دورالعقيدة في بناء الإنسان

دورالعقيدة في بناء الإنسان60%

دورالعقيدة في بناء الإنسان مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 99

  • البداية
  • السابق
  • 99 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 10969 / تحميل: 5883
الحجم الحجم الحجم
دورالعقيدة في بناء الإنسان

دورالعقيدة في بناء الإنسان

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

٣

٤

مقدمة المركز

الحمدُ للّه ربِّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على محمد المصطفى الأمين وآله الطيبين الطاهرين ، وبعد :

إنَّ نظرة الإنسان إلى الحياة والكون ومفاهيمه في شتى المجالات بل وحتى عواطفه وأحاسيسه كلها تدور حول محور العقيدة التي يتبناها ، والتي تسهم في بنائه الفكري والأخلاقي والاجتماعي ، وتوجيه طاقاته نحو البناء والتغيير.

وإذا كانت المدارس الوضعية قد حققت بعض النجاح في ميادين الحضارة المادية ، فقد أثبتت فشلها الذريع في تلبية حاجة الفرد لحياة كريمة حرّة من قيود الابتذال والفجور ، فكان التفسّخ الأخلاقي والانحدار الخلقي والتفكك الاُسري والفراغ العقائدي ، هو أبرز معطيات الحضارة المادية التي صنعها الإنسان على صعيد الحياة الفكرية والشخصية والاجتماعية.

ولقد اقتضت حكمة الخالق تعالى أن يرشد الإنسان إلى الجذور والاُصول التي يستقي منها معارفه وينهل منها حقائق هذا الوجود ليصل من خلالها إلى المعتقدات الصحيحة السليمة من الشوائب والبعيدة عن الانحراف بعد أن منحه تعالى الفطرة الصافية مشعلاً يهديه إلى النور ، نور العقيدة الإسلامية الحقة الذي أضاء بسناه ما حوله.

ومتى ما حكّم الإنسان عقله يرى أنّ العقيدة الإسلامية تشكّل نظاما متكاملاً للحياة البشرية بمختلف أطوارها ويرسم الطريق لكلِّ جوانبها وينسجم مع الفطرة الإنسانية ويضمن تحقق حاجات الفرد الروحية ورغباته المادية بشكل متوازن ودقيق ، وبما يضمن كرامته وشخصيته.

وعلى قواعد هذه العقيدة يقوم بناء الشخصية ، شخصية الفرد والمجتمع والدولة الإسلامية ، وتنتظم العلائق والروابط ، وتتحدد الحقوق والواجبات ، وتتحقق العدالة والمساواة ، ويستتب الأمن والسلام ، وينشأ التكافل والتضامن ،

٥

وتزدهر الفضائل والمكارم ، ويُبنى الإنسان على كافة الأصعدة.

فعلى الصعيد الفكري أخرجت العقيدة الإسلامية الإنسان من عالم الخرافات والجهل لتأخذ بيده إلى دنيا العلم والنور ، محفّزة الطاقات الكامنة فيه للتأمل والاعتبار بآيات اللّه ودلائله ، وبذلك فقد نبذت التقليد في الاعتقاد وربطت بين العلم والإيمان.

وعلى الصعيد الاجتماعي استطاعت العقيدة الإسلامية أن تسمو بالروابط الاجتماعية من أُسس العصبية القبلية واللون والمال إلى دعائم معنوية تتمثل بالتقوى والفضيلة والأخاء الإنساني ، فشكّل المسلمون خير أُمة أُخرجت للناس بعد أن كانوا جماعات متفرقة متناحرة.

وعلى الصعيد الأخلاقي نجحت العقيدة الإسلامية في تنمية الواعز الذاتي القائم على أساس الإيمان برقابة الخالق جلَّ وعلا لكلِّ حركات الإنسان وسكناته وما يستتبع ذلك من ثواب وعقاب ، الأمر الذي أدى إلى تعديل الغرائز وتنمية شجرة الأخلاق الفاضلة وجعلها عنصرا مشتركا في جميع الأحكام الإسلامية.

كما أسهمت العقيدة الإسلامية في بناء المجتمع اقتصاديا وسياسيا وتربويا ، وبذلك فهي تمثل عنصر القوة في تاريخ الحضارة الإسلامية.

فلأجل النهوض بالإنسان المسلم من حالة الضعف الروحي والانزلاق في مهاوي المادية ومغرياتها ، لا بدَّ من تذكيره بمعطيات تلك العقيدة ، وترسيخ قناعته بقوتها وصلاحيتها لكلِّ العصور بلغة معاصرة ، وبشكل يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث ، والتحليل الفكري.

وإصدارنا هذا يوضح لك هذه الحقائق بشكل جلي معتمدا البحث والتحليل الفكري بإسلوب سهل ممتع وعرض علمي قويم يبتعد بالأفكار عن مهاوي الانحراف وأوهام الخيال ، ويقودها إلى الحقائق الناصعة والأدلة الساطعة.

فللّه الشكر على ما أنعم وله الحمد على ما وفق وهو المستعان

مركز الرسالة

٦

المقدِّمة

أكثر ما يهمّ الإنسان في الحياة هو أن يعرف حقيقة مبدئه ومعاده ، والغاية من وجوده ، ومن أين جاء ، وإلى أين ينتهي ، ولماذا وجد؟

هذه الأسئلة التي يطرحها الإنسان على نفسه على الدوام ، تحتاج إلى إجابات شافية ، لكي يتخذ الإنسان على ضوئها موقفا من الحياة ، يحدد سلوكه ، ويقيم لمجتمعه نظاما صالحا يرتضيه.

ولقد فشلت العقائد الوضعية في الاجابة على استفهامات الإنسان المتعلقة بمبدئه ومعاده ، ومبرِّر وجوده ؛ مرَّة من خلال الادعاء بأنَّ الانسان وجد صدفة! ومرَّة أُخرى من خلال الزعم بأنّه وجد نتيجة لتطور المادة!! وما إلى ذلك من تفسيرات واهية لا تُسمن ولا تغني من جوع الإنسان وتعطشه الأبدي لمعرفة الحقيقة.

وليس هذا فحسب ، بل فشلت أيضا في رسم معالم النظام الاجتماعي الذي يصلح الانسان ويحقق سعادته.

وبينما أجابت العقائد الدينية المحرَّفة إجابات باهتة ومشوهة ، عندما أقرّت من حيث المبدأ بوجود الخالق ولكن شبّهته بخلقه ، كما فشلت في تحديد النظام الأصلح للبشرية ، أجابت العقيدة الإسلامية عن كلِّ ذلك بمنتهى الصدق والعمق ، عندما أعلنت أنّ للإنسان خالقا حكيما قادرا

٧

لا يُنال بالحواس ولا يقاس بالناس ، وأنّ الإنسان وجد لغاية سامية وهي عبادة اللّه تعالى والوصول من خلالها إلى أرفع درجات التكامل والخلود.

كما تولِّد هذه العقيدة أيضا عواطف وأحاسيس خيِّرة ، يتبنى الإسلام بثها وتنميتها من أجل بناء الإنسان الكامل في الأبعاد الفكرية والاجتماعية والسلوكية ، وتكوين الشخصية العقائدية التي تتمتع بعقلية هادفة وسلوك قويم ، واتجاه رسالي ، على العكس من الشخصية اللامنتمية ، التي تنصبّ اهتماماتها جميعا على الذات ومصالحها ورغائبها ، فتعاني من الفراغ العقلي والتأزم النفسي وفقدان الهدفية في الحياة.

وينبغي الإشارة هنا إلى أنَّ العقيدة الإسلامية ليست كعقيدة الفلاسفة ـ باعتبارها نظرية فكرية تقبع في زوايا الدماغ ـ بل هي قوة تتحرك في القلب وتنعكس ايجابيا على النَّفس والجوارح ، فيندفع معتنقها إلى ميادين الجهاد والعمل ، وعليه فقد كانت قوة فاعلة ومحرِّكة ، غيّرت مجرى التاريخ ، وبدّلت معالم الحضارة ، وأحدثت في حياة الإنسان الاجتماعية والفكرية انقلابات رائعة ، وحققت انتصارات عسكرية مشهودة ، ولذلك وجدنا القلة المستضعفة العزلاء في مكة ، استطاعت بعقيدتها أن تصمد ثلاثة عشر عاما في مواجهة طغيان كالطوفان.

وهذه العقيدة هي التي جنّدت للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله جيشا عِدّته عشرة آلاف ، وهو الذي خرج من مكة مستخفيا يطارده كفارها ، ولم يستطع الذين حاربوه طوال هذه المدة أن يصمدوا أمام قوة الإيمان الزاحفة ، فاستسلموا له ، وأتوا إليه مذعنين ، أو دفعوا إليه الجزية صاغرين.

كان المسلمون يملكون أقوى عُدد النصر ، وهي العقيدة التي تصنع

٨

المعجزات ، التي جعلت من حمزة ـ سيد الشهداء ـ يقود أوّل سرية في الإسلام في ثلاثين راكبا مسلما ، لمواجهة ثلاثمئة راكب من قريش على ساحل البحر الأحمر ، ولم تخرج السرية المسلمة لمجرَّد استعراض العضلات ، بل كانت جادَّة في المواجهة والاشتباك مع عدو تبلغ قوته عشرة أضعاف قوّتها.

ولم يحدث في تاريخ معارك الإسلام ، التي كان يحرز فيها انتصارات باهرة ومتوالية ، أن كانت قوة المسلمين المادية متكافئة مع قوة العدو ، بل كانت قوة المسلمين من حيث العدد والعُدّة تصل أحيانا إلى خُمس قوة العدو ، ولم يتحقق النصر إلاّ باعتمادهم على المدد المعنوي الهائل الذي تمنحه العقيدة للمقاتل المسلم مع عدم إغفال دور الامداد الغيبي المتواصل ، وبعض العوامل والشروط المادية الاُخرى.

وهكذا نجد أنّ العقيدة هي القوة الأساسية في كلِّ معارك الإسلام ، والعامل الأساس في تحقيق النصر في مختلف المجالات.

وبغية النهوض الحضاري بالفرد المسلم ، لا بدَّ من تذكيره بالمعطيات الحضارية التي منحتها العقيدة الإسلامية لمن سبقه من المسلمين ، صحيح أنَّ المسلم لم يتخلَّ كليا عن عقيدته ، ولكن عقيدته قد تجرَّدت في قلبه من فاعليتها ، وفقدت في سلوكه إشعاعها الاجتماعي ، بفعل عوامل الغزو الفكري التي تعرّض ويتعرض لها باستمرار ، وبفعل عوامل الانحطاط والتخلف التي عصفت بمجتمعه كنتيجة مباشرة لابتعاده عن قيم وتعاليم السماء.

وممّا ينبغي التركيز عليه في هذا الاطار :

٩

أولاً : تعريف الإنسان المسلم بعقيدته الحقة عن طريق منابع المعرفة الصافية.

وثانيا : ترسيخ قناعته بصوابها وصلاحيتها للعصر الراهن ، وإبراز عناصر تفوّقها على العقائد الاُخرى.

وثالثا : العمل على إعادة دور العقيدة في بناء الإنسان المسلم ، لتتجسّد في فكره إيمانا عميقا ، وفي سلوكه عملاً صالحا وأخلاقا حميدة ، كما كانت تتفاعل عطاءً وجهادا في نفوس المؤمنين السابقين ومن تبعهم بإحسان.

ولاجل هذه الغاية ، عقدنا هذا البحث الذي يتناول دور العقيدة في بناء الإنسان الفكري والاجتماعي والنفسي ، وانعكاساتها على أخلاق المسلمين وسلوكهم ، كما سلّطنا الضوء فيه على الدور الكبير الذي قامت به مدرسة آل البيتعليهم‌السلام من أجل صيانة العقيدة ، والتصدي الحازم لمحاولات تسطيح الوعي التي تعرّض لها الإنسان المسلم في أدوار سياسية متتابعة.

ولا بدَّ من الإشارة إلى أننا اتبعنا في هذا البحث « المنهج النقلي » واعتمدنا ـ أساسا ـ على المصادر والمراجع التراثية.

ومن اللّه نستمد العون والتوفيق.

١٠

الفصل الأول

البناء الفكري

المبحث الأول : تحرير فكر الإنسان.

ترتكز نظرة العقيدة الإسلامية على كون الإنسان موجودا مكرَّما :( ولقَدْ كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطَّيبات وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً ) (١) .

فهو خليفة اللّه في الأرض ، يمتلك العوامل التي تؤهّله للسمّو والارتفاع إلى مراتب عالية :( وإذ قال ربُّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الارض خليفةً قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونُقدسُ لك قال إني أعلمُ ما لا تعلمون ) (٢) . كما أن بإمكان الإنسان أن ينحطّ ويتسافل حتى يصل إلى مرتبة الحيوانية : ( أخلدَ إلى الأرضِ واتَّبعَ هواه فمثلهُ كمثل الكلبِ إن تحمل عليهِ يلهث أو تتركه يلهث .. ) (٣) .

ثم يتسافل أكثر فأكثر حتى يصل إلى مرتبة الجماد :( ثمَّ قست قُلوبُكُم

__________________

(١) الاسراء ١٧ : ٧٠.

(٢) البقرة ٢ : ٣٠.

(٣) الاعراف ٧ : ١٧٦.

١١

من بعدِ ذلك فهي كالحجارةِ أو أشدُّ قسوة .. ) (١) .

وعليه فالعقيدة الإسلامية تراعي في الانسان عوامل القوة والضعف معا ، فقد وُصف الإنسان في الكتاب الكريم بأنّه خُلِق ضعيفا هلوعا عجولاً ، وأنه يطغى ، وأنّه كان ظلوما جهولاً(٢) .

وعلى هذا الأساس لا تحاول الشريعة إرهاقه بتكاليف شاقة ، تفوق طاقاته وقدراته النفسية والبدنية ، قال تعالى :( لا يُكلِّفُ اللّه نفسا إلاَّ وُسعَها .. ) (٣) .

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «رُفعَ عن أُمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أُكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، ومالا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطّيرة ، والتّفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » (٤) . وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «رُفعَ القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله حتّى يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم » (٥) .

فالعقيدة الإسلامية ـ إذن ـ تعتبر عوامل الضعف في الإنسان حالة طبيعية ناتجة عن تكوينه البشري ، ولم ترها معقدة بالمستوى الذي يفقد الإنسان معها قدرته على البناء والحركة ، وحرية الاختيار.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٧٤.

(٢) راجع سورة النساء ٤ : ٢٨ ، والمعارج ٧٠ : ١٩ ، والاحزاب ٣٣ : ٧٢ ، والأنبياء ٢١ : ٣٧ ، والعلق ٩٦ : ٦.

(٣) البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٤) الخصال ، للصدوق : ٤١٧ باب التسعة ـ منشورات جماعة المدرسين ـ قم.

(٥) كنز العمّال ، للمتقي الهندي ٤ : ٢٣٣ مؤسسة الرسالة ط ٥.

١٢

وفوق ذلك حاولت العقيدة ـ وهي تريد بناء الإنسان وتكامله ـ أن تثير لديه شعورا عميقا بالجانب الإيجابي من وجوده.

الخطيئة أمرٌ طارئ

من ناحية أُخرى فإنَّ العقيدة الإسلامية تعتبر الخطيئة أمرا طارئا على الإنسان ، وليس ذاتيا أصيلاً ، وعليه فحين يسقط الإنسان في مهاوي الخطيئة ، فإنّه لا يتحول إلى شيطان تمنعه شيطنته من العودة إلى رحاب الإنسانية ، بل يبقى إنسانا مخطئا يمكن أن يسعى إلى تصحيح خطئه ، والنهوض من كبوته.

وهذا هو سر عظمة النظرة الإسلامية إلى الإنسان ، فهي لا تجعله تحت رحمة الشعور بخطيئة أصيلة مفروضة عليه ، كما تفعل النصرانية ، بل هي تسعى إلى انتشال الإنسان من وحل الخطيئة ، وإشعاره بقدرته على الارتقاء ، وتذكيره الدائم بعفو اللّه ورحمته الواسعة ، وعدم اليأس منها. ولا يوجد في الإسلام « كرسي للاعتراف » كما هو الحال في النصرانية ، بل يسعى أئمة الدين وعلماؤه إلى ستر عيوب الناس وذنوبهم مهما أمكن ذلك ، لأن اللّه تعالى يحبَّ الستر.

عن الاصبغ بن نباتة قال : أتى رجل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي زنيت فطهّرني ، فأعرض أمير المؤمنينعليه‌السلام بوجهه عنه ، ثم قال له : «اجلس ، فأقبل عليّ عليه‌السلام على القوم ، فقال : أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر اللّه عليه؟! » (١) .

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢١ / ٣١ باب فيما يجب به التعزير والحد ، دار صعب طبع ١٤٠١ ه.

١٣

الإنسان موجود مكرَّم

ومن جانب آخر تحاول العقيدة إشعار الإنسان ـ على الدَّوام ـ بأنّه موجود مكرَّم ، له موقعه المهمّ في هذا الكون ، من خلال وظيفة الاستخلاف فيه وما عليه إلاّ أن يقوم بأداء وظيفة الاستخلاف هذه على أحسن وجه ، وأن يشكر خالقه على هذا التكريم والتمكين والهداية إلى الدين الحق.

سأل رجلٌ أمير المؤمنينعليه‌السلام عن حبه للقاء اللّه تعالى ، فقال : بماذا أحببت لقاءه؟ قالعليه‌السلام : « لمَّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه ، علمت أنَّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني ، فأحببت لقاءه » (١) .

معالم التحرير

ولقد أسهمت العقيدة إسهاما فعالاً في تحرير الإنسان على محاور عدّة ، منها : ـ

أولاً : ـ حرَّرت الإنسان من الاستبداد السياسي ، فليس في الإسلام استبداد إنسان بآخر ، أو تسخير طبقة أو قومية لاُخرى (فقد كان الدين ، على امتداد التأريخ الإسلامي ، من أبرز العوامل لظهور حركات التحرر. ومهما تكن نظرة الباحث تجاه الدين فلا يستطيع إبعاد العامل الديني وأثره في بناء الوعي الثوري خلال هذه الفترة من تأريخ الاسلام.

فلم تكن ثورة أبي ذررحمه‌الله وثورة الحسينعليه‌السلام إلاّ منطلقا لاتّجاه واعٍ لتصحيح الانحراف في تأريخ الإسلام. ورغم كل الانحراف الذي تعرض

__________________

(١) كتاب الخصال : ٣٣ باب الاثنين ـ منشورات جماعة المدرسين ـ قم.

١٤

له المسلمون على امتداد تأريخهم الطويل لم ينعدم في فترة من هذا التأريخ اتجاه ثوري قوي في إعادة الإسلام الى مجاري الحياة والقضاء على الظلم والاستغلال واستعادة حقوق الانسان المسلم وكرامته)(١) .

كما حرَّرت العقيدة الاسلامية الانسان من عادة « تأليه البشر » ، كعبادة الملوك والأُسر الحاكمة ، وهي عادة كانت سائدة عند بعض الاُمم القديمة كالمصريين القدماء ، وقد أبطل الإسلام نظريات التمييز بين إنسان وآخر ، سواء على أساس الجنس أو اللغة أو اللّون أو المال أو القوة ، ومقياس التفاضل ينحصر في أُمور معنوية هي التقوى والفضيلة ، قال تعالى :( يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خَلقناكُم مِن ذكرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوبا وقَبائل لِتعارفُوا إنَّ أكرمكُم عندَ اللّه أتقاكُم إنَّ اللّه عَليمٌ خبيرٌ ) (٢) .

إنّ الإسلام يحتل الأسبقية بإعلان مبدأ الحرية قبل الثورة الفرنسية بأكثر من عشرة قرون.

قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في خطبةٍ له : «أيُّها الناس إنّ آدم لم يلد عبدا ولا أمة ، وإنّ النّاس كلّهم أحرار. ». (٣) .

إلاّ أنّ الإسلام لم يجعل هذه الحرية الممنوحة للإنسان مطلقة ، بحيث يُطلق العنان للإنسان ليفعل ما يشاء ، بل جعل للحرية ضوابط وكوابح حتى لا تؤدي إلى فوضى.

ومن هنا يبرز الفرق الشاسع بين العقيدة الإسلامية التي تربط الحرية

__________________

(١) دور الدين في حياة الانسان ، للشيخ الآصفي : ٥٠ ـ دار التعارف ط٢.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٣.

(٣) فروع الكافي ٨ : ٦٩ ـ دار صعب ط٣.

١٥

الإنسانية بالعبودية للّه تعالى والخضوع الواعي والطوعي لسلطته ، وبين القوانين الوضعية التي تُلقي بالإنسان في تيهٍ لا يتفق مع قدرته ولا مع طبيعته.

ومن هنا لا بدَّ من توازن بين الحرية والعبودية ، وليس هناك توازن في هذا السبيل يطلق قدرات الإنسان ، ويحافظ على طبيعته في آن واحد ، إلاّ بما نجده في الإسلام ؛ عبودية للّه ، وحرية من سائر العبوديات ، فلا تكتمل حرية العبد إلاّ بعبوديته للّه ولا تكتمل عبوديته للّه إلاّ بتحرره من عبادة سواه ، فهنا توازن واتّساق واضح بين الجانب الاجتماعي والجانب الإيماني في شخصية المسلم عن طريق الحرية كما يراها الإسلام(١) .

وعلى ضوء ما تقدم ، فالعقيدة تُقرِّر حقيقة أساسية هي أنّ جوهر الحرية الحقيقية ، هو العبودية للّه ، لأنّها تعني التحرر من جميع السلطات الجائرة ، وليس في العبودية للّه أي امتهان لكرامة الإنسان ، بل هي على العكس من ذلك تعزّز شخصيته وتحافظ على مكانته ،

فقد كان الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يتشرف بكونه عبدا للّه ، ويحب أن يطلقوا عليه صفة « العبودية » ويرفض الغلوّ الذي قد يؤدي إلى التأليه الباطل ، كما حصل لأهل الكتاب على الرغم من التحذير الإلهي لهم من الغلو في أشخاص رسلهم ، قال تعالى :( يأهلَ الكِتَابِ لا تَغلُوا في دينِكُم ولا تقُولُوا على اللّه إلاّ الحَقَّ إنَّما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسُولُ اللّه وكلمتُهُ ألقاها إلى مريمَ

__________________

(١) معالم شخصية المسلم ، للدكتور يحيى فرغل : ٧٩ ـ ٨٠ ، منشورات المكتبة العصرية ـ طبعة عام ١٣٩٩ ه.

١٦

ورُوحٌ منهُ .. ) (١) .

إنّ مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام تحارب فكرة تأليه البشر من خلال التركيز على صفة العبودية أحيانا قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : أنا عبداللّه وأخو رسوله(٢) . وقال الإمام الرضاعليه‌السلام : « بالعبودية للّه أفتخر »(٣) . على أن فكرة تأليه البشر كانت سائدة في الاُمم الاُخرى ، وتسرّبت إلى أتباع الأديان السماوية فخالطت عقائد بعضهم ، فالمسيحية ـ على سبيل المثال ـ تدَّعي إلوهية المسيح ، واليهودية تزعم أنّ عزيرا ابن اللّه!

ومن هنا تبرز حكمة وبُعد نظر الإمام عليعليه‌السلام في تركيزه على صفة العبودية ووقوفه بالمرّصاد لكلِّ دعوات الغلوّ التي نسبته إلى الربوبية ، جاء في الحديث : (أنّه أتى قوم أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسلام فقالوا : السّلام عليك يا ربّنا! فاستتابهم ، فلم يتوبوا ، فحفر لهم حفيرة ، وأوقد فيها نارا وحفر حفيرة إلى جانبها اُخرى ، وأفضى بينهما ، فلما لم يتوبوا ، ألقاهم في الحفيرة ، وأوقد في الحفيرة الاُخرى حتّى ماتوا)(٤) .

وفي هذا الصدد قالعليه‌السلام : «هلك فيَّ رجلان : محبٌّ غالٍ ، ومبغضٌ قالٍ » (٥) .

ثانيا : حرَّرت العقيدة الإسلامية الإنسان المسلم من شهوات نفسه

__________________

(١) النساء ٤ : ١٧١.

(٢) كنز العمال ١٣ : ح ٣٦٤١٠.

(٣) بحار الانوار ٤٩ : ١٢٩.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٥٥٢. دار احياء التراث العربي ط ٥.

(٥) نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح ، ٥٥٨ / حكم ٤٦٩.

١٧

بعدما ربطت قلبه باللّه والدار الآخرة ، ولم تربطه بأهوائه ونزواته ، لقد زودت العقيدة عقل المسلم وإرادته بالحصانة الواقية من الانحراف أو إيثار العاجل الفاني على الآجل الباقي ، والنَّفس ـ في توجهات آل البيتعليهم‌السلام ـ هي منطقة الخطر ، لذلك تصدّرت أولى اهتماماتهم.

ومن هنا نجد أنّ حديث النفس وضرورة السيطرة عليها يحتل مساحةً كبيرةً من أقوال وحكم ومواعظ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلم يترك مناسبة إلاّ واغتنمها في الحديث عن النفس لكونها قطب الرَّحى في عملية بناء الإنسان.

لقد أخبرنا الذكر الحكيم :( بأنَّ اللّه لم يكُ مُغَيِّرا نِعمةً أنعَمَها على قومٍ حتَّى يُغيِّرُوا ما بأنفُسِهِم ) (١) ولذلك فإنَّ ما يلفت نظر الباحث أنّ الإمام علياعليه‌السلام ـ أيام حكومته العادلة ـ كان يوصي عماله على الأقاليم وكبار قادته بالسيطرة على النفس ، على الرغم من انتقائه الدَّقيق لهم ، وكون أكثرهم من ذوي الفضائل العالية والسَّجايا الحميدة ، فمن كتاب لهعليه‌السلام للأشتر لمّا ولاّه مصر : «هذا ما أمر به عبدُ اللّه عليّ أمير المؤمنين ، مالك بن الحارث الأشتر أمَرَهُ بتقوى اللّه ، وإيثار طاعته وأمَرَه أن يكسر نفسهُ من الشهوات فإنّ النّفس أمّارة بالسوء ، إلاّ ما رحم اللّه فاملك هواك ، وشحَّ بنفسك عمّا لا يحلَّ لك ، فإنّ الشُّحَّ بالنفسِ الإنصافُ منها فيما أحبَّت أو كرهت وأشعر قلبك الرحمة للرعية » (٢) .

ومن وصية له لشريح بن هاني أحد قادته العسكريين ، لمّا جعله على

__________________

(١) الانفال ٨ : ٥٣.

(٢) نهج البلاغة ، لصبحي الصالح : ٤٢٧.

١٨

مقدّمة جيشه إلى الشام : «واعلم أنَّك إنْ لم تردَعْ نفسك عن كثير ممَّا تُحبُّ ، مخافة مكروه ، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر ، فكن لنفسك مانعا رادعا » (١) .

ومن كتاب لهعليه‌السلام كان قد وجّهه إلى معاوية ، كشف له فيه عن سر تمرّده على القيادة الشرعية ، المتمثل في انحرافاته النفسية ، فقال له :« فإنَّ نفسك قد أولجتك شرا ، وأقحمتك غيّا ، وأوردتك المهالك ، وأوعرت عليك المسالك » (٢) .

فالانحراف النفسي له عواقب جسيمة ، وخاصة من الذين يتصدّون لدفّة القيادة بدون شرعية وجدارة.

وكان أهل البيتعليهم‌السلام مع عصمتهم المعروفة يطلبون من اللّه تعالى العون على أنفسهم ، تعليما وتهذيبا لغيرهم ، وممّا جاء من دعاء الإمام زين العابدينعليه‌السلام : « وأوهن قوّتنا عمّا يُسخطك علينا ، ولا تخلِّ في ذلك بين نفوسنا واختيارها ، فإنها مختارة للباطل إلاّ ما وفّقت ، أمّارة بالسوة إلاّ ما رحمت » (٣) .

ونستنتج من كلِّ ذلك ، أنّه لا يتم بناء الإنسان إلاّ بالسيطرة على النفس وهو ما سيأتي الحديث عنه.

ثالثا : إنّ العقيدة الإسلامية حرَّرت الإنسان من عبادة الطبيعة ومن تقديس ظواهرها ، ومن الخوف منها ، يقول تعالى : «ومِن آياتِهِ الليلُ

__________________

(١) نهج البلاغة : ٤٧٤.

(٢) نهج البلاغة : ٣٩٠.

(٣) في ظلال الصحيفة السجادية ، للشيخ مغنية : ١٠٠ ـ دار التعارف للمطبوعات ط٢.

١٩

والنَّهارُ والشَّمسُ والقَمرُ لا تسجُدوا للشمسِ ولا للقمرِ ) (١) .

لقد مرَّ الإنسان بمرحلة الحيرة والتساؤل والقلق من مظاهر الطبيعة من حوله ، فهو لا يعرف شيئا من أسرارها وأسباب تقلّب أحوالها ، فأخذ يقدّسها ويقدّم لها القرابين بسخاء ، متصورا أنّه سوف يأمن بذلك من ثورات براكينها الملتهبة وزلازلها المدمّرة وسيولها الجارفة وصواعقها المحرقة ، فعملت العقيدة على تنقية العقول من غواشيها ، وفتحت الطريق أمامها واسعا لاستثمار الطبيعة والتسالم معها ، عندما رفعت ما كان من حجب كثيفة بين الإنسان والطبيعة ، وانكشف له بأنّ الطبيعة ومظاهرها وما فيها من مخلوقات وحوادث كلها صادرة عن اللّه تعالى ، وهي مخلوقات مسخّرة لخدمته ، وما عليه إلاّ أن ينتفع بها ويتفكر فيها وبأصلها حتى يصل عن طريقها إلى الخالق :( أفلا يَنظُرونَ إلى الإبلِ كيفَ خُلقت * وإلى السَّماء كيفَ رُفِعت * وإلى الجِبالِ كيف نُصِبت * وإلى الأرضِ كَيفَ سُطِحت ) (٢) .

ولا بدَّ من الاشارة إلى أنّ منهج العقيدة في بناء الإنسان «منهج شمولي » يُنظّم علاقة الإنسان بنفسه وبربّه وبالطبيعة من حوله ، وكل توثيق أو تطور في العلاقة بين الإنسان وربّه فسوف ينعكس إيجابيا على علاقته مع الطبيعة المسخّرة بيد اللّه تعالى ، فتجود على الإنسان المؤمن بالخير والعطاء ، لذلك طلب النبي« هود » عليه‌السلام من قومه ـ الذين ابتعدوا عن منهج السماء فحُبس عنهم المطر ثلاث سنين وكادوا يهلكون ـ أن يستغفروا

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٣٧.

(٢) الغاشية ٨٨ : ١٧ ـ ٢٠.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وألحق عبد الله بن جعفر الحسينعليه‌السلام بابنيه عون ومحمد ، وكتب على ايديهما اليه كتابا يقول فيه :

اما بعد فاني اسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فاني مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له ان يكون فيه هلاكك واستئصال اهل بيتك ، وان هلكت اليوم طفىء نور الأرض فانك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل بالمسير فاني في أثر كتابي والسلام.

وصار عبد الله الى عمرو بن سعيد فسأله ان يكتب للحسينعليه‌السلام أمانا ويمنيه البر والصلة ، فكتب له وانفذه مع أخيه يحيى بن سعيد ، فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه وجهدا به في الرجوع ، فقال : اني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام وأمرني بما أنا ماض له ، فقالا له : فما تلك الرؤيا ، قال : ما حدثت بها أحدا وما انا محدث بها احدا حتى القى ربيعزوجل ، فلما أيس منه عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عونا ومحمدا بلزومه والمسير معه والجهاد دونه ورجع هو الى مكة.

وسار الحسينعليه‌السلام نحو العراق مسرعا لا يلوي على شيء حتى بلغ وادي العقيق ، فنزل ذات عرق فلقيه رجل من بني أسد يسمى بشر بن غالب واردا من العراق فسأله عن أهله فقال : خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية ، فقال : صدق اخو بني اسد ان الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

ولما بلغ الحسينعليه‌السلام الى الحاجز من بطن الرمة(١) كتب كتابا الى جماعة من أهل الكوفة منهم سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وغيرهم وأرسله مع قيس بن مسهر الصيداوي ، وذلك قبل ان يعلم بقتل مسلم يقول فيه :

__________________

(١) بتخفيف الميم (منه عفي عنه).

٦١

بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي الى اخوانه من المؤمنين والمسلمين سلام عليكم ، فاني احمد اليكم الله الذي لا إله الا هو ، أما بعد فان كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقنا ، فسألت الله ان يحسن لنا الصنيع وان يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت اليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية ، فاذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدوا فاني قادم عليكم في ايامي هذه ان شاء الله تعالى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكان مسلم بن عقيل قد كتب اليه قبل ان يقتل بسبع وعشرين ليلة ، فأقبل قيس بكتاب الحسينعليه‌السلام الى الكوفة وكان ابن زياد لما بلغه مسير الحسينعليه‌السلام من مكة الى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطته حتى نزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية الى خفان وما بين القادسية الى القطقطانة (القطقطانية خ ل) والى جبل لعلع ، قال الناس : هذا الحسين يريد العراق ، (فلما) انتهى قيس الى القادسية اعترضه الحصين بن نمير ليفتشه ، فأخرج قيس الكتاب وخرقه ، فحمله الحصين الى ابن زياد فلما مثل بين يديه قال له : من أنت؟ قال انا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه ، قال : فلماذا خرقت الكتاب؟ قال : لئلا تعلم ما فيه ، قال :وممن الكتاب والى من ، قال : من الحسينعليه‌السلام الى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف اسماءهم ، فغضب ابن زياد وقال : والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم او تصعد المنبر فتسب الحسين بن علي وأباه وأخاه والا قطعتك اربا اربا ، فقال قيس : اما القوم فلا أخبرك بأسمائهم واما سب الحسين وأبيه وأخيه فافعل. وفي رواية انه قال له : اصعد المنبر فسب الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي ، فصعد قيس فحمد الله واثنى عليه

٦٢

وصلى على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكثر من الترحم على علي والحسن والحسين ولعن عبيد الله بن زياد وأباه ولعن عتاة بني أمية ، ثم قال : أيها الناس ان هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانا رسوله اليكم وقد خلفته بالحاجز فأجيبوه ، فأمر به ابن زياد فرمي من أعلى القصر فتطع فمات ، فبلغ الحسينعليه‌السلام قتله فاسترجع واستعبر بالبكاء ولم يملك دمعته ، ثم قرأ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (١) ثم قال : جعل الله له الجنة ثوابا اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريما واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ورغائب (خ ل) مذخور ثوابك انك على كل شيء قدير.

ثم اقبل الحسينعليه‌السلام من الحاجز يسير نحو العراق حتى انتهى الى ماء من مياه العرب ، فاذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي وهو نازل به ، فلما رأى الحسينعليه‌السلام قام اليه فقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أقدمك واحتمله فأنزله ، فقال له الحسينعليه‌السلام : كان من موت معاوية ما قد بلغك فكتب اليّ أهل العراق يدعونني الى أنفسهم ، فقال له عبد الله : أذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الاسلام ان تنتهك ، انشدك الله في حرمة قريش ، انشدك الله في حرمة العرب ، فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحدا أبدا ، والله انها لحرمة الاسلام تنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب فلا تفعل ولا تأتي الكوفة ولا تعرض نفسك لبني أمية ، فأبى الحسينعليه‌السلام الا ان يمضي :

وكان عبيد الله بن زياد امر فأخذ ما بين واقصة الى طريق الشام الى طريق البصرة فلا يدعون احدا يلج ولا أحدا يخرج ، وأقبل الحسينعليه‌السلام لا يشعر بشيء حتى لقي الأعراب فسألهم فقالوا : لا والله ما ندري غير انا لا

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٢٣.

٦٣

نستطيع ان نلج ولا نخرج فسار تلقاء وجهه.

وكان زهير بن القين البجلي قد حج في تلك السنة وكان عثمانيا ، فلما رجع من الحج جمعه الطريق مع الحسينعليه‌السلام ، فحدث جماعة من فزارة وبجيلة قالوا : كنا مع زهير بن القين حين أقبلنا من مكة ، فكنا نساير الحسينعليه‌السلام فلم يكن شيء أبغض الينا من أن نسير معه في مكان واحد أو ننزل معه في منزل واحد ، فاذا سار الحسين تخلف زهير بن القين واذا نزل الحسين تقدم زهير ، فنزلنا يوما في منزل لم نجد بدا من أن ننزل معه فيه فنزل هو في جانب ونزلنا في جانب آخر ، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا اذ أقبل رسول الحسينعليه‌السلام حتى سلم ثم دخل ، فقال : يا زهير ان أبا عبد الله بعثني اليك لتأتيه ، فطرح كل انسان منا ما في يده كأن على رؤوسنا الطير كراهة ان يذهب زهير الى الحسينعليه‌السلام ، فقالت له امرأته وهي ديلم بنت عمرو : سبحان الله ايبعث اليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه فلو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت ، فأتاه زهير على كره ، فما لبث ان جاء مستبشرا قد أشرق وجهه فأمر بفسطاطه وثقله ورحله فحول الى الحسينعليه‌السلام ، ثم قال لامرأته : أنت طالق الحقي بأهلك فاني لا احب ان يصيبك بسببي الا خيرا وقد عزمت على صحبة الحسينعليه‌السلام لأفديه بروحي واقيه بنفسي ، ثم اعطاها مالها وسلمها الى بعض بني عمها ليوصلها الى أهلها ، فقامت اليه وبكت وودعته وقالت : خار الله لك أسألك ان تذكرني في القيامة عند جد الحسينعليه‌السلام ، وقال لأصحابه : من أحب منكم ان يتبعني والا فهو آخر العهد مني ، اني سأحدثكم حديثا ، انا غزونا بلنجر(١) وهي بلدة ببلاد الخزر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ففرحنا ، فقال لنا سلمان الفارسي : اذا أدركتم قتال شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم مما أصبتم من الغنائم ،

__________________

(١) في القاموس : بلنجر كغضنفر بلدة بالخزر خلف باب الأبواب ا ه ، وفي بعض النسخ غزونا البحر وهو تصحيف من النساخ (منه).

٦٤

فأما انا فاستودعكم الله ولزم الحسينعليه‌السلام حتى قتل معه.

ولما نزل الحسينعليه‌السلام الخزيمية أقام بها يوما وليلة ، فلما أصبح أقبلت اليه أخته زينب فقالت : يا أخي الا أخبرك بشيء سمعته البارحة ، فقال الحسينعليه‌السلام : وما ذاك؟ فقالت خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفا يهتف ويقول :

الا يا عين فاحتفلي بجهد

ومن يبكي على الشهداء بعدي

على قوم تسوقهم المنايا

بمقدار الى انجاز وعد

فقال لها الحسينعليه‌السلام : يا أختاه كل الذي قضي فهو كائن.

ثم سارعليه‌السلام حتى نزل الثعلبية(١) وقت الظهيرة ، وقيل ممسيا فوضع رأسه فرقد ، ثم استيقظ فقال : رأيت هاتفا يقول : أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم الى الجنة ، فقال له ابنه علي : يا أبه أفلسنا على الحق ، فقال : بلى يا بني والذي اليه مرجع العباد ، فقال : يا أبه اذا لا نبالي بالموت ، فقال الحسينعليه‌السلام : جزاك الله يا بني خير ما جزى ولدا عن والده ثم بات في الموضع ، فلما أصبح اذا برجل من أهل الكوفة يكنى أباهرة الأزدي قد أتاه فسلم عليه ثم قال : يا ابن رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال الحسينعليه‌السلام : ويحك يا أبا هرة ان بني أمية أخذوا مالي فصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت ، وايم الله لتقتلني الفئة الباغية وليلبسنهم الله ذلا شاملا وسيفا قاطعا ، وليسلطن الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ اذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم.

وروى عبد الله بن سليمان والمنذر ابن المشمعل الأسديان قالا : لما

__________________

(١) بالثاء المثلثة والعين المهملة (منه).

٦٥

قضينا حجنا لم تكن لنا همة الا اللحاق بالحسينعليه‌السلام لننظر ما يكون من أمره ، فأقبلنا ترقل بنا ناقاتنا مسرعين حتى لحقناه بزرود ، فلما دنونا منه اذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسينعليه‌السلام ، فوقف الحسين كأنه يريده ثم تركه ومضى ومضينا نحوه ، فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا الى هذا لنسأله فان عنده خبر الكوفة ، فمضينا اليه فقلنا:السلام عليك ، فقال : وعليكما السلام ، قلنا : ممن الرجل؟ قال : أسدي ، قلنا له: ونحن أسديان فمن أنت؟ قال : أنا بكر بن فلان وانتسبنا له ، ثم قلنا له : أخبرنا عن الناس من ورائك؟ قال : لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق ، فأقبلنا حتى لحقنا الحسينعليه‌السلام فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيا ، فجئنا حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا السلام ، فقلنا له : رحمك الله ان عندنا خبرا ان شئت حدثناك علانية وان شئت سرا ، فنظر الينا والى أصحابه ثم قال : ما دون هؤلاء سر ، فقلنا له : رأيت الراكب الذي استقبلته عشية أمس ، قال : نعم وقد أردت مسألته ، فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل ، وانه حدثنا انه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهاني ورآهما يجران في السوق بأرجلهما ، فقال : انا لله وانا اليه راجعون رحمة الله عليهما يردد ذلك مرارا ، فقلنا له : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك الا انصرفت من مكانك هذا فانه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف ان يكونوا عليك ، فنظر الى بني عقيل فقال : ما ترون فقد قتل مسلم؟ فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق ، فأقبل علينا الحسينعليه‌السلام وقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء فعلمنا انه قد عزم رأيه على المسير ، فقلنا له : خار الله لك ، فقال : رحمكما الله ، فقال له أصحابه :انك والله ما أنت مثل مسلم ولو قدمت الكوفة لكان الناس اليك أسرع فسكت ، وارتج الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل وسالت الدموع عليه

٦٦

كل مسيل ، ثم انتظر حتى اذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه اكثروا من الماء فاستقوا واكثروا ، وكان لا يمر بماء الا أتبعه من عليه ، ثم ارتحلوا فسار حتى انتهى الى زبالة ، فأتاه بها خبر عبد الله بن يقطر وهو أخو الحسينعليه‌السلام من الرضاعة وكان سرحه الى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله ، فأخذته خيل الحصين فسيره من القادسية الى ابن زياد ، فقال له : اصعد فوق القصر والعن الكذاب ابن الكذاب ثم أنزل حتى أرى فيك رأيي ، فصعد فاعلم الناس بقدوم الحسينعليه‌السلام ولعن ابن زياد وأباه ، فألقاه من القصر فتكسرت عظامه وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه فعيب عليه ، فقال : أردت ان أريحه ، فلما بلغ الحسينعليه‌السلام خبره اخرج الى الناس كتابا فقرأ عليهم وفيه:

بسم الله الرحمن الرحيم ، اما بعد فانه قد أتاني خبر فظيع قتل مسلم ابن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس عليه ذمام ، فتفرق الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا اليه ، وكان قد اجتمع اليه مدة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة ، وانما فعل ذلك لعلمه بأن أكثر من اتبعوه انما اتبعوه ظنا منهم انه يقدم بلدا قد استقامت له طاعة أهله ، فكره ان يسيروا معه الا وهم يعلمون ما يقدمون عليه وقد علم انه اذا بين لهم لم يصحبه الا من يريد مواساته والموت معه وقيل ان خبر مسلم وهاني اتاه في زبالة أيضا.

وقال السيد(١) ان الفرزدق لقي الحسينعليه‌السلام فسلم عليه وقال :يا ابن رسول الله كيف تركن الى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك

__________________

(١) ظاهر كلام السيد ان لقاء الفرزدق للحسينعليه‌السلام كان بعد خروجه من زبالة ، وقد تقدم انه لقيه في الحرم وهي رواية المفيد ، ويمكن ان يكون لقاء الفرزدق له ثانيا بعد رجوعه من الحج (منه).

٦٧

مسلم بن عقيل وشيعته ، فاستعبر الحسينعليه‌السلام باكيا ثم قال : رحم الله مسلما فلقد صار الى روح الله وريحانه وتحياته ورضوانه ، اما انه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ، ثم أنشأ يقول:

فان تكن الدنيا تعد نفيسة

فان ثواب الله أعلى وأنبل

وان تكن الأبدان للموت انشأت

فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل

وان تكن الأرزاق قسما مقدرا

فقلة حرص المرء في السعي أجمل

وان تكن الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخل

فلما كان وقت السحر أمر الحسينعليه‌السلام أصحابه فاستقوا ماء وأكثروا ، ثم سار من زبالة حتى مر ببطن العقبة فنزل عليها ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن يوذان فسأله اين تريد؟ فقال له الحسينعليه‌السلام :الكوفة ، فقال الشيخ : أنشدك الله لما انصرفت فو الله ما تقدم الا على الأسنة وحد السيوف ، وان هؤلاء الذين بعثوا اليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطأوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا ، فأما على هذا الحال التي تذكر فاني لا أرى لك أن تفعل ، فقال له الحسينعليه‌السلام : يا عبد الله ليس يخفى علي الرأي ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره ، ثم قالعليه‌السلام :والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فاذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم ثم سارعليه‌السلام من بطن العقبة حتى نزل شراف ، فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ، ثم سار منها حتى انتصف النهار فبينا هو يسير اذ كبر رجل من أصحابه ، فقال الحسينعليه‌السلام : الله أكبر لم كبرت؟ قال : رأيت النخل ، فقال له جماعة من أصحابه : والله ان هذا المكان ما رأينا به نخلة قط ، فقال لهم الحسينعليه‌السلام : فما ترونه؟ قالوا : نراه والله اسنة الرماح وآذان الخيل ، قال :وأنا والله أرى ذلك ، ثم قالعليه‌السلام : ما لنا ملجأ نلجأ اليه فنجعله في ظهورنا

٦٨

ونستقبل القوم بوجه واحد؟ فقالوا له : بلى هذا ذو جشم وهو جبل الى جنبك فمل اليه عن يسارك فان سبقت اليه فهو كما تريد ، فأخذ اليه ذات اليسار وملنا معه ، فما كان بأسرع من ان طلعت علينا هوادي(١) الخيل فتبيناها وعدلنا ، فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا الينا كأن اسنتهم اليعاسيب(٢) وكأن راياتهم أجنحة الطير ، فاستبقنا الى ذي جشم (خشب خ ل) فسبقناهم اليه ، وأمر الحسينعليه‌السلام بابنيته فضربت ، وجاء القوم زهاء(٣) ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسينعليه‌السلام في حر الظهيرة والحسينعليه‌السلام وأصحابه معتمون متقلدوا أسيافهم ، فقال الحسينعليه‌السلام لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء. ورشفوا الخيل ترشيفا أي أسقوها قليلا ، فأقبلوا يملأون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس فاذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه وسقوا آخر حتى سقوها عن آخرها ، فقال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلما رأى الحسينعليه‌السلام ما بي وبفرسي من العطش قال : انخ الرواية والرواية عندي السقاء ، ثم قال : يا ابن الأخ انخ الجمل فانخته(٤) ، فقال : اشرب ، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال الحسينعليه‌السلام : اخنث السقاء أي أعطفه ، فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه بيده فشربت وسقيت فرسي ، وكانت ملاقاة الحر للحسينعليه‌السلام على مرحلتين من الكوفة.

ولما التقى الحر مع الحسينعليه‌السلام قال له الحسينعليه‌السلام : النا ام

__________________

(١) جمع هادي وهو العنق (منه).

(٢) جمع يعسوب وهو أمير النحل وذكرها وضرب من الحجلان وطائر صغير (منه).

(٣) أي قدر (منه).

(٤) الرواية في لسان أهل الحجاز اسم للجمل الذي يستقي عليه. وفي لسان أهل العراق اسم للسقاء الذي فيه الماء ، فلذلك لم يفهم مراد الحسينعليه‌السلام حتى قال له : انخ الجمل (منه).

٦٩

علينا؟ فقال : بل عليك يا أبا عبد الله ، فقال الحسينعليه‌السلام : لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ، وكان مجيء الحر من القادسية ، وكان عبيد الله بن زياد بعث الحصين بن نمير وأمره ان ينزل القادسية ، وتقدم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسينعليه‌السلام ، فلم يزل الحر موافقا للحسينعليه‌السلام حتى حضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسينعليه‌السلام الحجاج بن مسروق ان يؤذن فلما حضرت الاقامة خرج الحسينعليه‌السلام في ازار ورداء ونعلين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس انها معذرة الى الله واليكم اني لم آتكم حتى اتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم ان أقدم علينا فانه ليس لنا امام لعل الله ان يجمعنا بك على الهدى والحق ، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم فاعطوني ما اطمئن اليه من عهودكم ومواثيقكم ، وان لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي جئت منه اليكم فسكتوا ، فقال للمؤذن : أقم فأقام الصلاة ، فقال للحر أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال : لا بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك ، فصلى بهم الحسينعليه‌السلام ، ثم دخل فاجتمع اليه أصحابه ، وانصرف الحر الى مكانه الذي كان فيه فدخل خيمة قد ضربت له واجتمع اليه جماعة من أصحابه وعاد الباقون الى صفهم الذي كانوا فيه فأعادوه ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلها.

فلما كان وقت العصر أمر الحسينعليه‌السلام ان يتهيأوا وللرحيل ففعلوا ، ثم أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام فاستقدم الحسينعليه‌السلام ، وقام فصلى ثم سلم وانصرف اليهم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فانكم ان تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور ، والعدوان ، وان أبيتم الا الكراهية لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الآن غير ما اتتني به كتبكم وقدمت به علي رسلكم انصرفت

٧٠

عنكم ، فقال له الحر : انا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر ، فقال الحسينعليه‌السلام لبعض أصحابه : يا عقبة بن سمعان(١) اخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم الي ، فأخرج خرجين مملوءين صحفا فنثرت بين يديه ، فقال له الحر : انا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا اليك وقد أمرنا اذا نحن لقيناك ان لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله ، فقال له الحسينعليه‌السلام :الموت أدنى اليك من ذلك ، ثم قال لأصحابه قوموا فاركبوا فركبوا وانتظر حتى ركبت نساؤه ، فقال لأصحابه : انصرفوا فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسينعليه‌السلام للحر : ثكلتك امك ما تريد؟فقال له الحر : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائنا من كان ولكن مالي الى ذكر امك من سبيل الا بأحسن ما نقدر عليه ، فقال له الحسينعليه‌السلام : فما تريد؟ قال :أريد ان انطلق بك الى الأمير عبيد الله بن زياد ، فقال : اذا والله لا أتعبك ، فقال : اذا والله لا أدعك فترادا القول ثلاث مرات ، فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر اني لم أؤمر بقتالك انما أمرت ان لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة فاذا أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الكوفة ولا يردك الى المدينة يكون بيني وبينك نصفا حتى أكتب الى الأمير عبيد الله بن زياد فلعل الله ان يرزقني العافية من ان ابتلي بشيء من أمرك ، فخذ ههنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية ، فتياسر الحسينعليه‌السلام وسار والحر يسايره.

ثم ان الحسينعليه‌السلام خطبهم(٢) فحمد الله وأنثى عليه ثم قال : أيها

__________________

(١) هو مولى الرباب ابنة امرىء القيس الكلبية زوجة الحسينعليه‌السلام ، ولما قتل الحسينعليه‌السلام أخذه عمر بن سعد فقال : ما أنت؟ فقال : انا عبد مملوك فخلى سبيله ، ولم ينج من أصحاب الحسينعليه‌السلام غيره وغير رجل آخر ، ولذلك كان كثير من روايات الطف منقولا عنه (منه).

(٢) هكذا روى الطبري في تاريخه وابن الأثير في الكامل. وفي المناقب ان الحسينعليه‌السلام كتب من كربلا أول نزوله بها الى اشراف الكوفة ممن كان يظن انه على ـ

٧١

الناس ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغير بقول ولا فعل كان حقا على الله ان يدخله مدخله ، الا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله ، واني أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (خ ل) ، وقد أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم ببيعتكم انكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فان وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم ، وانا الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونفسي مع أنفسكم وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم ولكم بي أسوة ، وان لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي فلعمري ما هي منكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي ، مسلم بن عقيل ، والمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم ، ومن نكث فانما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام ، فقال له الحراني : أذكرك الله في نفسك فاني أشهد لئن قاتلت لتقتلن ، فقال له الحسينعليه‌السلام : أفبالموت تخوفني وهل يعدو بكم الخطب ان تقتلوني ، وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله فخوفه ابن عمه وقال : أين تذهب فانك مقتول ، فقال :

__________________

ـ رأيه : بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي الى سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وعبد الله بن وال وجماعة المؤمنين ، اما بعد علمتم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال في حياته ، من رأى سلطانا جائرا الخ. وانه أرسل الكتاب مع قيس بن مسهر الصيداوي ثم ذكر قصة قيس المتقدمة. وذكر لفظة والسلام في آخر الكلام على رواية الطبري ، وابن الأثير يؤيد أنه كتاب لا خطبة لأن ذلك متعارف في الكتب لا في الخطب ، ولكن كثيرا من الروايات دل على أن ارسال قيس كان من الطريق لا من كربلاء مع ان التمكين من ارساله من كربلاء بعيد ، والله أعلم أي ذلك كان (منه)

٧٢

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

اذا ما نوى حقا وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبورا وودع مجرما

أقدم نفسي لا أريد بقاءها

لتلقى خميسا في الوغى وعرمرما

فان عشت لم أندم وان مت لم ألم

كفى بك ذلا ان تعيش وترغما

فلما سمع الحر ذلك تنحى عنه وجعل يسير ناحية عن الحسينعليه‌السلام .

ولم يزل الحسينعليه‌السلام سائرا حتى انتهوا الى عذيب الهجانات(١) فاذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة لنصرة الحسينعليه‌السلام على رواحلهم وفيهم نافع بن هلال البجلي وهو يجنب فرسا له يقال له الكامل ومعهم دليل يقال له الطرماح بن عدي الطائي وكان قد امتار لأهله من الكوفة ميرة ، فأراد الحر حبسهم أو ردهم الى الكوفة فمنعه الحسينعليه‌السلام من ذلك وقال:لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي انما هؤلاء أنصاري وهم بمنزلة من جاء معي فان بقيت على ما كان بيني وبينك والا ناجزتك ، فكف الحر عنهم.

ثم سألهم الحسينعليه‌السلام عن خبر الناس فقالوا : أما الاشراف فقد استمالهم ابن زياد بالأموال فهم إلب واحد عليك ، وأما سائر الناس فأفئدتهم لك وسيوفهم مشهورة عليك ، قال : فهل لكم علم برسولي قيس بن مسهر؟قالوا : نعم قتله ابن زياد ، فترقرقت عينا الحسينعليه‌السلام ولم يملك دمعته ثم قال :( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (٢) اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلا واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك وقال له الطرماح بن عدي : أذكرك الله في نفسك لا يغرنك أهل الكوفة فو الله ان دخلتها لتقتلن واني لأخاف ان لا تصل اليها وما رأى

__________________

(١) العذيب : موضع كان النعمان بن المنذر يضع فيه هجانه لترعى ، فسمي عذيب الهجانات (منه).

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٢٣.

٧٣

معك كثير أحد ولو لم يقاتلك الا هؤلاء لكفى ، ولقد رأيت قبل خروجي من الكوفة جمعا عظيما يريدون المسير اليك فأنشدك الله ان قدرت ان لا تقدم اليهم شبرا فافعل ، وطلب منه ان يذهب معه الى بلاد قومه(١) حتى يرى رأيه وان ينزل جبلهم أجاء ويبعث الى من بأجاء وسلمى وهما جبلان لطيء ، وتكفل له بعشرين ألف طائي يضربون بين يديه بأسيافهم ، فجزاه الحسينعليه‌السلام وقومه خيرا وقال له : ان بيننا وبين القوم قولا لا نقدر معه على الانصراف ، فان يدفع الله عنا فقديما ما أنعم علينا وكفى ، وان يكن ما لا بد منه ففوز وشهادة ان شاء الله. وسار الطرماح مع الحسينعليه‌السلام ثم ودعه ووعده ان يوصل الميرة لأهله ويعود لنصره ، فلما عاد بلغه خبر قتله في عذيب الهجانات فرجع.

وقال الحسينعليه‌السلام لأصحابه : هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة؟ فقال الطرماح بن عدي : نعم يا ابن رسول الله انا أخبر الطريق ، قال :سر بين أيدينا فسار الطرماح أمامهم وجعل يرتجز ويقول :

يا ناقتي لا تذعري من زجر

وامضي بنا قبل طلوع الفجر

نجيز فتيان وخير سفر

آل رسول الله آل الفخر

السادة البيض الوجوه الزهر

الطاعنين بالرماح السمر

الضاربين بالسيوف البتر

حتى تجلي بكريم النجر

الماجد الجد الرحيب الصدر

أصابه الله بخير أمر

عمره الله بقاء الدهر

يا مالك النفع معا والضر

اين حسينا سيدي بالنصر

على الطغاة من بقايا الكفر

على اللعينين سليلي صخر

يزيد لا زال حليف الخمر

__________________

(١) وهي المعروفة الآن بجبل شمر ، وحيث انها على طريق الذاهب الى العراق فلا يمنعهم الحر من التوجه نحوها بعد ان رضي بأخذهم طريقا لا يدخلهم الكوفة ولا يرجعهم الى المدينة (منه).

٧٤

وابن زياد العهر بن العهر

ولم يزل الحسينعليه‌السلام سائرا حتى انتهى الى قصر بني مقاتل(١) فنزل به وقيل الى القطقطانة(٢) ، فرأى فسطاطا مضروبا فسأل عنه فقيل انه لعبيد الله بن الحر الجعفي ، وكان من شجعان أهل الكوفة ، فأرسل اليه الحسينعليه‌السلام يدعوه ، فاسترجع وقال : والله ما خرجت من الكوفة الا كراهية أن يدخلها الحسين وانا بها وأبى أن يأتي ، فجاء اليه الحسينعليه‌السلام ودعاه الى نصرته فاستعفاه ، فقال له الحسينعليه‌السلام : فان لم تكن ممن ينصرنا فاتق ان تكون ممن يقاتلنا ، فو الله لا يسمع واعيتنا احد ثم لا ينصرنا الا هلك ، فقال : اما هذا فلا يكون أبدا ان شاء الله تعالى.

وفي رواية انه قال للحسينعليه‌السلام : ولكن هذا فرسي خذه اليك فو الله ما ركبته قط وانا أروم شيئا الا بلغته ولا أرادني أحد الا نجوت عليه ، فاعرض عنه الحسينعليه‌السلام بوجهه وقال : لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك ، ثم تلا :( وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) (٣) .

فلما كان آخر الليل أمر الحسينعليه‌السلام فتيانه فاستقوا من الماء ثم أمر بالرحيل فارتحل من قصر بنى مقاتل ليلا ، قال عقبة بن سمعان : فسرنا معه ساعة فخفق وهو على ظهر فرسه خفقة ثم انتبه وهو يقول : انا لله وانا اليه

__________________

(١) في معجم البلدان قصر مقاتل بين عين التمر والشام ، وقال السكوني : هو قرب القطقطانة وهو منسوب الى مقاتل بن حسان ، انتهى المعجم ، ولم يذكر قصر بني مقاتل ، فأما ان لفظة بني من زيادة النساخ او انه صار أخيرا ينسب الى بني مقاتل.وعين التمر هي المعروفة الآن بشفاثا (منه).

(٢) بقافين مضمومين بينهما طاء ساكنة فطاء فألف فنون فهاء ، قال ياقوت ورواه الأزهري بالفتح موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف كان به سجن النعمان بن المنذر.

وقال أبو عبيد الله السكوني القطقطانة بالطف بينها وبين الرهيمة مغربا نيف وعشرون ميلا اذا خرجت من القادسية تريد الشام ومنه الى قصر مقاتل (منه).

(٣) سورة الكهف ، الآية : ٥١.

٧٥

راجعون والحمد لله رب العالمين ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا ، فأقبل اليه ابنه علي بن الحسين ، فقال : يا أبه جعلت فداك مم حمدت واسترجعت؟ قال : يا بني اني خفقت خفقة فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير اليهم فعلمت انها أنفسنا نعيت الينا ، فقال له : يا أبه لا أراك الله سوءا ألسنا على الحق؟ قال : بلى والذي اليه مرجع العباد ، قال : اذا لا نبالي ان نموت محقين ، فقال له الحسينعليه‌السلام : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده.

فلما أصبح نزل فصلى الغداة ثم عجل الركوب ، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد ان يفرقهم فيأتيه الحر فيرده وأصحابه ، فجعل اذا ردهم نحو الكوفة ردا شديدا امتنعوا عليه وارتفعوا ، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتى انتهوا الى نينوى ، فاذا راكب على نجيب له عليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة وهو مالك بن بشير(١) الكندي فوقفوا جميعا ينتظرونه ، فلما انتهى اليهم سلم على الحر وأصحابه ولم يسلم على الحسينعليه‌السلام وأصحابه ودفع الى الحر كتابا من ابن زياد ، فاذا فيه اما بعد فجعجع(٢) بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي فلا تنزله الا بالعراء(٣) في غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي ان يلزمك فلا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك أمري والسلام ، فعرض لهم الحر وأصحابه ومنعوهم من السير وأخذهم الحر بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا قرية ، فقال له الحسينعليه‌السلام ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق؟ قال : بلى ولكن كتاب الأمير عبيد الله قد وصل يأمرني

__________________

(١) لعل صوابه مالك بن النسر ، فيكون هو الذي ضرب الحسينعليه‌السلام على رأسه وسلبه البرنس ، فالظاهر انه صحف احدهما بالآخر (منه).

(٢) في الصحاح : الجعجعة : الحبس ، وكتب عبيد الله بن زياد عليه ما يستحق الى عمر بن سعد عليه اللعنة جعجع بحسين ، قال الأصمعي : يعني أحبسه ، وقال ابن الاعرابي يعني ضيق عليه انتهى (منه).

(٣) في الصحاح : العراء : الفضاء لا ستر به (منه).

٧٦

فيه بالتضييق عليك وقد جعل علي عينا يطالبني بذلك ، فقال له الحسينعليه‌السلام : دعنا ويحك ننزل في هذه القرية أو هذه يعني نينوى والغاضرية او هذه يعني شفية ، فقال : لا أستطيع هذا رجل قد بعث علي عينا.فقال زهير بن القين للحسينعليه‌السلام ، اني والله لا أرى ان يكون بعد الذي ترون الا أشد مما ترون ، يا ابن رسول الله ان قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به ، فقال الحسينعليه‌السلام : ما كنت لأبدأهم بالقتال ، فقال له زهير : سر بنا الى هذه القرية حتى ننزلها فانها حصينة وهي على شاطىء الفرات فان منعونا قاتلناهم فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء بعدهم ، فقال الحسينعليه‌السلام : ما هي؟ قال : العقر ، قال : اللهم أعوذ بك من العقر. وفي رواية ان زهيرا قال له : فسر بنا يا ابن رسول الله حتى ننزل كربلاء فانها على شاطىء الفرات فنكون هناك فان قاتلونا قاتلناهم واستعنا الله عليهم ، قال : فدمعت عينا الحسينعليه‌السلام ثم قال : اللهم اني أعوذك من الكرب والبلاء.

ثم قام الحسينعليه‌السلام خطيبا في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :انه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون وان الدنيا تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت حذاء(١) ولم يبق منها الا صبابة(٢) كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(٣) ، الا ترون الى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا فاني لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما(٤) . وقيل انه خطب بهذه الخطبة بذي جشم حين التقى مع الحر ، وقيل بكربلا والله أعلم ، فقام زهير بن القين فقال : قد سمعنا هداك

__________________

(١) لعله من قولهم رحم حذاء وجذاء بالحاء والجيم ، اي لم توصل (منه).

(٢) الصبابة بالضم بقية من الماء في الاناء (منه).

(٣) الوخيم (منه).

(٤) البرم بالتحريك ما يوجب السآمة والضجر (منه).

٧٧

الله يا ابن رسول الله مقالتك ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك الى الاقامة فيها ، ووثب هلال بن نافع (نافع بن هلال خ ل) البجلي فقال : والله ما كرهنا لقاء ربنا وانا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك. وقام برير بن خضير(١) فقال : والله يا ابن رسول الله لقد منّ الله بك علينا ان نقاتل بين يديك وتقطع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.

ثم ان الحسينعليه‌السلام قام وركب وكلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء يوم الخميس الثاني من المحرم سنة احدى وستين ، فلما وصلها قال : ما اسم هذه الأرض فقيل كربلاء فقال : اللهم اني أعوذ بك من الكرب والبلاء. ثم أقبل على أصحابه فقال : الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فاذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون ثم قال : أهذه كربلا؟ قالوا : نعم يا ابن رسول الله ، فقال : هذا موضع كرب وبلاء انزلوا ههنا مناخ ركابنا ومحط رحالنا ومقتل رجالنا ومسفك دمائنا ، فتزلوا جميعا ونزل الحر وأصحابه ناحية ثم ان الحسينعليه‌السلام جمع ولده واخوته وأهل بيته ثم نظر اليهم فبكى ساعة ، ثم قال : اللهم انا عترة نبيك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ازعجنا وطردنا وأخرجنا عن حرم جدنا وتعدت بنو أمية علينا ، اللهم فخذ لنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين ، وجلس الحسينعليه‌السلام يصلح سيفه ويقول :

يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

من طالب وصاحب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وكل حي سالك سبيلي

ما أقرب الوعد من الرحيل

__________________

(١) برير بضم الباء الموحدة وفتح الراء المهملة وسكون الياء المثناة من تحت وآخره راء مهملة ، وخضير بالخاء والضاد المعجمتين (منه).

٧٨

وانما الأمر الى الجليل

فسمعت أخته زينب بنت فاطمة ذلك فقالت : يا أخي هذا كلام من أيقن بالقتل ، فقال : نعم يا أختاه ، فقالت زينب : وا ثكلاه يعنى الحسين إلي نفسه وبكى النسوة ولطمن الخدود وشققن الجيوب ، وجعلت أم كلثوم تنادي وا محمداه وا علياه وا أماه وا أخاه وا حسيناه وا ضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله ، فقال لها الحسينعليه‌السلام : يا أختاه تعزي بعزاء الله فان سكان السماوات يفنون وأهل الأرض كلهم يموتون وجميع البرية يهلكون ، ثم قال : يا أختاه يا ام كلثوم وأنت يا زينب وانت يا فاطمة وانت يا رباب انظرن اذا انا قتلت فلا تشققن علي جيبا ولا تخمشن علي وجها ولا تقلن هجرا.

وفي رواية عن زين العابدينعليه‌السلام ان الحسينعليه‌السلام قال هذه الأبيات عشية اليوم التاسع من المحرم. قال علي بن الحسينعليه‌السلام : اني لجالس في تلك الليلة التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني ، اذ اعتزل ابي في خباء له وعنده جون مولى ابي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وابي يقول : (يا دهر اف لك من خليل) الى آخر الأبيات المتقدمة ، فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعرفت ما أراد فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت ان البلاء قد نزل ، واما عمتي فانها لما سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع لم تملك نفسها ان وثبت تجرّ ثوبها حتى انتهت اليه ونادت وا ثكلاه ليت الموت اعدمني الحياة ، اليوم ماتت امي فاطمة وابي علي واخي الحسن يا خليفة الماضي وثمال الباقي ، فنظر اليها الحسينعليه‌السلام فقال لها : يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان ، فقالت ، بأبي وأمي تستقل نفسي لك الفداء فردت عليه غصته وترقرقت عيناه بالدموع ثم قال : (لو ترك القطا ليلا لنام) فقالت : يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصابا فذلك اقرح لقلبي وأشد على نفسي ، ثم لطمت

٧٩

وجهها وأهوت الى جيبها فشقته وخرت مغشية عليها ، فقام اليها الحسينعليه‌السلام فصب على وجهها الماء حتى أفاقت ثم عزاها بما مر ، ثم قال : وكل شيء هالك الا وجهه الذي خلق الخلق بقدرته ويبعث الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده ، جدي خير مني وابي خير مني وامي خير مني واخي خير مني ولي ولكل مسلم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة ، فعزاها بهذا ونحوه وقال لها : يا أختاه اني أقسمت عليك فابري قسمي ، لا تشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تدعي علي بالويل والثبور اذا انا هلكت.

وكتب الحر الى عبيد الله بن زياد يعلمه بنزول الحسينعليه‌السلام بكربلاء فكتب ابن زياد الى الحسينعليه‌السلام .

اما بعد فقد بلغني يا حسين نزولك بكربلاء وقد كتب اليّ أمير المؤمنين يزيد ان لا أتوسد الوثير(١) ولا أشبع من الخمير او الحقك باللطيف الخبير او ترجع الى حكمي وحكم يزيد والسلام.

فلما قرأ الحسينعليه‌السلام الكتاب ألقاه من يده وقال : لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فقال له الرسول : الجواب يا أبا عبد الله ، فقال : ما له عندي جواب لأنه قد حقت عليه كلمة العذاب ، فرجع الرسول الى ابن زياد فأخبره ، فاشتد غضبه وجهز اليه العساكر وجمع الناس في مسجد الكوفة وخطبهم ومدح يزيدا وأباه وذكر حسن سيرتهما ووعد الناس بتوفير العطاء وزادهم في عطائهم مائة مائة ، وأمر بالخروج الى حرب الحسينعليه‌السلام .

__________________

(١) في الصحاح : الوثير : الفراش الوطيء (منه).

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99