هوية التشيع

هوية التشيع25%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39604 / تحميل: 7812
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هُويَّةُ التَشَيُّع

الدكتور أحمد الوائلي

الطبعة الجديدة مُنَقّحَة ومَزيدة

مؤسَسَة دارِ الكتاب الإسلامي

١

٢

مُقدّمة الطَبعَة الثانية ‌

بِسمِ الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الأطهار، وصحبه الأبرار، ومَن تبعهم بإحسان وبعد:

لقد كان لهذا الكُتيِّب على وجازته، صدى استحسان في نفوس القُرّاء، وذلك للمنهج الذي اختطّه هذا الكتاب أكثر مِنه للكتاب نفسه، لوضوح أنّ مضمون الكتاب ليس مِن الضخامة بحيث يُشكّل رقماً فريداً، بل هو بضعة وُريقات ربما أُحسن فيها التعبير، وحُسن الاختيار، والالتفات لمواطن ذات وقع خاصٍّ بالنفوس، ذلك مضافاً للمنهج، وكان مِن المؤشّرات على إقبال القرّاء عليه نفاذ نُسَخ الطبعة سريعاً، مع أنّنا لم ننوّه عَنه في صحيفة أو دعاية، بل طُرِحَ في السوق بصورة عاديّة.

إنّ هذه الظاهرة تشجّعنا على الكتابة في أمثال هذا الموضوع، مِمّا هو مَحلّ أخذ وردّ بين فِرَق المُسلِمينَ، لا لزيادة الركام بل لصهره حتّى يذوب، على أن يكون مِن وراء الكتابة في هذه المواضيع روح مؤمن يَنشد وجه الله تعالى، ويتوخّى إزالة الضباب عن طريق المعالِم المُشتركة بين المُسلِمينَ، في مُختلف أبعاد الحضارة الإسلاميّة، مِمّا هو في حُكمٍ شرعيٍّ، أو عقيدة إسلاميّة، أو تاريخ مُسَلَّم، ولعلَّ مِن نافلة القول أن نُنوّه بأنّ ثمرات الأقلام النظيفة، مِن الوسائل الناجعة لخدمة المُسلِمينَ، ومِن الطُرق الصحيحة لتِفاهُم المُسلِمينَ.

هذا بالإضافة إلى أنّ ذلك يقطع الطريق على الأقلام المأجورة، التي ترتزق

٣

بإشعال النار وبثِّ الألغام في المجتمع المُسلِم، مِمّا نراه عند كثير مِن المأجورين بين آونة وأُخرى، حيث يزيد ذلك مِن قناعتنا بأنّ وراء ذلك أصابع تقليديّة ما برحت تُمارس لُعبتها الخبيثة كلّما سنحت لها الفرص.

وأُكرّر ما سبق أن أشرت إليه في الطبعة الأولى، عن وجود شيء مِن التشنُّج في التعبير، مِمّا قد يُعتبر كاشفاً عن ضغنٍ، أو حقدٍ - معاذ الله - في حين لا يعدو أن يكون غًضبة إيمانيّة مِن روح حسّاس، إزاء كلّ ما يمسُّ وحدة المُسلِمينَ، وقد يُبَرِّره تصوّر بفاعليّة هذا الأسلوب مِن غيره.

ولمّا كان الكمال لله وحده، والإِنسان محلُّ النقص، كانت محاولة الازدياد في التكامُل مِن الأُمور المحبوبة. ومِن هذا المنطق قُمتُ بشيء مِن التهذيب والإضافات التي أراها مُتَمِّمة لمواضيع الكتاب. وأمَلي بالقارئ الكريم أن يرى في الكتاب صورة مِن صور النقد الموضوعي البنّاء. وصرخةً في وجه بعض هواة الشتائِم، الّذين ينبزون غيرهم بأمرٍ هو عندهم، قبل كونه عند خصومهم، ولكنّ الهَوى يُعمي ويصمّ.

وما أروع ما قيل مِن أنّ شخصاً قيل له: لماذا تبدّلون حَرفُ الذال بالزاي، والقاف بالغين في نُطقكم؟. فقال: كلاّ (نحن لا نغول زلك).

وفي نهاية هذه السطور أدعو القارئ الكريم أن يوجّهني بالتنبيه على ما في الكتاب مِن عيب، أو شطحات، فالمؤمن مرآة المؤمن.

هدانا الله لِما يحبُّ ويرضى والحمد لله أوّلاً وآخِراً.

المؤلّف

٤

مُقدّمةُ الطَبعَةِ الأُولى ‌

بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيم

والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، وصحبه المُنتَجَبين وبعد:

هناك أُمورٌ لا غنىً لقارئ هذا الكتاب عن الإلمام بها، قبل الدّخول في صُلب الموضوع؛ لأنّها تتضمّن الإجابة لِما قد يَعنّ للقارئ مِن سؤال خلال قراءته للكتاب، كما أنّها ستجعل القارئ يفهم الكتاب في حدود عناوينه؛ لئلاّ يكبر العنوان على المعنون أو العكس. وتتلخّص هذه الأُمور في الآتي:

١ - قد يتبادر إلى ذهن القارئ مِن عنوان الكتاب - هُويّة التَشَيُّع - أنّ الكتاب سيبحث كلّ ما للتشيُّع مِن سِمات وخَواصٍّ، سواء كانت مِن المقوّمات، أو مِن السِمات التي أُضيفت إليه.

ولكي أُبعِد القارئ عن هذا التصوّر، أُلفِتُ نظره إلى أنّي لم أستوعبْ كلّ ما للتشيُّع مِن نُعوت وصفات، إنّما تعرَّضتُ هُنا لأُمور تكفي لإيضاح هُويّة التَشَيُّع، وفي الوقت ذاته يدور حولها نزاع بين مُختلف الفِرَق الإسلاميّة مِن جانب، وبين الإماميّة مِن فِرق المُسلِمينَ. وما يزال الجَدَل يَحتدم حولها بِرغم ما كُتِبَ حولها، وبرغم إشباعها بالبحث مُنذ أزمنة طويلة، وهي تتناول مِن التَشَيُّع جوانب عِرقيّة وجوانب فكريّة.

٢ - وعلى وجه القطع هُناك كثيرون كتبوا في موضوع الشيعة والتَشَيُّع كُتُباً أكثر عُمقاً، وأوفى استيعاباً، وأطول نفساً مِمّا كُتِب هُنا، ولكنّي أتصوَّر أنّي عالجتها هُنا بنمط وأسلوب يختلف عن الأنماط الأُخرى، ولستُ أُريد أن أُفضّل هذا النَمط

٥

الذي اخترته على الأنماط الأُخرى، ولكنّي أعتقد أنّه أوصل إلى نفس القارئ مِن غيره، فإن كان ذلك هو الواقع فَهو المطلوب، وإلاّ فلَستُ بأوّل مَن اجتهد وأخطأ، وما أكثرهم على امتداد تاريخنا.

٣ - وسَيَجِدُ القارئ في ثنايا هذا الكتاب بعض الالتهابات التي سبّبتها الجروح المُزمنة في تاريخ المُسلِمينَ، وسَيَجد ما يتبع الالتهابات مِن ألَمٍ وتشنُّج، مِمّا هو ظاهرةٌ طبعيّةٌ لا طبيعيّة يسبِّبها إفلات الزمام أحياناً، بالرغم مِن ترويض الأعصاب وقسرها على التَحمّل، وكلّ مَن مارس الكِتابة في أمثال هذه المواضيع يعلم مقدار الحَرَج والمشقَّة في ضبط الأعصاب هُنا، لِما يَرى - ومع الأسف الشديد - مِن مُناولات بين فِرَق المُسلِمينَ، فيها كثير مِن عدم الموضوعيّة، وفُقدان الشُعور بمسؤوليّة الكلمة وأهميّتها، الأمر الذي تكوّنَ معه على مرِّ الأّيام خَزين وركام مِن التَرِكة الخَطِرة، والوباء الأسود، الذي يَعمد بين الآونة والأخرى جَماعة مِمَّن هُم ليسوا ببعيدين عن الشُبهات إلى إثارته، والاصطياد خلال أجوائه المُظلمة، وسوف يَبقى هذا الوضع خَطِراً ما دام هذا الرُكام موجوداً بمُتناول أيدينا، دون أن نعمل على تصفيته، وتسليط الأضواء عليه، وتَعريتهِ تَعريةً كاملةً؛ لنصل إلى رأيٍ في وجوده وآثاره.

وأعود لأقول: إنّ ضبط الأعصاب في مِثل هذا الموقف أمرٌ ليس بالهيِّن؛ بداهة أنّ الإِنسان مُسيّر بأموره النفسيّة، أكثر مِمّا هو مُسيّر بأموره العقليّة، إلاّ مَن عَصِمه الْخُلُق، وهذَّبه الدين، والله المسؤول أن يجعلنا مِنهم.

٤ - وقد يقول قائل: إنّه مع ما ذكرتَ آنفاً، فما هي جدوى الكتابة في أمثال هذه المواضيع؟ ونحن نجد إصراراً عَجيباً على طرحها كلّ مرّة، كما هي كأنّها لم تُعالَج، ولم يَكثُر حولها الأخذ والردُّ، ولم تُحصَل الإجابة على مضامينها في أكثر مِن مورد ومورد.

إنّ هذه الوضعيّة تكادُ تَجعلُ الإِنسان يقتنع بعدم جدوى علاج أمثال هذه الأُمور، ويحرص على الوقت مِن أن يُهدر في أمثال هذه الميادين.

وللإجابة على ذلك أقول: إنّ افتراض أنّ الباب موصدٌ في وجه

٦

الإصلاح، هو انهزاميّة أمام التحدّي، وما كانت الفتوح في أيّ ميدان، إلاّ مُقابلة التحدّي بِمِثله.

إنّ الباحثين عن الواقع لم يَخلُ مِنهم عصر مِن العصور، وإنّ الّذين غلبت عليهم شُبهاتٍ تاهوا فيها ليسوا بالقليلين، وتركُ أمثال هذين بدون التعاون معهما، أمرٌ ليس مِمّا يَستَسيغُهُ مَن يحمل رسالة في دفع الحياة إلى الأفضل، كما أنّه ليس مِن الدين في شيء.

إنّ تمكين الأقلام المشبوهة مِن نُفوس المُسلِمينَ وأفكارهم لِتَتَّخذ مِنها فَرائس، هو إسهام بشكل وآخر مع تلك الأقلام فيما تَجتَرِحَه مِن إثمّ.

إنّنا مدعوّون لكنس هذا الرُكام عن طريق المُسلِمينَ؛ حتّى يكون الدرب سَمِحاً لاحِباً أمام خُطاهُم. وكلّ نتائج تُحرز في هذا الميدان هي فَتح، وانسجام مع دعوة الإِسلام للجهاد بالقَلَم والفِكر، وليس من المنطق في شيء أن نترك المَريض يُصارع الداء، بدون أن نُعطيه جُرعة دواء، ونحن نملك القُدرة فيما نظنُّ على ذلك.

وكم مِن إِنسان عاش دهراً طويلاً فريسةً لِعجزٍ أو عصبيّةٍ، ثمّ رجع إلى الموضوعيّة نتيجة إلحاح الأقلام على تنقية الأجواء، خصوصاً إذا استطاعت الأقلام أن تُسافر بِنا عَبر دُنيانا إلى فَجرنا الأصيل، الذي شعَّ بالتسامح، ورفَّت فيه نَسائم مِن نقاء الروح، وطَهر الضمير، وطُبِعَت الحياة فيه على مِزاج الإِسلام الطَهور.

٥ - وما يُهوّن الخطب أنّ مَوَاطِن الخلاف بين فِرَقِ المُسلِمينَ، مُنذ كانت لم تصل إلى الأُصول، وإنّما هي في نِطاق الفُروع، وإن حاول كثير مِنهم أن يوصلها إلى الأُصول، عن طريق عناوين ثانويّة، ولوازم تُحاول الدُخول مِن أبواب خلفيّة. لكنّها وبشيءٍ مِن التأمُّل والتحليل، تَرتَدُّ عن الأُصول إلى الفُروع، وما دام الإِسلام في روحه الكريمة، يفترض الصحّة في فِعل المُسلِم ابتداءً، فعلينا مُعالجة هذه الأُمور بوحيٍ مِن هذه الروح.

وما دامت العقولُ متفاوتة، والمداركُ مُختلفة، فَمِن المنطق أن نقول: إنّ الاختلاف في مَسائل الفِكر سُنَةُ الكَون، وسجيّة النُفوس، وخاصّة العقول، وإنّما يَحمِل على نسيان هذه الحقائق الأُفُق الضيِّق، والعصبيّة الرَعناء، والتسرّع في الاندفاع، وما أجدرنا بالابتعاد عنها.

٧

٦ - ولمّا كانت مواضيع الكِتاب ومَسائله مُختَلِفَة، فسوف لا يَجد القارئ وَحدة في الموضوع، وتَبعاً لذلك فَسَيَختَلف أُسلوب المُعالجة، ونَمَط التناول، والمزاج الذي يُمليه الموقف. مع إدراكنا أنّ هذه المسائل يَجمعها عُنوان العقائد، ولكنّ أجزاء هذا العنوان متنوِّعة. ونحن نُدرِك أنّ تسمية كثير مِمّا يَحمله الإِنسان المُسلِم ويَنتحِله عقيدة فيه كثير مِن التَجوّز، فقد لا يَعتقد ولا يُدين بما يَحمله مِن أفكار أحياناً، وإنّما هو مُجرّد شِعار تُمليه مَصلحة، أو تُحَتِّمه عصبيّة، أو تَفرضه تَقاليد دُرج عليها الإِنسان.

وهذا هو سرُّ تَمسُّك بعض الناسِ بأفكارٍ يَعلمُ بُطلانها سَلَفَاً، ولكنّه التَمَذهُب الإيديولوجي الناتج مِن مُختلفِ الأسباب، والذي هو مِن مصائبنا التي نرجو أن يُعافينا الله مِنها.

٧ - وكلّ الذي أرجوه مِن القارئ، أن لا يُسَمّي بعضَ معالجاتِ هذا الكتابِ دعوةً للطائفيّةِ، عن طريقِ الدعوةِ إلى تَركِ الطائفيّةِ مِمّا هو مِن قبيل المُصادرة على المطلوب؛ وذلك لأنّ منطقَ المُقارعةِ أحياناً مِن طرقِ تصحيحِ المسارِ، فإنّ مِبضَعَ الجَرّاح لا يُريدُ الانتقامَ وإن سَبَّبَ ألَماً، وإنّ وضعَ السيفِ أمامَ السيفِ، قد لا يكونُ دعوةً إلى القتالِ، بل دعوةً إلى تركِه، وإنّ الحَمل على باب شرب الدواء ليس عن بُغض وإن كان الدواء مُرّاً.

وستبقى الأهداف دائماً وراء الأعمال، تُحَدِّدُ هُويّاتها، وتُشكِّل مُبَرِّراً لِما قد يكون في وسائلها مِن قسوة، شريطةَ أن لا تنزل الوسائل إلى المُستويات المُلوَّثة، وما دام الهدف كبيراً فسوف تُستَساغُ بعضُ الوسائل في حالات كثيرة، كما يُمليها العقلُ ويُقرُّها الواقع.

٨ - وبعدَ ذلكَ كُلّه، فإنّي ومِن منطلق كوني إماميّاً، أدعو كلَّ قارئٍ أن يَتَلبّس الأدوار التي مرَّت بالشيعة، والظُروف والمُلابسات التي اكتنفتهم، وجوداً، واستمراراً، ثمّ يَتَصوّر ما تُفرِزه تلك الحالات مِن مظاهر سلوكيّة؛ حتّى تكونَ مِعياراً بين يديه، يُفسِّر خلال أجوائها المُعاشة كثيراً مِن مظاهر السُلوك الفكري والاجتماعي عند الشيعة، وبذلك يبتعد عن الشَطَط في الحُكم عليهم. فإذا رآهم يُشَدِّدون على فِكرَة التَقيّة، فَليَعلَم أنَّهم لم يَخرجوا بها عن نطاق واقع مُرٍّ

٨

تكيّفوا مَعَه ضِمن مقاييس الشَرع، وإذا رأى أنّ رُدودَ الفعلِ عن بَعضِهم في بعض المواقف عَنيفة، فلا يَنسى عُنف الفِعل ذاته وهكذا.

ليكن الإِنسان نفسه مقياساً للآخرين، وميزاناً يَزِن به سلوك غيره.

٩ - أُضَمِّن هذه الوُريقات دعوة إلى كلّ فِرَقِ المُسلِمينَ، أن يدرسوا بعضهم البعض بِروح عَمليّة، وأن يتبيّنوا هذه الخَلفيّات المشبوهة، التي لَعِبت دوراً كبيراً وما زالت في تمزيق المُسلِمينَ، ثمّ ليُقَيِّموا نتائج هذا الوضع؛ ليروا مَن هو الذي يَقطف الثِمار مِن وراء هذا الوضع، وبعد ذلك كُلّه نحن مَدعوون إلى وضع التاريخ في ساحة الاتِّهام وبالحروف الكبيرة، لنُحاكِمَه ونَنتهي إلى التَخلُّصِ مِن كثير مِن مآسيه التي نعيشها، فالتاريخ فاعل في داخلنا وإن بَعُدَ العهد بيننا وبين موادّهِ ومُكوِّناته.

نسأل الله تعالى العون على مسيرتنا في درب الحياة الوَعِر، وإضاءة طريقنا بنور مِنه، والحمد لله أولاً وآخراً.

٩

١٠

تمهيد

التَشَيُّع لُغة:

هو المُشايَعة، أي: المُتابعة والمُناصرة والموالاة (١) .

فالشيعة بالمعنى اللُغوي: هُم الأتباع والأنصار، وقد غَلب هذا الاسم على أتباع عليٍّ (ع)، حتّى اختصّ بِهم، وأصبح إذا أُطلِق يَنصرف إليهم.

وبهذا المعنى اللُغوي استعمل القرآن الكريم لفظة الشيعة، كما في قوله تعالى: ( وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ) الصافّات: ٨٣.

وكقوله تعالى: ( هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) القصص: ١٥.

التَشَيُّع اصطلاحاً:

هو: الاعتقاد بآراء وأفكار مُعيّنة، وقد اختلف الباحثون في هذه الأفكار والآراء كثرةً وقلّةً، وسَيمرُّ علينا ذلك مُفصّلاً، فالتَشَيُّع بالمعنى الثاني أعمّ منه بالمعنى الأوّل. وبينهما مِن النِسَبِ عُموم وخُصوص مٌطلق، والعُموم في جانب التَشَيُّع بالمعنى الثاني؛ لشموله لكلٍّ مِنهما.

وانطلاقاً مِن كون التَشَيُّع اعتقاداً بآراء مُعيّنة، ذهب العلماء والباحثون تبعاً لذلك إلى تعريفه على اختلاف بَينهم في سِعة مدى هذه التعاريف وضيقها.

وإليك نَماذج مِن تَعريفاتهم:

____________________

(١) صحاح الجوهري: ٣/١٥٦، وتاج العروس، ولسان الميزان مادّة شَيَعَ.

١١

١ - الشهيد الثاني في كتابه شرح اللُمعة قال:

والشيعة مِن شايعَ عليّاً - أي اتّبعه وقدّمه على غيره في الإِمامة، وإن لم يوافق على إمامة باقي الأئمّة، فيدخل فيهم الإماميّة، والجاروديّة مِن الزيديّة، والإِسماعيليّة غير الملاحِدة مِنهم، والواقفيّة، والفطحيّة (١) .

٢ - الشيخ المُفيد في كتاب الموسوعة، كما نقله عنه المؤلّف قال:

الشيعة هُم مَن شايع عليّاً وقَدّمه على أصحاب رسول الله صلوات الله عليه وآله، واعتقد أنّه الإِمام بوصيّة مِن رسول الله، أو بإرادة مِن الله تعالى، نصّاً كما يرى الإماميّة، أو وصفاً كما يرى الجاروديّة.

وقد نَقل هذا المضمون نفسه كامل مصطفى الشيبي في كتابه الصِلة (٢) .

٣ - الشهرستاني في المِلَل والنِحَل قال:

الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصاية، أمّا جليّاً وإمّا خفيّاً، واعتقدوا أنّ الإِمامة لا تخرج مِن أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون مِن غيره، أو بتقيّة مِن عنده (٣) .

٤ - النوبختي في كتابه الفِرَق قال:

الشيعة هُم فرقةُ عليِّ بن أبي طالب المُسَمون بشيعة عليٍّ في زمن النبيّ، ومَن وافق مودّته مودّة عليٍّ (٤) .

٥ - محمّد فريد وجدي في كتابه دائرة معارف القرن العشرين قال:

الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً في إمامته، واعتقدوا أنّ الإِمامة لا تخرج عن أولاده، ويقولون بعصمة الأئمّة مِن الكبائر والصغائر، والقول بالتَولِّي والتَبرِّي

____________________

(١) شرح اللُمعة: ٢/٢٢٨.

(٢) موسوعة العتبات المُقدّسة، المدخل ص٩١.

(٣) المِلَل والنِحَل ص١٠٧.

(٤) فِرَق الشيعة.

١٢

قولاً وفعلاً إلاّ في حال التَقيّة، إذا خافوا بطش ظالم (١) .

هذه النماذج مِن التعريفات إنّما قدّمتُها لنعرف ما هي مُقوّمات التَشَيُّع في نظر الباحثين. وقد تبيّن مِن بعضها:

الاقتصار على وصف الشيعة بأنّهم يقدّمون عليّاً على غيره؛ لوجود نصوص في ذلك، أو وجود صفات اختصّ بها، ولم تتوفّر لغيره. والواضح مِن ذلك أنّ جوهر التَشَيُّع هو الالتزام بإمامة عليٍّ ووُلدهِ، وتقديمه على غيره؛ لوجود نصوص عندهم في ذلك، وينتج مِن ذلك الالتزام بأمرين:

الأوّل: بما أنّ الإِمامة وليدة النُصوص، فهي امتداد للنبوَّة، يترتّب عليها ما يترتّب على النُبوّة مِن لوازم، عدا الوحي، فإنّ نزوله مُختصٌّ بالأنبياء.

الثاني: أنّ الإِمامة لا تتمُّ بالانتخاب والاختيار، وإنّما بالتعيين مِن الله تعالى، فهو الذي ينصُّ على الإِمام عن طريق النبيّ، وإنّما يختاره لتوفر مؤهّلات عنده، لا توجد عند غيره.

أمّا الزيادة على ما ذكرناه، والتي وردت في التعريفات التي نقلناها، والتي قد توجد في كُتُب الشيعة الأُخرى، فهي مُستفادة مِن أخبارٍ، وهي أعمُّ مِن كونها مِن أصول المذهب، أو مِن أصول الإِسلام، كما سنرى ذلك فيما يأتي أنّ الغرض مِن هذه الإِشارة، هو إلقاء الضوء على نقطةٍ، يؤكّد عليها الباحثون عند استعراضهم لذكر الشيعة وعقائدهم: ألا وهي التأكيد على إدخال آراء أريد لها أن تكون خُيوطاً تصل بين التَشَيُّع واليهوديّة، أو النصرانيّة، أو الزندقة. ومحاولة إيصال التَشَيُّع لعرقيّات مُعينّة. وهي محاولة لا تخفى على أعيُن النُقّاد بأنّها غير موضوعيّة. إنّ هذه المحاولة تُريد تصوير التَشَيُّع بأنّه تَطوّر لا كما تتطوّر العقائد والمذاهب الأُخرى. وفي التوسع وقبول الإِضافات السليمة، نتيجة تبرّعم بعض الآراء، وإنّما هو تَطوّر غير سليم، وغير نظيف أفسد مضمون التَشَيُّع.

____________________

(١) دائرة المعارف ٥/٤٢٤.

١٣

وسأستعرض بعض هذه الأقوال؛ لتكون مُجرّد مؤشِّر على هذا الاتّجاه، وسأُعقّب عليها بما أراه:

تَطوّر التَشَيُّع

١ - رَسَم الدكتور عبد العزيز الدوري هذا التطوّر، عن طريق تقسيمه للتشيُّع إلى روحيّ بدأ أيّام النبيّ عليه الصلاة والسلام، وسياسيّ حدث بعد مقتل الإِمام عليٍّ، وقد استدلّ لذلك بأنّ التَشَيُّع بمعناه البسيط، دون باقي خواصّه الاصطلاحية، قد استعمل في صحيفة التحكيم التي نصّت على شيعة لعليٍّ وشيعة لمعاوية، مِمّا يعطي معنى المشايعة والمناصرة فقط، دون باقي الصفات والأبعاد السياسيّة التي حدثت بعد ذلك (١) .

٢ - محمّد فريد وجدي في دائرة المعارف قال:

الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً في إمامته، واعتقدوا أنّ الإِمامة لا تخرج عن أولاده، ويقولون بعصمة الأئمّة مِن الصغائر والكبائر، والقول بالتولِّي والتبرّي قولاً وفعلاً، إلاّ في حال التَقيّة إذا خافوا بطش ظالم، وهُم خمس فِرَق: (كيسانيّة، وزيديّة، وإماميّة، وغُلاة، وإسماعيليّة) وبعضهم يميل في الأُصول إلى الاعتزال، وبعضهم إلى السُنّة، وبعضهم إلى التشبيه (٢) .

إنّ هذه المقتطفة مِن فريد وجدي سبق أن ذَكرتُ قِسماً مِنها في التعريف بالتشيّع، وذكرت هُنا المقتطفة بكاملها؛ ليتّضح مِنها أنّ مضمونها يُغطّي التَشَيُّع منذ أيّامه الأولى حتّى الآن؛ لأنّ مِن الواضح أنّ هذه المضامين لم تولد دفعة واحدة، وإنّما دخلت لمضمون التَشَيُّع تدريجاً. وقد خلط فريد وجدي فيها بين السِّمات والمقوِّمات، وجعل مَن ليس مِن الشيعة مِنهم، ونَسَب لهم ما هم منه بُراء، ولا أريد أن أتعجَّل الرد عليه، فستمرُّ علينا أمثال هذه النسب الرد عليها في مكانها مِن الكتاب.

____________________

(١) مُقدّمة في تاريخ صدر الإِسلام: ص٧٢.

(٢) دائرة معارف فريد وجدي: ٥/٤٢٤.

١٤

٣ - الدكتور كامل مصطفى في كتابه الصِّلة قال:

ويتّضح بعد ذلك أنّ التَشَيُّع قد عاصر بِدء الإِسلام باعتباره جوهراً له، وأنّه ظهر كحركة سياسيّة بعد أن نازع معاويةُ عليّاً على الإِمارة وتدبير شؤون المُسلِمينَ، ويتبيّن بعد ذلك أنّ تَبلور الحَركة السياسيّة تحت اسم الشيعة، كان بعد قتل الحسين (ع) مباشرة، وإن كانت الحَركة سَبقت الاصطلاح، وبذلك يُمكننا أن نلُخّص هذا الفصل في كلمة بيانها: أنّ التَشَيُّع كان تكتُّلاً إسلاميّاً ظهرت نَزعته أيّام النبيّ، وتبلور اتّجاهه السياسي بعد قتل عُثمان، واستقلّ الاصطلاح الدال عليه بعد قتل الحسين (١) .

وواضح مِن هذا النصّ أنّ التَشَيُّع مرّ بأدوارٍ تَطوّر فيها كما يَقول كامل.

٤ - الدكتور أحمد أمين قال:

إنّ التَشَيُّع بدأ بمعنى ساذج، وهو أنّ عليّاً أولى مِن غيره مِن وجهتين: كفايته الشَخصيّة، وقرابته للنبي.

ولكنّ هذا التَشَيُّع أخذ صبغة جديدة بدُخول العناصر الأُخرى في الإِسلام مِن يهوديّة ونصرانيّة ومجوسيّة، وحيث أنّ أكبر عنصر دخل الإِسلام الفُرس فلَهم أكبر الأثر بالتَشيّع (٢) .

وواضح هُنا مِمّا ذكره أحمد أمين أنّ التَشَيُّع تَطوّر لا بشيء مِن داخله، وإنّما بإضافات وإسباغ مِن عناصر أُخرى دخلت الإِسلام واختارت التَشَيُّع، فنَقلت ما عندها مِن أفكار وعقائد إليه، حتّى أصبحت جُزءاً منه، وإنّ الفُرس بالذّات تَركوا بَصَماتهم على المَذهب أكثر مِن غيرهم، كما يُريد أحمد أمين أن يُصوّره، وهو زعمٌ أخَذه أحمد أمين مِن غيره، وغيرُهُ أخذه مِن غيره، وهكذا حتّى أوشك أن يصبح مِن الأُمور المُتسالم عليها عند الباحثين، وقريباً سأُوقفك على زَيف هذه الدعوى، والهدف مِن الإِصرار على ربط التَشَيُّع بالفارسيّة شكلاً ومضموناً.

٥ - الدكتور أحمد محمود صُبحي قال:

____________________

(١) الصِلة بين التصوّف والتَشَيُّع: ص٢٣.

(٢) فجر الإِسلام: ص٢٧٦.

١٥

- بعد ذِكر الروّاد مِن الشيعة - والتَشَيُّع بالنسبة للشيعة المتأخّرين، مِثل الزُهد في عصر الرسول والخُلفاء الراشدين، والفَرْقُ بينه وبين التَصَوُّف الذي شابَتْهُ عناصر غنوصيّة، وتأثَّرَ بتيّاراتٍ فكريّةٍ مُتباينةٍ، كما عُرِفَ لدى محيي الدين بن عَربي والسهروردي مثلاً (١) .

وبعد أن استعرضنا هذه الأمثلة مِن أقوال الكُتّاب، التي فرَّقوا بها بين التَشَيُّع في الصدر الأوّل، وما تلا ذلك مِن عُصور أودُّ أن أُعقِّبَ على ذلك بما يلي:

١ - إنّ كميّة الأفكار والمُعتقدات في المضمون الشيعي، تتّسِع في الأزمنة المُتأخّرة عمّا كانت عليه في الصدر الأوّل دون شكٍّ في ذلك، ولكنّ هذه الزيادة ليست أكثر مِن المضمون الأصلي للتشيُّع، وإنّما هي تفصيل وبيان لمُجمله، إنّها ليست بإضافة أجزاء، وإنّما هي ظُهور جزئيّات انطبق عليها المَفهوم الكُلّي للتشيُّع، وقد ظهرت هذه الجُزيّئات بفعل تَطوّر الزمن.

وكمثال لذلك: موضوع النُصوص التي وردت على لسان النبيّ عليه الصلاة والسلام، هل هي مُجرّد إشارة لفضل الإِمام عليٍّ، أم أنّها على شكلٍ يُلزِم المُسلِمينَ بالقول بإمامته؟ وعلى نحو الوصيّة له بالخلافة.

وتبعاً لذلك، هل إنّ هذه الإِمامة تَقف عند حَدِّ المؤهّلات، أم إنّ الإِمام يَجب أن يكون النموذج المثالي؟ فيكون أشجع الناس، وأعلَم الناس، وأعدَل الناس. وهكذا تبرعم موضوع العصمة وغيره.

وكلّ هذه الأُمور داخلة في صُلب موضوع الإِمامة، وليست هي بأمور زائدة على الموضوع، بل اشتقاقات أولدها التطوّر الفِكري، وزيادة أعداد وأنواع مُعتنقيّ المذهب.

٢ - إنّ مَثَل هذا التطوّر كَمِثلِ كلّ تَطوّر حَدَث، ومِن ذلك تَطوّر الإِسلام بصفته مَقْسَمَاً للمذاه

ب. فالمسلمون منذ وُجِدوا كان مِن عقيدتهم الاعتراف بالله عزّ وجل، ووجوده، ووحدانيّته، واتّصافه بصفات الكمال، وتَنَزّهه عن صفات النقص، وكلّ ذلك على نحو الإِجمال. وعندما اتّسعت مجالات التفكير، وانفتح العالم الإِسلامي على أممٍ وثقافاتٍ مُتنوِّعة تَبَرعمت أسئلة وَجَدَّتْ أفكار، فَرَجِع

____________________

(١) نَظريّة الإِمامة: ص٣٥.

١٦

المسلمون إلى ما آمنوا به إجمالاً يُبيّنون مُجمله، ويُفصِّلون مُختصره، فنشأ مِن إيمانهم بأنّ الله خالق كلّ شيء: النزاع بإعطاء السَبب الطبيعي صِفة الخَلق، وذلك يُؤدّي إلى تَعدُّد الخالق كما تصوّروا، أم أنّ ذلك لا يقدح بانفراد الله تعالى بصفة الخالق، إذ أنّ لله تعالى جهة تأثير ليست مِن مقدورات المخلوقين، وكلّ ما للمخلوقين إنّما هو مِن جهة أُخرى، ولا يقدح ذلك في كون الله تعالى أحسن الخالقين. وتَبرعمت عن هذه المسألة، مسألة خَلق أفعال العباد، وربط ذلك كُلّه بالجبر والاختيار، وهكذا.

ومَثَل آخر: هو إيمان المُسلِمينَ منذ وُجِدوا بحجيّة ظواهر القرآن الكريم، فنشأ مِن ذلك النِزاع حول حُجيّة ظواهر بعض الآيات؛ لأنّ لاّزم ذلك نسبة ما لا يصحُّ إلى الله تعالى، وذلك مثل قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) القيامة: ٢٢.

حيث ذهب أهل السُنّة إلى جواز رؤية الله تعالى يوم القيامة، استناداً إلى ظاهر الآية، بينما ذهب الإماميّة إلى استحالة رؤيته تعالى؛ لاستلزام الرؤية الجسميّة، وبالتالي التركيب، فالحاجة، فالحُدوث، وانتهاء كلّ ذلك إلى نفي الأُلوهيّة. وقد أوَّلوا النظر هُنا بأنّه انتظار الرحمة، كما يقول شخصٌ لآخر ينتظر منه الرحمة، أنا انظر: إليك وإلى عَطفك، وذلك شائع في لُغة العَرَب وحضارتهم، والقرآن نَزَلَ بِلُغَة العَرَب، وسَلك منهجهم في المحاورات.

هذا، بالإِضافة إلى أنّ الله تعالى نَسَب هُنا النظر إلى الوجوه، وهي ليست مِن أعضاء النظر، مِن قبيل قوله تعالى: ( مَا يَنظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) يس: ٤٩.

مثال آخر أذكره للتدليل على اتّساع المضمون الإِسلامي عمّا كان عليه في الصدر الأوّل، فقد آمن المسلمون مُنذُ وُجِدوا بأنّ الله تعالى لا يفعل العَبَث، وجاءت ظواهر الآيات تؤيِّد ذلك، فقد جاء في قوله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ ) الملك: ٢.

وجاء بقوله: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ) الدخان: ٣٨.

فتنازع المسلمون بعد ذلك في أنّ أفعال الله تعالى هل هي مُعَلَّلَة - ولازم ذلك نِسبَة النقص إلى الله؛ لأنّ كلّ فاعل لِلعلّة إنّما يحتاج لتِلك العلّة - أم أنّ أفعاله تعالى غير مُعَلَّلَة؟ ولازم ذلك أنّ فعله

١٧

عَبث، تعالى الله عن ذلك.

فذهب أهل السُنّة إلى أنّ أفعاله غير مُعَلَّلَة، وذهب الإماميّة إلى أنّها مُعَلَّلَة بدون حاجة منه تعالى لِلعلّة، وإنّما يعود نفع العِلّة للعباد أنفسهم، وبذلك يُجمَع بين الأمرين مِن كونه تعالى لا يفعل العَبَث، ومِن كونه غنيّاً عن الحاجة.

ومع جميع ما ذكرناه لا يُقال: إنّ المُسلِمينَ تَطورّت عقائدهم، وزاد مضمون الإِسلام عَمّا كان عليه في الصدر الأوّل، وإنّما الذي حَدَث أنّ المُسلِمينَ توسَّعوا في شَرح الأُمور المُجمَلَة، عندما اضطرّوا لذلك نتيجة تفاعُلِهم مع ثقافات مُختَلِفة، وأفكار متنوّعة، فالمسلم في صدر الإِسلام والمسلم في أيّامنا، مصدر تشريعه الكتاب والسُنّة، ولكنّه فيما مضى أخذهما مُجمَلَين، والآن احتاج إلى التفصيل؛ لوجود دواعي وُجِدَت ولم تكن موجودة في الصدر الأوّل، فإذا كان التَطوّر المنسوب إلى التَشَيُّع على هذا النحو الذي حَدث في الإِسلام نفسه، فهو واقع بهذا المعنى لا نزاع في ذلك، أمّا إذا كان استحداث آراء جديدة وبعيدة عن روح الإِسلام فلا؛ لأنّ كلّ ما يأباه الإِسلام يأباه التَشَيُّع بالضرورة.

إنّ التطوّر الذي حَدث في الإِسلام على الشِكل الذي ذكرناه، لم يُشكّل قدحاً في عقائد فِرَق المُسلِمينَ، وإذا كان ما حَدث في التَشَيُّع مِن تَطوّر مثل ما حَدث في الإِسلام كَكُل، فما له هُنا يُشكّل قدحاً في العقيدة، ويُثيرُ شُكوكاً لا مُبرِرَ لها؟.

٣ - ومع التَنزّل وافتراض دُخول عُضو إضافيٍّ على جِسم التَشَيُّع - كما يُريد أن يُثبته البَعض اعتباطاً وهو منفيّ - فإنّ مثل هذا الفرض يأباه الفِكر الشيعي، إذا كان مِمّا لا يلتقي مع كتاب الله تعالى، وسُنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله، والخطوط الإسلاميّة العامة.

إنّ مثل هذا الفرض هو رأي يَرِدُّ إلى نَحرِ قائله، فكلُّ ما هو ليس مِن الإِسلام فهو ليس مِن التَشَيُّع في شيءٍ؛ بداهة أنّ التَشَيُّع مِن عَطاء فِكر أهل البيت، وهُم عِدْلُ الكتاب، وهُم مَثلُ سفينة نوح، فعلى هذا يكون ما يُنسَبُ إلى التَشَيُّع مِن هذا القبيل إنّما هو خَلطٌ بين التَشَيُّع والشيعة، وكثير مِمَّن يُنعت بأنّه مِن الشيعة يرفضه الهيكل الشيعي فيما له مِن حدود، وهو ما سَنَمرُّ عليه ونذكر أدلّته، والشأن في ذلك شأن التفكير السُنّي الذي ينفي عنه بعض المنتسبين إليه مِمَّن تثبت انحرافهم عن خطوط الإِسلام، ولا يقدح وجود أمثالهم عند أهل السُنّة، ولا يُنتَزع مِن وجود

١٨

أمثال هؤلاءِ حُكم عامٌّ يُعَمَّمُ على أهل السُنّة.

وعلى أسوأ الفُروض لو وُجِدَت أفكار إضافيّة طارئة على جسم أيِّ مذهب مِن المذاهب، وزائدة على مُحتواه الأصلي كما هو الفرض، ولكنّها لا تُشكّل إنكار ضروريّة مِن ضروريّات الدين، ولا رِدَةً ولا انحرافاً، فإنّ أمثالها لا يُبَرِر رَمي مَن وُجِدت عنده بالمُروق عن الدين، والخروج عن الإِسلام، وربطهم باليهوديّة والنصرانيّة، وأمثال ذلك مِن النِسب التي لا يَتَفَوّه بها مُسلِم على أخيه، وله ضميرٌ وخُلُقُ مُسلِم يصدر في سلوكه عن تعاليم الإِسلام.

فمتى كان القول بالوصاية مثلاً، وأنّ لكلّ نبيّ وصيّاً، وأنّ الأوصياء يجب كونهم معصومين؛ حتّى يتحقق الغرض مِن نصبهم قادة للأمّة، والاعتقاد بأنّ المهديّ حيٌّ، وأمثال ذلك مِن العقائد موجِباً للخروج مِن الدين، ومِدعاة لشنِّ حَملات شعواء كانت وما تزال يَجترُّها الخَلف عن السَلف، دون أن يتبيّن ما هي مصادرها؟ ودون أن يُحَلِّلُها ويُناقشها.

إنّ صَرف هذه الطاقات في ميادين التهريج أقلُّ ما يُوصف به أنّه عملٌ غير مسؤول، بالإِضافة إلى إمكان توجيه هذه الطاقات إلى ميادين إيجابيّة في الخَلْقِ والإِبداع، وفي جَمعِ الشَمل، ولَمِّ الشَعَثِ، وتنظيف الأجواء الإسلاميّة مِن الحِقدِ والكراهية التي لا يستفيد مِنها إلاّ أعداء الإِسلام.

إنّ الّذين يَقفون وراء نَعرات التشويش والفِرقة قوم بعيدون عن روح الإِسلام وجوهره، وليسوا ببعيدين عن الشبهات خُصوصاً وأنّ أمثال هذه المواضيع يجب أن تبقى مَحصورة في نِطاق العُلَماء فقط، وأن لا تنزل إلى مستوى الأوساط مِن الناس، فضلاً عن العامّة؛ وذلك لأنّ للعُلماء مَناعَة تُبعِدُهُم عن النظرة المُرتجَلَة، والنَعرة الجاهليّة كما هو المفروض.

إنّ المفاعلات الطائفيّة في تصوّري أخطر على الإِنسانيّة مِن المفاعلات النَوويّة، وحَسْبَ تاريخ المُسلِمينَ خلافات كانت وما تزال غُصّةً في فَمِ كلّ مؤمن بالله تعالى وبدينه، وكلّ داعٍ لرسالات السماء التي مِن أوّل أهدافها تأصيل الروح الإِنسانيّة في كلّ أنماط السُلُوك عند البشر.

١٩

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أرض مربعة حمراء من أدم

ما بين إلفين موصوفين بالكرمِ

تذاكرا الحرب فاحتلاّ لها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دمِ

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنمِ

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركةٍ

في عسكرين بلا طبلٍ ولا علمِ(1)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، وفيما أحسب أنّه أسبق من نظم فيه، وأحاط بأوصافه ودقائقه وقد تعلم هذه اللعبة من أبيه الرشيد الذي كان من الماهرين فيها، وقد أهدى إلى ملك (فرنسا) أدوات الشطرنج، ولم تكن معروفة فيها، وتوجد حاليا تلك الأدوات التي أهداها الرشيد في متاحف (فرنسا)(2) .

ب - ولعه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، ويقول المؤرّخون أنّه كان معجباً كأشد ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي وقال فيه: (كان لا يغني أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان)(3) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود كأبيه الرشيد الذي لم يمر على قصره اسم الله تعالى، وإنّما كانت لياليه الليالي الحمراء.

ج - شربه للخمر:

وعكف المأمون على الإدمان على الخمر، فكان يشربها في وضح النهار وفي غلس الليل، ولم يتأثّم في اقتراف هذا المحرَّم الذي هو من أفحش المحرّمات في الإسلام.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعات المأمون وصفاته.

التحف الثمينة التي أهديت للمأمون:

وقام الأُمراء والأشراف بتقديم الهدايا القيّمة والتحف الثمينة للمأمون تقرّباً إليه، وكان من بعض ما أُهدي إليه ما يلي:

____________________

(1) المستطرف 2 / 306.

(2) حياة الإمام محمد الجواد (ص 233).

(3) الحضارة العربية لجاك س. ريسلر (ص 108).

٢٢١

1 - أهدى أحمد بن يوسف للمأمون سفطاً من الذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه، وكتب فيه هذا يوم جرت فيه العادة بإتحاف العبيد للسادة، وقد قلت:

على العبد حق وهو لا شك فاعله

وإن عظم المولى وجلّت فواضله

ألم ترنا نهدي إلى الله ماله

وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله

ولو كان يهدي للجليل بقدره

لقصّر عنه البحر يوماً وساحله

ولكنّنا نهدي إلى مَن نجلّه

وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله(1)

2 - أهدى أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي إلى المأمون في يوم مهرجان مائة حمل زعفران قد وضعت في أكياس من الإبريسم، وقد حملتها أتان شهب وحشية، فجاءت الهدايا والمأمون عند حرمه، فأخبر بالهدية، فسارع إلى النظر إليه، فلمّا رآها عجب بها وسأل عن الحمر التي حملت الزعفران هل هن ذكور أم إناث؟ فقيل له إنّها إناث فسُرّ بذلك، وقال: قد علمت أنّ الرجل أعقل من أن يوجه على غير أتن(2).

3 - أهدى ملك الهند جملة من الهدايا، وفيها جام ياقوت أحمر، ومعها رسالة جاء فيها: نحن نسألك أيّها الأخ أن تنعم في ذلك بالقبول، وتوسع عذراً في التقصير(3) .

هذه بعض الهدايا التي قدّمت للمأمون تقرّباً له، وطمعاً في الظفر ببعض الوظائف منه.

تظاهره بالتشيّع:

وذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى أن المأمون قد اعتنق مذهب التشيع، وقد استندوا إلى ما يلي:

من علمه التشيع:

إنّه أعلن أمام حاشيته وأصحابه أنّه اعتنق مذهب التشيّع وذلك في الحديث التالي: روى سفيان بن نزار، قال: كنت يوماً على رأس المأمون، فقال لأصحابه: (أتدرون مَن علّمني التشيّع؟).

____________________

(1) صبح الأعشى 2 / 420.

(2) التحف والهدايا (ص 109).

(3) نفس المصدر.

٢٢٢

فقالوا جميعاً: لا والله ما نعلم؟.

فقال: علمنيه الرشيد فانبروا قائلين:

(كيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل البيت؟).

قال: كان يقتلهم على الملك لان الملك عقيم، لقد حججت معه سنة، فلمّا صار إلى المدينة تقدم إلى حجاجه، وقال لهم: (لا يدخلن على رجل من أهل المدينة ومكة، ولا من المهاجرين والأنصار وبني هاشم، وسائر بطون قريش إلا نسب نفسه... وأمتثل الحجاب ذلك، فكان الرجل إذا أراد الدخول عليه عرف نفسه إلى الحجاب، فإذا دخل فيصله بحسب مكانته ونسبه، وكانت صلته خمسة آلاف دينار إلى مائتي دينار، يقول المأمون وبينما أنا واقف إذ دخل الفضل بن الربيع، فقال: (يا أمير المؤمنين، على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب).

فاقبل الرشيد على أبنائه، وعلى سائر القواد، وقال لهم: احفظوا على أنفسكم، ثم قال للفضل ائذن له، ولا ينزل إلاّ على بساطي، يقول المأمون: ودخل شيخ مسخد(1) قد أنهكته العبادة كأنّه شنّ بال(2) قد كلم(3) السجود وجهه وأنفه فلمّا رأى الرشيد أنّه أراد أن ينزل من دابته، فصاح لا والله إلاّ

على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظر إليه الجميع بإجلال وإكبار وتعظيم ووصل الإمام إلى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به، فنزل عن راحلته فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط، وقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس وأجلسه معه، وأقبل عليه يحدثه، ويسأله عن أحواله، ثم قال له: (يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟).

قال هارون: أولاد كلهم؟ قال الإمام: لا، أكثرهم موالي وحشم، أمّا الولد فلي نيف وثلاثون، وذكر عدد الذكور، وعدد الإناث، والتفت إليه هارون فقال له:

____________________

(1) المسخد: مصفر الوجه.

(2) الشن البالي: القربة البالية.

(3) كلم: أي جرح.

٢٢٣

- لم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟

- اليد تقصر عن ذلك.

- ما حال الضيعة؟

تعطي في وقت وتمنع في آخر!.

- هل عليك دين؟

- نعم.

- كم هو؟

- عشرة آلاف دينار.

- يا بن العم أنا أعطيك من المال ما تزوّج به الذكران والنسوان، وتقضي به الدين، وتعمر به الضياع.

فشكره الإمام على ذلك وقال له: (وصلتك رحم يا بن العم، وشكر الله هذه النية الجميلة والرحم ماسة، والقرابة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنو أبيه، وعمّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك، وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك وأعلى محتدك(1)) .

فقال هارون: أفعل ذلك وكرامة.

وأخذ الإمامعليه‌السلام يوصيه بالبر والإحسان إلى عموم الفقراء قائلاً:

(يا أمير المؤمنين إنّ الله قد فرض على ولاة العهد، أن ينعشوا فقراء الأمّة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى العاني(2) ، فأنت أولى مَن يفعل ذلك...).

فانبرى هارون قائلاً: افعل ذلك يا أبا الحسن، ثم قام الإمامعليه‌السلام فقام الرشيد تكريما له، وقبل عينيه ووجهه ثم اقبل على أولاده فقال لهم: (يا عبد الله، ويا محمد، ويا إبراهيم امشوا بين يدي عمكم وسيدكم خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله).

وانصرف الإمامعليه‌السلام ، وفي نفس الطريق أسرّ إلى المأمون فبشره

____________________

(1) المحتد: الأصل.

(2) العاني: الغفير.

٢٢٤

بالخلافة، وقال له:

(إذا ملك هذا الأمر فأحسن إلى ولدي).

ومضى الإمام مشيَّعاً من قبل أبناء هارون إلى منزله، ورجع المأمون إلى منزله، فلما خلا المجلس من الناس التفت إلى أبيه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته، وأجللته وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟).

فقال هارون:

(هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده...).

وبهر المأمون فقال لأبيه: (يا أمير المؤمنين أليست هذه الصفات لك وفيك؟).

فأجابه هارون بالواقع قائلاً: (أنا أمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنّه لاحق بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منى ومن الخلق جميعاً، ووالله إن نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم).

ولـمّا أراد الرشيد الانصراف من المدينة إلى بغداد أمر بصرة فيها مائتا دينار، وقال للفضل بن الربيع اذهب بها إلى موسى بن جعفر، وقل له: يقول لك أمير المؤمنين: نحن في ضيقة، وسيأتيك برنا بعد الوقت، فقام المأمون، وقال لأبيه: (تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، ومن لا تعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر، وقد عظمته، وجللته مائتي دينار أخسّ عطية أعطيتها أحدا من الناس).

فزجره هارون، وقال له:

(اسكت لا أُمّ لك، فإنّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم).

وأعرب هارون عن خشيته من الإمامعليه‌السلام ، وقضت سياسته في

٢٢٥

محاربته اقتصاديا لئلا يقوى على مناهضته وكان في المجلس مخارق المغني فتألم وانبرى إلى هارون قائلاً: (يا أمير المؤمنين، قد دخلت المدينة، وأكثر أهلها يطلبون مني شيئا، وإن خرجت ولم أقسم فيهم شيئا لم يتبيّن لهم فضل أمير المؤمنين علي، ومنزلتي عنده).

فأمر له هارون بعشرة آلاف دينار، فقال له مخارق: (يا أمير المؤمنين هذا لأهل المدينة، وعلى دين احتاج أن أقضيه).

فأمر له بعشرة آلاف دينار، ثم قال له: بناتي أريد أن أزوجهن فأمر له بعشرة آلاف دينار، وقال له: لا بد من غلّة تعطينيها ترد علي وعلى عيالي وبناتي فأمر له باقطاع(1) تبلغ وارداتها في السنة عشرة آلاف دينار، وأمر أن يعجل ذلك له، وقام مخارق مسرعا إلى بيت الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فلمّا انتهى إليه استأذن على الإمام فأذن له فقال له: (قد وقفت على ما عاملك هذا الطاغية، وما أمر لك به، وقد احتلت عليه لك، وأخذت منه صلات ثلاثين ألف دينار وأقطاعا تغل في السنة عشرة آلاف دينار، ولا والله يا سيدي ما احتاج إلى شيء من ذلك، ما أخذته إلاّ لك وأنا اشهد لك بهذه القطاع، وقد حملت المال لك).

فشكره الإمامعليه‌السلام على ذلك، وقال له: (بارك الله لك في مالك، وأحسن جزاءك، ما كنت لآخذ منه درهماً واحداً، ولا من هذه الأقطاع شيئاً، وقد قبلت صلتك وبرّك، فانصرف راشداً ولا تراجعني في ذلك).

وقبل مخارق يد الإمامعليه‌السلام ، وانصرف عنه(2) .

وحكت هذه الرواية ما يلي:

1 - احتفاء الرشيد بالإمام الكاظمعليه‌السلام في حين أنّه لم يحفل بأي إنسان كان، فقد سيطر على أغلب أنحاء الأرض وسرى اسمه في الشرق والغرب.

2 - اعتراف هارون بأنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام هو حجّة الله على

____________________

(1) الأقطاع: القطعة من الأرض الزراعية.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 88 - 93.

٢٢٦

العالمين وأنّه إمام هذه الأمة، وقائد مسيرتها الزمنية والروحية، وأنّ هارون زعيم هذه الأمة بالقهر والغلبة لا بالاستحقاق.

3 - حرمان الإمام الكاظم من العطاء الذي يستحقه؛ وذلك من أجل أن لا يقوى على مناهضة هارون والخروج على سلطانه.

4 - إعطاء المغني (مخارق) الأموال الطائلة، وحرمان أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من حقوقهم التي نهبها هؤلاء البغاة... هذه بعض المعالم في هذه الرواية:

رد فدك للعلويين:

من الأمور التي يستند القائلون إلى تشيّع هارون ردّه لـ‍ (فدك) للعلويين بعد أن صادرتها الحكومات السابقة منهم، وكان الغرض من مصادرتها إشاعة الفقر والحرمان بين العلويين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم كي لا يتمكّنوا من مناهضة أولئك الحكّام، وقد قام المأمون بردّها عليهم، وقد رفع عنهم الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، وقد مدحه شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي على هذه المكرمة التي أسداها على العلويين بقوله:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

واعتبر الكثيرون من الباحثين هذا الإجراء دليلاً على تشيّع المأمون.

إشادته بالإمام أمير المؤمنين:

وأشاد المأمون بالإمام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الإسلام، فقد كتب إلى جميع الآفاق بان علي بن أبي طالبعليه‌السلام أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، وقد روى الصولي أشعاراً له في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه كان منها ما يلي:

لا تقبل التوبة من تائب

إلاّ بحب ابن أبي طالب

أخو رسول الله حلف المهدي

والأخ فوق الخل والصاحب

إن جمعا في الفضل يوماً فقد

فاق أخوه رغبة الراغب

فقدم الهادي في فضله

تسلم من اللائم والعائب

ومن شعره الذي يرد به على مَن عابه في قربه لأبناء النبي (ص) يقول:

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٧

ومن غاو يغص عليّ غيظاً

إذا أدنيت أولاد الوصي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبان لك الرشيد من الغوي

وعرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر القوي

بأيّة خلّة وبأيّ معنى

تفضّل ملحدين على علي

علي أعظم الثقلين حقّاً

وأفضلهم سوى حق النبي(1)

ومن شعره قاله في أهل البيتعليهم‌السلام هذه الأبيات:

إن مال ذو النصب إلى جانب

ملت مع الشيعي في جانبِ

أكون في آل بني الهدى

خير بني من بني غالبِ

حبهم فرض نؤدّي به

كمثل حج لازم واجب(2)

وهذا الشعر صريح في ولائه لأهل البيتعليهم‌السلام وتقديمه بالفضل على غيرهم.

وروى له الصولي هذه الأبيات في الإمام عليعليه‌السلام :

ألام على حب الوصي أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السر والعلن

ولولاه ما عدت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تقضي وتمتهن

فولى بني العباس ما اختص غيرهم

ومن منه أولى بالتكرّم والمنن

فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيد الله جوداً على اليمن

وقسم أعمال الخلافة بينهم

فلا زال مربوطاً بذا الشكر مرتهن(3)

وحكى هذا الشعر الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الأسرة العباسية حينما ولي الخلافة فقد قلد ولاية (البصرة) إلى عبد الله بن العباس، وكان وزيره ومستشاره الخاص، كما قلد عبيد الله بن العباس ولاية اليمن، ولكن الأسرة العباسية قد تنكرت لهذا المعروف فقابلت أبناء الإمام بالقتل والتنكيل وارتكبت معهم ما لم ترتكبه معهم الأسرة الأموية وقد أوضحنا في

____________________

(1) المحاسن والمساوئ 1 / 105 للبيهقي.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

(3) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٨

هذا الكتاب جوانب كثيرة من اضطهادهم للسادة العلويين، فلم يرعوا فيهم أنّهم أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم وديعته في أمته، فعمدوا إلى قتلهم تحت كل حجر ومدر.

ونسب إلى المأمون هذان البيتان:

إذا المرجّى سرّك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدّد عنده ذكرى عليٍّ

وصلِّ على النبي وآل بيته

فردّ عليه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرّك أن يبوح بذات نفسه

فصلّ على النبي وصاحبيه

وزيريه وجاريه برمسه(1)

ومن الطريف ما ذكره الصولي أنّه كان مكتوباً على سارية من سواري جامع البصرة:

(رحم الله عليّا

إنّه كان تقيّا)

وكان يجلس إلى تلك السارية حفص أبو عمر الخطابي وكان أعور فعمد إلى محو ذلك، وكتب بعض المجاورين إلى الجامع إلى المأمون يخبره بمحو الخطابي للكتابة، فشقّ على المأمون ذلك، وأمر بإشخاصه إليه، فلمّا مثل عنده قال له:

(لم محوت اسم أمير المؤمنين من السارية؟).

فقال الخطابي: (وما كان عليها؟).

قال المأمون: كان عليها:

(رحم الله عليّا

انه كان تقيّا)

فقال: إنّ المكتوب رحم الله عليا إنّه كان نبيّا، فقال المأمون كذبت، بل كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقاً لأدبتك، ثم أمر بإخراجه(2) .

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 329.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

٢٢٩

انتقاصه لمعاوية:

واستدلّ القائلون بتشيّع المأمون إلى أنّه أمر بسب معاوية بن هند وانتقاصه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد أمر أن ينادي المنادي (أن برئت الذمّة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) .

وهذا لا يصلح دليلاً على تشيّع المأمون؛ لأنّ معاوية قد انكشف، وظهر واقعه، فقد تسالمت على قدحه جميع الأوساط، وأنّه الخصم اللدود للإسلام، وأنّه صاحب الأحداث والموبقات.

استدلاله على إمامة الإمام علي:

ومن أهم ما استدل به القائلون على تشيّع المأمون عقده للمؤتمرات العلمية، واستدلاله ببالغ الحجة على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وانه القائد الأول للمسيرة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أولى بمقامه، وأحق بمركزه من غيره.

ومن أروع المؤتمرات التي أقامها المأمون في بلاطه، ومن أكثرها أهمية هذا المؤتمر الذي حضره أربعون من علماء الحديث، وعلماء الكلام انتخبهم يحيى بن أكثم من بين علماء بغداد، وقد أدلوا بحججهم على ما يذهبون إليه من تفضيل الخلفاء على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلاّ أنّ المأمون فنّد حججهم بأدلة حاسمة دلّت على براعته واطلاعه الواسع في البحوث الكلامية، ونحن ننقل النص الكامل لهذه المناظرة الرائعة لما لها من الأهمية البالغة، وفيما يلي ذلك:

المأمون:

ولـمّا مثل العلماء أمام المأمون، التفت إليهم بعد ترحيبه بهم، فقال لهم: (إنّي أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي حجّة، فمن كان حاقناً(2) أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته، وانبسطوا، وسلوا خفافكم، وضعوا أرديتكم).

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 361.

(2) الحاقن: الذي يضايقه البول.

٢٣٠

ففعلوا ما أمرهم به، والتفت المأمون لهم قائلاً: (أيّها القوم إنّما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله تعالى، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم، وإمامكم، ولا يمنعكم جلالتي، ومكاني من قول الحق حيث كان، ورد الباطل، على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من النار، وتقرّبوا إلى الله تعالى، برضوانه، وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق، إلاّ سلّطه الله عليه، فناظروني بجميع عقولكم.

إنّي رجل أزعم أنّ عليّاًعليه‌السلام خير البشر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي، وإن كنت مخطئاً فردّوا عليّ وهلمّوا، فإن شئتم سألتكم، وإن شئتم سألتموني...).

وليس في هذا الكلام أي التواء، أو خروج عن المنطق، وإنّما صاحبه يريد الحقيقة الناصعة.

علماء الحديث:

وسارع علماء الحديث قائلين: (بل نحن نسألك...).

وانبرى المأمون فأرشدهم إلى طريق الحوار قائلاً: (هاتوا وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم، فإذا تكلّم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزده وإن أتى بخلل فسدّدوه...)

الدليل الأوّل:

وأدلى عالم من علماء الحديث بحجّته على أنّ أبا بكر هو خير هذه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً:

(نحن نزعم أنّ خير الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر، من قبل الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول (ص) قال: (اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنّه لم يأمر بالاقتداء إلاّ بخير الناس...).

جواب المأمون:

وناقش موضوع الحديث المنسوب إلى النبي (ص) نقاشاً موضوعياً فقال: (الروايات كثيرة، ولا بد من أن تكون كلها حقاً، أو كلها باطلاً، أو بعضها

٢٣١

حقاً، وبعضها باطلاً، فلو كانت كلها حقاً، كانت كلها باطلاً من قبل أن بعضها ينقض بعضها، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين، ودرس الشريعة(1) فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار، وهو أنّ بعضها حق، وبعضها باطل، فإذا كان كذلك فلا بد من دليل على ما يحق منها، ليعتقد، أو ينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً كان أولى ما اعتقده، وأخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الحكماء، وأولى الخلق بالصدق، وأبعد الناس من الأمر بالمحال، وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.

وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر، والدليل على اختلافهما، أنّ أبا بكر سبى أهل الردة، وردّهم عمر أحراراً، وأشار عمر بعزل خالد لقتله مالك بن نويرة فأبى أبو بكر عليه، وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر، ووضع عمر ديوان العطية، ولم يفعله أبو بكر، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر، ولهذا نظائر كثيرة...).

وردّ المأمون وثيق للغاية، فقد زيف الحديث، وأثبت أنّه من الموضوعات، ولا نصيب له من الصحّة.

الدليل الثاني:

وانبرى عالم آخر من علماء الحديث فاستدل على أفضلية الشيخين وتقدّمهما على الإمام أمير المؤمنين بالحديث المنسوب إلى النبي (ص).

قال: (إنّ النبي (ص) قال: لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً...).

جواب المأمون:

وزيف المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل من قبل أنّ رواياتكم قد صرّحت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، آخى بين أصحابه، وأخّر عليّاً

____________________

(1) أي إماتة الشريعة.

٢٣٢

عليه‌السلام ، فقال له: في ذلك فقال: وما أخرّتك إلاّ لنفسي، فأيّ الروايتين ثبتت بطلت الأخرى...).

إنّ مناقشة المأمون للحديث مناقشة موضوعية ليس فيها أي تحيّز، وإنّما كانت خاضعة للدليل الحاسم.

الدليل الثالث:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ عليّاًعليه‌السلام قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر...).

مناقشة المأمون:

وناقش المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل لأنّ النبي (ص) لو علم أنّهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ومرة أسامة بن زيد، وممّا يكذب هذه الرواية قول علي لـمّا قبض النبي (ص): وأنا أولى بمجلسه منّي بقميصي، ولكن أشفقت أن يرجع الناس كفّاراً، وقولهعليه‌السلام : أنّى يكونان خيراً مني؟ وقد عبدت الله قبلهما، وعبدته بعدهما، وأبطل المأمون الحديث، وبين زيفه، فلم يصلح لأن يكون دليلاً للخصم.

الدليل الرابع:

وقال عالم من علماء الحديث: إنّ أبا بكر أغلق بابه وقال: هل من مستقيل فأقيله، فقالعليه‌السلام : قدّمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمَن ذا يؤخرك؟).

ردّ المأمون للحديث:

ورد المأمون الحديث قائلاً: هذا باطل لأنّ عليّاًعليه‌السلام قعد عن بيعة أبي بكر، ورويتم أنّه قعد عنها حتى قبضت فاطمةعليها‌السلام ، وأنّها أوصت أن تدفن ليلاً لئلاّ يشهدا جنازتها.

ووجه آخر وهو أنّ النبي (ص) لو كان استخلفه فكيف كان له أن يستقيل، وهو يقول للأنصار: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر...).

الدليل الخامس:

وقال عالم آخر: إنّ عمرو بن العاص قال: يا نبي الله مَن أحب الناس إليك

٢٣٣

من النساء؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها...).

ردّ المأمون:

ورد المأمون هذا الحديث فقال: هذا باطل لأنّكم رويتم أن النبي (ص) وضع بين يديه طائر مشوي، فقال: اللّهمّ ايتني بأحبّ خلقك إليك، فكان عليّاً، فأي رواياتكم تقبل؟).

إنّ حديث الطائر المشوي مجمع عليه، وهو يدل بوضوح على أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ الخلق عند الله، وأقربهم إليه.

الدليل السادس:

وانبرى عالم آخر فقال: (إنّ عليّاً قال: مَن فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري...).

جواب المأمون:

وأجاب المأمون عن هذا الحديث المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله:

(كيف يجوز أن يقول علي: أجلد الحد على مَن لا يجب حد عليه، فيكون متعدّياً لحدود الله، عاملاً بخلاف أمره، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية، وقد رويتم عن إمامكم أنّه قال: وليتكم ولست بخيركم، فأي الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه، أو علي على أبي بكر، مع تناقض الحديث في نفسه، ولا بد له من أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان صادقاً فأنّى عرف ذلك بوحي؟ فالوحي منقطع أو بالتظنين فالمتظنّي متحيّر، أو بالنظر، فالنظر بحث وإن كان غير صادق، فمن المحال أن يلي أمر المسلمين، ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذاب...).

الدليل السابع:

وقال عالم آخر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا الحديث محال لأنّه لا يكون في الجنة كهل، ويروى أن (أشحمية) كانت عند النبي (ص) فقال: لا يدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها

٢٣٤

النبي (ص): إنّ الله تعالى يقول:( أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُباً أَتْرَاباً ) (1) فإن زعمتم أنّ أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة، فقد رويتم أنّ النبي (ص) قال للحسن والحسين: إنّهما سيّدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين وأبوهما خير منهما).

ومناقشة المأمون للحديث مناقشة منطقية غير خاضعة للأهواء والتيارات المذهبية.

الدليل الثامن:

وقال عالم آخر من علماء الحديث: (إنّ النبي (ص) قال: لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر...).

جواب المأمون:

قال المأمون في تفنيد هذا الحديث: هذا محال لأنّ الله تعالى يقول:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (2) ، وقال تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (3) ، فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوّة مبعوثاً؟ ومن أخذ ميثاقه على النبوّة مؤخراً؟...).

إنّ مناقشة المأمون لهذه الأحاديث مبنيّة على الفكر والمنطق وليس فيها ما يشذ عنهما.

الدليل التاسع:

وانبرى عالم آخر فأدلى بحجّته قائلاً: (إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم، فقال: إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة، وبعمر خاصة...).

جواب المأمون:

وقال المأمون في ردّه على هذا الحديث: هذا مستحيل لأنّ الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة.

وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم أنّ النبي (ص) قال: دخلت الجنة

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 35 - 37.

(2) سورة النساء: آية 163.

(3) سورة الأحزاب آية 7.

٢٣٥

فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة، فقلتم: عبد أبي بكر خير من الرسول (ص) لأنّ السابق أفضل من المسبوق...).

الدليل العاشر:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ النبي (ص) قال: لو نزل العذاب ما نجا إلاّ عمر بن الخطاب...).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضاً؛ لأنّ الله تعالى يقول لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (1) فجعلتم عمر مثل الرسول (ص)!!...).

الدليل الحادي عشر:

وقال محدث آخر: لقد شهد النبي (ص) لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة.

مناقشة المأمون:

قال المأمون: لو كان كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك بالله أمن المنافقين أنا؟ فإن كان قد قال له النبي: أنت من أهل الجنة، ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة، فصدق حذيفة، ولم يصدق النبي (ص) فهذا على غير الإسلام، وإن كان قد صدق النبي (ص) فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما).

الدليل الثاني عشر:

وقال عالم آخر: قال النبي (ص): (وضعت في كفّة الميزان ووضعت أمّتي في كفة أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم، ثم عمر فرجح بهم ثم رُفع الميزان).

جواب المأمون:

وفنّد المأمون هذا الحديث فقال: هذا محال لأنّه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنّه محال؛ لأنّه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد فكيف بما ليس؟.

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم:

____________________

(1) سورة الأنفال: آية 33.

٢٣٦

(أخبروني بماذا يتفاضل الناس؟).

وانبرى بعض العلماء فقال: (يتفاضلون بالأعمال الصالحة).

وعلّق المأمون على هذا الكلام قائلاً: (أخبروني ممّن فضل صاحبه على عهد النبي (ص)، ثم إنّ المفضول عمل بعد وفاة الرسول (ص) بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي (ص) ثم أيلحق به؟ فإن قلتم: نعم أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً، وحجّاً، وصوماً، وصلاة، وصدقة من أحدهم...).

فانبروا جميعاً قائلين: (صدقت لا يلحق فاضل دهرنا بفاضل عصر النبي (ص)).

فقال لهم المأمون: (انظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل عليعليه‌السلام وقيسوا إليها ما ورد في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم، وإن كانوا قد رووا في فضائل عليعليه‌السلام أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تتعدّوه...).

وحار القوم في الجواب، فقد سدّ عليهم المأمون كل ثغرة يسلكون فيها للدفاع عمّا يذهبون إليه، والتفت إليهم المأمون قائلاً:

(ما لكم سكتّم؟...).

فقالوا: (قد استقصينا)، إذ لم تبق عندهم حجّة يتمسّكون بها، فقال لهم المأمون: (إنّي سائلكم، أخبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...).

فقالوا جميعاً: (السبق إلى الإسلام؛ لأنّ الله تعالى يقول:( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ...).

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

٢٣٧