المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية30%

المدرسة الاسلامية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 200

المدرسة الاسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 79067 / تحميل: 7577
الحجم الحجم الحجم
المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ولكنّه كان يعطي من قصده من ذوي الحاجات ولا يخيّب رجاء لمن استعان به على مروءة.

وفاء وشجاعة:

وقد اشتهر مع الجود بصفتين من أكرم الصفات الإنسانيّة وأليقهما ببيته وشرفه، وهُما الوفاء والشّجاعة؛ فمن وفائه أنّه أبى الخروج على معاوية بعد وفاة أخيه الحسن؛ لأنّه عاهد معاوية على المسالمة، وقال لأنصاره الذين حرّضوه على خلع معاوية: إن بينه وبين الرّجل عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدة. وكان معاوية يعلم وفاءه وجوده معاً، فقال لصحبه يوماً وقد أرسل الهدايا إلى وجوه المدينة من كسي وطيب وصلات: إن شئتم أنبأناكم بما يكون من القوم أمّا الحسن فلعلّه ينيل نساءه شيئاً من الطيب ويهب ما بقي مَن حضره ولا ينتظر غائباً، وأمّا الحُسين فيبدأ بأيتام من قُتل مع أبيه بصفّين، فإن بقي شيء نحر به الجزر وسقى به اللبن

وشجاعة الحُسين صفة لا تستغرب منه؛ لأنّها الشيء من معدنه كما قيل، وهي فضيلة ورثها عن الآباء وأورثها الأبناء بعده، وقد شهد الحروب في افريقية الشّمالية وطبرستان والقسطنطينية، وحضر مع أبيه وقائعه جميعاً من الجمل إلى صفّين. وليس في بني الإنسان مَن هو أشجع قلباً ممّن أقدم على ما أقدم عليه الحُسين في يوم كربلاء.

٦١

وقد تربّى للشجاعة كما تلقاها في الدم بالوراثة، فتعلّم فنون الفروسية كركوب الخيل والمصارعة والعدو من صباه، ولم تفته ألعاب الرياضة التي تتمّ بها مرانة الجسم على الحركة والنّشاط ومنها لعبة تشبه الجولف عند الأوروبيّين كانوا يسمونها المداحي ( جمع مدحاة ): وهي أحجار مثل القرصة يحفرون في الأرض حفرة ويرسلون تلك الأحجار، فمن وقع حجره في الحفيرة فهو الغالب.

* * *

أمّا عاداته في معيشته، فكان ملاكها لطف الحسّ وجمال الذوق والقصد في تناول كلّ مباح، كان يحبّ الطيب والبخور، ويأنق للزهر والريحان. وروى أنس بن مالك: أنّه كان عنده فدخلت عليه جارية بيدها طاقة من ريحان فحيّته بها، فقال لها:(( أنت حرّة لوجه الله تعالى )). فسأله أنس - متعجباً -: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟! قال:(( كذا أدّبنا الله قال تبارك وتعالى: ( وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا ) (١) ...وكان أحسن منها عتقها )).

وكان يميل للفكاهة ويأنس في أوقات راحته لأحاديث أشعب وأضاحيكه، ولكنّه على شيوع الترف في عصره لم يكن يقارب منه إلاّ

____________________

(١) سورة النّساء / ٨٦.

٦٢

ما كان يجمل بمثله، حتّى تحدّث المتحدثون: أنّه لا يعرف رائحة الشّراب وكانت له صلوات يؤدّيها غير الصّلوات الخمس، وأيّام من الشّهر يصوم نهارها ويقوم ليلها

وقد عاش سبعاً وخمسين سنة بالحساب الهجري، وله من الأعداء من يصدقون ويكذبون فلم يعبه أحد منهم بمعابة ولم يملك أحد منهم أن ينكر ما ذاع من فضله، حتّى حار معاوية بعيبه حين استعظم جلساؤه خطاب الحُسين له، واقترحوا عليه أن يكتب إليه بما يصغّره في نفسه، فقال: إنّه كان يجد ما يقوله في عليّ، ولكن لا يجد ما يقوله في حُسين.

تلك جملة القول في سيرة أحد الخصمين

خُلق يزيد:

ويقف خصمه أمامه موقف المقابلة والمناقضة لا موقف المقارنة والمعادلة في معظم خلائقه وعاداته وملكاته وأعماله.

فيزيد بن معاوية عريق النّسب في بني عبد مُناف ثمّ في قريش، ولكن الأصدقاء والخصوم والمادحين والقادحين متّفقون على وصف الخلائق التي اشتهر بها أبناء هذا الفرع من عبد مُناف, وأشهرها الأثرة،

٦٣

وأحمد ما يُحمد منها أنّها تنفع النّاس من طريق النّفع لأصحابها، وندر من وجوه الاُمويّين في الجاهليّة أو الإسلام من اشتهر بخصلة تجلب إلى صاحبها ضرراً أو مشقّة في سبيل نفع النّاس

وبيت أبي سفيان بيت سيادة مرعية لا مراء فيها ولكن الحقيقة التي ينبغي أنْ نذكرها في هذا المقام: إنّ معاوية بن أبي سفيان لم يكن ليرث شيئاً من هذه السّيادة التي كان قوامها كلّه وفرة المال، لأنّ أبا سفيان - على ما يظهر - قد أضاع ماله في حروب الإسلام ولم يكن له من الوفر ما يبقى على كثرة الورّاث. وروي أنّ امرأة استشارت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في التزوّج بمعاوية، فقال لها:(( إنّه صعلوك )).

كذلك ينبغي أنْ نذكر حقيقة اُخرى في هذا المقام، وهي أنّ معاوية لم يكن من كتّاب الوحي - كما أشاع خدّام دولته بعد صدر الإسلام -، ولكنّه كان يكتب للنبيعليه‌السلام في عامّة الحوائج وفي إثبات ما يُجبى من الصدقات وما يُقسّم في أربابها، ولم يُسمع عن ثقة قط أنّه كتب للنبي شيئاً من آيات القرآن الكريم.

وعُرفت لمعاوية خصال محمودة من خصال الجدّ والسّيادة؛ كالوقار والحلم والصبر والدهاء، ولكنّه على هذا كان لا يملك حلمه في فلتات تميد بالملك الرّاسخ، ومنها قتله حجر بن عدي وستة من أصحابه؛ لأنّهم كانوا

٦٤

ينكرون سبّ عليّ وشيعته، فما زال بقية حياته يندم على هذه الفعلة ويقول: ما قتلت أحّداً إلاّ وأنا أعرف فيم قتلته، ما خلا حجراً فإنّي لا أعرف بأيّ ذنب قتلته!

واُمّ يزيد هي ميسون بنت مجدل الكلبية من كرائم بني كلب المعرّقات في النّسب، وهي التي كرهت العيش مع معاوية في دمشق وقالت تتشوق إلى عيش البادية:

لـلبسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني

أحبُّ إليَّ منْ لبسِ الشّفوفِ

وبـيتٌ تخفق الأرواحُ فيه

أحبُّ إليَّ منْ قصرٍ منيفِ

ومن هذه الأبيات قولها:

وخِرقٌ منْ بني عمِّي فقيرٌ

أحبُّ إليَّ منْ علجٍ عنيفِ

فأرسلها وابنها يزيد إلى باديتها، فنشأ يزيد مع اُمّه بعيداً عن أبيه.

* * *

وقد أفاد من هذه النشأة البدوية بعض أشياء تنفع الأقوياء، ولكنّها على ما هو مألوف في أعقاب السّلالات القويّة تضيرهم وتجهز على ما بقي من العزيمة فيهم

٦٥

فكان ما استفاده من بادية بني كليب بلاغة الفُصحى، وحُبّ الصيد، وركوب الخيل، ورياضة الحيوانات ولا سيّما الكلاب.

وهذه صفات في الرّجل القوي تزينه وتشحذ قواه، ولكنّها في أعقاب السّلالات أو عكارة البيت - كما يُقال بين العامّة - مدعاة إلى الإغراق في اللهو والولع بالفراغ؛ لأنّها هي عنده كلّ شيء وليست مدداً لغيرها من كبار الهمم وعظائم الهموم.

وهكذا انقلبت تلك الصفات في يزيد من المزية إلى النّقيصة فكان كلفه بالشعر الفصيح مغرياً له بمعاشرة الشعراء والندماء في مجالس الشراب، وكان ولعه بالصيد شاغلاً يحجبه عن شواغل الملك والسّياسة، وكانت رياضته للحيوانات مهزلة تلحقه بأصحاب البطالة من القرادين والفهادين، فكان له قرد يدعوه ( أبا قيس )، يُلبسه الحرير ويطرّز لباسه بالذهب والفضّة ويحضره مجالس الشراب، ويركبه أتاناً في السّباق ويحرص على أن يراه سابقاً مجلياً على الجياد، وفي ذلك يقول يزيد كما جاء في بعض الرّوايات:

تـمسَّك أبـا قيسٍ بفضلِ عنانها

فـليسَ عليها إنْ سقطتَ ضمانُ

ألا منْ رأى القردَ الذي سبقتْ بهِ

جـيادَ أمـير الـمؤمنين أتـانُ

٦٦

وقد يكون عبد الله بن حنظلة مُبالغاً في المذمّة حين قال فيما نُسب إليه: والله، ما خرجنا مع يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السّماء، إنّ رجلاً ينكج الاُمّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله، لو لم يكن معي أحد من النّاس، لأبليت الله فيه بلاء حسناً.

* * *

ولكن الرّوايات لم تجمع على شيء كإجماعها على إدمانه الخمر، وشغفه باللذات، وتوانيه عن العظائم وقد مات بذات الجنب وهو لما يتجاوز السّابعة والثلاثين، ولعلّها إصابة الكبد من إدمان الشراب والإفراط في اللذات. ولا يعقل أن يكون هذا كلّه اختلاقاً واختراعاً من الأعداء؛ لأنّ النّاس لم يختلقوا مثل ذلك على أبيه أو على عمرو بن العاص وهُما بغيضان أشدّ البغض إلى أعداء الاُمويّين ولأنّ الذين حاولوا ستره من خدّام دولته لم يحاولوا الثناء على مناقب فيه تحلّ عندهم محلّ مساوئه وعيوبه، كأن الاجتراء على مثل هذا الثناء من وراء الحسبان.

ولم يكن هذا التخلّف في يزيد من هزال في البنية أو سقم اعتراه كذلك السّقم الذي يعتري أحياناً بقايا السّلالات التي تهمّ بالانقراض والدثور، ولكنّه كان هزالاً في الأخلاق وسقماً في الطوية قعد به عن العظائم مع وثوق بنيانه وضخامة جثمانه واتصافه ببعض الصفات الجسدية

٦٧

التي تزيد في وجاهة الاُمراء كالوسامة وارتفاع القامة وقد اُصيب في صباه بمرض خطير - وهو الجدري - بقيت آثاره في وجهه إلى آخر عمره، ولكنّه مرض كان يشيع في البادية ولم يكن من دأبه أن يقعد بكلّ من اُصيب به عن الطموح والكفاح.

* * *

وعلى فرط ولعه بالطراد حين يكون الطراد لهواً وفراغاً، كانت همّته الوانية تفترّ به عن الطراد حين تتسابق إليه عزائم الفرسان في ميادين القتال ولو كان دفاعاً عن دينه ودُنياه.

فلمّا سيّر أبوه جيش سفيان بن عوف إلى القسطنطينية لغزو الرّوم ودفاعاً عن بلاد الإسلام - أو بلاد الدولة الاُمويّة -، تثاقل وتمارض حتّى رحل الجيش، وشاع بعد ذلك أنّه اُمتحن في طريقه ببلاء المرض والجوع، فقال يزيد:

ما أن أُبالي بما لاقتْ جُمُوعهم

بالفرقدُونةِ من حمّى ومنْ مُومِ

إذا اتكأتُ على الأنماطِ مرتفقاً

بـدَيرِ مـرّان عندي أُم كلثومِ

فأقسم أبوه حين بلغه هذان البيتان ليلحقن بالجيش؛ ليدرأ عنه عار

٦٨

النكول والشّماتة بجيش المسلمين بعد شيوع مقاله في خلواته

* * *

ومن أعجب عجائب المناقضة التي تمّت في كلّ شيء بين الحُسين ويزيد، أنّ يزيد لم يختصّ بمزية محمودة تقابل نظائرها من مزايا الحُسين، حتّى في تلك الخصال التي تأتي بها المصادفة ولا فضل فيها لأصحابها ومنها مزية السن وسابقة الميلاد فلمّا تنازعا البيعة كان الحُسين في السّابعة والخمسين مكتمل القوّة ناضج العقل وفي المعرفة بالعلم والتجربة، وكان يزيد في نحو الرّابعة والثلاثين لم يمارس من شئون الرّعاة ولا الرّعية ما ينفعه بين هؤلاء أو هؤلاء.

ومزيّة السن هذه قد يطول فيها الأخذ والرّد بين أبناء العصور الحديثة، ولكنّها كانت تقطع القول في اُمّة العرب، حيث نشأ الأسلاف والأخلاف على طاعة الشّيوخ ورعاية الأعمار وهذا على أنّ السّابعة والخمسين ليست بالسن التي تعلو بصاحبها في الكبر حتّى تسلبه مزيّة الفتوّة ومضاء العزيمة

كذلك لا يُقال أنّ الوراثة المشروعة في الممالك كان لها شأن يرجح بيزيد على الحُسين في ميزان العروبة والإسلام. فقد كان توريث معاوية ابنه على غير وصية معروفة من السّلف بدعة هرقلية كما سمّاها المسلمون

٦٩

في ذلك الزمان، ولم يكن معقولاً أنّ العرب في صدر الإسلام يوجبون طاعة يزيد لأنّه ابن معاوية وهّم لم يوجبوا طاعة آل النّبي في أمر الخلافة لأنّهم قرابة مُحمّدعليه‌السلام .

فقد شاءت عجائب التاريخ إذن أن تقيم بين ذينك الخصمين قضية تتضح فيها النزعة النفعية على نحو لم تتضحه قط في أمثالها من القضايا، وقد وجب أن ينخذل يزيد كلّ الخذلان لولا النزعة النفعية التي أعانته وهو غير صالح لأن يستعين بها بغير أعوان من بطانته وأهله، ولئن كان في تلك النزعة النفعية مسحة تشوبها من غير معدنها الوضيع لتكونن هي عصبية القبيلة من بني اُميّة، وهي هُنا نزعة مواربة تعارض الإيمان الصريح ولا تسلم من الختل والتلبيس.

* * *

لهذا شكّ بعض النّاس في إسلام ذلك الجيل من الاُمويّين، وهو شكّ لا نرتضيه من وجهة الدلائل التاريخية المتّفق عليها. فقد يخطر لنا الشكّ في صدق دين أبي سفيان؛ لأنّ أخباره في الإسلام تحتمل التأويلين، ولكن معاوية كان يؤدّي الفرائض ويتبرّك بتراث النّبي ويوصي أن تُدفن معه أظافره التي حفظها إلى يوم وفاته. وليس بيسير علينا أن نفهم كيف ينشأ معاوية الثاني على تلك التقوى وذلك الصلاح وهو ناشئ في بيت مدخول الإسلام، ويتصارح أهله أحياناً بما ينمّ على الكفر به أو التردّد فيه

٧٠

إنّما هي الأثرة، ثمّ الخرق في السّياسة، ثمّ التمادي في الخرق مع استثارة العناد والعداء. وفي تلك الأثرة ولواحقها ما ينشئ المقابلة من أحد طرفيها في هذه الخصومة، ويتمّ المناظرة في شتّى بواعثها بين ذينك الخصمين الخالدين، ونعني بهما هُنا المثالية والواقعية، وما الحُسين واليزيد إلاّ المثالان الشّاخصان منهما للعيان

* * *

٧١

٧٢

أعوان الفريقين

رجال المعسكرين:

كان الحُسين في طريقه إلى الكوفة - يوم دعاه شيعته إليها - يسأل من يلقاهم عن أحوال النّاس فينبئونه عن موقفهم بينه وبين بني اُميّة، وقلّما اختلفوا في الجواب

سأل الفرزدق وهو خارج من مكّة - والفرزدق مشهور بالتشيّع لآل البيتعليهم‌السلام - فقال له: قلوب النّاس معك وسيوفهم مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السّماء، والله يفعل ما يشاء.

وقال له مجمع بن عبيد العامري: أمّا أشراف النّاس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائزهم فهم ألب واحد عليك، وأمّا سائر النّاس بعدهم فإنّ قلوبهم تهوى إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك.

وقد أصاب الفرزدق وأصاب مجمع بن عبيد، فإنّ النّاس جميعاً كانوا بأهوائهم وأفئدتهم مع الحُسين بن عليّ ما لم تكن لهم منفعة موصولة بمُلك بني اُميّة، فهم إذن عليه بالسّيوف التي تشهرها الأيدي دون القلوب.

٧٣

وقد أعظمت الرّشوة للرؤساء وأعظمت لهم من بعدها الوعود والآمال، فعلموا أنّ دوام نعمتهم من دوام مُلك بني اُميّة

فأمّا الرؤساء الذين كانت لهم مكانتهم بمعزل عن الملك القائم، فقد كانوا ينصرون حُسيناً ولا ينصرون الاُمويّين أو كانوا يصانعون الاُمويّين ولا يبلغون بالمصانعة أن يشهروا الحرب على الحُسين.

ومن هؤلاء؛ هانئ بن عروة من كبار الزعماء في قبائل كندة، وشريك بن الأعور، وسليمان بن صرد الخزاعي، وكلاهما من ذوي الشّرف والدين.

بل كان من العاملين لبني اُميّة من يخزه ضميره إذا بلغ العداء للحُسين أشدّه، فيترك معسكر بني اُميّة ليلوذ بالمعسكر الذي كتب عليه الموت والبلاء، كما فعل الحرّ بن يزيد الرّياحي في كربلاء وقد رأى القوم يهمّون بقتل الحُسين ولا يقنعون بحصاره، فسأل عمر بن سعد قائد الجيش: أمُقاتل أنت هذا الرّجل؟

فلمّا قال: نعم، ترك الجيش الأموي وذهب يقترب من الحُسين حتّى داناه، فقال له: جُعلت فداك يابن رسول الله! أنا صاحبك حبستك عن الرجوع وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم. ووالله، لو علمت أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإنّي تائب إلى الله ممّا صنعت، فهل ترى لي من توبة؟

فقبل الحُسين توبته وجعل الرّجل يُقاتل من ساعتها حتّى قُتل،

٧٤

وآخر كلمة على لسانه فاه بها: السّلام عليك يا أبا عبد الله.

* * *

فمجمل ما يقال على التحقيق انه لم يكن في معسكر يزيد رجل يعينه على الحسين إلاّ وهو طامع في مال، مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات ولا يبالي بشيء منها في سبيل الحطام.

ولقد كان لمعاوية مشيرون من ذوي الرأي كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، وأضرابهم من اُولئك الدهاة الذين يسمّيهم التاريخ أنصار دول وبناة عروش وكان لهم من سمعة معاوية وذرائعه شعار يدارون به المطامع ويتحللون من التأثيم، لكن هؤلاء بادوا جميعاً في حياة معاوية، ولم يبقَ ليزيد مشير واحد ممّن نسمّيهم بأنصار الدول وبناة العروش، وإنّما بقيت له شرذمة على غراره أصدق ما توصف به أنها شرذمة جلادين، يقتلون من أمروا بقتله ويقبضون الأجر فرحين ...

فكان أعوان معاوية ساسة وذوي مشورة، وكان أعوان يزيد جلادين وكلاب طراد في صيد كبير، وكانوا في خلائقهم البدنية على المثال الذي يعهد في هذه الطغمة

٧٥

من النّاس، ونعني به مثال المسخاء المشوهين اُولئك الذين تمتلئ صدورهم بالحقد على أبناء آدم ولا سيّما مَن كان منهم على سواء الخلق وحسن الأحدوثة، فإذا بهم يفرغون حقدهم في عدائه وإن لم ينتفعوا بأجر أو غنيمة، فإذا انتفعوا بالأجر والغنيمة فذلك هو حقد الضراوة الذي لا تُعرف له حدود

وشرّ هؤلاء جميعاً هُم: شمر بن ذي الجوشن، ومُسلم بن عقبة، وعبيد الله بن زياد، ويلحق بزمرتهم على مثال قريب من مثالهم عمر بن سعد بن أبي وقاص؛ فشمر بن ذي الجوشن كان أبرص كريه المنظر قبيح الصورة، وكان يصطنع المذهب الخارجي ليجعله حجة يحارب بها عليّاً وأبناءه، ولكنّه لا يتخذه حجّة ليحارب بها معاوية وأبناءه كأنّه يتّخذ الدين حجّة للحقد، ثمّ ينسى الدين والحقد في حضرة المال.

* * *

ومُسلم بن عقبة مخلوق مسمم الطبيعة في مسلاخ إنسان، وكان أعور أمغر ثائر الرّأس، كأنّما يقلع رجليه من وحل إذا مشي. وقد بلغ من ضراوته بالشرّ وهو شيخ فانٍ مريض، أنّه أباح المدينة في حرم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة أيّام، واستعرض أهلها بالسّيف جزراً كما يجزر القصّاب الغنم حتّى ساخت الأقدام في الدم، وقتل أبناء المهاجرين

٧٦

والأنصار وذرّيّة أهل بدر، وأخذ البيعة ليزيد بن معاوية على كلّ من استبقاه من الصحابة والتابعين على أنّه عبدٌ قنٌّ لأمير المؤمنين

وانطلق جنده في المدينة إلى جوار قبر النّبي يأخذون الأموال ويفسقون بالنّساء، حتّى بلغ القتلى في تقدير الزهري سبعمئة من وجوه النّاس وعشرة آلاف من الموالي، ثمّ كتب إلى يزيد يصف له ما فعل وصف الظافر المتهلل، فقال بعد كلام طويل:

فأدخلنا الخيل عليهم فما صلّيت الظهر أصلح الله أمير المؤمنين إلاّ في مسجدهم بعد القتل الذريع والانتهاب العظيم وأوقعنا بهم السّيوف وقتلنا من أشرف لنا منهم واتبعنا مدبرهم وأجهزنا على جريحهم وانتهبناها ثلاثاً كما قال أمير المؤمنين أعزّ الله نصره، وجعلت دور بني الشّهيد عثمان بن عفان في حرز وأمان، والحمد لله الذي شفا صدري من قتل أهل الخلاف القديم والنّفاق العظيم، فطالما عتوا وقديماً ما طغوا، أكتب هذا إلى أمير المؤمنين وأنا في منزل سعيد بن العاص مدنفاً مريضاً ما أراني إلاّ لما بي فما كنت أبالي متى متّ بعد يومي هذا

* * *

وكلّ هذا الحقد المتأجج في هذه الطوية العفنة إنّما هو الحقد في طبائع المسخاء الشّائهين يوهم نفسه أنّه الحقد من ثأر عثمان أو من خروج قوم على مُلك يزيد

وكان عُبيد الله بن زياد متّهم النّسب في قريش؛ لأنّ أباه زياداً كان

٧٧

مجهول الأب، فكانوا يسمونه زياد بن أبيه، ثمّ ألحقه معاوية بأبي سفيان؛ لأنّ أبا سفيان ذكر بعد نبوغ زياد، أنّه كان قد سكر بالطائف ليلة فالتمس بغياً فجاءوه بجارية تدعى سميّة، فقالت له بعد مولد زياد: أنّها حملت به في تلك الليلة. وكانت اُمّ عبيد الله جارية مجوسية تدعى مرجانة، فكانوا يعيرونه بها وينسبونه إليها.

ومن عوارض المسخ فيه - وهي عوارض لها في نفوس العرب دخلة تورث الضغن والمهانة - إنّه كان ألكن اللسان لا يقيم نطق الحروف العربيّة، فكان إذا عاب الحروري من الخوارج، قال: هروري. فيضحك سامعوه، وأراد مرّة أن يقول: اشهروا سيوفكم. فقال: افتحوا سيوفكم فهجاه يزيد بن مفرغ قائلاً:

ويومَ فتحتَ سيفكَ من بعيدٍ

أضعتَ وكلّ أمركَ للضّياعِ

ولم يكن أهون لديه من قطع الأيدي والأرجل والأمر بالقتل في ساعة الغضب لشبهة ولغير شبهة، ففي ذلك يقول مُسلم بن عقيل وهو صادق مؤيد بالأمثال والمثلات: ويقتل النّفس التي حرّم الله قتلها على الغضب وسوء الظن، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً.

وقد كانت هذه الضراوة على أعنفها وأسوئها يوم تصدّى عبيد الله بن زياد لمنازلة الحُسين؛ لأنّه كان يومئذ في شره الشباب لم يتجاوز

٧٨

الثامنة والعشرين، وكان يزيد يبغضه ويبغض أباه؛ لأنّه كان قد نصح لمعاوية بالتمهل في الدعوة إلى بيعة يزيد، فكان عبيد الله من ثمّ حريصاً على دفع الشّبهة والغلو في إثبات الولاء للعهد الجديد

والذين لم يمسخوا في جبلتهم وتكوينهم هذا المسخ من أعوان يزيد بن معاوية، كان الطمع في المناصب والأموال واللذات قد بلغ ما يبلغه المسخ من تحويل الطبائع وطمس البصائر ومغالطة النّفوس في الحقائق

* * *

ومن هذا القبيل عمر بن سعد بن أبي وقاص، الذي أطاع عبيد الله بن زياد في وقعة كربلاء، ولم يعدل بتلك الوقعة عن نهايتها المشئومة، وقد كان العدول بها عن تلك النّهاية في يديه.

فقد أغرى عمر بن سعد بولاية الرّي - وهي درّة التاج في مُلك الأكاسرة الأقدمين - وكان يتطلع إليها منذ فتحها أبوه القائد النبيل العزوف، ويُنسب إليه أنّه قال وهو يراود نفسه على مقاتلة الحُسين:

فوالله ما أدري وإني لحائرٌ

أُفكر في أمري على خطرينِ

٧٩

أأتـركُ مـلكَ الـريّ مـنيتي

أم أرجـعُ مـأثوماً بقتلِ حُسينِ

وفي قتلِهِ النّارُ التي ليسَ دونَها

حـجابٌ وملكُ الريّ قرةُ عيني

فإن لم تكن هذه الأبيات من لسانه فهي ولا شك من لسان حاله؛ لأنّها تسجّل الواقع الذي لا شبهة فيه

ومن الواقع الذي لا شبهة فيه أيضاً، أنّ عمر بن سعد هذا لم يخل من غلظة في الطبع على غير ضرورة ولا استفزاز، فهو الذي ساق نساء الحُسين بعد مقتله على طريق جثث القتلى التي لم تزل مطروحة بالعراء فصحن وقد لمحنها على الطريق صيحة أسالت الدمع من عيون رجاله، وهُم ممّن قاتل الحُسين وذويه

هؤلاء وأمثالهم لا يُسمون ساسة مُلك ولا تُسمى مهنتهم تدعيم سلطان، ولكنّهم يُسمون جلاّدين متنمرين يطيعون ما في قلوبهم من غلظة وحقد، ويطيعون ما في أيديهم من أموال ووعود وتُسمى مهمّتهم مذبحة طائشة لا يُبالي مَن يسفك فيها الدماء أي غرض يُصيب

* * *

ومنذ قضي على يزيد بن معاوية أن يكون هؤلاء وأمثالهم أعواناً له في

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مَوقفُ الإسِلام مِنَ الحُرية وَالضّمان

الحرية في الرأسمالية والإسلام:

عرفنا - فيما سبق - أن الحرية هي النقطة المركزية في التفكير الرأسمالي، كما أن فكرة الضمان هي المحور الرئيس في النظام الاشتراكي والشيوعي.

ولأجل ذلك سندرس - بصورة مقارنة - موقف الإسلام والرأسمالية من الحرية، ونقارن بعد ذلك بين الضمان في الإسلام والضمان في المذهب الماركسي.

ونحن حين نطلق كلمة (الحرية)، نقصد بها معناها العام وهو: نفي سيطرة الغير، فإن هذا المفهوم هو الذي نستطيع أن نجده في كل من الحضارتين، وان اختلف إطاره وقاعدته الفكرية في كل منهما(١) .

____________________

(١) ولاجل ذلك وردت كلمة «الحرية» بمفهومها العام في نصوص اسلامية أصيلة، لا يمكن أن تتهم بالتأثر بمفاهيم الحضارة الغربية. فقد جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام : « لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً». وورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام انه قال: «خمس خصال من لم يكن فيه شيء منها لم يكن فيه كثير مستمتع: أولها - الوفاء - والثانية - التدبير، والثالثة - الحياء، والرابعة - حسن الخلق، والخامسة - وهي تجمع هذه الخصال - (الحرية)»

١٠١

ومنذ نبدأ بالمقارنة بين الحرية في الإسلام، والحرية في الديمقراطية الرأسمالية.. تبدو لدينا بوضوح الفروق الجوهرية بين الحرية التي عاشها المجتمع الرأسمالي ونادت بها الرأسمالية وبين الحرية التي حمل لواءها الإسلام وكفلها للمجتمع الذي صنعه وقدم فيه تجربته على مسرح التاريخ. فكل من الحريتين تحمل طابع الحضارة التي تنتمي اليها، وتلتقي مع مفاهيمها عن الكون والحياة، وتعبر عن الحالة العقلية والنفسية التي خلقها تلك الحضارة في التاريخ.

فالحرية في الحضارة الرأسمالية: بدأت شكاً مريراً طاغياً واستحال هذا الشك في امتداده الثوري الى إيمان مذهبي بالحرية وعلى العكس من ذلك الحرية في الحضارة الإسلامية: فانها تعبير عن يقين مركزي ثابت (الإيمان بالله) تستمد منه الحرية ثوريتها، وبقدر ارتكاز هذا اليقين وعمق مدلوله في حياة الإنسان، تتضاعف الطاقات الثورية في تلك الحرية.

والحرية الرأسمالية ذات مدلول ايجابي، فهي تعتبر: أن كل إنسان هو الذي يملك بحق نفسه، ويستطيع أن يتصرف فيها كما يحلو له، دون أن يخضع في ذلك لأي سلطة خارجية. ولأجل ذلك كانت جميع المؤسسات الإجتماعية - ذات النفوذ في حياة الإنسان - تستمد حقها المشروع في السيطرة على كل فرد من الأفراد أنفسهم. وأما الحرية في الإسلام فهي: تحتفظ

١٠٢

بالجانب الثوري من الحرية وتعمل لتحرير الإنسان من سيطرة الأصنام، كل الأصنام التي رزحت الإنسانية في قيودها عبر التاريخ، ولكنها تقيم عملية التحرير الكبرى هذه على أساس الإيمان بالعبودية المخلصة لله، وحده. فعبودية الإنسان لله في الإسلام - بدلاً عن امتلاكه لنفسه في الرأسمالية - هي الأداة التي يحطم بها الإنسان كل سيطرة وكل عبودية اخرى لأن هذه العبودية في معناها الرفيع تشعره بأنه يقف وسائر القوى الأخرى التي يعايشها على صعيد واحد، أمام رب واحد فليس من حق أي قوة في الكون أن تتصرف في مصيره، وتتحكم في وجوده وحياته.

والحرية في مفاهيم الحضارة الرأسمالية حق طبيعي للإنسان وللإنسان أن يتنازل عن حقه متى شاء، وليست كذلك في مفهومها الإسلامي، لأن الحرية في الإسلام ترتبط إرتباطاً أساسياً بالعبودية لله، فلا يسمح الإسلام للإنسان أن يستذل ويستكين ويتنازل عن حريته «لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً». فالإنسان مسؤول عن حريته في الإسلام وليست الحرية حالة من حالات انعدام المسؤولية.

هذا هو الفرق بين الحريتين في ملامحهما العامة وسنبدأ الآن بشيء من التوضيح:

١٠٣

الحرية في الحضارة الرأسمالية

نشأت الحرية في الحضارة الرأسمالية تحت ظلال الشك الجارف المرير، الذي سيطر على تيارات التفكير الاوروبي كافة نتيجة للثورات الفكرية التي تعاقبت في فجر تاريخ أوروبا الحديثة، وزلزلت دعائم العقلية الغربية كلها.

فقد بدأت أصنام التفكير الأوروبي تتهاوى الواحد تلو الآخر بسبب الفتوحات الثورية في دنيا العلم، التي طلعت على الإنسان الغربي بمفاهيم جديدة عن الكون والحياة، ونظريات تناقض كل المناقضة بدهياته بالأمس، التي كانت تشكل حجر الزاوية في كيانه الفكري وحياته العقلية والدينية.

وأخذ الإنسان الغربي عبر تلك الثورات الفكرية المتعاقبة ينظر الى الكون بمنظار جديد، والى التراث الفكري الذي خلفته له الإنسانية منذ فجر التاريخ نظرات شك وارتياب. لانه بدأ يحسن ان عالم (كوبرنيكوس) الذي برهن على ان الأرض ليست إلاّ أحد توابع الشمس، يختلف كل الاختلاف عن العالم التقليدي الذي كان يحدثنا عنه (بطليموس)، وان الطبيعة التي بدأت تكشف عن اسرارها لجاليليو وأمثاله من العلماء، شيء جديد بالنسبة الى الصورة التي ورثها عن القديسين والمفكرين

١٠٤

السابقين أمثال القديس توماس الاكويني ودانتي وغيرهما. وهكذا ألقى فجأة وبيد مرعوبة كل بدهياته بالأمس، وأخذ يحاول الخلاص من الاطار الذي عاش فيه آلاف السنين.

ولم يقف الشك في موجه الثوري الصاعد عند حد، بل اكتسح في ثورته كل القيم والمفاهيم التي تواضعت عليها الإنسانية وكانت تعتمد عليها في ضبط السلوك وتنظيم الصلات. فما دام الكون الجديد يناقض المفهوم القديم عن العالم، وما دام الإنسان ينظر الى واقعه ومحيطه من زاوية العلم لا الأساطير.. فلا بد ان يعاد النظر من جديد في المفهوم الديني، الذي يحدد صلة الإنسان والكون بما وراء الغيب، وبالتالي في كل الأهداف والمثل التي عاشها الإنسان، قبل أن تتبلور نظرته الجديدة الى نفسه وكونه.

وعلى هذا الأساس واجه دين الإنسان الغربي محنة الشك الحديث، وهو لا يرتكز إلاّ على رصيد عاطفي، بدأ ينضب بسبب من طغيان الكنيسة وجبروتها. فكان من الطبيعي ايضاً أن تذوب في أعقاب هذه الهزيمة كل القواعد الخلقية، والقيم والمثل التي كانت تحدد من سلوك الإنسان، وتخفف من غلوائه. لأن الأخلاق مرتبطة بالدين في حياة الإنسانية كلها، فإذا فقدت رصيدها الديني الذي يمدها بالقيمة الحقيقية، ويربطها بعالم الغيب وعالم الجزاء أصبحت خواء وضريبة لا مبرر لها.

١٠٥

والتاريخ يبرز هذه الحقيقة دائماً، فقد كفر السفسطائيون الاغريق بالآلهية على اساس من الشك السفسطي، فرفضوا القيود الخلقية وتمردوا عليها، واعاد الإنسان الغربي القصة من جديد، حين التهم الشك الحديث عقيدته الدينية، فثار على كل مقررات السلوك والاعتبارات الخلقية واصبحت هذه المقررات والسلوك مرتبطة في نظره بمرحلة غابرة من تاريخ الإنسانية. وانطلق الإنسان الغربي كما يحلو له يتصرف وفقاً لهواه، ويملأ رئتيه بالهواء الطلق الذي احتل الشك الحديث فيه موضع القيم والقواعد حين كانت تقيد الإنسان في سلوكه الداخلي وتصرفاته.

ومن هنا ولدت فكرة الحرية الفكرية والحرية الشخصية: فقد جاءت فكرة الحرية الفكرية نتيجة للشك الثوري والقلق العقلي، الذي عصف بكل المسلمات الفكرية، فلم تعد هناك حقائق عليا لا يباح انكارها ما دام الشك يمتد الى كل المجالات. وجاءت فكرة الحرية الشخصية تعبيراً عن النتائج السلبية التي انتهى اليها الشك الحديث في معركته الفكرية مع الايمان والاخلاق، فقد كان طبيعياً للإنسان الذي انتصر على ايمانه وأخلاقه ان يؤمن بحريته الشخصية، ويرفض أي قوة تحدد سلوكه وتملك ارادته.

بهذا التسلسل انتقل الإنسان الحديث من الشك، الى الحرية الفكرية، وبالتالي الى الحرية الشخصية.

١٠٦

وهنا جاء دور الحرية الاقتصادية، لتشكل حلقة جديدة من هذا التسلسل الحضاري: فان الإنسان الحديث بعد أن آمن بحريته الشخصية، وبدأ يضع أهدافه وقيمه على هذا الاساس وبعد ان كفر عملياً بالنظرة الدينية الى الحياة والكون وصلتها الروحية بالخالق وما ينتظر الإنسان من ثواب وعقاب.. عادت الحياة في نظره فرصة للظفر بأكبر نصيب ممكن من اللذة والمتعة المادية، التي لا يمكن أن تحصل إلاّ عن طريق المال.. وهكذا عاد المال المفتاح السحري والهدف، الذي يعمل لاجله الإنسان الحديث، الذي يتمتع بالحرية الكاملة في سلوكه. وكان ضرورياً لأجل ذلك ان توطد دعائم الحرية الاقتصادية، وتفتح كل المجالات بين يدي هذا الكائن الحر للعمل في سبيل هذا الهدف الجديد (المال) الذي أقامته الحضارة الغربية صنماً جديداً للإنسانية: وأصبحت كل تضحية يقدمها الإنسان في هذا المضمار عملاً شريفاً وقرباناً مقبولاً، وطغى الدافع الاقتصادي كلما ابتعد ركب الحضارة الحديثة، عن المقولات الروحية والفكرية التي رفضها في بداية الطريق، واستفحلت شهوة المال فأصبح سيد الموقف، واختفت مفاهيم الخير والفضيلة والدين، حتى خيل للماركسية في ازمة من أزمات الحضارة الغربية: ان الدافع الاقتصادي هو المحرك الذي يوجه تاريخ الانسان في كل العصور.

ولم يكن من الممكن ان تنفصل فكرة الحرية الاقتصادية

١٠٧

عن فكرة أخرى، وهي فكرة الحرية السياسية، لأن الشرط الضروري لممارسة النشاط الحر على المسرح الاقتصادي: ازاحة العقبات السياسية والتغلب على الصعاب التي تضعها السلطة الحاكمة أمامه وذلك بامتلاك اداة الحكم وتأميمها، ليطمئن الفرد إلى عدم وجود قوة تحول بينه وبين مكاسبه واهدافه التي يسعى اليها.

وبذلك اكتملت المعالم الرئيسية أو الحلقات الأساسية، التي الف الإنسان الغربي منها حضارته، وعمل مخلصاً لاقامة حياته على أساسها، وتبنى دعوة العالم اليها.

وعلى هذا الضوء نتبين الحرية في هذه الحضارة بملامحها التي ألمعنا اليها في مستهل هذا الفصل، فهي ظاهرة حضارية بدأت شكاً مراً قلقاً، وانتهت، إلى إيمان مذهبي بالحرية. وهي تعبير عن: ايمان الإنسان الغربي بسيطرته على نفسه وامتلاكه لارادته بعد أن رفض خضوعه لكل قوة. فلا تعني الحرية في الديمقراطية الرأسمالية: رفض سيطرة الآخرين فحسب، بل تعني اكثر من هذا سيطرة الإنسان على نفسه وانقطاع صلته عملياً بخالقه وآخرته.

***

وأما الإسلام فموقفه من الحرية يختلف بصورة أساسية عن

١٠٨

موقف الحضارة الغربية فهو يعني بالحرية بمدلولها السلبي أو بالأحرى معطاها الثوري الذي يحرر الإنسان من سيطرة الآخرين ويكسر القيود والأغلال التي تكبل يديه. ويعتبر تحقيق هذا المدلول السلبي للحرية هدفاً من الأهداف الكبرى للرسالة السماوية بالذات: «ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم»] الاعراف : ١٥٦ [. ولكنه لا يربط بين هذا وبين مدلولها الايجابي في مفاهيم الحضارة الغربية، لأنه لا يعتبر حق الإنسان في التحرر من سيطرة الآخرين والوقوف معهم على صعيد واحد نتيجة لسيطرة الإنسان على نفسه، وحقه في تقرير سلوكه ومنهجه في الحياة - الأمر الذي نطلق عليه : المدلول الايجابي للحرية في مفهوم الحضارة الغربية - وانما يربط بين الحرية والتحرر من كل الأصنام والقيود المصطنعة، وبين العبودية المخلصة لله. فالإنسان عبد الله قبل كل شيء، وهو بوصفه عبداً لله لا يمكن أن يقر سيطرة لسواه عليه، أو يخضع لعلاقة صنمية مهما كان لونها وشكلها، بل أنه يقف على صعيد العبودية المخلصة لله، مع المجموعة الكونية كلها على قدم المساواة.

فالقاعدة الأساسية للحرية في الإسلام هي: التوحيد والايمان بالعبودية المخلصة لله، الذي تتحطم بين يديه كل القوى الوثنية التي هدرت كرامة الإنسان على مر التاريخ.

«قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم:

١٠٩

ألا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله»] آل عمران: ٦٤[.

«أتعبدون ما تنحتون؟!، والله خلقكم وما تعملون»] الصافات: ٩٥، ٩٦[.

«إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم»] الأعراف ١٩٢ [.

«أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟!»] يوسف: ٣٩ [.

وهكذا يقيم الإسلام التحرر من كل العبوديات على أساس الاقرار بالعبودية المخلصة لله تعالى، ويجعل من علاقة الإنسان بربه الاساس المتين الثابت لتحرره في علاقاته مع سائر الناس ومع كل أشياء الكون الطبيعية.

فالإسلام والحضارة الغربية، وان مارسا معاً عملية تحرير الإنسان، ولكنهما يختلفان في القاعدة الفكرية التي يقوم عليها هذا التحرير. فالإسلام يقيمها على أساس العبودية لله والايمان به والحضارة الغربية تقيمها علىأساس الايمان بالإنسان وحده وسيطرته على نفسه، بعد ان شكت في كل القيم والحقائق وراء الابعاد المادية لوجود الإنسان.

ولاجل ذلك كان مرد فكرة الحرية في الإسلام الى عقيدة ايمانية موحدة بالله، ويقين ثابت بسيطرته على الكون. وكلما

١١٠

تأصل هذا اليقين في نفس المسلم، وتركزت نظرته التوحيدية الى الله.. تسامت نفسه وتعمق احساسه بكرامته وحريته وتصلبت ارادته في وجه الطغيان والبغي واستعباد الآخرين: «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون»]الشورى: ٣٩ [.

وعلى العكس من ذلك فكرة الحرية في الحضارة الغربية: فانها كانت وليدة الشك لا اليقين، ونتيجة القلق والثورة لا اليقين والاستقرار، كما عرفنا سابقاً.

***

ويمكننا ان نقسم الحريات الديمقراطية الرأسمالية للمقارنة بينها وبين الإسلام الى قسمين:

احدهما: الحرية في المجال الشخصي للإنسان، وهي: ما تطلق عليه الديمقراطية اسم: الحرية الشخصية.

والآخر: الحرية في المجال الاجتماعي، وهي تشمل الحريات: الفكرية والسياسية والاقتصادية.

فان الحرية الشخصية تعالج سلوك الإنسان بوصفه فرداً سواء كان يعيش بصورة مستقلة او جزءاً من مجتمع. واما الحريات الثلاث الاخرى فهي تعالج الإنسان بوصفه فرداً يعيش في ضمن جماعة، فتسمح له بالاعلان عن افكاره للآخرين كما يحلو له، وتمنحه الحق في تقرير نوع السلطة الحاكمة، وتفتح أمامه السبيل لمختلف الوان النشاط الاقتصادي تبعاً لقدرته وهواه.

١١١

الحرية في المجال الشخصي

حرصت الحضارة الغربية الحديثة على: توفير اكبر نصيب ممكن من الحرية لكل فرد في سلوكه الخاص، وهو القدر الذي لا يتعارض مع حريات الآخرين، فلا تنتهي حرية كل فرد إلاّ حيث تبدأ حريات الأفراد الآخرين.

وليس من المهم لديها - بعد توفير هذه الحرية لجميع الأفراد - طريقة استعمالهم لها، والنتائج التي تتمخض عنها، وردود الفعل النفسية والفكرية لها.. ما دام كل فرد حراً في تصرفاته وسلوكه، وقادراً على تنفيذ ارادته في مجالاته الخاصة. فالمخمور مثلاً لا حرج عليه ان يشرب ما شاء من الخمر، ويضحي بآخر ذرة من وعيه وادراكه، لأن من حقه ان يتمتع بهذه الحرية في سلوكه الخاص، ما لم يعترض هذا المخمور طريق الآخرين، أو يصبح خطراً على حياتهم بوجه من الوجوه.

وقد سكرت الإنسانية على انغام هذه الحرية، وأغفت في ظلالها برهة من الزمن، وهي تشعر لاول مرة أنها حطمت كل القيود وان هذا العملاق المكبوت في أعماقها آلاف السنين قد انطلق لأول مرة، وأتيح له ان يعمل كما يشاء في النور، دون خوف او قلق.

١١٢

ولكن لم يدم هذا الحلم اللذيذ طويلاً، فقد بدأت الإنسانية تستيقظ ببطء، وتدرك بصورة تدريجية، ولكنها مرعبة: ان هذه الحرية ربطتها بقيود هائلة، وقضت على آمالها في الانطلاق الإنساني الحر، لانها وجدت نفسها مدفوعة في عربة تسير باتجاه محدد، لا تملك له تغييراً ولا تطويراً، وانما كل سلوتها وعزائها - وهي تطالع مصيرها في طريقها المحدد -: ان هناك من قال لها: ان هذه العربة هي عربة الحرية.. بالرغم من هذه الاغلال وهذه القيود التي وضعت في يديها.

اما كيف عادت الحرية قيداً؟!، وكيف أدى الانطلاق الى تلك الاغلال، التي تجر العربة في اتجاه محتوم، وأفاقت الإنسانية على هذا الواقع المر في نهاية المطاف؟!. فهذا كله ما قدره الإسلام قبل اربعة عشر قرناً، حين لم يكتف بتوفير هذا المعنى السطحي من الحرية للإنسان، الذي مني بكل هذه التناقضات في التجربة الحياتية الحديثة للإنسان الغربي.. وانما ذهب الى أبعد حد من ذلك، وجاء بمفهوم أعمق للحرية، واعلنها ثورة، لا على الاغلال والقيود بشكلها الظاهري فحسب بل على جذورها النفسية والفكرية وبهذا كفل للإنسان أرقى وأنزه اشكال الحرية التي ذاقها الناس على مر التاريخ.

ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والاغلال، كما سنوضح.. فان

١١٣

الحرية الرحيبة في الإسلام على العكس، لأنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى. لتنتهي الى التحرر من كل أشكال العبودية المهينة.

يبدأ الإسلام عمليته في تحرير الإنسانية من المحتوى الداخلي للإنسان نفسه، لأنه يرى أن منح الإنسان الحرية ليس أن يقال له: هذا هو الطريق قد أخليناه لك فسر بسلام.. وإنما يصبح الإنسان حراً حقيقة، حين يستطيع أن يتحكم في طريقه ويحتفظ لإنسانيته بالرأي في تحديد الطريق ورسم معالمه واتجاهاته. وهذا يتوقف على تحرير الإنسان قبل كل شيء من عبودية الشهوات التي تعتلج في نفسه، لتصبح الشهوات أداة تنبيه للإنسان الى ما يشتهيه، لا قوة دافعة تسخر ارادة الإنسان دون ان يملك بازائها حولا أو طولاً، لأنها إذا أصبحت كذلك خسر الإنسان حريته منذ بداية الطريق. ولا يغير من الواقع شيئاً أن تكون يداه طليقتين، ما دام عقله وكل معانيه الإنسانية التي تميزه عن مملكة الحيوان معتقلة ومجمدة عن العمل. ونحن نعلم أن الشيء الأساسي الذي يميز حرية الإنسان عن حرية الحيوان بشكل عام، أنهما وان كانا يتصرفان بإرادتهما. غير أن إرداة الحيوان مسخرة دائماً لشهواته وإيحاءاتها الغريزية، وأما الإنسان فقد زود بالقدرة التي تمكنه من السيطرة على شهواته وتحكيم منطقه العقلي فيها. فسر حريته - بوصفه إنساناً إذن -

١١٤

يكمن في هذه القدرة. فنحن إذا جمدناها فيه واكتفينا بمنحه الحرية الظاهرية في سلوكه العلمي ووفرنا له بذلك كل إمكانات ومغريات الإستجابة لشهواته، كما صنعت الحضارات الغربية الحديثة.. فقد قضينا بالتدريج على حريته الإنسانية، في مقابل شهوات الحيوان الكامن في أعماقه، وجعلنا منه أداة تنفيذ لتلك الشهوات، حتى اذا التفت الى نفسه في أثناء الطريق وجد نفسه محكوماً لا حاكماً، ومغلوباً على أمره وإرادته.

وعلى العكس من ذلك: اذا بدأنا بتلك القدرة التي يكمن فيها سر الحرية الإنسانية. فأنميناها وغذيناها وأنشأنا الإنسان إنشاء إنسانياً لا حيوانياً، وجعلناه يعي أن رسالته في الحياة أرفع من هذا المصير الحيواني المبتذل، الذي تسوقه اليه تلك الشهوات وأن مثله الأعلى الذي خلق للسعي في سبيله أسمى من هذه الغايات التافهة والمكاسب الرخيصة، التي يحصل عليها في لذاذاته.. أقول: اذا صنعنا ذلك كله حتى جعلنا الإنسان يتحرر من عبودية شهواته، وينعتق من سلطانها الآسر، ويمتلك ارادته.. فسوف يخلق الإنسان الحر القادر على أن يقول لا أو نعم، دون أن تكمم فاه أو تغل يديه هذه الشهوة الموقوتة او تلك اللذة المبتذلة.

وهذا ما صنعه القرآن حين وضع للفرد المسلم طابعه الروحي الخاص، وطور من مقاييسه ومثله، وانتزعه من الأرض وأهدافها

١١٥

المحدودة، إلى آفاق أرحب وأهداف أسمى:

«زين للناس حب الشهوات: من النساء، والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام، والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب* قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟: للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأزواج مطهرة ورضوان من الله. والله بصير بالعباد»] آل عمران ١٤، ١٥[.

هذه هي معركة التحرير في المحتوى الداخلي للإنسان، وهي في نفس الوقت الأساس الأول والرئيس لتحرير الإنسانية في نظر الإسلام، وبدونها تصبح كل حرية زيفاً وخداعاً، وبالتالي أسراً وقيداً.

ونحن نجد في هذا الضوء القرآني: ان الطريقة التي استعان بها القرآن على انتشال الإنسانية من ربقة الشهوات وعبوديات اللذة.. هي الطريقة العامة التي يستعملها الإسلام دائماً في تربية الإنسانية في كل المجالات: طريقة التوحيد. فالإسلام حين يحرر الإنسان من عبودية الارض ولذائذها الخاطفة، يربطه بالسماء وجنانها ومثلها ورضوان من الله، لان التوحيد عند الإسلام هو سند الإنسانية في تحررها الداخلي من كل العبوديات كما انه سند التحرر الإنساني في كل المجالات.

ويكفينا مثل واحد - مر بنا في فصل سابق - لنعرف

١١٦

النتائج الباهرة التي تمخض عنها هذا التحرير، ومدى الفرق بين حرية الإنسان القرآني الحقيقية، وتلك الحريات المصطنعة التي تزعمها شعوب الحضارات الغربية الحديثة. فقد استطاعت الامة التي حررها القرآن - حين دعاها في كلمة واحدة الى اجتناب الخمر - ان تقول لا، وتمحو الخمر من قاموس حياتها بعد ان كان جزءاً من كيانها وضرورة من ضروراتها، لأنها كانت مالكة لاراداتها، حرة في مقابل شهواتها ودوافعها الحيوانية. وبكلمة مختصرة: كانت تتمتع بحرية حقيقية تسمح لها بالتحكم في سلوكها.

واما تلك الامة التي أنشأتها الحضارة الحديثة، ومنحتها الحرية الشخصية بطريقتها الخاصة.. فهي بالرغم من هذا القناع الظاهري للحرية، لا تملك شيئاً من ارادتها ولا تستطيع ان تتحكم في وجودها، لانها لم تحرر المحتوى الداخلي لها.. وانما استسلمت الى شهواتها ولذاذاتها تحت ستار من الحرية الشخصية حتى فقدت حريتها ازاء تلك الشهوات واللذاذات، فلم تستطع اكبر حملة للدعاية ضد الخمر جندتها حكومة الولايات المتحدة الامريكية ان تحرر الامة الامريكية من الخمر، بالرغم من الطاقات المادية والمعنوية الهائلة التي جندتها السلطة الحاكمة ومختلف المؤسسات الاجتماعية في هذا السبيل. وليس هذا الفشل المريع إلاّ نتيجة فقدان الإنسان الغربي للحرية الحقيقية

١١٧

فهو لا يستطيع ان يقول: لا، كلما اقتنع عقلياً بذلك كالإنسان القرآني وانما يقول الكلمة حين تفرض عليه شهوته أن يقولها. ولهذا لم يستطع ان يعتق نفسه من أسر الخمر، لانه لم يكن قد ظفر في ظل الحضارة الغربية بتحرير حقيقي في محتواه الروحي والفكري(١) .

وهذا التحرير الداخلي او البناء الداخلي لكيان الإنسان هو في رأي الإسلام حجر الزاوية في عملية اقامة المجتمع الحر السعيد. فما لم يملك الإنسان ارادته، ويسيطر على موقفه الداخلي ويحتفظ لإنسانيته المهذبة بالكلمة العليا في تقرير سلوكه لا يستطيع أن يحرر نفسه في المجال الاجتماعي تحريراً حقيقياً يصمد في وجه الاغراء، ولا أن يخوض معركة التحرير الخارجي بجدارة وبسالة: «ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»] الرعد: ١١ [. « واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا»] الاسراء: ١٦ [.

____________________

(١) لاحظ مقالنا: الحرية في القرآن. الاضواء ع ١ س ٢.

١١٨

الحرية في المجال الاجتماعي

كما يخوض الإسلام معركة التحرير الداخلي للإنسانية، كذلك

يخوض معركة اخرى لتحرير الإنسان في النطاق الاجتماعي فهو يحطم في المحتوى الداخلي للإنسان أصنام الشهوة التي تسلبه حريته الإنسانية، ويحطم في نطاق العلاقات المتبادلة بين الأفراد الأصنام الاجتماعية، ويحرر الإنسان من عبوديتها، ويقضي على عبادة الإنسان للإنسان: «قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله». فعبودية الإنسان لله تجعل الناس كلهم يقفون على صعيد واحد بين يدي المعبود الخالق: فلا توجد أمة لها الحق في استعمار أمة اخرى واستعبادها ولا فئة من المجتمع يباح لها اغتصاب فئة اخرى ولا انتهاك حريتها، ولا انسان يحق له ان ينصب نفسه صنماً للآخرين.

ومرة أخرى نجد أن المعركة القرآنية الثانية من معارك التحرير قد استعين فيها بنفس الطريقة التي استعملت في المعركة الأولى: ( معركة الإنسانية داخلياً من الشهوات )، وتستعمل دائماً في كل ملاحم الإسلام.. وهي: التوحيد. فما دام الإنسان يقر بالعبودية لله وحده، فهو يرفض بطبيعة الحال كل صنم وكل تأليه مزور لأي إنسان وكائن، ويرفع رأسه حراً أبياً ولا يستشعر ذل العبودية والهوان أمام أي قوة من قوى الارض او صنم من أصنامها. لان ظاهرة الصنمية في حياة الإنسان نشأت عن سببين: احدهما: عبوديته للشهوة التي تجعله يتنازل

١١٩

عن حريته الى الصنم الإنساني، الذي يقدر على إشباع تلك الشهوة وضمانها له. والآخر: جهله بما وراء تلك الأقنعة الصنمية المتألهة من نقاط الضعف والعجز. والإسلام حرر الإنسان من عبودية الشهوة كما عرفنا آنفاً، وزيف تلك الأقنعة الصنمية الخادعة: «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم» فكان طبيعياً أن ينتصر على الصنمية، ويمحو من عقول المسلمين عبودية الأصنام بمختلف أشكالها والوانها.

وعلى ضوء الأسس التي يقوم عليها تحرير الإنسان من عبوديات الشهوة في النطاق الشخصي، وتحريره من عبودية الأصنام في النطاق الاجتماعي، سواء كان الصنم امة، ام فئة أم فرداً.. نستطيع ان نعرف مجال السلوك العملي للفرد في الإسلام، فان الإسلام يختلف عن الحضارات الغربية الحديثة التي لا تضع لهذه الحرية العملية للفرد حداً إلاّ حريات الأفراد الآخرين، لان الإسلام يهتم؛ قبل كل شيء - كما عرفنا - بتحرير الفرد من عبودية الشهوات والأصنام، ويسمح له بالتصرف كما يشاء علي ان لا يخرج عن حدود الله. فالقرآن يقول: «خلق لكم ما في الأرض جميعاً»]البقرة: ٣٩[«وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه»]الجاثية: ١٣ [وبذلك يضع الكون بأسره تحت تصرف الإنسان وحريته ولكنها حرية محدودة بالحدود التي تجعلها تتفق مع تحرره الداخلي من

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200