ذلك بقوله ( مضافاً إلى ما عرفت من ان الثابت من صدور هذا الحديث الشريف انما هو ما كان في قضية سمرة بن جندب وأنه ثبت فيها ( لا ضرر ولا ضرار على مؤمن ) ولا شك ان اللفظ بهذه الزيادة ظاهر في النهي(١) .

( ويلاحظ عليه )أوّلاً : ان هذه الزيادة لم ترد الا في مرسلة ابن مسكان عن زرارة وهي ليست بحجة وعلى تقدير حجيتها فان موثقة ابن بكير ـ التي تنقل نفس القضية عن زرارة دون تلك الزيادة ـ مقدمة عليها على ما مر تحقيقه في البحث عن متن الحديث في الفصل الأَوّل.

وثانيا ً : انه على تقدير ثبوت هذه الزيادة فانا لا نسلم منافاته مع ارادة نفي التسبيب إلىٰ الحكم الضرري اذ يمكن نفي ذلك بالنسبة إلى المؤمن.

الوجه الرابع : ما ذكره بقوله ( على ان قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسمرة انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ـ كما في رواية ابن مسكان عن زرارة ـ انما هو بمنزلة صغرى وكبرى ، فلو اريد التحريم كان معناه انك رجل مضار والمضارّة حرام وهو المناسب لتلك الصغرى ، لكن لو اريد غيره مما يقولون صار معناه انك رجل مضار والحكم الموجب للضرر منفي أو الحكم المجعول منفي في صورة الضرر ، ولا اظن بالاذهان المستقيمة ارتضاءه )(٢) .

ويرد عليه أوّلا ً : ان القول المذكور لم يتضمنه الا رواية ابن مسكان. وقد سبق عدم اعتبارها في الفصل الأَوّل.

__________________

(١) نفس المصدر ص ٤١.

(٢) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة : ٤١ ـ ٤٢.

١٧١

وثانيا ً : ان مقتضى ما ذكره استفادة التحريم من ( لا ضرار ) ـ لا من ( لا ضرر ) ولا منهما جميعاً ـ لأَنّ المستعمل في التطبيق هو وصف باب المفاعلة ـ وهو مضار ـ وعليه فلا مانع من ان يراد ب‍ ( لا ضرار ) نفي التسبيب إلى الضرر بنفي الحكم الضرري ويراد ب‍ ( لا ضرار ) الحرمة التكليفية فتتناسب الصغرى مع الكبرى.

الوجه الخامس : اتفاق اهل اللغة على فهم معنى النهي من الحديث.

قال (قده) ( في كلام له ) : ( ولنذكر بعض كلمات ائمة اللغة ومهرة أهل اللسان تراهم متفقين على ارادة النهي لا يرتابون فيه ولا يحتملون غيره ، ففي النهاية الاثيرية : قوله ( لا ضرر ) اي لا يضر الرجل اخاه فينقصه شيء من حقه ، والضرار فعال من الضر اي لا يجازيه على اضراره بادخال ( الضرر عليه ). وفي لسان العرب ـ وهو كتاب جليل في اللغة في عشرين مجلداً(١) ـ معنى قوله ( لا ضرر ) لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقه. و ( لا ضرر ) أي لا يجازيه على اضراره بادخال ( الضرر عليه ). وفي تاج العروس مثل هذا بعينه ، وكذا الطريحي في المجمع )(٢) .

و في هذا الوجه ملاحظتان :

الأُولى : في مدى اصالة هذه المصادر الخمسة في ذكر هذا الرأي ومدى التزام مؤلفيها به.

١ ـ وأمَّا النهاية لابن الأثير ( ت ٦٠٦ ه‍ ) فقد تقدّم انها في جزء مهم

__________________

(١) قد طبع الكتاب أوّلاً في عشرين مجلداً وعليه جرى هذا القائل وقد طبع ثانياً في بيروت في خمسة وعشرين مجلداً وقد جاء قي مقدمة هذه الطبعة ١ / ٦ انه ثلائون مجلداً كما جاء في مقدمة تاج العروس انه سبعة وعشرون مجلداً. منه.

(٢) لسان العرب ٤ / ٤٨٢ ، مجمع البحرين ٣ / ٣٧٣ ، تاج العروس ٣ / ٣٤٨ ، النهاية لابن الأثير ٣ / ٨١ ، رسالة لا ضرر لشيخ الشريعة : ٤٣.

١٧٢

منها تجميع لكتاب غريبي الحديث والقرآن لابي عبيد احمد بن محمّد الهروي المتوفى سنة ( ٤٠١ ه‍ ) وكتاب الغيث في تهذيب القرآن والحديث للحافظ ابي موسى محمّد الاصفهاني ( ت ٥٨١ ه‍ ) وقد جعل لكل منهما علامة. وقد جعل هنا علامة الأَوّل مما يعني انه نقله عن كتاب الهروي وليس من كلامه هو.

٢ ـ ( واما لسان العرب لابن منظور ت ٧١١ ه‍ ) فهو وان كان كتاباً جامعاً الا انه ليس الا تجميعاً لعددة كتب لغوية وهي تهذيب اللغة للازهري ( ت‌ ٣٧٠‌ ه‍ ) ‌والصحاح للجوهري ( ت ٣٩٣ ه‍ ) ونقد الصحاح لابن بري والمحكم لابن سيدة الأَندلسي والنهاية لابن الاثير.

وقد صرح بذلك مؤلفه في مقدمة كتابه كما صرّح بانه ليس مسؤولاً عما في الكتاب(١) وقد اعتبره بعض محققي هذه الكتب كالنهاية كتاب اللسان نسخة من نسخها في مرحلة تحقيقها(٢) وقد نقل في اللسان عبارتين تتضمنان تفسير

__________________

(١) قال في مقدمة لسان العرب ١ / ٨ ط بيروت ( وليس لي في هذا الكتاب فضيلة أمتّ بها ولا وسيلة اتمسك بها سوى اني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من العلوم وبسطت القول فيه ولم اشبع باليسير وطالب العلم منهوم فمن وقف فيه علىٰ صواب أو ذيل أو صحة أو خلل فعهدته علىٰ المصنف الأَوّل وحمده وذمه لأَصله الذي عليه المعول لانني نقلت من كل أصل مضمونه ولم ابدل منه شيئاً فيقال انما اثمه علىٰ الذين يبدلون بل اديت الأَمانة في نقل الأصول بالنص وما تصرفت فيه بكلام غير ما فيه من النص فليعتد من ينقل من كتابي هذا انه ينقل عن الأصول الخمسة وليغن عن الاهتداء بنجومها فقد غابت لما طلعت شمسه ) وقد اكد ذلك في اثناء الكتاب ففي ٤ / ٤٢ ( قال عبد الله محمّد بن المكرم : شرطي في هذا الكتاب ان اذكر ما قاله مصنفو الكتب الخمسة التي عنيتها في خطبته لكن هذه نكتة لم يسعني اهمالها. قال الهيثمي ).

(٢) لاحظ مقدمة النهاية : ١٩ قال ( ولما كان ابن منظور قد افرغ النهاية في لسان العرب فقد اعتبرنا ما جاء من النهاية في اللسان نسخة وأثبتنا ما بينه وبينها من فروق ).

١٧٣

الحديث بالنهي :

احداهما : عبارة النهاية لابن الأثير وقد نسبها اليه صريحاً.

والثانية : عبارة الأزهري في تهذيب اللغة ولم يصرح باسمه وانما عبر بقوله ( قال : وروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) والكلام الذي نقله هذا القائل هو جزء من هذه العبارة. فليس ذلك قول لابن منظور نفسه.

٣ ـ واما الدر النثير للسيوطي ( ت ٩١١ ه‍ ) فهو :

أوّلاً : مختصر نهاية ابن الأثير واسمه الكامل ( الدر النثير تلخيص نهاية ابن الأثير ) وقد اضاف على ذلك اضافات قليلة كما ذكر في مقدمة محقق النهاية(١) وعبارته في المقام نص عبارة ابن الأثير فهو الحقيقة ليس مصدراً آخر.

وثانياً : ان الظاهر ان السيوطي لا يلتزم بان معنى ( لا ضرر ) هو النهي ، فانه في كتبه الحديثية والفقهية جرى على ما بنى عليه اكثر فقهاء العامة من تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري ، ففي كتابه تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك نقل عن ابن داود قوله ( ان الفقه يدور علىٰ خمسة احاديث وهذا احدها )(٢) وفي كتابه الأَشباه والنظائر(٣) ـ وهو مؤلف في القواعد الفقهية ـ قد فرَّع عليها فروعاً كثيرة لا تنسجم الا مع التفسير المذكور كما تقدّم ذكر ذلك.

__________________

(١) قال في ص ٨ ثم رأى السيوطي ان يفرد زياداته على النهاية وسماها التذييل والتهذيب علىٰ نهاية الغريب. ( ويوجد هذا التذييل بآخر نسخة من نسخ النهاية بدار الكتب المصرية وهو في سبع ورقات ) وقد ذكر في ص ١٩ ـ ٢٠ ( وقد نظرنا في الدر النثير للسيوطي وسجلنا تحقيقاته وزياداته ومعظمها عن ابن الجوزي ولعلّه اطلع على غريبه فهو يكثر النقل عنه ).

(٢) المصدر ٢ / ٢٢.

(٣) الاشباه والنظائر ٨٤ ـ ٨٥.

١٧٤

٤ ـ واما تاج العروس للزبيدي : فالظاهر انه اخذ ما ذكره من النهاية اما مباشرة أو بتوسط لسان العرب أو الدر النثير ، فانها جميعاً من مصادره كما يظهر من مقدمة كتابه ، وقد اعتمد عليه محقق النهاية في تحقيق نصها ـ كما ذكره في مقدمتها ـ وعبارته في المقام عين عبارة النهاية.

مضافاً إلىٰ ان كلامه قد لا يدلّ علىٰ جزمه بذلك فانه لم يتضمن إلا نقل هذا التفسير حيث قال ( والاسم الضرر فعل واحد والضرار فعل الاثنين وبه فسر الحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) ، اي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه ولا يجازيه علىٰ اضراره بادخال الضرر عليه ، وقيل هما بمعنىٰ وتكرارهما للتأكيد ).

٥ ـ واما مجمع البحرين : فهو أيضاً ذكر عين عبارة النهايه في المقام وقد صرح في المقدّمة بانها من مصادره.

وبذلك يتضح :

أوّلاً : ان ذكر هذا الرأي في كلمات هؤلاء لم يكن عن التزام به من قبلهم جميعاً ، بل كان ذكر اكثرهم لذلك علىٰ سبيل النقل ـ ولو احتمالاً ـ كما في المصادر الأَربعة الأولىٰ ، وذلك ان اكثر الكتب اللغوية شأنها تجميع الكلمات والاقوال كالجوامع الحديثية ، ولذا كانوا يذكرون الاسناد اليها في العهد الأوّل.

وثانياً : ان اصل هذا التفسير ينتهي إلىٰ كلامين تقدّم ذكرهما في أوّل هذا الفصل احدهما للازهري في تهذيب اللغة ، والثاني للهروي في الغريبين ، وسائر المتأخرين عنهما انما ذكروا نص هذين الكلامين أو احدهما ـ ولو ملخصاً ـ من دون تصرف زائد في ذلك.

وعلى ضوء ذلك يظهر ان ما ذكر من نسبة فهم هذا المعنىٰ إلىٰ مهرة اللغة لا يخلو عن نظر وتأمّل.

١٧٥

و الملاحظة الاخرى : انّ الاحتجاج بقول أهل اللغة ضعيف لعدم حجية اقوالهم في حد انفسها ـ علىٰ ما اوضحناه في علم الأصول ـ لا سيّما في مثل هذا الموضوع الذي لا يرتبط بتفسير مفرد لغوي ، وانما يرتبط بتشخيص المعنىٰ المجازي للكلمة ، وخصوصاً مع تعارضه مع فهم الفقهاء الذين هم اكثر اطلاعاً علىٰ المناسبات الدخيلة في تشخيص المراد التفهيمي ، لا سيّما في النصوص التشريعية حيت تقدّم أن اغلب فقهاء الفريقين فهموا من الحديث نفي مجعولية الحكم الضرري.

الوجه السادس والسابع والثامن : ما نقله (قده) عن صاحب العناوين من انه قال :

١ ـ ( والحق ان سياق الروايات يرشد إلىٰ ارادة النهي من ذلك ، وان المراد تحريم الضرر والضرار والمنع عنهما ، وذلك إمّا بحمل ( لا ) علىٰ معنىٰ النهي ، وامّا بتقديركلمة ( مشروع ومجوز ومباح ) في خبره مع بقائه علىٰ نفيه ، وعلىٰ التقديرين يفيد المنع والتحريم.

٢ ـ وهذا هو الانسب بملاحظة كون الشارع في مقام الحكم من حيث هو كذلك ، كما في مقام ما يوجد في دين وما لا يوجد ، وان كان كل من المعنيين مستلزماً للآخر إذ عدم كونه من الدين أيضاً معناه منعه فيه ومنعه فيه مستلزم لخروجه عنه.

٣ ـ مضافاً إلىٰ ان قولنا ( الضرر والضرار غير موجود في الدين ) معنىٰ يحتاج تنقيحه إلىٰ تكلفات ، فانّ الضرر مثلاً نقص المال أو ما يوجب نقصه ، وذلك ليس من الدين بديهة إذ الدين عبارة عن الاحكام لا الموضوعات ، فيحتاج حينئذٍ إلىٰ جعل المعنىٰ هكذا : ان الحكم الذي فيه ضرر أو ضرار

١٧٦

ليس من الدين ، وهذا غير متبادر وإن بالغ فيه بعض المعاصرين )(١) .

وهذه الوجوه غير تامة أيضاً.

أما الأَوّل : فلمنع إرشاد سياق الروايات إلىٰ ارادة النهي من ( لا ضرر ) لا سيّما علىٰ المختار من دلالة ( لا ضرار ) علىٰ النهي. كما ان الوجهين المذكورين لتخريج ارادة التحريم ضعيفان وانما الصواب ما تقدّم ذكره في تصوير هذا المسلك :

وامّا الثاني : فلأن كون الشارع في مقام الحكم والقضاء لا يقابل كونه في مقام بيان تحديد الأحكام الشرعيّة بعدم الضرر تطبيقاً لذلك في المورد كما هو واضح.

واما علىٰ الثالث : فلان مبناه ثبوت زيادة ( في الإسلام ) ليكون المنفي وجود الضرر في وعاء التشريع ، وأمّا علىٰ تقدير عدم ثبوتها ـ كما هو الصحيح ـ فان المنفي حينئذٍ يكون وجود الضرر في الخارج ، وهو غير مراد تفهيماً علىٰ كل تقدير سواء فسر بالنهي أو بنفي الحكم الضرري ، لكن مصححه علىٰ الأَول التسبيب إلىٰ عدم الإضرار وعلىٰ الثاني عدم التسبيب إلىٰ وقوع الضرر ولا ترجيح للأَوّل علىٰ الثاني بل سبق تعين الثاني.

الوجه التاسع : ما يمكن ان يقال علىٰ ضوء ما ذكره في موضع آخر حيث قال : ( انّ التخصيصات الكثيرة التي يدَّعون ورودها علىٰ القاعدة ليست كما يقولون ، وأنها مبتنية علىٰ ارادة المعنىٰ الذي رجَّحوه من التعميم للتكليفي والوضعي وللضرر الناشئ من اركان المعاملة وشروطها وما يترتب عليها مما هو خارج عنها(٢) فلعل التسليم بورود تلك التخصيصات على

__________________

(١) لاحظ رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة ـ الفصل الثامن ـ ص ٤٠ للسيد مير فتاح ، العنوان العاشر.

(٢) رسالة ( لا ضرر ) للعلاّمة شيخ الشريعة ـ الفصل التاسع ـ ص ٤٥.

١٧٧

الحديث في تفسيره بنفي الحكم الضرري يكون قرينة علىٰ بطلان هذا الاحتمال ، فيتعين احتمال النهي ، وبعبارة أخرى لازم تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري كثرة التخصيص بخلاف تفسيره بالنهي المولوي عن الاضرار ، فهذه قرينة عقلية علىٰ بطلان ـ تفسيره بنفي الحكم الضرري.

لكن هذا الوجه أيضاً غير تامّ لما سيأتي في التنبيه الثاني من تنبيهات القاعدة من عدم ثبوت استلزام ارادة نفي الحكم الضرري لتخصيص الحديث كذلك.

هذه هي الوجوه التي افادها العلاّمة شيخ الشريعة (قده) في ترجيح هذا المسلك ، وقد ظهر عدم نهوض شيء منها علىٰ ذلك. وعلىٰ هذا : فهذا المبنى ـ بعد تمامية تصويره ـ ليس له معيّن في حدّ نفسه في مقابل سائر الوجوه والمعاني التي يصح ارادتها من الحديث.

البحث الثالث : في مناقشة هذا المسلك.

ويظهر ذلك مما سبق في تحقيق معنىٰ الحديث علىٰ المختار.

ففيما يتعلّق ب‍ ( لا ضرر ) قد اوضحنا ان معنىٰ الضرر بما انه معنىٰ اسم مصدري لا يتضمن النسبة الصدورية ـ فلا تناسب بينه وبين احتمال النهي لانه ماهية مرغوب عنها لا تتحمّل إلا بتصوّر التسبيب الشرعي فيكون نفيه نفياً لذلك بالطبع ، وإنما المناسب مع النهي هو الإضرار والضرار ، مع تأيّد ذلك بفهم اكثر الفقهاء وأنسبيته مع بعض موارد الحديث كقضية سمرة علىٰ ما مرّ سابقاً.

واما فيما يرتبط ب‍ ( لا ضرار ) فان افادته للنهي صحيحة ، لكن لا يقتصر مفادها علىٰ ذلك لأَنَّ مؤداه التسبيب إلىٰ عدم الاضرار بالغير ، وهذا المعنىٰ كما يقتضي النهي عنه فانه يقتضي تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية لمكافحته علىٰ ما سبق ايضاً.

١٧٨

وقد يعترض على هذا المسلك بوجوه اخرى :

منها : ما تقدّم في اثناء المباحث السابقة وتقدم القول فيها.

ومنها : ما أورده السيد الاستاذ (قده) من انه لا يمكن الالتزام باحتمال النهي في المقام ، ( امّا بناءً ) على اشتمال الحديث علىٰ جملة ( في الإسلام ) كما في رواية الفقيه ونهاية ابن الأثير فظاهر ، لانّ هذا القيد كاشف عن ان المراد هو النفي في مقام التشريع لا نفي الوجود الخارجي بداعي الزجر ، ( وامّا بناءً ) على عدم ثبوت اشتمالها عليها كما هو الصحيح ، فلان حمل النفي على النهي يتوقّف على وجود قرينة صارفة عن ظهور الجملة في كونها خبرية ، كما هي ثابتة في قوله تعالى :( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ) (١) فان العلم بوجود هذه الامور في الخارج مع العلم بعدم جواز الكذب علىٰ الله سبحانه وتعالى ، قرينة قطعية علىٰ ارادة النهي ، وأمّا في المقام فلا موجب لرفع اليد عن الظهور وحمل النفي على النهي ، لامكان حمل القضية على الخبرية(٢) .

وفيما ذكر نظر في كلا الشقين :

اما الشقّ الأَولّ : فيلاحظ على ما ذكر :

أوّلاً : انه لا وجه لذكره بعد ان كان مبناه ومبنى المعترض عليه جميعاً ـ وهو العلاّمة شيخ الشريعة ـ عدم صحة هذه الزيادة فالبحث في الصيغة التي ثبت ورود الحديث بها لا غيرها.

وثانياً : ان وجود هذه الزيادة وان كان يمنع عن جعل المقصود ب‍ ( لا ضرر ) نفس النهي عن الاضرار ، إلا انه لا يمنع من استفادة التحريم المولوي

__________________

(١) البقرة ٢ / ١٩٧.

(٢) لاحظ مصباح الأصول ٢ / ٥٢٦.

١٧٩

من الحديث على ان يكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه استعمالاً ، ويراد به تفهيماً نفي جواز الضرر في الشريعة الاسلامية ومدعى المعترض عليه هو دلالة الحديث على الحرمة سواءاً كانت مراداً استعمالياً أم تفهيمياً ، كما يظهر من آخر كلامه في المقام(١) .

ان قيل : انه يعتبر في نفي شيء في الشريعة المقدّسة ثبوت الحكم المنفي للشيء مسبقاً كأن يثبت له في الشرائع السابقة كما في قولهعليه‌السلام ( لا رهبانية في الإسلام ) فان الرهبانية كانت مشروعة في الامم السابقة فكان نفيها في الإسلام نفياً لمشروعيّتها ، والإضرار ليس كذلك ( فان حكمه السابق حيث لم يكن اباحة بل كان إمّا تحريماً أو قبيحاً على ما يستقلّ به العقل فارادة نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ينتج ضدّ المقصود وهو نفي الحرمة أو القبح الثابتين سابقاً ).

قيل : إن هذا البيانأوّلاً : منتقض بقوله ( لا مناجشة في الإسلام ) فانه لا اشكال في ان المراد نفي مشروعيتها مع أنها أيضاً قبيحة عقلاً. وقد ذكر الشيخ الأنصاري في المكاسب المحرمة بعد ذكر النجش انه يدل علىٰ قبحه العقل ، لأنّه غش وتلبيس واضرار فالنجش امّا منحصر بمورد الاضرار كما يظهر من المصباح المنير(٢) أو اعم من ذلك ، فكيف يوجّه نفي الحكم فيها بلسان نفي موضوعه مع أنّه قد ينتج ضد المقصود.

وثانياً : انه يمكن حل ذلك بملاحظة مجموع جهتين :

الأُولى : ان نفي الحكم بلسان نفي موضوعه لا يختص بما لو كان

__________________

(١) لاحظ مصباح الأصول ٢ / ٥٢٦.

(٢) المصباح المنير ٢ : ٥٩٤.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360