الوهابيون والبيوت المرفوعة

الوهابيون والبيوت المرفوعة33%

الوهابيون والبيوت المرفوعة مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 111

الوهابيون والبيوت المرفوعة
  • البداية
  • السابق
  • 111 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52810 / تحميل: 5641
الحجم الحجم الحجم
الوهابيون والبيوت المرفوعة

الوهابيون والبيوت المرفوعة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ومنه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في (احد) كما في (صحيح البخاري) عن النبي لما طلع له (احد) فقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه. اللهم أن ابراهيم حرم مكة واني احرم مابين لابتيها، يعني المدينة)(١) .

فتخصيصها بالمناسك دون غيرها تخصيص بغير دليل، والاطلاق كاف لشموله جميع المصاديق، كما تقدم في الشعائر، وقرينة اتصالها بآية النسك لاتزيد على الاشارة الى احدى مصاديقها شيئاً، فكيف بتخصيصها بها؟!

هذا وقد ورد في تفسير اهل البيت وباطن القرآن تفسيرها بهم (عليه السلام) كما عن الامام ابي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) في المعتبر انه قال: (نحن حرمات الله الأكبر).

وفي المروي عن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) انه قال: (إنّ الله حرمات ثلاثاً مثلهن: كتابه هو حكمته ونوره، وبيته الذي جعله قبلة للناس، وعترة نبيكم)(٢) .

وفي المرفوعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ستة لعنتهم ولعنهم الله، وكلّ نبيّ مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت، ليذل من أعزه الله، ويعزّ من اذله الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل لعترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي).

[الاعتصام بحبل الله]

ومنها: قوله تعالى في سورة آل عمران:( واعتصموا بحبل الله جميعاً

____________________

١ - صحيح البخاري ٥ / ١٣٦ باب نزول النبي (صلى الله عليه وآله) الحجر.

٢ - رواه الصدوق الامامي في كتابه (معاني الاخبار ص ١١٨ وانظر كتابه الخصال ص ١٤٦ باب: لله عز وجل حرمات ثلاث).

٨١

ولا تفرقوا ) .

قال الرازي في هذه الآية: أمر الله بالتمسك والاعتصام بما هو كالاصل لجميع الخيرات والطاعات، وهو الاعتصام بحبل الله.

واعلم ان كل من يمشي على طريق دقيق يخاف ان تزلق رجله، فاذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق، أمن من الخوف.

ولاشك ان طريق الحق طريق دقيق، وقد زلقت ارجل الكثير من الخلق عنه، فمن اعتصم بدلائل الله وبيناته، فإنه يأمن من ذلك الخوف.

فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به الى الحق في طريق الدين، وهو انواع كثيرة.

ثم عد منها العهد في قوله تعالى:( وافوا بعهدي ) .

ومنها القرآن...

الى قوله: وروي عن ابي سعيد الخدري، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (اني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله حبل ممدود من الأرض عترتي واهل بيتي) والحديث متواتر بين الفريقين(١) .

وزاد فيما رواه عبد الله بن احمد بن حنبل، وأخرجه باسناده عن ابن نمير، عن عبد الملك بن سليمان، عن عطية العوفي، عن ابي سعيد الخدري، عن رسول

____________________

١ - حديث الثقلين متواتر بحكم جمع من أعلام الحديث وهو على كل حال مجمع على صحته، فأورده مسلم في صحيحه ٧/١٢٢ - ١٢٣، وبشرح النوري ١٥/١٧٩ - ١٨١، وأحمد في المسند ٣/١٤ و١٧/٢٦ و٥٩ و٤/٣٧١، والدارمي في السنن ٢/٤٣٢، والحاكم في المستدرك على الصحيحين ٣/١٠٩، وقال: صحيح على شرط الشيخين و٣/١٤٨ وقال مثله، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ /٣٠ و١٠ /١١٤، وانظر مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٦٣، وكنز العمال ١ / ١٨٦ و ٥ / ٢٩٠ و ١٣/١٠٤ و ٣/٦٤١ و١٤/٤٣٥، وأقرأ بحثاً مفصلاً عن الحديث ومصادره ودلالته في مجلة (علوم الحديث) العدد الأول لسنة ١٤١٨ هـ.

٨٢

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال بعده: (إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).

وقال: قال ابن نمير: قال بعض أصحابنا عن الأعمش أنه قال: (انظروا كيف تخلفوني فيهما).

وفي رواية: (ألا وإني مخلف فيكم الثقلين: الثقل الاكبر القرآن، والثقل الاصغر عترتي أهل بيتي، وهما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عز وجل، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا، سبب - أو طرف - منه بيد الله وسبب بأيديكم، ان اللطيف الخبير قد نبأني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كاصبعي هاتين وجمع بين سبابتيه) الحديث.

وعن تفسير (الكشف والبيان) لأبي اسحاق الثعلبي في هذه الآية، روي باسناده، رفعه الى الامام جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: (نحن حبل الله الذي قال الله:( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا ) .

وفي حديث العنبري وقوله: (يارسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ماهذا الحبل الذي امرنا الله بالاعتصام به والا نتفرق عنه؟

فأطرق مليا، ثم رفع راسه، واشار بيده الى علي بن ابي طالب، وقال: هذا حبل الله الذي من تمسك به عصم به في دنياه، ولم يضل به في آخرته.

فوثب الرجل الى علي (عليه السلام) فاحتضنه من وراء ظهره، وهو يقول: اعتصمت بحبل الله وحبل رسوله) الحديث.

وفي حديث محمد بن عبد الله المعمر الطبري الناصبي - بطبرية سنة ٣٣٣ - رواه في وفد اليمانيين على رسول الله، والحديث مشهور الى قوله: (فقالوا يارسول الله بين لنا ماهذا الحبل؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) هو قول الله:( الا بحبل من الله وحبل من الناس ) فالحبل من الله كتابه، والحبل من الناس وصييي، ولم يعلم تأويله الا الله) الحديث.

فالآية كناية عن الالتزام بمودة ذوي القربى من اهل البيت واخذ العلم منهم

٨٣

والتعظيم لاثارهم.

ومثله (العروة الوثقى) فيما أخرجه أبو المؤيد موفق بن احمد، عن عبد الرحمن ابن ابي ليلى، قال، قال رسول الله لعلي (عليه السلام): (أنت العروة الوثقى).

[أبواب البيوت]

ومنها: قوله تعالى:( وأتوا البيوت من ابوابها ) (١) .

والتقريب: أنّ الهداة من عترة الرسول انما هم ابواب مدينة علمه وخزنة وحيه ورسالته، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا مدينة العلم وعلي بابها، ولا توتى البيوت الا من ابوابها).

والحديث متواتر اللفظ والمعنى في طريق الفريقين.

ورواه ابن بطريق في (العمدة) بإسناده عن ابن المغازلي الواسطي الفقيه الشافعي في (المناقب) بإسناده عن علي بن عمر، عند حذيفة، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي غير: (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها)، ومن اراد الحكمة فليأت الباب).

وفيما اخرجه المناوي عن الترمذي (أنا دار الحكمة)، وفي بعضها مارواه باسناده عن ابن المغازلي، عن أحمد بن محمد بن عيسى سنة عشر وثلاث مائة معنعناً عن رسول الله (ص) أنه قال: (ياعلي انا المدينة وانت الباب، كذب من زعم انه يصل المدينة الا من الباب).

____________________

١ - أورده الحاكم في المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢٧، وفي مجمع الزوائد ٩ / ١١٤، وكنز العمال ١٣ / ١٤٨ وتتكلموا حول إسناده.

وقد اشبع الامام المجتهد الحافظ احمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني المغربي المتوفي (١٣٨٠ هـ)البحث عنه، واثبت صحته في كتاب (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي) المطبوع طبعة ثانية بالقاهرة عام ١٣٨٩هـ.

٨٤

قال الرازي: فجعل الله اتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم، وهذا طريق مشهور في الكناية، فإن من ارشد غيره على الوجه الصواب، يقول له: ينبغي أن تاتي الأمر من بابه، وفي ضده يقال: إنه ذهب الى الشيء من غير بابه.

قال الله:( فنبذوه وراء ظهورهم ) ، وقال:( واتخذتموه وراءكم ظهرياً ) .

فلما كان هذا طريقاً مشهوراً معتاداً في الكنايات ذكره الله ههنا. انتهى.

فقد ظهر: أنّ الآية كناية عن التمسك والتوسل بأهل البيت.

[اتخاذ المساجد]

ومنها قوله تعالى في سورة الكهف:( وقال الذين غلبو على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً ) .

دلت الآية بالتقرير والامضاء على جواز العبادة عند قبور الاولياء والصالحين، بل وعلى اتخاذها للمسجدية تبريكاً للمكان.

ففي (تفسير الجلالين) و (الكشاف) وابي السعود:( الذين غلبوا على امرهم ) وهم المؤمنون:( لنتخذن عليهم مسجداً ) يصلي فيه المسلمون، ويتبركون بمكانهم، وفعل ذلك على باب الكهف. انتهى.

ومما اخرجه المناوي في (الكنوز)(١) عن الديلمي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن بمسجد الخيف قبر سبعين نبياً) ورواه ايضاً في (صفحة ١٠٥) عن الطبراني.

وفي (صفحة ٤١) فيما أخرجه عن الحكيم الترمذي في (النوادر) قوله (عليه السلام): أنّ قبر اسماعيل في الحجر، ورواه ايضا (صفحة ١٠٦) عن الديلمي.

____________________

١ - صفحة ٥٧.

٨٥

هذا كله، مع ماكان الاحرى والاجدر بهؤلاء النجديين - في صيانتهم لشعائر الدين، ووجوب التحفظ والرعاية لحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أطائب عترته ولحمته وأركان أصحابه وأعاظم العلماء والشهداء من حملة وحيه وعلمه.

إبقاء مآثرهم وضرائحهم وبقاعهمالتي كان قد بناها المسلمون، أداءً لفرض المودة وأجر الرسالة.

كما كان الأوفق والاصلح لهم بجمع الكلمة واجتماع الامة، التبينُّ والتثبت فيما بلغهم عن موحدي المسلمين من الافك العظيم، او راموها بظنونهم فيهم، فرموهم بها.

لا التهجم عليهم بالهمجية، بهدم قباب هؤلاء الائمة وأطائب العترة، ففعلوا ما فعلوا، والتاريخ يعلن عما فعلوا، واغضبوا الله ورسوله.

كما كان الأوفى والأقرب بالنصف أن يكون لهؤلاء غنى فيما استدل به السمهودي والسبكي والمدني والنووي والمناوي بالإجماع والكتاب والسنة على الزيارات والتوسلات.

وفيما ارسل اليهم الشيخ الوحيد والمصلح الكبير بذلك الكتاب الناصح المشفق، بما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القوية، من الكتاب والسنة وإجمع الامة في جوامع ما عليه الامامية من التوحيد وتنزيهم عن إفك الشرك لو أنصفوا ولم يعودوا.

[أهداف الفرقة]

وكان الباعث لهم في الحقيقة الى تعذيب المسلمين وإلقاء نار الشقاق في الموحدين، هو ما تمكن في نفوسهم من حب الاستئثار بالسطوة والسلطان،

٨٦

وجشع استعمار البلاد، واسترقاق العباد، من غير رأفة ولا رقة ولا شفقة بإخوانهم في الدين، فضلاً عن البشرية.

فقاموا بمقتضاه وشمروا على هتك حرمات الله، ولقد جاؤوا بها شيئاً إداً( تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا ) .

واما بحسب الظاهر فبجهلهم وجمودهم:

[شبهة تسنيم القبور]

فتارة بشبهة التمسك بحديث ابي الهياج المروي في صحيح مسلم في قوله: (لا تدع تمثالا الا طمسته، ولا قبراً مشرفاً الا سويته)(١) .

مع وضوح فساد التمسك به بما تقدم من السيرة النبوية، وما ورد من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بزيارة القبور وحثه [عليها] وتعاهدها والدعاء عندها.

والنبي من لا ينطق عن الهوى( إن هو إلا وحي يوحى )

كيف يأمر بهدم القبور من هو يأمر بزيارتها؟!

أم كيف يأمر بهدمها وهو يزورها، ويقف عليها، ويدعو الله عندها؟!

على انّ تسوية القبور وتسطيحها وتعديلها المقابل لتسنيمها، المشتق من سنام البعير شرفه وعلوه، كما يدل عليه قوله: مشرفاً، والا كان هذا القيد لغواً عبثاً.

وعليه فالحديث يدل على مرجوحية التسنيم للقبور الذي أخذته العامة لها شعاراً، مع مخالفته فعل رسول الله بتسطيحه قبر ولده ابراهيم، وكما استشهد به لذلك شراح الحديث كالقسطلاني وغيره.

ويدل بمفهومه على افضلية ما ذهب اليه الامامية، ووافقهم عليه الإمام

____________________

١ - صحيح مسلم ٣ / ٦١.

٨٧

الشافعي من التسطيح.

هذا، مع ان الحديث بمعزل عن ذلك كله لوروده مورد قبور عظماء الكفار وتماثيلهم وآلهتهم هناك.

وفي ذم اليهود والنصارى من كفار الحبشة، وما كانوا عليه من اتخاذهم لقبور صلحاء موتاهم كهيئة تمثال صاحب القبر أصناماً يعبدونها من دون الله.

فأمر النبي علياً (عليه السلام) بطمس تلك الهياكل والتماثيل وهدمها وتخريبها ومحوها ومساواتها، ويدل عليه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ولاتدع تمثالاً).

[اتخاذ القبور مساجد]

ومثلها ما ورد من [الاحاديث] الناهية عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة.

والمغالطة فيها، فانها - كما ترى - مقيدة بما كان [عليه] اليهود وغيرهم من المشركين، كانوا يمثلون هناك الصور والتماثيل لصاحب القبر.

أو ماكانوا يجعلون البارز من القبر قبلة يستقبلونها بايّ جهة كانت، ويصلّون تجاهها، فنهي النبي عن ذلك.

حتى انه روى البخاري عن أنس قال: (كان قرام لعائشة - أي ستر خفيف - سترت به جانب بيتها، فقال النبي: أميطي عنّا قرامك، فإنه لايزال تصاويره تعرض في صلاتي)(١) .

وكل هذا مما لاينكره احد من المسلمين.

ويدل على الوجه الاول: مارواه كل من البخاري ومسلم في صحيحه عن النبي (ص) أنه قال: (إن اولئك اذا كان فيهم الرجل الصالح فمات فبنوا على قبره

____________________

١ - صحيح البخاري ١ / ٩٩.

٨٨

مسجداً وصوروا فيه تلك الصورة)(١) .

وعلى الوجه الثاني: ماورد ايضاً في الصحيحين عن عائشة عن النبي قوله (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد)(٢) .

ولذلك قالت عائشة: (ولولا ذلك أبرز قبره غير انه خشي أن يتخذ مسجداً)(٣) .

فالظاهر من الرواية - بمساعدة ما فهمته عائشة منها، بحيث لم ينكر عليها أحد ممن روى الخبر عنها-:

أنّ المنهي عنه إنما هو خصوص الصلاة الى القبر باتخاذ البارز من القبر قبلة.

لا مجرد الصلاة عند القبر بالتوجه الى الكعبة.

وقد عرفت صحة الاتخاذ بهذا المعنى فيما مضى وستأتي الحجة عيله من القرآن والسنة الصحيحة.

وهذا معنى الحديث.

ولولا ذلك لما كان الابراز سبباً لحصول الخشية، فان المخشي منه هو استقبال القبر بجعله واتخاذه قبلة، واما الصلاة الى الكعبة فممّا لا يتوقف على البارز.

ويؤكد هذا المعنى للحديث صريح مارواه المناوي(٤) ، وأخرجه عن ابن حبان في صحيحه: (أنّ النبي نهى عن الصلاة الى القبور).

[الصلاة في المقابر؟]

ومثله في الوهن ما أوردوه من الشبهة في النهي عن الصلاة في المقابر.

____________________

١ - صحيح البخاري ١ / ١١١ و ١١٢ و ٤ / ٢٤٥، وصحيح مسلم ٢ / ٦٦.

٢ - صحيح البخاري ١ / ١١٠ و ١١٢ و ١١٣، و ٢ / ٩١ و ١٠٦، و ٤ / ١٤٤، و ٥ / ١٣٩ و ١٤٠، و ٧ / ٤١، وصحيح مسلم ٢ / ٦٧.

٣ - لاحظ صحيح البخاري ٢ / ٩١، ولاحظ ص ١٠٦ و ٥ / ١٣٩، وصحيح مسلم ٢ / ٦٧.

٤ - في ص ١٦٩ من الكنوز.

٨٩

وكذا كل مايتشبث به الوهابيون من المناهي حول عنوان القبر، من التجصيص والتجديد والكتابة عليها، كما تراها بمعزل عما رموا به المسلمين.

فان المشاهد المشرفة مما ليس هناك قبر بارز، وانما هو مجرد الصندوق والشباك الواقعين على السرداب الاجنبي عن القبر، ليكون حريماً وعلامة لايوطأ ولايصلى عليه، عملاً بالنهي.

هذا، مع ان النهي محمول على الكراهة، بل ومخصوص بما فسره شراح الحديث.

وقد قال ابن الاثير في (النهاية)، وانما النهي عن الصلاة في المقابر، لاختلاط ترابها بصديد الموتى، والا فان صلى في مكان طاهر منها صحت صلاته.

قال: ومنه الحديث: (لاتجعلوا بيوتكم مقابر) أي لاتجعلوها كالقبور، فلا تصلواا فيها، فان العبد اذا مات، وصار في قبره لم يصلّ، ويشهد له قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً). انتهى كلامه.

وهذا احمد بن حنبل، فقد روى في مسنده مايفسر الحديثين المذكورين، كما روى عنه المناوي في (الكنوز).

أما بالنسبة الى العنوان الاول:أي اتخاذ القبور مساجد:

فقد روى عن مسنده(١) عن النبي انه قال: (لاتجعلوا على القبور ولا تصلوا اليها). وماروى فيه ايضا عن الطبراني في الحديث قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تصلوا الى قبر، ولا على قبر).

وأما بالنسبة الى العنوان الثاني:

فقد روى عن مسند احمد(٢) عن النبي قال: (لا تتخذوا بيوتكم قبوراً، صلوا فيها).

____________________

١ - كنوز المناوي ص ١٨١، ومسند احمد ٤ / ١٣٥.

٢ - كنوز المناوي ص ١٧٩، ومسند احمد ٤ / ١١٤.

٩٠

ومثله ما تقدمه عن ابن الاثير.

فلا يغنى المتكلف مطلق النهي، ولا النهي عن مطلق الاتخاذ.

نعم هكذا يراد قتل الحقائق، ورمي عباد الله الموحدين بسهم العصبية، فانظر وراجع وانتصف.

فأين مناسبة هذه الروايات لما رامه الجاهل المعاند؟!

وياليتهم دروا من الروايات مواردها، أو من التسوية والمساواة اشتقاقها.

وليتهم إذا لم يدروا وقفوا، ولم يفتوا.

[البناء في الارض المسبلة]

كما اطالوا الكلام تارة حول الارض المسبلة، وأفتوا بغير ما أنزل الله، لشبهة أن البناء في المسبلة مانع عن الانتفاع بالمقدار المبني عليه، فهو غصب يجب رفعه، وبه أفتى قاضي قضاتهم على هتك حرمات الله.

ومن الواضح ان هذه المختصات من الابنية وغيرها في نظر الشارع الاسلامي، كأملاك لا يسوغ لغير مالكها او من يقوم مقامه في التصرف فيها.

مع ما تقدم من وجوب حرمة المؤمن ميتاً كوجوبه حياً فيحرم هتك حرمته بهدم حرمه وقبره.

وكيف التجرؤ عليه بمجرد دعوى التسبيل من غير حجة ودليل؟

على ان مقتضى القاعدة فيها ونظائرها التمسك في الاباحة الاصلية مالم يثبت هناك عروض الملكية، ودونه خرط القتاد.

وحيث لم يقرع سمع أحد من المسلمين، ولم يوجد حديث او تاريخ على ان البقيع مما استملكها أحد، ثم وقفها احد وسبلها لدفن الموتى، فهي باقية بعد على اباحتها، يجوزها من يشاء من المسلمين من غير ان يتعرضه احد ومع الشك في

٩١

العروض يبقى استصحاب الاباحة الاصلية سليمة عن المزاحم.

ثم لو فرض مع هذا ثبوت الوقف قبل الحيازة - ومن المحال ثبوته - فلا ينفع المتكلف بشي، ولم يسمع منه ذلك الا بعد اثباته وقوعه منه على غير مجرى عرف أهل المعرفة من المسلمين وعاداتهم في مجاري البر والخير، من الرعاية لحق العظيم في الاسلام والمحترمين من الصحابة والأولياء، ممن يكثر زوارهم من المسلمين التالين لكتاب الله لديهم وإهداء ثوابها اليهم، عملاً بالسنة المأثورة وقياماً لأداء حق عظيم شرفهم في الاسلام.

كلا وليس في المسلمين أحد ممن يوقف مقبرة للمسلمين على غير الوجه الأمثل، لرعاية البر والطاعة، والأقرب بأداء الحقوق، والأوفى بتعظيم الشعائر.

ولم تزل السيرة القطعية - من أكابر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين الى زمان الائمة الاربعة والخلفاء، من الامويين والعباسيين، وجهابذة العلماء وأساطين الدين باقتدارهم وسلطنتهم وكمال تضلعهم في اجراء السنة ومحو البدعة طول هذه المدة - جارية في ابقاء ماثبت من الابنية، من غير نكير منهم في حين.

وسيرتهم حجة قاطعة لايزاحمها شيء، ولم يحتمل احد منهم أحدوثة التسبيل أو توهمه.

سوى ماظهر في يومنا هذا من العلم المخزون والديانة المحتكرة في اعراب نجد!

وهذا أحمد بن تيميه [شيخ الاسلام] مؤسس الوهابية وإمام زعيمهم، ممن صرح بسيرة هؤلاء.

فحكم في باب الوضوء بغسل الرجلين تمسكاً بها، بان رعاية الاقرب في العطف في قوله تعالى( فامسحوا برؤوسكم وارجلكم ) مما كان يوجب مسح الرجلين، لولا السيرة المستمرة على الغسل؟

وقد استدل قاضي قضاة الوهابيين بمكة المكرمة في الحين بعمل المسلمين على

٩٢

امامة من قهر الناس، واستولى عليهم: بأنه على ذلك جرى المسلمون في غالب الاعصار.

كما في (صفحة ٥) في سؤال وجوابه في مدعي الخلافة المطبوع في سنة (١٣٤٤).

وفي (صفحة ٩) منها حيث قال: كما جرى على ذلك عمل المسلمين من بعد الخلفاء الراشدين. انتهى كلامه.

[قبور ائمة البقيع ملك لبني هاشم]

هذا، وقد تقدم مايشهد به التاريخ على قبة العباس بن عبد المطلب، المحتوي على قبور الائمة الاربعة مع جدتهم فاطمة بنت رسول الله على قول، وفاطمة بنت اسد، في القرن الأول.

وما يظهر منها انه اول مقبرة في البقيع لبني هاشم بنيت في دار عقيل بن ابي طالب المختصة بهم، كما ذكره السمهودي عن عبد العزيز وكما يظهر منه: أنها كانت تدعي يومئذٍ مسجد فاطمة.

وروي عن الطبري عن الشيخ ابي العباس المرسي: انه كان اذا زار البقيع وقف امام قبلة قبة العباس، وسلم على فاطمة.

وفيما حكاه عن ابن جماعة: أن في قبر فاطمة قولين:

أحدهما: انه الصندوق الذي امام المصلي.. إلى قوله:

وثانيهما: أنه المسجد المنسوب اليها بالبقيع، أي البناء المربع في جهة قبلة قبة العباس للمشرق، وهو المعني بقول الغزالي، ويصلي في مسجد فاطمة. انتهى كلامه.

وروي عن المسعودي والسبط ابن الجوزي فيما نقله عن الطبري

٩٣

المدني المولود بالمدينة سنة ثلاثين ومائة - مايؤيد هذا المقام.

وروى باسناده عن زيد بن السائب، عن جده، ان عقيل بن ابي طالب بنى على قبر أم حبيبة ام المؤمنين بيتاً.

قال: قال ابن السائب: فدخلت ذلك البيت ورأيت فيه ذلك القبر انتهى.

وبالجملة: وبعدما عرفت - كما تقدم - من الحجج الواضحة في الجواب عن الشبهات بالأحاديث المتشابهات.

فبأي وجه تجرؤوا على هتك حرمات الله ورسوله في حرمه، وسفك دماء الصالحين من عترته، والموحدين من امته؟!

فلا يستخفنهم المهل والاستدراج فانه - عز وجل - لايخفره البدار، ولا يخاف عليه فوت الثار، وهو العالم بالعباد، وبالظالمين لبالمرصاد.

[المقامات المهدومة]

وهذه مساجد الله ومحاريبه والمزارات والمقامات والقباب المهدومة بايدي هؤلاء، أصبحت تشتكي الى الله.

وحرماته المهتوكة بظلمهم في الحرمين الشريفين والطائف، أمست تصرخ وتستغيث بعدل الله( ومن اظلم ممن منع مساجد الله ان يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) الآية.

واليك اسماء القباب الشريفة التي هدمومها في الثامن من شوال سنة (١٣٤٤) في البقيع خارجه وداخله.

الاول: قبة اهل البيت (عليهم السلام) المحتوية على ضريح سيدة النساء فاطمة الزهراء - على قول - ومراقد الائمة الاربعة: الحسن السبط، وزين العابدين، ومحمد الباقر، وابنه جعفر بن محمد الصادق (عليهم الصلاة والسلام)، وقبر العباس

٩٤

ابن عبد المطلب عم النبي، وبعد هدم هذه القباب درست الضرائح.

الثاني: قبة سيدنا ابراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

الثالث: قبة ازواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

الرابعة: قبة عمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

الخامسة: قبة حليمة السعدية مرضعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

السادسة: قبة سيدنا اسماعيل ابن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).

السابعة: قبة ابي سعيد الخدري.

الثامنة: قبة فاطمة بنت اسد.

التاسعة: قبة عبد الله والد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

العاشرة: قبة سيدنا حمزة خارج المدينة.

الحادية عشرة: قبة علي العريضي ابن الامام جعفر بن محمد خارج المدينة.

الثانية عشرة: قبة زكي الدين خارج المدينة.

الثالثة عشرة: قبة مالك ابي سعد من شهداء احد داخل المدينة.

الرابعة عشرة: موضع الثنايا خارج المدينة.

الخامسة عشرة: مصرع سيدنا عقيل بن ابي طالب (عليه السلام).

السادسة عشرة: سيدنا عثمان بن عفان.

السابعة عشرة: بيت الاحزان لفاطمة الزهراء.

ومن المساجد مسجد الكوثر، ومسجد الجن، ومسجد ابي القبيس، ومسجد جبل النور، ومسجد الكبش … الى ماشاء الله.

كهدمهم من المآثر والمقامات وسائر الدور والمزارات المحترمة، كما صرح بها في (المفاوضات).

٩٥

هذا، بعدما نهبوا جميع ما فيها.

كما قد نهبوا حرم النبي من قبل، ولم يراعوا حرمته، فأخذوا في تلك السنة ما كان في خزانة الرسول من الحلي والحلل، كما عن تاريخ عجائب الآثار للجبروتي.

قال - في ضمن تاريخ سنة ١٢٢٣ -: ويقال إنّه ملأ الوهابي اربعة صناديق من الجواهر المحلاة بالألماس والياقوت العظيمة القدر.

من ذلك أربع شمعدانات من الزمرد وبدل الشمعة قطعة الماس تضيء في الظلام.

ونحو مائة سيف لا تقوم قراباتها، ملبسة بالذهب الخالص، ومنزل عليها ألماس والياقوت، ونصابها من الزمرد واليشم ونحو ذلك، ونصلها من الحديد الموصوف، وعليها أسماء الملوك والخلفاء السالفين.

وليت شعري بأي حق لهم، وبأي وجه نهبوا وأخذوا؟!

وباي حكم حكموا في أموال المسلمين، وخالفوا كتاب الله و[سنة] رسوله وسنة الشيخين؟!

أو ماذكر عند عمر بن الخطاب حلي الكعبة، فقال قوم: لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلي؟!

فهم عمر بذلك، وسأل عنه امير المؤمنين، فقال: (ان القرآن انزل على النبي والاموال اربعة: أموال المسلمين، فقسمها بين الورثة، والفرائض والفيء، فقسمها على مستحقيها، والخمس فوضعه حيث وضعه، والصدقات فجعلها حيث يجعلها. وكان حلي الكعبة فيها - يومئذٍ - فتركه الله على حاله، ولم يتركها نسياناً، ولم يخف عنه مكاناً فأقره حيث أقره الله ورسوله).

فقال عمر: (لولاك لافتضحنا)، وترك الحلي بحاله.

٩٦

[سفك الدماء]

ثم، وبعدما اجترؤوا على هتك حرمات الله ورسوله بهدم قبابها ونهب ما فيها، تجاسروا على سفك دماء المسلمين، واشراف المؤمنين من الموحدين، والسادة المنتجبين من قاطني حرم الله، ومجاوري الطائف من بيت الله.

وما ذنبهم الا التوحيد وقراءة القرآن المجيد، فسفكوا دماءهم، وأباحوا اموالهم واعراضهم وحرائرهم بمرأىً من الله ورسوله ونصب عينه.

وهم يصرخون ويضجون ويعجون وينادون: ياالله، يامحمداه، يارسول الله.

وكان قد تألف في هذه السنة (١٣٤٥) وفد من اشراف الهند ومؤمنيهم، قاصدين الى الحجاز بعنوان (جميعة خدام الحرمين) وذلك ليتحققوا عظمة سلطان نجد والوهابيين عن مهاجماتهم للطائف والحرمين الشريفين.

فسألوهم حول هذه العناوين عن مسائل (٨٩) تسعة وثمانين.

فكان نتيجة التحقيق من أمر الطائف ما ذكروه في الصحيفة الخامسة، نمرة (هـ) من منشورها بعنوان (المفاوضات الخطية) المتبادلة المطبوعة في محروسة الهند، غضون يناير - فبراير سنة (١٩٢٦) -.

قال: كل احد حتى السلطان ومستشاره اعترفوا بأن النجديين اعطوا أهل الطائف الأمان، ثم نهبوا تلك البلدة، وقتلوا بالرصاص الرجال والنساء.

وأخرجوا بعض النساء وحبسوهن في بستان ثلاثة ايام بلا طعام، وبعد ذلك اعطوا لكل مائة شخص منهم كيساً من دقيق.

وجرّوا اجساد الموتى كما تجر البهائم الى الدفن بلا صلاة ولا تغسيل.

وعذبوا اناساً كثيرين لاخراج الكنوز.

وارسلوا الباقين حفاة عراة الى مكة.

ونهبوا أموال المسلمين كغنيمة.

٩٧

وأمراء الطائف اليوم في مكة فقراء، والمخدرات اللواتي لم تكن غير السماء ترى وجوههن، يشتغلن اليوم بغسل الحوائج وطحن الحنطة بحالة تفتت الاكباد.

والسلطان يظهر البراءة من هذه الفضائع، ويتمثل في الجواب عنها بقصة خالد ابن الوليد.

ولكنه في الوقت نفسه أخذ خمس الغنائم ومنهوبات المسلمين، ودخل جند ابن السعود مكة سلماً لا حرباً.

وهدموا المساجد والمزارات والقباب والمقامات، وصور أنقاضها لدينا، وسننشرها على حدة مع احصاء المساجد والمزارات والمقامات الجليلة المهدمة.

[هتك حرمة العقائد]

وقال: واما حرمة المعتقدات فهي مفقودة في الحجاز، وليس للسلطان حرمة والناس يضربون على قول: (يارسول الله)!

والنجديون اذا طافوا يدفعون الناس ويحقرون المذاهب (المدارس).

ودور الكتب اقفلها النجديون او بعضها.

والسلطان اعطى قليلاً منها اعانات زهيدة، بشرط تعلم مبادئ الوهابية.

والتي لاتفعل، لاتفتح.

التدخين: يعاقبون عليه عقاباً شديداً.

ولكل نجدي الحق بانزال العقاب حسب مشيته.

والسلطان يتقاضى رسوم الدخان!

ويغري الناس على جلبه! حتى اذا شربوه عاقبهم. انتهى.

فاعتبر ايها المنصف.

أو لم يكن للبلاد المسلمين - ولاسيما لمجاوري حرم الله ورسوله ومن بحماه -

٩٨

حرمة وأمن؟!

أو لم يجعل الله لهم بشرف جوارهم احتراماً؟!

أو لم يلعن الله ورسوله من حقر مسلماً، أو استحل حرمة، كما لعن المستحلين لحرمة عترته في الحديث المتقدم؟!

أو لم يلعن الله من أحدث في المدينة أو آوى محدثاً؟!

[حرمة المدينة]

ففي (الكنوز) للمناوي باب الميم قال: (من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبيّ) أخرجه من مسند أحمد(١) .

وفيه عن صحيح ابن حبان: (من اخاف اهل المدينة أخافه الله)(٢) .

وفي (جامع البخاري) قال: (لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع لما ذعرتها)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مابين لا بتيها حرام)(٣) .

وفيه عن النبي: (لا يكيد اهل المدينة أحد الا انماع كما ينماع الملح في الماء)(٤) .

وعن (الجمع بين الصحيحين) للحميدي، من الثامن والأربعين من أفراد مسلم، في الصحيح من مسند ابي هريرة، عن الاعمش، عن ابي صالح، عن ابي هريرة، عن النبي قال: (المدينة حرم فمن احدث فيها حدثا، او آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، ولا يقبل الله منه عدلاً ولا صرفاً)(٥) .

____________________

١ - مسند احمد ٤ / ٥٥.

٢ - لاحظ مجمع الزوائد ٣ / ٣٠٧.

٣ - صحيح البخاري ٢ / ٢٢١.

٤ - صحيح البخاري ٢ / ٢٢٢.

٥ - صحيح البخاري ٢ / ٢٢١ و ٤ / ٦٧ و ٨ / ١٠ و ٨ / ١٤٨، وصحيح مسلم ٤ / ١١٥ و ٢١٧.

٩٩

وزاد في حديث سفيان: (وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أحقر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه يوم القيامة عدلاً ولا صرفاً).

أقول: وبعد ذلك فإن أردت الحقيقة فأنسب حديث الانتحال الى التوحيد تارة، والتشبّث بحديث أبي الهياج أخرى.

ثم اعتبرهما بما ورد من النبي في الصحاح والقياس الى بعض الاقلّ من هذه الصادرات، من الدماء المسفوكات وهتك الحرمات، فتجد الحقيقة كالشمس الضاحية.

[منع الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)]

واعتبرها ايضاً بعد ذلك بحديث المنع من الصلوات على سيد الكائنات.

فإن شيخهم وزعيمهم ممن كان يكره الصلوات على رسول الله، ويتأذى من استماعها، ويمنع منها والاعلان بها على المنارات في ليالي الجمعة.

وكان بحيث لو سمعها ممن جهر بها عاقبة بها، يزعم أنها منافية للتوحيد.

وقد سبقه الى هذا عبد الله بن الزبير، فقطعها من الجمعة والجماعة، ومنع عنها أتباعه وأشياعه.

قال ابن أبي الحديد فيما رواه عن المدائني، قال: قطع عبد الله بن الزبير في الخطبة ذكر رسول الله جمعاً كثيرة، فاستعظم الناس ذلك.

فقال:: إنّي لا أرغب عن ذكره، ولكن له أًهيل سوء! إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم فأنا أحب ان اكبتهم(١)

____________________

١ - لاحظ تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٦١، ومروج الذهب ٣ / ٨٨.

١٠٠

وعلى رأس هؤلاء الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبد الملك كما سبق، ومروان بن محمد بن الحكم آخر خلفاء بني مروان والملقب بالجعدي نسبة للجعد بن درهم مؤدبه.

ومن هؤلاء أيضاً - بعد هذا التأريخ - يحيى بن زياد الحارثي من بني الحارث بن كعب من مذجح ابن خال الخليفة السفّاح أول خلفاء بني العباس.

ومن هؤلاء معن بن زائدة القائد الأمير المعروف، وهو من سادات بني شيبان وخاله عبد الكريم بن أبي العوجاء الزنديق المعروف من بني سدوس من بكر بن وائل.

ومن هؤلاء روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب.

ومنهم واليه بن الحباب الأسدي ومطيع بن إياس الكناني.

ومنهم يعقوب بن الفضل الهاشمي، من أحفاد الحارث بن عبد المطلب بن هاشم وابن لداود بن علي بن عبد الله بن عباس وآدم بن عبد العزيز بن عمر بن العزيز.

ومن متأخّريهم أبو العلاء المعرّي أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي.

وما أظن بين هؤلاء وكثيرين آخرين لم أذكرهم، وكلهم عرب صرحاء ومن صفوة الأُسر العربية مَن يمكن أن يتهم بالشعوبية إلاّ في أضعف جوانبها أي جانبها الإنساني الذي يقوم على المساواة، وعدم تفضيل جنس على جنس أو أُمّة على أُمّة. وحتى هذا الجانب الضعيف ما أحسبك ستصادفه عند غير أبي العلاء، وربّما والبة ومطيع ويحيى الذين شغلهم الركض وراء اللهو واللذّة، عن العرب والفرس والمقارنة بينهم، وعن التفكير في غير هذه الحياة العابثة الماجنة لا يبغون لها بديلاً. وقد تكون هذه الحياة أو هذا الأسلوب فيها وراء غمز بعض المؤرّخين في نسب والبة العربي.

ويقابل هؤلاء بعض الذين عرفوا بالشعوبية، ولم يعرفوا بالزندقة: كآل طاهر بن الحسين، وآل سهل، وربّما أضيف إليهم البرامكة أحياناً.

١٠١

وكيحيى بن علي المنجم المسلم المعتزلي الشعوبي، وسهل بن هارون، وأبي عبيدة، وعلان الشعوبي، وسعيد بن حميد بن البختكان، والخريمي الشاعر: اسحاق بن حسان، الذين أبغضوا العرب وتعصّبوا ضدّهم، وحاولوا تجريدهم من كل مفاخرهم وتفضيل الفرس عليهم (1) .

وبغض العرب والمغالاة فيه قد يسوق أحياناً إلى ما هو أبعد من مجرّد بغض للعرب، الذي هو في ذاته مرفوض، ليتناول الإسلام نفسه باعتباره إرثاً عربياً نبت وأزهر في صحراء العرب. وربّما كان هذا من بين الأسباب التي أدّت إلى الخلط بين الزندقة والشعوبية.

ولا أريد أن أسير أكثر في هذا الحديث، وليس معي من الوقائع والأسماء والأدلة غير الظن، الذي لا يغني في حديث أردناه خالصاً للعلم، مجرّداً عن الهوى، بعيداً عن التعّصب.

وفي الطرف الأقصى من هؤلاء الشعوبيين، تجد من ضمّ الزندقة إلى شعوبيته: كيونس ابن أبي فروة، وحماد الراوية، الذي لي فيه وفيما نحله وأضافته إلى شعراء الجاهلية، رأي يختلف عمّا يذهب إليه الآخرون، فأنا لا أرى فيه شعوبية وما أحسبه كان يقصد إفساد الشعر الجاهلي كوجه من وجوه الشعوبية، بقدر ما أرى فيه ممارسة لتجربة شخصية، وإظهاراً لبراعة ومقدرة على فهم الشعر والإحاطة بظروف الشعراء ومعرفة البيئة العربية؛ فهو لم يخرج على قواعد الشعر العربي ولا على أغراضه التي نظم فيها الجاهليون، وليس في عدد من الأبيات التي قالها محتذياً حذو الشعراء العرب، وسالكاً طريقهم عن معرفة وعلم، ما يفسد الشعر العربي ويعيبه بالكذب والتزوير، خصوصاً مع اتفاق النقّاد العرب السابقين في أنّه كان يعرف مذاهب الشعراء فيضع البيت أو الأبيات ولا يستطيع إلاّ الناقد البصير أن يميّزها.

فأيّة شعوبية في عدد من الأبيات يسير فيها على طريقة الجاهليين لا يتخطّاهم، يصف ما يصفون ويمدح ما يمدحون ويذم ما يذمّون. ولو تخطّاهم أو خرج على مناهجهم لسهل تمييز شعره وفرزه عمّا أضيف إليه، ولفضح نفسه قبل أن يفضحه النقّاد.

____________________

(1) وألاحظ أنّ ابن الرومي قد أفلت من الاتهام بالشعوبية، مع أنّه لم يكن أقل وضوحاً من غيره في الفخر بآبائه الروم والغمز من العرب، استمع إليه وهو يقول:

آبائِيَ الرومُ توفيلٌ وتُوفَلِسٌ

ولم يلدنيَ رِبعيٌّ ولا شَبَثُ

إنّ حماداً لم يكذب ولم يزوّر فيما تناول من نواحي الحياة الجاهلية، ولكنّه كذب فيمن أضاف إليهم ذلك عندما كان يضيف. ثم إنّه حتى في هذا الذي أضافه، لم يطعن في العرب ولم يسلبهم مزاياهم، ولم يعبهم أو يذمّهم أو ينسب إليهم ما يمكن اعتباره كذلك، ليقال إنّه استخدم قدرته وحذقه في معرفة الشعر العربي لخدمة أغراض شعوبية.

١٠٢

وما أظن ما أضاف، مهما بلغ أو بولغ فيه، يمكن أن يؤثر على صورة الشعر الجاهلي أو يغير في الحكم عليه أو في صدقه. وكل الصعوبة في تمييز شعر حماد متأتية من شدة مشابهته للشعر العربي الجاهلي شكلاً ومضمون.

ثم كم من الأبيات يستطيع هذا الـ (حماد) أن ينظم وينحل ويضيف، حتى لو تجرد لذلك وحده. والشعر الجاهلي شعر أمة كاملة تمتد من اليمن إلى العراق وخلال فترة تبلغ المئات من السنين.

قد يكون حماد شعوبياً يكره العرب ويطعن فيهم ويغض منهم، شأن الشعوبيين الآخرين، ولكن في غير هذا فأنا لا أرى شعوبية فيما ينسب إليه من إضافة شعر إلى بعض شعراء الجاهلية ولم يكن هو الوحيد فيه. فهذا يزيد ابن ضبة. يقول أبو الفرج نقلاً عن جماعة من مشايخ الطائفيين وعلمائهم أنه قال ألف قصيدة فاقتسمتها شعراء العرب وانتحلتها فدخلت في أشعاره (1) .

وهذا خلف الأحمر يقول عنه ابن النديم (وكان - يعني خلفاً - من أمرس الناس لبيت شعر وكان شاعراً بعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم) فلم يتهمه أحد (2) .

وأبو عمرو بن العلاء. ينقل عنه النقاد شيئاً مما يأخذونه على حماد وإن لم يكن بنفس الكثرة، ولم يتهم بشيء مما اتهم به حماد ولا ببعضه. وابن داود بن متمم بن نويرة كان ينظم الشعر وينحله جده متمماً لينفق بعد ما استنفد ما قاله جده (3) .

ومن هذه الملاحظات أيضاً - وأظنني بعدت كثيراً عما بدأت - أن عدداً من الشعراء عرباً وغير عرب قد فتنتهم الحياة الجديدة بما تزخر به من فنون اللهو وضروب اللذة وسهولة الاستمتاع بهما وبما تفيض من سحر وجمال وهم المولعون بالسحر والجمال يتصيدونهما ويلهثون وراءهما وقد أتاحتهما هذه الحياة ويسرتها لهم.

____________________

(1) الأغاني ج7 ترجمة يزيد بن ضبة ص103.

(2) الفهرست لابن النديم - الفن الأوّل من المقالة الثانية.

(3) بل إنّ أبا الطيب اللغوي ي ذ كر أنّ أكثر ما يرويه أهل الكوفة من الشعر (مصنوع ومنسوب إلى مَن لم يقله).

١٠٣

فهل سنتهم أهل الكوفة بالشعوبية لنفس السبب الذي اتهمنا من أجله حماداً بها؟!

وقد يكون أبلغ في الدلالة من هذا، ما يرويه ابن سلام في طبقاته قائلاً: (فلمّا راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم. وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمَن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسنة شعرائهم...) طبقات ابن سلام ج1 ص46.

وكانت الحياة الجديدة بكل فنون لهوها ولذّتها وسحرها وجمالها بعيدة عن حياة العرب قريبة من حياة الفرس، أو هي حياة الفرس قد انتقلت إليهم أو انتقلوا إليها. لم يكن الحاضرون في مجالس اللهو عتبة بن الحارث ولا بسطام بن قيس. ولم يكن الحديث عن داحس والغبراء وشعب جبلة.

ولم يكن المكان حمى ضرية ولازرود. ولم يكن الورد شيحاً ولا قيصوماً. ولم تكن الجارية ابنة لربيعة بن مكدم ولا عقيل بن علفة. فماذا تريد أن يقول هؤلاء الشعراء عرباً وغير عرب، وما ذا يصفون وهم يجتمعون على شرب وجَوارٍ ورقص وغناء وورد وريحان.

هل يسوؤك أن يكونوا صادقين مع أنفسهم يصفون ما يجدون، ويحسون دون كذب ولا تزوير، ودون رحلة كاذبة مزوّرة عبر الزمان والمكان إلى برقة تهمه والدخول وحوقل، وهم لم يروها ولم يعرفوها، ولا تثير لديهم ما كانت تثيره لدى الجاهليين حين يقفون مطيّهم عندها، ويستنطقونها ويذرفون الدمع على مَن فارقوا فيها، وهم في ذلك صادقون يصفون أيضاً ما يجدون ويحسّون دون كذب أو تزوير. إنّهم لو فعلوا ذلك لسخروا من أنفسهم ولسخر الناس منهم، ولما كان لشعرهم هذا الخلود الذي يحظى به حتى اليوم ولما زاد على شعر بعض هؤلاء المعاصرين من المدرسة القديمة، وهم يتغزّلون بسعدى ودعد في شعرٍ غث ميت لا يثير عاطفة عند السامع؛ لأنّه لم يصدر عن عاطفة عند القائل.

قد يكون بين هؤلاء شعوبيون وقد يكون بينهم زنادقة، لكنّ الذي جمع بينهم ليس الشعوبية ولا الزندقة، فلم يكونوا يجتمعون ليسبّوا العرب ويصرفوا شعرهم إلى الطعن عليهم وإظهار معايبهم، ولم يكونوا يجتمعون لتأليف الكتب في إنكار وجود الله أو قول الشعر في التشكيك بنبوّة محمد.

ما جمعهم ليس هذا ولا ذاك بل المجون واللهو وطلب اللذّة بكل أشكالها، وهو مذهب في الحياة سبقوا إليه حتى من بعض عرب الجاهلية. ماذا كان يفعل امرؤ القيس والأعشى وطرفة، مع اختلاف الزمن والبيئة، غير ما كان يفعله والبة وأبو نواس ومطيع مع اختلاف الزمن والبيئة أيضاً؟

وما عليك إلاّ أن تبدل الأسماء هنا وهناك، والأماكن هنا وهناك، والملابس والمطاعم هنا وهناك؛ لتعرف إن كان سيبقى من فرق بين الاثنين.

١٠٤

ثم لماذا هؤلاء الشعراء والأمراء وحدهم. لقد كانت مجالس اللهو والخمر والجواري والغلمان منتشرة في كل مكان في ذلك العهد، يشارك فيها مَن نعرف ومَن لا نعرف، وليست حكراً على عصبة المجّان، وكان الأسبق إليها والأقدر عليها هم الخلفاء أُمراء المؤمنين، فهم الذين بدؤوا هذا اللون من الحياة، وهم الذين شجّعوا عليه وأشركوا الشعراء فيه وأغروا به مَن لم يكن يعرفه، وكان أفضل الخمر وأجمل الجواري وأبرع المغنّين من نصيبهم فخزائنهم - بيوت أموال المسلمين - لا تنضب إن كانت خزائن غيرهم معرّضة للنضوب.

لماذا لا نجد بين زنادقة اللهو والمجون اسماً لواحد من هؤلاء الخلفاء، وهم أولى بالزندقة من كل الذين ذكرت أسماؤهم فيها؟ إلاّ إذا كانوا محصنين لا يجري عليهم ما يجري على مَن دونهم ممّن ليسوا خلفاء ولا أمراء للمؤمنين.

لقد ظلموا كثيراً؛ ظلمهم معاصروهم باتهامهم بالزندقة مرةً، وبالشعوبية مرةً، وبالاثنتين مرّات.

وظلمهم الذين كتبوا عنهم بعد قرون، وكانوا أحرى أن ينصفوهم فلم يفعلوا وربّما زاد بعضهم على معاصريهم.

ظلموهم حين جعلوا منهم زنادقة وهو وصف إن صدق على واحد أو اثنين منهم فإنّه لا يصدق عليهم كلهم.

أين هي كتب الزندقة التي ألّفوهّ.

لقد ذكر المؤرّخون ما وضعه الشعوبيون من كتب في مثالب العرب والطعن فيهم وفي مناقب الفرس وتفضيلهم.

فأين هي كتب الزندقة التي ألّفها: والبة، أو مطيع، أو يحيى، أو حماد، أو عمارة بن حمزة، أو حتى زعيم هذه العصبة وأشهر أفرادها أبو نواس؟ ولو ألّفوا، فما أظنهم كانوا سيؤلّفون في المانوية المحرّمة للذات التي أولعوا بها وعاشوا لها، والتي كانت تمثّل أحد أبرز وجوه الزندقة آنذاك.

أهناك أكثر من أبيات هجاء قالها بعضهم في بعض، أو اتهم بها بعضهم بعضاً بالزندقة والمانوية هزلاً وعبثاً يعكسان حياتهم ويمثّلانها خير تمثيل. ولو صدقناهم لصدقنا ما قاله الشعراء العرب في هجاء بعضهم، ولأعطينا الشعوبية الحق في بعض ما يتهمون به العرب.

والآن لا أدري إن كنت قد استطعت ولو إلى حد ما بيان بعض أسباب الخلط في تأريخنا بين الزندقة أو بشكل أدق صورة من صورها وبين الشعوبية.

لعلّي قد فعلت وإلاّ فلن يضير أولئك (الزنادقة) زيادة واحد من الذين لم يحسنوا النظر إليهم ولا الدفاع عن قضيتهم.

١٠٥

تقييم لحركَتَي: الـزندقة والشعوبية

وأخيراً فقد آن لنا أن نضع الزندقة والشعوبية كمصطلحين كان لهما شأن، في إطارهما الصحيح بين الحركات الفكرية والسياسية في تأريخنا دون تعصّب لهما أو عليهما بعد أكثر من ألف عام على اختفائهم.

ولقد رأيت الذين كتبوا عنهما قلّما كتبوا بعمق وحياد. وإذا استثنيت بعضاً منهم: المرحوم أحمد أمين، فأنا لم أجد بين الذين كتبوا من يملك عمق المؤرّخ ولا فهم الأديب ولا حياد العالم وإنّما وضعوا أمامهم الطبري والأغاني، ولا بأس بالنقل عن الجاحظ وابن عبد ربّه، ثم ضمّوا إليهم فان فلوتن فهو اسم غريب قد يوحي للسامع ما لا توحي به أسماء قرأها وسمع عنها.

ومضوا يكتبون، وكان خيراً لهم ألاّ يكتبوا فقد شوهوا تأريخنا - على كثرة ما شوه - وكانوا - لو عرفوا - شعوبيين أكثر من الشعوبيين الذين يهاجمونهم، حين جعلوا من العرب مجموعة من عديمي الإدراك والتمييز، يساقون إلى حيث يراد بهم ويفعلون ما يُخطّط لهم، دون أن يكون لهم من فكرهم ووعيهم ما يمنعهم من إلحاق الأذى بأنفسهم ويحصنهم ضد أعدائهم الذين يتربّصون بهم.

وهم في كل ذلك يكثرون الحديث عن خبث عدوّهم وشدّة كيده، وكأنّهم يحاولون الاعتذار عن العرب.

لقد أرادوا أن تكون لهم كتب في المكتبات يقرؤها القرّاء فكان لهم غباء في المكتبات يواجه القراء، ولو أنصفوا أنفسهم وأنصفونا لاكتفوا بإحالتنا على مَن نقلوا عنهم، فلم يضيفوا إلى أخطاء وقع فيها المؤلّفون قبل ألف عام، أخطاء جديدة بعد ألف عام.

ولقد تحدثت بالتفصيل عن الظروف التي نشأت فيها الزندقة والشعوبية وعن العلاقة بينهما فلا حاجة للعودة إليها.

ولكن أريد أن أقرّر هنا: أنّ الشعوبية كانت ستظهر يوماً ما ولم يكن ممكناً منعها، وهي قانون من قوانين التأريخ وسنّة الأمم قبل وبعد.

لقد كانت هناك أُمّة غالبة معها الإسلام وأمم مغلوبة دخلت فيه كرهاً أو طوعاً، حرباً أو اقتناعاً ورغبة، وكان الفرس أكثر هذه الأمم وأعلاها شأناً في الجاهلية، وهم إحدى إمبراطوريتين كانت لهما السيادة قبل ظهور الإسلام.

١٠٦

ولم يكن الإسلام يفرض على الداخلين فيه أن ينسلخوا عن أجناسهم ويصبحوا أُمّة واحدة بالمفهوم القومي للأُمة كشرط لقبول الإسلام منهم، والقرآن يقول ( وجعلناكم شعوباً وقبائل... ) ويقول: ( ولو شاء الله لجعلكم أُمّة واحدة ) ( ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمّة واحدة ) .

وكان التعامل مع هؤلاء المسلمين الجدد يجري في كثير من الرفق خلال عهد الراشدين، ووجود الكثير من ذوي الدين والفضل والسابقة من الصحابة الذين رافقوا النبي وعاشوا معه وتعلّموا منه.

وكان هذا التعامل الرفيق الذي لقيه هؤلاء المسلمون، قد ساعدهم على الاندماج في البيئة الإسلامية العربية والابتعاد عن ماضيهم، إذ لم يكن هناك ما يثيرهم ويدفعهم إلى العودة إليه والتفكير فيه.

شاركوا في فتوح المسلمين وكان لبعضهم دور مذكور فيه، ونافسوا العرب المسلمين في الدين حتى كان بينهم مَن يرجع إليه في أُموره.

وانتهى عهد الراشدين باغتيال الإمام علي عام 40 للهجرة.

وقام حكم جديد انحسر فيه الإسلام وقويت العصبية، وقد ساهمت السياسة الأموية في إذكاء العصبية القبلية بين قبائل العرب، والعصبية القومية بين العرب وبين الأُمم الأخرى. والعرب فخورون بطبعهم يتباهون بأنسابهم وقبائلهم وأسرهم حتى على بعضهم. أي عربي يقبل أن يساوي بين تميم وبكر ومذحج وبين باهلة وغني وسلول.

ولأترك الحديث عن العصبية بين القبائل العربية، على خطورة هذا الموضوع، وأحصره بالعصبية القومية بين العرب وبين الموالي، السبب المباشر لظهور الشعوبية.

كان جيل جديد قد نشأ بين العرب، وجيل آخر جديد قد نشأ من الموالي، وكان الإسلام - الدين والسلوك والجامع للعرب والموالي - قد ضعف لدى أولئك وهؤلاء.

وبدأ المتعصّبون من العرب في تحقير الموالي الذين ازداد عددهم، خصوصاً في العراق، وإشعارهم بالاستعلاء عليهم والاستهانة بهم كما سبق أن ذكرنا.

وسكت الموالي الفرس وتجرّعوا الإهانة ولم يستطيعوا الرد؛ إذ كان الحكم عربياً مستبدّاً طاغياً لا يرحم العرب إذ أحس منهم ما يخشى فكيف بالموالي.

لكن سكوتهم كان سكوت الخوف لا سكوت الرضا، فعادوا إلى ماضيهم وهو غير بعيد يتسلّحون به في رد الهجوم عندما يستطيعون، وإلى ماضي العرب يتسلّحون به في الهجوم عندما يستطيعون، وليس هناك ماض أو تأريخ يخلو من مطاعن لمَن يبحث عنها ويتطلّبها.

وكان هجاء العرب لبعضهم أوّل أسلحتهم، ثم جاءت كتب المثالب التي ألّفها العرب ضد العرب وبدأها زياد بن أبيه سلاحاً ماضياً آخر.

١٠٧

وهكذا وجد الفرس بأيديهم سلاحاً عربياً جاهزاً لمهاجمة العرب والنيل منهم، وطعنهم في أكثر ما يعتزّون به من مناقب، وكان العرب كما ترى هم الشعوبيون الأول عن عمد أو غير عمد.

وضعف سلطان الدولة الأموية في بداية القرن الثاني، ثم سقطت في الثلث الأوّل منه لتقوم الدولة العباسية بمساعدة الفرس ودعمهم وتأييدهم.

وزال الخوف الذي كان يمنع الفرس من الرد أو إعلانه، فبدأ شعراؤهم وكتّابهم في نظم مفاخرهم والكتابة عنها وكانوا قبلاً لا يتناولونها إلاّ نادراً، ولم أجد المؤلّفين يذكرون غير إسماعيل بن يسار مثلاً للشعوبي المجاهر بشعوبيته، الفخور بها في العصر الأموي، وقد دفع ثمنها غالياً فكان ما يزال محروماً مطروداً كما يصفه أبو الفرج.

وكان الصدر الأول من الحكم العباسي ساحة صراع لا سياسي فقط بين العرب والفرس، وإنّما كانت الثقافة والأدب شعراً ونثراً ساحة أخرى للصراع بينهم.

لكن الصراع كان مكشوفاً هذه المرّة لا يستره خوف كما هي الحال في العصر الأموي.

وبدأ الشعراء وبدأ الكتّاب الفرس ينظمون ويؤلّفون، ولو وقفوا عند ذكر مآثر الفرس وماضيهم وما كان لهم من سلطان وفكر وفن لما أنكر عليهم أحد. ولقيل قوم ظلموا فثأروا لأنفسهم ودفعوا الظلم وردوا الاتهام، ولكنّهم أفادوا من تلك الفترة التي كانت فيها السلطة الجديدة تراعي الفرس وتترضّاهم وتتجنب سخطهم، فجاوزوا الدفاع إلى الهجوم. ونظم بشّار وكتب أبو عبيدة وكتب علان وكتب غيرهم، لا في مآثر الفرس ولكن في مثالب العرب. حاولوا أن يجرّدوهم من كل فضائلهم بل أن يقلبوا فضائلهم عيوباً. وكان من هؤلاء مَن يجد الدعم والحماية في أسر فارسية ذات سلطة ونفوذ آنذاك كآل طاهر وغيرهم.

وألاحظ أنّ هذه الزندقة والشعوبية الأدبية القائمة على الشعراء والكتّاب والمفاخر والمثالب لم تتجاوز كثيراً حدود العراق، حيث الاحتكاك في ذلك الوقت بين العرب وبين الفرس، وحيث تواجهت لأوّل مرة حضارتان بكل ما تحملان من قيم وعادات وأسلوب في الحياة جديد.

على أنّ من الأمانة أن أضيف: أنّ هاتين الظاهرتين قد ضعفتا كثيراً مع منتصف القرن الثالث الهجري، بعد أن هدأت النفوس وتراجعت حدة العواطف، وأصبح هذا الأسلوب الجديد في الحياة أسلوباً عراقياً قبله العرب وقبله الفرس، ولم يعد سبباً للنزاع بينهما ولم تعد تسمع للزندقة الأدبية ولا للشعوبية الأدبية صوت.

ثم حصل تطوّر خطير آخر غيّر من اتجاه الصراع وشغل العرب عن الفرس، وشغل الفرس عن العرب. فقد دخلت الساحة أمم وأقوام أخرى كالترك والديلم والمغاربة، وتحوّل الصراع إلى صراع بين هذه الأمم والأقوام نفسها ومن بينها الفرس. والى صراع بين زعمائها والبارزين فيها، لكنّه صراع على السلطة والنفوذ في ظل حكم ضعيف.

وتخلّت الشعوبية الأدبية عن مكانها إلى شعوبية سياسية لم يعد العرب والفرس طرفيها، ولا أبو معاذ وأبو عبيدة من قادتها بل شارك فيه، وكان من أطرافها الأمم والأقوام الأخرى، واستبدل فيها ببشّار ومعمر أوزون ونازوك ومؤنس.

وخلال ذلك شهد العراق، وفي القسم الأوسط والجنوبي منه، حركات قوية لها طبيعة اجتماعية واقتصادية بعيدة عن الشعر والأدب والمفاخر والمثالب: كثورة الزنج، وحركات القرامطة.

١٠٨

هذا في العراق الذي حاولت أن أحصر حديثي عن الزندقة والشعوبية فيه، كما هي في جانبهما الأدبي الذي عرفتا به.

أمّا في أطراف الدولة العربية الإسلامية فقد قامت في الجانب الشرقي منها دويلات غير عربية: فارسية أو تركية. احتفظت مع فارسيتها أو تركيتها بدينها الإسلامي، فهي فارسية مسلمة أو تركية مسلمة لم تعرف حركة اسمها الشعوبية، كما عرفها العراق في العصر الذي تحدثت عنه؛ لأسباب منها: أنّ تلك الدويلات قامت على أراضيها بعيداً عن مركز الدولة العربية الإسلامية في العراق، وكان بعدها هذا مانعاً للاحتكاك الذي رأيناه بين العرب والفرس في العراق وما ولّده من كره وكره مقابل. ومنها: أنّ تلك الدويلات لم يكن لها ماض يوازي، أو يقارب ما كان للفرس من ماض، عندما كانت الإمبراطورية الفارسية إحدى أقوى إمبراطوريتين في العالم، فهي لا تستطيع أن تقابل العرب بما يستطيع الفرس أن يقابلوا به العرب. ومنها أنّ الدولة العربية الإسلامية كانت قد بلغت درجة من الضعف لا تسمح لها بمواجهة ما يجري في العراق نفسه إلاّ بجهد وصعوبة، ناهيك عن مواجهة دويلات منظمة لها جيوش تستطيع القتال وهي في أراضيها على ألوف الكيلو مترات من بغداد. وإذا كانت ثورتا المقنع وبابك الشعوبيتان قد فشلتا؛ فذلك لأنّهما قامتا والدولة المركزية ما تزال قوية بعد، تملك أن تواجه وأن تنتصر؛ ولأنّ الثورتين قد أسقطتا الإسلام وقامتا على أساس قومي فارسي بعيد عن الإسلام، فحاربهما العرب لفارسيتهم، وحاربهما المسلمون غير العرب لابتعادهما عن الإسلام. بقي أن نلاحظ أنّه حتى في العصر العباسي الذي كان نفوذ الفرس هو المسيطر والطاغي، كان النسب العربي ساحراً جذّاباً يتعلّق به من لا يمنعه وضوح نسبه غير العربي من التعلّق به والانتماء إليه. وهذا ما نراه واضحاً في هجاء بعض الموالي الذين تركوا نسبهم الأصلي واستبدلوا به نسباً عربياً. بل هذا ما نجده في هجاء بعض العرب من المغموزين في نسبهم فأشجع السلمي، يريد شاعر أن يهجوه فلا يجد لذلك منفذاً إلاّ عن طريق نسبه فيقول:

إنّما أنت من سليم كواو

ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو

والهيثم بن عدي الطائي يهجوه أبو نواس، وهو الذي يسخر من تميم وقيس والعرب كلهم فيقول فيه:

إذا نسبت عدياً في بني ثعل

فقدّم الدال قبل العين في النسبِ

وحتى أبو عمرو بن العلاء يغضب بشّار على ابنه خلف فيقول:

أرفق بعمرو إذا حرّكت نسبته

فإنّه عربي من قوارير

والأمثلة على ذلك كثيرة.

١٠٩

وما أظن النسب العربي كان يحظى بكل هذا الاهتمام من جانب المنتسب أو من جانب النافي له، لو لم يكن له شأن وحساب ولو لم يكن موضع اعتزاز وفخر في ذلك الوقت.

والآن أعود بعد هذه الرحلة الطويلة لأؤكّد ما سبق أن قلته عن الشعوبية في بداية الحديث: من أنّها كانت ستظهر يوماً ما دامت هناك أُمّة غالبة حاكمة وأُمّة وأمم مغلوبة محكومة. فهذا أول أسباب الصراع حتى لو تخلّفت الأسباب الأخرى، ولا بد لهذا الصراع أن ينفجر ثورة عندما تتوفّر ظروف نجاحها، وأحياناً حتى لو لم تتوفّر ظروف نجاحها.

لقد بقي العرب زهاء سبعة قرون تحت الحكم العثماني المسلم، لكن لا طول المدة ولا إسلام العثمانيين أنسيا العرب عروبتهم ومنعهم من المطالبة الدائمة باستقلالهم الذي حصلوا عليه عبر ثورات ودماء وشهداء.

وهذا الاتحاد السوفيتي، ما أسرع ما رجعت كل قومية من قومياتها إلى ذاتها تبني دولتها الخاصة بها، بالرغم ممّا كان يربطها خلال سبعين عاماً من نظام اقتصادي وسياسي واحد.

وحتى يوغوسلافيا، هذا البلد الصغير، لم يسلم من التمزّق وانقسامه إلى دول بعدد القوميات التي كان يتألّف منها.

وأظنني بعد هذا استغرب ممّن يستغرب حركة الشعوبية وكأنّها حركة خارج التأريخ.

١١٠

الفهرس

المقدّمة: 2

الإهداء: 3

القسم الأوّل: فـي الزندقة 4

الفصـل الأوّل: مفهوم الزندقة عند المسلمين .5

الفصـل ا لثاني: الزندقـة في الجاهليـة 10

1 - الزندقة وقريش: 10

2 - المجوسيّة في تميم: 16

الفصل الثا لث: الزندقـة فـي الإسلام 20

الفصـل ال رابع: المجوسيّة 25

الفصل ال خامس: المانويّـة 26

الفصـل ا لسـاد س: المزدكيّـة 27

الفصـل السـا بع: البـرامكـة 32

الفصل ال ث ا من: آل سهل .43

الفصل ال ت ا س ـ ع: عبد الله بن أبي عبيد الله .46

الفصل ال ع ا ش ـ ر: عبد الله بن المقفّع .49

الفصـل ال ح ا دي عشـر: صالح بن عبد القدوس .56

الفصـل ال ث ا ن ي عشـر: عبد الكريم بن أبي العوجاء 59

الفصـل الثا لث عشـر: بشّار بن بُـرْد 63

القسـم الثانـي: الشعوبيّة 75

القسم الثالـث: العـلاقـة بين الزندقة وبين الشعـوبية 98

تقييم لحركَتَي: الـزندقة والشعوبية 106

١١١