قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار22%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190796 / تحميل: 7563
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحمل تدريجياً انه في الشهر الثالث يبلغ طوله ثلاثة سنتمرات 3 سم ووزنه 11 غراماً فقط ويكون الرأس كبيراً مخيفاً يقارب في حجمه ثلث حجم الجنين ، وأما الأحشاء فهي بارزة مع الكبد في حالة فتق فما هذا المنظر وأي جراح سيصلح له هذا الفتق ويرد احشاءه؟ لا نستعجل فالارادة الحكيمة تفعل فعلها ، كما نلاحظ ظهور العينين والأذنين والأطراف كجذمور صغير!!

وفي نهاية الشهر الثالث يبلغ طول الجنين 10 سم ووزنه 55 غراماً أي أن طوله أصبح ثلاثة أضعاف خلال شهر ووزنه تضاعف إلى خمسة أضعاف ، ولا يلبث ذلك الفتق أن يزول وترجع الأحشاء مع الكبد إلى الداخل ويتكون موضع السرة حيث يبقى بصمة على مر الزمن تذكر الانسان بالموضع الذي خرج منه!!

وفي نهاية الشهر الرابع يصبح طوله 20 سم ووزنه 170 غراماً أي تضاعف الطول خلال شهرين سبع مرات وتضاعف الوزن 17 مرة!! كما يتشكل الجهاز الهضمي ويبدأ الكبد بالعمل ولكن الجنين مع هذا يبدو أحمر اللون أصلع كما أنه يبدو بشع المنظر متجعد الجلد ، ولكن لا نستعجل لان كل شيء سيتم على ما يرام ، ففي نهاية الشهر الخامس يصبح طوله 30 سم ووزنه 650 غراماً كما يظهر شعر الرأس وتبدأ غدد الجلد في العمل. اذن بدأت مظاهر الجمال بالظهور حسناً فهل انتهى الأمر أم انه بحاجة إلى أشياء جديدة؟ هناك أشياء كثيرة تحتاج إلى تتمة فالاجفان مطبقة ملتصقة ببعضها ولا أظافر كما ان لون الجلد ما زالد أحمراً ، ولا تزال تجعدات الجلد موجودة كما ان الخصيتين ما تزالان في الظهر ولكن ما أن يصل إلى الشهر الثامن حتى يكون طوله 45 سم ووزنه 2500 غرام ، والاجفان منفصلة والشحم تحت الجلد أخفى التجعدات كما ان لون الجلد أصبح أبيض وردياً جميلاً وهاجرت الخصيتان من الظهر إلى

٨١

الصفن ، وفي نهاية الشهر التاسع يكون طوله 50 سم أي تضاعف طوله ما يقرب من 17 مرة والوزن 3250 غراماً أي تضاعف الوزن قرابة 325 مرة كما ان الاجهزة تكون كاملة ويكون الجنين في تمام تخلقه لا ينقصه شيء. فكيف سارت الأمور في هذا الطريق مرحلة مرحلة لا تسبق مرحلة أخرى ولا تستأخر وكل منهما توصل الجنين إلى مرحلة أخرى تتمم الاولى؟! أي خلق واي ابداع سبحانك اللهم؟!! ...

الولادة :

ولنلق نظرة على أجهزة هذا الجنين عندما يحين الوقت لنزوله إلى الكدح!! ان وزن القلب 20 غراماً ووزن الرئة 30 غراماً ووزن الكلية 12 غراماً ووزن الدماغ 350 غراماً ، أما وزن الدرق والمعثكلة فهي 3 غرامات والكبد يزن 125 غراماً ، أما وزن النخامة ملكة الغدد فهو نصف غرام لا أكثر!! بينما وزن المشيمة 500 غرام لانها في الحقيقة تمثل جميع أعضائه وأجهزته العاملة فهي التي تغذيه وتحميه وتهيء له كل ما يحتاج لنموه واستقراره واتزانه فما أعقلها تلك الأم الصغيرة؟!

ثم لننظر الى هذه الانشوطة التي يتعلق بها الجنين وهو يتأرجح بها مسروراً والتي تسمى بالحبل السري إنها أرجوحة مسلية ( طول الحبل السري 50 سم ) فهو يلعب ويتحرك كيفما يشاء ويخبط برجليه ويديه جدار الرحم معلناً وجوده وحياته ومخبراً بوضعه وسروره بهذه الحالة كما أن هذا الحبل يحوي مواسير الدم التي تنقل من المشيمة إلى الجنين حيث نجد في الحبل وريداً ضخماً وشريانين يقومان بايصال الدم وإرجاعه فهي مهمة مقدسة ، ولذا كان لهذا الحبل مزايا مهمة جداً فقصره يعرض لشدة الضغط على المشيمة وبالتالي انفكاكها وتعريض حياة الجنين للخطر بنقص تروية الدم كما أن طول الحبل قد يجعله ينسدل أو يلتف على عنق

٨٢

الجنين ليقوم بعمل أشبه ما يكون بعملية شنق للجنين وهي إذا حدثت قطعت ورود الدم إلى الدماغ وبالتالي هلاك الجنين فأي أسرار وأي إبداع في كل جزء من هذا المخلوق وهذا الكون( الذي أحسن كل شيء خلقه ) ،( لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ) ،( ولقد كرمنا بني آدم )

وطالما تحدثنا في هذه الصخامة التي وصل اليها الجنين وهي ما ناحية الطول أكثر بـ 17 مرة ، ومن ناحية الوزن أكثر بـ 325 مرة عما كانت عليه المضغة في نهاية الشهر الثاني حيث حصل الانعطاف الانساني في تخليق المضغة وتكوينها ، فماذا يحصل للرحم وهل هو بهذه السعة والصخامة أم انه يتمدد؟ وإذا تمدد فهل يصل إلى هذا التمدد الهائل؟ يجيبنا الطب ويقول : ان الرحم تبلغ من الحجم عند الفتاة الغذراء حوالي 2 ـ 3 سم3 بينما هي تصل في أواخر الحمل إلى حجم خمسة ألتار أو ما يعادل 5000 سم 3 أي أن حجم الرحم ازداد بمقدار 2500 ضعف تقريباً كما أنه يصل في بعض الحالات إلى 10 ليترات أو حتى 15 ليتراً كما في الحالات المرضية التي تعرف بالاستسقاء الأمينوسي أو الجنين الوطل أو الحمل التوأم!!! فكيف استطاعت عضلات الرحم أن تتمطط بهذه الكيفية حتى استطاعت أن توسع الحجم إلى ألفين وخمسمائة ضعف كما انها بعد الوضع تعود إلى ما كانت عليه فأي سر عجيب هذا الذي تحتويه؟! وأما الوزن فتزداد عشرين ضعفاً حيث يكون وزن الرحم قبل الحمل 50 غراماً بينما هو عند الوضع كيلو غرام واحد فما هي المواد التي انضمن إليها وتشربت بها حتى زادت بهذا الشكل؟ إنها أسرار وألغاز يحتار حتى الطب في تعليلها وهي من اختصاصه!! ثم نتساءل حول هذه الضخامة المفرطة كيف يتسنى للبطن أن يحتويها حتى ليصل قعر الرحم إلى أسفل عظم القص والذي يسمى بالذيل الخنجري؟ حقاً إن الحمل معجزة بحد

٨٣

ذاته لولا اننا نراها كل يوم فتبلد حسنا اتجاهها ، ثم لننظر في مستويات أخرى حتى نرى هذا الانقلاب الهائل في جسم المرأة والذي يتجلى في كل ناحية من ناحية جسمها ، أولاً على مستوى الحوض حيث انها تستعد لتدخل الجنين وخروجه حياً وهذا بحد ذاته عجيبة من العجائب سنتعرض لها بعد قليل ، ثم ان المبيض يكون قد لحم فلم يعد يفرز شيئاً وكأنه صامت ينظر إلى هذه المسرحية العجيبة وهي مسرحية تخلق الانسان وأما الدم فهو قد أعلن استنفاره للقضية ولكن كيف بامكانه أن يخدم القضية الخطيرة؟ هنا يحصل تشاور على مستوى عال وتكون النتيجة كالتالي :

يقول الدم ، ما هو الشيء الذي أستطيع أن أقدمه لكم فتكون الإجابة لا عليك سوف تبعث الغدة النخامية أوامرها لقشر الكظر حتى يزيد من افراز هورمون الحابس للملح والماء وهو الالدوسترون فاذا زادت كتلة الدم بزيادة الماء كان هذا أحسن وذلك احتياطاً للطوارىء فيما لو حصل نزف فتكون كمية الدم أكبر ولكن هل هذا يكفي؟ انه لا يكفي اتصلوا سريعاً بالكبد حتى يزيد لنا من كمية مولد الليفين ويدفعها إلى الدم حتى يتخثر الدم بسرعة فيما إذا حصل ، نزف خاصة وان المشيمة سوف تقتلع وتنسلخ من قعر الرحم ، وكل هذا سيعرّض لخطر النزف ، وأما أنت أيها الدم فاستوعب كل ما نرسل إليك طالماً أظهرت إخلاصك للموضوع ، ويكون جواب الدم انني الخادم المخلص لهذا الانسان العظيم الذي أساعد ف إظهاره إلى صفحة الوجود ، ثم لا تلبث الأوامر المشددة أن تنطلق إلى الكبد ليزيد من تقوية الدم وشد أزره في الأزمات وذلك يتوليد المزيد من الحديد والخضاب ، وهكذا يحصل التعاون ما بين الغدة النخامية والكظر والكبد والدم ، هناك أمور أخرى يجب أن نحتاط لها وهي موضوع الجراثيم الانتهازية التي تنتظر مثل هذه الفرص حيث

٨٤

تنفتح الأوساط العقيمة فتجدها مزارع طيبة للنمو والتكاثر!! إذن فلترسل الأوامر إلى نقي العظام حتى يزيد من انتاج الكريات البيض وجعلها في أهبة الاستعداد لمقاومة الإنتان ، وهكذا يرتفع رقم الكريات البيض بضعة آلاف في الملم3 بالاضافة إلى الصفيحات التي ترسل إلى الدم لتعاون هي ايضاً في قطع النزيف فيما لو حصل؟!! انقلاب شامل في كل أجهزة البدن ، كلها تستعد للمهمة الخطيرة : الأعصاب ، الغدد ، الأخلاط ، العضلات ، المفاصل ، العظام

ترسل الأوامر الهورمونية إلى مفاصل الحوض بالخاصة حتى ترتخي وتهيء الطريق ولا تضايق المرور وهذا عن طريق هورمون الرولاكسين الذي يقوم بهذا الفعل خاصة ، ثم ماذا عن الهورمونات السحرية العجيبه التي تفعل بترقيق شديد جداً يبلغ الجزء من المليون ، انها تعمل على أروع المستويات ، فالجسم الأصفر الذي استمر في دأبه ونشاطه مدة خمسة أشهر وسطياً تقول له المشيمة جزاك الله كل خير فلقد تعبث كثيراً وأرى أن ترتاح لأقوم بالمهمة التي تقوم بها وإذا بخلايا المشيمة الأمامية تقوم بالاضافة إلى عملها الامتصاصي للدم تقوم بإفراز هورمونات تعين على استقرار الجنين داخل الرحم وهي ما تسمى بالبرولانات ( آ ) و ( ب ) A + B بالإضافة إلى الجريبين واللوتئين ، وهذه الهورمونات على تفاهم مستمر مع النخامة وهي تخبر النخامة في كل لحظة عن صحة الجنين ونموه وتقدمه ، وعن نموه الخلوي والجهازي والعضوي على وجه العموم ، وعندما تحين ساعة الصفر تكون الخطة ان توقف هذه الهورمونات المفرزة وخاصة الجريبين دفعة واحدة حيث تحصل المفاجأة العجيبة وهي انقطاع الهورمونات التي كانت تحفظ استقرار الجنين داخل الرحم انها قضية مدبرة بتفاهم كامل بين الغدد والاعضاء ، وهكذا يتزعزع وجود الجنين ويبدأ المخاض الشاق ، وهنا تحصل العجيبة وهي مرور الجنين من الأعضاء التناسلية إلى الخارج ،

٨٥

إن فوهة العنق مغلقة تماماً بسدادة ليفينية ، وان المضيق العلوي فيه فتحة عظمية يبلغ قطرها في حدود (12) سم فكيف سيمر الجنين من هذه الفتحة؟ تبدأ ملكة الغدد النشيطة في إرسال الأوامر من الفص الخلفي بشكل منظم إلى عضلات الرحم وهذا الهورمون يفرز من خلايا خاصة مهمتها هي هذه وفي هذا القسم يفرز هورمون آخر مهمته أن يضاد ادرار البول ، فماذا يحصل لو حصل خطأ بسيط ، فكانت الأوامر للخلايا الثانية وليست الأولى ، لم يحصل هذا مطلقاً ولا في امرأة واحدة فكيف سار هذا الناموس البديع المتناسق المحكم؟؟؟

يبدأ هورمون الفص الخلفي للنخامة بإفرازاته المنظمة المقلصة لعضلات الرحم ، وهكذا تسير التقلصات وتدفع الجنين إلى أسفل ، وتبدأ آلام المخاض عند الحامل ومع تكرار هذا الأمر ينفتح العنق وفيه خاصية عجيبة أيضاً حيث يبلغ من انفتاحه درجة كاملة بحيث يتساوى مع جدران الرحم ثم ينبثق جيب المياه الذي تكلمنا عنه ويبدأ رأس الجنين يحاول أن يتطابق مع الفوهة التي سيمر بها ويكون هذا باطباق ذقنه إلى صدره والتقدم بمؤخرة رأسه وهكذا يمر الولج إلى أسفل بينما تكون الأم في آلامها المريرة تعاني ما تعاني!! ولكن ما أن ترى المولود بجنبها حتى تنسى كل ما تألمت في سبيل هذه الثمرة العزيزة الغالية التي هي ثمرة الحب ( المولود الجديد ) ـ وعندما يصل المولود إلى هذه الحياة تحصل قضية ايضاً هي معجزة في حد ذاتها وهي حجم الرحم الكبير والفراغ الكبير بعد خروج الجنين وليس هذا المهم بقدر أهمية انسلاخ المشيمة وانفتاح برك الدم التي كانت تغذي الجنين ، لولا إرادة الله العجيبة التي حفظت هذا الكائن في كل مراحلة لكانت كل ولادة معناها الموت الحقيقي للأم لأن الدم سيخرج كالسيل الدافق من أفواه تلك البرك التي تنضح به ولكن ما أن تنزل المشيمة حتى ينقبض الرحم بشكل عجيب حيث يصبح

٨٦

في قساوة الحجر بحيث ان الذي يضع يده على بطن الولود يشعر بتلك الكتلة القاسية التي هي دلالة ممتازة على انقباض الرحم ولذا سميت هذه العملية بعملية الرقاء الحسي وسميت الرحم في هذه الحالة بكرة الأمان وفعلاً انها كرة أمان تطمئن الطبيب إلى أن الوضع على ما يرام ولا خوف على الأم التي وضعت فتبارك الله أحسن الخالقين.

تغذية الطفل :

أسرار وأسرار يحار الطب والعلم في تفسيرها ومنها كيف سيتغذى هذا الوليد بعد أن جاء إلى هذا العالم الجديد وهو غريب عليه ولم تعد معه تلك المشيمة التي كانت تقدم له الطعام مهضوماً جاهزاً ، ان الارادة الحكيمة هيأت له الثدي كاحسن ما يكون فلننظر بدقة إلى كيفية هذا التكوين :

خلال الحمل تكون الأوامر المرسلة للثدي هي بالاستعداد فقط وهي هنا تكاثر الغدد ولذا نرى حوالي 25 فصاً عذباً لا للبن ومتى حان الوضع ترسل النخامة أوامرها لغدد الثدي بالافراز ويبدأ الافراز ، وهنا نتساءل كيف تحول الدم الذي يغذي الثدي إلى لبن مفيد للطفل حقاً انه سر من الأسرار العجيبة المدهشة فلقد وجد أن طريقة وصول المواد الدسمة وغيرها عن طريق اللبن هو عن طريق الافراز العائد للخلية ، ومعنى هذا ان الخلية الغدية تمتلىء بكرات الدسم فلا تستطيع عبور العشاء الخلوي فينجرف مقدمة الخلية مع كرات الدسم ثم تعود الخلية مرة أخرى فتجدد الغشاء الخلوي وما ذهب منها ، وهكذا ولقد وجد أن اللبن يحتوي على كافة المواد التي يحتاجها الجسم وان تركيز المواد فيه يختلف مع تطور عمر الطفل كما ان اللبن معقم فلا يحتوي على الجراثيم بالإضافة إلى أن أجسام المناعة تمر من خلاله مما تعطي الطفل مناعة مهمة ضد الأمراض وذلك من دم والدته ، وإذا ذهبنا نعدد مزايا حليب الأم

٨٧

وأفضليته على باقي أنواع الحليب سواء حليب الحيوانات أو الحليب المجفف فانه يتفوق بشدة وهذا كله من رحمة الله بهذا المخلوق الذي يلد ضعيفاً وهو يحتاج للرحمة والعناية والغذاء فأمن له كل ذلك وبشكل متناسق فتغذية الطفل تخلق حناناً وعطفاً ورحمة من الأم على ولدها وتشد الناحية الروحية العاطفية بينهما

لنستمع إلى سيد قطب وهو يحدثنا عن الاعجاز في خلق اللبن عند الآية القرآنية :( وإن لكم في الإنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ) فهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام مم هو؟ انه مستخلص من بين فرث ودم ، والفرث ما يبقى في الكرش بعد الهضم وامتصاص الامعاء للعصارة التي تتحول إلى دم. هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم فاذا صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب الذي لا يدري أحد كيف يكون

وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم ، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج اليها من مواد هذا الدم عملية عجيبة فائقة العجب وهي تتم في الجسم في كل ثانية كما تتم عمليات الاحتراق ، وفي كل لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد وقد بقي هذا كله سراً إلى عهد قريب. وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا من خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر ، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلاً على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة وما يملك انسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل. ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة ).

٨٨

تشخيص الحمل :

بقي علينا بعد هذه الرحلة الطويلة أن تعرف على بعض الاسرار الأخرى المدهشة منها كيفية تشخيص الحمل؟ فلقد وجد أن الحمل لا يشخص بشكل قطعي في الاشهر الأولى ولكن ابتداء من الشهر الرابع وما بعده بأيام يبدأ قلب الجنين بالنبض ، ويعد سماع دقات قلب الجنين من الأعراض اليقينية لتشخيص الحمل ، وهنا نجد توافقاً عجيباً بين هذا الرقم وعدة المتوفى عنها زوجها حيث سجل القرآن تلك العدة كما يلي :( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة اشهر وعشراً ) وهذا الرقم يطابق إلى درجة عجيبة الرقم الذي يحدده الطب لوضوح العلامات اليقينية للحمل ، وهذا الشيء مهم من أجل الميراث والنفقة وما سواهما من الأمور الهامة في الأسرة وحق الذرية فهل كان الذي أنزل عليه القرآن ( عليه الصلاة والسلام ) طبيباً اخصائياً اطلع على علم التشريح الجنيني وأدرك هذه الاسرار ثم سجلها ، أم أن هناك أمراً أهم وهو اطلاع الله على السر وأخفى!!!

ومن هذه الاسرار أيضاً عدم جماع الرجل لامرأته في وقت الحيض حيث أن غشاء الرحم المخاطي يكون في هذه المرحلة في حالة توسف وانسلاخ ولذا فإن الجماع في هذه الحالة له أضراره المؤكدة وأولها اصابة الرحم بالتهاب وانتان وذلك بسبب انكشاف الطبقات الداخلية للرحم كما لو جرحت اليد والجرح مفتوح فكيف سيعمل التلوث ، ان الرحم بالضبط هي في حالة جرح ولكن من باطنها فأي جماع سيؤدي إلى صعود الجراثيم من المهبل إلى عنق الرحم وإذا صعدت فإن البيئة مناسبة جداً لإحداث الاصابة الانتانية هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الحالة النفسية للمرأة تكون أبعد ما يمكن عن الجماع والاستثارة الجنسية ، فلقد وجد الطب أن افراز هورمون معين هو ( الفوليكولين ) هو الذي

٨٩

ينمي الإثارة الجنسية والحس الجنسي وهذا يزداد إفرازه قبل القاء البيضة أي بدءاً من أول الطهر حتى اليوم الرابع عشر من الدورة حيث تلقى البيضة في هذا اليوم ، وفي هذا اليوم بالذات يندلق هذا السائل مع انفجار جريب دو غراف الذي تحدثنا عنه وبهذا تزداد الغريزة الجنسية في هذا اليوم أكثر من بقية أيام الدورة مما تجعل المرأة تتوافق مع هذا الافراز تماماً فزيادة الغريزة والميل الجنسي مع الاستعداد للالقاح والعكس بالعكس حيث يقل الميل الجنسي بعد إلقاء البيضة وتكون الجسم الأصفر الذي هو من مخلفات جريب دوغراف المنفجر الذي أعطى البيضة ، وهذا الجسم الأصفر يعطي هورموناً هو البروجسترون أو اللوتئين وهذا الهورمون يحدث تأثيرات مخالفة لتأثيرات الهورمون الأول حيث ينمي هذا الحب والعطف والرحمة فالهورمون الأول هو هورمون المحبات بينما الهورمون الثاني هو هورمون الأمهات!! كما لوحظ أن الهورمون الأول يحدث انقلاباً في كل الجهاز التناسلي عند المرأة وبشكل يتفق مع امكانية الالقاح ، فالأعضاء التناسلية عند المرأة يؤثر عليها فينمي الشفرين والبظر كما ينمي غدد بارتولان وهذه تفرز مواد مخاطية تساعد في عملية الجماع كما أن هذا الهورمون ينمي المهبل ويزيد من حموضته بزيادة سكر العنب الذي يتحول إلى حمض لبن بفضل جراثيم المهبل مما يحمي المهبل حماية جيدة من الانتانات ويزيد من مقاومته ولكن طالما ازداد الحمض فإن هذا فيه خطر على الحيوانات المنوية التي يضر بها الحمض ولكن يحدث أمر على درجة كبيرة من الغرابة وهو ما يعرف بمفرز العنق الآحي اللصوق حيث تفرز غدد العنق أي عنق الرحم في يوم الاباضة مادة رائقة لصوقة مثل آح البيض لا تبقى أكثر من 24 ساعة وهي تعدل مفرزات المهبل الحامضة من جهة كما أنها تشبه السلم الذي سوف يصعده الحيوان المنوي الذي مهد له الأمر كل هذا التمهيد وأما تأثير هذا الهورمون ( أي الفوليكولين

٩٠

على الرحم ) فإنه يزيد من المقوية العضلية أي قوة توتر العضلات كما ينقص عتبة تقلصها أي أن المثير الذي كان يدفعها إلى التقلص في السابق فإن أضعف من يحرض عضلات الرحم على التقلص وهذا له فائدة حيث أن الرحم تقوم بعمل يشبه عمل الاجاصة التي تمتص المني بواسطة عنق الرحم من المهبل امتصاصاً كما لو تصورنا إجاصة من المطاط لها فوهة موضوعة في ماء وضغطنا هذه الاجاصة فإنها تسحب الماء بقوة بعد رفع اصبعنا عنها وهذا ما يحدث بالضبط للرحم في الجماع وحتى في النفير يقوم هذا الهورمون بما يسهل مهمة الالقاح البشري حيث يؤثر على العروق الدموية قتتسع وتحتقن وهذا ما يجعل النفير يفرز سائلاً مطلياً يشكل تياراً يساعد في هجرة البيضة حتى تلتقي بالحيوان المنوي وتتلقح كما يؤثر هذا الهورمون في قشرة الدماغ فينبه الشهوة الجنسية عند المرأة فانظر كيف أثر هذا الهورمون الآخر بتأثيرات متعاكسة تماماً مع الفوليكولين حيث تنعدم تأثيرات البروجسترون على المهبل ، وأما العنق فتكف مفرزاته وأما الرحم فيرفع عتبة تقلصه حتى يؤمن سريراً ثابتاً هادئاً للجنين الإنساني وأما في قشر الدماغ فينمي الأمومة في قلب المرأة فكيف اتفق لهذين الهورمونين أن يقوما بمثل كل هذه الاعمال؟ إنها إرادة الله الطليقة المنشئة التي تحدث كل هذا

وهكذا نجد أن الظرف النفسي لا يوافق عملية الجماع مطلقاً بل على العكس ، كما أن القذارة التي يكون عليها المهبل حيث إن الدم الطمئي يمتاز بأنه وريدي أسود لا يتخثر كما أنه يحتوي كمية من مادة الزرنيخ ، هذا بالإضافة إلى أن الجماع قد يحدث احتقاناً في المنطقة وفي الرحم مما يؤدي إلى زيادة كمية القذف الدموي ، هذه الأشياء التي ذكرناها بالإضافة إلى أشياء كثيرة لسنا بصددها الآن ترينا حكمة القرآن حينما

٩١

يقول :( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) ـ البقرة ـ. ومع هذا نسمع عن بعض أساتذة التوليد الذين يدرسون طلاب الطب ان الجماع في الحيث ليس فيه أذى إنما هو غير جيد من الناحية الميكانيكية لا أكثر؟!!

إن هذا الجواب بالإضافة إلى تفسيرات أخرى تدل على ان الذهنية العلمية ربما خانت أصحابها حين يبحثون في مثل هذه القضايا ، فما هو السر يا ترى في كل هذه المواقف؟ إنها عقدة الفرار من الله إنها نتائج التعليم الغربي الذي ما زال يعاني من الفصام النكد الذي حصل بين العلم والدين وذلك نتيجة اضطهاد الكنيسة لرجال العلم في القرون الوسطى في أوربا والتي نجانا الله منها في عالمنا بسبب فكرتنا الإسلامية العظيمة عن الكون والحياة والإنسان.

إن الحيض أذى بلا شك من كافة النواحي البيولوجية والغريزية والنفسية وصدق الله وخرص المكذبون!!

وآخر المطاف في هذ البحث هو موضوع الفصل بين الجنسي واعطاء تدريس مختلف لكل من الجنسين ولنأخذ مثلاً على ذلك : أن شريطي موجود فكل سلك ملفوف بعازل يعزله عن رفيقه ويحدث اتصال في مكان مناسب خاص فتحصل الإضاءة وتنتشر القدرة الكهربية بينما إذا حصل اتصال ما بين الشريطين في غير المكان المطلوب أدى إلى تعطيل التيار فكيف الأمر لو حصل اتصال على طول الخط كما هو في اتصال الجنسين اليوم!! ولنستمع إلى الدكتور الكسيس كاريل صاحب كتاب « الانسان ذلك المجهول » وهو يحدثنا عن بعض الأشياء التي يجب أن نحددها للانثى والذكر ( إن الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة لا تأتي من

٩٢

الشكل الخاص للاعضاء التناسلية ومن وجود الرحم والحمل أو من طريقة التعليم إذ أنها ذات طبيعة أكثر أهمية من ذلك أنها تنشأ من تكوين الأنسجة ذاتها ومن تلقيح الجسم كله بمواد كيماوية محددة يفرزها المبيض ولقد أدى الجهل بهذه الحقائق الجوهرية بالمدافعين عن الانوثة إلى الاعتقاد بأنه يجب أن يتلقى الجنسان تعليماً واحداً ، وأن يمنحا قوى واحدة ومستويات متشابهة ، والحقيقة أن المرأة تختلف اختلافاً كبيراً عن الرجل فكل خلية من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها والأمر نفسه صحيح بالنسبة لأعضائهن وفوق كل شيء بالنسبة لجهازها العصبي فالقوانين الفسيولوجية غير قابلة للين مثل قوانين عالمنا الكوكبي ، فليس في الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها ومن ثم فنحن مضطرون إلى قبولها كما هي فعلى النساء أن ينمين أهليتهن تبعاً لطبيعتهن دون أن يحاولن تقليد الذكور ، فان دورهن في تقدم الحضارة اسمى من دور الرجل فيجب عليهن أن لا يتخلين عن وظائفهن المحددة ولذا يحب ألا تلقن الفتيات التدريب العقلي والمساوي ولا أن تبث في نفسها المطامع التي يتلقاها الفتياها وتبث فيهم )(1) ونحن لا نسلم بكل ما يقول هذا الكاتب ولكن هذه الإشارة مهمة في توضيح ما يعاني المجتمع الغربي

__________________

1 ـ كتاب الانسان ذلك المجهول ص 108 ـ 109 ص 111.

٩٣

الجملة العصبيّة المركزية

يقول الخالق العليم( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) إن القلب المعني به هنا هو الدماغ مركز التفكير في الانسان وهذا الجهاز هو موضع بحثنا الآن ، فما هو تركيبه يا ترى؟ وما هي مكوناته وعمله الفيزيولوجي؟ وما هي أسراره المحيرة التي لم يكشف النقاب إلا عن القليل منها؟ لنسمع إلى الطب وهو يحدثنا عن بعض هذه الأسرار ...

يعتبر الدماغ بالنسبة إلى الجسم بمثابة الحكومة العاقلة العالمة المخلصة والتي تتحكم في كل الجسم على الاطلاق تحكماً مطلقاً ويعتبر الجسم بمثابة الشعب المتفاني في الطاعة ، وتتكون الجملة العصبية من اجتماع عدة عناصر تتعاون فيما بين بعضها البعض ، كما أنها تتعاون من جهة أخرى مع باقي غدد الجسم وأخلاطه ، وحتى نأخذ فكرة مبدئية عن الأمور نقول أن الجملة العصبية في الإنسان هي أهم جزء في البدن حيث تمثل قيادة الجسم من الناحية المادية والفكرية وهي تتكون من المخ والمخيخ والجذع الدماغي الذي يتكون بدوره من ثلاث قطع هي الساق المخية وهي مزدوجة والحدبة الحلقية وتسمى بجسر فارول أيضاً نسبة لمكتشفها وثالثها

٩٤

وهي البصلة ، وهناك النخاع الشوكي وهو موجود في قناة عظمية تحفظه من كافة الجوانب ويتفرع من النخاع أعصاب عديدة تسري في الجسم كسريان أسلاك البرق والهاتف وهكذا نرى أن عناصر الجملة العصبيه هي سبعة وهي تمثل مركز القيادة الذي يتلقى الأخبار ويرسل الأوامر ولكن كيف يتم هذا الأمر؟ إن هذا كله سنتعرض له بالتفصيل بعد قليل ، ولتبدأ بأبسط الأشياء حتى نصل إلى الأشياء المعقدة ..

الخلية العصبية :

الشيء الأول الذي نريد أن نفهمه هو السؤال التالي : ما هي الأعصاب؟ يقول الطب أن حجر الأساسي أو اللبنة الأساسية في تكوين الجهاز العصبي هو العصبون أو الخلية العصبية أي كباقي الأجهزة التي تشكل الكائن الحي الراقي ولكن تختلف الخلية العصبية عن باقي خلايا الجسم بمميزات هامة وعظيمة هي التي جعلت هذه الخلايا تتمتع بمركز القيادة بينما تعتبر باقي الخلايا تحت حكم الأولى الخلية العصبية تمتاز بشكلها الساحر المعقد والذي يشبه الأخطبوط بأرجله أو الشجرة كثيرة الأغصان التي لا تحمل أوراقاً حيث أن الخلية العصبية تتخد من ناحية شكلها الجسمي شكلاً كروياً أو مغزلياً أو نجمياً أو بيضياً ومن هذا الجسم يخرج من طرفه استطالات كأغصان الاشجار ومن الطرف الآخر يخرج ما يشبه جذع الشجرة أي محور غليظ طويل ولقد سميت الاغصان أو الاستطالات بالاستطالات الهيولية وسمي الجذع بالمحور الاسطواني والسؤال الذي يهمنا في هذا الصدد هو : ما هو السر الذي يمكن في هذه الخلية حتى تكون مقراً للادراك والتفكير والمحاكمة والتصور والخيال والإبداع والذكاء والإرادة والشخصية وهي خلية كباقي خلايا الجسم تتغذى بنفس المواد وتتفاعل كما يتفاعل باقي الخلايا ولها نفس التركيب الداخلي أي هيولى خلوية ونواة وكروموسومات فأي سر

٩٥

عجيب تحتويه هذه الخلية السميعة البصيرة الناطقة المفكرة؟ إن الطب بالطبع لا يجيبنا على هذا السؤال ولكن مع المستقبل قد نكشف له أسرارها؟!!

ان الخلية العصبية لها لون رمادي ولذا تعطي المناطق التي تقطن فيها اللون الرمادي وهو ما نشاهده في الطبقة السطحية القشرية الخارجية لمخ والمخيخ حيث تجتمع الخلايا العصبية بينما هي في النخاع داخله في المركز أي بعكس توزع الخلايا في المخ وهي تبلغ في تعدادها رقماً خيالياً حيث استطاع العالم فون ايكونومو أن يعد خلايا الدماغ بـ 14 مليار ( ألف مليون ) خلية عصبية ولنتصور الآن ترابط هذه الخلايا كلها دفعة واحدة في العمل من أجل المحافظة على سلامة الكينونة الإنسانية أن هذه الخلايا العصبية تقوم بعمل مدهش فذ وبشكل متناسق ومتكامل وموحد حتى أن العالم جودسون هريك القى محاضرة في معهد التاريخ بنيويورك في ديسمبر عام 1957 أراد أن يعطي تشبيهاً للدماغ فقال لو أننا جمعنا كل أجهزة العالم من التلفون والتلغراف والرادار والتلفزيون ثم حاولنا أن نصغر هذه الكومة الهائلة من الأجهزة المعقدة حتى استطعنا وبمجهود جبار أن نوصلها إلى مثل حجم الدماغ فانها لا تبلغ في تعقيدها مثل الدماغ. وصدق لأن الدماغ بلغ من التعقيد حداً يعجز الدماغ عن فهمه!!!

إن الخلية العصبية لا تعمل بشكل مفرد بل تتعاون مع باقي الخلايا والفضل في هذا يعود إلى تفصل الخلايا مع بعضها البعض وذلك عن طريق هذه الشبكة الهائلة من الاستطالات الهيولية حتى لقد وجد أن بعض الخلايا متصل بما يقرب من 1800 خلية أخرى وهكذا نصل إلى شيئين ، الأول هو ذلك الترابط الوثيق بين الخلايا العصبية والشيء الثاني هو عدد الممرات التي يمكن أن تنشأ من خلال هذا الترابط الهائل

٩٦

وخاصة بين 14 ألف مليون خلية عصبية بالطبع إن الرقم الذي يحصل لا يمكن قراءته بحال من الأحوال وهذا واقع الدماغ المحير المعقد.

والخلية العصبية كما قال جون فايفر في كتابه « العقل البشري » هي عبارة عن سلك حي يولد وينقل نبضات كهربائية سريعة ، إنها تحتفظ بنفسها مشحونة وجاهزة للعمل بمساعدة بطارية في داخلها تعمل بواسطة خليط من الاكسجين والسكر وتشحن اوتوماتيكياً وهي تدور ، أي أنها ترسل ما يقرب من بضع مئات من النبضات في الثانية حينما تصل إليها نبضات غامزة من أعضاء الحس أو من خلايا عصبية أخرى وتقوم ألياف الاستقبال للخلية الواحدة باتصالات دقيقة بألياف الإرسال لحوالي خمسين خلية عصبية أخرى وهكذا تنقل الاشارات من خلية إلى أخرى وهي تمر داخل الجهاز العصبي(1) )

ونظراً لتعقد البحث في الجملة العصبية المركزية لذا سوف نحاول أن نأخذ بعض الافكار المبسطة عن تركيبها وعن عملها من جهة ثانية والتعقيد يكمن في كلا القسمين وإن كان في القسم الثاني أشد وأعجب.

داخل الجمجمة :

لنحاول أن ندخل إلى الجوف القحفي المغلق حتى نتعرف على بعض الأسرار ولكن كيف الطريق إلى ذلك؟ لنتسلق أحد الأعصاب الشمية الموزعة بشدة في المنخر ولكن هذه الملامسة سوف تثير منعكس العطاس الشديد حيث سيطرح أي غريب يحاول أن يخرش القسم المخاطي من داخل المنخر ولكن لنحاول أن نخترق الغشاء المخاطي ثم نتسلق أحد الأعصاب الشمية ولكن إلى أين؟ يأتي الدليل ليقودنا إلى المتاهات

__________________

(1) عن كتاب العقل البشري لجون فايفر ص 10.

٩٧

العجيبة وبينما نحن نسير إذا بالعصب يمر من ثقبة من خلال صفيحة عظيمة وهذه الصفيحة مثقبة بشدة لمرور باقي ألياف العصب الشمي ، هذه الصفيحة تسمى بالصفيحة الغربالية لأنها تشبه الغربال في منظرها ثم يصعد العصب الشمي إلى داخل القحف حيث يتصل لكتلة تشبه البصلة ولذا سميت بالبصلة الشمية وبعدها يتخذ الطريق الشمي طريقاً معقداً لسنا بصدده الآن وهنا داخل القحف ماذا نجد؟ كتلة رخوة هشة سريعة التأثر ولكنها مغلفة بثلاثة أغلفة وذلك لحماية المخ وباقي عناصر الجملة العصبية والغشاء الأول بعيد جافي ولذا يسمى بالأم الجافية وكأن الغشاء أما تحوط الجملة العصبية ولكن نظراً لبعد الغشاء الأول سمي بالأم الجافية وهناك الطبقة الرقيقة الحنونة التي تحيط المخ مباشرة ولذا سميت بالأم الحنون وما بين الغشائين يوجد غشاء نسيج يشبه نسيج العنكبوت ولذا سمي بالغشاء العنكبوتي وهو رخو يلتصق بشدة بالأم الجافية ويتباعد عن الأم الحنون حتى يترك المجال لسائل يحيط بالجملة العصبية والأجواف الاخرى حماية للمص وغيره من الرضوض وهنا يقف الإنسان متأملاً متسائلاً عن شدة هشاشة وضعف الجملة العصبية من جهة وشدة فعاليتها وعظمة تركيبها من جهة أخرى ولذا احيطت بكل هذه العناية والتكريم ولنربط ما بين هذه الأغشية الثلاثة التي تحيط بالدماغ وما بين الاغشية الثلاثة التي كانت تحيط بالجنين حينما كان في بطن أمه. والدماغ موضوع ضمن صندوق عظمي هو القحف حيث تشتد سماكته في بعض المناطق الخطرة والتي تتعرض للصدمات أكثر من غيرها كما في الجبهة والقفا وحيث ترق في المناطق الاخرى التي لا تتعرض للصدمات كما في الصدغين ، وداخل هذا الصندوق العظمي يوجد تجاويف وحفر وميازيب بحيث تناسب الفصوص الدماغية تماماً فالصندوق في الداخل ليس أملساً بل فيه البوارز والمنخفضات بشكل يتلاءم مع المحتوى الدماغي ولذا نجد

٩٨

بروزاً مزدوجاً في الامام يناسب الفصوض الدماغية الجبهية والتي يقال أن لها علاقة بتكوين الشخصية ، كما أن القفا بارز بحيث يأخذ شكل الفص القفوي الدماغي والذي له علاقة وثيقة بالرؤية وأما البصلة الشمية التي تحدثنا عنها والتي تختص بحاسة الشم عند الإنسان فهي تقع في قاع القحف في منخفض منه بجنب الخط المتوسط حيث يقوم بجانبها ارتفاع وكأنه عرف الديك ولذا سمي هذا الارتفاع بنتوء عرف الديك وهذا النتوء يتناسب مع الفاصل الفارغ ما بين نصفي كرة الدماغ ، وفي مؤخرة قاع الصندوق القحفي توجد فجوة صغيرة هي الثقبة القفوية والتي تمر منها العناصر العصبية التي تعتبر صلة الوصل ما بين الدماغ والنخاع الشوكي وهي التي مرت معنا وهي الساقان المخيتان والحدبة الحلقية أو جسر فارول وأخيراً البصلة السيسائية والمجموع العام يسمى يالجذع الدماغي ، وأما المخيخ فيسكن منطقة تقع تحت المخ مباشرة حيث يفصل عن المخ بما يشبه الخيمة ولذا سمي هذا الفاصل بالخيمة المخيخية ، وأما النخاع الشوكي وطوله 43 سم فهو يسكن تجويفاً عظيماً محمي من كافة الأطراف بالفقرات العظيمة وهي سبع فقرات في منطقة الرقبة و 12 فقرة في منطقة الظهر وخمس فقرات في منطقة القطن وخمس فقرات في منطقة العجز وأخيراً هناك عدة فقرات تشكل العصعص أو العجز النهائي ، ولو نظرنا في تكوين الفقرات وشكلها لأخذنا العجب كل مأخذ فهي أشبه ما تكون بالصحن الطائر على وجه العموم وإن كانت تختلف اختلافاً طفيفاً من مكان لآخر بحيث تتناسب مع المنطقة التي يمر منها النخاع فهي بالخلف ممتدة بنتوء يسمى النتوء الشوكي حيث تحمي النخاع من الخلف مع صفيحات أخرى تتمفصل مع النتوء وتتمادي به وهي الصفيحات الفقرية وفي الامام يوجد جسم منتفخ هو جسم الفقرة وفي الجانبين توجد نتواءت معترضة للحماية الجانبية وبين

٩٩

كل هذه العناصر ترقد الثقبة النخاعية التي تحوي النخاع الشوكي والذي يبلغ قطره سنتمتر واحد وفي داخله قناة تسمى بالقناة المركزية حيث تحوي جدارنها خلايا تفرز السائل الدماغي الشوكي وتتمادى هذه القناة المركزية في الأعلى حيث تنفتح على منطقة تسمى بالبطين الرابع وهي مهمة جداً من الوجهة التشريحية والفيزيولوجية وهي كائنة في البصلة السيسائية وفيها مركز هام يسمى بمركز الحياة وهو في حقيقته المركز المهيمن على الحركات التنفسية ولذا فإن تخريبه يؤدي إلى انقطاع المركز القائد الذي ينظم الحركات التنفسية وبالتالي الموت ، إلا أن يبقى ذلك الإنسان يتنفس دائماً بالرئة الفولاذية الاصطناعية!! ..

تمفصل العمود الفقري :

وهكذا نرى أن النخاع يحاط بالحماية العظمية من الأمام والخلف ، وأما من الأعلى والأسفل فهو يتمفصل مع بقية الفقرات ويوجد بين الفقرة والأخرى قرص غضروفي حتى يتسنى للإنسان الحركة والتنقل ، ولولا هذه الخاصية لبقي الإنسان جامداً لا يستطيع أن ينحني ولا أن يلتقط الاشياء من الارض ولا أن يميل إلى الجانبين ، والخلاصة سوف يبقى قطعة واحدة إلا من الاسفل والاعلى حيث تتعلق به الأطراف وتتحرك على مستواها فقط ، وهذا كله يتم بفضل هذا التمفصل الرائع المحكم وبفضل العضلات التي تحيط الفقرات من كل جانب وتمكن العمود الفقري الذي يتكون من 33 ـ 35 قطعة أن يتحرك ، ومن نتائج هذا التمفصل وهذه القدرة البديعة فيه يمكن أن نعرف خطرة الخلل الذي يحدث فيما لو حصل على أي مستوى ، ومن أمثلته تكلس الأربطة التي تربط ما بين الفقرات فإن هذا يؤدي إلى مرض خطير يعرف بمرض ماري سترومبل حيث يصاب العمود الفقري بأجمه بالصمل ويصبح كله ملتصقاً قطعة واحدة لا يتحرك لأية جهة بحيث أنه لو

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الحكم ثابتاً للشيء في الشرائع السابقة ، بل يكفي ثبوته له عرفاً وعادة ـ كما اعترف به ـ فان للعرف أيضاً قانوناً وان لم يكن مدوناً ، واضافة النفي إلىٰ الإسلام يكفي في مصححه ثبوت الحكم في القانون العرفي كما هو واضح.

الثانية : انه لا يبعد القول بان الاضرار في العرف الجاهلي كان مباحاً ومجوّزاً وذلك بملاحظة عملهم الخارجي ، فقد كان يتعارف لديهم المعاملات الضررّية كالقمار والربا وغيرهما كما كان من عاداتهم وأد البنات والإغارة والنهب ، وكانت سيرتهم علىٰ وفق قانون ( الحق للقوة ) حيث كان القوي يظلم الضعيف ويغصب حقّه ، كما كانوا يضارون النساء كثيراً ، ولذلك ورد النهي عن مضارتهنَّ في جملة من الآيات القرآنية كقوله تعالىٰ :( وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) (١) كما ورد التنديد بالظالم في كثير منها.

ولا ينافي ذلك حكم العقل بقبح الاضرار فان الأَحكام الحاكمة في العرف الجاهلي كان كثير منها علىٰ خلاف ما يحكم به العقل ، كما اُشير إلىٰ ذلك في كثير من الآيات الشريفة في مقام المحاجة معهم ولا يختص ذلك بإباحة الاضرار.

وعلى هذا فيكون المقصود بالحديث ان الجواز الثابت للاضرار في العرف الجاهلي غير ثابت له في الاسلام.

واما الشقّ الثاني : فيرد علىٰ ما ذكر في إبطاله : ان مجرد انحفاظ كون الجملة خبرية علىٰ تقدير تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري لا يصلح ترجيحاً لهذا التفسير ، ومبطلاً لاحتمال النهي الا اذا لم يكن التفسير المذكور مقتضياً للتجوز في أية جهة اخرى بحيث تتطابق عليه الارادة الاستعمالية والارادة التفهيمية من جميع الجهات ، وإلاّ لو كان هذا التفسير يقتضي نحو

__________________

(١) الطلاق ٦٥ : ٦.

١٨١

تجوّز آخر في الحديث لكان الوجهان سواءً في مخالفتهما للأَصل ، فلا بُدّ من قرينة معينة لأَحدهما بعد وجود القرينة الصارفة عن ارادة المعنىٰ الحقيقي وهو نفي الضرر خارجاً.

وقد اتضح مما ذكرناه سابقاً : أن نفي الحكم الضرري معنىٰ مجازي للحديث لان المراد الاستعمالي به هو نفي وجود الطبيعي خارجاً ، لكنه استعمل بداعي التعبير عن عدم التسبيب التشريعي إلىٰ تحقّق الضرر ، وعليه فلا يرد الاعتراض المذكور.

البحث الرابع : في الوجهين الآخرين في تقرير هذا المسلك.

قد سبق ان ذكرنا ان هذا المسلك ينحل إلىٰ وجوه ثلاثة :

اولها واقواها : ان يراد بالحديث النهي التحريمي المولوي. وهذا الوجه هو المنساق من كلام من فسّر الحديث بالنهي من غير توضيح لنوعه. وانما كان أقوىٰ من الوجهين الآخرين لأنّه لا يتجه عليه اعتراض زائد عما يرد علىٰ اصل هذا المسلك بخلاف هذين الوجهين كما سوف يتضح ذلك.

الوجه الثاني : ان يراد بالنهي ما يعم النهي التحريمي المولوي والنهي الإِرشادي.

وقد ذكر ذلك الشيخ الانصارى (قده) في الرسائل حيث قال بعد ذكر احتمال النهي ( ولا بد ان يراد بالنهي زائداً علىٰ التحريم الفساد وعدم المضي ، للاستدلال به في كثير من رواياته علىٰ الحكم الوضعي دون محض التكليف ، فالنهي هنا نظير الأَمر بالوفاء بالشروط والعقود. فكل اضرار بالنفس أو بالغير محرّم غير ماض علىٰ من أضرَّه ، وهذا المعنىٰ قريب من الأَوّل بل راجع اليه )(١) .

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ / ٥٣٥ ؟ الرسائل ط رحمت الله ص ٣١٥.

١٨٢

و الكلام تارة في تصوير هذا الوجه واُخرى في مدى انسجامه مع ظاهر الكلام.

امّا من الناحية الأُولى : فقد يشكل هذا الوجه من جهة اقتضائه الجمع بين ارادة الحكم المولوي والإرشادي والجمع بين الحكمين يستلزم تعدد المراد التفهيمي بالنفي اي استعمال اللفظ في أكثر من معنى مجازي وهو خلاف الظاهر على الأَقل.

ولكن التحقيق عدم اتجاه هذا الاشكال لعدم الحاجة إلىٰ قصد معنيين بل يمكن ارادة النهي ، فإن معنى النهي بحقيقته وهو الزجر جامع بينهما ، الا أنه اذا كان محتواه الوعيد على الفعل كان نهياً مولوياً تحريمياً. واذا كان محتواه الارشاد إلى عدم ترتب الأَثر المرغوب من الشيء ـ من الأثر القانوني في موضوعات الأَحكام ، أو امتثال الحكم المتعلق بالطبيعة في متعلقاتها ـ كان ارشادياً ، ولا مانع من اجتماع الأَمرين كما في مورد تحريم الربا ، وعليه يمكن ارادة كلتا الحرمتين ، كما يمكن ارادة الحلّية التكليفية والوضعية جميعاً من الحكم بها في نحو( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) .

نعم ، يشكل الوجه المذكور من جهة اُخرى وهي الجمع بين ارادة متعلق الحكمين ، وذلك لان الضرر على هذا التقدير لا بُدّ ان يكون ملحوظاً باللحاظين الاستقلالي والمرآتي في حال واحد. أما اللحاظ الاستقلالي فباعتبار الحكم التكليفي ، لان النهي التحريمي المولوي انما يتعلق بالإضرار بما هو اضرار. وأما اللحاظ المرآتي فباعتبار الحكم الوضعي لانه لا معنى لفساد الإضرار بذاته وانما يتجه الحكم عليه بالفساد إذا أخذ مرآة لماهية يعقل اتصافها بالفساد.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

١٨٣

والجمع بين اللحاظين وان لم يمتنع عقلاً إلا انه خلاف الظاهر جداً لأنّه يقتضي استعمال اللفظ في معنيين معاً ، نعم لو كان المنفي ماهية يمكن تعلق التحريم والفساد بها مباشرة احتمل الوجه المذكور معنىٰ للكلام.

واما من الناحية الثانية : فيلاحظ ان هذا الوجه يخالف ظهور الجملة من جهات ، مضافاً إلى ما سبق في اصل احتمال النهي.

منها : كون الضرر مرآة لما يكون ضرراً لكي يعقل ان يكون متعلقاً للحكم الوضعي ، ولا اشكال في مخالفة ذلك للظاهر إذ الظاهر هو تعلق النفي به نفسه.

ومنها : الجمع بين إرادة الضرر بنفسه وجعله مرآة لما ينطبق عليه وهو مخالفة اخرى للظاهر كما تقدّم ، ويتفرع على ذلك أنه يكون اسناد التحريم إلىٰ الضرر اسناداً مجازياً بلحاظ مرآتيته لما يصدق عليه ، وحقيقياً اخرى باعتبار ملحوظيته ذاتاً.

ومنها : تعميم الحكم للحكم الإرشادي بناءً على ان الأَصل في النواهي ان تكون مولوية كما هو المعروف بين الاُصولييّن فيكون خلاف الأَصل.

وهكذا يتضح مدى التكلّف الذي يتضمّنه هذا التقرير.

الوجه الثالث : ان يكون النهي نهياً سلطانياً كما ذهب اليه بعض الأعاظم(١) . وأوضحه بأن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شؤوناً :

أحدها : تبليغ الأَحكام الإلهية وهو ما يعبر عنه بالنبوّة أو الرسالة باعتبار إنبائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن احكامه وارساله لذلك. وامره ونهيه فيما يتعلق بهذا الشأن يكون ارشاداً إلى امر الله ونهيه ، كما أن مخالفتهما تكون

__________________

(١) الرسائل للامام الخميني (قده) : ٥٠ وما بعدها.

١٨٤

مخالفة لله تعالىٰ لا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وثانيها : الرئاسة العامة بين العباد لكونه وليّاً علىٰ الأُمة من قبل الله تعالىٰ وبهذا الشأن يكون لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حق الأَمر والنهي مستقلاً ، كتنفيذه جيش أسامة ونحوه. ويكون حكمه في ذلك حكماً سلطانياً تجب طاعته بما انه والٍ ورئيس كما تجب طاعة احكام الله تعالىٰ ، وقد قال تعالىٰ :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) وجملة من الاحكام الكلية في الشريعة الاسلامية المقدّسة تستند إلىٰ هذا الشأن.

وثالثها : مقام القضاء بين المتنازعين وذلك بتطبيق الاحكام الكلية في مورد النزاع والحكم علىٰ ضوئها ، وتجب طاعته في ذلك بما انه قاض لا بما انه والٍ ورئيس. وحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) انما يمثل حكماً سلطانياً من جهة رئاسته العامة ، فمفاده المنع عن الضر والضرار في حدود حكومته.

و قد استدل علىٰ ذلك بعدة أمور :

الأَوّل : انه قد ورد حكاية هذا الحديث في بعض روايات اهل السنّة بلفظ ( وقضىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لا ضرر ولا ضرار ) كرواية عبادة بن الصامت. ولفظ القضاء ـ كالحكم ـ ظاهر في كون المقضي به من احكامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إما بما هو قاض بين الناس أو بما انه وليّ علىٰ الأُمة لا تبليغاً عن الله تعالىٰ ، وبما أن المجعول حكم كلي لا يرتبط بمقام القضاء بين الناس فقط فينحصر ان يكون مصحّح اطلاقه هو كون ذلك حكماً سلطانياً صدر عنه من جهة ولايته العامة.

الثاني : ان الحديث قد ورد من طرقنا في ذيل قضية ( سمرة ) وهي لا تنسجم مع كون الحكم المذكور فيها حكماً الهياً أو قضائياً اما الأَول فلأنه

__________________

(١) النساء ٤ : ٥٩.

١٨٥

لم يكن الحكم هنا حكماً مشتبهاً في المورد لكي يخبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن الحكم الضرري منفي في الإسلام أو منهي عنه من قبله تعالى.

وأما الثاني : فلانه لم يكن هناك نزاع بين الرجل الانصاري وبين سمرة في حقّ أو مال. وانما كان مورد الحديث شكاية الأَنصاري ظلم سمرة له في الدخول في داره بدون استئذان ووقوعه لذلك في الضيق والمشقة ، واستنجاده بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما انه ولي علىٰ الأُمة في رفع هذا الظلم ومنع سمرة من ذلك ، فاستجاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطلب الأَنصاري فأمر سمرة بالاستئذان أوّلاً ثم امر بقلع شجرته ثانياً منعاً لوقوع الضرر في حوزة حكومته ، وتحكيماً للعدل وقمعاً للظلم بين الرعية ، وهذا انما يناسب الحكم السلطاني.

الثالث : ان الحديث قد وقع تعليلاً للأَمر بالقلع في قضية سمرة مع انه لو اريد نفي الحكم الضرري أو النهي الأوّلي عن الاضرار لم يتجه كونه تعليلاً لذلك ، اذ هذان المعنيان لا يبرران الاضرار بالغير بالقلع. لأن القلع في حد نفسه اضرارٌ كما ان الأمر به حكم ضرري ، وانما يبرر ذلك اعمال الولاية قطعاً لمادة الفساد ودفعاً للضرر والضرار ، فلا بُدّ ان يكون مفاد ( لا ضرر ) حكماً سلطانياً حتىٰ ينسجم التعليل مع الحكم المعلل.

وهذا المعنىٰ هو اكثر ما وقع محلا للتركيز في كلامه (قده).

و لكن هذا الوجه غير تامّ أيضاً :

لان النهي عن الاضرار إنما يناسب ان يكون حكماً كلياً الهياً لا حكماً سلطانياً ، لان الاضرار بالغير ظلم عليه وقبح الظلم من القوانين الفطرية بل هو أوضح موارد التحسين والتقبيح العقليين ، فكيف تكون صفحة التشريع الإلهي خالية عن مثل هذا الحكم الفطري مع ان التشريعات الإلهيّة تفصيل وتوضيح للقوانين الفطرية فيكون في مستوىٰ حكم سلطاني وضعه النبي

١٨٦

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكأنّ منشأ العدول إلىٰ هذا الرأي ملاحظة ان حكمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقلع انما كان حكماً سلطانياً في مورد قضية سمرة وقد علل بهذه الكبرىٰ فيقتضي كونها كذلك. وهذا غير تام كما سيأتي في نقد الأَمر الثالث.

واما الشواهد المذكورة فلا يتم شيء منها.

اما الأَوّل : ففيه ـ مضافاً إلىٰ عدم حجية شيء من روايات العامة التي عبّرت بالقضاء بما فيها رواية عبادة ، ومضافاً إلىٰ ورود القضاء بمعان متعدّدة ـ إن المنساق من التعبير بالقضاء علىٰ ما اعترف به هو الحكومة بين المتخاصمين ، ولذلك يفرّق بينه وبين الفتوى بأنّ الفتوى هي عبارة عن بيان الحكم بنحو كلي وامّا القضاء فهو الحكم في القضايا الشخصية التي هي مورد تشاجر ونزاع. وهذا المعنىٰ قابل لأَن يراد هنا علىٰ ان يكون المقصود هو انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم في مورد جزئي بين المتخاصمين بانّه لا ضرر ولا ضرار ، فلا ينافي ذلك كون الحكم الكلي تشريعاً الهياً عاماً ، وقد سبق ان نقلنا كلام بعض الفقهاء في اقتضاء هذا التعبير للحكم به في مورد خاص.

يضاف إلىٰ ذلك : استبعاد الالتزام بالمعنى المذكور في جملة من موارد استخدام هذا التعبير من قبيل ( قضىٰ في الركاز الخمس ) مع أن الخمس ثابت في الغنيمة بالمعنى الأَعمّ بقوله تعالىٰ :( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ ) (١) الشامل للركاز.

واما الثاني : ففيه منع عدم وجود النزاع في أي حكم في مورد قضية سمرة ، فانّ الذي تمثّله هذه القضيّة تحقّق أمرين :

__________________

(١) الانفال ٨ : ٤١.

١٨٧

الأَوّل : وجود النزاع في شبهة حكمية حيث ان الأَنصاري كان لا يرى لسمرة حق الدخول في داره بلا استئذان ، ولكن سمرة كان يرى نفسه انه يجوز له ذلك ، لأنّه له حقّ الاستطراق إلىٰ نخلته وليس يريد الدخول في مكان لا حق له في استطراقه حتىٰ يحتاج إلىٰ الاذن من مالك الأَرض ، وقد احتج بذلك في كلامه مع الأَنصاري ومع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تضمنت ذلك معتبرة ابن بكير وخبر ابن مسكان ، ففي معتبرة ابن بكير بعد ذكر طلب الأَنصاري من سمرة ان يستاذن اذا دخل ( فقال : لا أفعل هو مالي أدخل عليه ولا استأذن ، فأتىٰ الأنصاري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكى اليه واخبره فبعث إلىٰ سمرة فجاء فقال له استأذن فأبىٰ ، فقال مثل ما قال للانصاري ). وفي خبر ابن مسكان بعد ذلك ( فقال : لا استأذن في طريقي وهو طريقي إلىٰ عذقي ، قال : فشكاه الانصاري إلىٰ رسول الله فأرسل اليه رسول الله فأتاه فقال له : انَّ فلاناً قد شكاك وزعم انك تمرّ عليه وعلىٰ أهله بغير اذنه فاستأذن عليه اذا أردت أن تدخل ، فقال : يا رسول الله استأذن في طريقي إلىٰ عذقي ! ).

الثاني : طلب الأَنصاري من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يحميه ويدفع عنه اذى سمرة ، وذلك لأنّه كان يرى موقفه في النزاع الواقع في استحقاق الدخول دون اذن وعدمه ، هو الحقّ ، وكان قد ضاق به الأَمر من تكرر صدور ذلك من سمرة واصراره علىٰ الدخول دون اذن.

وعلى ضوء هذا : فيمكن القول بان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مورد الأَمر الأوّل ـ من النزاع الذي نشب بينهما ـ حكم علىٰ وفق القانون الإلهي العامّ وأمر سمرة بالاستئذان ، وهذا القانون هو حرمة الاضرار بالغير ، بناء علىٰ مسلك النهي ، اذ كان دخوله بلا استئذان إضراراً بالأَنصاري ، أو محدودية حق الاستطراق بعدم لزوم الضرر بالغير ـ بناء علىٰ مسلك النفي ـ أو بكلا

١٨٨

الأَمرين بناء على المعنى المختار للحديث الجامع للنفي والنهي بلحاظ كلا الجملتين وهما لا ضرر ولا ضرار.

وبعد ترجيح موقف الأَنصاري في مورد النزاع واباء سمرة عن الالتزام بموجب الحكم القضائي وصلت النوبة إلى معالجة الأَمر الثاني بتنفيذ الحكم القضائي دفعاً للضرر عن الأَنصاري ، وقد استندصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك إلىٰ مادة قضائه المذكور ـ وهي ( لا ضرر ولا ضرار ) ـ فأمر بقلع نخلته.

وامّا الثالث : فيرد عليه :

أوّلاً : ان مفاد ( لا ضرار ) لا يبرر الأَمر بالقلع في حدّ ذاته سواء كان حكماً أوّلياً أو سلطانياً ، إذ لا فرق بين نوع النهي في عدم دلالته على تشريع مثل هذا الاضرار كما هو واضح. وعليه فليس في الالتزام بالوجه المذكور علاج لهذه النقطة. وكأنّه قد وقع الاشتباه فيما ذكر بين مرحلة اتخاذ الحاكم وسيلة لدفع الاضرار كقلع النخلة ، وبين الحكم بلزوم دفعه الذي يتكفّله القانون العامّ.

وثانياً : ان ( لا ضرار ) اذا كان بدلالته على النهي لا يبرر الأَمر بالقلع فانه يمكن تبريره بدلالته على تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية لمكافحة الاضرار ـ على ما تقدّم ايضاحه في ذكر المسلك المختار ـ فلا يقتضي ذلك رفع اليد عن كون الحكم قانونياً الهياً ، وسيأتي زيادة ايضاح للموضوع في التنبيه الأَوّل من تنبيهات القاعدة.

المسلك الثالث : ما ذهب اليه المحقق صاحب الكفاية من ان المراد بالحديث هو نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ادعاءً(١) وملخص ما ذكره في

__________________

(١) كفاية الأصول ٣٨٠ ـ ٣٨٢.

١٨٩

توضيح معنى الحديث يرجع إلى نقاط ثلاث :

الأُولى : في معنى الضرر والضرار. وقد ذكر ان الضرر هو ما يقابل النفع من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال ، وقال ( ان الاظهر ان يكون الضرار جيء به تأكيداً كما يشهد به اطلاق المضار على سمرة وحكي عن النهاية ولم يثبت له معنى آخر غير الضرر ).

الثانية : في المراد التفهيمي بالجملتين. وقد ذكر ان تركيب ( لا ) النافية انما هو لنفي الطبيعة اما حقيقة أو ادعاءً ، كناية عن نفي الآثار كما هو الظاهر من مثل ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) و ( يا أشباه الرجال ولا رجال ). والمقام من قبيل الثاني فالمقصود هو نفي حكم الضرر ، لكن الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر ـ كما صرّح به ـ هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها أو المتوهّم ثبوته لها كذلك في حال الضرر لا الحكم الثابت للضرر بعنوانه لوضوح ان الضرر علة لنفي الحكم ـ حسب مفاد الحديث ـ فلا معنى لأَن ينفي حكم نفسه ، بل يلزم من ذلك التناقض في مرحلة الجعل ووعاء التشريع.

الثالثة : في وجه ترجيح هذا المعنى على غيره مما فسر به الحديث. والذي يظهر من مجموج كلامه في وجه ذلك :

أوّلاً : إنَّ اقرب المجازات بعد عدم امكان ارادة نفي الحقيقة حقيقة هو نفيها ادعاءً تحفظاً على نوع المعنى المُفاد استعمالاً ـ لكن على نحو التنزيل والادعاء ـ فان في المسالك الاخرى عدولاً عن ذلك.

وثانياً : ان النفي الادعائي كثيراً ما يستعمل فيه هذا التركيب حتى كان هو الغالب فيه بخلاف غيره من المعاني.

و في النقاط الثلاث نظر.

اما النقطة الأُولى : فيرد عليها انه لا يصح القول بوحدة معنى الكلمتين

١٩٠

تماماً على ما اتّضح من الابحاث السابقة ، فانهما يتفقان في المعنى من جهة المادّة لكن يختلفان من جهة الهيئة لان ( الضرر ) ، اسم مصدر من الثلاثي المجرد و ( الضرار ) مصدر من باب المفاعلة من الثلاثي المزيد فيه وقد تقدّم تحقيق معناهما.

واما النقطة الثانية : فلأَن تصوير نفي الحكم بنفي موضوعه في الحديث يتوقّف على امرين :

الأَوّل : ان يكون المقصود بالضرر والضرار العمل المضر ، اذ لو اريد به نفس معناه لم يتم هذا الوجه لانه ان كان معنى اسم مصدري ـ كما هو الصحيح في كلمة ( الضرر ) ـ فانه لا معنى لنفي حكمه ، لأنّه لا حكم له والحرمة والضمان انما هما من آثار المعنى المصدري على ما هو واضح ، وان كان معنى مصدرياً كما هو الصحيح في كلمة الضرار ، فانه وان كان له حكم كالحرمة والضمان الا ان نفيهما ليس بمقصود ولا معقول كما تنبه له هو (قده).

والثاني : ان يكون نفي الحكم بلسان نفي موضوعه صحيحاً وان كان الموضوع متعلقاً للحكم لا موضوعاً له بالمعنى المصطلح وهو ما فرض وجوده ورتب عليه الحكم ك‍ ( المستطيع ) في قوله ( يجب الحج على المستطيع ).

لكن لا يتم شيء من هذين الأَمرين.

اما الأَوّل : فلأَن قصد العمل المضر من الضرر إما بنحو المرآتية أو بنحو آخر.

فان كان بنحو المرآتية ، ففيه :

أوّلاً : ان جعل العنوان مرآة للمعنون هو خلاف الظاهر ، لان ظاهر الكلام هو ان ما اخذ مرتبطاً بالحكم في القضية اللفظيّة بنفسه مرتبط معه في القضيّة اللبية. وبهذا يفقد هذا التفسير ما جعله ميزة له في النقطة الثالثة من

١٩١

ان فيه تحفظاً على الظاهر اللفظي من نفي الطبيعة لكن ادعاءً بخلاف تفسيره بنفي الحكم الضرري مثلاً ، فانه يقتضي ارادة نفي سبب وجود الطبيعة ـ وهو الحكم الضرري ـ لانفسها.

وثانياً : انه لا يمكن جعل الضرر مرآة للعمل المضر ، لان مرآتية شيء لشيء ليست جزافية بل أقل ما يعتبر فيها نحو اتحاد بين المفهومين وجوداً ـ كما في العنوان والمعنون ـ وليست نسبة الضرر إلى العمل المضر كالوضوء من هذا القبيل ، بل هي من قبيل نسبة المعلول إلى العلة.

وان كان على غير المرآتية كالسببية والمسببية فهو أبعد منها استظهاراً لأن المرآتية فيما يقال أخف مراحل المجاز.

وأما الثاني ، ففيه :

أوّلاً : ان الحكم ليس من قبيل لواحق وجود متعلقه خارجاً حتى ينفى بلسان نفيه بل وجود المتعلق خارجاً مسقط للحكم لا مثبت له فهو متأخر عنه رتبة لا متقدم عليه ، وهذا بخلافه بالنسبة إلى موضوعه فانه من قبيل آثار وجوده الخارجي عرفاً لأَن علاقة الموضوع بالحكم علاقة العلّة بالمعلول فهو متقدم على الحكمة رتبة ، ولذا يصحّ نفيه بلسان نفيه ك‍ ( لا طلاق إلا لمن اراد الطلاق ) كما يصح نفي الأثر التكويني بلسان نفي مؤثره ك‍ ( يا اشباه الرجال ولا رجال ).

وثانياً : انه لو تم ذلك فانه يقتضي نفي حكم المتعلق ولو كان فعلاً تحريمياً فيما اذا كان في ارتكابه مضرة على المكلف ، ومن المعلوم انه لا يمكن الالتزام بذلك ، الا ان يتوسل في دفع ذلك بجهة اُخرى ككون الحديث في مقام الامتنان ، ودفع الحرمة عند الضرر خلاف الامتنان.

وأما النقطة الثالثة : فيرد عليها ما تقدّم من أن هذا التفسير لا يستدعي جعل نفي الطبيعة تنزيلاً فحسب على ما ذكر ، بل يقتضي التصرف في

١٩٢

( الضرر ) أيضاً بجعله معبراً عن العمل المضر كما مضى في نقد النقطة الثانية ، وبذلك يظهر أن كثرة النفي الادعائي في امثلة هذا التركيب لا تجدي في ترجيح هذا الوجه بعد اختلاف هذه الأَمثلة مع المقام في مدى حاجته إلىٰ التكلف والتأملّ.

المسلك الرابع : ـ في تفسير الحديث ـ ما نقله الشيخ الأَنصاري عن الفاضل التوني من ان مفاد الحديث نفي الضرر غير المتدارك فيرجع إلىٰ اثبات الحكم بالتدارك شرعاً(١) .

و تقريب ذلك علىٰ اساس جهتين :

الجهة الأولىٰ : ان الضرر المنفي يمكن أن يراد به في نفسه احد معان ثلاثة :

الأَوّل : كل نقص واقعي سواء كان متداركاً خارجاً أو محكوماً بالتدارك أم لا.

الثاني : النقص غير المتدارك خارجاً وذلك بلحاظ ان النقص اذا كان متداركاً لا يكون مصداقاً للضرر لتداركه بحكم القانون العقلائي والشرعي ، كبذل المثل أو القيمة في تلف الأَموال أو الديات في تلف الأَنفس والاطراف ، فانه يكون منتفياً بالنظر العرفي المسامحي ـ وان لم يكن كذلك بالنظر الدقي ـ ولذا يعبّر عن اداء العوض بالتدارك فيكون مثال الضرر المتدارك مثال معاوضة شيء بما يساويه قيمة ومالية ، فكما لا يصدق الضرر في هذه فكذلك في تضرّر صاحب المال في شيء. وكذا من أصيبت سيارته وأخذ عوض ما خسره من شركة التأمين لا يقال انه أصابه ضرر عرفاً.

الثالث : النقص غير المحكوم بلزوم تداركه قانوناً وشرعاً ، فان النقص

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ / ٥٣٢.

١٩٣

المحكوم بلزوم تداركه اذا كان للقانون قوة إجرائية تضمن تحقّق التدارك الخارجي ـ عادة ـ يمكن ان ينفى كونه ضرراً تنزيلاً وادعاءً وإن لم يتدارك خارجاً.

فهذه معان ثلاثة وحيث انه لا يمكن ان يكون الضرر المنفي بالحديث هو المعنىٰ الأَوّل للزوم مخالفة الواقع بعد وجود الضرر خارجاً ، مع انه خلاف المفهوم العرفي للضرر أيضاً كما يتضح مما ذكر في المعنىٰ الثاني ، وكذلك لا يمكن ان يكون هو المعنىٰ الثاني لعدم تدارك كل ضرر خارجاً فيتنافى مع عموم النفي ، فلا بد ان يراد المعنىٰ الثالث فيرجع إلىٰ اثبات حكم شرعي قاض بالتدارك في مورد كل ضرر.

الجهة الثانية : إنّه بناءً علىٰ هذا التفسير يكون مفاد ( لا ضرار ) الحكم بضمان من أضر بأحد في شيء وأما ( لا ضرر ) فهو باعتبار كون الضرر اسم مصدر لا يتضمن النسبة الصدورية ، يكون مفاده نفي لضرر مطلقاً سواء كان من قبل شخص معيّن أو كان لحادثة طبيعية أو غير ذلك ، فكلّ ضرر أصاب شخصاً في نفسه أو ماله ، فإنّه لا يذهب هدراً بل له ضامن لا محالة فإن كان بسبب شخص معيّن فيكون الضمان عليه ، وإلاّ فيكون الضمان علىٰ الإمام والدولة.

وبذلك يستفاد من الحديث ثبوت تأمين عام في الدولة الإسلامية بالنسبة إلىٰ أفراد المجتمع الإسلامي ، وقد حدث التأمين في المجتمع البشري أولاً بداعٍ إنساني تعاوني فكان مرجعه إلىٰ تحمّل الجماعة المشتركين في أداء حقّ التأمين للخسارة الواقعة علىٰ الشخص حتىٰ لا تكون الخسارة ثقلاً عليه. وإلىٰ ذلك يرجع ما يتعارف في بعض المجتمعات من التعاون بين أفراد القبيلة عند إرادة بعض أفرادها تأسيس عائلة جديدة حيث يهدي كل منهم ما يسد بعض حاجتها ، إلا أنّه أصبح فعلاً وسيلة لاستثمار

١٩٤

الآخرين.

ويمكن تأييد هذه الفكرة بجملة من الروايات الواردة في جملة من مصاديق الموضوع.

ففي الحديث عن أبي عبد اللهعليه‌السلام انّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنا أولىٰ بكلّ مؤمن من نفسه وعلي أولىٰ به من بعدي. فقيل له : ما معنىٰ ذلك ؟ فقال قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ترك دَيناً أو ضياعاً فعليَّ ، ومن ترك مالاً فلورثته ، فالرجل ليست له علىٰ نفسه ولاية إذا لم يكن له مال وليس له علىٰ عياله أمر ولا نهي إذا لم يجرِ عليهم النفقة والنبي وأمير المؤمنينعليه‌السلام ومن بعدهما الزمهم هذا ، فمن هناك صاروا أولىٰ بهم من أنفسهم ، وما كان سبب اسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا القول من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( أنّهم آمنوا علىٰ أنفسهم وعلىٰ عيالاتهم )(١) .

وفي الصحيح عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : قضىٰ أمير المؤمنينعليه‌السلام في رجل وُجِدَ مقتولاً لا يُدرىٰ من قتله قال : ( إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين ، ولا يبطل دم امرئ مسلم لأنّ ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته علىٰ الإمام ، ويصلّون عليه ويدفنونه. قال : وقضىٰ في رجل زحمه الناس يوم الجمعة في زحام الناس فمات أن ديته من بيت مال المسلمين(٢) ومثله أحاديث أُخرىٰ.

إلى غير ذلك ممّا دلّ علىٰ انّه لا يذهب دم امرئ مسلم هدراً ومثله ماله لأن حرمة ماله كحرمة دمه ـ كما في الحديث(٣) .

__________________

(١) اصول الكافي ١ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦ ح ٦.

(٢) الوسائل ج ٢٩ ص ١٤٥ ـ ١٤٦ الحديث ٣٥٣٤٦.

(٣) الرسائل ج ١٢ ص ٢٩٧ الحديث ١٦٣٤٩.

١٩٥

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا القول وإن كان ما ذكرناه في مفاد ( لا ضرر ) مما لا يلتزم به القائل بهذا القول يقيناً ، لكنه لازم هذا الرأي بعد كون ( الضرر ) اسم مصدر شاملاً لكل ضرر يرد علىٰ الإنسان.

و يمكن أن يناقش في ذلك بوجوه :

الأوّل : ان ما ذكر في تعيين هذا المعنىٰ ليس بتام لأنّ نفي الضرر والضرار كما يمكن أن يكون بملاحظة جعل الحكم بالتدارك الذي يوجب انتفاءهما بقاء بنحو التنزيل ، فكذلك يمكن أن يكون بعناية التسبيب إلىٰ عدم الاضرار ـ فيكون مفاد الحديث هو النهي ـ أو بعناية عدم التسبيب الىٰ ضرر المكلفين ـ فيكون مفاده نفي الحكم الضرري ـ لأنّ هاتين الجهتين أيضاً مصححتان لنفي المعنىٰ علىٰ ما تقدّم ، فلا يتعين التفسير المذكور.

الثاني : إنّه إذا كان المدعى في ( لا ضرر ) أن معناه كمعنى ( لا ضرار ) وهو نفي الضرر الصادر من الغير بالنسبة إلىٰ الإنسان ليختص الحكم بالتدارك بالاضرار الصادر من الغير ، فهو معنىٰ معقول في نفسه لكن إنما يناسب مع ( لا ضرر ) لو كان الضرر مصدراً محتوياً علىٰ النسبة الصدورية ، حيث يمكن القول باختصاصه حينئذٍ بالاضرار الصادر عن الغير ، وأمّا علىٰ ما هو الصحيح من انّه اسم مصدر فلا وجه لتخصيصه بذلك بل ينبغي تعميمه لكل ضرر واقع علىٰ الشخص ـ ولو من جهة عوامل طبيعيّة ـ.

وإن كان المدعىٰ انّ معناه نفي كل ضرر واقع علىٰ الشخص من غير تدارك ـ كما أوضحناه ـ فهو ممّا لا يمكن الالتزام به لأنّه لم يثبت في الإسلام تدارك كل ضرر واقع علىٰ أي شخص مهما كان سببه ـ من العوامل الطبيعية وغيرها ـ بحيث يرجع إلىٰ تأمين عامّ من قبل الدولة كما لم يعرف مثل ذلك في عصرنا هذا عن شيء من القوانين البشرية. ( نعم ) يمكن الالتزام بضمان الدولة فيما لو قصرت فيما هو من وظائفها تجاه الناس كما لو لم تُجعل

١٩٦

الحواجز اللازمة لاجتياح السيول مثلاً مع توفر الامكانات الماديّة لديها.

الثالث : ان هذا المعنىٰ ليس بمنساق من الحديث ونحوه أصلاً بل الذي ينساق إلىٰ الذهن من نفي الماهيّة من قبل الشارع ، إمّا نفي التسبيب الشرعي إليها ـ إن كان نفيها في معرض توهّم تسبيب شرعي علىٰ ما أوضحناه في جملة ( لا ضرر ) فيرجع إلىٰ نفي الحكم الضرري. أو التسبيب إلىٰ انتفائها ـ كما هو الحال علىٰ مسلك النهي ـ ويشهد علىٰ ذلك ملاحظة موارد استعمال النفي في التعبير عن موقف شرعي كالأمثلة المتقدمة فيما سبق.

وأما الحكم بالتدارك فهو وإن كان مصححاً لنفي الضرر لكن لا يفي به الكلام من دون قرينة زائدة تدلّ عليه.

الرابع : ان هذا المعنىٰ لا يناسب موارد تطبيق الحديث من قبيل قضيّة سمرة ، فإنّه لم يحكم فيها بتدارك الضرر الواقع علىٰ الأنصاري لعدم كونه قابلاً للتدارك كما هو واضح.

هذا وقد يناقش في هذا المسلك بوجوه أُخرىٰ :

منها : ما ذكره السيد الأُستاذ (قده) من أن هذا المسلك يقتضي تقييد الضرر المنفي بغير المحكوم بتداركه والتقييد خلاف الأصل فلا يصار إليه(١) . ( ويرد عليه ) انّه ليس المقصود بهذا التفسير تقييد الضرر بغير التدارك ، بل المنفي هو مطلق الضرر لكن بملاحظة الحكم بتداركه ، فالحكم بالتدارك مصحح لنفيه مدلول عليه بدلالة الاقتضاء بعد تعذّر حمل النفي علىٰ النفي الخارجي للطبيعة ، وليس عدمه قيداً لها وبين الأمرين فرق واضح ففي كل نفي تنزيلي يكون فقدان كمال ما مصححاً لنفي المعنىٰ ، وليس عدم ذلك الكمال قيداً في المنفي فنفي الطبيعي عن حصته تنزيلاً

__________________

(١) لاحظ مصباح الأصول ٢ / ٥٢٩.

١٩٧

نفيٌ لوجوده في ضمنها مطلقاً ، بينما تقييده بعدمها يستبطن الاعتراف بكونها منه. والتنزيل بحاجة إلىٰ عناية دون حذف والتقييد بحاجة إلىٰ حذف دون عناية ، ونافي التنزيل هو أصالة الحقيقة أي ظهور الكلام في المعنىٰ الحقيقي ، وأما نافي التقييد فهو أصالة الاطلاق ـ أي ظهور الكلام في كون الطبيعة تمام الموضوع للنفي ـ.

ومنها : ما ذكره الشيخ الأنصاري (قده) ووافقه جمع من أن الضرر الخارجي لا يصحّ تنزيله منزلة العدم بمجرد حكم الشارع بلزوم تداركه ، وإنّما المنزل منزلة العدم الضرر المتدارك فعلاً(١) . ( ويرد عليه ) انّه إذا حكم الشارع بالتدارك وجعل لتنفيذ ذلك قوة إجرائيّة ـ كما أن لكلّ قانون من القوانين الاجتماعية بحسب التشريع قوة إجرائية طبعاً ـ فإنّه يكون التدارك حينئذٍ من نظر المقنن جارياً مجرىٰ الأمر الواقع فيصح اعتباره واقعاً تنزيلاً.

المسلك الخامس : ما يظهر من كلام الصدوق في الفقيه من أن المقصود بهذه الجملة أن إسلام الشخص واعتقاده الدين الإسلامي لا يوجب تنقيص شيء من حقوقه ، فكلّ حقّ كان ثابتاً له لو لم يكن مُسلِماً فإنّه يثبت له في حالة إسلامه كحقّ الإرث عن المورّث الكافر ، وبهذا الاعتبار استدلّ بهذا الحديث علىٰ ما ذهبت إليه الإماميّة وجمع من الصحابة والتابعين وعلماء العامة ـ خلافاً لأكثرهم كأئمة المذاهب الأربعة ـ من أن المسلم يرث من الكافر.

قال (قده) ( لا يتوارث أهل ملتين والمسلم يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم ، وذلك أن أصل الحكم في أموال المشركين انّها فيء للمسلمين

__________________

(١) لاحظ رسالة ( لا ضرر ) للشيخ الانصاري ملحقة بمكاسبه ص ٣٧٢ ، رسالة ( لا ضرر ) للعلامة شيخ الشريعة ص ٤١ ـ الفصل الثامن ـ ومصباح الأصول ٢ / ٥٢٩.

١٩٨

وأن المسلمين أحقّ بها من المشركين ، وأن الله عزّ وجلّ إنّما حرّم علىٰ الكفّار الميراث عقوبة لهم بكفرهم كما حرّم علىٰ القاتل عقوبة لقتله ، فأمّا المسلم فلأيّ جرم وعقوبة يحرم الميراث ؟ وكيف صار الإسلام يزيده شراً مع قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإسلام يزيد ولا ينقص. ومع قولهعليه‌السلام لا ضرورة ولا إضرار في الإسلام. فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شراً. ومع قولهعليه‌السلام ( الإسلام يعلو ولا يُعلىٰ عليه )(١) فهو اعتبر مفاد هذا الحديث كمفاد قولهعليه‌السلام ( الإسلام يزيد ولا ينقص ).

و لتوضيح ذلك : لابدّ من بيان أمرين : كيفية تطبيق الحديث علىٰ هذا المعنىٰ ، وكيفيته انطباق المعنىٰ علىٰ هذا الموضوع.

أما الأول : فيمكن تطبيق الحديث علىٰ هذا المعنىٰ بأن يحمل لفظ ( في ) في الحديث علىٰ التعليل والسببيّة كما قيل في قوله تعالىٰ :( فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي ) (٢) وقوله :( لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ ) (٣) ، وما نسب إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ( أن امرأة دخلت النار في هرّة حبستها ) ، كما يحمل لفظ الإسلام علىٰ التدين بالدين الخاص ـ لا علىٰ نفس الدين ـ فيكون مفاد الحديث علىٰ هذا أنّه لا يدخل ضرر علىٰ المرء بإسلامه.

وعلىٰ هذا فيماثل مفاده مفاد الرواية الأُخرىٰ التي نقلها من طرقهم واحتجّ بها جماعة من فقهاء الفريقين علىٰ ثبوت الإرث ـ وهي ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) ـ فإنّ الضرر في هذا الحديث بمعنىٰ النقص أيضاً كما مرّ ، بل يمكن الاستمداد بهذا الحديث في تفسير ( لا ضرر ) بذلك ردّاً للمتشابه إلىٰ

__________________

(١) الفقيه ٤ / ٢٤٣ ح ٧٧٨.

(٢) يوسف ١٢ / ٣٢.

١٩٩

المحكم لأنّ كلامهم يفسّر بعضه بعضاً.

لكن قد يشكل تفسير ( لا ضرار ) بذلك لأنّه يقتضي أن يكون معناه أن اعتقاد الإسلام لا يسبّب الإضرار بالغير وهذا معنىٰ بعيد ، لأنّ أحداً لا يتوهّم أن اعتقاد الإسلام يوجب الإضرار بالنسبة إلىٰ الغير. لكن يمكن أن يجاب عن ذلك : بأنّ المقصود بعدم تسبيبه للإضرار انّ هذا الاعتقاد لا يخوله الإضرار بالآخرين وسلب حقوقهم ، إذا كانوا ممّن يحترم ماله كالمسلم والذمّي والمعاهد.

وأمّا الثاني : وهو انطباق هذا المعنىٰ علىٰ المورد ، فقد يشكل من جهة أن عدم الإرث من المورث ليس ضرراً وإنّما هو من قبيل عدم النفع ، فلا مورد لتطبيق هذه الكبرى. لكن يمكن أن يجاب عن ذلك بأنّ الإرث وإن كان في حد ذاته انتفاعاً فعدمه ليس إلا عدم انتفاع لا ضرراً علىٰ الشخص ، إلا انّه باعتبار ثبوت حق الوراثة للشخص بالنسبة إلىٰ مال مورثه يمكن اعتبار الحكم بانتفاء هذا الحق من جهة اسلامه ضرراً ونقصاً ، كما يدلّ علىٰ ذلك تطبيق عنوان ( الإضرار ) و ( الضارة ) ونحوهما ك‍ ( الجور والحيف ) علىٰ وصية الميت إذا كانت تشمل أكثر أمواله ـ مثلاً ـ كما في قوله تعالىٰ :( مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ) (١) ، وفي الحديث ( قال عليعليه‌السلام ما أُبالي أضررت بولدي أو سرقتم ذلك المال )(٢) و ( قال عليعليه‌السلام من أوصىٰ ولم يحف ولم يضارّ كان كمن تصدّق به في حياته )(٣) وفيه أيضاً ( من عدل في وصية كان كمن تصدق بها في حياته ومن جار في وصيته لقىٰ الله

__________________

(١) النساء ٤ : ١٢.

(٢) الوسائل ج ١٩ كتاب الوصايا الباب ٥ ح ٢٤٥٥٥ ص ٢٦٤.

(٣) الوسائل ج ١٩ كتاب الوصايا الباب ٥ ح ٢٤٥٥٦ ص ٢٦٤.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360