قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار16%

قاعدة لا ضرر ولا ضرار مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 360

قاعدة لا ضرر ولا ضرار
  • البداية
  • السابق
  • 360 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190721 / تحميل: 7552
الحجم الحجم الحجم
قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ويظهر من كلام ابن حجر في فتح الباري انّ القول بوجوب البذل هو المشهور بين العامة(١) . وعليه فلا وجه لدعوى الاجماع علىٰ عدم وجوب البذل فضلاً عن دعوىٰ الضرورة عليه.

ولعلّ عمدة ما أوجب هذه الدعوىٰ تصور أن لازم الحكم بملكية شخص لمالٍ جواز منع الآخرين عنه بمقتضى طبيعة الملكية ، فكأن استحقاق الغير التصرف فيه ينافي الحكم بكونه مملوكاً للأَول ، ولكن هذا غير صحيح ، لأنّ ثبوت الحق المذكور لا ينافي أصل الملكية ، وإنما ينافي الملكية المطلقة ، وهي غير ثابتة في امثال المقام ، بل الثابت فيها بحسب بناء العقلاء سنخ ملكية محدودة تجامع ثبوت حق الشرب والوضوء ونحوهما بالنسبة إلىٰ الآخرين.

ومن هنا اخترنا وفاقاً لجمع من المحققين جواز الوضوء والشرب من الأنهار الكبار وان لم يعلم رضا المالكين ، بل وإن علم كراهتهم أو كان فيهم صغير أو مجنون ، ومستند ذلك هو بناء العقلاء علىٰ عدم ثبوت الملكية المطلقة للملاك في أمثال هذه الأشياء ، بحيث تنافي جواز تصرّف الآخرين فيها من غير رضاهم بمثل ما ذكر من التصرفات.

واما التمسك لذلك بسيرة المتشرعة ـ كما في المستمسك(٢) ـ فلا يخلو عن نظر ، لان مورد التمسك بها هو فيما إذا انفرد المسلمون أو الإماميّة بفعل شيء أو بتركه ، وانحازوا في ذلك عن بقية العقلاء ، حيث يستكشف بذلك حكم تأسيسي شرعي وفق ما جرت عليه سيرتهم ، واما في امثال المقام حيث يكون الكاشف بناء عموم العقلاء والمستكشف به هو الحكم الامضائي

__________________

(١) فتح الباري لابن حجر ٥ / ٢٤ ـ ٢٥ ، ولاحظ نيل الأوطار للشكوكاني ٦ : ٤٨.

(٢) مستمسك العروة الوثقى ٢ / ٤٣٤.

٦١

الشرعي ، فلا معنىٰ للتمسك بسيرة المتشرعة.

ثم إنه قد يتوهّم ان مثل قولهعليه‌السلام ( لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب نفسه ) يصلح ان يكون رادعاً عن البناء العقلائي في المتقدم فلا يمكن الاعتماد عليه بعد ثبوت الردع عنه من قبل الشارع المقدس ، ولكن هذا في غير محله ، لان قوله ( لا يحل مال امرئ الخ ) لا يتضمن بمنطوقه حكما تأسيسياً شرعياً ، لكي يؤخذ باطلاقه ـ لو توفرت مقدمات الحكمة ـ ، بل مفاده إمضاء ما بنى عليه العقلاء ، فيمتنع ان يكون رادعاً عن نفس هذا البناء في بعض حدوده.

هذا ثم انه لو فرضنا انه يحق للمالك منع الآخرين من الاستفادة من فضل ماء بئره ، وان النهي عن هذا المنع ـ في رواية عقبة بن خالد ـ نهي تنزيهي لا تحريمي ، ولكن لا مانع من تعليله ب‍ ( لا ضرر ولا ضرار ) أيضاً علىٰ ان يكون ذلك في مستوىٰ الحكم الاخلاقي الاسلامي ، وهو انه ينبغي التحرز عن الاضرار بالغير المسلم كمنع فضل الماء عنه وعن مواشيه مع حاجتهم وعطشهم ، فيكون لهذا الحكم أي ( لا ضرر ) مستويان : مستوىٰ اخلاقي تمثل في حديث منع فضل الماء ، ومستوى الزامي وهو المراد به في حديث سمرة ونحوه ووحدة اللفظ لا تفرض وحدة المعنىٰ بعد قضاء القرائن خلافها.

هذا إذا كان الجمع بين النهي عن منع فضل الماء وبين قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) قد صدر من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واما ان كان ذلك صادراً من قبل الامامعليه‌السلام ، فبالامكان تخريج الارتباط بينهما علىٰ وجه آخر ، وهو قاعدة الأخذ بشواهد الكتاب والسنة ، بمعنىٰ الاستشهاد بالسنة الثابتة علىٰ صدق النقل ، ولا يقدح حينئذٍ عدم افادة ( لا ضرر ) للنهي التشريعي لكفاية التوافق الروحي والمبدئي بين الامرين في مثل ذلك كما

٦٢

تقدم نظيره في حديث الشفعة.

فتحصل من جميع ما تقدّم إنّه لا مناص من الالتزام بما هو ظاهر الحديث ، ويؤيده بعض القرائن الخارجية من الارتباط بين النهي عن منع فضل الماء وكبرى لا ضرر ولا ضرار ، لان الوجوه التي ذكرت لاثبات عدم الارتباط لا تنهض علىٰ ذلك.

هذا تمام الكلام في القضايا الثلاث الأولىٰ التي وردت من طرق الامامية.

٤ ـ حديث هدم الحائط :

وقد أورده القاضي نعمان المصري في دعائم الإسلام قائلاً ( روينا عن ابي عبد اللهعليه‌السلام انه سئل عن جدار الرجل ـ وهو سترة بينه وبين جاره ـ سقط فامتنع من بنيانه ، قال : ليس يجبر علىٰ ذلك الا ان يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاخرى لحق أو شرط في اصل الملك ، ولكن يقال لصاحب المنزل : استر علىٰ نفسك في حقك ان شئت ، قيل له : فان كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو اراد هدمه إضراراً بجاره لغير حاجته إلىٰ هدمه ، قال : لا يترك وذلك ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا ضرر ولا ضرار ( اضرار ـ خ ل ) ، وان هدمه كلّف ان يُبنيه )(١) .

و الكلام فيه يقع في جهات :

الجهة الأولىٰ في مصدره : وهو ـ كما ذكرنا ـ كتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمّد بن منصور بن حيّون التميمي المغربي المتوفى سنة ٣٦٣ ، وكان من علماء الاسماعيلية ، خدم المهدي بالله مؤسس الدولة

__________________

(١) دعام الإسلام ٢ / ٥٠٤ / ١٨٠٥.

٦٣

الفاطمية في السنوات التسع الاخيرة من حكمه ، ثم تولى القضاء لهم حتىٰ اصبح قاضي القضاة في الدولة ، وقد ذكر ان كتابه الدعائم هذا كان هو القانون الرسمي ودستور الدولة منذ عهد المعز ـ رابع الخلفاء الفاطميين ـ حتىٰ نهاية الدولة الفاطمية ، وربّما توهم بعضهم ان القاضي نعمان من رجال الشيعة الإماميّة استناداً إلىٰ شبهات ضعيفة اجبنا عنها في محله.

ويلاحظ ان احاديث الكتاب كلها مراسيل ، بل لم يذكر فيه اسامي رواتها من الطبقة الأولىٰ غالباً ، وقد تداول النقل عن هذا الكتاب في كتب متأخري المتأخرين من فقهائنا كالجواهر وغيره ، وهو احد مصادر كتاب المستدرك للمحدث النوري (قده).

واما مراجع الكتاب ومصادره : فالذي يظهر بمراجعة ما ورد فيه من الاحاديث ، ومقايسته مع مصادر الحديث عند الشيعة الإماميّة ، انه كان يرجع إلىٰ كتبهم ويعتمدها في نقل الروايات ، فان جملة مما تضمنه من الاخبار مما لا اشكال في انه اخذها من مصادرهم ، حتىٰ انه اشتبه في بعض المواضع فنقل رواية عن ابي جعفرعليه‌السلام ظناً منه انه الباقرعليه‌السلام بينما هو الجوادعليه‌السلام ، فظن المحدث النوري وآخرون انه تعمد الابهام وجعلوا ذلك من امارات كونه امامياً.

والظاهر ان الذي دعاه إلىٰ الاعتماد علىٰ مصادر الإماميّة في تأليف كتابه هو ان الاسماعيلية منذ تكوّنهم في زمن الصادق والكاظمعليهما‌السلام ، لم يكن من مسلكهم نقل الاحاديث والاهتمام بضبطها وانما كانت غاية اهتمامهم بالجوانب السياسية والاجتماعية للامامة.

ولما وفقوا لتشكيل دولتهم في المغرب واستولوا علىٰ مصر وبنوا القاهرة واسسوا الجامع الازهر ، احتاجوا إلىٰ الفقه والحضارة والقانون فاضطر عالمهم المبرز آنذاك القاضي نعمان إلىٰ تأليف كتاب الدعائم ، والاعتماد

٦٤

فيه علىٰ مصادر الآخرين ، لما لم يكن لسلفهم كتب في هذا المضمار.

ويمكن معرفة بعض مصادره من كتب الإماميّة بمقارنته معها او مع ما نقل من رواياتها ، ومنها كتاب الجعفريات فان ما ورد فيه من الاخبار يطابق في موارد كثيرة متون الاخبار الواردة في الدعائم ـ كما تنبه لذلك المحدث النوريقدس‌سره (١) ـ وكتاب الجعفريات لاسماعيل بن موسى بن جعفر ، قال الشيخ والنجاشي ( سكن مصر وولده بها وله كتب يرويها عن ابيه عن آبائه ). وقد روى الجعفريات اسماعيل بن موسى ورواه عنه محمّد بن محمّد ابن الاشعث ـ وكان ساكناً بمصر أيضاً ـ فهذا الكتاب كان موجوداً في مصر مقر الاسماعيلية آنذاك.

وعلى اي تقدير فالمقصود : ان روايات كتاب الدعائم منقولة غالباً عن مصادر الشيعة الإماميّة رغم ان مؤلفه ليس منهم ، ولذلك كانت اقرب إلىٰ الاعتبار من روايات العامة ، لانها نفس رواياتنا نقلت الينا بغير طريقنا فتدبر.

الجهة الثانية : في سنده ، وهوكما علم مما سبق ضعيف من جهتين : من جهة الارسال ومن جهة عدم وثاقة مؤلف الدعائم عندنا.

الجهة الثالثة : في مفاده ، ولا اشكال فيما تضمنه صدره من عدم وجوب اعادة بناء الجدار علىٰ صاحب الدار اذا لم يكن للجار حق فيه فانه علىٰ وفق القاعدة ، وانما الاشكال فيما تضمنه الذيل من منعه من هدم جداره وامره ببنائه لو هدمه إضراراً بجاره ، فانه قد يقال ان ذلك مخالف للقواعد والاصول المسلمة ، لان الظاهر ان مورد الحديث الجدار الذي يكون مملوكاً للشخص ملكاً طلقاً من دون ان يكون متعلقاً لحق الجار بوجه من الوجوه ، ومقتضى القاعدة في مثل ذلك ان يكون للمالك حق هدمه ، وان لا يجب

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٣ / ٣١٧.

٦٥

عليه اعادة بنائه علىٰ تقدير هدمه ، وان كان ذلك سبباً لوقوع الجار في الحرج والضيق من جهة فقدان الساتر لبيته ، ومجرد كون هدمه لا لحاجة عقلائية بل بداعي ايقاع الجار في الضيق لا يقتضي منعه من الهدم ، وامره بالبناء علىٰ تقدير مخالفته ، وعليه فتطبيق قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار ) علىٰ مورد الحديث محل اشكال.

و لكن يمكن الجواب عن ذلك بوجهين :

الوجه الأول : انه لا غرابة في الحكم بمنع المالك من هدم جداره وامره باعادة بنائه لو فعل عقوبة علىٰ مخالفته ، اذا لم يكن له في الهدم غرض عقلائي بل كان غرضه مجرد الاضرار بجاره ، فان لهذا الحكم نظائر في الفقه الاسلامي ، ومنها ما التزم به جمع من الفقهاء منهم الشيخ في النهاية والقاضي وابن البراج ، من انه اذا اعتق احد الشركاء نصيبه من العبد قاصداً به الاضرار بشريكه ، وجب عليه فكه ان كان موسراً وبطل عتقه ان كان معسراً ، وإن قصد القربة انعتق سهمه وسعىٰ العبد في نصيب الشريك ، ولم يجب علىٰ المعتق فكه بل يستحب له ذلك ، وقد اعتبر في الجواهر هذا القول احد القولين القويين في المسألة(١) .

ويدل عليه من الاخبار صحيح الحلبي عن ابي عبد اللهعليه‌السلام قال : سألته عن المملوك بين الشركاء فيعتق احدهم نصيبه ؟ فقال ان ذلك فساد علىٰ اصحابه ، فلا يستطيعون بيعه ولا مؤاجرته وقال يقوم قيمته فيجعل علىٰ الذي اعتقه عقوبة ، وانما جعل ذلك مما افسده. وفي صحيحة محمّد ابن مسلم قال قلت لابي عبد اللهعليه‌السلام : رجل ورث غلاماً وله فيه شركاء فاعتق لوجه الله نصيبه ، فقال اذا اعتق نصيبه مضارة وهو موسر ضمن للورثة ،

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٤ / ١٥٦ ـ ١٥٧.

٦٦

واذا اعتق لوجه الله كان الغلام قد اعتق من حصة من اعتق ، ويستعملونه علىٰ قدر ما اعتق منه له ولهم ، فان كان نصفه عمل لهم يوماً وله يوماً ، وان اعتق الشريك مضاراً وهو معسر فلا عتق له ، لانه اراد ان يفسد علىٰ القوم فترجع إلىٰ القوم حصصهم(١) .

فيستفاد من هاتين الروايتين وغيرهما أن العتق لو كان مقروناً بقصد الاضرار بالشريك ، استتبع ذلك التشديد علىٰ المعتق اما بابطال عتقه راساً أو بتضمينه حصة الشريك.

فيمكن الالتزام بنظير ذلك في المقام أيضاً ـ كما التزم به بعض فقهاء العامة ـ بان يقال : انه لا يجوز للجار ان يتصرف في ملكه بما يكون لمجرد الاضرار بجاره لا لغرض عقلائي ، ولو فعل ذلك اجبر علىٰ تدارك الضرر الحاصل عقوبة علىٰ عمله. وهذا الحكم يصح ان يكون حكماً اولياً علىٰ اساس ان من حق المسلم علىٰ المسلم أو الجار علىٰ الجار ان لا يضر به متعمداً وان كان ذلك بالتصرف في ملك نفسه ، كما يصح ان يكون حكماً ولائياً اقتضته المصلحة الملزمة التي رآها الامامعليه‌السلام في امثال هذه الموارد.

الوجه الثاني : انه يمكن ان يفترض ان مورد كلام الامامعليه‌السلام في ذيل الحديث هو ما اذا كان الجدار مورداً لحق الجار ، وبذلك يتجه النهي عن الهدم والامر ببنائه علىٰ تقدير المخالفة ، كما يتجه تعليل النهي ب‍ ( لا ضرر ولا ضرار ) لان في هدم الجدار حينئذٍ إضراراً بالجار لاستلزامه سلب حقه.

ومبرر هذا الافتراض ان السائل فرض كون الهدم إضراراً بالجار ، وهذا

__________________

(١) الوسائل ٢٣ : ٣٩ و ٤٠ ح ٢٩٠٥٦ و ٢٩٠٥٩.

٦٧

ظاهر فيما اذا كان للجار حق بالنسبة إلىٰ الجدار ـ لكي يصدق الاضرار به عرفاً ـ ، ولا يشمل ما اذا لم يكن له حق فيه وانما كان هدمه مستلزماً لعدم انتفاعه بجدار الغير ، واما قول السائل ( لغير حاجة منه إلىٰ هدمه ) فلا يدل علىٰ عدم كون الجدار متعلقاً لحق الغير ، بل لعل المراد به اخراج صورة تعارض الضررين ، حيث يكون صاحب الجدار محتاجاً إلىٰ هدمه لكونه آئلاً للسقوط أو موجباً لضيق داره مثلاً مع كونه متعلقاً لحق الجار.

وهذا الوجه في توجيه الرواية يظهر من كلام لصاحب الجواهر(١) في كتاب الصلح ذكره تأييداً لكلام نقله عن المحقق الكركي في جامع المقاصد.

٥ ـ حديث قسمة العين المشتركة(٢) :

رواه في كنز العمال عن جامع عبد الرزاق الصنعاني منقولاً باسناده عن الحجاج بن أرطأة ـ وهو من رجال الصادقين كما في كتاب الرجال للشيخ (قده) ـ قال أخبرني أبو جعفر : ان نخلة كانت بين رجلين فاختصما فيها إلىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال احدهما : اشققها نصفين بيني وبينه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ضرر ولا ضرار في الإسلام يتقاومان فيها(٣) .

والحكم المذكور في الرواية جار علىٰ وفق قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار ) وقد ذكره فقهاؤنا مع تعليله بهذه القاعدة ايضاً.

__________________

(١) جواهر الكلام ٢٦ / ٢٦٨.

(٢) هذا الحديث وما بعده من الأحاديث وإن لم ترد في كتبنا وإنّما وردت في كتب العامّة إلا إنّا آثرنا التعرض لها استيفاءً لما اطلعنا عليه من القضايا التي ذكر قاعدة لا ضرر ولا ضرار في مواردها في كتب علماء الإسلام مضافاً إلىٰ بعض الفوائد الأخرى التي ستتضح من خلال البحوث الآتية.

(٣) كنز العمال ٥ : ٨٤٣ ح ١٤٥٣٤.

٦٨

وقد ورد ما يماثله في صحيح الغنوي المروي في الكافي عن ابي عبد اللهعليه‌السلام : في رجل شهد بعيراً مريضاً وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، فجاء واشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضىٰ ان البعير برئ فبلغ ثمنه دنانير ، فقال لصاحب الدرهمين خذ خمس ما بلغ فأبىٰ قال اريد الرأس والجلد فقالعليه‌السلام ليس له ذلك هذا الضرار وقد أُعطي حقه اذا أُعطي الخمس(١) .

وهذه الرواية تماثل رواية الحجاج بن أرطأة الا ان المذكور فيها مجرد تطبيق كبرى لا ضرر علىٰ موردهما من دون ذكرها صريحاً ، ولعل ذلك لمعلوميتها واشتهارها فاستغنى الامامعليه‌السلام عن ذكرها.

وقد وقعت صحيحة الغنوي موضعاً للبحث والاشكال في كلمات جمع من الفقهاء ، وافتى بمضمونها جماعة منهم كالمحقق في الشرائع والشهيد الاول في الدروس ، ولعل الاظهر في معناها ان يكون قوله ( اشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد ) بمعنىٰ ان الرجل قد اشترك في البعير بنسبة الخمس واشترط ان يكون نصيبه بعد النحر في الرأس والجلد ، وكان هذا الشرط ناظراً إلىٰ صورة استمرار المرض وعدم برء البعير مما لا مناص معه من نحره فلما برئ البعير انتفى موضوع الشرط المذكور فلم يكن يستحق الا خمس البعير نفسه وذلك وجه الحكم في الرواية.

٦ ـ حديث عذق ابي لبابة :

رواه ابو داود في المراسيل عن واسع بن حبان ، قال : كان لابي لبابة عذق في حائط رجل فكلمه ، فقال انك تطاً حائطي إلىٰ عذقك فانا اعطيك مثله في حائطي ، وأخرجه عني فأبىٰ عليه ، فكلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٩٣ ح ٤.

٦٩

فقال يا ابا لبابة خذ مثل عذقك فحزها إلىٰ مالك واكفف عن صاحبك ما يكره ، فقال ما انا بفاعل ، فقال اذهب فاخرج له مثل عذقه إلىٰ حائطه ، ثم اضرب فوق ذلك بجدار فانه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار(١) .

وهذه القضية تشبه قضية سمرة بن جندب مع الرجل الأنصاري.

٧ ـ حديث جعل الخشبة في حائط الجار وحدّ الطريق المسلوك :

اورده عبد الرزاق الصنعاني في المصنف ، عن معمر عن جابر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) وللرجل ان يجعل خشبة في حائط جاره والطريق سبعة اذرع(٢) .

ورواه احمد بن حنبل في مسنده باسناده عن ابن عباس أيضاً ، وكذا الطبراني والبيهقي وابن ماجة(٣) . وفي سنن الدارقطني حكى الجمل الثلاث بطريقه عن ابن عباس ، لكن مع تأخير جملة ( لا ضرر ولا ضرار ) عن الجملتين الأُخريين(٤) .

كما روى باسناده عن ابي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، انه قال : ( لا ضرر ولا ضرورة ولا يمنعن احدكم جاره أن يضع خشبة علىٰ حائطه )(٥) .

ولكن ظهور هذا الحديث في تعاقب الجمل الثلاث في كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ نحو يكون قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) بمنزلة الكبرىٰ الكلية للحكمين المذكورين في الجملتين الاخريين غير واضح ، فان صيغة الحديث في الجمع بين الجمل الثلاث ليست صيغة واضحة في ان النبي

__________________

(١) المراسيل مع الاسانيد لأبي داود : ٢٠٧ ح ٢ باب ٧١ في الإضرار.

(٢) كنز العمال ٤ : ٦١ ح ٩٥١٩.

(٣ ـ ٤) لاحظ مسند أحمد ١ : ٣١٣ ، وسنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٤ ، وسنن الدارقطني ٤ : ٢٢٨.

(٥) سنن الدارقطني ٤ : ٨٢٢

٧٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بصدد تطبيق ( لا ضرر ولا ضرار ) ، علىٰ مورد جعل الخشبة في حائط الجار وحدّ الطريق المسلوك. والفرق التعبيري بين الصيغة المستعملة في هذا الحديث والصيغة المستعملة في حديثي الشفعة ومنع فضل الماء شاسع جداً ، فان الوارد فيهما هكذا قضىٰ بكذا وكذا وقال ( لا ضرر ولا ضرار ) مما يكون ظاهراً عرفاً في الارتباط بين القضاء والقول واما في المقام فلا ظهور للحديث في الارتباط بين قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) وقوله ( ولا يمنعن أحدكم الخ ).

ويظهر من مالك في الموطأ ، والشافعي في كتاب الام في مقام الردّ علىٰ اصحاب مالك انهما اعتبرا قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) رواية مستقلة ولم يعدّاه صدراً أو ذيلاً لحكمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجواز جعل الخشبة في حائط الجار ، ونهيه عن منع الجار عن ذلك. فلاحظ(١) .

٨ ـ حديث مشارب النخل :

اورده في كنز العمال عن أبي نعيم عن صفوان بن سليم ، عن ثعلبة ابن ابي مالك : ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ( لا ضرر ولا ضرار ) وان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قضىٰ في مشارب النخل بالسيل الاعلى علىٰ الاسفل حتىٰ يشرب الاعلى ويروي الماء إلىٰ الكفين ، ثم يسرح الماء إلىٰ الاسفل وكذلك حتىٰ تنقضي الحوائط ويغني الماء(٢) .

وهذا الحديت لا ظهور له في الارتباط بين قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لا ضرر ولا ضرار ) وبين قضائه في مشارب النخيل ، ولا سيّما مع تكرار ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه.

__________________

(١) موطأ مالك ٢ : ٧٤٥ ، والأم ٧ : ٢٣٠.

(٢) كنز العمال ٣ : ٩١٩ ح ٩١٦٧.

٧١

وروي قضاؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مشارب النخيل من دون تعقبه أو تقدمه ب‍ ( لا ضرر ولا ضرار ) في جملة من مصادر الخاصة والعامة.

اما الخاصة فقد ورد في مصادرهم(١) عن ثلاثة اشخاص هم :

١ ـ عقبة بن خالد واورد حديثه الكليني وينقله عنه الشيخ(٢) .

٢ ـ غياث بن ابراهيم وقد ورد حديثه بطريقين في الكافي ونقله الشيخ باسناده عن احمد بن محمّد ـ والظاهر انه اخذه من الكافي أيضاً ـ كما رواه الصدوق في الفقيه بسنده إلىٰ غياث.

٣ ـ حفص بن غياث ـ وهو عامي المذهب ـ وقد اورد حديثه الكليني باسناده اليه ورواه عنه الشيخ (قده).

واما العامة فقد روى ذلك جمع منهم في مصادرهم عن جمع ، منهم عبادة بن الصامت(٣) .

هذا تمام الكلام في البحث الأَوّل من الفصل الأَوّل في ذكر القضايا التي تضمنت تطبيق كبرى ( لا ضرر ولا ضرار ) علىٰ مواردها في كتب الخاصة والعامة ، وقد عرفت انها ثمان قضايا وعمدتها القضايا الثلاث الأولىٰ المروية في كتب الامامية.

* * *

البحث الثاني : في تحقيق لفظ حديث ( لا ضرر ولا ضرار ).

ويقع الكلام فيه تارة في زيادة ( في الإسلام ) في آخره ، واخرى في زيادة ( علىٰ مؤمن ) بدلاً عنه ، وثالثة في ثبوت القسم الثاني من الحديث أي

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٢٠ / ٣٢٢٦٣.

(٢) مسند أحمد ٥ : ٣٢٦ ، كنز العمال ٣ : ٩٠٣ ح ٩١١٧.

(٣) الكافي ٥ : ٢٧٨ ح ٦ ، التهذيب ١٤٠ ح ٦٢.

٧٢

قوله ( لا ضرار ) ، وانه علىٰ تقدير ثبوته هل هو بهذه الصيغة أو بصيغة اخرى مثل ( لا اضرار ) أو ( لا ضرورة ) ؟ فالكلام في مقامات :

المقام الاول : في تحقيق زيادة ( في الإسلام ) في آخر الحديث.

و يقع البحث عنه تارة من حيث وجود هذه الزيادة في المصادر الحديثية وغيرها ، واخرى في اعتبارها وعدمه فهنا امران :

الامر الاول : في تحقيق وجود هذه الزيادة في المصادر التي تعرضت لذكر حديث ( لا ضرر ولا ضرار ).

ادعى العلاّمة شيخ الشريعة (قده) ان هذه الزيادة غير ثابتة في شيء من كتب العامة والخاصة عدا النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ، ولا يدرى إنّه من اين جاء بها ؟

قال(١) قدس‌سره : ان الثابت في روايات العامة هو قوله ( لا ضرر ولا ضرار ) من غير تعقيب قوله ( في الإسلام ) ، فقد تفحصت في كتبهم وتتبعت في صحاحهم ومسانيدهم وغيرها فحصاً اكيداً ، فلم اجد رواية في طرقهم الا عن ابن عباس ، وعن عبادة بن الصامت ، وكلاهما رويا من غير هذه الزيادة ، ولا ادري من اين جاء ابن الأثير في النهاية بهذه الزيادة ، وليس المقام من مصاديق القاعدة السابقة من تقدّم الزيادة علىٰ النقيصة والحكم بوجودها ، فانها فيما اذا ثبتت الزيادة بطريق معتبر لا في غيره ممالم يثبت أو ثبت خلافها أو ارسلها واحد أو اثنان ، فلا يمكن الاحتجاج بمثل هذه الزيادة التي لو لم يدع الجزم بخطئها فغاية ما فيه الارسال ممن لا يعلم حال مراسيله علىٰ حكم ديني وفرع فقهي.

واضاف (قده) : وناهيك في المقام ان علاّمتهم المتبحر الماهر

__________________

(١) رسالة لا ضرر : ٧.

٧٣

السيوطي الذي تجاوزت تصانيفه عن خمسمائة ، ويعدونه مجدد المائة التاسعة ، وقيل انه ما بلغ احد درجة الاجتهاد بعد الائمة الاربعة إلا السيوطي ، صنف كتابه ( جمع الجوامع ) في الحديث ، وجمع فيه جميع كتب الحديث من الصحاح وغيرها كصحيحي البخاري ومسلم ، وصحيح الترمذي ، وسنن ابن داود ، وسنن النسائي ، وصحيح ابن ماجة القزويني ، وموطأ مالك ، ومسند أحمد بن حنبل ، وصحيح ابن خزيمة ، وصحيح ابن عوانة ، ومستدرك الحاكم ، ومنتقى ابن الجارود ، وصحيح ابن حبان ، وصحيح الطبراني ، وسنن سعيد بن منصور ، وابن ابي شيبة ، وجامع عبد الرزاق ، ومسند أبي يعلى ، وسنن الدارقطني ، والصحاح المختارة للضياء المقدسي ، وشعب الايمان للبيهقي ، والكامل لابن عدي ، وغيرها من كتب كثيرة لا نطيل بنقلها ، ولم ينقل في هذا الكتاب الا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لا ضرر ولا ضرار ) فقط ؛ وذكر رواية احمد في مسنده وابن ماجة في صحيحه.

ثم قال (قده) ( وهذه كتب احاديث اهل السنة تراها خالية عن قوله ( في الإسلام ) ، فمن اين هذه الزيادة حتى نقدمها على النقيصة ، ونستشهد بها على معنى الحديث ونستعين بها في بعض المقاصد والفروع ؟ فما اشتهر في الكتب وتداولوه في الاستشهاد بها ليس على ما ينبغي.

واعجب من الكل ما رأيته في كلام بعض المعاصرين من دعوى الاستفاضة مع هذا القيد ، واسناده إلى المحققين دعوى تواتر هذا الحديث مع هذه الزيادة ـ انتهى موضع الحاجة من كلامه ـ.

وقد تأثر بما ذكره (قده) غير واحد ممن تأخر عنه ولا سيّما فيما ذكره من عدم وجود الزيادة المذكورة في مصادر العامة غير النهاية الاثيرية.

٧٤

و يبدو انهقدس‌سره لم يطلع علىٰ نقل الفقيه(١) لحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) مع اضافة في الإسلام ، والا لما بالغ في نفيها.

وقد شكك بعض الاعاظم(٢) تأثراً بالنفي البالغ الذي ذكره العلامة شيخ الشريعة (قده) في اصل وجود هذه الاضافة في الفقيه : قائلاً انه لم يثبت وجودها في نقل الفقيه أيضاً علىٰ نحو يطمئن به ، لاحتمال ان تكون الزيادة من قبل الكاتب ، وذلك لأنّه قد جاء في الفقيه بعد ذكر ( لا ضرر ) ، فالاسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شراً ، فمن المحتمل ان الناسخ قد كتب كلمة ( فالاسلام ) مكرراً لغفلته عن كتابتها اولاً ، كما يقع ذلك كثيراً ، ثم تصور بعض من تأخر عنه ان ( فالاسلام ) الأولىٰ تحريف ( في الإسلام ) ، فصححه تصحيحاً قياسياً مبدلاً للفاء ب‍ ( في ) ، فتحقق بذلك ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) ، فكان وجود هذه الزيادة في الفقيه وليد عملين : تكرار خاطئ اولاً ، وتصحيح قياسي للتكرار دون التنبه إلىٰ منشأه ثانياً.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في التشكيك في ثبوت زيادة ( في الإسلام ) في آخر الحديث.

وفي مجموع ما ذكر ملاحظات :

الملاحظة الأولىٰ : ان ما ذكره العلامة شيخ الشريعة (قده) من حصر راوي حديث ( لا ضرر ولا ضرار ) لدى العامة ، في شخصين ابن عباس ، وعبادة بن الصامت ، ليس بصحيح ، وتوضيح الحال :

ان هذا الحديث قد ورد في كتب العامة علىٰ نحوين : مرسلاً ومسنداً.

اما المرسل فقد ورد في موطأ مالك(٣) ، عن عمرو بن يحيى المازني ،

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢٤٣ ح ٧٧٧.

(٢) رسالة لا ضرر للإمام الخميني : ٢٥.

(٣) الموطأ ٢ : ٧٤٥.

٧٥

عن ابيه : ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ( لا ضرر ولا ضرار ) ، وورد أيضاً في جامع الصنعاني ـ علىٰ ما في كنز العمال(١) ـ عن ابن اليميني ، عن الحجاج بن أرطأة ، أخبرني ابو جعفر ان نخلة كانت بين رجلين فاختصما فيها إلىٰ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال احدهما اشققها نصفين بيني وبينه فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لا ضرر ) ـ وعدُّ هذا الحديث مرسلاً مبني علىٰ اصول العامة من عدّ روايات ائمتناعليهم‌السلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير ذكر الوسائط من قسم المراسيل ، وان كانت عندنا من المسانيد.

وعلى اي تقدير فقد ورد نقل ( لا ضرر ) مرسلاً في كثير من الكتب الفقهية واللغوية تارة مع الزيادة واخرى بدونها ـ كما سيأتي عرض ذلك ان شاء الله تعالى.

وأما المسند فقد نقل عن جملة من الصحابة يبلغ عددهم ثمانية أو تسعة رواة وهم :

١ ـ ابن عباس. وقد نقل حديثه في مصادر :

منها : سنن ابن ماجة(٢) : رواه باسناده عن جابر الجعفي عن عكرمة ، عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ).

ومنها : المصنف(٣) لعبد الرزاق الصنعاني رواه عن معمر ، عن جابر الجعفي كما تقدم.

ومنها : مسند احمد(٤) ، رواه عن عبد الرزاق بنفس السند المذكور ،

__________________

(١) كنز العمال ٥ : ٨٤٣ ح ١٤٥٣٤.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٤ ح ٣٤١.

(٣) كما في نصب الراية ٤ : ٣٨٤.

(٤) مسند أحمد بن حنبل ١ / ٣١٣٣.

٧٦

ولكن بلفظ ( لا ضرر ولا اضرار ).

ومنها : سنن الدارقطني(١) رواه باسناده عن داود بن الحصين عن عكرمة ، عن ابن عباس بلفظ ( لا ضرر ولا اضرار ).

ومنها : المعجم للطبراني ـ علىٰ ما في نصب الراية(٢) ـ عن ابن ابي شيبة ، عن معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن سماك عن عكرمة.

٢ ـ ابو سعيد الخدري. وقد ورد حديثه في مصادر :

منها : المستدرك للحاكم(٣) : رواه باسناده عن عمرو بن يحيى المازني ، عن ابيه ، عن ابي سعيد الخدري : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ( لا ضرر ولا ضرار ـ من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه ) ، قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح الاسناد علىٰ شرط مسلم ولم يخرجاه ) ولم يتعقبه الذهبي في تلخيص المستدرك.

ومنها : سنن الدارقطني(٤) رواه باسناده عن المازني ، ولكن بلفظ ( لا ضرر ولا اضرار ).

ومنها : التمهيد في شرح الموطأ لابن عبدالبر ـ علىٰ ما حكي عنه(٥) ـ.

ومنها : سنن البيهقي(٦) .

٣ ـ ابو لبابة. نقل حديثه ابو داود في المراسيل عن واسع بن حبان عنه ـ علىٰ ما ذكره الزيلعي في نصب الراية(٧) ـ ونص الحديث قال ( واسع )

__________________

(١) سنن الدارقطني ٤ : ٢٨ ح ٨٤.

(٢) نصب الراية ٤ / ٣٨٤.

(٣) المستدرك علىٰ الصحيحين ٢ / ٥٧.

(٤) سنن الدارقطني ٤ : ٢٢٨ ح ٨٥.

(٥) لاحظ نصب الراية ٤ / ٢٨٥.

(٦) سنن البيهقي ٦ : ١٥٧.

(٧) نصب الراية ٤ / ٣٨٥.

٧٧

كان لابي لبابة عذق في حائط رجل فكلمه ، فقال انك تطأ حائطي إلىٰ عذقك ، فأنا اعطيك مثله في حائطي ، واخرجه عني فأبىٰ عليه فكلم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال يا ابا لبابة خذ مثل عذقك فحزها إلىٰ مالك ، واكفف عن صاحبك ما يكره ، فقال ما انا بفاعل فقال اذهب فأخرج له مثل عذقه إلىٰ حائطه ، ثم اضرب فوق ذلك بجدار ( فانه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار ).

٤ ـ ابو هريرة. أورد حديثه الدارقطني في سننه(١) باسناده عن ابن عطاء ، عن ابيه ، عن ابي هريرة : أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ( لا ضرر ولا ضرورة ) ولا يمنعن احدكم جاره أن يضع خشبة علىٰ حائطه.

٥ ـ ثعلبة بن مالك. اورد حديئه ابونعيم ـ علىٰ ما في كنز العمال(٢) ـ باسناده عن صفوان بن سليم ، عن ثعلبة : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ( لا ضرر ولا ضرار ). ونقله أيضاً الطبراني في معجمه ـ علىٰ ما حكاه الزيلعي(٣) ـ بسنده إلىٰ صفوان عن ثعلبة.

٦ ـ جابر بن عبدالله. روى حديثه الطبراني في معجمه الاوسط ـ علىٰ ما حكاه الزيلعي في نصب الراية(٤) ، والهيثمي في مجمع الزوائد(٥) ـ باسناده عن واسع بن حبان ، عن جابر بن عبد الله ، قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ).

٧ ـ عائشة. نقل حديثها الدارقطني في سننه(٦) باسناده عن عمرة ،

__________________

(١) سنن الدارقطني ٤ : ٢٢٨ ح ٨٦.

(٢) كنز العمال ٣ : ٩١٩ ح ٩١٦٧.

(٣) نصب الراية ٤ / ٣٨٦.

(٤) نصب الراية ٤ / ٣٨٥.

(٥) مجمع الزوائد ٤ / ١١٠.

(٦) سنن الدارقطني ٤ : ٢٢٧ ح ٨٣.

٧٨

عن عائشة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ( لا ضرر ولا ضرار ) ورواه الطبراني أيضاً في معجمه الاوسط ـ كما في نصب الراية ومجمع الزوائد(١) ـ بطريقين عن نافع بن مالك عن القاسم بن محمّد ، عن عائشة احدهما بلفظ ( لا ضرر ولا ضرار ) واما الثاني فنقله الهيثمي بهذا اللفظ أيضاً ولكن نقله الزيلعي بلفظ ( لا ضرر ولا ضرار ).

٨ ـ عبادة بن الصامت. ـ وهو أشهر رواة الحديث ـ وقد ورد حديثه في عدة مصادر :

منها : سنن ابن ماجة بطريقه إلىٰ موسى بن عقبة بن الوليد بن عبادة ، عن جد أبيه عبادة بن الصامت : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضىٰ أن لا ضرر ولا ضرار(٢) .

ومنها : صحيح أبي عوانة ـ علىٰ ما في كنز العمال(٣) ـ.

ومنها : المعجم الكبير للطبراني ـ علىٰ ما في كنز العمال أيضاً(٤) ـ.

ومنها : سنن البيهقي(٥) .

ومنها : مسند احمد بن حنبل(٦) .

واذا اعتبرنا الرواية المذكورة في جامع الصنعانى عن أبي جعفرعليه‌السلام ، مروية عن الامام أمير المؤمنينعليه‌السلام ـ باعتبار ان ما ينقلهعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانما ينقله عن آبائه ـ فسوف تكون رواة

__________________

(١) نصب الراية ٤ : ٢٨٦ ، ومجمع الزوائد ٤ : ١١٠ ، المعجم الأوسط ٢ : ٢٣ ح ١٠٣٧.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٨٤ / ٢٣٤٠.

(٣) كنز العمال ٤ : ٥٩ ح ٩٤٩٨.

(٤) كنز العمال ٣ / ٢٠٩ الطبعة القديمة.

(٥) سنن البيهقي ٦ : ١٥٧.

(٦) مسند أحمد بن حنبل ٥ : ٣٢٦.

٧٩

الحديث تسعة.

وبما ذكرنا يتضح :

اولاً : ان نقل الحديث ليس محصوراً بالنقل المسند في كتبهم ، لكي يقال في بيان عدم وجود الحديث مع الزيادة فيها انه لم يروه الا ابن عباس وعبادة ، وروايتهما لا تتضمن الزيادة ؛ اذ يمكن ثبوت الزيادة في المنقول مرسلاً ، كما ثبت ذلك فعلاً علىٰ ما مر ، فلا بُدّ من نفي ثبوت الحديث مرسلاً ومسنداً مع الزيادة لكي يتم البيان المذكور.

وثانياً : ان الراوي للحديث لا ينحصر بابن عباس وعبادة بل له رواة كثيرون غيرهما ، نعم هما اشهر من نقل الحديث لورود روايتهما في جملة وافرة من مصادرهم.

وثالثاً : ان مصدر الحديث لا ينحصر بسنن ابن ماجة ومسند احمد ، بل له مصادر اخرى كالموطأ لمالك والمصنَّف لعبد الرزاق وسنن الدارقطني ، والمعجم الكبير ، والاوسط للطبراني ، والمستدرك للحاكم ، وسنن البيهقي ، وغيرها مما تقدمت الاشارة إلىٰ بعضها.

والملاحظة الثانية : ان ما ذكره (قده) من عدم معلومية مصدر ابن الأثير في نقل هذه الزيادة في النهاية ليس في محله ، فان مصدره في ذلك واضح من نفس كتابه وهو كتاب ( غريب الحديث والقرآن ) لابي عبيد احمد بن محمّد الهروي صاحب أبي منصور الازهري اللغوي المتوفى سنة ٤٠١.

وتوضيح ذلك :

ان ابن الأثير ـ كما صرح في مقدمة النهاية(١) ـ قد جمع في كتابه هذا بين كتاب الهروي ، ويين كتاب أبي موسى محمّد بن ابي بكر الاصفهاني

__________________

(١) النهاية ٣ : ٨١.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الابتعاد عن إيذاء المؤمنين

يقول الحسين بن أبي العلاء: كنَّا في نحو عشرين نفراً عزمنا على الحَجِّ إلى بيت الله الحرام في مصاريف مُشتركة. وكنت أذبح لهم شاة في كل منزل ننزل فيه. وفي يوم، ونحن في السفر، زرت الإمام الصادق (عليه السلام)، فقال لي: (يا حسين، أُتذلُّ المؤمنين؟!).

قلت: أعوذ بالله مِن ذلك.

فقال (عليه السلام): (بلغني أنَّك تذبح لهم في كلِّ منزل شاةً).

فقلت: يا مولاي، والله ما أردت بذلك غير وجه الله تعالى.

فقال (عليه السلام): (أما كنت ترى أنَّ فيهم مَن يُحبُّ أنْ يفعل مثل أفعالك فلا يبلغ مقدرته ذلك، فيتقاصر إليه نفسه؟!).

قلت: يا ابن رسول الله، أستغفر الله ولا أعود.

لم يكن الحسين بن العلاء يرى مِن عمله سوى قرى رفاق سفره، دون أنْ ينتبه لما في ذلك في تحقير للآخرين، فبيَّن له الإمام الصادق عيبه الأخلاقي، فتنبَّه الرجل إلى ذلك فوراً، ولم يعد لمثله (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢١

اتَّق الله ولا تَعجل

عن جرير بن مرزام قال:

قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): إنِّي أُريد العُمرة، فأوصني.

قال: (اتَّق الله ولا تَعجل).

فقلت: أوصني. فلم يزد على هذا.

إنَّ العجلة والتسرُّع كانا واضحين في أُسلوب تفكيره، فهو في أول منزل مِن منازل سفره يُصادف مجهولاً ويسمع منه ما لا يُحبُّ أن يسمع. وبدلاً مِن أنْ يُناقش الرجل ويُصحِّح له خطأه، يُقرِّر مُنازلته وقتله، ولكنَّه يلتزم وصية الإمام الصادق (عليه السلام) ويُمسك نفسه عن تنفيذ قراره.

كان مُعلِّم الأخلاق الإسلاميَّة يعرف عيب جرير الخلقي، فاستثمر فرصة طلبه النصح فأوصاه بعدم التسرّع الذي كان مِن أهمِّ عُيوبه، وبذلك نجَّاه مِن خطر السقوط.

٣٢٢

الإسراف مذموم

كان منصور بن عمّار مارَّاً قرب بيت قاضي بغداد، وكان باب البيت مفتوح، فوقف منصور أمام الباب وأخذ ينظر إلى داخل البيت واسع وضخم، ولفت نظره الغرف المفروشة والأواني الفاخرة، وتعدُّد الغُلمان والخُدَّام، وتعجَّب مِن هذه الزخارف والزينة.

طلب منصور ماءً للوضوء، فملأ أحد الغُلمان إبريقاً كبيراً وجاء به إليه، وعندما جلس ليتوضَّأ أراق ماء الإبريق كلَّه، وشاهده قاضي بغداد فقال له:

يا منصور، لماذا هذا الإسراف في الماء؟

أجاب منصور: أيَّها القاضي، أنت تُحاسبي في الماء المُباح للوضوء، ولا تُحاسب نفسك على هذا الإسراف العجيب في البناء!

والله يعلم مِن أين جاءتك هذه الأموال، ولم تكتف بمنزل صغير وخادم؟!

لماذا كلُّ هذا الإسراف وتحمُّل المعصية؟!

انتبه قاضي بغداد مِن غفلته بسبب كلام منصور، واعتدل بعد ذلك في صرف الأموال (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢٣

الشيطان لن ينصح مُسلماً

هناك حديث مرويٌّ عن الإمام الصادق (عليه السلام) يدور حوله حوار يجري بين النبي يَحيى (عليه السلام)، وإبليس العدوِّ اللدود لبني آدم، فيُمعن النبيُّ يحيى (عليه السلام) النظر في أقوال إبليس ويستفيد منها.

قال يحيى: (فهل ظفرت بيَ ساعة قطُّ؟).

قال: لا، ولكنْ فيك خِصلة تُعجبني.

قال يحيى: (فما هي؟).

قال: أنت رجل أكول، فإذا أفطرت أكلت وبشمت، فيمنعك ذلك مِن صلاتك وقيامك بالليل.

قال يحيى: (فإنِّي أُعطي الله بهذا (عهداً) أنِّي لا أشبع مِن الطعام حتَّى ألقاه).

قال له إبليس: وإنِّي أُعطي الله عهداً أنِّي لا أنصح مسلماً حتَّى ألقاه (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢٤

لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ

أرسل الخليفة العباسي عبد الله بن طاهر والياً على خراسان، فدخل هذا بجنوده مدينة نيسابور، واستقرَّ بهم في المواضع المُخصَّصة لهم، إلا أنَّها لم تتَّسع لهم جميعاً، فوزَّع بعض جنوده على الأهالي وأجبرهم على استضافتهم، فأثار فيهم موجة مِن السخط والتذمُّر.

واتَّفق لأحد الجنود أنْ يسُكن مع رجل غيور زوجته جميلة، فاضطرَّ الرجل إلى أنْ يترك عمله ليبقى في البيت رقيباً لئلا تتعرَّض زوجه لاعتداء مِن الجنديِّ الشابِّ.

في أحد الأيَّام طلب الجندي من صاحب البيت أنْ يأخذ فرسه ليورده الماء غير أنَّ الرجل الذي لم يكن - مِن جِهة - يجرؤ على ترك زوجه مع الجنديِّ وحدهما في البيت، ويخاف - مِن جِهة أُخرى - رفض طلب الجندي، قال لزوجه أنْ تأخذ هي الفرس إلى الماء، ويبقى هو للمُحافظة على أثاث البيت، فأخذت الزوجة بزمام الفرس واتَّجهت نحو موضع الماء.

وفي تلك اللحظة اتَّفق أنْ مَرَّ عبد الله بن طاهر مِن ذلك المكان، فرأى امرأة وقوراً جميلة تقود فرساً نحو الماء، فعُجب مِن ذلك، واستدعى المرأة وقال لها: لا أراك مِن اللواتي يوردن الخيل، فما الذي دعاك إلى هذا؟!

قالت المرأة بغضب: هذا نتيجة عمل عبد الله بن طاهر الظالم، ثمَّ شرحت له الأمر.

تأثَّر عبد الله مِن قول المرأة وغَضب على نفسه؛ لأنَّه كان سبباً في أنْ يَشعر أهل نيسابور بالتعاسة والشقاء، فأمر المُنادين أنْ ينادوا في البلدة أنْ على جميع الجنود الخروج مِن المدينة حتَّى الغروب مِن ذلك اليوم، ومَن بات منهم في المدينة يُهدر

٣٢٥

ماله ودمه.

وترك هو المدينة إلى (شادياخ) القريبة مِن نيسابور حيث لحق به جنوده، فبنى في تلك المنطقة الواسعة لنفسه قصراً ولجنوده مقرَّات يسكنونها.

هذه المرأة التي كانت حياتها عُرضة للخطر ذكرت عبد الله بن طاهر بالسوء، فكان مِن أثر هذا الكلام والذَّمِّ الموجع أنْ حلَّ العُقدة ورفع الظلم، لا عن نفسها وزوجها فحسب، بلْ إنَّه قد أنقذ سائر الناس مِن التعسُّف والجور، وَوُضِع حَدٌّ للحالة المُزرية التي مَرَّت بها مدينة نيسابور.

وهذا هو مصداق الآية القرآنيَّة: ( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ... ) (النساء: 148) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢٦

اللَّهمَّ إنِّي أمسيت عنه راضياً فارضَ عنه

ومثلما يسعى الناس بدافع مِمَّا فيهم مِن أنانيَّة ورغبة في الحياة، إلى مُعالجة أمراضهم الجسميَّة، ويبحثون عن الدواء والعلاج، كذلك يسعى الذين يتمسَّكون بالحياة الإنسانيَّة والمعنويَّة بدافع مِن حُبِّ الذات وعِشق السموِّ والكمال، مِن أجل إصلاح أفكارهم وأخلاقهم، ويُباشرون بإرادة قويَّة بمُعالجة أنفسهم، فيقومون بواجباتهم، دون أنْ يُبالوا بالمشقَّات والصعاب. هؤلاء يستطيعون تزكية أنفسهم بما يبذلونه مِن سَعي وجُهد، ويتخلَّقون بمكارم الأخلاق والسجايا الإنسانيَّة، ليبلغوا في النهاية الكمال اللائق بمقام الإنسان.

أمثال هؤلاء كثيرون بين المسلمين، مُنذ عهد الرسول حتَّى العصر الحاضر، مِن الرجال والنساء مِن ذوي الإرادة القويَّة والعزم الراسخ، وعلى الرغم مِن أنْ أكثريَّة هؤلاء مجهلون، إلاَّ أنَّ التاريخ احتفظ لنا ببعض الأسماء، وفيها اسم عبد الله ذي البِجادَين.

كان عبد الله مِن قبيلة (هزينة) وكان اسمه عبد العُزَّى - والعُزَّى هو أحد أصنام عرب الجاهليَّة - مات أبوه وهو صغير، فكفله عَمُّه العابد للأصنام فعَني به وربَّاه حتَّى بلغ سِنَّ الشباب، فوهب له بعض أمواله وأغنامه. يومئذ كان الإسلام قد بدأ يُثير الحماس والتحرُّك في الناس، وكان كلام يدور في كلِّ مكان على هذا الدين الجديد، فكان أنْ أخذ عبد العُزَّى الشابّ يبحث عن حقيقة أمر هذا الدين بكلِّ حَماس وعِشق، مُتابعاً جميع الشؤون الإسلاميَّة، وعلى أثر سماعه كلام نبيِّ الإسلام والتعرُّف على التعاليم الإلهيَّة، أدرك فساد المُعتقدات التي كان هو وقبيلته يتَّبعونه، فعافت نفسه الأصنام وعبادتها والعادات الجاهليَّة، وآمن في قلبه بدين الله ولكنَّه لم يُظهر ذلك علانيَّة رعاية لعَمِّه.

٣٢٧

ظلَّت الحال على هذا المنوال بعض الوقت. وبعد فتح مَكَّة قال يوماً لعمِّه: ظللت أنتظرك طويلاً أنْ تعود إلى نفسك فتُسلِم وأُسلم معك، ولكنِّي أراك لا تُريد أنْ تترك عبادة الأصنام، وما تزال تُصرُّ على دينك الباطل، فاسمح لي أنْ أعتنق أنا الإسلام وألتحق بركب المسلمين. كان عَمُّه قد طرق سمعه مِن قِبل ميول ابن أخيه إلى الإسلام؛ لذلك غضب عند سماع كلامه غضباً شديداً، وقال: إنَّه لن يسمح له أبداً بذلك، وأقسم أنَّه إذا خالفه واعتنق الإسلام فسوف يسترجع منه كلَّ ما كان قد وهبه له.

كان الرجل يظنُّ أنَّ ابن أخيه الشابَّ سوف يرجع عن رأيه في الإسلام إذا هدَّده بانتزاع كلِّ شيء منه، وأنَّه سوف يطرد فكرة اعتناق الإسلام مِن رأسه، ويبقى عاكفاً على عبادة الأصنام. ولكنَّ الشابَّ كان مسلماً حقيقيَّاً، لا يُمكن أنْ تتزلزل عقيدته بالتهديد والوعيد، ولا أنْ يرجع عمَّا عزم عليه، فأعلن إسلامه بكلِّ جُرأة وصراحة، ولم يعبأ بالتهديدات الماليَّة.

عند ذلك لم يجد العمُّ إزاء مقالة الشابِّ إلاّ أنْ يُنفِّذ تهديده، فاسترجع منه كلَّ الأموال التي كان قد أعطاها له، ونزع عنه حتَّى الثوب الذي كان يرتديه، فانطلق الشابُّ عارياً إلى أُمِّه وقال لها: أحمل هوى الإسلام، ولا أطلب منك سوى إكساء العُريان. فأعطته أُمُّه قطعة مِن قماش كتَّان عندها، فشقَّها نِصفين كسا عُريِّه بهما واتَّخذ سبيله في الطريق إلى المدينة للتشرّف برؤية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

كان الفتى قد فُتِن بالحقيقة التي اكتشفها، فامتلأ قلبه بالثورة والحماس، والطهارة والخلوص، والصدق والصفاء. كان يغذُّ السير، كطائر أُطلق مِن سجنه وأصبح حُرَّاً يُحلِّق حيث يشاء، يُريد أنْ يرى رسول الإسلام بأسرع ما يستطيع؛ ليعُبَّ مِن عذب نمير تعاليمه الإلهيَّة المُحيية؛ ليصنع نفسه كما يليق به، ولينال السعادة الحقيقية والكمال الإنسانيِّ المنشود.

دخل المسجد بين الطلوعين عندما كان المسلمون قد اجتمعوا لأداء فريضة

٣٢٨

صلاة الصبح، فأدَّاها جماعة معهم بإمامة رسول الله. وبعد الصلاة استدعاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسأله عمَّن يكون، فقال له: اسمي عبد العُزَّى.

ثمَّ سرد عليه ما جرى له. فقال الرسول: (اسمك عبد الله).

وإذ رآه يلفُّ نفسه بتينك القطعتين مِن القماش لقَّبه بذي البِجادَين. ومُنذ ذلك اليوم عرفه الناس باسم عبد الله ذي البِجادَين.

وخرج عبد الله ذو البِجادَين مع المسلمين في حرب تبوك مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوفَّاه الله في هذه الغزوة. وعند دفنه قام النبي بنفسه بإنزال جسده إلى القبر. وبعد الانتهاء مِن مراسم الدفن، اتَّجه إلى القبلة، ورفع يديه نحو السماء ودعا له قائلاً: (اللَّهمَّ، إنِّي أمسيت عنه راضياً فارضَ عنه).

٣٢٩

التضرُّع إلى الله وأسباب الانتصار

في إحدى الحروب الإسلاميَّة حاصر جُند الإسلام إحدى قِلاع العدوِّ، بهدف الاستيلاء عليها بالقوَّة العسكريَّة، غير أنَّ القلعة كانت حصينة وطالت أيَّام الحصار. وعلى الرغم مِن أنَّ جُند الإسلام بذلوا خلال تلك المُدَّة جهوداً جبَّارة ومساعي حميدة؛ فإنَّهم لم ينجحوا في اقتحام الحِصن، فأخذت معنويَّات الجيش تهبط شيئاً فشيئاً، ويضعف عزمهم على الاستمرار .

وإذ وجد قائد الجيش أنَّ انتصاره في تلك الظروف مُستبعَد جِدَّاً، توجَّه إلى الله تعالى واستعاذ به مِن ذِلِّ النكوص فصام أيَّاماً، ورفع يديه بالدعاء إلى الله مُخلصاً صادقاً، طالباً الانتصار على العدوِّ، فتقبَّل الله تعالى دعواته، وسُرعان ما استجاب له .

كان القائد في أحد الأيَّام جالساً، فشاهد كلباً أسود يركض بين المُعسكر فشدَّ ذلك انتباهه وراح يُدقِّق فيه. وبعد ساعات وجد الكلب نفسه على حائط القلعة، فأدرك أنَّ للقلعة طريقاً إلى الخارج، وأنَّ الكلب يأتي مِن القلعة إلى المُعسكر بحثاً عن طعام ويعود إليه. فكلَّف بعض الجُند بتقصِّي مسير الكلب لمعرفة الطريق الذي يسلكه، ولكنَّهم لم يوفَّقوا للعثور على الطريق. فأمر بجراب أنْ يلوَّث بالسمن لإغراء الكلب به، ويملأ بالدفن ويُثقب في عِدَّة مواضع لينساب منه الحَبُّ فيما يجرُّ الكلب الجراب إلى حيث يُريد. ففعلوا ما أمر به، وألقوا بالجراب في المُعسكر في طريق الكلب .

وفي اليوم التالي خرج الكلب مِن القلعة مُتَّجهاً إلى المُعسكر حتَّى وصل إلى الجراب المدهون، فعضَّ عليه بأسنانه وكَرَّ راجعاً إلى القلعة، مُخلِّفاً وراءه حبَّات الدفن التي كانت تسقط مِن ثقوب الجراب. وبعد ساعة تتبَّع الجُند آثار الدفن على الأرض حتَّى وصلوا في النهاية إلى نقب كبير كان

٣٣٠

يسمح بالدخول إلى القلعة بيُسر وسهولة. فعيَّن القائد موعداً لجنده فاجتازوا النقب إلى داخل القلعة، وهاجموا العدوَّ الذي لم يجد بُدَّاً مِن الاستسلام، وانتهى الحصار بانتصار الإسلام .

لقد كان هذا الكلب دائم التردُّد على المُعسكر، ولكنَّ أحداً مِن الضباط والجنود لم يلتفت إليه؛ لأنَّ أحداً منهم لم يخطر له أنْ يكون هذا الحيوان سبباً لفتح القلعة ولانتصار المسلمين، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى عندما استجاب دعوة القائد، أوقع في قلبه أنْ يتنبَّه إلى الكلب كسبب مِن أسباب الانتصار، وبذلك أخرج المسلمين مِن مُشكلتهم الكُبرى، وفتح أمامهم باب الظفر، وأنقذهم مِن ذِلِّ الهزيمة والانكسار (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣١

يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ

إنَّ الله تعالى قد يشاء أنْ يصون المؤمنين مِن الأخطار والبلايا، بطُرق خارقة للعادة عن طريق إزالة العِلَّة التي تتهدَّدهم بالخطر، ومِن ذلك صيانة خليل الرحمان مِن الاحتراق بنيران عَبدة الأصنام .

لقد حطَّم النبي إبراهيم (عليه السلام) أصنام المُشركين، فأثار غضبهم، فقرَّروا أنْ يُحرقوه دفاعاً عن أصنامهم، فأوقدوا ناراً عظيمة وألقوا به فيها .

في مثل هذه الحالة لم يكن أمام إبراهيم الخليل مفرٌّ مِن الاحتراق في تلك النيران ليستحيل رماداً، ولكنَّ الله لم يُرِدْ له ذلك، بلْ أراد أنْ يصونه مِن نيرانهم، فقال للنار: ( ... يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (الأنبياء: 69 ).

فانقلبت النار المُحرقة برداً وسلاماً عليه بمشية الله تعالى الخاصَّة، وتبدَّل ذلك السعير المُلتهب إلى جوٍّ مِن السلامة خالٍ مِن كلِّ خطرٍ، وانهارت خُطَّة المُشركين في إحراق نبيِّ الله، وظلَّ سليماً في حفظ الله وصيانته (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٢

لا يَخرج الرجل عن مَسقط رأسه بالدَّين

إنَّ محمد بن أبي عمير كان رجلاً بزَّازاً فذهب ماله وافتقر، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم، فباع داراً له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم، وحمل المال إلى بابه، فخرج إليه محمد بن أبي عمير فقال: ما هذا؟

قال: هذا مالك الذي عليَّ .

قال: ورثته؟

قال: لا .

قال: وهِبَ لك؟

قال: لا .

قال: فهل هو ثمن ضيعة بعتها؟

قال: لا .

قال: فما هو؟

قال: بعت داري التي أسكنها لأقضي دَيني .

فقال محمد بن أبي عمير: حدَّثني ذريح المُحاربي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يخرج الرجل عن مَسقط رأسه بالدَّين) (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٣

أذلُّ الناس مَن أهان الناس

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أذلُّ الناس مَن أهان الناس ).

روي أنَّ عمر بن عبد العزيز دخل إليه رجل، فذكر عنده عن رجلٍ شيئاً .

فقال عمر: إنْ شئتَ نظرنا في أمرك، فإنْ كنت كاذباً فأنت مِن أهل هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ) (الحجرات: 6)، وإنْ كنت صادقاً فأنت مِن أهل هذه الآية: ( هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ) (القلم: 11)، وإنْ شئتَ عَفونا عنك؟

فقال: العفو، لا أعود إلى مثل ذلك أبداً (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٤

البادئ أظلم

كان مُعاوية بن أبي سفيان مِن بني أُميَّّة، وعقيل مِن بني هاشم، وكان آل هاشم سادات قريش، مُكرَّمين ومُحترمين، بينما كان آل أُميَّة يشعرون قِبالهم بالصِّغار والضِّعة، فكان ذلك مُدعاة لحِقدهم على آل هاشم، والسعي لمُعاداتهم والانتقام منهم .

كان مجلس مُعاوية في الشام يوماً مُكتظَّاً بالحاضرين، ومنهم عقيل، فأراد مُعاوية أنْ ينتهز الفرصة لينتقص منه، فالتفت إلى الحاضرين وسألهم، أتدرون مَن أبو لهب؟ الذي قال عنه القرآن: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ... ) (المسد: 1) إنَّه عَمُّ عقيل هذا .

فبادر عقيل قائلاً: أتدرون مَن كانت زوج أبي لهب؟ التي قال عنها القرآن: ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) (المسد: 4 - 5) إنَّها عَمَّة مُعاوية هذا .

كان مُعاوية يومئذ في أوج سُلطانه وفي يده أزمَّة الأُمور في البلاد الإسلاميَّة الشاسعة، فلم يكن أحد ليجرؤ على إهانته، ولكنَّه بكلامه المُهين الذي قاله في عقيل، مزَّق ستار الاحترام عن نفسه وجرَّأ عقيلاً على أنْ يُكلِّمه بغِلظة، وأنْ يردَّ إهانته بمِثلها ويُحقِّره أمام الحاضرين (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٥

لعنة الله على الظالمين

كان الحَكم مِن ألدِّ أعداء الإسلام، وساهم مع مُشركي مَكَّة في إيذاء الرسول والمسلمين، وبعد هِجرة الرسول إلى المدينة، ظلَّ الحَكم في صفوف أعداء الإسلام ولم يترك إيذاء المسلمين، وعندما فتح جُند الإسلام مَكَّة تظاهر باعتناق الإسلام، وترك مَكَّة إلى المدينة، ولكنَّه لم يكفَّ هناك عن أعماله القبيحة، فاضطرَّ الرسول إلى نفيه إلى الطائف حيث ظلَّ حتَّى حُكم عثمان .

بعد موت يزيد بن مُعاوية، تسلَّم مروان بن الحَكم كرسيَّ الخلافة في الشام، وراح يدير شؤون البلاد، غير أنَّ أهل مَكَّة والمدينة لم يُبايعوه؛ لأنَّهم كانوا قد بايعوا عبد الله بن الزبير بالخلافة على نجد والحِجاز .

وبعد موت مروان خَلَفه ابنه عبد الملك، فصمَّم هذا على القضاء علىخلافة عبد الله بن الزبير عن طريق الحرب؛ ليبسط سُلطانه على تلك البلاد أيضاً، فأرسل الحَجَّاج بن يوسف على رأس جيش إلى مَكَّة، حيث اندلعت حرب ضَروس، انتصر فيها الحَجَّاج، وقتل عبد الله بن الزبير، ودخلت منطقة نجد والحِجاز الواسعة في مُلك عبد الملك القويِّ .

كان لعبد الله بن الزبير ولد اسمه ثابت اشتهر بالخطابة، حتَّى سمَّوه بلسان آل الزبير، وفي أحد الأيَّام دخل ثابت على عبد الملك، خليفة بني مروان المُقتدر مبعوثاً مِن قبل شخصٍ ما. فبادر عبد الملك إلى تحقيره وذكر مثالب آل الزبير، وقال له: إنَّ أباك كان يعرفك يوم سبَّك وشتمك .

فغضب ثابت مِن كلامه، وقال له: يا خليفة، أتدري لِمَ كان أبي يسبُّني؟

قال: كلا .

قال ثابت: لأنِّي كنت أنصحه بألاَّ يدخل الحرب اعتماداً على مُساندة أهل مَكَّة؛ لأنَّ الله لا ينصر بهم أحد؛ ولأنَّ أهل مَكَّة هُمْ الذين آذوا الرسول وأخرجوه منها،

٣٣٦

ثمَّ جاؤوا إلى المدينة واستمرُّوا في فسادهم وقبيح أعمالهم، حتَّى نفاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها عقاباً لهم .

كان هذا تعريفاً مِن ثابت بن عبد الله بالحَكم بن أبي العاص، جَدِّ عبد الملك قصد به رَدَّ إهانته والانتقام منه لما تفوّه به عنه، فغضب عبد الملك، وقال: لعنة الله عليك .

فردَّ ثابت في الحال: لعنة الله على الظالمين، كما لعنهم الله في القرآن الكريم .

وكان هذا تعريفاً آخر بعبد الملك، فاشتدَّ غضبه وأمر بسجن ثابت .

عبد الملك بن مروان، الخليفة القويُّ المُقتدر، بذكره مثالب ثابت بن عبد الله عرَّض نفسه لإهانته وتحقيره، وبلعنه زاد مِن جُرأة ثابت على رَدِّ اللعنة، وإنْ كان مِن دون تصريح، وبسجنه دلَّ على ضعفه وكَشف عن عجزه، وكأنَّه في الحقيقة قد اعترف بهزيمته (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٧

ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه

كان ليزيد بن أبي مسلم مقامٌ رفيعٌ في حكومة الحَجَّاج، إذ كان كاتبه الخاصَّ، ولكنَّه كان يتدخَّل في كلِّ أمر. وفي أيَّام خلافة سليمان بن عبد الملك طُرِد مِن وظيفته وأصبح غير مرغوب فيه .

وفي يوم مِن الأيَّام أُدخل على سليمان بن عبد الملك وهو مُكبَّل بالحديد، فلمَّا رآه ازدراه، فقال :

ما رأيت كاليوم قطُّ. لعنَ الله رجلاً أجرك رَسنه وحَكَّمك في أمره .

فقال له يزيد: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنَّك رأيتني والأمر عنِّي مُدبر، وعليك مُقبل، ولو رأيتني والأمر مُقبل عليَّ لأستعظمت منِّي ما استصغرت، ولأستجللت منِّي ما استحقرت .

قال: صدقت، فاجلِس، لا أُمَّ لك .

فلمَّا استقرَّ به المجلس، قال سليمان: عزمت عليك لتُخبرني عن الحَجَّاج، ما ظنُّك به؟ أتراه يهوي في جهنَّم، أمْ قد استقرَّ فيها؟

قال: يا أمير المؤمنين، لا تقلُ هذا في الحَجَّاج، فقد بذل لكم نصَفه وأحقن دونكم دمه، وأمَّن وليكم، وأخاف عدوَّكم، وإنَّ يوم القيامة لعن يمين أبيك عبد الملك ويسار أخيك الوليد، فاجعله حيث شئت .

فصاح سليمان: أُخرج عنِّي إلى لعنة الله .

ثمَّ التفت إلى جلسائه فقال: قبَّحه الله! ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه، ولقد أحسن المُكافأة، خلُّوا سبيله (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٨

لا تذيعَنَّ شيئاً على أخيك تَهدم به مروَّته

محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الأوَّل (عليه السلام)، قال :

قلت له: الرجل مِن إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه، فأسأله ذلك فيُنكره، وقد أخبرني قوم ثقات .

قال لي: (يا محمد، كَذِّب سمعك وبصرك على أخيك، فإنْ شهد عندك قَسَّامة قالوا لك قولاً فصدِّقه وكذِّبهم، ولا تُذيعن عليه شيئاً تُشينه به وتهدم به مروَّته، فتكون مِن الذين قال الله تعالى فيهم: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ... ) ) (النور: 19) (1) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٩

مُروءة قائدٍ

كان إسماعيل بن أحمد الساماني يحكُم بلاد ما وراء النهر، فعزم عمرو بن الليث الصفاري على أنْ يُحاربه، ويُخرجه مِن ما وراء النهر، ويضمَّ أرضه إلى أرض بلدته التي يحكمها، فجهَّز جيشاً كبيراً في نيسابور، ثمَّ انطلق نحو بلخ، فبعث إليه إسماعيل بن أحمد برسالة قائلاً:

إنَّك تحكم أرضاً واسعة بينما لا أحكم أنا إلاَّ على منطقة صغيرة مِن ما وراء النهر، فاقنع بما عندك واترك لي ما عندي. ولكن عمرو بن الليث لم يلتفت إلى قوله، وواصل سيره وعبر نهر جيحون وطوى المنازل حتَّى بلغ بلخ.

هناك اختار مكاناً لجيشه، حيث حفر الخنادق وأعدَّ المراصد وقضى بضعة أيَّام يتهيَّأ للقتال، بينما ظلَّت فرق جيشه تتوافد وتستقرُّ في المكان المُخصَّص لها.

أمَّا قوَّاد إسماعيل بن أحمد وحاشيته، الذين كانوا قد سمعوا بشجاعة عمرو بن الليث، فعندما شاهدوا كثرة جنوده المُدجَّجين بالسلاح ارتعبوا وتشاوروا فيما بينهم قائلين: إنَّنا إنْ دخلنا الحرب مع عمرو وجنوده الأشدَّاء فإمَّا أنْ نُقتل عن آخرنا، وإمَّا أنْ نولِّي الأدبار عندما يَحمى وطيس الحرب ونرضى بذِلِّ الفرار، وكلا هذين الأمرين ليس فيهما عقل ولا صلاح، فمِن الخير - إذنْ - أنْ نغتنم الفرصة فنتقرَّب إليه ونطلب منه الأمان قبل أنْ تقع الهزيمة المُحتَّمة فهو رجل عاقل وقويٌّ، ولا يُنتظر منه أنْ تشوَّه سمعته بقتل هذا وذاك وهو سلاح العجزة والحَمقى.

فقال أحد الحاضرين: هذا كلام معقول ونصحُ شفوق فلا بُدَّ مِن العمل به.

فتقرَّر أنْ يجتمعوا في ليلة مُعيَّنة؛ لينفذُّوا ما عزموا عليه، وفي الليلة المُعيَّنة اجتمعوا وكتب كلٌّ منهم رسالة إلى عمرو يَعرضون عليه إخلاصهم ووفاءهم له طالبين منه الأمان، ووصلت الرسائل إلى يد عمرو، فقرأها واطّلع على مضامينها، ووضعها في خُرجه وختمه بختمه وأرسل إليهم بالأمان الذي طلبوه.

ودارت رَحى الحرب وانتصر إسماعيل بن أحمد بخلاف ما كان قوَّاده يتوقَّعون،

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360