در مدرسه مرحوم ثقة الاسلام عموى والد بزگوارشان وامام جماعت مورد وثوق قاطبهء طبقات اجتماع در مسجد نو بازار آثار زهد وتقوى از سيماى او نمودار كه « سيماهم في وجوههم من اثر السجود » متجاوز از چهل سال پس از فوت پدر در مسجد ايشان در ظهر وشب اقامهء جماعت مى نمود وعدهء كثيرى از مؤمنين حضور به جماعتش را غنيمت مى شمرند ».
كان يدرس مختلف العلوم الإسلاميّة من الفقه والاصول والحكمة والكلام والهيئة والرياضي واشتهر بالاخيرين اشتهاراً واسعاً.
كان يلقي دروسه في الرياضي في المسجد الجامع العباس ( مسجد الإمام ) سابقاً. ودروس الهيئة كانت بمسجد « نو بازار » والفقه بمدرسة عمه آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد علي النجفي الشهير بثقة الاسلام.
وقد حضر أبحاثه جمع من الآيات والحجج والأعلام، نذكر بعضهم على ترتيب الحروف من دون ذكر الألقاب مع الاعتذار منهم:
- السيّد أحمد الفقيه الامامي
- الشيخ أحمد المهديان
- الشيخ اسماعيل الغروي
- السيّد محمد باقر الأحمدي
- السيّد محمد تقي الموسوي البيد آبادي، صهره
- السيّد حسن الحسيني
- الشيخ حسن الدياني النجف آبادي
- السيّد حسن الفقيه الامامي
- الشيخ حسينعلي المنتظري
- الشيخ حيدر علي الجبل عاملي
- الشيخ رحمت الله الفشاركي
- الشيخ محمد رضا مداح الحسيني
- الشيخ عبد الرحيم الفضيلتي
- الشيخ علي أكبر الفقيه
- المرحوم الشيخ محمد علي الاقائي
- الشيخ علي الشمس
- الشيخ قاسم الكاظميني
- السيّد محمد الفقيه الاحمد آبادي
- السيّد محمود الإمام جمعه زاده
- الشيخ مرتضى التمنائي
- الشيخ مرتضى الشفيعي
- الشيخ مرتضى المقتدائي
- الشيخ مظفر الكاظميني
- الشيخ مهدي مجد الاسلام النجفي، نجله
- الشيخ هادي النجفي، حفيده
له تأليفات قيمة في غاية الحسن والفصاحة كما ينبغي له، ألفها مع عدم تفرغه لهذا الشأن واشتغاله في أكثر الأوقات بالتدريس وتربية الطلاب، وتوليه للشؤون الاجتماعيّة وقضاء حوائج العامّة، وإليك سرد أسمائها:
* - إيرادات وانتقادات على دائرة المعارف لفريد وجدي.
* - ترجمة « نقد فلسفة داروين » من العربية إلى الفارسية في مجلدين ضخمين.
* - حاشية الروضات: طبع بعض منها مع حاشية والده على الروضات.
* - حاشية « سمط اللئال في مسئلتى الوضع والاستعمال » طبعت.
* - حاشية « وقاية الأذهان » في علم الأصول: طبعت.
* - دروس في فقه الاماميّة ( كتاب الصلاة وكتاب الصوم ) وهي دروسه التي كان يلقيها على تلامذته في البحث المعروف بالخارج.
* - رسالتان في ترجمة والده ونفسه.
* - رسالة في ترجمة جده العلّامة الحاج الشيخ محمد حسين النجفي الاصفهاني « قده » كتبها بعنوان المقدمة لتفسيره ( طبعت ).
* - صرف أفعال، رسالة ألفها في صغره.
* - الفوائد الرضوية في شرح الفصول الغروية، أو حاشية على فصول عمه العلّامة الشيخ محمد حسين الاصفهاني في علم الأصول.
* - گل گلشن: انتخبها من منظومة ( گلشن راز ) للعارف المشهور الشيخ محمود الشبستري.
* - المختار من القصائد والاشعار، وهي الرسالة الثانية في هذه المجموعة.
* - مسائل العلوم.
* - اليواقيت الحسان في تفسير سورة الرحمن، وهي الرسالة الأولى في هذه المجموعة.
هذا كتاب إلى نجله العلّامة الشيخ مهدي مجد الاسلام النجفي كتبه بتاريخ
٢ / ١١ / ١٣٣٦ ش:
« ولدي العزيز، جعلني الله فداك وزرقك العزة والسعادة في آخرتك ودنياك وجعل من يحسدك وقاك وعمرك الله عمراً طويلا مع الصحة والسلامة وأبقاك. قد وصل كتابك وسررت كثيراً من بلاغة أسلوبه وفصاحة مرقومه، وخصوصاً الأشعار الرنانة التي كتبتم في الصفحة الثانية من كتابكم، ولاسيما أشعار أحمد شوقي وكذا ما ذكرتم في ترجمة الاشعار التي كتبتها إليكم، فقد أحسنتم كل الاحسان وأجدتم كل الاجادة، فلله دركم وعلى الله أجركم.
أمّا ماذكرتم في أوّل الكتاب من أن هذه الأشعار من لامية العرب فغير صحيح لأنها لاميّة العجم التي عارض بها لاميّة العرب. ولاميّة العجم للطغرائي وهو مؤيد الدين حسن بن علي بن محمد الطغرائي الاصفهاني المنشئ الدئلي من ولد أبي أسود الدئلي المقتول في سنة ٥١٥ خمس عشرة وخمسمائة بتهمة فساد العقيدة وقد جاوز ستين سنة في الحرب التي وقعت بين السلطان مسعود السلجوقي والسلطان محمود السلجوقي، فأخذ الطغرائي أسيراً وقتل صبراً وكان وزيراً للسلطان مسعود المذكور، وسمّي بالطغرائي لأنه كان متولياً ديوان الطغراء.
وأمّا ما ذكرتم في وصف لاميّة العرب وان قائلها الشنفري - إلى آخرما ذكرتم - فصحيح جداً وقد أجدتم في بيانها
وأرجو منك أن تبلغ سلامي وتحياتي إلى السيّدين السندين الموسوي(١) والنوربخش(٢) والشيخين الجليلين الحائري(٣) وابن الدين(٤) ».
__________________
١) هو السيّد مجتبى الموسوي صهر المصنف.
٢) هو العلّامة الاستاذ السيّد كمال الدين النور بخش.
٣) هو العلّامة الفيلسوف نجل المحقق الحائري الشيخ مهدي اليزدي.
٤) هو العلّامة الاستاذ الشيخ عبد الحسين ابن الدين.
كان قليل الشعر انشاءاً وكثير الشعر نشاداً بحيث نقل عنه الشيخ محمد علي المعلّم الحبيب آبادي «ره» في كتابه « مكارم الاثار » أبياتاً لجدّه من طريق الأمّ السيّد محمد علي بن السيّد صدر الدين المعروف بآقا مجتهد ( ت ١٢٧٤ ) قال «ره» ما نصّه: « آقاى مجد العلماء (١٣٢٦) اين اشعار را از او نقل مى كرد:
محتسب مستان زمستان جام مى |
تازه مستان از زمستان رسته اند |
|
شيخ را از پارسائي چاره نيست |
چون در ميخانه بروى بسته اند |
|
باستشارهء مستان گسسته ام تسبيح |
كجااست خوشه تاكى كه استخاره كنم(١) |
وقال المترجم «ره» في بعض مصنفاته: « أيضا شعر عربى له طاب ثراه ( أي لشيخنا البهائي ):
قد صرفت العمر في قيل وقال |
يا نديمى قم فقد ضاق المجال |
وقد قلت في هذا المعنى على نهج شعره «ره»:
آنچه ندارد عوضى در جهان |
عمر عزيز است غنيمت بدان |
وترجم هذا البيت من لامية العجم:
لو كان في شرف المأوى بلوغ منى |
لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل |
بقوله:
اگر درمكان بود عزَّ وخوشى |
هميشه بدى شمس أندر حمل |
وترجم إلى الفارسية أيضا هذه الابيات من لامية العجم :
__________________
١) مكارم الاثار ٤ / ١٠٩٦.
فان علاني من دوني فلا عجب |
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل |
|
فانما رجل الدنيا وواحدها |
من لايعول في الدنيا على رجل |
|
غاض الوفا وفاض الغدر وانفرجت |
مسافة الخلف بين القول والعمل |
بقوله:
اگر برترى جست پستر زمن |
مرا اسوه باشد به شمس وزحل |
|
يگانه رجل در جهان آن كس است |
كه تعويل نارد بديگر رجل |
|
همانا وفا رفت وغدر آمده است |
مسافت بود بين قول وعمل |
راجع كتاب « المختار من القصائد والأشعار » للمترجم له.
كان يقيم الجماعة في المسجدين الأعظمين المزدحمين « مسجد نو » في سوق إصبهان و « مسجد الإمام » أكثر من أربعين عاماً.
واقتدى به جماعة كبيرة من مختلف الطبقات من وجوه الفضلاء والمتدينين والوجهاء.
كان مؤدَّباً بالاخلاق الإسلاميّة والاداب القرآنيّة متبعاً للتعاليم النبوية متأدباً بالأخلاق المحمدية، كما وصف الله تعالى نبيه الأكرم في كتابه الكريم بقوله
عزّ من قائل: «انك لعلى خلق عظيم »(١) وكما قال النبيصلّى الله عليه وآله : « بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ».
وهو من غير ملق ومجاملة اقتدى بالنبي الأكرم والأئمة الهداة المهديين عليهم صلوات رب العالمين، ولذا كان محبوب القلوب ووجيه الملة عند جميع الطبقات من الخواص والعوام.
له اربعة ابناء وخمس بنات:
أمّا أبناؤه فأكبرهم العلّامة آية الله الحاج الشيخ مهدي مجد الاسلام النجفي وهو امام الجماعة في المسجدين المذكورين اللذين أقام الجماعة فيهما والده والمدرس في مختلف العلوم الاسلامية.
وثانيهم: المهندس محمد رضا النجفي.
وثالثهم: المهندس محمد النجفي أدام الله تعالى ايامهم وتوفيقاتهم.
ورابعهم: حسين النجفي، توفى وهو طفل في عام ١٣٣٢ ش.
توفي رحمه الله تعالى في صبيحة يوم الأربعاء عشرين من ذي الحجّة سنة ١٤٠٣ ق المطابق لسادس شهر مهر ١٣٦٢ ش في طهران، ونقل جثمانه الشريف إلى اصبهان فوصل إليها يوم الخميس وغسل في بيته ثم شيع تشييعاً ضخماً إلى مسجد الإمام ومنها إلى مسجد « نو » ( الذي بناه جده الاكبر العلّامة الفقيه الرئيس آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد باقر النجفي الاصفهاني من تلاميذ الشيخ
__________________
١) سورة القلم: ٠٤.
الاعظم الأنصاريرحمه الله ) بعد أن تعطلت الأسواق ودفن هناك في إيوان الشمال الشرقي، رحمة الله عليه رحمة واسعة.
ومن طريف البيان، ان سمع منه انه كان يقول: « نعم اليوم يوم الأربعاء » ولعله كان يشير إلى هذا البيت الفارسي:
خرم آن روز كه زين منزل ويران بروم |
پى جانان طلبم در پى آنان بروم |
لما انتشر نبأ وفاته في البلاد بواسطة الراديو والتلفزيون والجرائد، انهالت برقيات كثيرة إلى نجله من علماء البلاد والمراجع العظام، تعزية بالمصاب الجلل وتسلية له ولسائر الاسرة، وممن أبرق:
١ - آية الله العظمى الإمام الخميني مد ظله العالي
٢ - آية الله العظمى السيّد ابوالقاسم الموسوي الخوئي مد ظله العالي
٣ - آية الله العظمى الحاج الشيخ حسينعلي المنتظري مد ظله العالي
٤ - آية الله العظمى السيّد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني مد ظله العالي
٥ - آية الله العظمى السيّد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي مد ظله العالي
٦ - آية الله العظمى المرحوم السيّد عبد الله الشيرازي طاب ثراه
رثاه جمع من العلماء والشعراء بما جادته به قريحتهم من المراثي بالعربية والفارسية، وإليك نماذج من تلك المراثي:
١ - منهم العلّامة الحجّة الحاج السيّد مجتبى الصادقي أدام الله ايامه بأبيات أرخ فيها سنة الوفاة ايضا:
لهفي لموت البطل العليم |
ذي المجد ثم الحسب القديم |
|
أف لدهر يقنطف ثمر الهدى |
من دوحة العلم ذي النسب الكريم |
|
فأردت ان اورخ عام وفاته |
ليكون تذكرة الاخلاف والحميم |
|
ألحق إلى المجموع سبعاً ثم قل |
«نرجو لمجد العلم مثوى في النعيم» |
( ١٣٦٢ش )
٢ - ومنهم الأديب الاستاذ علي المظاهري، قال في ابيات بالفارسية:
مجد العلماء ومجد دين رفت |
آن عالم عالم يقين رفت |
|
آن مظهر زهد وپارسائى |
آن رهبر راه راستين رفت |
|
از مجمع عالمان معلم |
از حلقه زاهدان نگين رفت |
|
محراب نشين مسجد نو |
بر منبر عرش از زمين رفت |
|
آن دم كه از اين جهان به جنت |
آن پاك نهاد پاك بين رفت |
|
تاريخ وفات او رقم شد |
«رونق ده علم وحصن دين رفت» |
(١٣٦٢ش)
والشطر الاخير الذي نظم فيه التاريخ هو للاستاذ الاديب السيّد قدرت الله الهاتفي وفقه الله تعالى.
٣ - ومنهم الاديب الاستاذ الجمشيدى بقوله بالفارسية:
عالمى چون بگذرد از روزگار |
عالمى گريان شود بى اختيار |
|
از وجود عالمان دين بود |
نظم اين گردنده گيتى بر قرار |
|
هر كه شد با عالمان دين قرين |
شد بدور زندگانى كامكار |
ملت ايران از اين دانشوران |
يافت در دور جهانى اقتدار |
|
رهبران دين ز جانبازى خويش |
خوش بر آوردند از دشمن دمار |
|
مجد دين مجد شرف مجد كمال |
بود عمرى در ره حق استوار |
|
تا كه از جمع عزيزان شد جدا |
قلب أهل دين شد از غم داغدار |
|
گرچه آن بحر كمال ومعرفت |
رفته او از عالم ناپايدار |
|
مانده از او شاخه هاى بارور |
در جهان علم ودانش يادگار |
|
اين مصيبت را به أهل علم ودين |
خاصه بر آن رهبر والا تبار |
|
تسليت گوييم وداريم آرزو |
عمرشان باشد به گيتى پايدار |
|
خاندانش را بخواهم تا ابد |
در پناه حضرت پروردگار |
٤ - ومنهم الشاعر البارع الاستاذ فضل الله اعتمادى ( برنا ):
مجد العلماء كه مجد دين نامش بود |
حب حق وحب دين مى جامش بود |
|
آن حبر كه كسب فضل وتدريس علوم |
رسم وروش وسيرت مادامش بود |
|
آن عالم عاملى كه روحانيت |
سنخيت خاندان واقوامش بود |
|
آن مجتهد مسلمى كاندر فقه |
داراى اجازات ز اعظامش بود |
|
هم زاده از كياى دانش بابش |
هم وارث رهبران دين مامش بود |
|
هم حب بتول ومرتضى داشت بدل |
هم حامى مصطفى واسلامش بود |
مهر حسن وحسين واولاد حسين |
چون جان وروان بجسم واندامش بود |
|
در بندگى خدا لياليش گذشت |
تعليم وهدايت كار ايامش بود |
|
در هر عمل خير كه ميكرد قيام |
كوشا زدل وجان پى اتمامش بود |
|
نه فكر فريب خلق در سر پرورد |
نه ميل به پيرروى اوهامش بود |
|
نه ظلم وستم كسى در اعمالش ديد |
نه نقص وخلاف وغش در احكامش بود |
|
هر جا كه شدى ز كثرت حسن سلوك |
هر كس پى احترام واكرامش بود |
|
گفت ارجعى دعوت حق را لبيك |
چون وقت فرا خواندن واعزامش بود |
|
برنا پى تاريخ وفاتش بنوشت |
بيتى كه بشمسى جمع ارقامش بود |
|
(مجد العلماء كه مجد دين نامش بود |
حب حق وحب دين مى جامش بود) |
( ١٣٦٢ ش )
مصادرالترجمة :
ترجمته بقلمه - امجدية. الطبعة الثالثة / ١١ - ٣٤.
تاريخ علمى واجتماعى اصفهان در دو قرن اخير (بيان سبل الهداية فى ذكر أعقاب صاحب الهداية) المجلد الثانى والثالث.
دانشمندان وبزرگان اصفهان / ٣٢٩.
گنجينهء دانشمندان ٥ / ٣٨٤ - ٣٨٦.
مكارم الاثار ٤ / ١٠٩٦.
نقباء البشر ٢ / (ع)٥٣.
جريدة (عرفان) شهر فروردين ١٣٢٢ ش.
اليواقيت الحسان
في تفسير سورة الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بارىء النسَم وخالق العالم، الذي أوجدنا من كتم العدم، والصّلاة والسّلام على المنقذ الأعظم، والنبى الأفخم، والرسول الأكرم، سيّد ولد آدم، وعلى إله الأئمّة الأطهار، هداة الأمم ومفاتيح الظلم.
وبعد: يقول المفتقر إلى رحمة ربِّ العالمين العبد المسكين مجد الدين ابن العلّامة جامع المعقول والمنقول أبي المجد الشيخ محمد الرضا النجفي طاب الله ثراه وجعل الجنّة مثواه:
سألني بعض الاخوان عن سرّ تكرير الآية الشريفة في سورة الرحمن، فأجبته جواباً كافياً بازاحة ما خلج بباله شافياً - فالتمس مني أن أذكر ذلك في كتاب، وأن أضيف إليه تفسير هذه السورة المباركة في ضمن فصول وأبواب، فنكلت عن ذلك زمانا وأخرت الاقدام على ذلك أوانا، علما مني بأنّا في زمان كثر فيه العناد وظهر فيه الفساد واتخذ أهله اللغو عادة واللهو سعادة والجهل علما والخديعة فخرا، وسكن الأفاضل زوايا الخمول وقربت شمس الهداية على الأفول.
لما رأيت الجهل في الناس فاشيا |
تجاهلت حتّى ظن أني جاهل |
|
فوا عجبا كم يدعي الفضل ناقص |
ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل |
ولما طال الحافه في ذلك واصرّ على ذلك أجبته إلى مسئوله في نيل مأموله وسميته ( اليواقيت الحسان في تفسير سورة الرّحمن ).
ونسأل الله الكريم المنّان بحرمة رسوله نبي الرحمة وآله البررة أولياء الرحمن صلوات الله عليهم والرضوان أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم وذخري ليوم الدين، وأن ينفعني به واخواني المؤمنين، إنّه على كل شىء قدير وبالاجابة جدير، عليه توكّلت وإليه أنيب.
وهذا أوان الشروع في المقصود متوكّلا على الله الملك المعبود:
مقدمة
( في إعجاز القرآن )
القرآن العظيم والفرقان الكريم امتاز عن سائر معجزات نبينا المنقذ الأعظم صلّى الله عليه وآله - على كثرتها - بأنّه المعجزة الباقية على مر الدهر وصفحات الأيّام، فهو باق في كل زمان ومكان، ولايختص بعصر الرسالة كما لا اختصاص له بقرن دون قرن ومكان دون مكان، ينادي اليوم كما نادى أوّلا في الجوامع والمجامع التى اجتمعت الإنس والجن «على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا »(١) .
وتحدّى المرسل به صلّى الله عليه وآله ودعا فصحاء العرب من مصفى خطبائها وفحوا شعرائها، فقال بتعليم الله تعالى له: «فأتوا بسورة من مثله »(٢) «فأتوا بعشر سور مثله مفتريات »(٣) ، فنكصوا على أعقابهم خائبين وظهر عجزهم للعالمين، واختاروا اللئام على الكلام والقتال على المقال، لعلمهم بأنّه معجز للبشر
__________________
١) سورة الاسراء: ٨٨.
٢) سورة البقرة: ٢٣.
٣) سورة هود: ١٣.
ولجأوا إلى الافتراء فقالوا: «ان هذا الا سحر يؤثر »(١) .
القرآن أكبر معجزة باقية إلى الان في جميع الأصقاع والبلدان، معجزة من الوجهة التاريخية، معجزة من جهة الاحتجاج، معجزة من وجهة التشريع العادل ونظام المدنية، معجزة من وجهة الاستقامة والسلامة من الاختلاف والتناقض، معجزة من الوجهة الاخلاقية، معجزة في اخباره عن المغيبات، معجزة من الوجهة العلمية(٢) .
فان الفلكي لما يتلو قوله تعالى «الم نجعل الأرض مهادا »(٣) أو قوله تعالى «وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرمر السحاب »(٤) يتعجب كيف قال القرآن العظيم بتحرك الأرض ودورانها على نفسها منذ أربعة عشر قرنا تقريبا بينما كانت الهيئة البطلميوسية قائلة بسكون الأرض ودوران الأجرام. وكذلك المجسطي المرجع الوحيد والمعوّل عليه في تعليم الهيئة والفلك قبل ذهاب غاليلة وكبرنيك وأضرابهما إلى ذلك الرأي بقرون وأجيال، وقد حبس غاليلة في أروبا لقوله بتحرّك الأرض وحكم البابا بكفره لقوله بذلك وأنّ زعمه ينافي العهدين القديم والجديد.
هذا في أرقى ممالك ذلك العصر، أعني المملكتين الشرقية والغربية ( الفرس والروم )، وأمّا الجزيرة العربية فلم تعرف حتّى هذه الفلسفة ولاعلمت حتّى هذه النظريّة ولاسمعت إسم بطلميوس ولا جالينوس ولا أفلاطون وأرسطاطاليس، ولاعرفت من الظواهر الطبيعية إلّا أنَّ الحرّ في الصيف شديد وفي الشتاء تقل حرارة الهواء، يغزو أهلها بعضهم بعضا ويقتل ويسلب بعضهم بعضا، يوؤدون البنات ويأكلون
__________________
١) سورة المدثر: ٢٤.
٢) راجع لتفصيل البحث إلى مقدمات آلاء الرحمن فى تفسير القرآن.
٣) سورة النبأ: ٦.
٤) سورة النمل: ٨٨.
الحيات يقال: إنّه سئل بعضه عن مأكله ومشربه؟ فأجاب بأنّاً نأكل كلّما دبّ ودرج إلّا [ ](١) أوالجبل.
نعم، برع بينهم في العصر الجاهلي شعراء أذكياء، ولكن في الفصاحة الطبيعية والمعاني الساذجة ووصف الغمراء والبيداء ومدح المرأة الحسناء، لا في المعاني الدقيقة والحقائق العلميّة.
أمّا في الدولتين السابقتين الحكمة على المسكونة فقد ظهر فيهم أيضا ما يشين وجه التاريخ من العادات الفاسدة والاراء الكاسدة، ولا نطول الكلام بالتفصيل بل نقنع بالاشارة إليها.
في ذلك الظلام الدامس والوحشية السوداء وتلك الجزيرة البعيدة عن المدنية والبلاد القاحلة، نزل القرآن المبين على قلب سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الطاهرين، ناطقا بالحقائق العلمية وادق الاراء الفلسفية واصح المذاهب النظرية والحق الأبلج من المطالب الدينية، فنهضت تلك الأمّة المغلوبة على أمرها ببركة القرآن [ ](٢) وفتحت الشرق والغرب والشمال والجنوب، ووصلت جنودها واعلامها إلى حدود الصين من جهة والى المحيط [ الأطلسي ] من جهة أخرى، فتحوا البلاد الأندلسية والممالك الساحلية على المحيط الغربى وفتح المسلمون بعد ذلك بلاد روسيا وممالك بلغانيا والقسم الاعظم من أروبا، فصارت تلك الأمّة الوحشية أرقى الأمم وسيد العالم، ونبغ بينهم علماء وفلاسفه أذكياء، واسسوا المجامع العلمية والمعاهد المدرسية ومدنية راقية، وعلى أثره والاقتباس منه ظهر التمدن الحديث على أعلامها، ولكن تلك كانت خالية من هذه الويلات وتلك العيوبات و(٣) .
نعم، ان القرآن أوحي على محمد النبي صلّى الله عليه وآله وكانت معجزته
__________________
١ و ٢ ) كلمات لاتقرأ.
٣ ) خرجنا عما هو المقصود والشىء يذكر. منهرحمه الله .
نفسي ما لم أعوّدها ، ارفعوه عنّي فرفعوه » (١) .
وكانعليهالسلام يجعل جريش الشعير في وعاء ويختم عليه ، فقيل له في ذلك ، فقالعليهالسلام :« أخافُ هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئا من زيت أو سمن » (٢) .
الخوف والرجاء :
مما يمكن التأكيد عليه أنّ في النفس خطان متقابلان هما الخوف والرجاء ، والعقيدة تعمد إلى كلا الخطين ، فتبدد عن النفس كل خوف باطل وكل رجاء منحرف ، وبدلاً من ذلك تُنمّي الخوف من اللّه من جانب ، ورجاء ثوابه من جانب آخر قال تعالى :( يحذرُ الآخرةَ ويرجُو رحمةَ ربهِ ... ) (٣) ، فليست نظرتها أحادية الجانب كأن تركز على جانب الخوف فتؤيس الإنسان من رحمة اللّه ، أو تركز ـ بالمقابل ـ على الرجاء فتضعف في نفسه الخشية من اللّه.
يقول الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله :« لو تعلمون قدر رحمة اللّه لاتّكلتم عليها وما عملتم إلاّ قليلاً ، ولو تعلمون قدر غضب اللّه لظننتم بأن لا تنجوا » (٤) .
ويقول وصيه الإمام عليعليهالسلام :« إنّ استطعتم أن يشتدَّ خوفكم من اللّه وأن يحسن ظنّكم به ، فاجمعوا بينهما ، فإنّ العبد إنّما يكون حسن ظنّه بربّه على قدر خوفه من ربّه ، وإنّ أحسن الناس ظنّا باللّه أشدهم خوفا للّه » (٥) .
__________________
(١) وسائل الشيعة ١٦ : ٥٠٨ ـ دار احياء التراث العربي.
(٢) وسائل الشيعة ١٦ : ٥٠٩.
(٣) الزمر ٣٩ : ٩.
(٤) كنز العمال ٣ : ١٤٤ / ٥٨٩٤.
(٥) نهج البلاغة : ٣٨٤.
وتجدر الاشارة إلى أنّ الناس « يختلفون في طباعهم وسلوكهم اختلافا كبيرا ، فمن الحكمة في إرشادهم وتوجيههم ، رعاية ما هو الأجدر بإصلاحهم من الترجّي والتخويف فمنهم من يصلحه الرجاء ، وهم العصاة النادمون على ما فرّطوا في الآثام ، فحاولوا التوبة إلى اللّه ، بيد أنهم قنطوا من عفو اللّه وغفرانه ، لفداحة جرائمهم ، وكثرة سيئاتهم ، فيعالج والحالة هذه قنوطهم بالرجاء بعظيم لطف اللّه ، وسعة رحمته وغفرانه.
أما الذين يصلحهم الخوف : فهم المردة العصاة ، المنغمسون في الآثام ، والمغترون بالرجاء ، فعلاجهم بالتخويف والزجر العنيف ، بما يهددهم من العقاب الأليم ، والعذاب المهين »(١) .
وكان لأتباع مدرسة أهل البيتعليهمالسلام الذين سكن خوف اللّه تعالى في نفوسهم وانعكس على جوارحهم ، وزرع رجاؤه في قلوبهم ، أروع الامثلة في هذا المجال ، فروي عن أبي ذررحمهالله أنّه بكى من خشية اللّه حتّى اشتكى بصره ، فقيل له لو دعوت اللّه يشفي بصرك؟! ، فقال : إنّي عن ذلك مشغول ، وما هو أكبر همّي. قالوا : وما شغلك عنه؟! قال : العظيمتان : الجنة والنار(٢) .
من جانب آخر يُنمّي روّاد هذه المدرسة الإلهية شعور الرّجاء في النفوس ، فمن وصايا أمير المؤمنين لابنه الإمام الحسنعليهماالسلام : « أي بُنيَّ ، لا تؤيّس مذنبا ، فكم من عاكف على ذنبه خُتم له بخير ، وكم من مقبل على عمل مفسد من آخر عمره ، صائر إلى النار ، نعوذ باللّه منها » (٣) .
__________________
(١) أخلاق أهل البيت ، للسيد مهدي الصدر : ١٢٩ ـ دار الكتاب الاسلامي.
(٢) روضة الواعظين : ٢٨٥ في فضائل أبي ذررضياللهعنه .
(٣) تحف العقول : ٦٦ ـ مؤسسة الاعلمي ط ٥.
الفصل الرابع
البناء الأخلاقي
العقيدة تشكّل مرتكزا متينا للأخلاق ، لأنّها تخلق الواعز النفسي عند الإنسان للتمسك بالقيم الأخلاقية السامية ، على العكس من العقائد الوضعية التي تساير شهوات الإنسان ، وتنمّي بذور الأنانية المغروسة في نفسه.
والأخلاق تحظى بأهمية استثنائية في العقيدة الإسلامية ، قال الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله :« بُعثتُ لاتُمّم مكارم الأخلاق » (١) . وقالصلىاللهعليهوآله أيضا : الخُلق الحسن نصف الدين ، وقيل له : ما أفضل ما أعطى المرئ المسلم؟ قال :الخُلق الحسن » (٢) .
الإسلام يربط بين الدين الحق والأخلاق ، مثل هذه الرؤية تتوضح خطوطها في أنّ الدين يحثُّ على الأخلاق الحسنة ويقوم بتهذيب الطباع ويجعل ذلك تكليفا في عنق الفرد يستتبع الثواب أو العقاب ، وعليه فلم يقدّم الدين توجهاته الأخلاقية المثالية بصورة مجردة عن المسؤولية ، وإنّما جعل الأخلاق نصف الدين ، لأن الدين اعتقاد وسلوك. والأخلاق تمثل الجانب السلوكي للفرد.
__________________
(١) كنز العمال ١١ : ٢٤٠ / ٣١٩٦٩.
(٢) روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري : ٣٧٦ ـ منشورات الرضي ـ قم.
قال الإمام الباقرعليهالسلام :« إنَّ أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا » (١) . جاء رجل إلى رسول اللّهصلىاللهعليهوآله من بين يديه فقال : يا رسول اللّه ما الدين؟ فقالصلىاللهعليهوآله :« حُسن الخلق . ثم أتاه من قبل شماله فقال : ما الدين؟ فقالصلىاللهعليهوآله : حُسن الخلق. ثم أتاه عن يمينه فقال : ما الدين؟ فقالصلىاللهعليهوآله : حُسن الخُلق ، ثم أتاه من ورائه فقال : ما الدين؟ فالتفت إليهصلىاللهعليهوآله وقال :أما تفقه الدين؟ هو أن لا تغضب » (٢) .
وقال أمير المؤمنينعليهالسلام :« عنوان صحيفة المؤمن حُسن خُلقه » (٣) .
يقول العلاّمة الطباطبائي : « إنّ الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع ولا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلاّ إذا اعتمدت على التوحيد ، وهو الإيمان بأنّ للعالم ـ ومنه الإنسان ـ إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شيء ، ولا يُغلَب في قدرته ، خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته ثم يخلدون منعّمين أو معذّبين.
ومن المعلوم أنّ الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان همّ إلاّ مراقبة رضاه تعالى في أعماله ، وكانت التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم ، ولولا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة ـ عقيدة التوحيد ـ لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلاّ التمتع بمتاع
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ٩٩ / ١ كتاب الايمان والكفر.
(٢) المحجة البيضاء ٥ : ٨٩.
(٣) تحف العقول : ٢٠٠.
الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية »(١) .
إنَّ العقائد الالحادية بإزالتها من النفوس البشرية شعور التعلق بالخالق الكامل ، والمثل الأعلى المطلق ، والشعور برقابته وحسابه والمسؤولية اتجاهه ، أزالت الركيزة الأساسية للأخلاق ، ولم تستطع أن تعوض عنها بركيزة أُخرى في مثل قوتها.
الأخلاق ضرورة اجتماعية ، فهي بمثابة صمّام أمان أمام نزعة الشر الكامنة في الإنسان ، والتي تدفعه لمد خيوط الأذى لأبناء جنسه ، وعليه فالبناء الاجتماعي بدون منظومة الأخلاق كالبناء على كثيب من الرمال ، قال أمير المؤمنينعليهالسلام :« لو كنّا لا نرجوا جنّة ، ولا نخشى نارا ، ولا ثوابا ولا عقابا ، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق ، فإنّها ممّا تدلُّ على سبيل النّجاح » (٢) .
أساليب العقيدة في بناء الإنسان أخلاقيا :
لما كانت قضية الأخلاق تحظى بأهمية استثنائية في توجهات العقيدة الإسلامية ، نجد أنّها اتّبعت أساليب وطرق عدّة متضافرة كبناء يتصل بعضه ببعض ، تشكّل بمجموعها السور الوقائي الذي يحمي الإنسان من الانحدار والسقوط الأخلاقي ، ويمكن إجمال هذه الأساليب ، بالنقاط الآتية : ـ
أولاً : تحديد العقيدة للمعطيات الأخروية للأخلاق :
فمن اتّصف بالأخلاق الحسنة وعدته بالثواب الجزيل والدرجات
__________________
(١) الميزان في تفسير القرآن ، العلاّمة الطباطبائي ١١ : ١٥٧ ـ مؤسسة الأعلمي ط٢.
(٢) مستدرك الوسائل ٢ : ٢٨٣.
الرفيعة ، ومن ساء خلقه وأطلق العنان لنفسه وعدته بالعقاب الأليم.
قال الرسولصلىاللهعليهوآله :« إنّ العبد ليبلغ بحسن خُلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل ، وإنّه لضعيف العبادة » (١) .
وقال أيضا :« إنَّ حُسن الخُلق يبلغ درجة الصّائم القائم » (٢) .
وقال موصيا :« يا بني عبدالمطلب ، أفشوا السلام وصِلوا الأرحام ، وأطعموا الطعام ، وطيّبوا الكلام تدخلوا الجنة بسلام » (٣) .
وقال أيضا :« إنَّ الخُلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد » (٤) .
وفي هذا السياق ، قال الإمام الصادقعليهالسلام :« إنَّ اللّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخُلق كما يعطي المجاهد في سبيل اللّه يغدو عليه ويروح » (٥) .
ثم إنّ هناك تلازما بين قبول الأعمال عموما والعبادية منها على وجه الخصوص وبين الأخلاق ، فقد روي أنّ رسول اللّهصلىاللهعليهوآله سمع امرأة تسبُّ جارتها وهي صائمة ، فدعا بطعام فقال لها :« كلي! فقالت إنّي صائمة! فقال صلىاللهعليهوآله : كيف تكونين صائمة وقد سببت جارتك ..؟! »(٦) .
__________________
(١) المحجة البيضاء ٥ : ٩٣.
(٢) ارشاد القلوب ١ ـ ٢ : ١٣٣ ـ منشورات الرضي ـ قم.
(٣) ارشاد القلوب ١ ـ ٢ : ١٣٣.
(٤) اُصول الكافي ٢ : ١٠٠ / ٧ كتاب الإيمان والكفر.
(٥) اُصول الكافي ٢ : ١٠١ / ١٢ كتاب الايمان والكفر.
(٦) الاخلاق ، للسيد عبداللّه شبر : ٧٠ ـ منشورات مكتبة بصيرتي ـ قم.
ثانيا : بيان العقيدة للمعطيات الدنيوية للأخلاق :
فمن يتّصف بالأخلاق الحسنة ، يستطيع التكيّف والمواءمة مع أبناء جنسه ، ويعيش قرير العين ، مطمئن النفس ، هادئ البال ، أما من ينفلت من عقال القيم والمبادئ الأخلاقية ، فسوف يتخبط في الظلام ، ويعيش القلق والحيرة فيعذب نفسه ويكون ممقوتا من قبل أبناء جنسه ، ويدخل في متاهات لا تُحمد عقباها.
يقول الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله :« حُسن الخُلق يثبّت المودّة » (١) . وقال وصيه الإمام عليعليهالسلام :« وفي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق » (٢) . وقال الإمام الصادقعليهالسلام موصيا :« وإن شئت أن تُكرَم فَلِنْ ، وإن شئت أن تُهان فاخشن » (٣) ، وقال أيضاعليهالسلام :« البر وحسن الخُلق يُعمران الدّيار ، ويزيدان في الأعمار » (٤) .
وبالمقابل فإنّ للأخلاق السيئة معطيات سلبية يجد الإنسان آثارها في دار الدنيا ، قال الإمام الصادقعليهالسلام :« من ساء خُلقه عذَّب نفسه » (٥) ، وقالعليهالسلام لسفيان الثوري الذي طلب منه أن يوصيه :« لا مروءة لكذوب ، ولا راحة لحسود ، ولا إخاء لملول ، ولا خُلّة لمختال ، ولا سؤدد لسيء الخُلق » (٦) .
__________________
(١) تُحف العقول : ٣٨.
(٢) تحف العقول : ٩٨.
(٣) تحف العقول : ٣٥٦.
(٤) اُصول الكافي ٢ : ١٠٠ / ٨ كتاب الايمان والكفر.
(٥) اُصول الكافي ٢ : ٣٢١ / ٤ كتاب الإيمان والكفر.
(٦) في رحاب أئمة أهل البيتعليهمالسلام ، للسيد محسن الأمين ٤ : ٦٩ عن تحف العقول.
مما تقدم اتضح أنّ العقيدة ترغّب الإنسان بالتحلي بالأخلاق الحميدة من خلال إبرازها للمعطيات الإيجابية ـ الأخروية والدنيوية ـ التي سيحصل عليها إذا سار في طريق التزكية ، وبالمقابل تردعه عن الأخلاق السيئة من خلال بيان الآثار السلبية ـ الاُخروية والدنيوية ـ المترتبة عليها.
ثالثا : تقديم التوصيات والنصائح :
تقدم العقيدة ـ من خلال مصادرها المعرفية ـ التوصيات القيمة في هذا الصدد ، التي تزرع في الإنسان براعم الأخلاق الحسنة ، وتستأصل ما في نفسه من قيم وأخلاق فاسدة.
من كتاب النبوة عن ابن عباس عن النبيصلىاللهعليهوآله قال : «أنا أديب اللّه ، وعلي أديبي ، أمرني ربي بالسخاء والبر ، ونهاني عن البخل والجفاء ، وما من شيء أبغض إلى اللّه عزَّ وجل من البخل وسوء الخلق ، وإنه ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل »(١) .
وقال وصيه الإمام عليعليهالسلام :« روضوا أنفسكم على الأخلاق الحسنة ، فإنَّ العبد المسلم يبلغ بحسن خُلقه درجة الصائم القائم »(٢) .
وقال أيضا موصيا : «عوّد نفسك السّماح وتخيّر لها من كلِّ خلق أحسنه ، فإنّ الخير عادة »(٣) .
وقالعليهالسلام : «وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة ، وإيّاكم والأخلاق
__________________
(١) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : ١٧.
(٢) الخصال ، للصدوق ٢ : ٦٢١ حديث الاربعمائة.
(٣) بحار الانوار ٧٧ : ٢١٣ عن كشف المحجة لثمرة المهجة : ١٥٧ الفصل ١٥٤ ـ طبع النجف الأشرف.
الدنية فإنّها تضع الشريف وتهدم المجد »(١) .
من هذه الشواهد المنتخبة ، نستطيع القول بأنّ العقيدة تقدّم نصائحها وتوصياتها القيمة مُدعمة بالمعطيات والدلائل المقنعة ، لتشكّل جدارا من المنعة يحول دون جنوح الإنسان المسلم إلى هاوية الأخلاق السيئة.
رابعا : أُسلوب الأُسوة الحسنة :
وهو أحد الأساليب التربوية للعقيدة ، تربط الأفراد المنتسبين إليها برموزها ، لكونهم التجسيد المثالي أو الكامل لتوجهاتها ، وهم المنارة التي تبعث أنوارها ، وعليه فهي تحث الأفراد على الاقتداء بهم بغية التأثر بأخلاقهم والتزود من علومهم.
قال تعالى :( لقد كانَ لكُم في رسولِ اللّه أُسوةٌ حسنةٌ .. ) (٢) . لأنّ سيرة الرسولصلىاللهعليهوآله هي التجسيد الواقعي الكامل للرسالة ، ولما كان الرسولصلىاللهعليهوآله ـ كما وصفه القرآن الكريم ـ يمثل قمةً في مكارم الأخلاق : « وإنَّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم »(٣) توجّب على المسلمين أن يدرسوا أخلاقه ويهتدوا بسنته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
كان رسول اللّهصلىاللهعليهوآله يستمد خُلقه من اللّه تعالى ومن كتابه الكريم ، قال تعالى : «خُذِ العَفوَ وَأمُر بالعُرفِ وأعرض عن الجاهِلِينَ »(٤) .
وروي أنّه لمّا نزلت هذه الآية الجامعة لمكارم الأخلاق ، سأل
__________________
(١) بحار الانوار ٧٨ : ٥٣ عن الغرر والدرر ، للآمدي.
(٢) الأحزاب ٣٣ : ٢١.
(٣) القلم ٦٨ : ٤.
(٤) الأعراف ٧ : ١٩٩.
الرسولصلىاللهعليهوآله جبرئيلعليهالسلام عن ذلك فقال : «لا أدري حتى أسأل العالم ثم أتاه فقال : يا محمد إنَّ اللّه يأمرك أن تعفو عمّن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك »(١) .
لقد دعا الرسولصلىاللهعليهوآله إلى التحلّي بمكارم الأخلاق كالتواضع والجود والأمانة والحياء والوفاء وما إلى ذلك ، كما نهى عن مساوئ الأخلاق كالبخل والحرص والغدر والخيانة والغرور والكذب والحسد والغيبة. وهكذا جهد لتقويم كل خلق شائن ، والشواهد كثيرة ، لا يسع المجال لها ، قال الإمام عليعليهالسلام : «ولقد كان صلىاللهعليهوآله يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ، ويرقع بيده ثوبه »(٢) .
فالرسولصلىاللهعليهوآله وهو الرمز الأكبر للعقيدة الإسلامية ، يحرص أشد الحرص على هداية الناس إلى سواء السبيل ، لأنَّ عملية البناء الحضاري للإنسان تصبح عبثا لا طائل تحته من دون عملية التوجيه والهداية. وأهل البيتعليهمالسلام هم نجوم الهداية الأبدية لهذه الاُمة ، قال أميرالمؤمنينعليهالسلام :« ألا إنّ مثل آل محمد صلىاللهعليهوآله كمثل نجوم السماء إذا خوى نجمٌ طلع نجمٌ »(٣) .
والهداية ـ بلا شك ولا شبهة تستلزم النجاة ـ هي الغاية المنشودة للإنسان المسلم ، ومن هنا يكمن المعنى العميق ، والتشبيه البليغ ، في حديث الرسول الأكرمصلىاللهعليهوآله : «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب
__________________
(١) مجمع البيان ، للطبرسي ٣ : ٨٩ ـ منشورات مكتبة الحياة عام ١٩٨٠ م.
(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٢٢٨ / خطبة ١٦٠.
(٣) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ٧ : ٨٤.
حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له »(١) .
وصفوة القول ، إن لأهل البيتعليهمالسلام دورا كبيرا في بناء الإنسان المسلم ، وانقاذه من شتى أنواع الانحدار والضلال وليصل به إلى شاطئ النجاة.
قال أمير المؤمنينعليهالسلام : «اُنظروا أهل بيت نبيكم ، فالزموا سمتهم ، واتَّبعوا أثرهم ، فلن يُخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىً (٢) ، وقال عليهالسلام أيضا : نحن النمرقة الوسطى بها يلحق التالي وإليها يرجع الغالي »(٣) .
ولقد سار الأئمة الأطهارعليهمالسلام على نهج النبيصلىاللهعليهوآله وسنته ، فقاموا بدور حضاري مشهود في إشاعة وترسيخ الأخلاق الفاضلة ، والردع عن الاخلاق الذميمة ، وكانوا يركزون على الجوهر بدلاً من المظهر ، ويعتبرون تحلية الجوانح بالاخلاق الفاضلة أفضل وأولى من تحلية الجوارح بالملابس الفاخرة ، فأصبح سلوكهم لنا أُسوة ومواقفهم قدوة ، فعن الإمام الصادقعليهالسلام : «خطب علي عليهالسلام الناس وعليه إزار كرباس غليظ ، مرقوع بصوف ، فقيل له في ذلك ، فقال : يخشع القلب ، ويقتدي به المؤمن »(٤) .
والباحث يجد أن قضية الاخلاق قد احتلت مساحةً كبيرةً من آثار أهل البيتعليهمالسلام كنهج البلاغة والصحيفة السجادية وغيرهما لما لهذه القضية الجوهرية من دور مهم في البناء التربوي للإنسان المسلم ، عن جرّاح
__________________
(١) المراجعات ، للسيد عبدالحسين شرف الدين : ٢٣ المراجعة الثامنة ، وفي هامش (٣٧) اخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد.
(٢) شرح النهج ، لابن أبي الحديد ٧ : ٧٦.
(٣) شرح النهج ١٨ : ٢٧٣.
(٤) مكارم الاخلاق ، للطبرسي : ١١٣.
المدائني أنّه قال : قال لي أبو عبداللّهعليهالسلام : «ألا أُحدّثك بمكارم الأخلاق؟ الصفح عن الناس ، ومواساة الرّجل أخاه في ماله ، وذكر اللّه كثيرا »(١) .
وفي الوقت الذي يردع فيه آل البيتعليهمالسلام كل انحراف أخلاقي ، فإنّهم يسترون على الناس معائبهم ، ولا يستغلون ذلك ذريعة للتشهير بهم والنيل منهم ، فمن كتاب أمير المؤمنينعليهالسلام للأشتر لمّا ولاّه مصر : «وليكن أبعد رعيّتك منك ، وأشنأهم عندك ، أطلبهم لمعائب الناس ، فإنّ في الناس عيوبا ، الوالي أحقُّ من سَتَرها ، فلا تكشفنَّ عمّا غاب عنك منها ، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك فاستر العورة ما استطعت »(٢) .
وكانوا يتبعون أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة ، فعن الحسين بن عليعليهماالسلام أنه قال لرجل اغتاب رجلاً : « يا هذا كفّ عن الغيبة فإنّها أدام كلاب النّار »(٣) .
وقال رجل للإمام علي بن الحسينعليهماالسلام : إنّ فلانا ينسبك إلى أنّك ضالٌّ مبتدع ، فقال له الإمامعليهماالسلام : «ما رعيت حقّ مجالسة الرجل ، حيثُ نقلت إلينا حديثه ، ولا أدّيت حقّي حيثُ أبلغتني من أخي ما لست أعلمه! واعلم أنّ من أكثر عيوب الناس شهد عليه الإكثار ، أنّه إنّما يطلبها بقدر ما فيه »(٤) .
وكان من دعائهعليهالسلام : «اللهمَّ إنّي أُعوذ بك من هيجان الحرص وسَورة الغضب وغلبة الحسد وضعف الصبر وقلّة القناعة وشكاسة الخُلق .. »(٥) .
__________________
(١) معاني الاخبار ، للصدوق : ١٩١.
(٢) نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح : ٤٢٩ كتاب ٥٣.
(٣) تحف العقول : ١٧٦ ـ مؤسسة الاعلمي ط ٥.
(٤) الاحتجاج ، للطبرسي ١ ـ ٢ : ٣١٥ ـ مؤسسة الاعلمي ط ١٤٠١ ه.
(٥) الصحيفة السجادية الجامعة : ٦٩ ـ مؤسسة الامام المهدي (عج) ـ قم ط١.
وهذا الموقف التربوي العجيب :
ليس الاقتداء وقفا على ميدان الخلق الفردي والاجتماعي ، بل له أُفق واسع سعة آفاق الحياة ، فكم سيتعلّم الحكام والساسة من دروس صانعي التاريخ ومهندسي الفكر! لننظر في هذا الحدث ـ الذي قد يبدو صغيرا ـ في تاريخ أمير المؤمنينعليهالسلام ، متطلّعين إلى ما يعكسه من صورة القائد القدوة والإمام الأُسوة ، وإلى ما يمكن ان نستلهم منه في جوانب حياتنا ، فردية كانت ، أو اجتماعية :
قام أعرابيٌّ يوم الجمل إلى أمير المؤمنينعليهالسلام فقال : يا أمير المؤمنين أتقول أنّ اللّه واحد؟
قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟!
فقال أمير المؤمنينعليهالسلام : «دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم! »
ثم قالعليهالسلام : «يا أعرابي إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام ؛ فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزَّ وجل ، ووجهان منها يثبتان فيه. فامّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الاعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة ، وقول القائل : هو واحد من الناس يريد به النّوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه ، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك. وأمّا الوجهان الذي يثبتان فيه : فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا. وقول القائل : إنّه عزّ وجل أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم
في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزَّ وجلَّ »(١) .
وكنظرة مقارنة ، كم يكون البَّون شاسعا بين ما فعله الإمام عليعليهالسلام مع الأعرابي ، مع ما فيهعليهالسلام من تقسّم القلب ، كما وصفه أصحابه ، نتيجة للفتنة التي عصفت بالمسلمين في الجمل ، وبين ما فعله عمر بن الخطاب مع الأصبغ بن عسل حين سأله عن متشابه القرآن ، مع أنّ عمر كان يعيش مطمئنا في المدينة ، نقل ابن حجر ، أنّه قدم المدينة على عهد عمر بن الخطاب رجل يدعى الأصبغ بن عسل ، سأله عن متشابه القرآن ، فأرسل إليه عمر وضربه بدرّته حتى أدمى رأسه ، وأسقط عطاءه ، ونهى عن مجالسته ـ ثم ـ قرر نفيه إلى البصرة ، وكتب إلى عامله عليها ، أبو موسى الأشعري : (أما بعد فإنّ الأصبغ تكلّف ما كُفي وضيّع ما وُلي ، فإذا جاء كتابي فلا تبايعوه ، وإن مرض فلا تعودوه ، وإن مات فلا تشهده)(٢) .
أهل البيتعليهمالسلام الأُسوة بعد النبيصلىاللهعليهوآله :
أهل البيتعليهمالسلام هم أحد الثقلين الذين أوصى الرسولصلىاللهعليهوآله أبناء أُمته بالتمسك بهما ، والسير على خطاهما :« إنّي قد تركت فيكم الثّقلين ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب اللّه حبلٌ متينٌ ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض » (٣) .
__________________
(١) كتاب الخصال ، للشيخ الصدوق : ٢ / باب الواحد طبع جماعة المدرسين ـ قم. ومعاني الاخبار : ٥ / باب معنى الواحد.
(٢) الإصابة في تمييز الصحابة ، لابن حجر العسقلاني ٢ : ١٩٨ ـ دار احياء التراث العربي ط١ عام ١٣٢٨ ه.
(٣) بحار الانوار ٢٣ : ١٠٦. كنز العمال ١ : ١٧٢ (وللحديث طرق مختلفة عن الفريقين).
الخلاصة
إنَّ العقيدة الإسلامية هي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي ، التي تصوغ للإنسان المسلم نظرته التوحيدية للكون والحياة ، وتنتج له مفاهيم صالحة تعكس وجهة نظر الإسلام في شتى المجالات ، كما تنتج له عواطف وأحاسيس خيرة.
فالعقيدة تمثل عنصر القوة ، وهي التي صنعت المعجزات وحققت الانتصارات الكبرى في صدر الإسلام.
ولأجل النهوض بالإنسان المسلم لا بدَّ من تذكيره بالمعطيات الحضارية التي منحتها العقيدة لمن سبقه ، وترسيخ قناعته بصوابيتها وصلاحيتها لجميع العصور.
ويمكننا إيجاز الدور الهام الذي قامت به العقيدة من أجل بناء الإنسان على جميع الاصعدة بما يلي :
١ ـ على الصعيد الفكري : اعتبرت الإنسان موجودا مكرّما ، أما الخطيئة التي قد يقع فيها فهي أمر طارئ يمكن معالجته بالتوبة ، وبذلك أشعرت الإنسان بقدرته على الارتقاء ، ولم تؤيسه من رحمة اللّه وعفوه ، ثم أنّ العقيدة حررت الإنسان من الاستبداد السياسي للحكام الوضعيين الظالمين ، كما حررته من عادة تأليه البشر ، وأطلقت حريته ، ولكن ضبطتها بقيود الشرع حتى لا تؤدي إلى الفوضى ، كما ربطت الحرية
الإنسانية بالعبودية للّه وحده ، والخضوع الواعي والطوعي لسلطته.
كما حررت الإنسان من شهوات نفسه ومن عبادة مظاهر الطبيعة من حوله ، ومن الأساطير والخرافات في الاعتقاد والسلوك.
ومن خلال عملية تحرير الفكر ، قامت بعملية البناء ، فأعطت مكانة كبيرة للعقل واعترفت بدوره وفتحت أمامه آفاقا معرفية واسعة ، كما فتحت أمامه نافذة الغيب ، وأطلقته من أسر دائرة الحس الضيقة ، ووجهت طاقته الخلاقة للتأمل والاعتبار في آيات اللّه الآفاقية والأنفسية ، وجعلت من تفكره هذا عبادة هي من أفضل العبادات.
ولم تقتصر على ذلك بل وجهت طاقة العقل لاكتشاف السنن التاريخية الحاكمة على الاُمم والشعوب ، كما وجهت العقل للنظر في حكمة التشريع لترصين قناعة المسلم بشريعته وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
من جهة اُخرى دفعت العقيدة الإنسان إلى كسب العلم والمعرفة ، وربطت بين العلم والإيمان ، فكل تفكيك بينهما سوف يؤدي إلى عواقب وخيمة ، كما وجهت العقل للنظر المستقل والملاحظة الواعية واستنباط النتائج من مقدمات يقينية ، ودعته إلى عدم التقليد في اُصول الدين.
٢ ـ على الصعيد الاجتماعي : قامت العقيدة بدور تغييري كبير ، فبينما كان فكر الإنسان الجاهلي منصبّا حول ذاته ومصالحها ، غدا بتفاعله مع إكسير العقيدة يضحي بالغالي والنفيس في سبيل مبادئ دينه ومصالح مجتمعه.
وأزالت العقيدة التناقض القائم بين الدوافع الذاتية المتمثلة بحرص الإنسان على مصالحه وبين مصالح الجماعة من خلال إثارتها للشعور الاجتماعي للفرد نحو الآخرين.
وقد نمّت العقيدة هذا الشعور بأساليب عدّة منها : إيقاظ حسّ الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين ، وتنمية روح التضحية والايثار لدى الفرد المسلم ، ودفعه للانصباب في قالب الجماعة.
من جهة أُخرى ، قامت العقيدة بتغيير الروابط الاجتماعية بين الأفراد ، من روابط تقوم على أساس العصبية للقرابة ، أو على أساس اللون أو المال أو الجنس ، إلى روابط أسمى تقوم على أسس معنوية هي التقوى والفضيلة والأخاء الإنساني.
ونقلت العقيدة الأفراد من حالة التناقض والصراع إلى حالة التعارف والتعاون ، فشكلوا أُمّة واحدة مرهوبة الجانب بعد أن كانوا قبائل وجماعات متفرقة ومتناحرة ، لا تقيم لهم الاُمم وزنا.
أضف إلى ذلك أن العقيدة الإسلامية قد قامت بتغيير العادات والتقاليد الجاهلية التي تسيء لكرامة الإنسان وتسبب له العنت والمشقة.
٣ ـ على الصعيد النفسي : أسهمت العقيدة في خلق طمأنينة وأمان للإنسان ، مهما كانت عواصف الأحداث من حوله.
وقد اتّبعت وسائل عديدة لتخفيف المصائب التي تواجه الإنسان على حين غرّة ، ومن تلك الوسائل : بيان طبيعة الدنيا ، وأنّها دار محن واختبار ، مليئة بتيارات المصائب التي تهب على الإنسان كريح السموم ، وعليه فمن المستحيل على الإنسان أن يطلب الراحة والسكينة فيها. وعليه أن يضع نصب عينه النجاح في هذا الامتحان الالهي في الدنيا التي هي دار تكليف. ولقد خففت العقيدة من وطأة المصائب عبر التأكيد على أنّها تستتبع أجرا وثوابا ، كما وجهت نظر الإنسان للمصيبة العظمى وهي المصيبة في الدين ، الأمر الذي يخفف من وقع المصائب الدنيوية الصغيرة.
من جانب آخر ، حرّرت العقيدة النفوس من المخاوف التي تشلّ نشاط الإنسان وتكبت طاقته وتجعله نهبا لعوامل القلق والحيرة كما شجّعت العقيدة الإنسان إلى معرفة نفسه ، فبدون هذه المعرفة للنفس يصبح من الصعوبة بمكان السيطرة عليها وكبح جماحها ، ثم بدون معرفة النفس لا يمكن معرفة اللّه تعالى حق معرفته.
ومن خلال البحث استنتجنا بأنّ الأمراض النفسية الخطيرة كالعصبية والشح والأثَرة إذا لم تعالج فإنّها ستؤدي إلى عواقب اجتماعية وسياسية خطيرة ، كتلك الفتنة التي عصفت بالمسلمين في السقيفة ، التي بيّن الإمام عليعليهالسلام جذورها النفسية.
٤ ـ على الصعيد الاخلاقي : قامت العقيدة بدور خلاّق في بناء منظومة الاخلاق للفرد المسلم ، وفق أُسس دينية تستتبع ثوابا أو عقابا ، وليس مجرّد توصيات إرشادية لا تتضمن المسؤولية ، على العكس من القوانين الوضعية ، التي أزالت شعور رقابة اللّه والمسؤولية أمامه من نفس الفرد ، وبذلك نسخت ركيزة الأخلاق ، فالأخلاق بدون الإيمان تفقد ضمانات الالتزام بها.
والملاحظ أنّ العقيدة اتّبعت أساليب عدّة لدفع الأفراد للتحلّي بالأخلاق الحسنة وتجنّب الأخلاق السيئة منها :
إبراز المعطيات الاُخروية وأيضا الدنيوية المترتبة على الأخلاق الحسنة أو السيئة.
كما اتّبعت أُسلوب « الاُسوة الحسنة » لتربط الأفراد برموز العقيدة ومرشديها بغية التأثر بمحاسن أخلاقهم والتأسي بسيرتهم.
المحتويات
المقدِّمة ٧
الفصل الأول. ١١
البناء الفكري. ١١
الفصل الثاني. ٤٣
البناء الاجتماعي والتربوي. ٤٣
الفصل الثالث.. ٦١
البناء النفسي. ٦١
الفصل الرابع. ٨٣
البناء الأخلاقي. ٨٣
المحتويات.. ٩٩