المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية30%

المدرسة الاسلامية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 200

المدرسة الاسلامية
  • البداية
  • السابق
  • 200 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 78995 / تحميل: 7545
الحجم الحجم الحجم
المدرسة الاسلامية

المدرسة الاسلامية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قالعليه‌السلام : «من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النّار».(1)

وفي الآية اللاحقة ينقل القرآن الكريم جواب قادة الضلال والانحراف بأنّه ليس بيننا وبينكم أي تفاوت ، فإذا قلنا فقد أيدتم ، وإذا خطونا فقد ساعدتم ، وإذا ظلمنا فقد عاونتم ، وإذن فذوقوا بإزاء أعمالكم عذاب الله الأليم ،( وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) .

والمقصود من «الأولى» الطائفة الأولى أي القادة (قادة الضلال الانحراف) والمقصود من «الأخرى» الأتباع ، والأنصار.

* * *

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 182 ، 17

٤١

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) )

التفسير

مرّة أخرى يتناول القرآن بالحديث مصير المتكبرين والمعاندين ، يعني أولئك الذين لا يخضعون لآيات الله ولا يستسلمون للحق ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ) .

وقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى سجّين».(1)

وقد رويت بهذا المضمون أحاديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الطبري وسائر التفاسير ، في ذيل الآية المبحوثة.

__________________

(1) مجمع البيان في ذيل الآية المبحوثة.

٤٢

من الممكن أن يكون المقصود من السماء هنا معناه الظاهر ، وكذا يمكن أن تكون كناية عن مقام القرب الإلهي ، كما نقرأ في الآية (9) من سورة فاطر :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

ثمّ أضاف قائلا :( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) ، أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة.

إنّ هذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا الأمر ، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسّي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنّة ، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الإبرة ، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنّة مطلقا.

و «الجمل» في اللغة يعني البعير الذي خرجت أسنانه حديثا ، ولكن أحد معاني الجمل هو الحبل القوي والمتين الذي تربط به السفن أيضا(1) .

وحيث إنّ بين الحبل والإبرة تناسبا أقوى وأكثر ، لهذا ذهب بعضهم إلى هذا المعنى عند تفسير الآية ، ولكن أكثر المفسّرين الإسلاميين رجّح المعنى الأوّل ، وهم على حق في هذا الاتجاه لأمور :

أوّلا : إنّ في أحاديث أئمّة الإسلام كذلك تعابير تناسب التّفسير الأوّل.

ثانيا : إنّه يلاحظ نظير هذا التّفسير حول الأثرياء (المتكبرين الأنانيين) في الإنجيل أيضا ، ففي إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 24 و 25 نقرأ هكذا : إنّ عيسى قال : «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله».

ولا أقل يستفاد من هذه العبارة أنّ هذه الكناية كانت متداولة بين الشعوب

__________________

(1) راجع «تاج العروس» ، و «القاموس» مادة الجمل.

٤٣

منذ قديم الزمان.

وقد نستعمل هذا المثل أيضا ، في محاوراتنا اليومية الآن ، فيقال عن الأشخاص المتشدّدين جدّا أحيانا ، والمتساهلين جدّا أحيانا أخرى : (إنّ فلانا تارة لا يدخل من باب المدينة ، وتارة يدخل من ثقب إبرة).

ثالثا : بالنظر إلى أنّ استعمال لفظة الجمل في المعنى الأوّل (أي البعير) أكثر ، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جدا ، لهذا يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وفي خاتمة الآية يضيف تعالى للمزيد من التأكيد والتوضيح قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) .

وفي الآية اللاحقة يشير إلى قسم آخر من عقوبتهم المؤلفة إذ يقول :( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ) (1) .

ثمّ يضيف للتأكيد( وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) .

والملفت للنظر والطريف : أنّه يعبّر عنهم مرّة بـ «المجرم» ومرّة بـ «الظالم» وثالثة بـ «المكذبين» لآيات الله ، ورابعة بـ «المستكبرين» ، وترجع جميعها إلى حقيقة واحدة في الواقع.

* * *

__________________

(1) المهاد جمع مهد وزان عهد أي الفرش ، والغواش في الأصل غواشي جمع غاشية بمعنى كل نوع من أنواع الغطاء ، كما أنّه يطلق على الخيمة أيضا ، وفي الآية الحاضرة يمكن أن يكون بمعنى الخيمة أو بمعنى الغطاء.

٤٤

الآيتان

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) )

التّفسير

الطّمأنينة الكاملة والسّعادة الخالدة :

إنّ أسلوب القرآن ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ هو عرض الطوائف المختلفة وبيان مصائرها جنبا إلى جنب لتأكيد الموضوع ، وشرح أوضاعها عن طريق المقارنة والمقايسة بينها.

ولقد كان البحث في الآيات السابقة حول المكذبين لآيات الله ، والمستكبرين والظالمين ، وهنا يشرح ويبيّن المستقبل المشرق للمؤمنين إذ يقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

٤٥

وقد أتى بين المبتدأ والخبر بجملة معترضة(1) . توضّح الكثير من الإبهامات إذ يقول :( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) .

وهذه الجملة تؤكّد بأنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور بأن الايمان بالله ، والإتيان بالعمل الصالح وسلوك سبيل المؤمنين ، أمر متعسر غير مقدور إلّا لأفراد معدودين ، لأنّ التكاليف الإلهية في حدود الطاقة البشرية وليست أكثر منها ، وبهذا فتح الطريق في وجه كل أحد عالما كان أو جاهلا ، صغيرا كان أو كبيرا ، ودعا الجميع إلى اللحاق بهذا الصف ، فالمطلوب من كل أحد العمل بمقدار قابليته الفكرية والبدنية وإمكانياته.

إنّ هذه الآية ـ مثل سائر الآيات القرآنية ـ تحصر وسيلة النجاة والسعادة الأبدية في الإيمان والعمل الصالح ، وهكذا تفنّد العقيدة النّصرانية المحرفة الذين يعتبرون صلب المسيح في مقابل ذنوب البشر وسيلة للنجاة ، ويقولون : إنّه قربان لخطايا الإنسانية.

إنّ إصرار القرآن الكريم على مسألة الإيمان والعمل الصالح ، في الآيات المختلفة لتفنيد هذه المقولة وأمثالها.

وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها الله سبحانه لأهل الجنّة ، والتي تكون سببا لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية ، إذ قال( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ ) .

و (الغل) في الأصل بمعنى نفوذ الشيء خفية وسرّا ، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة ، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل) ، وإنّما يطلق «الغلول» على الرشوة بهذه المناسبة لأنّها تؤخذ خفيّة وسرّا لارتكاب

__________________

(1) ينبغي أن لا يتصور أحد بأنّ معنى الجملة المعترضة هو أنّ مفادها أجنبي وغريب من الموضوع المعترض ، بل لا بدّ أنّ هناك ارتباطا ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها ، وإن كانت من حيث التركيب توسطت كلاما متصلا ، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة المعترضة معترضة من حيث التركيب اللفظي ، لا من حيث المعنى.

٤٦

خيانة.(1)

وفي الحقيقة إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة ، ومصدر الكثير من الصراعات الإجماعية الواسعة التي تؤدي ـ مضافا إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس ـ الى زعزعة الاستقرار الروحي ، هو الحسد والحقد.

فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة ، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين ، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها ، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم ، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية.

إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية ، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة ، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم ، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة. إنّهم يعيشون معا في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة.

إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه ، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون من فوقهم أبدا ، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض طريق التعايش السلمي.

ولقد نقل بعض المفسّرين حديثا في المقام عن السدّي قال : «إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ ، فهو الشراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا»(2) .

إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهما‌السلام وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو «السّدي» ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

__________________

(1) للمزيد من التوضيح راجع الآية (161) من سورة آل عمران.

(2) تفسير المنار ، المجلد 8 ، الصفحة 421.

٤٧

الأصل ، لأنّ هذه الأمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الاطلاع عليها.

وعلى كل فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية ، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطنا وظاهرا ، جسما وروحا ، فهم يتحلون بالجمال الجسماني ، والجمال الروحاني معا ، ولهذا فهم لا يعانون ، ـ مطلقا ـ من الحسد والحقد.

فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أخرى ، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة.

وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية ، يشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية ، فيقول :( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) .

ثمّ بعكس رضى أهل الجنّة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر لله وحده على ما هداهم إليه من النعم( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ) .

وهنا يأتيهم النداء بأن ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

ومرّة أخرى نصل إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح ، وليسن بالأماني والظنون الخاوية.

و «الإرث» في الأصل بمعنى انتقال مال أو ثروة من شخص إلى آخر من دون أن يكون بينهما عقد (أي الانتقال عبر مسير طبيعي تلقائي ، لا عن طريق البيع والشراء) ولهذا يطلق الإرث على انتقال أموال الميت إلى خلفه.

لماذا عبّر بالإرث؟

وهنا ينقدح سؤال وهو : كيف يقال لأهل الجنّة : هذه النعم أورثتموها لقاء أعمالكم؟

٤٨

والجواب أوضحه حديث روي بطرق الشيعة والسنّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ، ومنزل في النّار ، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة ، فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون»(1) .

فهذا الحديث يشير إلى أنّ أبواب السعادة والشقاء مفتوحة أمام جميع الناس قاطبة ، وإنّه لم يخلق أحد يوم خلق وهو من أهل الجنّة ، أو من أهل النّار ، بل يمتلك الجميع قابلية الوصول إلى كلا هذين المنزلين ، وإنّما إرادتهم هي التي تحدد وتقرّر مصيرهم.

ومن البديهي أنّه عند ما يستقر المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة في الجنّة ، ويستقر الكفار والأشرار في النّار ينتقل مكان ومنزل كل واحد منهما الى الآخر بصورة طبيعية.

وعلى كل حال ، فإن هذه الآية وهذا الحديث هما من البراهين والدلائل الواضحة على نفي الجبر ، وثبوت الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 31 ، وتفسير القرطبي ، المجلد الرّابع ، الصفحة 2645 ، وتفاسير أخرى.

٤٩

الآيتان

( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) )

التّفسير

بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار ، أشار هنا إلى حوار هذين الفريقين في ذلك العالم ، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار.

فيقول أوّلا :( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ) .

فيجيبهم أهل النّار قائلين : نعم وجدنا كل ذلك. عين الحقيقة( قالُوا : نَعَمْ ) .

ويجب الالتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضيا ، إلّا أنّه هنا يعطي معنى المضارع ، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم ، حيث يذكر الحوادث التي تقع في المستقبل حتما بصيغة الفعل الماضي ، وهذا يعدّ نوعا من التأكيد ، يعني أنّ

٥٠

المستقبل واضح جدّا ، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق.

على أنّ التعبير بـ «نادى» الذي يكون عادة للمسافة البعيدة ، يصوّر بعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو : وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟

وجواب هذا السؤال معلوم ، لأنّ السؤال ليس دائما للحصول على المزيد من المعلومات ، بل قد يتّخذ أحيانا صفة العتاب والتوبيخ والملامة ، وهو هنا من هذا القبيل. وهذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عند ما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا ، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة ، والملامات المزعجة ، فلا بدّ ـ في الآخرة ـ أن ينالوا عقابا من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم ، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة ، منها ما في آخر سورة المطففين.

ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع : أن لعنة الله على الظالمين( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) .

ثمّ يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله :( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ ) (1) .

ومن الآية الحاضرة يستفاد مرّة أخرى أنّ جميع الانحرافات والمفاسد قد اجتمعت في مفهوم «الظلم» وللظالم مفهوم واسع يشمل جميع مرتكبي الذنوب ، والآثام ، وخصوصا الضالون المضلّون.

__________________

(1) يبغونها عوجا بمعنى يطلبونها عوجا ، أي أنّهم يرغبون ويجتهدون في أن يضلوا الناس بإلقاء الشبهات والدعايات المسمومة عن الطريق المستقيم. كما أنّ الراغب قال في «المفردات» عوج (بفتح العين) يعني الاعوجاج الحسي ، وعوج بكسر العين يطلق على الاعوجاجات التي تدرك بالفكر والعقل ، ولكن هذا التفصيل لا ينسجم مع ظاهر طائفة من الآيات القرآنية مثل الآية (107) من سورة طه (فتأمل بدقّة).

٥١

من هو المؤذّن! والمنادي؟

من هو هذا المؤذن الذي يسمعه الجميع؟ وفي الحقيقة له سيطرة وتفوق على جميع الفرقاء والطوائف؟

لا يستفاد من الآية شيء في هذا المجال ، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسّرة والموضّحة لهذه الآية ، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين عليعليه‌السلام .

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني ـ الذي هو من علماء أهل السنّة بسنده عن «محمّد بن الحنفية» عن عليعليه‌السلام أنّه قال : «أنا ذلك المؤذّن».

وهكذا روى بسنده عن «ابن عباس» أنّ لعلّيعليه‌السلام أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس ، منها «المؤذّن» في قول الله تعالى :( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) فهو الذي ينادي بين الفريقين أهل الجنّة وأهل النّار ، ويقول : «ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي»(1) .

ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة ، منها ما رواه الصّدوقرحمه‌الله بسنده عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب بالكوفة منصرفه في نهروان ، وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه ، فقام خطيبا (إلى أن قال) : «وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة ، قال اللهعزوجل ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) أنا ذلك المؤذن ، وقال :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أنا ذلك الأذان»(2) .

ونحن نرى أنّ السبب في انتخاب أمير المؤمنين عليعليه‌السلام مؤذنا ومناديا في ذلك الوقت هو : أوّلا : لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا أيضا ، فهو بعد فتح مكّة كلّف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأولى من سورة البراءة

__________________

(1) مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.

(2) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 17.

٥٢

على مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج ، تلك الآيات التي تبدأ بقوله :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (1) .

ثانيا : إنّ موقف الإمام عليعليه‌السلام طوال حياته الشريفة كان موقف المكافحة للظلم ، والنضال ضد الظالمين ، حتى أنّ دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصّة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تأريخه.

أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟ وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة.

فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق ، لم يبق أي مجال لاستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم ، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنّة والنّار ، بأمر من الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو علىعليه‌السلام .

من هذا يتّضح الجواب والردّ على ما كتبه كاتب «المنار» الذي شكك في كون هذا المقام لعليعليه‌السلام فضيلة ، إذ يقول : ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعدّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرّواية بما دون السند الصحيح(2) .

إذ يجب أن نقول له : كما أنّ النيابة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائلهعليه‌السلام ، وكما أنّ مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله ، يكون حمله لهذه المهمّة في القيامة والذي يعد استمرارا لنفس ذلك البرنامج فضيلة طاهرة له أيضا.

كما يتّضح ممّا قلناه ـ أيضا ـ الردّ على ما كتبه «الآلوسي» كاتب تفسير «روح المعاني» الذي قال : ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنّه علي كرم

__________________

(1) التوبة ، 3.

(2) تفسير المنار ، ج 8 ، ص 426.

٥٣

الله تعالى وجهه ما لم يثبت من طريق أهل السنّة(1) .

لأن هذا الحديث ـ كما أسلفنا ـ نقله علماء الفريقين السنة والشيعة كلاهما في كتبهم ومصنفاتهم ، فلا مجال للتشكيك في صدوره.

* * *

__________________

(1) روح المعاني ، ج 8 ، ص 123.

٥٤

الآيات

( وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) )

التّفسير

الأعراف معبر مهم إلى الجنّة :

عقيب الآيات السابقة التي بيّنت جانبا من قصّة أهل الجنّة وأهل النّار ، تحدث في هذه الآيات حول «الأعراف» التي هي منطقة في الحد الفاصل بين الجنّة والنّار مع خصوصياتها.

٥٥

وفي البداية يشير إلى الحجاب الذي أقيم بين أهل الجنّة وأهل النّار ، إذ يقول :( وَبَيْنَهُما حِجابٌ ) .

ويستفاد من الآيات اللاحقة أنّ الحجاب المذكور هو «الأعراف» وهو مكان مرتفع بين الفريقين يمنع من رؤية كل فريق الفريق الآخر ، ولكن وجود مثل هذا الحجاب لا يمنع من أن يسمع كل منهما صوت الآخر ونداءه ، كما مرّ في الآيات السابقة.

فلطالما رأينا جيرة يتحادثون من وراء الجدار ، ويستجلي أحدهما حال الآخر دون أن يراه ، على أنّ الذين يقفون على الأعراف ، أي على الأقسام المرتفعة من هذا المكان المرتفع ، يرون كلا الفريقين (تأملوا جيدا).

ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم ، مثل الآية (55) من سورة الصافات ، أن أهل الجنّة ربّما تطّلعوا من أماكنهم وشاهدوا أهل النّار ، ولكن مثل هذه الموارد الاستثنائية لا تنافي ما عليه وضع الجنّة والنّار أساسا ، وأنّ ما قلناه آنفا يعكس ويصور الكيفية لهذين المكانين ، وإن كان لهذا القانون ـ أيضا ـ بعض الاستثناءات ، فيمكن أن يشاهد بعض أهل الجنّة أهل النّار في شرائط خاصّة.

إنّ ما يجب أن نذكر به مؤكدين قبل الخوض في بيان كيفية الأعراف هو أن التعابير الواردة حول القيامة والحياة الأخرى لا تستطيع ـ بحال ـ أن تكشف القناع عن جميع خصوصيات تلكم الحياة ، بل للتعابير ـ أحيانا ـ صفة التشبيه والتمثيل.

وأحيانا تكشف بعض تلك التعابير عن مجرّد شبح في هذا المجال ، لأنّ الحياة في ذلك العالم تكون في آفاق أعلى ، وهي أوسع بمراتب كثيرة من الحياة في هذا العالم ، تماما مثل سعة الحياة الدنيا هذه بالقياس إلى عالم الرحم والجنين.

وعلى هذا فلا عجب إذا كانت الألفاظ والمفاهيم المتداولة في هذا العالم لا تستطيع أن تعكس بصورة كاملة ومعبّرة تلك المفاهيم.

٥٦

ثمّ إنّ القرآن الكريم يقول :( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) يرون كلّا من أهل الجنّة وأهل النّار ويعرفونهم بملامح وجوههم.

و «الأعراف» في اللغة جمع «عرف» بمعنى المحل والموضع المرتفع ، ولهذا يطلق على شعر ناصية الفرس ، والريش الموجود على عنق الديك لفظ العرف ، فيقال «عرف الفرس» أو «عرف الديك» ، ومن هذا المنطلق يطلق على المكان المرتفع من البدن لفظ العرف أيضا (وسوف نتحدث بتفصيل حول خصوصيات منطقة الأعراف التي جاء ذكرها في هذه الآية بعد الفراغ من تفسير الآيات).

ثمّ يقول : أنّ هؤلاء الرجال ينادون أهل الجنّة ويسلّمون عليهم ، ولكنّهم لا يدخلون الجنّة وإن كانوا يرغبون في ذلك( وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) .

ولكن عند ما ينظرون إلى الطرف الآخر ويشاهدون أهل النّار يصطلون فيها ، يتضرعون إلى الله طالبين أن لا يجعلهم مع الظالمين( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (1) .

والجدير بالذكر أنّه استخدم في رؤية أهل النّار في الآية لفظة( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ ) يعني عند ما تعطف أبصارهم نحو جهنم لمشاهدة أهلها ، وهذه أشارة إلى أنّهم يكرهون مشاهدة أهل النّار ، وكأنّ نظرهم إليهم مقرون بالإكراه والإجبار.

وفي الآية اللاحقة يضيف : إنّ أصحاب الأعراف ينادون فريقا من الجهنميين الذين يعرفونهم بملامح وجوههم ويلومونهم قائلين : أمّا ترون أنّ جمعكم للأموال والأفراد والتجبّر والتكبّر عن قبول الحق لم ينفعكم شيئا ، فأين تلك الأموال وأولئك الأعوان؟ وماذا حصدتم من تلك المواقف والصفات السيّئة؟!

__________________

(1) «تلقاء» في الأصل ـ حسب قول بعض المفسّرين وأهل الأدب ـ مصدر ، وهو بمعنى المقابلة ، ولكن استعمل فيما بعد في معنى ظرف المكان ، أي في المكان المقابل والمحاذي.

٥٧

( وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) .

ومرّة أخرى يقولون موبخين ومعاتبين ، وهم يشيرون إلى جمع من ضعفاء المؤمنين المستقرين فوق الأعراف :( أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ) .

وفي المآل تشمل الرحمة الإلهية هذه الطائفة من ضعفاء المؤمنين ، ويقال لهم( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) .

من كل ما قلنا اتضح أنّ المراد من ضعفاء المؤمنين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولكنّهم بسبب تورطهم في بعض الذنوب كانوا موضع ازدراء من قبل أعداء الحق في الدنيا ، وكانوا يركزون على هؤلاء ويقولون : كيف يمكن لمثل هؤلاء أن تشملهم الرحمة الإلهية؟ وكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يسعدوا؟ ولكن روح الإيمان والحسنات التي كانت عندهم فعلت فعلتها ـ في المآل ـ وفي ظلّ اللطف الرّباني والرحمة الإلهية ، فسعدوا ودخلوا الجنّة.

من هم أصحاب الأعراب :

«الأعراف» في الأصل ـ وكما أسلفنا ـ منطقة مرتفعة ، ويتّضح في ضوء القرائن التي وردت في آيات القرآن وأحاديث أئمّة الإسلام ، أنّه مكان خاص بين قطبي السعادة والشقاء ، أي الجنّة والنّار. وهو كحجاب حائل بين هذين ، أو كأرض مرتفعة فصلت بين هذين الموضعين بحيث يشرف من يقف عليها على الجنّة والنّار ، ويشاهد كلا الفريقين ، ويعرفهم بوجوههم المبيضة أو المسودة ، المشرقة أو المظلمة المكفهرة.

والآن لنرى من هم الواقفون على الأعراف؟ ومن هم أصحاب الأعراف؟

إنّ دراسة الآيات الأربع المبحوثة هنا تفيد أنّه ذكر لهؤلاء الأشخاص نوعين متناقضين مختلفين من الصفات.

٥٨

ففي الآية الأولى والثّانية وصف الواقفون على الأعراف بأنّهم يتمنون أن يدخلوا الجنّة ، ولكنّ ثمّة موانع تحول دون ذلك ، وعند ما ينظرون إلى أهل الجنّة يحيونهم ويسلمون عليهم ويودون لو يكونون معهم ، ولكنّهم لا يستطيعون فعلا أن يكونوا معهم ، وعند ما ينظرون إلى أهل النّار يستوحشون ممّا آلوا إليه من المصير ، ويتعوذون بأنّه من ذلك المصير ، ومن أن يكونوا منهم.

ولكن يستفاد من الآية الثّالثة والرّابعة بأنّهم أفراد ذوو نفوذ وقدرة ، يوبخون أهل النّار ويعاتبونهم ، ويساعدون الضعفاء في الأعراف على العبور إلى منزل السعادة.

وقد قسمت الرّوايات الواردة في هذا المجال أهل الأعراف الى هذين الفريقين المختلفين أيضا.

ففي بعض الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام نقرأ : «نحن الأعراف»(1) أو عبارة : «آل محمّد هم الأعراف»(2) وما شابه هذه التعابير.

ونقرأ في طائفة أخرى عبارة : «هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى»(3) أو «هم الشهداء على الناس والنّبيون شهداؤهم»(4) وروايات أخرى تحكي أنّهم الأنبياء والأئمّة والصلحاء والأولياء.

ولكن طائفة أخرى مثلما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام تقول : «هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فإن أدخلهم النّار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته»(5) .

وثمّة روايات متعددة أخرى في تفاسير أهل السنة قد رويت عن «حذيفة» و

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد الثاني ، الصفحة 17 و 18 و 19.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 33 و 34.

(5) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 17.

٥٩

«عبد الله بن عباس» و «سعيد بن جبير» وأمثالهم بهذا المضمون(1) .

ونرى في هذه التفاسير أيضا مصادر تفيد أنّ أهل الأعراف هم الصلحاء والفقهاء والعلماء أو الملائكة.

وبالرغم من أنّ ظاهر الآيات وظاهر هذه الرّوايات تبدو متناقضة في بدون النظر ، ولعله لهذا السبب أبدى المفسّرون في هذا المجال آراء مختلفة ، ولكن مع التدقيق والإمعان يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ومنافاة ، لا بين الآيات ولا بين الأحاديث ، بل جميعها تشير إلى حقيقة واحدة.

وتوضيح ذلك : أنّه يستفاد من مجموع الآيات والرّوايات ـ كما أسلفنا ـ الأعراف معبر صعب العبور على طريق الجنّة والسعادة الأبدية.

ومن الطبيعي أنّ الأقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة ، أمّا الضعفاء الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فيعجزون عن العبور.

كما أنّه من الطبيعي أيضا أن تقف قيادات المجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين يمشون في مثل هذه الحالات في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع. يقفون هناك ليساعدوا ضعفاء الإيمان ، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم.

وعلى هذا الأساس ، فأصحاب الأعراف فريقان : ضعفاء الإيمان والمتورطون في الذنوب الذين هم بحاجة إلى الرحمة ، والأئمّة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع الأحوال.

وعلى هذا فإن الطائفة الأولى من الآيات والأحاديث تشير إلى الفريق الأوّل من الواقفين على الأعراف ، وهم الضعفاء ، والطائفة الثّانية منها تشير إلى الفريق

__________________

(1) تفسير الطبري ، المجلد 7 ، الصفحة 137 و 138 عند تفسير الآية.

٦٠

الإشتراكيّة والشيُوعيّة

في الاشتراكية مذاهب متعددة، وأشهرها المذهب الاشتراكي القائم على النظرية الماركسية والمادية الجدلية، التي هي عبارة عن: فلسفة خاصة للحياة وفهم مادي لها على طريقة ديالكتيكية. وقد طبق الماديون الديالكتيكيون هذه المادية الديالكتيكية على التاريخ والاجتماع والاقتصاد، فصارت عقيدة فلسفية في شأن العالم، وطريقة لدرس التاريخ والاجتماع، ومذهباً في الاقتصاد وخطة في السياسة. وبعبارة أخرى: انها تصوغ الإنسان كله في قالب خاص، من حيث لون تفكيره ووجهة نظره الى الحياة وطريقته العلمية فيها. ولاريب في أن الفلسفة المادية، وكذلك الطريقة الديالكتيكية.. ليستا من بدع المذهب الماركسي وابتكاراته، فقد كانت النزعة المادية تعيش منذ آلاف السنين في الميدان الفلسفي، سافرة تارة ومتوارية اخرى وراء السفسطة والانكار المطلق، كما ان الطريقة الديالكتيكية في التفكير عميقة الجذور ببعض خطوطها في التفكير الإنساني، وقد استكملت كل خطوطها على يد (هيجل) الفيلسوف المثالي المعروف. وانما جاء (كارل ماركس) الى هذا

٦١

المنطق وتلك الفلسفة فتبناها، وحاول تطبيقها على جميع ميادين الحياة فقام بتحقيقين:

أحدهما: أن فسر التاريخ تفسيراً مادياً خالصاً بطريقة ديالكتيكية.

والآخر: زعم فيه انه اكتشف تناقضات رأس المال والقيمة الفائضة، التي يسرقها صاحب المال في عقيدته من العامل(١) .

وأشاد على أساس هذين التحقيقين ايمانه بضرورة فناء المجتمع الرأسمالي، واقامة المجتمع الشيوعي والمجتمع الاشتراكي، الذي اعتبره خطوة للإنسانية الى تطبيق الشيوعية تطبيقاً كاملاً.

فالميدان الاجتماعي في هذه الفلسفة ميدان صراع بين المتناقضات، وكل وضع اجتماعي يسود ذلك الميدان فهو ظاهرة مادية خالصة، منسجمة مع سائر الظواهر والاحوال المادية ومتأثرة بها، غير انه في نفس الوقت يحمل نقيضه في صميمه، وينشب حينئذ الصراع بين النقائض في محتواه، حق تتجمع المتناقضات وتحدث تبدلاً في ذلك الوضع وانشاءاً لوضع جديد.. وهكذا يبقى العراك قائماً حتى تكون الإنسانية كلها طبقة واحدة، وتتمثل مصالح كل فرد في مصالح تلك الطبقة الموحدة.. في تلك اللحظة يسود الوئام، ويتحقق السلام

____________________

(١) شرحنا هذه النظريات مع دراسة علمية مفصلة في كتاب (اقتصادنا).

٦٢

وتزول نهائياً جميع الآثار السيئة للنظام الديمقراطي الرأسمالي لأنها انما كانت تتولد من تعدد الطبقة في المجتمع، وهذا التعدد انما نشأ من انقسام المجتمع الى منتج وأجير. واذاً فلابد من وضع حد فاصل لهذا الانقسام، وذلك بالغاء الملكية، وتختلف هنا الشيوعية عن الاشتراكية في الخطوط الاقتصادية الرئيسية وذلك لان الاقتصاد الشيوعي يرتكز:

أولاً: على الغاء الملكية الخاصة ومحوها محوا تاماً من المجتمع وتمليك الثروة كلها للمجموع وتسليمها الى الدولة، باعتبارها الوكيل الشرعي عن المجتمع في ادارتها واستثمارها لخير المجموع. واعتقاد المذهب الشيوعي بضرورة هذا التأميم المطلق، انما كان رد الفعل الطبيعي لمضاعفات الملكية الخاصة في النظام الديمقراطي الرأسمالي. وقد برر هذا التأميم: بأن المقصود منه الغاء الطبقة الرأسمالية وتوحيد الشعب في طبقة واحدة ليختم بذلك الصراع ويسد على الفرد الطريق الى استغلال شتى الوسائل والاساليب لتضخيم ثروته، اشباعاً لجشعه واندفاعاً بدافع الاثرة وراء المصلحة الشخصية.

ثانيا: على توزيع السلع المنتجة على حسب الحاجات الاستهلاكية للافراد، ويتلخص في النص الآتي: «من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته». وذلك ان كل فرد له حاجات طبيعية لا يمكنه الحياة بدون توفيرها، فهو يدفع

٦٣

للمجتمع كل جهده فيدفع له المجتمع متطلبات حياته ويقوم بمعيشته

ثالثاً: على مناج اقتصادي ترسمه الدولة، وتوفق فيه بين حاجة المجموع والانتاج في كميته وتنويعه وتحديده، لئلا يمنى المجتمع بنفس الادواء والازمات التي حصلت في المجتمع الرأسمالي حينما اطلق الحريات بغير تحديد.

الانحراف عن العملية الشيوعية

ولكن أقطاب الشيوعية الذين نادوا بهذا النظام، لم يستطيعوا ان يطبقوه بخطوطه كلها حين قبضوا على مقاليد الحكم، واعتقدوا انه لابد لتطبيقه من تطوير الإنسانية في أفكارها ودوافعها ونزعاتها، زاعمين: ان الإنسان سوف يجيء عليه اليوم الذي تموت في نفسه الدوافع الشخصية والعقلية والفردية، وتحيى فيه العقلية الجماعية والنوازع الجماعية، فلا يفكر إلاّ في المصلحة الاجتماعية ولا يندفع إلاّ في سبيلها.

ولأجل ذلك كان من الضروري - في عرف هذا المذهب الاجتماعي - إقامة نظام اشتراكي قبل ذلك، ليتخلص فيه الإنسان من طبيعته الحاضرة، ويكتسب الطبيعة المستعدة للنظام الشيوعي. وهذا النظام الاشتراكي أجريت فيه تعديلات مهمة على الجانب الاقتصادي من الشيوعية. فالخط الأول من

٦٤

خطوط الاقتصاد الشيوعي، وهو الغاء الملكية الفردية، قد بدل الى حل وسط وهو: تأميم الصناعات الثقيلة والتجارة الخارجية والتجارات الداخلية، ووضعها جميعاً تحت الانحصار الحكومي وبكلمة أخرى الغاء رأس المال الكبير مع اطلاق الصناعات والتجارات البسيطة وتركها للافراد، وذلك لأن الخط العريض في الاقتصاد الشيوعي اصطدم بواقع الطبيعة الإنسانية الذي أشرنا اليه، حيث أخذ الأفراد يتقاعسون عن القيام بوظائفهم والنشاط في عملهم، ويتهربون من واجباتهم الاجتماعية، لأن المفروض تأمين النظام لمعيشتهم وسد حاجاتهم كما ان المفروض فيه عدم تحقيق العمل والجهد مهما كان شديداً لأكثر من ذلك؟ فعلام إذن يجهد الفرد ويكدح ويجد، ما دامت النتيجة في حسابه، هي النتيجة في حالي الخمول والنشاط؟! ولماذا يندفع الى توفير السعادة لغيره، وشراء راحة الآخرين بعرقه ودموعه وعصارة حياته وطاقاته، ما دام لا يؤمن بقيمة من قيم الحياة إلاّ القيمة المادية الخالصة؟؟!، فاضطر زعماء هذا المذهب الى تجميد التأميم المطلق. كما اضطروا أيضاً إلى تعديل الخط الثاني من خطوط الاقتصاد الشيوعي أيضاً: وذلك بجعل فوارق بين الأجور، لدفع العمال الى النشاط والتكامل في العمل، معتذرين بأنها فوارق موقتة سوف تزول حينما يقضي على العقلية الرأسمالية، وينشأ الإنسان إنشاءا جديداً. وهم

٦٥

لأجل ذلك يجرون التغييرات المستمرة على طرائقهم الاقتصادية وأساليبهم الاشتراكية، لتدارك فشل كل طريقة بطريقة جديدة. ولم يوفقوا حتى الآن للتخلص من جميع الركائز الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي. فلم تلغ مثلاً القروض الربوية نهائياً، مع انها في الواقع أساس الفساد الاجتماعي في الاقتصاد الرأسمالي.

ولا يعني هذا كله. ان أولئك الزعماء مقصرون، أو أنهم غير جادين في مذهبهم وغير مخلصين لعقيدتهم.. وانما يعني انهم اصطدموا بالواقع حين أرادوا التطبيق، فوجدوا الطريق مليئاً بالمعاكسات والمناقضات، التي تضعها الطبيعة الإنسانية أمام الطريقة الانقلابية للاصلاح الاجتماعي الذي كانوا يبشرون به ففرض عليهم الواقع التراجع آملين أن تتحقق المعجزة في وقت قريب أو بعيد.

واما من الناحية السياسية: فالشيوعية تستهدف في نهاية شوطها الطويل الى محو الدولة من المجتمع، حين تتحقق المعجزة وتعم العقلية الجماعية كل البشر، فلا يفكر الجميع إلاّ في المصلحة المادية للمجموع وأما قبل ذلك مادامت المعجزة غير محققة، وما دام البشر غير موحدين في طبقة، والمجتمع ينقسم الى قوى رأسمالية وعمالية.. فاللازم أن يكون الحكم عمالياً خالصاً، فهو حكم ديمقراطي في حدود دائرة العمال، ودكتاتوري بالنسبة الى العموم. وقد عللوا ذلك: بأن الدكتاتورية العمالية في الحكم

٦٦

ضرورية في كل المراحل، التي تطويها الإنسانية بالعقلية الفردية وذلك حماية لمصالح الطبقة العاملة، وخنقاً لأنفاس الرأسمالية ومنعاً لها عن البروز الى الميدان من جديد.

والواقع ان هذا المذهب، الذي يتمثل في الاشتراكية الماركسية ثمّ في الشيوعية الماركسية. يمتاز عن النظام الديمقراطي الرأسمالي: بأنه يرتكز على فلسفة مادية معينة، تنبنى فهماً خاصاً للحياة، لا يعترف لها بجميع المثل والقيم المعنوية ويعللها تعليلاً لا موضع فيه لخالق فوق حدود الطبيعة، ولا لجزاء مرتقب وراء حدود الحياة المادية المحدودة وهذا على عكس الديمقراطية الرأسمالية، فانها وان كانت نظاماً مادياً، ولكنها لم تبن على أساس فلسفي محدد فالربط الصحيح بين المسألة الواقعية للحياة والمسألة الاجتماعية، آمنت به الشيوعية المادية، ولم تؤمن به الديمقراطية الرأسمالية، أو لم تحاول ايضاحه.

وبهذا كان المذهب الشيوعي حقيقاً بالدرس الفلسفي، وامتحانه عن طريق اختبار الفلسفة التي ركز عليها وانبثق عنها، فان الحكم على كل نظام يتوقف على مدى نجاح مفاهيمه الفلسفية في تصوير الحياة وادراكها.

ومن السهل ان ندرك في أول نظرة نلقيها على النظام الشيوعي المخفف او الكامل: ان طابعه العام هو افناء الفرد في المجتمع وجعله آلة مسخرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها. فهو

٦٧

على النقيض تماماً من النظام الرأسمالي الحر الذي يجعل المجتمع للفرد ويسخره لمصالحه. فكأنه قد قدّر للشخصية الفردية والشخصية الاجتماعية - في عرف هذين النظامين - ان تتصادما وتتصارعا، فكانت الشخصية الفردية هي الفائزة في أحد النظامين، الذي أقام تشريعه على اساس الفرد ومنافعه الذاتية، فمني المجتمع بالمآسي الاقتصادية التي تزعزع كيانه وتشوه الحياة في جميع شعبها. وكانت الشخصية الاجتماعية هي الفائزة في النظام الآخر، الذي جاء يتدارك أخطاء النظام السابق، فساند المجتمع وحكم على الشخصية الفردية بالاضمحلال والفناء، فأصيب الافراد بمحن قاسية قضت على حريتهم ووجودهم الخاص، وحقوقهم الطبيعية في الاختيار والتفكير.

المؤاخذات على الشيوعية

والواقع ان النظام الشيوعي وان عالج جملة من أدواء الرأسمالية الحرة، بمحوه للملكية الفردية؛ غير أن هذا العلاج له مضاعفات طبيعية تجعل ثمن العلاج باهظاً، وطريقة تنفيذه شاقة على النفس لا يمكن سلوكها إلاّ إذا فشلت سائر الطرق والاساليب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو علاج ناقص لا يضمن القضاء على الفساد الاجتماعي كله، لانه لم يحالفه الصواب في تشخيص الداء، وتعيين النقطة التي انطلق منها

٦٨

الشر حتى اكتسح العالم في ظل الانظمة الرأسمالية، فبقيت تلك النقطة محافظة على موضعها من الحياة الأجتماعية في المذهب الشيوعي. وبهذا لم تظفر الإنسانية بالحل الحاسم لمشكلتها الكبرى، ولم تحصل على الدواء الذي يطبب أدواءها ويستأصل أعراضها الخبيثة.

أما مضاعفات هذا العلاج فهي جسيمة جداً: فإن من شأنه القضاء على حريات الافراد، لاقامة الملكية الشيوعية مقام الملكيات الخاصة. وذلك لان هذا التحويل الاجتماعي الهائل على خلاف الطبيعة الإنسانية العامة، الى حد الآن على الاقل كما يعترف بذلك زعماؤه - باعتبار ان الإنسان المادي لا يزال يفكر تفكيراً ذاتياً، ويحسب مصالحه من منظاره الفردي المحدود. ووضع تصميم جديد للمجتمع يذوب فيه الافراد نهائياً، ويقضي على الدوافع الذاتية قضاء تاماً.. موضع التنفيذ، يتطلب قوة حازمة تمسك زمام المجتمع بيد حديدية، وتحبس كل صوت يعلو فيه، وتخنق كل نفس يتردد في أوساطه، وتحتكر جميع وسائل الدعاية والنشر، وتضرب على الامة نطاقاً لا يجوز أن تتعداه بحال وتعاقب على التهمة والظنة، لئلا يفلت الزمام من يدها فجأة.

وهذا أمر طبيعي في كل نظام يراد فرضه على الامة، قبل أن تنضج فيها عقلية ذلك النظام وتعم روحيته.

نعم لو أخذ الإنسان المادي يفكر تفكيراً اجتماعياً، ويعقل

٦٩

مصالحه بعقلية جماعية، وذابت من نفسه جميع العواطف الخاصة والاهواء الذاتية والانبعاثات النفسية.. لأمكن أن يقوم نظام يذوب فيه الافراد، ولا يبقى في الميدان إلاّ العملاق الاجتماعي الكبير. ولكن تحقيق ذلك في الإنسان المادي، الذي لا يؤمن إلاّ بحياة محدودة ولا يعرف معنى لها إلاّ اللذة المادية يحتاج الى معجزة تخلق الجنة في الدنيا، وتنزل بها من السماء إلى الأرض. والشيوعيون يعدوننا بهذه الجنة، وينتظرون ذلك اليوم الذي يقضي فيه المعمل على طبيعة الإنسان، ويخلقه من جديد انساناً مثالياً في أفكاره وأعماله، وإن لم يكن يؤمن بذرة من القيم المثالية والاخلاقية. ولو تحققت هذه المعجزة فلنا معهم حينئذ كلام. وأما الآن، فوضع التصميم الاجتماعي الذي يرومونه يستدعي حبس الأفراد في حدود فكرة هذا التصميم، وتأمين تنفيذه بقيام الفئة المؤمنة به على حمايته، والاحتياط له بكبت الطبيعة الإنسانية والعواطف النفسية، ومنعها عن الانطلاق بكل أسلوب من الأساليب. والفرد في ظل هذا النظام وان كسب تأميناً كاملاً، وضماناً اجتماعياً لحياته وحاجاته، لأن الثروة الجماعية تمده بكل ذلك في وقت الحاجة.. ولكن أليس من الأحسن بحال هذا الفرد أن يظفر بهذا التأمين دون أن يخسر استنشاق نسيم الحرية المهذبة، ويضطر إلى إذابة شخصه في النار، وإغراق نفسه في البحر الاجتماعي المتلاطم؟!.

٧٠

وكيف يمكن أن يطمع بالحرية - في ميدان من الميادين - انسان حرم من الحرية في معيشته. وربطت حياته الغذائية ربطاً كاملاً بهيئة معينة، مع أن الحرية الاقتصادية والمعيشية هي أساس الحريات جميعاً.

ويعتذرعن ذلك المعتذرون فيتساءلون. ماذا يصنع الإنسان بالحرية والاستمتاع بحق النقد والاعلان عن آرائه، وهو يرزح تحت عبء اجتماعي فظيع؟!. وماذا يجديه أن يناقش ويعترض وهو أحوج إلى التغذية الصحيحة والحياة المكفولة منه الى الاحتجاج والضجيج الذي تنتجه له الحرية؟!.

وهؤلاء المتسائلون لم يكونوا ينظرون إلاّ إلى الديمقراطية الرأسمالية، كأنها القضية الإجتماعية الوحيدة التي تنافس قضيتهم في الميدان، فانتقصوا من قيمة الكرامة الفردية وحقوقها، لأنهم رأوا فيها خطراً على التيار الإجتماعي العام.. ولكن من حق الإنسانية أن لا تضحي بشيء من مقوماتها وحقوقها، ما دامت غير مضطرة إلى ذلك، وأنها إنما تقف موقف التخيير: بين كرامة هي من الحق المعنوي للإنسانية، وبين حاجة هي من الحق المادي لها، إذا أعوزها النظام الذي يجمع بين الناحيتين ويوفق الى حل المشكلتين.

ان إنساناً يعتصر الآخرون طاقاته، ولا يطمئن إلى حياة طيبة وأجر عادل وتأمين في أوقات الحاجة.. لهو إنسان قد

٧١

حرم من التمتع بالحياة، وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرة كما أن إنساناً يعيش مهدداً في كل لحظة، محاسباً على كل حركة معرضاً للاعتقال بدون محاكمة، وللسجن والنفي والقتل لادنى بادرة.. لهو إنسان مروع مرعوب، يسلبه الخوف حلاوة العيش، وينغص الرعب عليه ملاذ الحياة.

والإنسان الثالث: المطمئن إلى معيشته، الواثق بكرامته وسلامته، هو حلم الإنسانية العذب، فكيف يتحقق هذا الحلم؟ ومتى يصبح حقيقة واقعة؟.

وقد قلنا: أن العلاج الشيوعي للمشكلة الإجتماعية ناقص مضافا إلى ما أشرنا اليه من مضاعفات. فهو: وان كان تتمثل فيه عواطف ومشاعر إنسانية، آثارها الطغيان الإجتماعي العام فأهاب بجملة من المفكرين إلى الحل الجديد، غير أنهم لم يضعوا أيديهم على سبب الفساد ليقضوا عليه، وإنما قضوا على شيء آخر فلم يوفقوا في العلاج ولم ينجحوا في التطبيب.

ان مبدأ الملكية الخاصة ليس هو الذي نشأت عنه آثام الرأسمالية المطلقة، التي زعزعت سعادة العالم وهناءه، فلا هو الذي يفرض تعطيل الملايين من العمال في سبيل استثمار آلة جديدة تقضي على صناعاتهم، كما حدث في فجر الانقلاب الصناعي ولا هو الذي يفرض التحكم في أجور الاجير وجهوده بلا حساب ولا هو الذي يفرض على الرأسمالي أن يتلف كميات كبيرة من

٧٢

منتوجاته، تحفظاً على ثمن السلعة وتفضيلاً للتبذير على توفير حاجات الفقراء بها، ولا هو الذي يدعوه الى جعل ثروته رأس مال كاسب يضاعفه بالربا، وامتصاص جهود المدينين بلا انتاج ولا عمل، ولا هو الذي يدفعه الى شراء جميع البضائع الاستهلاكية من الاسواق ليحتكرها ويرفع بذلك من أثمانها، ولا هو الذي يفرض عليه فتح اسواق جديدة، وإن انتهكت بذلك حريات الأمم وحقوقها وضاعفت كرامتها وحريتها...

كل هذه المآسي المروعة لم تنشأ من الملكية الخاصة، وانما هي وليدة المصلحة المادية الشخصية التي جعلت مقياساً للحياة في النظام الرأسمالي، والمبرر المطلق لجميع التصرفات والمعاملات. فالمجتمع حين تقام اسسه على هذا المقياس الفردي والمبرر الذاتي لا يمكن أن ينتظر منه غير ما وقع. فان من طبيعة هذا المقياس تنبثق تلك اللعنات والويلات على الإنسانية كلها، لا من مبدأ الملكية الخاصة، فلو ابدل المقياس ووضعت للحياة غاية جديدة مهذبة، تنسجم مع طبيعة الإنسان.. لتحقق بذلك العلاج الحقيقي للمشكلة الإنسانية الكبرى.

٧٣

٧٤

٧٥

٧٦

الإسلام والمشكلة الاجتماعية

التعليل الصحيح للمشكلة:

ولأجل أن نصل إلى الحلقة الأولى في تعليل المشكلة الاجتماعية علينا أن نتساءل: عن تلك المصلحة المادية الخاصة التي أقامها النظام الرأسمالي، مقياساً ومبرراً وهدفاً وغاية نتساءل: ما هي الفكرة التي صححت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به؟. فإن تلك الفكرة هي الأساس الحقيقي للبلاء الاجتماعي، وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الإنسان وتوفير كرامته، وإذا استطعنا أن نقضي على تلك الفكرة، فقد وضعنا حداً فاصلاً لكل المؤامرات على الرفاه الاجتماعي، والالتواءات على حقوق المجتمع وحريته الصحيحة، ووفقنا الى استثمار الملكية الخاصة لخير الإنسانية ورقيها، وتقدمها في المجالات الصناعية وميادين الانتاج.

فما هي تلك الفكرة؟.

ان تلك الفكرة تتلخص في التفسير المادي المحدود للحياة الذي أشاد عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبار. فإن

٧٧

كل فرد في المجتمع إذا آمن بأن ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو حياته المادية الخاصة، وآمن أيضاً بحريته في التصرف بهذه الحياة واستثمارها، وانه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلاّ اللذة التي توفرها له المادة.. وأضاف هذه العقائد المادية إلى حب الذات، الذي هو من صميم طبيعته، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليون وينفذ اساليبهم كاملة ما لم تحرمه قوة قاهرة من حريته وتسد عليه السبيل.

وحب الذات هو: الغريزة التي لا نعرف غريزة أعم منها وأقدم، فكل الغرائز فروع هذه الغريزة وشعبها، بما فيها غريزة المعيشة. فان حب الإنسان ذاته - الذي يعني حبه للذة والسعاة لنفسه، وبغضه للالم والشقاء لذاته - هو الذي يدفع الإنسان الى كسب معيشته، وتوفير حاجياته الغذائية والمادية. ولذا قد يضع حداً لحياته بالانتحار، اذا وجد أن تحمل ألم الموت اسهل عليه من تحمل الآلام التي تزخر بها حياته.

فالواقع الطبيعي الحقيقي اذن، الذي يكمن وراء الحياة الإنسانية كلها ويوجهها بأصابعه هو: حب الذات، الذي نعبر عنه بحب اللذة وبغض الالم. ولا يمكن تكليف الإنسان أن يتحمل مختاراً مرارة الالم دون شيء من اللذة، في سبيل أن يلتذ الآخرون ويتنعموا، إلاّ اذا سلبت منه انسانيته، وأعطي طبيعة جديدة لا تتعشق اللذة ولا تكره الالم.

٧٨

وحتى الالوان الرائعة من الايثار، التي نشاهدها في الإنسان ونسمع بها عن تاريخه.. تخضع في الحقيقة ايضاً لتلك القوة المحركة الرئيسية: (غريزة حب الذات). فالإنسان قد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحي في سبيل بعض المثل والقيم.. ولكنه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحس فيها بلذة خاصة، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن ايثاره لولده وصديقه، او تضحيته في سبيل مثل من المثل التي يؤمن بها.

وهكذا يمكننا أن نفسر سلوك الإنسان بصورة عامة، في مجالات الانانية والايثار على حد سواء. ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة: مادية كالالتذاذ بالطعام والشراب والوان المتعة الجنسية وما اليها من اللذائذ المادية. أو معنوية كالالتذاذ الخلقي والعاطفي، بقيم خلقية أو أليف روحي او عقيدة معينة، حين يجد الإنسان ان تلك القيم او ذلك الاليف أو هذه العقيدة جزء من كيانه الخاص. وهذه الاستعدادات التي تهيئ الإنسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوعة، تختلف في درجاتها عند الاشخاص، وتتفاوت في مدى فعليتها.. باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعة والتربية التي تؤثر فيه. فبينما نجد ان بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الإنسان بصورة طبيعية، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلاً، نجد ان ألواناً

٧٩

اخرى منها قد لا تظهر في حياة الإنسان، وتظل تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتحها. وغريزة حب الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعاً تحدد سلوك الإنسان وفقاً لمدى نضج تلك الاستعدادات. فهي تدفع انساناً الى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع انساناً آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه. لأن استعداد الإنسان الأول للالتذاذ بالقيم الخلقية والعاطفية الذي يدفعه الى الايثار كان كامناً، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته. بينما ظفر الآخر بهذا اللون من التربية، فأصبح يلتذ بالقيم الخلقية والعاطفية، ويضحي بسائر لذاته في سبيلها.

فمتى أردنا ان نغير من سلوك الإنسان شيئاً، يجب ان نغير من مفهوم اللذة والمنفعة عنده، وندخل السلوك المقترح ضمن الإطار العام لغريزة حب الذات.

فاذا كانت غريزة حب الذات بهذه المكانة من دنيا الإنسان وكانت الذات في نظر الإنسان عبارة: عن طاقه مادية محدودة وكانت اللذة عبارة: عما تهيئه المادة من متع ومسرات.. فمن الطبيعي أن يشعر الإنسان بأن مجال كسبه محدود، وان شوطه قصير وان غايته في هذا الشوط أن يحصل على مقدار من اللذة المادية. وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادية وهو المال، الذي يفتح امام الإنسان السبيل الى تحقيق كل

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200