الوهابيون والبيوت المرفوعة

الوهابيون والبيوت المرفوعة50%

الوهابيون والبيوت المرفوعة مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 111

الوهابيون والبيوت المرفوعة
  • البداية
  • السابق
  • 111 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52811 / تحميل: 5641
الحجم الحجم الحجم
الوهابيون والبيوت المرفوعة

الوهابيون والبيوت المرفوعة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

القيامة، فيشفعون لهم عند الله، فيُشفَّعون فيهم.

وإذا كانت المسألة والتوسّل موجوداً في النشأتين، والمناط قائم في المقامين.

فمن أين جاءت هذه الخصوصية؟!

على أنّه يلزم منه أن يكون الباطل بما هو باطل ينقلب في الاخرة حقّاً، والحقّ بما هو حقّ يكون في الدنيا باطلاً وشركاً.

وهذا هو التناقض البيّن وصريح الانقلاب المحال.

[المزورون أحياء في قبورهم]

وإن كان المانع منهما هو الموت فقد أثبت محكم القرآن حياتهم المستقرّة حياةً مخصوصة بهم، فيسمعون ويعقلون ويعرفون من يخاطبهم.

ولا غرو في الحياة بعد الموت مع الاقرار بعموم قدرته تعالى، فجاعل الروح في النطفة يضعها في التراب وحيث يشاء.

فلو كان خطاب الموتى ممّا يوجب عند الجاهل عبثاً، فلا يوجب كفراً وشركاً.

وبالجملة: فإطلاق الموت وخصوصيّة كيفيّة عود الاجسام المختصّة بالقيامة، ممّا لا ينافي شىء منها لحياتهم المستقرّة الثابتة لهم بعد الموت.

وعليه اعتقاد أعاظم المحققين من علماء السُّنّة والجماعة.

ويعاضده الاحاديث المعتبرة كما لا يخفى.

وكما في تفسير قوله تعالى:( واسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ) .

وكان الاُستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي شيخ الشافعي يقول: إنّ الانبياء لا تبلى أجسادهم، ولا تأكل الارض منهم شيئاً، ولقد التقى نبيّنا مع

٤١

إبراهيم وموسى بن عمران.

وقال الرازي في قوله تعالى:( بَلْ أَحْيَاءٌ ) :

«إنّهم في الوقت أحياء كان الله أحياهم لايصال الثواب إليهم، وهذا قول أكثر المفسّرين».

ثمّ أخذ يستدلّ على حياتهم المستقرّة بوجوه، سادسها: زيارة قبور الشهداء وتعظيمها انتهى.

على أنّهم يسمعون السلام، ويفهمون الكلام.

وأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يبلغه صلوات المصلّين عليه، ويسمعهم، وهو يعلم بهم وبمقامهم، كما ورد في الصحاح:

منها: ما عن سنن أبي داود، رواه عن أبي هريرة قال: قال(صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ السلام)(١) .

وعن صحيح النسائي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّ لله ملائكة في الارض يبلّغوني من أُمّتي السلام)(٢) .

وفي مرفوعة ابن عبّاس عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ... - إلى قوله -: فإنّ الله حرّم على الارض لحوم الانبياء)(٣) .

____________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٥/٢٤٥ باب زيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومجمع الزوائد للهيثمي ١٠/١٦٢ عن الطبراني في الاوسط، وكنز العمال ١/٤٩١ عن أبي داود.

(٢) سنن النسائي ٣/٤٣ في نوع آخر من التشهّد.

(٣) سنن النسائي ٣/٩١، وسنن الدارمي ١/٣٦٩، وسنن ابن ماجة ١/٣٤٥ و ٥٢٤، ومستدرك الحاكم ١/٢٧٨ و ٤/٥٦٠، والسنن الكبرى للبيهقي ٣/٢٤٩، وكنز العمال ١/٤٩٩ و ٧/٧٠٨.

٤٢

وفي حديث آخر صحّ عنه قال: (علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي)(١) .

وفي آخر قال: (إنّ الله وكّل ملَكاً يُسمعني أقوال الخلائق، يقوم على قبري، فلا يصلّي عليّ أحد إلاّ قال: يا محمّد إنّ فلان بن فلان يصلّي عليك، صلّوا عليّ حيثما كنتم، فإنّ صلاتكم تبلغني)(٢) .

كما في المرويّ عن الدار قطني في السنن عنه(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)(٣) .

وعن ابن عمر - مرفوعاً عنه - أنّه قال: (من جاءني زائراً ليس له حاجة إلاّ زيارتي، كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة)(٤) .

وفي آخر: (من زارني كنت له شهيداً أو شفيعاً).

ثمّ إنّ هؤلاء المزورين من الاولياء والصالحين، إن هم إلاّ عباد الله الذين تشرّفوا بطاعتهم وعبادتهم وتوحيدهم له جلّ شأنه، ولهم التقدّم بسابقتهم في

____________________

(١) لم أجده، لكن في مجمع الزوائد ٤/٢: من حجّ، فزار قبري في مماتي كان كمن زارني في حياتي، رواه الطبراني في الكبير والاوسط.

(٢) مجمع الزوائد ١٠/١٦٢ عن الطبراني في الكبير والاوسط، وكنز العمال ١/٤٩٤ عن الفردوس.

(٣) مجمع الزوائد ٤/٢ عن البزار.

(٤) مجمع الزوائد ٤/٢ عن الطبراني في الكبير والاوسط.

٤٣

الاسلام، واجتهادهم في الدين.

وقد ورد في الشريعة المطهّرة والسُّنّة النبويّة من الرجحان في زيارة سائر المؤمنين من أهل القبور والتسليم عليهم، فكيف بهؤلاء؟!

وهل يكون التسليم على مثل هؤلاء الصالحين شِركاً وقد سلّم الله - عزّوجلّ - في كتابه على آحاد من الانبياء والمرسلين، فقال:( سَلاَمٌ عَلَى نُوح فِي الْعَالَمِينَ سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَ هَرُونَ ) .

وقد سلّم على يحيى وإلْياسين، وصلّى على الصابرين من المؤمنين، وأمر رسوله بالسلام عليهم.

وأوجب على المسلمين كافّة أن يُخاطبوا نبيّهم في كلّ يوم خمس مرّات إلى يوم القيامة بالصلوات عليه فيقولوا: (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته).

وفرض السلام على عباد الله الصالحين من جميع المؤمنين السالفين منهم واللاحقين.

وأن لا يتمّ لاحد صلاته إلاّ بالصلوات على نبيّه محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)الطاهرين. ولَنِعْم ما قال الشافعي، كما روى عنه ابن حجر في «الصواعق»:

يا آل بيتِ رسول الله حبُّكُمُ فرضٌ من الله في القرآنِ أنزلَهُ

كفاكُمُ من عظيم الفخرِ أنّكُمُ من لا يصلّي عليكم لا صلاةَ لَهُ

[دفاع الالوسي]

وأمّا ما ذكره ابن الالوسي البغدادي فيما رّوج به أمر الوهابيين من «تاريخ نجد» - في صفحة ٤٨ - قال:

والذي اعتقدوه في النبيّ أنّ رتبته أعلى مراتب المخلوقين على الاطلاق،

٤٤

وأنّه حيّ مرزوق في قبره حياة مستقرّة أبلغ من ]حياة [الشهداء المنصوص عليها في التنزيل ; إذ هو أفضل منهم، وأنّه يسمع سلام من يسلّم عليه، وأنّه تسنّ زيارته غير أنّه لا تُشدّ إليه الرحال.

ففيه أوّلاً: أنّ صراحة الايات الُمحكمة في التنزيل، كما تراها ممّا تعمّ النبيّ وغيره من الشهداء والاولياء ممّن قُتل في سبيل الله، فلا اختصاص لها بالنبيّ، وإلاّ لافرده الله بالذكر دونهم.

وإذا كان كذلك فيتبعها لا محالة آثارها ولوازمها، من السلام والدعاء والتوسّل، كما في حياتهم.

وثانياً: أنّ المراد من الحياة الثابتة لهم بقوله تعالى:( بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) إنّما هو الاكمل والابلغ من الحياة البرزخيّة الثابتة لعموم الموتى، وذلك لوجهين:

الاوّل: تخصيص الشهداء بالذكر هنا دونهم.

والثاني: إفراد سائر الموتى بالذكر في آية أُخرى، لقوله تعالى فيهم:( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) .

وقال في حياة الكفّار منهم:( أَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ) ; وذلك لانّ حياة القيامة ليس فيها بُكرة ولا عشيّ. هذا مع رعاية الافضليّة.

وفي المعتبرة أنّه لما سُئل النبيّ عن تكلّم الموتى، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) (نعم إنّهم يتزاورون).

وشواهد المقام لا تُحصى.

فقد ظهر فساد قوله في رسالته: ونحن أنكرنا الاستغاثة التي يفعلونها عند قبور الاولياء، التي لا يقدر عليها إلاّ الله.

٤٥

فإنّك بعدما عرفت النصوص الصريحة من القرآن، مع تصريح هؤلاء الوهّابيين واعترافهم للاولياء والصالحين بحياتهم المستقرّة، وأنّهم فيها مرزوقون منعّمون، فرحون مستبشرون، متزاورون، ولمن حيّاهم بتحيّة، أو سألهم مسألة سامعون، وبهم عارفون، وإلى الله متضرّعون سائلون، فقد اعترفوا بالمقدور.

وأمّا رفع الحاجة والسؤال في كلّ حال من الاحوال إلى الله القادر على كلّ شىء فممّا ليس فيه إشكال.

[السنة والسيرة في زيارة القبور]

وأما شدّة إنكارهم لزيارة القبور والوقوف عليها والدعاء لديها.

فالجواب عنه فضلاً عمّا عرفت: هو البيان بدليل القرآن وجميع المأثور في زيارة القبور وما ورد في فضلها، وأنها من السُّنّة، وما ورد من الاعمال والادعية هناك.

فضلاً عن سيرة رسول الله في زيارته شهداء أُحد، وحضوره لزيارة مقابر البقيع، ووقوفه عليها في الترحيم والتسليم، وأمره وحثّه وترغيبه وتقريره عليها.

كما ورد قوله: (كنتُ قد نهيتُكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنّها تذكّركم الاخرة)(١) .

____________________

(١) سنن النسائي ٤/٩٠ و ٧/٢٣٥، وفي مسلم ٣/٦٥ وفيه: تذكّر الموت، وكذا ابن ماجة ١/٥٠١، ومستدرك الحاكم ١/٣٧٥، والسنن الكبرى للبيهقي ٤/٧٦، وعقد البيهقي باباً لخصوص زيارة القبور في البقيع فلاحظ ٥/٢٤٩، ولاحظ مجمع الزوائد ٣/٥٨ و ٤/٢٦، وكنز العمال ٥/١٠٨ و ٣٧٧ و ٨٥٩، وانظر ١٥/٦٤٦ وما بعدها.

٤٦

وفي المروي عن الحاكم عن أبي ذر قوله: (زر القبور تذكر بها الاخرة)، ومثله المرويّ عن أبي هريرة فيما سيأتي بيانه.

وقد روى حجّة الاسلام الغزالي في الاحياء عن ابن أبي مليكة، قال: «أقبلت عائشة يوماً من المقابر، فقلت: يا أُمّ المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبدالرحمن. فقلت: أليس كان رسول الله نهى عنها؟ قالت: نعم، ثمّ أمر بها».

والسرّ في النهي الاوّل: أنه كان ذلك بدوَ الاسلام، وفي زيارة القبور وتذكار الموتى كان باعثاً على الجبن عن الجهاد، حتّى إذا قوي الاسلام أمرهم بها.

ومثله غير عزيز.

وقد سُئل عليّ(عليه السلام) في الخضاب عن قول النبيّ (غيّروا الشيب، ولا تشبّهوا باليهود) فقال: (إنّما قال(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك والدين قلّ، فأما الان وقد اتّسع نطاقه، وضرب بجرانه، فامرؤ وما اختار).

وفي الاحياء عن ابن أبي مليكة قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (زوروا موتاكم، وسلّموا عليهم، فإن لكم فيهم عبرة).

وفيه عن نافع، عن ابن عمر: أنّه كان لا يمرّ بقبر أحد إلاّ وقف عليه، وسلّم عليه.

وكانت فاطمة بنت النبيّ تزور قبر عمّها حمزة في الايّام، فتصلّي وتبكي عنده.

وفيه: قال قال النبيّ: (من زار قبر أبويه أو أحدهما في كلّ جمعة غُفر له وكُتب بَرّاً).

٤٧

وقال: قال رسول الله: (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به وردّ عليه روحه حتى يقوم).

وقال: قال سليمان بن سحيم: «رأيت رسول الله في النوم قلنا: يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك يُسلّمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأردّ عليهم».

وقد تواترت الاحاديث الصحيحة الواردة عن آل محمد وحثّهم على زيارة الحسين بن عليّ بن أبي طالب(عليهم السلام).

[ابن تيمية يعترف بمشروعية الزيارة]

وقال أحمد بن تيميّة في رسالته التي عملها في «مناسك الحج»(١) : «فالزيارة الشرعية المقصود بها السلام على الميّت والدعاء له، كما يقصد بالصلاة على جنازته، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه، فالسنّة أن يسلّم على الميّت، ويدعو له ; سواء كان نبيّاً أو غير نبيّ، وكما كان النبيّ يأمر أصحابه إذا زار القبور أن يقول أحدهم: السلام عليكم أهل الديار... إلى آخر الزيارة.

قال: وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع ومن به من الصحابة.

وفي المنقول عن كتاب له في فتاواه (مسألة ٢٢)(٢) قال: «لو سافر إلى المسجد النبوي، ثم ذهب معه إلى قبا، فهذا يستحبّ، كما يستحبّ زيارة أهل البقيع

____________________

(١) صفحة ٣٩٢.

(٢) ص١٨٦.

٤٨

وشهداء أُحد» انتهى كلامه.

وأما الدعاء عندها فلقو له تعالى:( وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ) .

حيث ذكر المفسّرون - كأبي السعود والامام الرازي وغيرهم من أعاظم المفسّرين -: أنّ النبيّ كان من عادته إذا دُفن الميّت، وقف على قبره ساعة، ودعا له.

ففي الاية دلالة على أنّ القيام على القبور للدعاء عبادة مشروعة، ولولا ذلك لم يخصّ بالنهي عن الكافر.

[إسلام السلفية والوهابية]

وبها استدلّ أيضاً شيخ الوهّابية ومؤسّس ديانتهم أحمد بن تيمية فيما نقل عنه من كتاب له في فتاواه (في جواب مسألة ٥١٨)(١) قال:

«فأمّا الزيارة الشرعية فهي من جنس الصلاة على الميّت ; يقصد بها الدعاء للميّت، كما يقصد بالصلاة عليه، كما قال الله في حقّ المنافقين( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ) فلمّا نهى عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، دلّ ذلك بطريق مفهوم الخطاب وعلّة الحكم على أنّ ذلك مشروع في حقّ المؤمنين.

والقيام على قبره بعد الدفن هو من جنس الصلاة عليه قبل الدفن ; يُراد به الدعاء له.

وهذا هو الذي نطقت به السُّنّة، واستحبّه السلف عند زيارة قبور الانبياء

____________________

(١) مجلد ٤ ص٣٠٦.

٤٩

والصالحين».

انتهى كلامه على غلوّهم فيه وغلوّه في تحريم إتيان القبور والوقوف عليها والدعاء لديها وقراءة القرآن عندها.

وقد أورد الغزالي أيضا في «الاحياء» عن محمد بن أحمد المروزي، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد، واجعلوا ثواب ذلك لاهل المقابر، فإنه يصل إليهم...

إلى غير ذلك.

وبالجملة: فإذا كان الامر كذلك.

فما معنى تخصيص جواز زيارة القبور بالنبيّ خاصّة دون غيره.

وما خصوصية الحاضر دون السفر إليه وشدّ الرحل نحوه؟!

أليس هذا هو التقوّل بالغيب والفتوى في دين الله بالريب؟!

هذا، وأصالة الجواز فيما لم يرد فيه النهي كما تراها في الكّل محكّمة، وليست بمخصّصة، وعلى مدّعيه الاثبات، ودونه خرط القتاد.

أوليس قد صحّ ما ورد عن الغزالي عن النبي أنه قال: (من وجد سعة ولم يغدُ إليّ فقد جفاني).

فإنّ وجدان السعة إنما هو يصح للمسافر الذي يشدّ الرحل إليه.

[حديث لا تشدّ الرحال...]

ومن العجب تمسّكهم في ذلك بحديث: (لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد) المروي عن أبي هريرة.

مع أنّ ذكر المساجد في المستثنى بعد تسليم الحديث وصحّته، دليل على أنّ المستثنى منه هو خصوص المساجد، لا مطلق السفر ; أي لا تُشدّ الرحال إلى

٥٠

مسجد من المساجد، فيكون الحديث ناظراً إلى الامر بشدّ الرحال إلى المساجد المعظّمة لادراك جمعتها وجماعتها، وليس المراد النهي عن مطلق شدّ الرحل، وإلاّ لزم تخصيص الاكثر إذ لو أُخذ بعمومه لانتقض بمطلق الاسفار المباحة والمندوبة والواجبة، مع وجوب شدّ الرحل إليها، فليكن منها شدّ الرحال إلى المشاهد المشرّفة والبيوت التي أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسم الله، ولتعظيم شعائر الله.

فإن قالوا هناك بالتخصيص قلنا فيها أيضاً، وإن قالوا بالتخصّص فكذلك قلنا فيها.

[المؤلّفات في جواز الزيارات]

هذا مع ما روى بعض أجلّة الاعلام بما شاهد ممّا أُلّف وصُنِّف في هذا المقام.

فمنها: كتاب «شفاء السقام في زيارة خير الانام»، «شنّ الغارة على من أنكر فضل الزيارة) تأليف قاضي قضاة المسلمين في القرن الثامن، الشيخ الحافظ تقي الدين أبي الحسن السبكي، المطبوع بمصر - القاهرة، المرتّب على أبواب في إثبات حياة الانبياء والشفاعة وفضل الزيارة والسفر إليها ومسنونيتها، وأنها من القربة، وأبواب في الاستغاثات والتوسّلات.

ومنها: «الجوهر المنظّم في زيارة قبر النبي المكرّم» تأليف أحمد بن حجر الشافعي كذلك...

إلى غير ذلك من المؤلفات.

[تناقض التصرّفات]

وأما قوله فيما اعترف به من حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّه يسمع سلام من يسلّم

٥١

عليه»، فهذا كلام من ينقض فعلُهُ قولَهُ، ولا يعتقد بشيء مما يتفوّه به.

وإلاّ، فلِمَ لم يُراعوا بالامس حرمته في حرمه وضريحه، وقاتلوا وقتلوا من المسلمين حول حرمه وحماه ; ممّن يستغيث برسول الله ; وذلك بمراءىً منه ومسمع فيسمعه إغاثته بقوله: وا محمّداه!(١)

والناس إلى اليوم يُضربون على قول: «يا رسول الله»!؟

[لا فرق بين حياة الرسول وموته في تعظيمه]

وأيضاً ما يرون هؤلاء في قول الله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) ، وكذا قوله تعالى:( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) الاية.

هل هي من الاحكام الباقية إلى القيامة أم لا؟

فإن قالوا: لا، فقد كذبوا وخالفوا كتاب الله والسيرة المستمّرة وإجماع الاُمّة.

وإلاّ فليخبرونا ما الوجه في ذلك؟

ولْيذعنوا أنها ليس إلاّ لحياته ولمعاملة الاُمّة معه معاملة الاحياء.

والعجب ممّن يظهر التحاشي، وينكر إنكار السلف على من قصد دعاء الله عند القبر، وقد شاع ما ورد في الكتب المعتبرة من فعل أعاظم الصحابة، من الشيخين وغيرهما إلى زمان التابعين والخلفاء.

ولم يزالوا خلفاً عن سلف يتشرّفون بزيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويتبرّكون بحرمه وتقبيل قبره ومنبره من خارج الحرم، بعدما كانوايدخلون عليه في بُرهة من

____________________

(١) لقد انتشر نبأ قتل الوهابية للمسلمين اللاجئين بحرم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع كتب التاريخ، فراجع.

٥٢

الزمان، وفي الحجرة عائشة ليس بينها وبين القبر إلاّ حائل من ستر أو بناء من جدار.

ثمّ بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حول القبر، وبقي كذلك إلى أن بنوا جدارين من ركني القبر الشماليّين، وحرّفوهما حتّى التقيا ; لئلاّ يتمكّن أحد من استقبال القبر.

هذا ولم تزل الحجرة مزاراً للمؤمنين معاذاً للاّئذين.

ومن أحاط خبراً بتاريخ السلف وترجمة أحوال مهاجري الصحابة علم أنّهم كانوا كثيراً ما يقصدون المدينة لادراك زيارة الحجرة المنوّرة.

ولولا خوف الاطالة لاتيتُ على ذكرهم ولملاتُ هذا الكرّاس من تراجمهم.

هذا، ولم ينكر عليهم لا الشيخان ولا كبار الصحابة بشيء.

وهذا أمير المؤمنين علي(عليه السلام) أتى بعد موت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ووقف على قبره الشريف، وخاطبه بقوله: (طبت حيّاً، وطبت ميّتاً... إلى قوله: بأبي أنت وأُمّي اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك وهمّك...) إلى آخر كلماته.

ووقف أيضاً يوم دفنه فاطمةَ (عليها السلام) على قبره، وخاطبه بقوله: (السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة بفنائك، البائتة في الثرى ببقعتك. قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، وعفا عن سيّدة نساء العالمين تجلّدي...) إلى آخر كلماته.

وهذا الحسين بن علي(عليهما السلام) سبطه وفرخه ; لما أراد المسير إلى العراق، أتى قبر جدّه وضريحه ثلاثة أيّام، زائراً مودّعاً داعياً مصلّياً، سائلاً منه التكليف لامره وحرمه وصحبه ; مخاطباً إيّاه بقوله: (يا جدّاه أنا الحسين بن فاطمة، فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلّفته في أُمّتك).

٥٣

هل ترون أنّه كان بذلك مخاطباً للاموات؟

أم كان يسأله من أمره وتكليفه؟

ولم يزل حتّى أجابه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (اُخرج إلى العراق، فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً...) إلى آخر ما أجابه من أمر حرمه وعيالاته.

وبالجملة: فإن كان المراد من النكير مجرّد الزيارة للقبور والتبرّك بها والصلوات والدعاء عندها، فقد عرفت أنه أمر راجح مسنون، وستعرف الامر بها في العمومات من الايات والقرآن العظيم، فانتظر المقام الثالث.

وإن أراد من ذلك عبادتها واتّخاذها - معاذ الله - آلهة تُعبد من دون الله، فحاشا، ثمّ حاشا من ذلك.

حيث لم نَرَ ولم نشهد ولم نسمع أنّ أحداً من المسلمين اعتقد بشيء من ذلك، أو خطر بباله، فكيف بالشيعة الاماميّة، وهم أوّل الموحّدين، وأحوطهم في تقديس الله ربّ العالمين، وأدقّهم في تقديسه ومعرفته(صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ ورثوا وأخذوا علومهم ومعارفهم عن مهابط الوحي والتنزيل؟!

فما معنى إنكار التبرّك بالقبور وزيارتها وتعاهدها، وبناء القِباب عليها والوقوف عندها؟!

وأيّ وجه للرمي بأنّها وسيلة للشرك؟!

وقد علمت أنّه ليس ذلك إلاّ للغايات الدينية، حفظاً لاثارهم وقبورهم الكريمة، وصيانة عن الاندراس والانطماس وفوات انتفاع المؤمنين بزيارتهم، والاسراج بها لتلاوة القرآن وذكر الله عندها.

أو ما تقدّم أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع، وإلاّ لكان الوهّابيّون الخاضعون لشهواتهم العابدون لاهوائهم في معاصيهم كفّاراً.

وإنّما العبادة هي الخضوع الخاصّ المقرون بالاخلاص عند أمر الله الواجب العظيم لذاته.

٥٤

[تعظيم ما أمر الله، هو من عبادة الله وطاعته]

على أنّ تعظيم المأمور به لتعظيم أمر الله - عزّ وجلّ - إنّما هو في الحقيقة عبادة الله وتعظيمه تعالى ; من غير فرق بين أن يكون ذلك المأمور به إنساناً أو حجراً أو مدراً أو غيرها، كالامر بالسجود لادم فإنّه كان تعظيماً لامر الله تعالى وعبادة له، كما أنّه كان للملائكة امتحاناً، ولادم تشريفاً، فإنّ الغايات تتعدّد بالاعتبارات.

وكذلك أمر الشارع بفرض الطواف على أحجار البيت، وتقبيل الحجر الاسود واستلام الاركان والتزام المستجار.

وإلاّ لكان الامر بجميع ذلك أمراً بالشرك.

فمن تبّرك بشيء لامر الله، كان في الحقيقة عبادة الامر به.

وهذا عبدالله بن أحمد بن حنبل - كما هو المروي عن كتاب «العلل والسؤالات» - قال: سألتُ أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله، ويتبّرك بمسّه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله.

فقال: لا بأس به.

فالتواضع والتبرّك والاكرام والاحترام لما هو معظَّم عند الله، إنّما هو من تعظيم الله.

كما أنّ تعظيم بيوته ومساجده وقرآنه، بل والجلد والغلاف منه، إنّما هو لانتسابها إلى الله.

فمن قبّل الحجر الاسود أو عظّم البيت أو استلم الاركان أو وجد شيئاً من آيات القرآن وكلماته ملقىً مهاناً، فبادر إليها برفعها وتعظيمها وتقبيلها، فإنّما قبّل

٥٥

آيات الله وعظّم شعائر الله وتبّرك بآثار ربّه أينما وجدها وحيثما رآها.

فلها منزل على كلّ أرض وعلى كلّ دِمْنةِ آثارُ

ونعم ما قال العامري:

أمرّ على الديارِ ديارِ ليلى أُقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حبُّ الديارِ شَغفْنَ قلبي ولكنْ حبُّ مَنْ سَكَن الديارا

كلا، وليس استلام الحجر إلاّ لاستحضار ]معنى[ المبايعة لله على طاعته، والتصميم من المكلف لعزيمته على الوفاء ببيعته( وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) .

ولذلك قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (الحجر الاسود يمين الله في الارض ; يصافح بها خلقه، كما يصافح الرجل أخاه).

ولما قبّله عمر، قال: «لاعلم إنّك حجر ; لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقبّلك لما قبّلتك»(١) .

فقال عليّ: (يا عمرُ مَهْ بل يضرّ وينفع، فإنّ الله سبحانه أخذالميثاق على بني آدم حيث يقول:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ) الاية، القمه هذا الحجر ليكون شاهداً عليهم بأداء أمانتهم، وذلك معنى قول الانسان عند استلامه: (أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته ;لتشهد لي عند ربّك بالموافاة)(٢)

____________________

(١) الحديث إلى هنا في صحيح البخاري ٢/١٦٠، ومسلم ٤/٦٦، سنن النسائي ٥/٢٢٧، ولاحظ التخريج التالي.

(٢) أورد جواب علي(عليه السلام) لعمر، الحاكم في المستدرك على الصحيحين ١/٤٥٨ وفي آخره:

فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لستَ فيهم، يا أبا حسن.وأورده في كنزالعمّال (٥/١٧٧) رقم ١٢٥٢١ عن ابن الجنديّ في فضائل مكة وأبي الحسن القطّان في الطوالات والمستدرك وعبد الرزّاق في الجامع.

أقول: ونقله الاميني فى الغدير (٦/١٠٣) وفى الطبعة الحديثة (٦/١٤٨-١٤٩) عن الجامع الكبير للسيوطي كما في ترتيبه (٣/٣٥) وأضاف: تاريخ عمر لابن الجوزي(١٠٦) وفي طبعة (١١٥) وإرشاد الساري للقسطلاني(٣/١٩٥) وفي طبعة (٤/١٣٥)ح ١٥٩٧ وعمدة القاري للعيني (٤/٦٠٦) وفي طبعة (٩/٢٤٠) والازرقي في أخبار مكّة (١/٣٢٣) والاحسان في تقريب صحيح ابن حبّان (٩/١٣٠) ح ٣٨٢١ و٣٨٢٢ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد(٣/١٢٢) وفي طبعة (١٢/١٠٠)الخطبة ٢٢٣ والفتوحات الاسلاميّة لاحمد زيني دحلان (٢/٤٨٦) وفي طبعة (٢/٣١٨).

٥٦

وكذلك التعلّق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم، إنّما هو لاستحضار طلب القرب من الله حبّاً لله، وشوقاً إلى لقائه، وتبرّكاً بالمماسّة، والالحاح في طلب الرحمة.

وهكذا أسرار السعي والهرولة بين الصفا والمروة والوقوفين والرمي والهدي...

إلى غير ذلك من الاحكام الشرعية، فإنّ لكلٍّ منها أسراراً إلهيّة وحكماً ومصالح روحية، كما هي المروية عن أهل بيت العصمة.

والمسكين المحروم منها هو الجامد على الظواهر، القاصر عن إدراكها.

٥٧

[زيارة القبور سنّة نبويّة وغايتها]

وكما أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المشرّع لزيارة قبور المؤمنين المُسِنّ لها ; بتعاهدها والوقوف لديها والدعاء عندها، فقد أشار إلى بعض غاياتها ومصالحها فيما تقدّم من الصحيح بقوله: (ألا فزوروها، فإنها تذكّركم الاخرة).

وفي حديث آخر المروي عن الحاكم عن أبي ذر: (زر القبور تذكر بها الاخرة).

وما رواه الغزالي عن ابن أبي مليكة قال: (زوروا موتاكم وسلّموا عليهم، فإنّ لكم فيهم عبرة).

إلى غير ذلك من الغايات.

وذلك لان الحضور عند المزور إنّما يمثّل للزائر شخصيات المزور بجوامع مآثره ومجامع صفاته وآثاره، ولا سيّما إذا كان المزور من أكابر الاولياء والشهداء ; ممّن له في الاسلام - لهمّته وسابقته وعلمه وزهده وفتاواه - مقامات تاريخية ومواقف كريمة ومزايا عظيمة.

فتُلقي الزيارة على الزائرين - حينئذ - أبحاثاً جليّة، علميّة مبدئيّة مَعاديّة أخلاقيّة اجتماعيّة، يعتبر بها حسبما يتجلّى له من الحكم والمصالح العائدة إلى النفس التي لا ينبغي تفويتها، ويجب على الشارع الرؤوف الرحيم الحريص على تربية الاُمّة التنبيه عليها.

فالظاهريّة بجمودهم غَلَوا وأفرطوا فقتلوا حقائق الديانة، كغُلُوّ الباطنية في تفريطهم واعتبارهم القشريّة لظواهر الكتاب والسُّنّة.

فكأنّ الفريقين تظاهرا على قتل الشريعة ظهراً وبطناً.

مع أنّ الاحرى لهم التحرّي إلى التوسّط والاعتدال، وسلوكهم في الدين مسلك النبيّ محمّد والال.

٥٨

[بناء المشاهد والمزارات عمل شرعيّ]

ثمّ بعدما عرفت الغايات الدينية لبناء القباب وزيارتها وتعاهدها، فلا يخفى عليك أنه ليس في بناء القباب وتعليتها تجديداً للقبر، وإنّما هو وضع علامة عليها بعيدة عنها ; لتكون كما عرفت دلالة وعَلَماً على المزور، وحفظاً لبقاء الاثار، وتوصّلاً لزيارة الاطهار، وإرغاماً لغير المسلمين من الكفّار، وتعظيماً لشعائر الله المندوب إليها بالرفع والتشييد، ومعاونة على البّر لزوّارهم، واستكثاراً لتلاوة القرآن وذكر الله لديهم، وإهداء ثوابها لهم وإليهم.

كلّ هذا تقرّباً بالمسنونات، وأداء لحقّ سابقتهم في الاسلام، ووقاية للزائرين من الحرّ والبرد.

أو ليسوا من كبار الصحابة والتابعين ودعائم الدين وأئمّة المسلمين؟؟

ومن الواضح غير الخفيّ أنّ التعظيم ليس لقبورهم بما هي حفرة وتراب، بل إنّما هو لذلك الشأن العظيم لهم في الاسلام.

أو ليس عمر أوّل من بنى قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)وسوّاه باللبن؟!

واقتدى به بعده الخلفاء خلفاً عن سلف من تسقيفه وعمارة ما حوله؟!

كما بنى عثمان المسجد بعد ذلك بالحجارة المنقوشة إلى أن بنوه بأحسن بناء.

أو ما كان قصد عمر والخلفاء من بعده هو التعظيم لشعائر الله.

أو هل قصد عمر بفعله هذا عبادة قبره(صلى الله عليه وآله وسلم) وجعله وسيلة للشرك بربّه، حاشاه؟!

هذا، ولم يكن وضع القباب على القبور حادثاً في هذه القرون، بل كان ثابتاً في القرون السالفة من قبل الهجرة إلى أعصار الصحابة والتابعين والخلفاء الراشدين.

كما يظهر من تراجم الماضين وأحوالهم في الكتب المعتبرة، وأنّ للمعتبر بها

٥٩

وبالاثار الباقية منها لعبرة.

فمنها قبر إبراهيم الخليل بفلسطين، وقبور سائر الانبياء السالفين ببيت المقدس.

وبمكّة في الحجر قبر إسماعيل وأُمّه هاجر، وفي تستر قبر دانيال... إلى غيرها من القبور وقبابها في أقطار العالم.

وكذلك تعلية القبور في الاسلام، فهذا «صحيح البخاري» فيما رواه عن خارجة بن زيد قال رأيتني ونحن شبّان في زمن عثمان، وإنّ أشدّنا وثبةً الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه.

وقال: قال عثمان بن حكيم: أخذ بيدي خارجة فأجلسني على قبر، وأخبرني عن عمّه يزيد بن ثابت قال: إنّما كره ذلك لمن أحدث عليه.

وقال نافع: كان ابن عمر يجلس على القبر. وفيه أيضاً بإسناده إلى أبي بكر بن عباس عن سفيان التمار: أنه حدّثه: أنه رأى قبر النبيّ مسنَّماً.

وهذا التاريخ يعلن بقبر العباس بن عبد المطلب عمّ النبيّ وبناء القبّة عليه، الباقية إلى أواخر القرن الاول، كما عن ابن خلّكان.

وقد كان ينبغي لهم الاُسوة بإمضاء الشيخين وبقيّة الخلفاء.

أو ليس إبقاء هذه الاثار في عصرهم - مع قدرتهم وسلطنتهم على تلك الاقطار والديار - إمضاءً منهم وتقريراً لهم، وهي السُّنّة الباقية منهم؟!

أو ليس النكير عليهم ومخالفتهم وترك سنّتهم بدعة وضلالة؟!

والحاصل: أنّ حرمة موتى المؤمنين وقبورهم مما ثبت شرعاً.

وقد صحّ عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (حرمة المؤمن ميّتاً كحرمته حيّاً).

وضرورة المسلمين بل الملّيّين، بل وجبلّة البشر على زيارة قبور موتاهم وتعاهدها.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وعلى رأس هؤلاء الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبد الملك كما سبق، ومروان بن محمد بن الحكم آخر خلفاء بني مروان والملقب بالجعدي نسبة للجعد بن درهم مؤدبه.

ومن هؤلاء أيضاً - بعد هذا التأريخ - يحيى بن زياد الحارثي من بني الحارث بن كعب من مذجح ابن خال الخليفة السفّاح أول خلفاء بني العباس.

ومن هؤلاء معن بن زائدة القائد الأمير المعروف، وهو من سادات بني شيبان وخاله عبد الكريم بن أبي العوجاء الزنديق المعروف من بني سدوس من بكر بن وائل.

ومن هؤلاء روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب.

ومنهم واليه بن الحباب الأسدي ومطيع بن إياس الكناني.

ومنهم يعقوب بن الفضل الهاشمي، من أحفاد الحارث بن عبد المطلب بن هاشم وابن لداود بن علي بن عبد الله بن عباس وآدم بن عبد العزيز بن عمر بن العزيز.

ومن متأخّريهم أبو العلاء المعرّي أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي.

وما أظن بين هؤلاء وكثيرين آخرين لم أذكرهم، وكلهم عرب صرحاء ومن صفوة الأُسر العربية مَن يمكن أن يتهم بالشعوبية إلاّ في أضعف جوانبها أي جانبها الإنساني الذي يقوم على المساواة، وعدم تفضيل جنس على جنس أو أُمّة على أُمّة. وحتى هذا الجانب الضعيف ما أحسبك ستصادفه عند غير أبي العلاء، وربّما والبة ومطيع ويحيى الذين شغلهم الركض وراء اللهو واللذّة، عن العرب والفرس والمقارنة بينهم، وعن التفكير في غير هذه الحياة العابثة الماجنة لا يبغون لها بديلاً. وقد تكون هذه الحياة أو هذا الأسلوب فيها وراء غمز بعض المؤرّخين في نسب والبة العربي.

ويقابل هؤلاء بعض الذين عرفوا بالشعوبية، ولم يعرفوا بالزندقة: كآل طاهر بن الحسين، وآل سهل، وربّما أضيف إليهم البرامكة أحياناً.

١٠١

وكيحيى بن علي المنجم المسلم المعتزلي الشعوبي، وسهل بن هارون، وأبي عبيدة، وعلان الشعوبي، وسعيد بن حميد بن البختكان، والخريمي الشاعر: اسحاق بن حسان، الذين أبغضوا العرب وتعصّبوا ضدّهم، وحاولوا تجريدهم من كل مفاخرهم وتفضيل الفرس عليهم (1) .

وبغض العرب والمغالاة فيه قد يسوق أحياناً إلى ما هو أبعد من مجرّد بغض للعرب، الذي هو في ذاته مرفوض، ليتناول الإسلام نفسه باعتباره إرثاً عربياً نبت وأزهر في صحراء العرب. وربّما كان هذا من بين الأسباب التي أدّت إلى الخلط بين الزندقة والشعوبية.

ولا أريد أن أسير أكثر في هذا الحديث، وليس معي من الوقائع والأسماء والأدلة غير الظن، الذي لا يغني في حديث أردناه خالصاً للعلم، مجرّداً عن الهوى، بعيداً عن التعّصب.

وفي الطرف الأقصى من هؤلاء الشعوبيين، تجد من ضمّ الزندقة إلى شعوبيته: كيونس ابن أبي فروة، وحماد الراوية، الذي لي فيه وفيما نحله وأضافته إلى شعراء الجاهلية، رأي يختلف عمّا يذهب إليه الآخرون، فأنا لا أرى فيه شعوبية وما أحسبه كان يقصد إفساد الشعر الجاهلي كوجه من وجوه الشعوبية، بقدر ما أرى فيه ممارسة لتجربة شخصية، وإظهاراً لبراعة ومقدرة على فهم الشعر والإحاطة بظروف الشعراء ومعرفة البيئة العربية؛ فهو لم يخرج على قواعد الشعر العربي ولا على أغراضه التي نظم فيها الجاهليون، وليس في عدد من الأبيات التي قالها محتذياً حذو الشعراء العرب، وسالكاً طريقهم عن معرفة وعلم، ما يفسد الشعر العربي ويعيبه بالكذب والتزوير، خصوصاً مع اتفاق النقّاد العرب السابقين في أنّه كان يعرف مذاهب الشعراء فيضع البيت أو الأبيات ولا يستطيع إلاّ الناقد البصير أن يميّزها.

فأيّة شعوبية في عدد من الأبيات يسير فيها على طريقة الجاهليين لا يتخطّاهم، يصف ما يصفون ويمدح ما يمدحون ويذم ما يذمّون. ولو تخطّاهم أو خرج على مناهجهم لسهل تمييز شعره وفرزه عمّا أضيف إليه، ولفضح نفسه قبل أن يفضحه النقّاد.

____________________

(1) وألاحظ أنّ ابن الرومي قد أفلت من الاتهام بالشعوبية، مع أنّه لم يكن أقل وضوحاً من غيره في الفخر بآبائه الروم والغمز من العرب، استمع إليه وهو يقول:

آبائِيَ الرومُ توفيلٌ وتُوفَلِسٌ

ولم يلدنيَ رِبعيٌّ ولا شَبَثُ

إنّ حماداً لم يكذب ولم يزوّر فيما تناول من نواحي الحياة الجاهلية، ولكنّه كذب فيمن أضاف إليهم ذلك عندما كان يضيف. ثم إنّه حتى في هذا الذي أضافه، لم يطعن في العرب ولم يسلبهم مزاياهم، ولم يعبهم أو يذمّهم أو ينسب إليهم ما يمكن اعتباره كذلك، ليقال إنّه استخدم قدرته وحذقه في معرفة الشعر العربي لخدمة أغراض شعوبية.

١٠٢

وما أظن ما أضاف، مهما بلغ أو بولغ فيه، يمكن أن يؤثر على صورة الشعر الجاهلي أو يغير في الحكم عليه أو في صدقه. وكل الصعوبة في تمييز شعر حماد متأتية من شدة مشابهته للشعر العربي الجاهلي شكلاً ومضمون.

ثم كم من الأبيات يستطيع هذا الـ (حماد) أن ينظم وينحل ويضيف، حتى لو تجرد لذلك وحده. والشعر الجاهلي شعر أمة كاملة تمتد من اليمن إلى العراق وخلال فترة تبلغ المئات من السنين.

قد يكون حماد شعوبياً يكره العرب ويطعن فيهم ويغض منهم، شأن الشعوبيين الآخرين، ولكن في غير هذا فأنا لا أرى شعوبية فيما ينسب إليه من إضافة شعر إلى بعض شعراء الجاهلية ولم يكن هو الوحيد فيه. فهذا يزيد ابن ضبة. يقول أبو الفرج نقلاً عن جماعة من مشايخ الطائفيين وعلمائهم أنه قال ألف قصيدة فاقتسمتها شعراء العرب وانتحلتها فدخلت في أشعاره (1) .

وهذا خلف الأحمر يقول عنه ابن النديم (وكان - يعني خلفاً - من أمرس الناس لبيت شعر وكان شاعراً بعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم) فلم يتهمه أحد (2) .

وأبو عمرو بن العلاء. ينقل عنه النقاد شيئاً مما يأخذونه على حماد وإن لم يكن بنفس الكثرة، ولم يتهم بشيء مما اتهم به حماد ولا ببعضه. وابن داود بن متمم بن نويرة كان ينظم الشعر وينحله جده متمماً لينفق بعد ما استنفد ما قاله جده (3) .

ومن هذه الملاحظات أيضاً - وأظنني بعدت كثيراً عما بدأت - أن عدداً من الشعراء عرباً وغير عرب قد فتنتهم الحياة الجديدة بما تزخر به من فنون اللهو وضروب اللذة وسهولة الاستمتاع بهما وبما تفيض من سحر وجمال وهم المولعون بالسحر والجمال يتصيدونهما ويلهثون وراءهما وقد أتاحتهما هذه الحياة ويسرتها لهم.

____________________

(1) الأغاني ج7 ترجمة يزيد بن ضبة ص103.

(2) الفهرست لابن النديم - الفن الأوّل من المقالة الثانية.

(3) بل إنّ أبا الطيب اللغوي ي ذ كر أنّ أكثر ما يرويه أهل الكوفة من الشعر (مصنوع ومنسوب إلى مَن لم يقله).

١٠٣

فهل سنتهم أهل الكوفة بالشعوبية لنفس السبب الذي اتهمنا من أجله حماداً بها؟!

وقد يكون أبلغ في الدلالة من هذا، ما يرويه ابن سلام في طبقاته قائلاً: (فلمّا راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم. وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمَن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسنة شعرائهم...) طبقات ابن سلام ج1 ص46.

وكانت الحياة الجديدة بكل فنون لهوها ولذّتها وسحرها وجمالها بعيدة عن حياة العرب قريبة من حياة الفرس، أو هي حياة الفرس قد انتقلت إليهم أو انتقلوا إليها. لم يكن الحاضرون في مجالس اللهو عتبة بن الحارث ولا بسطام بن قيس. ولم يكن الحديث عن داحس والغبراء وشعب جبلة.

ولم يكن المكان حمى ضرية ولازرود. ولم يكن الورد شيحاً ولا قيصوماً. ولم تكن الجارية ابنة لربيعة بن مكدم ولا عقيل بن علفة. فماذا تريد أن يقول هؤلاء الشعراء عرباً وغير عرب، وما ذا يصفون وهم يجتمعون على شرب وجَوارٍ ورقص وغناء وورد وريحان.

هل يسوؤك أن يكونوا صادقين مع أنفسهم يصفون ما يجدون، ويحسون دون كذب ولا تزوير، ودون رحلة كاذبة مزوّرة عبر الزمان والمكان إلى برقة تهمه والدخول وحوقل، وهم لم يروها ولم يعرفوها، ولا تثير لديهم ما كانت تثيره لدى الجاهليين حين يقفون مطيّهم عندها، ويستنطقونها ويذرفون الدمع على مَن فارقوا فيها، وهم في ذلك صادقون يصفون أيضاً ما يجدون ويحسّون دون كذب أو تزوير. إنّهم لو فعلوا ذلك لسخروا من أنفسهم ولسخر الناس منهم، ولما كان لشعرهم هذا الخلود الذي يحظى به حتى اليوم ولما زاد على شعر بعض هؤلاء المعاصرين من المدرسة القديمة، وهم يتغزّلون بسعدى ودعد في شعرٍ غث ميت لا يثير عاطفة عند السامع؛ لأنّه لم يصدر عن عاطفة عند القائل.

قد يكون بين هؤلاء شعوبيون وقد يكون بينهم زنادقة، لكنّ الذي جمع بينهم ليس الشعوبية ولا الزندقة، فلم يكونوا يجتمعون ليسبّوا العرب ويصرفوا شعرهم إلى الطعن عليهم وإظهار معايبهم، ولم يكونوا يجتمعون لتأليف الكتب في إنكار وجود الله أو قول الشعر في التشكيك بنبوّة محمد.

ما جمعهم ليس هذا ولا ذاك بل المجون واللهو وطلب اللذّة بكل أشكالها، وهو مذهب في الحياة سبقوا إليه حتى من بعض عرب الجاهلية. ماذا كان يفعل امرؤ القيس والأعشى وطرفة، مع اختلاف الزمن والبيئة، غير ما كان يفعله والبة وأبو نواس ومطيع مع اختلاف الزمن والبيئة أيضاً؟

وما عليك إلاّ أن تبدل الأسماء هنا وهناك، والأماكن هنا وهناك، والملابس والمطاعم هنا وهناك؛ لتعرف إن كان سيبقى من فرق بين الاثنين.

١٠٤

ثم لماذا هؤلاء الشعراء والأمراء وحدهم. لقد كانت مجالس اللهو والخمر والجواري والغلمان منتشرة في كل مكان في ذلك العهد، يشارك فيها مَن نعرف ومَن لا نعرف، وليست حكراً على عصبة المجّان، وكان الأسبق إليها والأقدر عليها هم الخلفاء أُمراء المؤمنين، فهم الذين بدؤوا هذا اللون من الحياة، وهم الذين شجّعوا عليه وأشركوا الشعراء فيه وأغروا به مَن لم يكن يعرفه، وكان أفضل الخمر وأجمل الجواري وأبرع المغنّين من نصيبهم فخزائنهم - بيوت أموال المسلمين - لا تنضب إن كانت خزائن غيرهم معرّضة للنضوب.

لماذا لا نجد بين زنادقة اللهو والمجون اسماً لواحد من هؤلاء الخلفاء، وهم أولى بالزندقة من كل الذين ذكرت أسماؤهم فيها؟ إلاّ إذا كانوا محصنين لا يجري عليهم ما يجري على مَن دونهم ممّن ليسوا خلفاء ولا أمراء للمؤمنين.

لقد ظلموا كثيراً؛ ظلمهم معاصروهم باتهامهم بالزندقة مرةً، وبالشعوبية مرةً، وبالاثنتين مرّات.

وظلمهم الذين كتبوا عنهم بعد قرون، وكانوا أحرى أن ينصفوهم فلم يفعلوا وربّما زاد بعضهم على معاصريهم.

ظلموهم حين جعلوا منهم زنادقة وهو وصف إن صدق على واحد أو اثنين منهم فإنّه لا يصدق عليهم كلهم.

أين هي كتب الزندقة التي ألّفوهّ.

لقد ذكر المؤرّخون ما وضعه الشعوبيون من كتب في مثالب العرب والطعن فيهم وفي مناقب الفرس وتفضيلهم.

فأين هي كتب الزندقة التي ألّفها: والبة، أو مطيع، أو يحيى، أو حماد، أو عمارة بن حمزة، أو حتى زعيم هذه العصبة وأشهر أفرادها أبو نواس؟ ولو ألّفوا، فما أظنهم كانوا سيؤلّفون في المانوية المحرّمة للذات التي أولعوا بها وعاشوا لها، والتي كانت تمثّل أحد أبرز وجوه الزندقة آنذاك.

أهناك أكثر من أبيات هجاء قالها بعضهم في بعض، أو اتهم بها بعضهم بعضاً بالزندقة والمانوية هزلاً وعبثاً يعكسان حياتهم ويمثّلانها خير تمثيل. ولو صدقناهم لصدقنا ما قاله الشعراء العرب في هجاء بعضهم، ولأعطينا الشعوبية الحق في بعض ما يتهمون به العرب.

والآن لا أدري إن كنت قد استطعت ولو إلى حد ما بيان بعض أسباب الخلط في تأريخنا بين الزندقة أو بشكل أدق صورة من صورها وبين الشعوبية.

لعلّي قد فعلت وإلاّ فلن يضير أولئك (الزنادقة) زيادة واحد من الذين لم يحسنوا النظر إليهم ولا الدفاع عن قضيتهم.

١٠٥

تقييم لحركَتَي: الـزندقة والشعوبية

وأخيراً فقد آن لنا أن نضع الزندقة والشعوبية كمصطلحين كان لهما شأن، في إطارهما الصحيح بين الحركات الفكرية والسياسية في تأريخنا دون تعصّب لهما أو عليهما بعد أكثر من ألف عام على اختفائهم.

ولقد رأيت الذين كتبوا عنهما قلّما كتبوا بعمق وحياد. وإذا استثنيت بعضاً منهم: المرحوم أحمد أمين، فأنا لم أجد بين الذين كتبوا من يملك عمق المؤرّخ ولا فهم الأديب ولا حياد العالم وإنّما وضعوا أمامهم الطبري والأغاني، ولا بأس بالنقل عن الجاحظ وابن عبد ربّه، ثم ضمّوا إليهم فان فلوتن فهو اسم غريب قد يوحي للسامع ما لا توحي به أسماء قرأها وسمع عنها.

ومضوا يكتبون، وكان خيراً لهم ألاّ يكتبوا فقد شوهوا تأريخنا - على كثرة ما شوه - وكانوا - لو عرفوا - شعوبيين أكثر من الشعوبيين الذين يهاجمونهم، حين جعلوا من العرب مجموعة من عديمي الإدراك والتمييز، يساقون إلى حيث يراد بهم ويفعلون ما يُخطّط لهم، دون أن يكون لهم من فكرهم ووعيهم ما يمنعهم من إلحاق الأذى بأنفسهم ويحصنهم ضد أعدائهم الذين يتربّصون بهم.

وهم في كل ذلك يكثرون الحديث عن خبث عدوّهم وشدّة كيده، وكأنّهم يحاولون الاعتذار عن العرب.

لقد أرادوا أن تكون لهم كتب في المكتبات يقرؤها القرّاء فكان لهم غباء في المكتبات يواجه القراء، ولو أنصفوا أنفسهم وأنصفونا لاكتفوا بإحالتنا على مَن نقلوا عنهم، فلم يضيفوا إلى أخطاء وقع فيها المؤلّفون قبل ألف عام، أخطاء جديدة بعد ألف عام.

ولقد تحدثت بالتفصيل عن الظروف التي نشأت فيها الزندقة والشعوبية وعن العلاقة بينهما فلا حاجة للعودة إليها.

ولكن أريد أن أقرّر هنا: أنّ الشعوبية كانت ستظهر يوماً ما ولم يكن ممكناً منعها، وهي قانون من قوانين التأريخ وسنّة الأمم قبل وبعد.

لقد كانت هناك أُمّة غالبة معها الإسلام وأمم مغلوبة دخلت فيه كرهاً أو طوعاً، حرباً أو اقتناعاً ورغبة، وكان الفرس أكثر هذه الأمم وأعلاها شأناً في الجاهلية، وهم إحدى إمبراطوريتين كانت لهما السيادة قبل ظهور الإسلام.

١٠٦

ولم يكن الإسلام يفرض على الداخلين فيه أن ينسلخوا عن أجناسهم ويصبحوا أُمّة واحدة بالمفهوم القومي للأُمة كشرط لقبول الإسلام منهم، والقرآن يقول ( وجعلناكم شعوباً وقبائل... ) ويقول: ( ولو شاء الله لجعلكم أُمّة واحدة ) ( ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمّة واحدة ) .

وكان التعامل مع هؤلاء المسلمين الجدد يجري في كثير من الرفق خلال عهد الراشدين، ووجود الكثير من ذوي الدين والفضل والسابقة من الصحابة الذين رافقوا النبي وعاشوا معه وتعلّموا منه.

وكان هذا التعامل الرفيق الذي لقيه هؤلاء المسلمون، قد ساعدهم على الاندماج في البيئة الإسلامية العربية والابتعاد عن ماضيهم، إذ لم يكن هناك ما يثيرهم ويدفعهم إلى العودة إليه والتفكير فيه.

شاركوا في فتوح المسلمين وكان لبعضهم دور مذكور فيه، ونافسوا العرب المسلمين في الدين حتى كان بينهم مَن يرجع إليه في أُموره.

وانتهى عهد الراشدين باغتيال الإمام علي عام 40 للهجرة.

وقام حكم جديد انحسر فيه الإسلام وقويت العصبية، وقد ساهمت السياسة الأموية في إذكاء العصبية القبلية بين قبائل العرب، والعصبية القومية بين العرب وبين الأُمم الأخرى. والعرب فخورون بطبعهم يتباهون بأنسابهم وقبائلهم وأسرهم حتى على بعضهم. أي عربي يقبل أن يساوي بين تميم وبكر ومذحج وبين باهلة وغني وسلول.

ولأترك الحديث عن العصبية بين القبائل العربية، على خطورة هذا الموضوع، وأحصره بالعصبية القومية بين العرب وبين الموالي، السبب المباشر لظهور الشعوبية.

كان جيل جديد قد نشأ بين العرب، وجيل آخر جديد قد نشأ من الموالي، وكان الإسلام - الدين والسلوك والجامع للعرب والموالي - قد ضعف لدى أولئك وهؤلاء.

وبدأ المتعصّبون من العرب في تحقير الموالي الذين ازداد عددهم، خصوصاً في العراق، وإشعارهم بالاستعلاء عليهم والاستهانة بهم كما سبق أن ذكرنا.

وسكت الموالي الفرس وتجرّعوا الإهانة ولم يستطيعوا الرد؛ إذ كان الحكم عربياً مستبدّاً طاغياً لا يرحم العرب إذ أحس منهم ما يخشى فكيف بالموالي.

لكن سكوتهم كان سكوت الخوف لا سكوت الرضا، فعادوا إلى ماضيهم وهو غير بعيد يتسلّحون به في رد الهجوم عندما يستطيعون، وإلى ماضي العرب يتسلّحون به في الهجوم عندما يستطيعون، وليس هناك ماض أو تأريخ يخلو من مطاعن لمَن يبحث عنها ويتطلّبها.

وكان هجاء العرب لبعضهم أوّل أسلحتهم، ثم جاءت كتب المثالب التي ألّفها العرب ضد العرب وبدأها زياد بن أبيه سلاحاً ماضياً آخر.

١٠٧

وهكذا وجد الفرس بأيديهم سلاحاً عربياً جاهزاً لمهاجمة العرب والنيل منهم، وطعنهم في أكثر ما يعتزّون به من مناقب، وكان العرب كما ترى هم الشعوبيون الأول عن عمد أو غير عمد.

وضعف سلطان الدولة الأموية في بداية القرن الثاني، ثم سقطت في الثلث الأوّل منه لتقوم الدولة العباسية بمساعدة الفرس ودعمهم وتأييدهم.

وزال الخوف الذي كان يمنع الفرس من الرد أو إعلانه، فبدأ شعراؤهم وكتّابهم في نظم مفاخرهم والكتابة عنها وكانوا قبلاً لا يتناولونها إلاّ نادراً، ولم أجد المؤلّفين يذكرون غير إسماعيل بن يسار مثلاً للشعوبي المجاهر بشعوبيته، الفخور بها في العصر الأموي، وقد دفع ثمنها غالياً فكان ما يزال محروماً مطروداً كما يصفه أبو الفرج.

وكان الصدر الأول من الحكم العباسي ساحة صراع لا سياسي فقط بين العرب والفرس، وإنّما كانت الثقافة والأدب شعراً ونثراً ساحة أخرى للصراع بينهم.

لكن الصراع كان مكشوفاً هذه المرّة لا يستره خوف كما هي الحال في العصر الأموي.

وبدأ الشعراء وبدأ الكتّاب الفرس ينظمون ويؤلّفون، ولو وقفوا عند ذكر مآثر الفرس وماضيهم وما كان لهم من سلطان وفكر وفن لما أنكر عليهم أحد. ولقيل قوم ظلموا فثأروا لأنفسهم ودفعوا الظلم وردوا الاتهام، ولكنّهم أفادوا من تلك الفترة التي كانت فيها السلطة الجديدة تراعي الفرس وتترضّاهم وتتجنب سخطهم، فجاوزوا الدفاع إلى الهجوم. ونظم بشّار وكتب أبو عبيدة وكتب علان وكتب غيرهم، لا في مآثر الفرس ولكن في مثالب العرب. حاولوا أن يجرّدوهم من كل فضائلهم بل أن يقلبوا فضائلهم عيوباً. وكان من هؤلاء مَن يجد الدعم والحماية في أسر فارسية ذات سلطة ونفوذ آنذاك كآل طاهر وغيرهم.

وألاحظ أنّ هذه الزندقة والشعوبية الأدبية القائمة على الشعراء والكتّاب والمفاخر والمثالب لم تتجاوز كثيراً حدود العراق، حيث الاحتكاك في ذلك الوقت بين العرب وبين الفرس، وحيث تواجهت لأوّل مرة حضارتان بكل ما تحملان من قيم وعادات وأسلوب في الحياة جديد.

على أنّ من الأمانة أن أضيف: أنّ هاتين الظاهرتين قد ضعفتا كثيراً مع منتصف القرن الثالث الهجري، بعد أن هدأت النفوس وتراجعت حدة العواطف، وأصبح هذا الأسلوب الجديد في الحياة أسلوباً عراقياً قبله العرب وقبله الفرس، ولم يعد سبباً للنزاع بينهما ولم تعد تسمع للزندقة الأدبية ولا للشعوبية الأدبية صوت.

ثم حصل تطوّر خطير آخر غيّر من اتجاه الصراع وشغل العرب عن الفرس، وشغل الفرس عن العرب. فقد دخلت الساحة أمم وأقوام أخرى كالترك والديلم والمغاربة، وتحوّل الصراع إلى صراع بين هذه الأمم والأقوام نفسها ومن بينها الفرس. والى صراع بين زعمائها والبارزين فيها، لكنّه صراع على السلطة والنفوذ في ظل حكم ضعيف.

وتخلّت الشعوبية الأدبية عن مكانها إلى شعوبية سياسية لم يعد العرب والفرس طرفيها، ولا أبو معاذ وأبو عبيدة من قادتها بل شارك فيه، وكان من أطرافها الأمم والأقوام الأخرى، واستبدل فيها ببشّار ومعمر أوزون ونازوك ومؤنس.

وخلال ذلك شهد العراق، وفي القسم الأوسط والجنوبي منه، حركات قوية لها طبيعة اجتماعية واقتصادية بعيدة عن الشعر والأدب والمفاخر والمثالب: كثورة الزنج، وحركات القرامطة.

١٠٨

هذا في العراق الذي حاولت أن أحصر حديثي عن الزندقة والشعوبية فيه، كما هي في جانبهما الأدبي الذي عرفتا به.

أمّا في أطراف الدولة العربية الإسلامية فقد قامت في الجانب الشرقي منها دويلات غير عربية: فارسية أو تركية. احتفظت مع فارسيتها أو تركيتها بدينها الإسلامي، فهي فارسية مسلمة أو تركية مسلمة لم تعرف حركة اسمها الشعوبية، كما عرفها العراق في العصر الذي تحدثت عنه؛ لأسباب منها: أنّ تلك الدويلات قامت على أراضيها بعيداً عن مركز الدولة العربية الإسلامية في العراق، وكان بعدها هذا مانعاً للاحتكاك الذي رأيناه بين العرب والفرس في العراق وما ولّده من كره وكره مقابل. ومنها: أنّ تلك الدويلات لم يكن لها ماض يوازي، أو يقارب ما كان للفرس من ماض، عندما كانت الإمبراطورية الفارسية إحدى أقوى إمبراطوريتين في العالم، فهي لا تستطيع أن تقابل العرب بما يستطيع الفرس أن يقابلوا به العرب. ومنها أنّ الدولة العربية الإسلامية كانت قد بلغت درجة من الضعف لا تسمح لها بمواجهة ما يجري في العراق نفسه إلاّ بجهد وصعوبة، ناهيك عن مواجهة دويلات منظمة لها جيوش تستطيع القتال وهي في أراضيها على ألوف الكيلو مترات من بغداد. وإذا كانت ثورتا المقنع وبابك الشعوبيتان قد فشلتا؛ فذلك لأنّهما قامتا والدولة المركزية ما تزال قوية بعد، تملك أن تواجه وأن تنتصر؛ ولأنّ الثورتين قد أسقطتا الإسلام وقامتا على أساس قومي فارسي بعيد عن الإسلام، فحاربهما العرب لفارسيتهم، وحاربهما المسلمون غير العرب لابتعادهما عن الإسلام. بقي أن نلاحظ أنّه حتى في العصر العباسي الذي كان نفوذ الفرس هو المسيطر والطاغي، كان النسب العربي ساحراً جذّاباً يتعلّق به من لا يمنعه وضوح نسبه غير العربي من التعلّق به والانتماء إليه. وهذا ما نراه واضحاً في هجاء بعض الموالي الذين تركوا نسبهم الأصلي واستبدلوا به نسباً عربياً. بل هذا ما نجده في هجاء بعض العرب من المغموزين في نسبهم فأشجع السلمي، يريد شاعر أن يهجوه فلا يجد لذلك منفذاً إلاّ عن طريق نسبه فيقول:

إنّما أنت من سليم كواو

ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو

والهيثم بن عدي الطائي يهجوه أبو نواس، وهو الذي يسخر من تميم وقيس والعرب كلهم فيقول فيه:

إذا نسبت عدياً في بني ثعل

فقدّم الدال قبل العين في النسبِ

وحتى أبو عمرو بن العلاء يغضب بشّار على ابنه خلف فيقول:

أرفق بعمرو إذا حرّكت نسبته

فإنّه عربي من قوارير

والأمثلة على ذلك كثيرة.

١٠٩

وما أظن النسب العربي كان يحظى بكل هذا الاهتمام من جانب المنتسب أو من جانب النافي له، لو لم يكن له شأن وحساب ولو لم يكن موضع اعتزاز وفخر في ذلك الوقت.

والآن أعود بعد هذه الرحلة الطويلة لأؤكّد ما سبق أن قلته عن الشعوبية في بداية الحديث: من أنّها كانت ستظهر يوماً ما دامت هناك أُمّة غالبة حاكمة وأُمّة وأمم مغلوبة محكومة. فهذا أول أسباب الصراع حتى لو تخلّفت الأسباب الأخرى، ولا بد لهذا الصراع أن ينفجر ثورة عندما تتوفّر ظروف نجاحها، وأحياناً حتى لو لم تتوفّر ظروف نجاحها.

لقد بقي العرب زهاء سبعة قرون تحت الحكم العثماني المسلم، لكن لا طول المدة ولا إسلام العثمانيين أنسيا العرب عروبتهم ومنعهم من المطالبة الدائمة باستقلالهم الذي حصلوا عليه عبر ثورات ودماء وشهداء.

وهذا الاتحاد السوفيتي، ما أسرع ما رجعت كل قومية من قومياتها إلى ذاتها تبني دولتها الخاصة بها، بالرغم ممّا كان يربطها خلال سبعين عاماً من نظام اقتصادي وسياسي واحد.

وحتى يوغوسلافيا، هذا البلد الصغير، لم يسلم من التمزّق وانقسامه إلى دول بعدد القوميات التي كان يتألّف منها.

وأظنني بعد هذا استغرب ممّن يستغرب حركة الشعوبية وكأنّها حركة خارج التأريخ.

١١٠

الفهرس

المقدّمة: 2

الإهداء: 3

القسم الأوّل: فـي الزندقة 4

الفصـل الأوّل: مفهوم الزندقة عند المسلمين .5

الفصـل ا لثاني: الزندقـة في الجاهليـة 10

1 - الزندقة وقريش: 10

2 - المجوسيّة في تميم: 16

الفصل الثا لث: الزندقـة فـي الإسلام 20

الفصـل ال رابع: المجوسيّة 25

الفصل ال خامس: المانويّـة 26

الفصـل ا لسـاد س: المزدكيّـة 27

الفصـل السـا بع: البـرامكـة 32

الفصل ال ث ا من: آل سهل .43

الفصل ال ت ا س ـ ع: عبد الله بن أبي عبيد الله .46

الفصل ال ع ا ش ـ ر: عبد الله بن المقفّع .49

الفصـل ال ح ا دي عشـر: صالح بن عبد القدوس .56

الفصـل ال ث ا ن ي عشـر: عبد الكريم بن أبي العوجاء 59

الفصـل الثا لث عشـر: بشّار بن بُـرْد 63

القسـم الثانـي: الشعوبيّة 75

القسم الثالـث: العـلاقـة بين الزندقة وبين الشعـوبية 98

تقييم لحركَتَي: الـزندقة والشعوبية 106

١١١