الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام27%

الشيعة في الاسلام مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 206

الشيعة في الاسلام
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 100702 / تحميل: 7863
الحجم الحجم الحجم
الشيعة في الاسلام

الشيعة في الاسلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وحثّ الإسلام على الابتداء بالدعاء؛ ليكون أَوّل اتصال بين الزوج والزوجة اتصالاً معنوياً روحياً، وليس مجرد اتصال بهيمي جسدي، فيستحب الدعاء بإدامة الحب والود: (اللهمّ ارزقني إلفَها وودّها ورضاها بي، وأرضني بها، واجمع بيننا بأحسن اجتماع، وأيسر ائتلاف، فإنّك تحبُّ الحلال وتكره الحرام) (1) .

ويستحب الأخذ بناصيتها، ويستقبل بها القبلة، ويخلع خفّها، ويغسل رجلها إذا جلست، ويصب الماء في جوانب الدار (2) .

والالتزام بذلك يخلق جواً من الاطمئنان، والاستقرار، والهدوء، في أَوّل خُطوات اللقاء، ويدفع ما في نفس الزوجة من دواعي القلق والاضطراب، خصوصاً وإنّ الزوجة تعيش في أَوّل يوم من حياتها الزوجية، حالةً من الخوف والاضطراب النفسي، فإذا شاهدت مثل هذه الأعمال من صلاة ودعاء، فإنّها ستعيش في جوّ روحي يبدّد مخاوفها ويزيل اضطرابها، ويستحب للرجل حين الجماع أن يدعو: (اللهمّ ارزقني وَلداً، واجعله تقياً زكياً، ليس في خَلقه زيادة ولا نقصان، واجعل عاقبته إلى خير) (3) .

وهذا إيحاء للمرأة وللرجل بأنّ العلاقة الجنسية ليست مجرد إشباع للغريزة، وإنّما هي مقدمة للإنجاب والتوالد، حيث يبتدئ الجماع (ببسم الله الرحمن الرحيم) (4) ، فتكون ليلة الزفاف ليلةً مباركة بذكر الله تعالى.

____________________

(1) تهذيب الأحكام 7: 410، ومكارم الأخلاق: 208. وجواهر الكلام 29: 43.

(2) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 313. وجواهر الكلام 29: 46.

(3) تهذيب الأحكام 7: 411، ومكارم الأخلاق: 209.

(4) مكارم الأخلاق: 209.

٤١

كراهية المباشرة في أوقات معيّنة:

يكره للزوج أن يباشر ويجامع زوجته في الأوقات التالية (1) .

1 - ليلة الهلال باستثناء هلال شهر رمضان.

2 - ليلة النصف من الشهر، وليالي المُحاق.

3 - يوم الكسوف وليلة الخسوف.

4 - وقت الزلازل والرياح السود والصفر.

5 - ما بين طلوع الفجر والشمس.

6 - ما بين غروب الشمس ومغيب الشفق، وما بعد الظهر.

7 - ليلة الأضحى، وليلة النصف من شعبان.

8 - بين الأذان والإقامة.

كراهية المباشرة في أحوال معيّنة:

يكره للزوج مجامعة زوجته عرياناً، وقائماً، ومستقبل القبلة ومستدبرها، وفي وجه الشمس إلاّ أن يرخي ستراً.

ويكره له أن يجامع زوجته قبل الاغتسال من احتلام له.

ويكره له أن يتكلم أثناء الجماع باستثناء الكلام بذكر الله تعالى (2) .

ويكره للرجل أن يجامع زوجته متخيّلاً امرأةً أخرى، قال رسول

____________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 313. وجامع المقاصد 12: 22. وجواهر الكلام 29: 61.

(2) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 314. وجواهر الكلام 29: 60.

٤٢

الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تجامع امرأتك بشهوة امرأة غيرك، فإنّي أخشى إن قضي بينكما وَلد أن يكون مخنّثاً، مؤنثاً، مخبلاً) (1) .

مستحبات المباشرة:

يستحبّ للرجل غضّ البصر (ولا ينظرنَّ أحد في فرج امرأته، وليغضّ بصره عند الجماع، فإنّ النظر إلى الفرج يورث العمى في الولد) (2) ، ويستحب له أن يذكر الله تعالى، وأن يسأله أن يرزقه ذَكراً سوياً، كما يستحب الغسل أو الوضوء بعد الجماع قبل أن يجامع مرةً أُخرى (3) .

وتستحب المداعبة والملاعبة (4) ؛ لأنّ ذلك يعمّق الود والحب، وينقل الجماع من صورته البهيمية إلى صورة إنسانية، تتناسب مع طبائع الإنسان وعواطفه وإحساساته.

المحرّم في المباشرة:

يحرم على الرجل الدخول بزوجته الصغيرة التي لم تبلغ تسع سنين، قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (لا يدخل بالجارية حتى يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين) (5) .

فإن دخل بها وأفضاها حرم عليه جماعها أبداً، ووجب عليه دفع

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 209. وجواهر الكلام 29: 61.

(2) مكارم الأخلاق: 209.

(3) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 314.

(4) مكارم الأخلاق: 212.

(5) تهذيب الأحكام 7: 391.

٤٣

الأرش، والإنفاق عليها مدة حياتها (1) .

ويحرم جماعها وهي حائض (2) .

أحكام الجنابة:

يحرم على المجنب قراءة سور العزائم، وهي السور التي فيها آيات السجدة الواجبة.

ويحرم دخول المساجد، ووضع شيء فيها.

ويحرم مس كتابة المصحف، ومس كل كتابة من أسماء الله تعالى. ويكره قراءة ما زاد على السبع آيات من القرآن، ويكره للمجنب الأكل والشرب إلاّ بعد الوضوء، أو بعد غسل اليدين والتمضمض وغسل الوجه (3) .

وتتحقّق الجنابة بالجماع بقذف أو دون قذف، وبالقذف بغير جماع.

أحكام الحيض:

يحرم على الحائض قراءة سور العزائم، ومس كتابة القرآن وأسماء الله تعالى، ودخول المساجد ووضع شيء فيها.

ويبطل صوم الحائض، ويجب عليها قضاء الصوم الذي فاتها في زمن حيضها، ولا يجب عليها قضاء الصلاة، إلاّ إذا حاضت بعد دخول الوقت،

____________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 313. وجامع المقاصد 12: 330 - 332.

(2) جامع المقاصد 1: 319.

(3) جامع المقاصد 1: 265 - 269. والوسيلة إلى نيل الفضيلة: 55.

٤٤

فيجب عليها قضاء تلك الصلاة فقط، إن لم تكن قد أدّتها في وقتها، ولا يصح للزوج طلاق الحائض (1) .

الحمل:

أقل الحمل ستة أشهر، وأكثره تسعة أشهر، والريب ثلاثة أشهر، فتصير الغاية في أكثر الحمل سَنة كاملة (2) ، والسَنة الكاملة انفردت بها الإمامية (3) .

والفائدة في تحديد أكثر الحمل، أنّ الرجل إذا طلق زوجته فأتت بولد بعد الطلاق لأكثر من ذلك الحدّ لم يُلحق به، وتحديد الحمل يعتمد على النصوص، والتوقيف، والإجماع، وطرق علمية، ولا يثبت عن طريق الظن (4) .

ويحرم على الزوج نفي الحمل منه، وإن كان يعزل عن زوجته؛ لاحتمال سبق المني من غير انتباه، أو احتمال بقاء شيء من المني في المجرى وحصول اللقاح به عند العود إلى الإيلاج (5) .

ولا يجوز للمرأة إسقاط الجنين وإن كان من حرام، إلاّ إذا خافت الضرر على نفسها مع استمرار وجوده، فإنّه يجوز لها إسقاطه، في وقت لم تلجه

____________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 58 - 59. وجامع المقاصد 1: 317 - 319.

(2) الكافي في الفقه: 314.

(3) الانتصار: 345.

(4) الانتصار: 346.

(5) منهاج الصالحين، المعاملات، القسم الثاني: 112 - 113.

٤٥

الروح، أمّا بعد ولوج الروح فيه فلا يجوز لها إسقاطه مهما كان السبب (1) .

ويستحب إطعام المرأة الحامل بعض المواد الغذائية؛ لتأثيرها على صحتها وصحة جنينها؛ لأنّ الأمراض الجسدية والتشوهات في الخِلقة ناجمة في أكثر الأحيان عن سوء التغذية، وهنالك أغذية مخصوصة لها تأثير على الصفات النفسية والروحية للجنين، ومن الأغذية التي يستحبّ إطعامها للحامل.

1 - السفرجل: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كلوا السفرجل، فإنّه يجلو البصر، وينبت المودة في القلب، وأطعموه حبالاكم، فإنّه يحسّن أولادكم) (2) .

2 - اللبان: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أَطعموا نساءكم الحوامل اللبان، فإنّه يزيد في عقل الصبي) (3) .

3 - التمر: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر، فإنّ ولدها يكون حليماً تقياً) (4) .

ووضع أهل البيت (عليهم السلام) جدولاً متكاملاً، في أنواع الأغذية المفيدة، في صحة جسم الحامل وصحّة حملها، فيستحبُّ توفيرها للحامل، كما ورد في كتاب الأطعمة والأشربة من الكافي ومكارم الأخلاق، كالرّمان، والتين، والعنب، والزبيب، والبقول، والسلق، واللحم، والهريسة،

____________________

(1) منهاج الصالحين، المعاملات، القسم الثاني: 115 - 116.

(2) مكارم الأخلاق: 172.

(3) مكارم الأخلاق: 194.

(4) مكارم الأخلاق: 169.

٤٦

والخضروات.

ويحرم على الحامل تناول الأطعمة والأشربة المضرّة بصحتها وصحة الحمل.

ويجب على الزوج النفقة ابتداءً، ويكون الوجوب أشدّ وآكد في فترة الحمل، ولا يسقط وجوب النفقة وإن كانت الحامل مطلّقةً، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا طلّق الرجل المرأة وهي حبلى، أنفق عليها حتى تضع حملها، فإذا وضعته أعطاها أجرها...) (1) .

وينبغي حسن المعاملة مع المرأة في جميع الأحوال، وهو أَولى في فترة الحمل، فهي بحاجة إلى مراعاة حالتها النفسية؛ لانعكاسها على الجنين، كما يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): (... فإنّ لها حق الرحمة، والمؤانسة، وموضع السكون إليها قضاء اللذة) (2) .

فالأفضل من قِبل الزوج تجسيداً لحق الرحمة والمؤانسة الرفق بها، وإسماعها الكلمات الجميلة، وتكريمها، والتعامل معها كإنسانة أكرمها الإسلام، وإشاعة جو السرور والبشاشة، والمودّة واللطف في المنزل، وإدخال الفرحة على قلبها، والصبر على أخطائها ومساوئها، التي لا تؤثر على نهجها الإسلامي، وتجنّب كلّ ما يؤدي إلى الإضرار بصحتها النفسية، كالتعبيس في وجهها، أو ضربها، أو هجرها، أو التقصير في حقوقها (3) .

____________________

(1) الكافي 6: 103.

(2) تحف العقول / الحراني: 188، المطبعة الحيدرية، النجف، 1380 هـ، ط5.

(3) راجع إرشاد القلوب: 175، ومكارم الأخلاق: 245، والكافي 5: 511، والمحجّة البيضاء 3: 19.

٤٧

الولادة:

هي المرحلة التالية لمرحلة الحمل مباشرة، ويجب على المرأة في أَوّل المخاض أن تخلو مع النساء، ولا يجوز لأحدٍ من الرجال الدخول عليها أثناء المخاض مع الاختيار (1) .

ويجوز عند الضرورة أن يقوم الرجل بإجراء عملية الولادة لها إن عجزت النساء عن ذلك (2) .

ويستحب على القابلة أن تأخذ الوليد وتمسح عنه الدم، وتحنّكه بماء الفرات، أو بماء عَذِب إن لم تجد ماء الفرات، ويستحبّ لها أن تحنّكه بالعسل المخلوط مع الماء، أو التحنيك بتربة الإمام الحسين (عليه السلام) (3) .

ويستحب على الوالدين أن يسمعا الوليد اسم الله تعالى بالأذان في أُذنه اليمنى، والإقامة في أُذنه اليسرى (4) .

عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مَن وُلِدَ له مولود فليؤذّن في أُذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليُقم في اليسرى؛ فإنّها عصمة من الشيطان الرجيم) (5) .

ويستحب تسمية الوليد بأحسن الأسماء، وليس ثَمّة اسم أحسن من

____________________

(1) المقنعة: 521. وجواهر الكلام 31: 250.

(2) المبسوط 4: 160 - 161. وجواهر الكلام 31: 250.

(3) المقنعة: 521. وجواهر الكلام 31: 252.

(4) المقنعة: 521. وجواهر الكلام 31: 251.

(5) الكافي 6: 24.

٤٨

اسم محمد، فهو اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، يحثّون المسلمين على تسمية أبنائهم وبناتهم بالأسماء التالية: (عبد الرحمن - وباقي أسماء العبودية لله ولصفاته - محمد، أحمد، علي، حسن، حسين، جعفر، طالب، فاطمة) (1) .

ويكره التسمية ببعض الأسماء، كالحَكَم، وحكيم، وخالد، ومالك، وحارث (2) .

واستحباب الاسم الحَسَن مقدمة؛ لتحصين الوليد من السخرية والاستهزاء في كبره؛ لأنّ الأسماء غير الحسنة تُستهجن من قِبل المجتمع، إضافةً إلى ذلك فإنّ الأسماء الحسنة كأسماء الأنبياء، والأئمة، والأولياء، تجعل الطفل مرتبطاً بهم في سلوكه ومواقفه، وهو في نفس الوقت نوع من التبرّك بأفضل أسماء الشخصيات، التي لها دور كبير في إرشاد الإنسانية وتقويمها.

ويستحب في اليوم السابع من الولادة أن تُثقب أُذن الوليد، ويُحلق شعر رأسه، ثمّ يجفّف ويتصدق بزنته ذهباً أو فضةً، ويختن في هذا اليوم، ويُعقّ عنه بشاة سمينة، يُعطى للقابلة منها الرجل بالورك، ويفرّق باقي اللحم على الفقراء والمساكين، ويُعقّ عن الذَكر بذَكر من الغنم، وعن الأُنثى بأُنثى منها (3) .

____________________

(1) راجع الكافي 6: 19.

(2) راجع الكافي 6: 21.

(3) المقنعة: 521 - 522. وجواهر الكلام 31: 253 وما بعدها.

٤٩

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يُسمّى في اليوم السابع، ويُعقّ عنه، ويُحلق رأسه، ويتصدّق بوزن شعره فضةً، ويُبعث إلى القابلة بالرجل مع الورك، ويطعم منه ويتصدّق) (1) .

وفي رواية عنه (عليه السلام): (... واحلق رأسه يوم السابع، وتصدّق بوزن شعره ذهباً أو فضةً) (2) .

ولهذه المستحبات دور كبير في تعميق الأواصر الاجتماعية، بالتصدّق على الفقراء، وإطعام المحتاجين والمساكين، ولها آثار نفسية حسنة للطفل حينما يترعرع، ويفهم اعتناء الوالدين به في ولادته، إضافةً إلى الذكرى الحسنة عند مَن وصلته تلك الصدقة وتلك العقيقة، حيث يكون عندهم محل احترام وتقدير.

ومن الأذكار المأثورة عند ذبح العقيقة ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (وجّهت وجهي للّذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً، وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، اللهمّ منك ولك، اللهمّ هذا عن فلان بن فلان) (3) .

وفي السيرة عقّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحسن (عليه السلام) بيده وقال: (بسم الله عقيقة عن الحسن، اللهمّ عَظمها بعَظمه، ولحمها بلحمه، ودمها بدمه، وشعرها بشعره، اللهمّ اجعلها وقاءً لمحمّد وآله) (4) .

____________________

(1) الكافي 6: 29.

(2) الكافي 6: 28.

(3) الكافي 6: 31.

(4) الكافي 6: 32 - 33.

٥٠

وفي استحباب ثقب الأُذن والختان قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (إنّ ثقب أُذن الغلام من السُنّة، وختانه لسبعة أيام من السُنّة) (1) .

وللختان في اليوم السابع آثار صحيّة على الوليد، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (اختنوا أولادكم لسبعة أيام، فإنّه أطهر وأسرع لنبات اللّحم، وإنّ الأرض لتكره بول الأغلف) (2) .

والختان في هذا اليوم يؤدي إلى سرعة الشفاء مع قلة الألم.

أحكام النفاس:

أقل مدّة للطهر من دم النفاس عشرة أيام (3) .

وحكم النُفَساء حكم الحائض في جميع المحرّمات والمكروهات (4) .

فيحرم عليها: قراءة سور العزائم، ومسّ كتابة القرآن وأسماء الله تعالى، ودخول المساجد، ووضع شيء فيها.

ويجب عليها منع زوجها من وطئها في الفرج.

ويبطل صومها، ويجب عليها قضاء الصوم دون الصلاة، ولا يصحّ للزوج طلاقها.

____________________

(1) الكافي 6: 35.

(2) الكافي 6: 34.

(3) الكافي في الفقه: 315. والمسائل الاتفاقية: 115 - 116.

(4) جامع المقاصد 1: 349. والمسائل الاتفاقية: 118. والوسيلة إلى نيل الفضيلة: 61.

٥١

حكم تبنّي الوليد:

إذا ولدت امرأة على فراش الرجل لأكثر من ستة أشهر فصاعداً لزمه قبوله، ويحرم عليه نفيه منه، وإن ولدت لأقلّ من ذلك وليداً حيّاً سوياً ينبغي نفيه منه، فإن أقرّ به قُبل منه، ولم يسعه بعد ذلك الانتفاء منه (1) .

الرضاع:

حليب الأُمّ هو الغذاء الأمثل للطفل، فهو (أوفق بمزاجه وأنسب بطبعه) (2) ، وأفضل مَن يمنحه الحنان، فيكون الطفل أقل توتراً، وأهنأ بالاً، وأسعد حالاً، فيستحب إرضاع الطفل من حليب أُمّه، قال الإمام علي (عليه السلام): (ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أُمّه) (3) .

وهذا ما يؤكّده العلم الحديث، وهو يكشف مناسبة حليب الأُمّ لحاجة الرضيع من حيث مكوّناته، ومن حيث درجة حرارته أيضاً، فإنّ مكوّناته وحرارته تتغيّر مع نمو الطفل، وبحسب ما يتطلبه النمو السليم.

وعلى الرغم من استحباب إرضاع الطفل من حليب أُمّه، إلاّ أنّه لا يتوجب عليها إرضاعه (4) ، سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن الرضاع فقال: (لا تُجبر الحرّة على رضاع الولد، وتجبر أُمّ الولد) (5) .

____________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 317. وجواهر الكلام 31: 224. ومنهاج الصالحين - المعاملات: 112 - 113.

(2) الحدائق الناضرة 25: 71.

(3) الكافي 6: 40.

(4) الحدائق الناضرة 25: 71. وجواهر الكلام 31: 272. والصراط القويم: 214.

(5) الكافي 6: 41.

٥٢

وعدم الوجوب مشروط بوجود الأب وقدرته على دفع الأُجرة، أو عدم تبرّع الأُمّ، أو وجود مال للولد، ووجود مرضعة أُخرى، وفي حالة عدم توفر هذه الشروط، يجب على الأُمّ إرضاعه، كما يجب عليها الإنفاق عليه إذا كان الأب معسراً أو مفقوداً (1) .

وفي الظروف الاستثنائية التي تقف حائلاً دون إرضاع الأُمّ لطفلها بسبب قلّة الحليب، أو مرض الأُمّ، أو موتها، أو رفضها للرضاعة مجاناً، يستحبّ اختيار المرضِعة المناسبة والملائمة ضمن مواصفات معيّنة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (انظروا مَن ترضع أولادكم، فإنّ الولد يشبُّ عليه) (2) .

ويستحب اختيار المرأة المرضعة التي تتوفر فيها أربع خصال: العاقلة، المسلمة، العفيفة، الوضيئة (3) .

قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (استرضع لولدك بلبن الحِسان، وإيّاك والقِباح فإنّ اللبن قد يعدي) (4) .

وقال (عليه السلام): (عليكم بالوضاء من الظؤرة، فإنّ اللبن يعدي) (5) .

ويكره استرضاع الحمقاء، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تسترضعوا الحمقاء، فإن الولد يشبُّ عليه) (6) .

____________________

(1) الحدائق الناضرة 25: 72. وجواهر الكلام 31: 272.

(2) الكافي 6: 44. وجواهر الكلام 29: 307.

(3) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 316. وجامع المقاصد 12: 208. وجواهر الكلام 29: 306.

(4) الكافي 6: 44. وجواهر الكلام 29: 306.

(5) الكافي 6: 44.

(6) مكارم الأخلاق: 237. وجواهر الكلام 29: 306.

٥٣

وكذا البغيّة والمجنونة، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (توقّوا على أولادكم من لبن البغيّة والمجنونة، فإنّ اللبن يعدي) (1) .

ويجوز استرضاع الكتابيات على كراهية، وفي حال عدم وجود مرضِعة مسلمة، وترتفع الكراهة في حال منعهنَّ من شرب الخمر، قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (إذا أرضعنَ لكم، فامنعوهنَّ من شرب الخمر) (2) .

وكراهية استرضاع تلك الأصناف ناجمة من تأثير اللبن على الطفل، ففي حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (... فإنّ اللبن يعدي، وإنّ الغلام ينزع إلى اللبن) (3) .

ومن أجل تحسين حليب الطفل، يستحبُّ إطعام النساء في نفاسهنَّ التمر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليكن أَوّل ما تأكل النُفَساء الرطب) (4) .

ويفضّل إطعام نوع خاص من التمر وهو البَرني، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (أطعموا البَرني نساءكم في نفاسهنَّ، تحلم أولادكم) (5) .

وللأُمّ حق الإرضاع لطفلها إن رضي الأب بغير أُجرة، ولها حق الامتناع من الرضاعة، إمّا إذا كانت مطلّقةً، فهي أَولى برضاعه سواء رضي الأب أم لم يرضَ، ولها أُجرة المِثل، فإن طلبت أُجرةً زائدة على ما يرضى به

____________________

(1) مكارم الأخلاق: 223. وجواهر الكلام 29: 306، 308.

(2) الكافي 6: 42. وجواهر الكلام 29: 307.

(3) الكافي 6: 43.

(4) الكافي 6: 22.

(5) الكافي 6: 22.

٥٤

غيرها، كان للأب حقّ انتزاعه من يدها (1) .

ولا يجوز للأب أن يسلّم الطفل إلى مرضعة تذهب به إلى منزلها إلاّ برضا الأُمّ (2) .

ومدّة الرضاع هي سنتان، وأقلّه واحد وعشرون شهراً، ويجوز الزيادة على السنتين مقدار شهرين، والزيادة لا أُجرة فيها (3) .

ويستحسن في مرحلة الرضاع مناغاة الطفل؛ لأنّها تؤثر على سرعة النطق، ونموّه اللغوي والعاطفي في المستقبل، حيث يشعر من خلال المناغاة بوجود الأمن والطمأنينة والهدوء، ولنا في سُنّة أهل البيت (عليهم السلام) خير منار واقتداء، فكانت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، تناغي الحسن (عليه السلام) في هذه المرحلة وتقول:

أشبه أباك يا حسن

واخلع عن الحق الرّسنْ

واعبد إلهاً ذا مِننْ

ولا توالِ ذا الإحَنْ

وكانت تناغي الحسين (عليه السلام):

أنت شبيه بأبي

لست شبيهاً بعليّ (4)

الفِطام:

حدّدت الشريعة الإسلامية مدة الإرضاع التامة بأربع وعشرين شهراً

____________________

(1) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 315 - 316.

(2) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 315 - 316. ومنهاج الصالحين، المعاملات: 120.

(3) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 315 - 316. والصراط القويم: 214.

(4) بحار الأنوار 43: 286.

٥٥

كما جاء في قوله تعالى: ( والوالِداتُ يُرضِعنَ أولادَهُنَّ حَولَينِ كامِلينَ لِمن أرادَ أن يُتمَّ الرَّضَاعةَ... ) (1) .

وأقلّ الرضاع - كما تقدّم - واحد وعشرون شهراً، وينبغي على الوالدين إن أرادا فِطام الصبي في هذه المدة، أن يتشاورا فيما بينهما، قال تعالى: ( ... فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا.. ) (2) .

ويجوز تأخير الرضاع إلى شهر أو شهرين بعد مدة التمام، وهي أربع وعشرون شهراً، ويحرم الرضاع بعد ذلك؛ لأنّ لبن المرأة يصير من الخبائث، ومن فضلات مالا يُؤكل لحمه، فيحرم على المكلّف شربه، وكل ما حرم على المكلّف شربه يحرم إعطاؤه لغير المكلّف (3) .

فيجب على الأُمّ أو الأب المستأجر لمرضعة، مراعاة وقت الرضاع، ووقت الفِطام، بلا إفراط ولا تفريط، فيحسن إرضاع الولد واحداً وعشرين شهراً، ولا ينبغي إرضاعه أقل من ذلك (4) ، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (الرضاع واحد وعشرون شهراً، فما نقص فهو جور على الصبي) (5) ؛ ذلك لأنّ الطفل بحاجة إلى اللبن في هذه المدّة، وبحاجة إلى الدفء العاطفي والحنان على حدٍّ سواء.

____________________

(1) سورة البقرة: 2 / 233.

2) سورة البقرة: 2 / 233.

(3) مهذّب الأحكام 25: 275.

(4) منهاج الصالحين، المعاملات: 120.

(5) الكافي 6: 40.

٥٦

الحضانة:

الحضانة هي الولاية على الطفل لفائدة تربيته، وما يتعلّق بها من مصلحته (1) ، ومرحلة الحضانة هي أهمّ المراحل في نموّ الطفل البدني، واللغوي، والعقلي، والأخلاقي، وهي مرحلة تشكيل البناء النفسي الذي تقوم عليه أعمدة الصحة النفسية والخُلقية، وتتطلب هذه المرحلة من الوالدين إبداء عنايةٍ خاصةٍ في رعاية الطفل وحمايته، وتوفير ما يحتاجه من مقوّمات النموّ البدنية والروحية؛ ليكون عنصراً فعّالاً في المجتمع.

والأُمّ أحقُّ بحضانة الولد مدّة الرضاع، فلا يجوز للأب أن يأخذه في هذه المدّة منها، فإذا انقضت مدة الرضاع، فالأب أحق بالذكر، والأُمّ أحق بالأنثى حتى تبلغ سبع سنين من عمرها، ثمّ يكون الأب أحقّ بها، وإن فارق الأُمّ بفسخ أو طلاق قبل أن تبلغ سبع سنين، لم يسقط حقّ حضانتها ما لم تتزوج بالغير، فلو تزوجت سقط حقّها، وكانت الحضانة للأب (2) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (المرأة أحق بالولد ما لم تتزوج) (3) .

وعنه (عليه السلام) قال: (ما دام الولد في الرضاع فهو بين الأبوين بالسوية، فإذا فُطم فالأب أحقُّ به من الأُمّ، فإذا مات الأب فالأُمّ أحقُّ به من العُصبة...) (4) .

وفي حال فقدان الأبوين تكون الحضانة لأب الأب مقدّماً على غيره

____________________

(1) الحدائق الناضرة 25: 83.

(2) مهذّب الأحكام 25: 278.

(3) وسائل الشيعة 21: 471.

(4) الكافي 6: 45.

٥٧

من الإخوة والأجداد (1) .

وإن فقد أب الأب تكون الحضانة لأقارب الطفل، على ترتيب مراتب الإرث الأقرب منهم يمنع الأبعد (2) .

ومن شروط حق الحضانة للأُمّ (3) :

1 - أن تكون مسلمةً.

2 - أن تكون عاقلةً.

3 - أن تكون سالمةً من الأمراض المعدية.

4 - أن تكون فارغةً من حقوق الزوج، فلو تزوّجت سقط حقها من الحضانة.

5 - أن تكون أمينةً.

6 - وأضاف بعض الفقهاء شرط عدم فسق الأُمّ (4) .

ولا يجوز للأمّ الحاضنة أن تسافر بالولد إلى بلد بغير رضا أبيه، ولا يجوز للأب أن يسافر به ما دام في حضانة أُمّه (5) .

____________________

(1) الحدائق الناضرة 25: 96.

(2) مهذّب الأحكام 25: 281.

(3) الحدائق الناضرة 25: 90 - 91، 93. والصراط القويم: 214.

(4) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 288.

(5) مهذب الأحكام 25: 283.

٥٨

الفصل الثالث

الحقوق الأُسريّة

وضع المنهج الإسلامي حقوقاً وواجبات على جميع أفراد الأُسرة، وأمر بمراعاتها من أجل إشاعة الاستقرار والطمأنينة في أجواء الأُسرة، والتقيّد بها يسهم في تعميق الأواصر وتمتين العلاقات، وينفي كل أنواع المشاحنات والخلافات المحتملة، والتي تؤثّر سلباً على جوّ الاستقرار الذي يحيط بالأُسرة، وبالتالي تؤثّر على استقرار المجتمع المتكوّن من مجموعة من الأُسر.

أَوّلاً: حقوق الزوج:

من أهمّ حقوق الزوج حقّ القيمومة، قال الله تعالى: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) (1) .

فالأُسرة باعتبارها أصغر وحدة في البناء الاجتماعي بحاجة إلى قيّم ومسؤول عن أفرادها، له حقّ الإشراف، والتوجيه، ومتابعة الأعمال،

____________________

(1) النساء 4: 34.

٥٩

والممارسات، وقد أوكل الله تعالى هذا الحق إلى الزوج، فالواجب على الزوجة مراعاة هذا الحق المنسجم، مع طبيعة الفوارق البدنية والعاطفية لكلٍّ من الزوجين، وأن تراعي هذه القيمومة في تعاملها مع الأطفال وتشعرهم بمقام والدهم.

ومن الحقوق المترتبة على حق القيمومة حق الطاعة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تصدّق من بيتها شيئاً إلاّ بإذنه، ولا تصوم تطوعاً إلاّ بإذنه، ولا تمنعه نفسها، وإن كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه...) (1) .

حتى إنّه ورد كراهة إطالة الصلاة من قِبل المرأة؛ لكي تتهرّب من زوجها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تُطوِّلنّ صلاتكنّ لتمنعنَّ أزواجكنّ) (2) .

ويجب عليها إحراز رضاه في أدائها للأعمال المستحبة، فلا يجوز لها الاعتكاف المستحب إلاّ بإذنه (3) ، ولا يجوز لها أن تحجّ استحباباً إلاّ بإذنه، وإذا نذرت الحج بغير إذنه لم ينعقد نذرها (4) .

ومن أجل تعميق العلاقات العاطفية، وإدامة الروابط الروحية، وإدخال السرور والمتعة في نفس الزوج، يستحب للمرأة الاهتمام بمقدمات ذلك، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله، ما حقّ الزوج على المرأة؟ قال: أكثر من ذلك،

____________________

(1) مَن لا يحضره الفقيه 3: 277.

(2) الكافي 5: 508.

(3) الكافي في الفقه: 187.

(4) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 191.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الكتاب والسُنّة (الفقه الاستدلالي)، وهذا ما لا يتيسر للجميع، فهناك مَن يستطيع أن يقوم بهذه المهمّة.

والإسلام لا يُشرِّع حُكماً فيه حرج، فعلى هذا فإنّ تحصيل العلم للأحكام والشرائع الدينيّة عن طريق الدليل، يُعتبر واجباً كفائيّاً، يختصّ بالبعض الذي له الكفاءة والقدرة، أمّا عامّة الناس، فيجب عليهم الرجوع وفقاً للقاعدة العامّة (وجوب رجوع الجاهل إلى العالِم، قاعدة الرجوع إلى أهل الخِبرة)، وهو مراجعة مَن يُسمّون بـ (المجتهدين الفقهاء)، ويُطلق على هذه المراجعة كلمة (التقليد)، ولكنّ هذا الرجوع والتقليد ليس في أصول الدين (١).

وممّا تجدرُ الإشارة إليه: أنّ الشيعة لا تُجيز التقليد الابتدائي من المجتهد الميّت، والشخص الذي لا يَعلم مسألة ما عن طريق الاجتهاد، فإنّه وفقاً لوظيفته الدينيّة يجب أن يُقلّد المجتهد، ولا يستطيع الرجوع إلى فتوى المجتهد المتوفّى، ما لم يكن قد قلّد في هذه المسألة مجتهداً حيّاً، وبعد وفاة المرجِع والمقلَّد بقيَ على تقليده، وهذه المسألة هي إحدى العوامل المهمّة التي تجعل الفقه الإسلامي الشيعي يمتاز بالحيويّة، فيسعى جماعة للحصول على درجة الاجتهاد، والتحقيق في المسائل الفقهيّة.

ولكنّ إخواننا أهل السُنّة إِثرَ الإجماع الذي حصلَ في القرن الخامس الهجري، الداعي بلزوم إتّباع مذهب من الفقهاء الأربعة وهم: (أبو حنيفة، والمالكي، والشافعي، وأحمد بن حنبل) فهم لا يُجيزون الاجتهاد الحرّ، وكذا التقليد من غير هؤلاء الأربعة، وفي النتيجة بقى فقههم كما كان عليه قَبل حوالي ألف ومائتي سنة، وأخيراً انعزلَ جماعة من المنفردين عن الإجماع المذكور، واتّجه نحو الاجتهاد الحرّ.

____________________

(١) يُراجع في هذا الموضوع: مبحثُ الاجتهاد والتقليد من علم الأصول.

٨١

١٣. الشيعةُ والعلوم النقليّة

العلومُ الإسلاميّة التي دوّنها علماء الإسلام تنقسم إلى قسمين: عقليّة، ونقليّة .

فالعلوم النقليّة: هي التي يُعتمد عليها في النقل، مثل: اللغة، والحديث، والتأريخ وما شابهها، والعلوم العقليّة مثل: الفلسفة، والرياضيات.

ولا شكّ أنّ الدافع الأصلي لظهور العلوم النقليّة في الإسلام هو: القرآن الكريم، عدا عِلمين مثل: علم التأريخ والأنساب، وعلم العروض، أمّا سائر العلوم فهي وليدة هذا الكتاب الإلهي.

دوّنَ المسلمون هذه العلوم بتتبّعهم الديني، وأهمّ ما فيها هو: الأدب العربي، وعلم النحو والصرف، وعلم البلاغة، وعلم اللغة، وما يتعلّق بالظواهر الدينيّة، مثل: فنّ علم القراءة، والتفسير، والحديث، والرجال، والدراية، والأصول، والفقه.

والشيعةُ لهم دورهم ومشاركتهم المهمّة في تأسيس وتنقيح هذه العلوم، ويمكن القول: بأنّ المؤسّس والمُبتكر لكثيرٍ منها هم الشيعة، كما نجد ذلك في علم النحو، فقد صنّفه (أبو الأسود الدؤلي) وهو أحد صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلي (عليه السلام)، بعد أن أملاه عليه الإمام علي (عليه السلام).

ويُعتبر الصاحب بن عبّاد الشيعي، من كبار مؤسّسي (١) علم الفصاحة والبلاغة، وكان من وزراء آل بويه.

وأوّل كتاب صُنِّف في علم اللغة هو: (كتاب العين) (٢) لمؤلّفه العالِم المعروف (الخليلُ بن أحمد البصري الشيعي)،

____________________

(١) الوَفَيات لابن خلّكان: ص ٧٨، أعيان الشيعة ج١١: ٢٣١.

(٢) الوَفَيات: ص ١٩٠، وأعيان الشيعة وسائر الكُتب والتراجم.

٨٢

وهو واضع عِلم العُروض، وأُستاذ (سيبويه النحوي) في علم النحو.

وتنتهي قراءة (عاصم) للقرآن إلى علي (عليه السلام) بواسطة، وأمّا عبد الله بن عبّاس والذي يُعتبر من أفضل الصحابة في التفسير، فتلميذٌ للإمام علي (عليه السلام)، ولا يَنكر أحد ما بذلهُ أهل البيت وشيعتهم من جهدٍ في علم الحديث والفقه، وإنّ اتصال الفقهاء الأربعة وغيرهم بالإمام الخامس والسادس للشيعة فمعروف، وما حصلَ عليه الشيعة من تقدُّم في أصول الفقه في زمن (الوحيد البهبهاني) - المتوفّى سنة ١٢٠٥ هجري قمري، وبالأخص على يد الشيخ (مرتضى الأنصاري) ، المتوفّى سنة ١٢٨١ هجري قمري - يُثير الإعجاب، ولا يُقارن بأصول الفقه لدى إخواننا أهل السُنّة.

٨٣

الطريقُ الثاني للمباحث العقليّة

١) التفكّرُ العقلي والفلسفي والكلامي.

٢) مَدى قِدَم الشيعة في التفكير الفلسفي والكلامي في الإسلام.

٣) الشيعةُ تسعى دائماً في الفلسفة وسائر العلوم العقليّة.

٤) لماذا استقرّت الفلسفة عند الشيعة؟

٥) خمسةٌ من نوابغ علماء الشيعة.

١. التفكّرُ العقلي والفلسفي والكلامي

قد أشرنا سابقاً (١)، أنّ القرآن الكريم يؤيِّد التفكّر العقلي، ويَعتبره جزءاً من التفكّر الديني، والتفكّر العقلي بعد أن يُصادِق على صدق نبوّة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يَجعل الظواهر القرآنيّة بما فيها الوحي السماوي، وأقوال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام) من موارد الحُجج العقليّة،

____________________

(١) الفصلُ الأوّل من الكتاب.

٨٤

والحُجج العقليّة التي يُثبت بها الإنسان نظريّاته، مع ما لديه من فطرة إلهيّة تنقسم إلى قسمين: البرهان، والجَدل.

والبرهانُ: حُجّة، ومقدّماته الواقعيّات وإن لم تكن مشهودة أو مسلّمة، وبعبارةٍ أخرى: أمور يدركها الانسان اضطراراً مع ما عنده من فطرة إلهيّة، ويُصادِق عليها، كما نعلم أنّ (عدد الثلاثة أصغر من عدد الأربعة)، فهذا النوع من التفكّر يُدعى التفكّر العقلي، وإذا تحقّق وحصلَ ذلك في الكلّيات من العالَم والكون: كالتفكّر في بدء الخلقة، وعاقبة العالَم والعالَمين، فهو ما يُسمّى بالتفكّر الفلسفي.

والجدلُ: حجّة، إذا حَصَلت مقوّماته من المشهودات والمسلّمات، كما هو متعارف بين مُعتنقي الأديان والمذاهب، إذ إنّهم يُثبتون آراء ونظريّات مذهب مع الأصول المسلّمة لذلك المذهب.

والقرآنُ الكريم يستفيد من الطريقتين، وهناك آيات كثيرة في هذا الكتاب السماوي لكلّ من هاتين الطريقتين.

أوّلاً: يأمر بالتدبّر والتفكّر المطلق في الكلّيات لعالَم الطبيعة وفي النظام العام للعالَم، وكذا في النظام الخاص، مثل: نظام السماء، والنجوم، والليل، والنهار، والأرض، والنبات، والحيوان، والإنسان وغيرها، ويُثني على التتبّعات العقليّة الحرّة ثناءً جميلاً.

ثانياً: يأمر بالتفكّر العقلي الجَدلي، ويسمّى عادةً بالمباحث الكلاميّة، بشرط أن يتمّ ذلك بأحسن وجه ممكن؛ وذلك لإظهار الحقّ بدون لجاجة وأن يكون مقروناً بالأخلاق الحَسَنة، كما في قوله تعالى: ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) .

____________________

(١) سورة النحل: الآية ١٢٥.

٨٥

٢. مَدى قِدَم الشيعة في التفكير الفلسفي والكلامي في الإسلام

منذُ اليوم الذي انفصلت الأقلّيّة الشيعيّة عن الأكثريّة السُنيّة، كانت الشيعة تُقيم الاحتجاج مع مخالفيها في النظريّات التي كانت تتبنّاها والخاصّة بها.

صحيح إنّ الاحتجاج ذو طرفين، والمتخاصمان شريكان في دعواهم، ولكنّ الشيعة كانت تقف موقف الهجوم، والآخرون كانوا في موقف الدفاع، فالذي يقف موقف الهجوم يجب أن يكون قد هيّأ الوسائل الكافية للمخاصمة، ومن ثُمّ الحَملة والهجوم.

وكذا في التقدّم الذي حَظت به المباحث الكلاميّة بصورة تدريجيّة في القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، فقد وصلَ في رُقيّه إلى القمّة مع انتشار مذهب الاعتزال، فعلماء الشيعة ومحقّقوهم، والذين هم تلاميذ مدرسة أهل البيت عق، كانوا في المقدّمة من المتكلّمين، فضلاً من أنّ متكلّمي أهل السُنّة (١) ، من الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، يصلون في تدرّجهم هذا إلى الإمام الأوّل للشيعة، وهو الإمام علي عس.

وأمّا أولئك الذين عَرفوا آثار الصحابة، واطّلعوا عليها، يعلمون جيّداً أنّ من بين جميع هذه الآثار التي تُنسب إلى الصحابة (وقد دوِّنت أسماء اثني عشر ألفاً)، لم نجد أثراً واحداً يشتمل على التفكّر الفلسفي.

وينفرد الإمام علي عس بخطابه وبيانه المُبهر في معرفة الله تعالى، بأنّه يتّصف بالتفكيرات الفلسفيّة العميقة جدّاً.

____________________

(١) شرحُ ابن أبي الحديد: أوائل المجلّد الأوّل.

٨٦

لم تكن للصحابة ولا التابعين الذين جاؤوا بعد الصحابة، والعرب بصورة عامّة في ذلك اليوم، أيّة معرفة بالتفكّر الفلسفي الحرّ، ولم نجد في أقوال العلماء في القرنين الأوّلين للهجرة، نماذج من التدقيق والتتبّع، بينما نجد الأقوال الرصينة لأئمّة الشيعة - وخاصّة الإمام الأوّل والثامن - تحتوي على كنوز من الأفكار الفلسفيّة، كما علّموا تلاميذهم هذا اللون من التفكير.

نعم، كان العرب بعيدين عن التفكّر الفلسفي، حتّى شاهدتُ نموذجاً منها في ترجمة بعض الكُتب الفلسفيّة اليونانيّة، المترجَمة إلى العربيّة في أوائل القرن الثاني للهجرة، وبعدها تُرجِمت كُتب متعدّدة في أوائل القرن الثالث الهجري من اليونانيّة والسريانيّة وغيرها إلى العربيّة، وآنذاك أصبحت طريقة التفكّر الفلسفي في متناول أيدي العموم.

ومع هذا الوصف، فإنّ الكثيرين من الفقهاء والمتكلّمين، لم يُبدوا اهتماماً بالفلسفة وسائر العلوم العقليّة، والتي وردت إليهم حديثاً، وإن كانت هذه المخالفة في بداية الأمر ذات أهميّة، بفضل الالتفات الخاص الذي كانت تُبديه السلطة الحاكمة آنذاك لمثل هذه العلوم.

ولكنْ بعد زمنٍ تغيّرت الأوضاع والأحوال، فمُنِعت دراسة هذه العلوم، وأُلقيَ في البحر بعض الكتب الفلسفيّة، وما كتابُ رسائل (إخوان الصفا) وهو من نتاج فكري لعديد من مؤلّفين، إلاّ مُذّكر بتلك الفترة، فهو خيرُ دليل على كيفيّة الأوضاع المضطربة في ذلك الزمن.

وبعد هذه الفترة، أي في أوائل القرن الرابع الهجري، ظهرت الفلسفة ونَمَت على يد (أبي نصر الفارابي) .

وفي أوائل القرن الخامس للهجرة، وإثر مساعي الفيلسوف المشهور (أبي علي سينا) اتّسعت الفلسفة اتّساعاً بالغاً.

وفي القرن السادس أيضاً، نقّح الشيخ السهروردي فلسفة الإشراق، وقد قُتل بهذه التهمة، وبأمرٍ من الحاكم (صلاح الدين الأيّوبي) ، وبعدها ارتحلت قصّة الفلسفة من بين الكثيرين، ولم يَنبُغ فيلسوف شهير، حتّى جاء القرن السابع الهجري، فظهرَ في الأندلس أطراف الممالك الإسلاميّة (ابن رشد الأندلسي) ، وسعى في تنقيح الفلسفة.

٨٧

٣. الشيعةُ يسعونَ دائماً بحقل الفلسفة وسائر العلوم العقليّة

الشيعة - كما أشرنا - كانوا عاملاً مؤثراً في إيجاد الفكر الفلسفي، ويُعتبرون عاملاً مهمّاً في تقدّم هذا الفكر، وكانوا يسعونَ دوماً في نشر العلوم العقليّة، ومع وفاة (ابن رُشد) ذَهبت الفلسفة من بين الأكثريّة من أهل السُنّة، ولكنّه لم يرحل من بين الشيعة، وبعدها اشتهر فلاسفة كبار مثل: (الخواجة نصير الدين الطوسي، وميرداماد، وصدر المتألهين) ، وسعى كلّ من هؤلاء الواحد بعد الآخر في تحصيل العلوم الفلسفيّة وتدوينها.

وكذلك في سائر العلوم العقليّة ظهرَ كلّ من: (الخواجة الطوسي) و (البيرجندي) وغيرهم، كلّ هذه العلوم وخاصّة الفلسفة الإلهيّة، تقدّمت تقدّماً باهراً إثرَ المساعي الدائبة لعلماء الشيعة ومفكّريهم، ويتّضح ذلك بمقارنة آثار كلّ من: (الخواجة الطوسي، وشمس الدين تَركه، وميرداماد، وصدر المتألّهين) مع مؤلّفات القدماء.

٤. لماذا استقرّت الفلسفة عند الشيعة؟

فكما أنّ العامل المؤثر في وجود ونشأة الفكر الفلسفي والعقلي بين الشيعة، هو آثار أئمّة الشيعة وعلمائهم، والتي بواسطتهم أصبحت من الذخائر العلميّة الشيعيّة لدى الآخرين،

٨٨

فإنّ بقاء واستقرار هذه اللون من الفكر، يرجع إلى وجود تلك الذخائر العلميّة، التي يهتمّ بها الشيعة ويُبدون لها احتراماً وتقديساً، ولكي يتّضح الأمر، يكفينا مقارنة الذخائر العلميّة لأهل البيت (عليهم السلام) مع الكُتب الفلسفيّة التي صُنّفت مع مرور الزمن، فإنّنا سنرى بوضوح، أنّ الفلسفة كانت تقترب من الذخائر العلميّة في أكثر الموارد، وحتّى مجيء القرن الحادي عشر، فإنّها كانت متقاربة جدّاً، بل منطبقة ولم يكن هناك فارق سوى اختلاف في التعبير.

٥. خمسةٌ من نوابغ الشيعة

١) ثقةُ الإسلام محمّد بن يعقوب الكُليني، المتوفّى سنة ٣٢٩ للهجرة.

هو أوّل عالِم شيعي، استخرجَ ورتّبَ الموضوعات الفقهيّة والاعتقاديّة من الروايات الشيعيّة التي كانت مدوّنة في الأصول، (الأصل: هو ما جمعهُ المحدِّث من روايات أهل البيت (عليهم السلام) في مصنّفٍ خاص) فسمّى كتابهُ (الكافي) وينقسم على أقسام ثلاثة:

الأصول، والفروع، والروضة (المتفرّقات)، ويشتمل على ١٦١٩٩ حديثاً، ويُعتبر هذا الكتاب من أشهر كُتب الحديث التي عُرفت في عالَم التشيّع، وهناك ثلاثة كُتب تأتي بعد (الكافي) من حيث الأهميّة وهي:

كتاب (مَن لا يحضرهُ الفقيه) للشيخ الصدوق محمّد بن بابويه القمّي، المتوفّى سنة ٣٨١ للهجرة، وكتاب (التهذيب) وكتاب (الاستبصار) لمؤلّفهما الشيخ الطوسي، المتوفّى سنة ٤٦٠ للهجرة.

٨٩

٢) أبو القاسم جعفر بن حسن بن يحيى الحلّي المعروف بالمحقّق، المتوفّى سنة ٦٧٦ للهجرة.

يُعتبر من نوابغ علم الفقه، ومن أشهر مشاهير فقهاء الشيعة، وما كتاب (المختصر النافع) (١) ، وكتاب (الشرائع) إلاّ من أروع ما حرّرهُ في الفقه، ومنذ ٧٠٠ سنة وحتّى الآن لا يزال مورد إعجاب وتقدير الفقهاء، وفي متناول أيديهم.

ومن الكتب التي تأتي بعد الكافي هو كتاب (اللمعة الدمشقيّة) ، لمؤلّفه المحقّق الشهيد الأوّل (شمس الدين محمّد بن مكّي) استشهدَ سنة ٧٨٦ للهجرة بتهمة تشيّعه، وقد دَوّن كتابهُ هذا بمستوى رفيع في السجن، خلال سبعة أيّام.

ويُعتبر كتاب (كشف الغطاء) للشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي، من أجود مؤلّفاته.

٣) الشيخ مرتضى الأنصاري التستري، المتوفّى سنة ١٢٨١ للهجرة.

نقّح علم أصول الفقه، وحرّر طُرق الأصول العمليّة، والتي تُعتبر من أهم أقسام هذا الفن، ولا تزال مدرسته (طريقته) قائمة، وموضع تقدير العلماء منذ ١٠٠ عام.

٤) الخواجة نصير الدين الطوسي، المتوفّى سنة ٦٧٦ للهجرة.

وهو أوّل مَن أظهرَ علم الكلام بصيغته الفنيّة الكاملة، ومن أشهر مؤلّفاته وأجودها كتاب (تجريد الكلام) ، ولا يزال ومنذ أكثر من ٧٠٠ سنة، لم يَفقد اعتباره بين روّاد هذا الفن، وقد طُبع الكتاب مع شروح وحواشٍ عديدة من قِبَل العامّة والخاصّة.

فهو فضلاً عن نبوغه في علم الكلام، يُعتبر من نوابغ عصره في علم

____________________

(١) وقد نَشَرت هذا الكتاب مؤسّسة البعثة في طبعتها الأخيرة.

٩٠

الفلسفة والرياضيات أيضاً، وخيرُ شاهد على ذلك: هو الكثير من مؤلّفاته المهمّة في مختلف العلوم العقليّة، وقد قامَ بإنشاء مرصد أيضاً.

٥) صدرُ الدين محمّد الشيرازي، المولود سنة ٩٧٩، والمتوفّى سنة ١٠٥٠ للهجرة.

هو أوّل فيلسوف قامَ بتصنيف وترتيب المسائل الفلسفيّة، كالمسائل الرياضيّة (بعد سيرها قروناً متمادية في العصر الإسلامي) بعد أن كانت مبعثرة، فَحَصلت النتائج التالية:

أوّلاً: فُسِح المجال للفلسفة بأن تُطرح وتُحلّ فيها مئات من المسائل الفلسفيّة، والتي لم يكن لها المجال أن تُطرح في السابق.

ثانياً: أُتيحَ المجال لعرض مجموعة من المسائل العرفانيّة (والتي كانت حتّى ذلك الوقت تُعتبر مواضيع خارجة عن نطاق العقل، وفوق مستوى الفكر الإنساني)، وبحثها وتمحيصها بأيسر السُبل.

ثالثاً: اتّضحَت كثير من الظواهر الدينيّة، والعبارات الفلسفيّة العميقة لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، والتي بقيت لقرون متتالية تتّصف باللغز الذي لا يُحلّ، وكانت تُعتبر من المتشابهات غالباً، وبهذا اتّصلت الظواهر الدينيّة بالعرفان والفلسفة في أكثر الموارد، وسَلكت سويّاً طريقاً واحداً.

وهناك مَن قامَ بهذه المهمّة قبل (صدر المتألّهين) أيضاً، مثل: الشيخ (السهروردي) مؤلّف كتاب (حكمة الإشراق) من فلاسفة القرن السادس، و(شمس الدين محمّد تَركه) من فلاسفة القرن السادس الهجري، حيث قاما بدراسات مثمرة، إلاّ أنّهما لم يوفّقا كاملاً، وقد حظيَ بهذه الموفقيّة (صدر المتألّهين).

وفِّقَ صدر المتألّهين إثرَ اتّخاذ هذه الطريقة أن يُثبت نظريّة الحركة الجوهريّة، واكتشفَ البُعد الرابع والنظريّة النسبيّة (خارج عن نطاق الذهن والفكر)، وصنّفَ ما يزيد على خمسين كتاباً ورسالة، ومن أهمّ كُتبه في الفلسفة كتاب (الأسفار) في أربعة مجلّدات.

٩١

الطريقُ الثالث: الكشف

١) الإنسانُ وإدراكه للعرفان.

٢) ظهور العرفان في الإسلام.

٣) إرشادُ الكتاب والسُنّة إلى معرفة النفس ومناهجها.

١. الإنسانُ وإدراكه للعرفان

في الوقت الذي تسعى الأكثريّة من الناس في أمور معاشهم، ورفع احتياجاتهم اليوميّة للحياة، غير مُبالين بالمعنويات، إلاّ أنّ هناك غريزة في وجودهم تُدعى غريزة حُبّ الذات، نراها تنمو عندهم، تجبرهم على إدراك مجموعة من القضايا المعنويّة.

كلّ إنسان (على الرغم من أنّ السوفسطائيين والشكّالين يسمّون كلّ حقيقة وواقعيّة خُرافة) يؤمِن بواقعيّات ثابتة، ونراه أحياناً ينظر بفطرته وضميره المنزّه إلى الواقعيات الثابتة في الكون، هذا من جهة.

٩٢

ومن جهةٍ أخرى، يَحسّ بفناء أجزاء هذا العالَم، فإنّه يرى العالَم وظواهره كالمرآة التي تعكس الواقعيّات الثابتة الخلاّبة، وعند إحساس لذّاتها، تُجعل اللذائذ الأخرى حقيرة في نظره، وبالتالي تَجعله ينصرف عن الحياة الفتّانة الفانية.

هذا هو مدى جاذبيّة العرفان التي تسلُك بالمؤمن إلى العالَم العُلوي، وتُقرّ في قلبه عظمة الله وجلاله، فينسى كلّ شيء ويغفل عنه، وتُحرِّضهُ على أن ينبذ كلّ ما يتمنّاه ويرجوه في هذه الحياة، وتدعوه إلى عبادة الله الذي لا يُرى، وهو أوضح من كلّ ما يُرى ويُسمع.

وفي الحقيقة أنّ هذه الجاذبيّة الباطنيّة، هي التي أوجدت في عالَم الإنسان سُبل عبادة الله تعالى، والعارف هو الذي يَعبد الله سبحانه عن حُبٍّ وإخلاص، لا عن أملٍ وثواب، ولا عن خوفٍ وعذاب.

من هنا يتّضح: أنّ العرفان ليس مذهباً في قِبال المذاهب الأخرى، بل العرفان طريق من طُرق العبادة (عبادة للحُب والإخلاص، لا للخوف والرجاء)، وهو طريق لدرك وفهم حقائق الأديان، في قِبال طريق الظواهر الدينيّة وطريق التفكّر العقلي.

كلّ الأديان الإلهيّة وحتّى الوثنيّة، لها أتباعها، فهم يسلكون هذا الطريق أيضاً، فلكلّ من: الوثنيّة، واليهوديّة، والمسيحيّة، والمجوسيّة، والإسلام، لها أُناس عارفون وغير عارفين.

٢. ظهورُ العرفان في الإسلام

من بين صحابة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (وقد جاء ذِكر ما يقارب من اثني عشر ألفاً من كُتب الرجال) ينفرد الإمام علي (عليه السلام) ببيانه البليغ عن حقائق العرفان، ومراحل الحياة المعنويّة، إذ يحتوي على ذخائر جمّة، ولم نجد مثيله في الآثار التي بأيدينا من بقيّة الصحابة،

٩٣

وأشهر أصحاب الإمام علي (عليه السلام) وتلاميذه: (سلمان الفارسي) ، و (أويس القَرَني) ، و (كميل بن زياد) ، و (رَشيد الهَجَري) ، و (ميثم التمّار) ، والعُرفاء عامّة في الإسلام يجعلون هؤلاء أئمّة وهداة لهم.

وهناك طائفة أخرى تأتي في الدرجة الثانية وهم: (طاووس اليماني) ، و (مالك بن دينار) ، و (إبراهيم الأدهم) ، و (شقيق البلخي) ، الذين ظهروا في القرن الثاني الهجري، وكانوا يُعرَفون بالزُهّاد وأولياء الله الصالحين، دون أن يتظاهروا بالعرفان والتصوّف، وعلى أيّة حال، فإنّهم لم ينكروا ارتباطهم ومدى تأثّرهم بالطائفة الأولى.

وهناك طائفة ثالثة ظَهرت في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث للهجرة مثل: (أبو يزيد البسطامي) ، و (المعروف الكرخي) ، و (جنيد البغدادي) وغيرهم، الذين سَلكوا طريق العرفان، وتظاهروا بالعرفان والتصوّف، ولهم أقوال تدلّ على مدى المكاشفة والمشاهدة لديهم، وإن كانت هذه الأقوال تتّصف بظاهرها اللاذع، إلاّ أنّها قد أثارت عليهم الفقهاء والمتكلّمين في ذلك العصر، وسبّبت المشاكل والفتن، فأدّت إلى أن يُزجّ بعضهم في السجون، والبعض الآخر يُقدّم إلى أعواد المشانق.

مع هذا الوصف، أبدَوا التعصّب لطريقتهم أمام المخالفين، فبهذا كانت الطريقة تتّسع وتنتشر يوماً بعد يوم، ونجدها قد وصلت إلى ذروتها في القدرة والانتشار في القرنين السابع والثامن الهجريين، حيث كانت تتّسم بالرفعة والعلوّ تارةً، والسقوط والانحطاط تارةً أخرى، ولا تزال تُمارس حياتها حتّى اليوم (١).

والظاهر أنّ أكثر مشايخ العرفان الذين جاء ذكرهم في كُتب العرفان،

____________________

(١) يُراجع: كُتب التراجم، وتذكرة الأولياء، والطرائق وغيرها.

٩٤

كانوا على مذهب أهل التسنّن، والطريقة التي نشاهدها اليوم (والتي تشتمل على مجموعة من عادات وتقاليد، لم نجد في الكتاب والسُنّة أساساً لها) تُذكّرنا بتلك الأيّام، وإن كان البعض من تلك العادات والتقاليد انتقلت إلى الشيعة.

وكما يقال: إنّ هؤلاء كانوا يعتقدون أنّ الإسلام يعوزهُ منهج للسير والسلوك، والمسلمون استطاعوا أن يصلوا إلى طريقة معرفة النفس، وهي مقبولة لدى الباري عزّ وجل، مثلَ ما في الرهبانيّة عند المسيحيين، إذ لم يوجد أساس له في الدعوة المسيحيّة، فأوجَدها النصارى وحبّذها جَمع وانتهجها (١).

ويُستنتج ممّا ذُكر: أنّ كُلاًّ من مشايخ الطريقة، جَعلَ كلّ ما رآهُ صلاحاً من عاداتٍ وتقاليد، في منهج سيره وسلوكه، وأمَرَ مُتّبعيه بذلك، وبمرور الزمن أصبحَ منهاجاً وسيعاً مستقلاً، مثل: مراسم الخضوع والخشوع، وتلقينُ الذِكر والخرقة، والاستفادة من الموسيقى والغناء عند إقامة مراسم الذِكر، حتّى آلَ الأمر في بعض الفِرَق منها أن تَجعل الشريعة في جانب، والطريقة في جانب آخر، والتحقّ متّبعو هذه الطريقة بنهج الباطنيّة، ولكنّ المعايير للنظريّة الشيعيّة، استناداً على مصادر أساسيّة للإسلام (الكتاب والسُنّة) تقرّ خلاف ذلك، ومن المستحيل أنّ النصوص الدينيّة قد تغافلت عن هذه الحقيقة، أو إن أهمَلَت جانباً من جوانب هذا النهج والطريق، ويستحيل عليها أيضاً أن تغضّ النظر عن شخصٍ (أيّاً كان) من واجبات أو محرّمات.

____________________

(١) قولهُ تعالى في سورة الحديد، الآية ٢٧: ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ ) .

٩٥

٣. إرشاد الكتاب والسُنّة إلى معرفة النفس ومناهجها

إنّ الله تعالى جلّ شأنه، يأمر الناس في آيات متعدّدة في كتابه المجيد، أن يتدبّروا القرآن، ويعملوا به، ولا يقنعوا أنفسهم بالفهم والإدراك السطحي للقرآن، وبيّنَ في كثيرٍ من آياته أنّ عالَم الطبيعة بما فيها (دون استثناء) آيات ودلالات، لهُ جلّ جلالهُ.

فلو تأمّلنا وتدبّرنا معنى الآية والدلالة، يتّضح أنّ الآية والدلالة هي التي تشير إلى شيء آخر لا إلى نفسها، فعلى سبيل المثال: إنّ الذي يرى الضوء الأحمر المُشعِر بالخطر، فإنّه مع مشاهدته للضوء يتبادر إلى ذهنه الخطر ذاته، ولا يلتفت إلى الضوء نفسه، وإذا ما فكّر في الضوء نفسه، أو ماهيّة الزُجاج أو لونه، فذهنه يُصوِّر له الضوء أو الزجاج أو اللون، ولا يُصوّر له مفهوم الخطر.

إذاً، إذا كان العالَم وظواهره، آيات ودلالات لخالق العالَم، فإنّ وجودها ليست مستقلّة، ولو شوهِدت بأيّ شكلٍ أو أيّة صورة، فإنّما تَرشد إلى وجوده سبحانه، والذي ينظر إلى العالَم والعالَمين بهذا المنظار، ووفقاً لتعاليم القرآن الكريم وهدايته، لا يرى إلاّ الله سبحانه، وبَدلاً من أن يرى جمال العالَم، فإنّه يرى جمالاً أزليّاً غير متناهٍ، والذي يتجلّى من هذه الزاوية (زاوية العالَم)، وعندئذٍ يهب حياته، وينسى ذاته، ويفنى في حُبّ الله جلّ شأنه.

وهذا الإدراك - كما يتّضح - لا يحصل عن طريق الحواسّ: كالعين، والأُذن، ولا عن طريق الخيال والعقل؛ لأنّ هذه لم تكن سوى آيات ودلالات، فهي في غفلةٍ عن هذه الدلالة والهداية.

وهذا الطريق، الذي لابدّ لسالكه أن ينسى كلّ شيء سوى الله تعالى، عندما يستمع إلى قوله في كتابه المجيد:

٩٦

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

سيعلم أنّ الطريق الرئيسي الذي ينتهي به إلى الهداية الواقعيّة والكاملة: هو طريق النفس الإنسانيّة، والمُرشد الحقيقي له هو الله تعالى، فقد كلّفهُ بمعرفة نفسه، وأن يسير في هذا السبيل، بتركه للسُبل الأخرى ليرى الله من هذه الطريق، فإنّه سيدرك مطلوبه الحقيقي.

والنبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (مَن عرفَ نفسهُ، فقد عَرف ربّهُ).

ويقول أيضاً: (أعرَفكم بنفسهِ، أعرَفكم بربّه).

وأمّا طريقة السير والسلوك - وهي طريقة الكثير من الآيات القرآنيّة التي تأمر بذكر الله تعالى، كقوله: ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) (٢) وغيرها من الآيات في الكتاب، والأقوال في السُنّة - فقد جاءت مفصّلة، ويختتمها بقوله: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣) .

وهل من الممكن أن يُتصوّر أنّ الإسلام يُعرِّف لنا الطريق إلى الله تعالى، ولا يحثّ الناس على تتبّعه، أو أن يُعرِّفه ويغفل عن تبيان نهجه أو أن يهمله، في حين نجده يقول عزّ مَن قائل:

( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (٤) .

____________________

(١) سورة المائدة: الآية ١٠٥.

(٢) سورة البقرة: الآية ١٥٢.

(٣) سورة الأحزاب: الآية ٢١.

(٤) سورة النحل: الآية ٨٩.

٩٧

٩٨

الفصلُ الثالث: المُعتقدات الإسلاميّة من وِجهة نظر الشيعة الإماميّة

٩٩

١) النظر إلى الكون عن طريق المخلوقات والواقعيّات، ضرورة وجود الله تعالى.

٢) نظرةٌ أخرى عن طريق ارتباط الإنسان بالمعالِم.

٣) الذاتُ والصفات.

٤) معاني صفات الله تعالى.

٥) مزيدٌ من التوضيح في معاني الصفات.

٦) صفاتُ الفعل.

٧) القضاءُ والقدر.

٨) الإنسان والاختيار.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206