الوهابيون والبيوت المرفوعة

الوهابيون والبيوت المرفوعة33%

الوهابيون والبيوت المرفوعة مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 111

الوهابيون والبيوت المرفوعة
  • البداية
  • السابق
  • 111 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47351 / تحميل: 4957
الحجم الحجم الحجم
الوهابيون والبيوت المرفوعة

الوهابيون والبيوت المرفوعة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الوهّابيّون

والـبيوت المـرفوعة

الشيخ محمد علي بن حسن

الهمداني السنقري الكردستاني

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

( في بيوت أذن الله أن تُرفعَ ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ والاصال )

( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلبُ فيه القلوب والابصار )

القرآن الكريم، سورة النور (٢٤)، الايتان (٣٦ - ٣٧)

٣

٤

المؤلّف والكتاب

المؤلّف:

ولد في السابع من جمادى الاُولى عام ١٢٩٣، وكان والده من علماء مدينة همدان في غرب إيران، فأخذ منه ومن جمع من علماء عصره وتعلّم اللّغات المختلفة منها «العبرية والسريانية، عند أحد القساوسة الذي اعتنق الاسلام، وهو فخر الاسلام صاحب (أنيس الاعلام) فكان يحاجج اليهود والنصارى، بما في كتبهم، وهدى الله جمعاً منهم إلى الاسلام على يديه وهاجر إلى المحاضر العلمية، وأخذ منها ما يروي الغلة.

ثمّ استقر في مدينة (سنقر) الكردستانية في إيران، لتبليغ الاسلام، فكانت له محاضر ومجالس ضخمة، وعلى يديه اهتدى جمع كثير من اصحاب المذاهب الاُخرى لقوة حجّته وسلامة منطقه.

وتوفي في شهر محرم عام ١٣٧٨هـ في زيارة له إلى العراق، له مؤلّفات عديدة، نشر بعضها.

٥

هذا الكتاب:

الّفه الشيخ العلامة السنقريّ، لمّا قام اصحاب الفرقة بهدم بعض المساجد والبيوت المنسوبة إلى زوجات النبي اُمهات المؤمنين وبعض الصحابة الكرام، وكذلك ما كان لاهل البيت النبويّ الطاهر وقرباه، من البيوت والمشاهد والقباب التي كانت تظلّل قبورهم، ويستظلّ بها الذين كانوا يصلون إلى هذه الاماكن لتجديد الذكرى بأصحابها.

مع أن القاصدين لهذه المواضع كانوا من طوائف المسلمين والمذاهب المختلفة وكلها تجوّز قصدها للتقرّب إلى الله عزّوجلّ بتجديد العهد مع الله بمشاهدة تلك الاماكن التي وقعت فيها حوادث السيرة النبويَّة، ووضعت فيها جثثت شهداء الاسلام، ومع أن الفقهاء للمذاهب يجوّزون زيارة تلك المواضع، اعتماداً على أدلة الكتاب والسنّة والاجماع إلاّ أن الدعاة حاولوا تحكيم رأيهم وفرض فتاواهم، على سائر المسلمين، ولقد قاموا بهدم تلك البيوت، على فتاوى من علمائهم.

وقد ألّف علماء المسلمين في هذا كتباً قيّمة، للاستدلال على بطلان تلك الفتاوى ومنها هذا الكتاب.

وقد احتوى على الاجابة عن كل الادلّة التي ذكرها مؤسس الفرقة وإمامها في كتابه الموسوم بـ (كشف الشبهات) وهو أهم كتبه في هذا الباب.

قدّم المؤلّف لكتابه مقدمة قصيرة، مركّزاً على أهم ما قصدهُ في جوابه هذا.

ثمّ بناه على مقامات ثلاثة:

المقام الاول: في أنّ مجرّد دعاء شخص لشخص، ليس عبادة من الداعي، للمدعوّ، فالعبادة تحتاج إلى أكثر من مجرّد الدعاء، وهو قصد العبودية من الداعي والالوهية في المدعوّ:

٦

فالاستغاثة بالانبياء والائمة والاولياء بجعلهم وسائط إلى الله، لقربهم منه، ليس عبادة لهم، بل هو عبادة له، لانّه أمرنا بهذا.

ومثل ذلك الاستشفاع بهؤلاء.

ثم أثبت الادلة على ثبوت الشفاعة للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأجاب عن أدلّة الوهابيّة في إنكارها وكل ذلك في المقام الثاني.

وأثبت أنّ الاستشفاع يتحقّق في الحيّ والميّت بلا فرق، لورود ذلك في الادعية والزيارات المأثورة، كما عليها سيرة الامة الاسلامية، مدى العصور والقرون الاُولى التي هي خير القرون، وعلى طول الاعوام المتعاقبة.

ولانّ الذين يزورهم المسلمون: أحياء في قبورهم يرزقون، بنصّ الكتاب والسنّة.

وفيه الردّ على التفريق بين الحياة والموت في شأن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)والتوسّل به.

وكذا الدعوى على المسلمين كافة، بقصد الشرك وغيره من الباطل، رجماً بالغيب وافتراء وبهتاناً.

وفي المقام الثالث: أتيت الاوامر الشرعيّة بالتوسل والاستغاثة وزيارة الاموات وبناء الضرائح والقباب.

والجواب عن الشبهات بدعوى أن البناء تصرّف في الارض المسبلة والوقف.

وإثبات أنّ قباب آل البيت في البقيع، كانت ملكاً لهم، لا وقفاً مُسبّلاً.

والاجابة عن شبهة تسنيم القبور، وعن حرمة زيارة القبور.

وفيه شىء من انتهاك اولئك لحرمات الاموال والدماء عندما سيطروا على الحرمين والطائف.

٧

وفي الخاتمة: أورد المؤلّف الاحاديث النبوية التي دلّت على ظهور هذه الفرقة، وحذّرت منها، وهي من (دلائل النبوّة ومعاجزها).

إن المؤلّف العلامة، عرض جميع هذه المواضيع، بشكل هادىء، ومستند وقويّ، وأوجز في العرض بشكل رائع وواضح.

وناقش بحجج علمية متينة، ممّا دلّ على امتلاكه لازمّة العلم والتحقيق.

عملنا:

وقد قمنا بإخراج الكتاب في حلّة حديثة، مع التعريف بالمؤلّف، وتوزيع الكتاب بشكل فنّي، ووضع العناوين اللازمة في مواقعها بين المعقوفتين.

كما قمنا بتخريج الاحاديث المهمة للتسهيل والتوثيق.

وعملنا فهارس للايات والاحاديث والالفاظ تسهيلاً على المراجعين.

والحمد لله على إحسانه ونسأله الرضا عنا بجلاله وإكرامه إنّه ذو الجلال والاكرام.

لجنة التحقيق

٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[المقدّمة]

الحمدُ لله الذي توحيدُه في تنزيهه، وغاية معرفته في تقديسه. تفرّد بالكبرياء والاحَديّة، وتسربل بالعظمة والمعبوديّة.

والصلاة والسلام على من اصطفاه الله واختاره واجتباه، ختم به النبوّة، وحباه بالوسيلة والشفاعة، فصدع بأمره في أُمّته، وقَرَنَ بين كتاب الله وعترته، بعد أن اختصّهم بفرض المودّة واتّباع الاُمّة.

محمّد وآله الذين صلّى الله عليهم وسلّم تسليماً، وأذْهِبْ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وبعدُ: فإنّي بعدما أسلفتُ شطراً من الكلام فى الجواب عمّا كان قد نسجته أوهام ابن تيميّة في شبهاته، وأورده في «منهاج سُنّته» فقد ظفرت اليوم برسالة اُخرى للمقتفي آثاره مرجع الوهّابيّين «محمد بن عبد الوهاب» الموسومة بـ «كشف الشبهات» في التشكيك بالمتشابهات.

فمحصّل الجواب عمّا نسجه بوهمه وتشكيكه في رسالته لمعنى العبادة والشرك ; بأنّ دعآء الغير عبادة له، والتوسّل به عبوديّة له، منافية لتوحيد الله والاخلاص به.

٩

[الفرق بين الدعاء، والعبادة]

هو أنّه لا ريب في أنّ مطلق الدعاء للغير ليس عبادة له ولا مطلق الاستغاثة والاستعانة به عبوديّة له ; ضرورة افتقار العباد في حاجاتهم ونيل أمورهم في عاديّاتهم، بل وفي عباديّاتهم، كما أمر الله تعالى بالتعاون على البرّ والتقوى.

وكذا لاشبهة في أنّ مطلق الخضوع والانقياد وخفض الجناح لغيره تعالى، ليس بعبادة له، ومنافية لتوحيد الله والاخلاص له تعالى.

فلو كان مطلق التعاون والاستعانات والاستغاثات والتوسّلات شِركاً، لكان الوّهابيّون بذلك أوّل المشركين. ولو كان مطلق الخضوع والانقياد والخفض للغير شركاً في عبادة الله، لما أمر الله تعالى به، ولكان الامر بالسجدة في قوله تعالى لملائكته:( اُسجُدُوالادَمَ ) أمراً بالشرك؟!

وكان لابليس أن يعترض عليه سبحانه في ذلك، فيقول:

ياربِّ لِمَ تأمُرني بالسجودِ لِغيِرِك، وهوالشرك المنافي لتوحيدك والاخلاص لك!

ولكان الاستدلال بذلك أولى من استدلاله بالقياس الفاسد.

ولكان إبليس بامتناعه هذا من السجدة أوّل الموحّدين، كمازعمه جمع من الصوفيّة، وقاله بعضهم في «فصوص حكمه»، وتبعه أتباعه في شروحهم عليه، فالمدار على الحقائق دون الصور!

فلو كان مطلق الخضوع شركاً وعبادة للغير، لكان خضوع العبيد للموالي والرعايا للرؤساء والملوك، والزوجات للازواج والتلميذ للمعلّم، كلّها خضوعاً لغير الله وشركاً به وعبادة لغيره!

ولم يقل به أحد، ومعه لا يقوم حجر على حجر.

١٠

ولو كان ذلك شِرْكاً في عبادته، لكان تقبيل الحجر الاسود واستلامه عبادته!

ولكان مسّ الاركان والتبرّك بها عبادتها!

ولكان أمر الله لبني إسرائيل في أريحا يوم دخول القرية بالخضوع لباب حطّة.

وأمر الله نبيّه بخفض الجناح لمن اتّبعه من المؤمنين.

وأمر الله عباده بالخفض للوالدين، والزوجة للزوج. كل ذلك أمراً بالشرك؟!

ولكان يعقوب وولده بسجودهم ليوسف حين خرّواله ساجدين، وكلُّ من أُولئك في خضوعهم المأمورين به مشركين؟!

وذلك لوضوح أنّ كلّ هذا إنّما هو عبادة الامر بها، لا عبادتها إيّاها.

سبحان الله.

ما أجهل المعترضين على الايات، وما أغفلهم عن البيّنات.

وما أشدّ إعراضهم عن المحكمات إلى المتشابهات.

[حقيقة العبادة]

فليس ذلك إلاّ لانّ العبادة ليس المراد منها معناها اللغوي - أعني مطلق الطاعة والدعاء -. بل إنّما حقيقة العبادة هي مجرّد الطاعة والامتثال لامر الله الواجب وجوده، العظيم لذاته ; ونفسُ الانقياد وإتباعه بكلّ ما أمر به دعاءً كان أو نداءً أو خضوعاً أو سجدة أو توسّلاً أو استشفاعاً إلى غير ذلك، ممّا يرجع إليه بالاعتبار اللفظي أو العقلي أو العادي. وتدور العبادة والشرك - وجوداً وعدماً - مدار الطاعة والانقياد بقصد الامتثال والاستقلال في المألوهية ; بمعنى أنّ العبادة

١١

هي ما قُصد به الامتثال بداعي الامر بها مطلقاً.

[حقيقة الشرك]

وأمّا الشرك: فهو تشريك الغير بالاستقلال في المعبوديّة، واتّخاذه دون الله أو مع الله بالالوهية. فما هذا التمويه والمغالطة؟! وما هذا الخلط الظاهر وخبط العشواء؟! وما أغفلهم عن كلمات الله؟! وليتهم تعلّموا من إبليس ; حيث إنّه لم يَرَ الامر بالسجدة للغير شرْكاً بالله منافياً لتوحيده تعالى.

بل، ودرى بها - من حيث إنّها مأمور بها - عين توحيده وعبوديّته، فلم يردّ على الله بشيء من ذلك، إلاّ باختياره عصيانه ومخالفته، وسلوكه مسلك الاستكبار بحسده وعُتُوّه وكِبْره وغُلُوّه، ولذلك طغى وعصى وتمرّد وأدبر واستكبر فكفر.

[منكرو الشفاعة]

وأمّا الذين ينكرون ويجحدون ما جاء في مأثور السُّنّة ; من الاستشفاع إلى الله بالانبياء والاولياء، فحق أن يُتلى فيهم قوله تعالى:( أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبْرَاهِمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَ آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عظيماً ) .

فلا يُغرّنّك الانتساب إلى التوحيد، ولا تلاوة آيات الله المجيد.

ولا تحكُمْ بأوّلِ ما تراهُ فأوّلُ طالع فجرٌ كذوبُ

ها هنا مقامات

الاوّل: بيان جواز مطلق الدعاء للغير والاستعانة بالغير، وأنّها لا تكون شركاً

١٢

بالله وعبادة لغيره.

الثاني: ثبوت الشفاعة - من حيث الكبرى - للشافعين من الانبياء والمرسلين، بل وغيرهم من المؤمنين، وأنّها تعّم الاحوال والنشآت دنياً أو آخرة ; حيّاً كان الشفيع أو ميّتاً.

الثالث: ثبوتها - من حيث الصغرى - بالعمومات الواردة في الاستشفاعات والتوسّلات ; كتاباً وسُنّة وإجماعاً وعقلاً.

١٣

المقام الاوّل

[أن مطلق الدعاء ليس عبادةً ولا شركاً]

قد ظهر ممّا تقدّم في معنى العبادة والشرك ما يُعرف به فساد ما ادّعاه المتكلّف.

[هل الدعاء عبادة؟]

فقوله: «والدعاء مخّ العبادة...» إلى آخره.

تمويه في استدلاله بالمغالطة الواضحة، وما اكتفى به حتّى بنى عليها قذفه لعباد الله وموحّديه بالشرك والارتداد، وسعى في خراب العباد والبلاد، فهاك فصيح الجواب عنها بالاشارة إلى موضع تمويهه:

أمّا قوله: «فإنّ الدعاء مُخّ العبادة».

فمسلّم، كما هو المرويّ عن أئمّتنا - سلام الله عليهم - لكن هذه المغالطة غير مُجدية لدعواه، فإنّه إن جعلها صُغرى لقياسه ; بأن يقول: الدعاء مُخّ العبادة، وكلّ

١٤

عبادة لغير الله شِرك.

قلنا: وهل يخفى على أحد أنّ قوله ذلك لا يصحّ منه إلاّ قضيّة شخصيّة، وهي دعاء الله، فإنّ دعاءه يكون مخّ عبادته ; من حيث معرفته والالتجاء إليه، والاعتراف بأنّه الاله الواحد القادر المطلق.

وأين هذا من دعائي ولدي، وأقول: يا فلان أعطني كذا، أو توسّط لي عند فلان بكذا.

هذا، وإن زعم أنّها كلّيّة ; بمعنى: أنّ كلّ دعاء من كلّ أحد لكلّ أحد في كلّ عنوان، هو عبادة له ومخّ العبادة.

فهذا الزعم واضح البطلان، فلينظر إلى أصحابه وعلمائه وأُمرائه، فكم يدعو وينادي الرجل منهم غيره، ويستعين به في حوائجه في حَلّهم وارتحالهم، وسلمهم وحربهم، وقضائهم وسياستهم.

فهل كلّ هذا عبادة لغير الله وشِرْك به؟! وهل كلٌّ منهم مشركون؟!

[الاستغاثة بالوسائط]

وأمّا قوله فيما استشهد به من قول الله في سورة القصص:( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فقد دلّت الاية على جواز الاستغاثة بالمخلوق في إبقاء الحياة ; وحفظ النفس من الهلكة; أولغيرذلك من الغايات، كمااستشهدبه هولذلك،وناقض به دعواه الاولى.

وأمّا دعواه جواز حصرها في أمر الدنيا وفيما هو المقدور للعباد من الاحياء بزعمه وقياسه.

فإنّما تردّها الايات المطلقة التي استدلّ بها على دعواه ; حسبما ادّعاه على أنّ

١٥

مطلق الاستعانة بالغير والابتهال إليه والتضّرع لديه شرْك به تعالى.

على أنّه يردّها قوله تعالى في غير موضع من القرآن( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ ) .

حيث دلّت الاية على لزوم الدعاء إلى الله في قضاء الحاجات، والنجاة من الهلكات منه سبحانه تعالى، وأنّ ما عداه شِرْك مُناف للاخلاص.

وعليه يلزم التناقض بين الايتين.

ودفعه لا يكون إلاّ بدعوى: أنّ الاستعانة بالغير على وجه الاستقلال والاستبداد - بإلغاء ذي الواسطة - فيكون شركاً مُنافياً للعبادة والخلوص، كما تقدّم في معنى الشرك.

وهذا من غير فرق بين جعل الواسطة في الاُمور المتعلّقة بهذه النشأة أو غيرها ; حيث إنّ الشرك حرام شرعاً وقبيح عقلاً، وحكم العقل ليس قابلاً للتخصيص ولا التبعيض، وقد قَبِله الشرع مع اتّحاد المناط في الحرمة.

[أدلة المنع من الاستشفاع]

فدعوى المتكلّف: أنّ الاستشفاع بغير الله شرك، مستدلاّ:

تارة بقوله:( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ ) .

وأخرى بقوله تعالى:( وَلاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَن اِرْتَضَى ) .

ومرّة بقوله تعالى في سورة سبأ:

( وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) .

وتارة بقوله تعالى في سورة طه:( يَوْمَئِذ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ) .

وأُخرى بقوله تعالى:( مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى ) .

١٦

إلى آخر ما استشهد به لدعواه.

[الردّ على ذلك]

فقد يردّها: أنّ الشفاعة من المعاني النسبيّة القائمة بالطرفين، نظير العقود والمعاملات القائمة بالموجب والقابل، فمتى لم يرضَ المُشفِّع، كما لو لم يشفع الشفيع، تقع الشفاعة لغواً.

فعدم الشفاعة تارة لفقد المقتضي، أعني قابليّة الشفيع للشفاعة، أو المشفَّع له.

أو لوجود مانع هناك ; أعني بلوغ المعصية إلى حدّ تمنع عنها حسبما نراه في المتعارفات الخارجية.

[الادلة على جواز الشفاعة]

مضافاً إلى دلالة غير واحدة من الايات عليه، مثل قوله:( إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح) الاية، حيث نهى الله نبيّه من الشفاعة في ولده ; لانّه قد بلغ في المعصية والمخالفة مالا تصحّ معها الشفاعة له.

ومثله قوله تعالى: أمّا في المنافقين ففي موضعين من القرآن:

أحدهما: في سورة براءة (التوبة):( إنْ تَسْتَغفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

والاُخرى: في سورة المنافقين قوله تعالى:( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

وأمّا في المشركين فقوله تعالى في سورة براءة (التوبة):( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالّذِينَ آمَنُوا أن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )

١٧

، فتأمّل في قوله( مِنْ بعْدِ مَا تَبَيَّن ) ولا تغفل.

وقال بعض المفسّرين في قوله تعالى في سورة المدثّر:( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) : إنّ معناه لا شافع ولا شفاعة، فالنفي راجع إلى الموصوف والصفة معاً، والاية من باب( لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ) من حيث إنّها سالبة بانتفاء الموضوع.

بل، وإذا اشتدّ المانع تجافى الشفيع عن الشفاعة.

وربّما ينقلب الشفيع خصيماً، كما في سورة نوح قوله تعالى:( رَبِّ إنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ) ، وهذا معنى قوله:( وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ) وقوله:( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) ، فمتى صحّ الاذن صحّت الشفاعة، ومتى لم يأتِ الاذن تقع الشفاعة لغواً، والطلب من المشفَّع له باطلاً.

وهذا لا دخل له بحديث الشرك وتضمّن بعض الايات غايتها الدالة على أنّ العبادة للشفيع بإزاء شفاعته يكون شركاً باطلاً، لا أنّ جعل الشفيع يكون كفراً وارتداداً.

بل يكون أمراً راجحاً يحكم به ضرورة العقل، فضلاً عن الشرع، كما سيجيء بيانه في المقام الثاني.

[استدلال آخر لنفي الشفاعة]

وأمّا الجواب عن ]استدلاله بـ [ قوله تعالى في سورة مريم:( لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) .

فليس في ظاهر الاية أنّ المقصود منها خصوص أنّ المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم، أو خصوص أنّهم لا يملكون شفاعة غيرهم لهم.

١٨

لانّ المصدر كما يجوز ويحسن إضافته إلى الفاعل، كذلك يجوز ويحسن إضافته إلى المفعول.

إلاّ أن نقول: إنّ حمل الاية على الوجه الثاني أولى ; لانّ حملها على الوجه الاوّل يجري مجرى إيضاح الواضحات، فإنّ كلّ أحد يعلم أنّ المجرمين الذين يُساقون إلى جهنّم وِرْداً، لا يملكون الشفاعة لغيرهم، فتعيّن حملها على الوجه الثاني.

[الاية صريحة في إثبات الشفاعة]

بل الاية صريحة في الاستدلال بها للشفاعة لاهل الكبائر لقوله تعالى:( إلاَّ مَنِ اتَّخَذَ ) فكلّ من اتّخذ عند الرحمن عهداً بالتوحيد والاسلام أو الايمان بالله، فهو ممّن يجب أن يكون داخلاً تحت هذه الاية، فالاية بظاهرها حجّة عليهم، لالهم.

[التقرّب بالاصنام]

وأمّا قوله تعالى عن المشركين في سورة الزمر:( مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى ) .

فلوضوح أنّ المذمّة واللوم لم تكن على اعتقاد الشفاعة أو التقرّب إلى الله زُلفى، بل على العبادة الحقيقيّة منهم لاصنامهم، بأنّ لهم مع الله تعالى التصرّف الاستقلالي في الاكوان، وعلّلوها: بأنّا لا نقدر على عبادة الله، فنكتفي بعبادة هؤلاء الاصنام.

[الايات المانعة عن الاستشفاع خاصة]

وأمّا الجواب عن [الاستدلال بـ ]سائر الايات كلّها:

١٩

أنّها مختصّة بالكفّار ; جمعاً بينها وبين الادّلة.

فإنّها بين ما سيقت لذلك، ولدفع توهّم الاستقلال بالشفاعة، مع بيان عظمة الله وكبريائه، وأنّه لا يُدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده شفاعة وضراعة ; فضلاً عن أن يدافعه عناداً أو مناصبة.

كما في قوله تعالى:( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإذْنِهِ ) .

فالاية مُثبتة للشفاعة، و نظيرها الايات السابقة التي استدلّ بها المتكلّف.

وتؤكّدها الاستثناءات الكاشفة عن ثبوتها.

قال الرازي في قوله تعالى:( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ ) : استفهام معناه الانكار والنفي، أي لا يشفع عنده أحد إلاّ بأمره، وذلك أنّ المشركين كانوا يزعمون أنّ الاصنام تشفع لهم، وقد أخبر الله عنهم: أنّهم يقولون: هؤلاء شفعاؤنا، ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زُلفى.

فأخبر الله أنّه لا شفاعة عنده لاحد إلاّ من استثناه الله بقوله:( إلاّ بإذنه ) .

ونظيره قوله في سورة النبأ:( يَوْمَ يُقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقَالَ صَوَاباً ) إنتهى.

وفي سورة النجم:( وَكَمْ مِنْ مَلَك فِي السَّمَواتِ لاَتُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ إلاّ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) .

وبين ما نزلت ردّاً للمشركين من عَبَدة الاصنام، ورغماً عمّا كانوا يزعمونه من الشفاعة لالهتهم.

كما في سورة بني إسرائيل (الاسراء):( قلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ) .

وكما في سورة سبأ في قوله تعالى:( قُلِ ادْعُو الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ

٢٠

يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّة ) إلى قوله:( وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلاَّ ) .

وَكَما في قوله تعالى في سورة الزمر:( أَم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ * قُلْ للهِِ الشَّفَاعَةُ ) .

والعجب من المتكلّف حيث أعجبه التمسّك بهذه الاية في منع الاستشفاعات في غير موضع من كتابه.

وهي كما ترى، والمغالطة في إسقاطهم لصدر الاية كما عرفت.

ومثلها ما في سورة يونس:( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَالاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ ) .

وفي سورة الروم:( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الُْمجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ) .

وفي سورة الاعراف:( يَوْمَ يَأتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا ) .

وفي سورة الكهف:( وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ) .

وفي سورة الانعام( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةِ بَاسِطُوا أَيدِيهُمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ.. ) إلى قوله:( وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاء ) إلى غيرها فانها صريحة وافية للمقام.

وبين ما سيقت للردّ على مقالة اليهود ; حيث قالوا: نحن أبناء الانبياء، وآباؤنا يشفعون لنا.

فأجابهم الله بقوله تعالى في سورة البقرة:( وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

وقال تعالى في هذه السورة:( وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً وَلاَ

٢١

يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

قال المفسّرون: إنّ حكم هذه الايات مختصّ باليهود ; حيث قالوا: نحن أبناء الانبياء وآباؤنا يشفعون لنا، فآيسهم الله من ذلك، فخرج الكلام مخرج العموم، والمراد به الخصوص.

أقول: وهب أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصيّة السبب، إلاّ أنّ تخصيص مثل هذا العامّ بمثل هذا السبب المخصوص، ممّا يكفي فيه أدنى دليل ; وكيف بالدلائل القطعيّة القائمة للشفاعة؟! فيخصّص بها قطعاً.

فسقط الاستدلال بالنكرة في سياق النفي تارة.

وبعدم الانتصار اُخرى.

وبعدم إجزاء نفس عن نفس ثالثة.

وهكذا الكلام في نظائرها.

وبين ما سيقت لبيان شدّة الموقف وأهواله، وأنّه - يومئذ - لا ينفع الكفّار بيعهم وخلّتهم وشفاعتهم - بعضهم - في دفع العذاب عن خليله أو مولاه:

مثل ما في سورة الدخان قوله تعالى:( يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ ) .

وقوله في سورة البقرة:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِن قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ) .

قال الرازي: لما قال:( وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ) أوهم ذلك - أي ألخُلّة والشفاعة مطلقاً - فذكر تعالى عقيبه:( والْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ليدلّ على أنّ ذلك النفي مختصّ بالكافرين، وعلى هذا التقدير تكون الاية دالّة على إثبات الشفاعة في حقّ الفسّاق.

وبين ما لبيان أنّ الشفاعة الثابتة مختصّة بالمرضيّين:

٢٢

كقوله تعالى في سورة طه( يَوْمَئِذ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) .

وقوله تعالى:( وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ) أي لمن ارتضى الله دينه، وسيأتي بيانه.

أو لبيان أنّ المجرمين غير قادرين على الشفاعة إذ لا يملكونها:

كما في سورة مريم قوله تعالى:( وَنَسُوقُ الُْمجْرِمِينَ إلَى جَهَنَّمَ وِرْداً * لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ ) ألا تنظر إلى قوله بعده:( إلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) إلى غير ذلك.

٢٣

٢٤

المقام الثاني

[ثبوت الشفاعة في العقيدة الاسلاميّة]

اعلم: أنّ الشفاعة أن يستوهب أحد لاحد شيئاً، ويطلب له حاجة، وأصلها من الشفع الذي هو ضدّ الوتر، كأنّ صاحب الحاجة كان فرداً، فصار الشفيع له شفعاً، أي صارا زوجاً.

وقد أجمع المسلمون كافّة على ثبوت الشفاعة، خلافاً للخوارج وبعض المعتزلة، حيث خصّوها بزيادة المنافع للمؤمنين ورفع درجات المثوبين والمستحقّين.

مع ضرورة حكم العقل بحسن العفو عن الكبائر وصريح الُمحْكمات من الكتاب والسُّنّة، كما سيجيء ذكرها.

مع ما عرفت من الجواب عمّا تمسّك به المانع المتكلّف من المتشابهات.

٢٥

[الاجماع على الشفاعة]

ولو لم يقم الاجماع على ثبوتها بهذا المعنى، وكانت الشفاعة بحيث يصحّ إطلاقها على مجرّد طلب الزيادة، لكنّا شافعين للرسول بقولنا: «اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد».

ضرورة أنّا لم نطلب له(صلى الله عليه وآله وسلم)إلاّ الزيادة في فضله.

وحيث بطل هذا القسم تعيّن الثاني.

لا يقال: إنّ ذلك إنّما كان لوضوح علوّ رتبة الشفيع على المشفوع له وانحطاطهم عنه، وإنّ غرض السائل من الصلوات هو التقرّب بذلك إلى المسؤول ; وإن لم يستحقّ المسؤول له بذلك السؤال منفعة زائدة.

فإنّا نقول: إنّ الرتبة غير معتبرة في الشفاعة، ويدّل عليه لفظ الشفيع المشتقّ من الشفع.

على أنّا، وإن قطعنا أنّ الله يكرّم رسوله ويعظّمه ; سواء سألت الاُمّة ذلك أو لم تسأله، ولكنّا لم نقطع بأنّه لا يجوز أن يزيد في إكرامه بسبب سؤال الاُمّة ; على وجه لولا سؤالهم لما حصلت الزيادة، ومع جواز هذا الاحتمال وجب أن يبقى جواز كوننا شافعين للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

قال العلامة القوشجي: اتّفق المسلمون في ثبوت الشفاعة ; لقوله تعالى:( عَسَى رَبُّك أَنْ يَبْعَثَكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) ، وفُسّر بالشفاعة.

قال: ثمّ اختلفوا: فذهب المعتزلة إلى أنّها زيادة المنافع للمؤمنين المستحقّين للثواب.

وأبطله المصّنف: بأنّ الشفاعة لو كانت كذلك لكُنّا شافعين للنبيّ ; لانّا نطلب زيادة المنافع له.

٢٦

والتالي باطل ; لانّ الشفيع أعلى رتبة من المشفوع له. انتهى.

وقال العلاّمة في «البحار» في ما حكاه عن النَوَويّ في «شرح صحيح مسلم»(١) : إنّه قال: قال القاضي عياض: مذهب أهل السُّنّة جواز الشفاعة عقلاً.

ووجوبها سمعاً بصريح الايات وبخبر الصادق(عليه السلام)، وجاءت الاثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحّة الشفاعة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف ومن بعدهم من أهل السُّنّة عليها.

ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجّوا بقوله تعالى:( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) وأمثاله، وهي في الكفّار.

وأمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة وغيرها فهي صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار. انتهى.

[العقل يدل على صحّة الشفاعة]

وأمّا العقل فقد قالت الفلاسفة في هذا المقام: إنّ واجب الوجود عامّ الفيض تامّ الجود، فحيث لا تحصل الشفاعة فإنّما هو لعدم كون القابل مستعدّاً، ومن الجائز أن لا يكون مستعداً لقبول ذلك الفيض من شىء قبله عن واجب الوجود، فيكون ذلك الشيء كالمتوسّط بين واجب الوجود وبين ذلك الشيء الاوّل.

ومثاله في المحسوس أنّ الشمس لا تضيء إلاّ للقابل المقابل، وسقف البيت لما لم

____________________

(١) شرح صحيح مسلم، للنووي ٣/٣٥ باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحّدين من النار.

٢٧

يكن مقابلاً لجِرْم الشمس، فلا جَرَمَ لم يكن فيه استعداد لقبول النور عن الشمس، إلاّ أنّه إذا وضع طشت مملوّ من الماء الصافي، ووقع عليه ضوء الشمس، انعكس ذلك الضوء من ذلك الماء إلى السقف، فيكون ذلك الماء الصافي متوسّطاً في وصول النور من قُرص الشمس إلى السقف الذي غير مقابل للشمس.

وأرواح الانبياء والاوصياء والصالحين، كالوسائط بين واجب الوجود وبين الخلق.

والتحقيق: أنّ المعصية ليست بما هي علّة للتعذيب والخلود، وإنّما هي المقتضي له لولا المانع ; من الاستشفاعات المنصوبة من الله الرؤوف المالك للشفاعة.

كما يشهد به الكتاب والسُّنّة وبداهة حكم العقل مع قرينة شدّة الرأفة والرحمة منه تعالى.

ولذلك فرّق الشارع بين نيّة الحسنة ونيّة السيّئة في الاستحقاق وعدمه، مع أنّهما في الاقتضاء سواء ; سبقت رحمته غضبه.

فقد ظهر: أنّ الحديثين إنّما سيقا لبيان الاقتضاء:

أمّا الاوّل: فبدليل قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في النبوي: (لو لم ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها).

أمّا الثاني: فبضرورة ما في السباق من احتمال العثرات، وصريح ما ورد في الحَبْط من الايات والعمومات، النافية لاستحقاق العقوبة على نيّة السيّئات، وأنّها لا تكتب مالم يتلبّس بها.

وبالجملة: فلو لم تكن المعاصي مقتضيات لما كان النادم عليها ماحياً لها تائباً عنها، كما صحّ: أنّ (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).

وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): (من سرّته حسنته وسأته سيّئته فهو مؤمن).

٢٨

وذلك لوضوح أنّ من ساءته سيّئة، فهو النادم منها التائب عنها الماحي لها، ومعه فلا غَرْوَ ولا عجب أن يجعل الله الامر بالمودّة والتمسّك والتوسّل بذوي القربى من أهل بيت رسوله، مانعاً لتأثير المعصية، شافعاً فيها، توبة عنها، ماحياً لها، وإن رغم الراغمون، وخسر هنالك المبطلون.

[تذبذب بين المعتزلة والاشعرية]

وليت شعري، ولا يكاد ينقضي تعجبي، من هؤلاء الاخوان، وما أدري أنّهم - في إنكارهم للشفاعة - أشعريّة أم معتزلة، وبأيّهما اقتدوا؟ وبأيّ ديانة دانوا فتديّنوا؟

فإن كانوا في الاُصول أشعرية فقد عرفت أنّ مذهبهم على ثبوتها وإثباتها.

وإلاّ فيرد عليهم ما يرد على المعتزلة من المناقضة لاصلهم، فإنّ من قال بقاعدة التقبيح والتحسين، فقد التزم في المسألة موافقة الاشعريّين، فظهر أنّهم دانوا بالشفاعة من حيث لا يشعرون.

[الايات الدالة على ثبوت الشفاعة]

وأمّا الايات: فقد قال الله تعالى في سورة الاسراء:( عَسى رَبُّكَ أن يَبْعَثَكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) .

وقال في سورة الضحى:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) .

وقال في سورة المؤمن:( ألَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤمِنونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْن الَّتِي

٢٩

وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

وقال تعالى في سورة يوسف حاكياً مقالة الاسباط:( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ) إلى قوله:( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ) .

وقال تعالى في سورة النساء:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوّاباً رَحِيماً ) .

وقال تعالى في حكايته عن عيسى(عليه السلام):( إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وقال تعالى حكاية عن إبراهيم:( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

فقد دلّت الايات كغيرها على ثبوت الشفاعة لنبيّنا خاصّة وللملائكة والنبيّين والاولياء والصالحين عامّة وشفاعة القرآن أيضاً.

حيث لا يجوز حمل هذه الايات على الكافر، فإنّه ليس أهلاً للمغفرة بالاجماع.

ولا يجوز حملها على صاحب الصغيرة.

ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة ; لانّ غفرانه لهم واجب عقلاً عند الخصم، فلا حاجة له إلى الشفاعة.

فلم يبقَ حملها إلاّ على صاحب الكبيرة قبل التوبة.

[الروايات الدالة على ثبوت الشفاعة]

ويؤيّد ذلك: ما رواه الرازي عن البيهقي: (أن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا تلا هاتين الايتين رفع يديه، وقال: إلهي أُمّتي أُمّتي، وبكى، فقال الله: يا جبرائيل اذهب إلى محمّد - وربّك أعلم - فَسَلْهُ ما يبكيك؟ فأتاه جبرائيل، وسأله فأخبره

٣٠

رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بما قال، فقال الله: يا جبرائيل اذهب إلى محمد وقل له: إنّا سنُرضيك في أُمّتك)(١) .

وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الصحيح: (ادّخرتُ شفاعتي لاهل الكبائر من أُمّتي)(٢) .

وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): (واُعطيت الشفاعة) رواه البخاري(٣) .

وصحّ أيضاً عنه فيما أخرجه بإسناده عن عمران بن حصين، قال: (يخرج من النار بشفاعة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)فيدخلون الجنّة، ويسمّون الجهنّمّيين)(٤) إلى غير ذلك.

وقال الرازي في قوله تعالى:( وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) إجلالاً له حيث أكرمه بوحيه، وجعله سفيراً بينه وبين خلقه، ومن كان كذلك فإنّ الله لا يردّ شفاعته، فكانت الفائدة في العدول عن لفظ الخطاب إلى الغيبة ما ذكرناه(٥) .

____________________

(١) التفسير الكبير للرازي.

(٢) مجمع الزوائد ٧/٥، مسند أحمد ٢/٣١٣ و ٣/٢٠ بلفظ أخّرت، ولاحظ سنن ابن ماجة ٢/١٤٤١، والترمذي ٤/٤٥، والحاكم في المستدرك ١/٦٩ و ٢/٣٨٢.

(٣) صحيح البخاري ١/١١٣ و ٢١١، وصحيح مسلم ٢/٦٣، وسنن النسائي ١/٢١١، والدارمي ١/٣٢٣، ومسند أحمد ٤/٤٣٤.

(٤) صحيح البخاري ٧/٢٠٢ و ٢٠٣ الرقاق، وصحيح مسلم ١/١٢٣ الايمان، والترمذي ٤/١١٤، وسنن ابن ماجة ٢/١٤٤٣ الزهد، ومسند أحمد ٤/٤٣٤، وراجع مجمع الزوائد للهيثمي ١٠/٣٧٩، وكنز العمال ١٤/٤٠٨ و ٥٠٦ و ٥١٣ و ٥٤١.

(٥) التفسير الكبير للفخر الرازي.

٣١

أقول: ومثلها في الدلالة قوله:( الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ) فإنّ هذه الاية نصّ صريح في المدّعى، ولا سيّما بقرينة ذكر الاستغفار الملازم لاسقاط العقاب وذكر( الذين آمنوا ) و( الذين تابوا ) إلى غير ذلك.

والمناقشة فيها: بأنّ قيد التوبة واتّباع السبيل مما هي قرينة على ثبوت الشفاعة بالمعنى الخاصّ وصرفها عن عموم الدعوى لانّ التائب والمتّبِع للسبيل لا يفتقران إلى الشفاعة بالمعنى العامّ.

مدفوعة: بالنقض بقيد المغفرة الظاهرة في معنى الحطّ والستر للذنب، وحلاًّ: بأنّ القيدين هنا من باب ذكر بعض أفراد العامّ وأقسامه، فلا يُخصّص العامّ بها، وهذا ثابت في علم أُصول الفقه.

ثم يدلّ أيضاً على ثبوت الشفاعة للملائكة قوله تعالى في صفتهم في سورة الانبياء:( وَلاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ) .

ووجه الاستدلال: أنّ صاحب الكبيرة هو المرتضى عند الله بحسب إيمانه وتوحيده، وكلّ من صدق عليه أنّه المرتضى عند الله بهذا الوصف وجب أن يكون من أهل الشفاعة، فإنّ الاستثناء من النفي إثبات.

وإذا ثبت أنّ صاحب الكبيرة داخل في شفاعة الملائكة، وجب دخوله في شفاعة الانبياء وشفاعة نبيّنا محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)بعدم القول بالفصل.

(لا يقال:) إنّ صاحب الكبيرة فاسق، والفاسق ليس بمرتضىً بحسب فسقه وعصيانه.

لانا نقول: قد تبيّن في العلوم المنطقية أنّ المهملتين لا تتناقضان، فالمرتضى بحسب إيمانه لا ينافيه عدمه بحسب فسقه.

وقال الرازي: اعلم أنّ هذه الاية أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لاهل الكبائر.

٣٢

وتقريره: هو أنه من قال: «لا إلهَ إلاّ الله» فقد ارتضاه في ذلك، ومتى صدق عليه أنّه ارتضاه الله في ذلك فقد صدق عليه أنّه ارتضاه الله، لانّ المركّب متى صدق فقد صدق - لا محالة - كلّ واحد من أجزائه، وإذا ثبت أنّ الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الاية.

وقال في قوله تعالى:( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) ، كما نرى في المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيّين.

ثم قال: احتجّ أصحابنا بمفهوم هذه الاية، وقالوا: إنّ تخصيص هؤلاء بأنّهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلّ على أنّ غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.

وفي تفسير آخر: فما تنفعهم شفاعة الشافعين كما نفعت للموحّدين.

وقال في قوله تعالى:( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّك مَقَاماً مَحْمُوداً ) :

قال الواحدي: أجمع المفسّرون على أنّه مقام الشفاعة كما قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الاية (هو المقام الذي أشفع فيه لاُمّتي).

ثمّ أخذ في بيان وجوه الاستدلال بها، وتضعيف ما فسّره البعض بآرائهم.

ورواه أبو السعود في تفسيره عن أبي هريرة.

وقال في قوله تعالى:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) : عن تفسير وكيع قال: ولسوف يُشفّعك، يا محمّد، يوم القيامة في جميع أهل بيتك وفي أُمّتك، وتدخلهم الجنّة ترضى بذلك عن ربّك.

وعن فردوس الديلمي قال: الشفعاء خمسة: القرآن والرحم والامانة ونبيّكم وأهل بيت نبيكم.

والعلاّمة أبو السعود في تفسيره عن سعيد بن جبير قال: يدخل المؤمن الجنّة، فيقول: أين أبي وولدي؟ وأين زوجي؟ فيقال له: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: إنّي كنتُ أعمل لي ولهم، فيقال: أدخلوهم الجنّة بشفاعته وسبق الوعد

٣٣

بالادخال.

ثمّ قال في الجواب عن شبهة هؤلاء: والادخال لا يستدعي حصول الموعود بلا توسّط شفاعة واستغفار، وعليه مبنى من قال: إنّ فائدة الاستغفار زيادة الكرامة والثواب، والاوّل هو الاولى، لانّ الدعاء بالادخال فيه صريح، وفي الثاني ضمنيّ، انتهى كلامه.

وعن بشر بن ذريح البصري، عن محمّد بن عليّ(عليهما السلام) في قوله تعالى:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) قال: قال: (الشفاعة، والله الشفاعة، والله الشفاعة).

وقال الرازي في هذه الاية: يعني به الشفاعة تعظيماً لنبيّه.

قال: عن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وابن عبّاس: إنّ هذا لهو الشفاعة في الاية.

يروى أنّه لما نزلت الاية قال(صلى الله عليه وآله وسلم): (إذن لا أرضى وواحد من أُمّتي في النار).

ثمّ قال: واعلم أنّ الحمل على الشفاعة متعيّن، ويدلّ عليهوجوه ذكرها هناك(١) .

وفي «النهاية» لابن الاثير قال في ترجمة «وحا» من في حديث أنس: (شفاعتي لاهل الكبائر من أمّتي حتّى حكم وحاء)(٢) . قال: وهما قبيلتان جافيتان من وراء رمل يَبْرِيْنَ، ومثله قال في ترجمة «حَكَم».

وفي مرفوعة جابر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث له أنّه قال: (أنا سيّد ولد آدم ولا فخر،

____________________

(١) التفسير الكبير للرازي.

(٢) انظر كنز العمال ١٤/٤١٢.

٣٤

وفي ظلال الرحمن يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه ولا فخر، ما بال قوم يزعمون أنّ رحمي لا ينفع، بل حتّى يبلغ حانكم أنّي لاشفع فأُشفّع) الخبر إلى قوله: (حتّى إنّ إبليس ليتطاوَل طمعاً في الشفاعة)(١) .

وعن عبدالله بن عبّاس عن النبيّ أنّه قال: ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلاّ شفّعهم الله فيه(٢) .

إلى غير ذلك من الايات والروايات في إثبات عموم الشفاعة بما ورد من أعيان علماء السُّنّة والجماعة ومفسّريهم، مالا يحتمله هذا المختصر، فليراجع المطوّلات.

[تمويه في إنكار الشفاعة]

وبعدما أسلفناه وما سيأتي في معنى الاستشفاع بالاولياء، فلا يُصغى إلى شىء ممّا تكلّف به محمد بن عبد الوهّاب في رسالته من التمويه والمغالطة تبعاً لامامَيْهِ ابن القيّم وابن تيميّة بقوله:

فإن قال: إنّ النبيّ أُعطي الشفاعة وأطلبه مما أعطاه الله.

فالجواب: إنّ الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا ; يعني به الشرك، وقال( فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) .

إن كنت تدعو الله أن يشفّعه فيك فأطعه في قوله:( فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِأَحَداً ) .

____________________

(١) مجمع الزوائد ١٠/٣٧٦ و ٣٨٠ عن الطبراني في الاوسط.

(٢) مسلم ٣/٥٣، والترمذي ٢/٢٤٧، وابن ماجة ١/٤٧٧، والنسائي ٤/٧٥، مسند أحمد ٣/٦٦ كلهم في الجنائز، وانظر كنز العمال ١٥/٥٨١، ومجمع الزوائد ٥/٢٩٢.

٣٥

وأيضاً فإنّ الشفاعة أعطاها غير النبيّ، فصحّ أنّ الملائكة يشفعون، والاولياء يشفعون، والافراط يشفعون أتقول: إنّ الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟! فإن قلت هذا، رجعت إلى عبادة الصالحين.

أقول: إعلم أنّ موضع المغالطة من كلامه، هو أنّه زعم أنّ الشفاعة هي شفع الغير مع الله في المسألة والدعوة لقضاء الحوائج.

ولم يَدْرِ المسكين أنّ الشفاعة - كما مرّ تعريفها في صدر المقام - هو شفع الغير وضمّه مع المستشفع للذهاب إلى الله وتوجّههما معاً إليه سبحانه، ودعاؤنا الشفيع دعوته لذلك، لا ما توهّمه المغالط.

[ليست الشفاعة بشرك]

وبعدما ثبتت الشفاعة إجمالاً وتفصيلاً، كتاباً وسنةً، إجماعاً وعقلاً، حيّاً كان الشفيع أو ميّتاً، فقد علم بالضرورة من الشريعة:

أنّها ليست بشرك.

وأنّ الاستشفاعات والتوسّلات لا تنافي شيئاً من التوحيد ولا الاخلاص.

وأنّ دعاء الصالحين والالتماس منهم إنّما هو لكي يدعو الله للعباد بالرحمة والمغفرة، فليس من الدعاء المنهيّ عنه.

وإنّما الدعاء المنهيّ عنه في قوله تعالى:( فَلاَ تَدْعوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) هو أنّ العبد يقرن الصالحين بالله في دعائه، ويسألهما معاً في عرض واحد، وذلك بقرينة لفظ «مع»، وكما هو معنى الشرك والتشريك في العبادة، فإنّ الاشراك هنا وضع المعبوديّة في غير الله.

٣٦

كما في قوله:( يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) .

وقوله تعالى عن إبليس:( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) .

قال الرازي: أي بإشراككم إيّاي مع الله في الطاعة.

وقوله تعالى عن موسى:( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) .

بجعله شريكاً له معه في النبوّة.

وأمّا إذا لم يكن سؤاله حقيقة إلاّ من الله، ولم يكن له النظر مستقلاًّ إلاّ إليه تعالى دون غيره، فيدعو الله ويسأله بوجه نبيّه، فهذا ليس من الشرك في شىء.

يفصح منه لفظ الشرك المشتقّ من مادّة الاشراك بجعل الشريكين على نمط واحد.

فلو سأل العبد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يغفر له ذنبه، أو سأل النبيّ مع الله بقوله: يا ألله ويا نبيّ الله اغفرا لي ذنبي، كان ذلك شركاً منه.

وأمّا لو سأله أن يسأل الله غفران ذنبه، فهذا من غفران الذنب الموعود من الله بالشفاعة، والسؤال منه تعالى، لا من النبيّ.

وإنّما المسؤول من النبيّ التماس دعائه من الله تعالى ليسأله بوجهه.

[صور من الادعية المأثورة]

وهذه دعواتنا المأثورة عن الائمّة(عليهم السلام)، حيث نقول:

(اللّهمّ إن كانت الذنوب والخطايا قد أخلقت وجهي، فإنّي أسألك بوجه حبيبك محمّد).

وفي الدعاء عند النوافل الليليّة:

(اللّهمّ إنّي أتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأُقدّمهم بين يدي حوائجي في الدنيا والاخرة، فاجعلني بهم عندك وجيهاً في الدنيا والاخرة ومن

٣٧

المقرّبين.

أللّهمّ ارحمني بهم، ولا تعذبّني بهم...) الدعاء.

فليس المراد بالاستغاثات والتوسّلات إلاّ طلب الدعاء من المستغاث، كما في قوله عزّوجلّ في القدسيّات: (يا موسى ادعُني بلسان لم تعصِني به، فقال: يا ربّ وأين ذلك؟ فقال: بلسان الغير).

وأيضاً، فإنّ بني إسرائيل قد دعوا الله بلسان نبيّهم في مواضع من القرآن ; حيث حكى الله عنهم في قوله تعالى:( لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ) الايات.

فأنِصفْ وراجع.

أين هذا من دعاء الغير أو شركة الغير مع الله في الدعاء؟!

سُبحانك إنْ هذا إلاّ بهتان عظيم.

وكيف كان، فقد عرفت أنّ الايات والروايات لاتدلّ على النهي بشيء من ذلك كلّه، بل الايات على خلافه كما عرفت.

[الاستشفاع بالاموات]

ثمّ، ومن أوهن المناقشات والشفاعات والتوسّلات، هو المناقشة في جوازها بعد موت الشفيع.

وذلك لثبوت جوازها مطلقاً ; من غير فرق بين النشآت.

بعد صريح عبارته في رسالته بشفاعة الملائكة والاولياء والافراط.

وصريح الايات بحياتهم المستقرّة بعد موتهم.

ومع اتّحاد المناط في الغايات.

وحكم العقل بحسن الواسطة من غير تخصيص ولا تبعيض.

٣٨

وبالجملة: فقد أطنب الوهابيّة في شبهة العابد بالمعبود، وشبهة الزيارة بالعبادة ; حتّى صاروا بجمودهم وخضوعهم لشبهتهم هذه، كأنّهم آلة هدم الاسلام باسم الاسلام.

قد أوضحنا الجواب عن الاُولى.

[الزيارة والعبادة]

وأمّا الثانية: فأمّا قوله فيما نسجه:

«ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الاولياء التي لا يقدر عليها إلاّ الله...» إلى قوله: «وأمّا بعد موته - يعني به النبيّ - فحاشا إنّهم ما سألوه عند قبره، بل أنكر السلف...» إلى آخر كلماته.

فأقول:

وليت شعري ما هذا النكير؟!

وما قياس الانبياء والشهداء - المصرّح بحياتهم المستقرّة في القرآن - بسائر الموتى؟!

وما معنى إضافة الاستغاثة إلى العبادة؟!

وما المانع من الاستغاثة عند قبور الاولياء؟!

وما المراد بقوله: «لا يقدر عليها إلاّ الله»؟!

وما هذا الخبط؟!

ثمّ وما هذا التحاشي والخلط ودعوى الانكار؟

أفعلى عمد تركوا كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم؟

فإن كان المانع منها هو شبهة الشرك، فقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

٣٩

وقد تقدّم أنّ الساعي لحاجة إخوانه عند باب مولاه لا يرتفع عن مقام العبودية بشيء.

فليست الشفاعة والاستشفاع إلاّ قسماً من الدعاء الشامل لجميع الناس، واختصاص الاولياء والخواصّ بها باعتبار قبولها.

وقد ورد في باب زيارة النبيّ - كما عن حُجّة الاسلام الغزالي - قال: «ثمّ ترجع وتقف عند رأس رسول الله - بين القبر والاُسطوانة اليوم - وتستقبل القبلة...» إلى قوله: «ثمّ تقول: (أللّهمّ إنّك قلت - وقولك الحقّ..( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ وَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحيماً ) .

أللّهمّ إنّا قد سمعنا قولك، وأطعنا أمرك، وقصدنا نبيّك متشفّعين به إليك في ذنوبنا وما أثقل ظهورنا من أوزارنا، تائبين من زللنا)...» إلى قوله: (أللّهمّ لا تجعله آخر العهد من قبر نبيّك ومن حرمك يا أرحم الراحمين).

ومعاذ الله أن يرفع المسلمون أحداً من هؤلاء المَزُورين عن مقام العبوديّة، أو يذكرهم في الدعاء بغير الاستشفاع والتوسّل.

فأين وصمة الشرك؟!

ثم وما حديث التبعيض والتخصيص؟!

وهل ظفر المتكلّف بعد ما تقدّم في الشفاعات والتوسّلات بآية أو رواية تخصّص بها العمومات، أو تقيد بها المطلقات؟

أو يناقض بها ما صرّح به من قبل بقوله: «فصحّ أنّ الملائكة يشفعون، والاوليآء يشفعون، والافراط يشفعون»؟!

وليت شعري، فإن كان المناط في الشرك هو مجرّد التوسّل بالغير والاستشفاع به.

فهو الموجود عيناً في الاخرة، كما ورد أنّ الناس يسألونهم الشفاعة يوم

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111