هوية التشيع

هوية التشيع25%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39606 / تحميل: 7813
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الفصلُ الثالث

لِماذا تُنْسَبُ الشِيعةُ لابنِ سَبَأ؟

في الإِجابة على هذا السؤال يكمُن مركز الثقل في قصة عبد الله بن سَبَأ كلّها؛ فإنّ الفكر الشيعي في الإِمامة، وما يَلحَق بها، والمواقف المُتساجِلة بين فِرَق المُسلِمينَ مِن الشيعة وغيرهم، إذا شُدَّت إلى جَذرها مِن أدلّتها مِن الكتاب والسُنّة، فقد يَختلُّ الميزان؛ لأنّ فكرة الوصيَّة والعِصمة وغيرهما تُبعِد عن الحُكم - في نَظَر الشيعة - مَن لا تتوفَّر فيه هذه الشُروط، وتلك هي الطامَّة الكُبرى، وأيُّ فِكر أخطر مِن هذا الفكر؟

فَلِمَ لا يُربَط فِكر الشيعة بجذر يهوديٍّ، وتُختَرع له شخصيّة تكون كبش الفداء، فَيُلقى اللومُ عليها، وعلى الّذين أخذوا عنها، ويُشارُ إليهم بأنّهم: مارقون ألغَموا تاريخ الأُمّة، ودسّوا في عقائدها عقائد غريبة عن الإِسلام، وهكذا صَنع عبد الله بن سَبَأ، ولو كان صُنعه على حساب الحقيقة، وعلى رَغْمِ أنف العُقول والمقاييس.

وبالإِضافة لِما ذكرنا، هُناك سَبَب آخر، دفع إلى خلق عبد الله بن سَبَأ، أشار إليه الدكتور أحمد محمود صُبحي، وذلك بعد أن استعرض آراء الدكتور طه حسين في وهميّة وجود عبد الله بن سَبَأ، قال الدكتور أحمد صبحي:

ويبدو أنّ مُبالغة المؤرِّخين، وكُتّاب الفِرق في حقيقة الدور الذي قام به ابن سَبَأ يرجع إلى سَبَب آخر غير ما ذكره الدكتور طه حسين، فَلَقَد حَدَثَت في الإِسلام أحداث سياسيّة ضخمة كمقتل عُثمان، ثمّ حرب الجمل، وقد شارك فيها

١٤١

كِبار الصحابة وزوجة الرسول، وكلُّهم يتفرَّقون ويتحاربون، وكلّ هذه الأحداث تَصدِم وجدان المُسلِم المتتبِّع لتاريخه السياسي، أن يبتلي تاريخ الإِسلام هذه الابتلاءات، ويشارك فيها كِبار الصحابة الّذين حاربوا مع رسول الله (ص)، وشاركوا في وضع أُسس الإِسلام، كان لا بُدَّ أن تلقى مسؤوليّة هذه الأحداث الجِسام على كاهل أحَد، ولم يكن مِن المعقول أن يَتحمَّل وزر ذلك كُلّه صحابةٌ أجِلاّء أبلوا مع رسول الله (ص) بلاءً حسناً، فكان لا بُدَّ أن َيقع عبء ذلك كُلّه على ابن سَبَأ، فهو الذي أثار الفِتنة التي أدت لقتل عُثمان، وهو الذي حَرَّض الجيشين يوم الجَمَل على الالتحام على حين غفلة مِن عليٍّ وطلحة والزُبير، أمّا في التاريخ الفكري، فعلى عاتقه يَقع أكبر انشقاق عقائديّ في الإِسلام بظهور الشيعة، هذا هو تفسير مُبالغة كُتّاب الفِرق، وأصحاب المذاهب لا سيَّما السلفيين والمؤرِّخين في حقيقة الدور الذي قام به ابن سَبَأ. ولكن أليس عجيباً أيضاً أن يعبث دَخيل في الإِسلام كلّ هذا العَبث، فيحرِّك تاريخ الإِسلام السياسي والعقائدي على النحو الذي تمَّ عليه، وكبارُ الصحابة شُهود؟! (١) .

وبعد هذه الإلمامة بمُلابسات موضوع عبد الله بن سَبَأ التي انتهينا مِنها إلى مَسكِ طَرَف الخيط فيما نظنُّ، ألا وهو رَبط عقائد الشيعة بعبد الله بن سَبَأ، وما أسندوه إليه مِن عقائد الشيعة، ولنتبيّن مصدرها الإِسلامي. وبذلك نكتفي عن الإِصرار على وجود ابن سَبَأ أو عدم وجوده؛ لأنّه قد ثَبَت أنّ هذه العقائد مصدرها الإِسلام، فلا يبقى بعد ذلك قيمة لِعدم وجود ابن سَبَأ أو لوجوده، لنبدأ مِن ذلك بموضوع الوصية.

١ - الإِمامُ عليّ وصيّ النبيّ (ص):

قُلنا فيما سَبق، إنّ مِن أحكام الإِسلام: ضرورة أن يوصي الإِنسان قَبلَ موته بما يُريد التصرُّف به بعد موته فيها يملك مِن أُمور ماديَّة، وذكرنا أنّ سيرة النبيّ (ص) أنّه كان لا يَخرج مِن المدينة في سَفَرٍ - ولو ليوم واحد - حتّى يَستخلِف على

____________________

(١) نَظريّة الإِمامة: ص٣٩.

١٤٢

المدينة، فكيف يترك أمر هذه الأُمّة مِن بعده سدى، ويُعرِّضها إلى الفِتن دون أن يوصي أو يُرشِّح للأمر شخصاً مِن بعده؟!

وبما أنّ هذه المسألة قد أشبعتها أقلام الباحثين مِن مُختَلَف الفِرق الإسلاميّة، فلا أُريد العودة إلى ما دار حولها، وكلّ ما يعنيني هُنا أن أُبيّن: أنّ مسألة الوصيّة مصدرها القرآن والسُنّة، أمّا القرآن: فَقد أشرك عليّاً بالولاية العامَّة، وجعل إمامته امتداداً للنُبوَّة حين تُختَم النُبوّة بموت الرسول، فقال تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وقد ذكرنا نُزول هذه الآية في عليٍّ (ع)، وما يترتَّب عليها مِن لَوازم في مكان آخر مِن هذا الكِتاب. وأمّا السُنّة الشريفة: فإنّ الروايات المُعتبرة متظافرة بأنّ رسول الله (ص) نصَّ على عليٍّ بالوصيّة في أكثر مِن مَورد، ومِن تلك الموارد:

لَمّا نَزل عليه قوله تعالى: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) الشُعراء: ٢١٤، فجمع أقاربه، وعَدَدُهم أربعون على فَخِذ شاة، وطلب مِنهم أن يؤازروه على الدعوة، فلم يَقُم إليه إلاّ عليّ، فأخذ برقبته وقال: ( هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكُم، فاسمِعوا له وأطيعوا ) (١) ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تَسمع لابنك وتطيع.

هذا، وقد ذكر ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة فصلاً مُمتِعاً في موضوع وصاية الإِمام عليّ (ع) للنبي، وأشبَع الموضوع، وبوسع القارئ الرُجوع إليه.

وها أنت قد سمعت أن الوصية جاءت على لسان النبيّ (ص) لفظاً ومعنى، ومع ذلك تَرى هؤلاءِ يَقولون: إنّ موضوع الوصيّة اخترعه عبد الله بن سَبَأ، وسَتَسمع لو قلت لهم: إنّ الوصيّة لها مصادرها مِن السُنّة، مَن يقول لك هذه أحاديث دسّها الشيعة على لِسان السُنّة.

٢ - العِصمَة:

موضوع العصمة، موضوع مُهمّ في الفكر الشيعي خاصّة، والإِسلامي عامّة

____________________

(١) انظر تاريخ الطبري: ٢/٢١٦، وتاريخ ابن الأثير: ٢/٢٨، وتفسير الدرّ المنثور للسيوطي: ٤٥/٩٧ طبعة أوفست.

١٤٣

وسأضطرّ للإِطالة فيه؛ لأنّه يرتبط بأُمور هامّة، لا بُدَّ مِن التَعرُّف عليها.

فالعصمة لُغة: هي المَنع، ومنه قوله تعالى: ( قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ) سورة هود: ٤٣.

أمّا في الإِصلاح الكلامي، فالعصمة: لطفٌ يفعله الله تعالى بالمكلّف لا يكون مَعه داعٍ إلى ترك الطاعة، وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك (١) .

وواضح مِن هذا التعريف أنّ العصمة لا إلجاء فيها، وإنّما هي مُجرّد مدد مِن الله تعالى، واستعداد مِن العبد، فهي أشبه شيءٍ بأُستاذ يُقبِل على تِلميذه؛ لأنّه وجد عند التلميذ استعداداً أكثر مِن غيره لتلقّي العِلم.

وقد أجمعت الأُمّة الإسلاميّة على عِصمة الأنبياء عن تَعمُّد الكَذب فيما يُبلِّغونه عن الله تعالى، واختلفوا بعد ذلك في صدور ما يُنافي العِصمة مِنهم على سبيل السَهو أو النسيان، سواء كانت أدلتهم في ذلك سمعيّة أو عقليّة على صُدور أو عدم صُدور ما يُنافي العِصمة، ذهب بعض أئمَّة السُنّة إلى جواز وقوع كلّ ذَنب مِنهم، صغيراً كان أو كبيراً حتّى الكُفر.

وبوسع القارئ الرجوع إلى آراء الباقلاّني، والرازي، والغزالي مُفصَّلاً في نَظريّة الإِمامة (٢) ، بينما البعض الآخر فَصَّل في ذلك، ولم يصل إلى هذا الحدّ في تجريدهم مِن العصمة.

أمّا الشيعة، فقد ذهبوا إلى عصمة الأنبياء مُطلقاً، قبل البعثة وبعدها (٣) ، وقد ساقوا لذلك أدلّة كثيرة.

وقد تَعرّض الفخر الرازي في كتابه عصمة الأنبياء، وكذلك الشيخ المجلسي في البحار مُفصِّلاً لذلك.

والذي يهمّني هُنا عصمة الأئمّة؛ لأنّها موضع البحث.

إنّ عصمة الأئمّة أمرٌ مفروغ عند الشيعة، وقد أثبتها الشيعة للإِمام بأدلّة مِن العقل والنقل، أقتصر على ذكر بعضها، وبوسع طالب المزيد أن يَرجع إلى الكتب والبحوث المطوّلة في ذلك.

____________________

(١) توفيق التطبيق للكيلاني: ص١٦.

(٢) نَظريّة الإِمامة: ص١١١ و١١٢.

(٣) معالم الفلسفة لمُغنيّة: ص١٩٣.

١٤٤

عِصمّة الأئمّة وأدِلَّتِها العَقْلِيّة

١ - الدليل الأوّل:

يقول العَلاّمة الحلّي في كتابه الألفين: المُمكنات تحتاج في وجودها وعدمها إلى عِلّة ليست مِن جنسها، إذ لو كانت مِن جِنسها لاحتاجت إلى عِلّة أُخرى واجبة غير مُمكنة، كذلك الخطأ مِن البشر مُمكن، فإذا أردنا رَفع الخطأ الممكن، يجبُ أن نرجع إلى المُجرَّد مِن الخطأ، وهو المعصوم. ولا يمكن افتراض عدم عِصمته؛ لأدائه إلى التسلسُل أو الدور.

أمّا التَسلسُل: فإنّ الإِمام إذا لم يكن مَعصوماً، احتاج إلى إمام آخر؛ لأنّ العلّة المحوجة إلى نَصبه هي جواز الخطأ على الرعيّة، فلو جاز عليه الخطأ لاحتاج إلى إمام آخر، فإن كان معصوماً، وإلاّ لَزم التسلسل.

وأمّا الدور: فلِحاجَة الإِمام - إذا لم يكن معصوماً - للرعيّة؛ لتردَّه إلى الصواب مع حاجة الرعية للإِقتداء به (١) .

٢ - الدليل الثاني:

يقول الشيعة: إنّ مفهوم الإِمام يتضمَّن معنى العِصمة؛ لأنّ الإِمام لُغة: هو المُؤتّم به كالرداء اسم لِما يُرتَدى به. فلو جاز عليه الذنب، فَحال إقدامه على الذنب إمّا أن يُقتدى به أو لا، فإن كان الأوّل: كان الله تعالى قد أمرَ بالذنب، وهذا مُحال، وإن كان الثاني: خرج الإِمام عن كونه إماماً، فيستحيل رفع التناقض بين وجوب كونه مُؤتّماً به، وبين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، إلا بتصوّر أنّ العِصمة مُتَضَمَنة في مَفهوم الإِمام، ولازِمَة لوجوده (٢) .

____________________

(١) الألفين للعلاّمة الحلّي: ص٥٤.

(٢) الأربعين للرازي: ص٤٣٤.

١٤٥

٣ - الدليل الثالث:

الإِمام حُجّة الله في تبليغ الشرع للعباد، وهو لا يُقرّب العباد مِن الطاعة، ويُبعّدهم عن المعصية مِن حيث كونه إنساناً، ولا مِن حيث سلطته، فإنّ بعض الرُؤساء الّذين ادّعوا الإِمامة كانوا فَجَرَة لا يصحُّ الإِقتداء بهم، فإذا أمَروا بطاعة الله كانوا مصداق قوله تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ) البقرة: ٤٤.

وفي مثل هذه الحالات لا يثق المُكلّف بقولهم، وله عذره.

فثبت أنّ تقريب الناس مِن طاعة الله لا مِن حيث كون الإِمام إماماً، وإنّما مِن حيث كونه مَعصوماً حيث لا يكون للناس عُذر في عصيانه تصديقاً لقوله تعالى: ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: ١٦٥، والأئمة حُجج الله كالرُسُل، سواء بسواء؛ لأنّ الإِمام منصوب مِن قِبَلِ الله تعالى لهداية البشر (١) .

هذه ثلاثة أدلّة مِن كثير مِن الأدلّة العقليّة التي اعتمدوها في التدليل على العِصمة.

الأدِلَّةُ النَقليَّة على عِصمة الإِمام

أ - قال الله تعالى في سورة البقرة، الآية: ١٢٤ لنبيه إبراهيم: ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) دَلّت هذه الآية على العصمة؛ لأنّ المُذنب ظالم ولو لنفسه لقوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) فاطر: ٣٢.

ب - قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) النساء: ٤٩، والدليل فيها: أنّ أُولي الأمر الواجب طاعتهم يجب أن تكون أوامرهم موافقة لأحكام الله تعالى؛ لتجب لهم هذه الطاعة، ولا يتسنّى هذا إلاّ بعصمتهم؛ إذ لو وقع الخطأ مِنهم لوجب الإِنكار عليهم، وذلك يُنافي أمر الله بالطاعة لهم (٢) .

____________________

(١) نهاية الإِقدام للشهرستاني: ص٨٥.

(٢) كشف المُراد للعلاّمة الحلّي: ص١٢٤.

١٤٦

ج - ذَهَبت الآية الثانية والثلاثين مِن سورة الأحزاب إلى عصمة أهل البيت الّذين نَزلت فيهم، وهي قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، فبعد إثبات نُزولها في أهل البيت، الذي نصَّ عليه كلٌّ مِن الإِمام أحمد في مُسنده، ومستدرك الصحيحين، والدر المنثور، وكَنز العُمّال، وسُنن الترمذي، وتفسير الطبري، وخصائص النِسائي، وتاريخ بغداد، والاستيعاب لابن عبد البر، والرياض النَضِرة للمحب الطبري، ومُسند أبي داود وأُسد الغابة، جميع هؤلاءِ قالوا إنّها نَزلت في النبيّ (ص) وعليّ (ع) وفاطمة والحسن والحسين (ع) (١) .

ويتساءل العلماء عن معنى ذهاب الرجس؛ لينتهوا إلى أنّه نَفيُ كلّ ذنب وخطأ عنهم، والإِرادة هُنا تكوينيّة لا تشريعيّة؛ لوضوح أنّ التشريعيّة مُرادة لكلّ الناس. ولا يَلزم منه الإِلجاء؛ لما سبق أن ذكرناه مِن أنّ العصمة مَدَدٌ مِن الله تعالى، واستعداد مِن العبد.

هذه بعض أدلّة الشيعة في العِصمة، وهي كما ترى مُنتَزعة مِن الكتاب والسُنّة والعقل، فما وجه نِسبتها إلى عبد الله بن سَبَأ؟ وأين موضع الصدق مِن تلك النسبة؟

إنّ القارئ مِن حقِّه أن يسأل هؤلاءِ الكُتّاب: هل اطّلَعوا على مَصادر الفِكر الشيعي عندما كَتبوا عن الشيعة أو لا؟

فإن كان الأوّل، فما معنى هذا الخبط، وهذه النِسب الباطلة؟ وإن كان الثاني، فما هو المُبرِّر لَهُم للخوض في أُمور لم يَطَّلعوا عليها؟ أليس لهم رادع مِن مقاييس الأدب الإِسلامي، الذي رسمه الله تعالى بقوله: ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) الإسراء: ٣٦، وفي الوقت ذاته إنّ المنهج العِلمي يأبى عليهم هذه التَخرُّصات، ونسبة الأشياء إلى غير مصادرها.

إذاً ففكرة العصمة حتّى ولو كانت أدلّتها غير ناهضة، فلا يَجوز أن تُنحى عن مصدرها، وتُنسب إلى شخصيَّة وهميّة خلقها الحِقد، وافتعلها الهوى.

____________________

(١) انظر فضائل الخمسة مِن الصحاح السِتّة: ٥/ ٢١٩ فصاعداً.

١٤٧

مَوقِفُ السُنّة مِن العِصمَة

قَبل الدُخول بالموضوع، أُلفت النَظَر إلى قصّة تُحكى، ولها دلالتها في موضوعنا وهي: إنّ شخصاً مَدينَاً جُلِب إلى الحاكم، فسأله الحاكم: هل أنت مَدين لهذا المُدّعي؟ قال: نعم، أنا مَدين ولكنّي مُنكر للدَّين.

إنّ هذه القُصّة تشبه تماماً موقِف مَن يُنكر علينا القول بالعصمة، وفي الوقت ذاته يقول بها. على أننا إنّما نَشتَرط العِصمة في الإِمام؛ لضمان وصول أحكام وعقائد صحيحة، ولضمان اجتناب المُفارقات التي قد تنشأ مِن كون الإِمام غير معصوم، ولا نريد مِن العصمة أن تكون وِساماً نَضعه على صُدور الأئمّة، فإنّ لهُم مِن فَضائلهم ما يَكفيهم، كما إنّنا لا نَسبح في بحر مِن الطوبائيّة؛ لأننا نعيش دُنيا الواقع بكلّ مُفارقاتها.

إنّنا مِن وراء القول بالعصمة نربأ بالإِمام أن يكون مِن سِنخ مَن نراهم مِن الناس؛ لأنّه لو كان مِن نفس السِنخ والسلوكيّة، فما هي ميزته حتّى يَحكم الناس، وفي الناس مَن هو أكثر مِنه استقامة ومؤهّلات وقابليّة.

تلك هي الأُمور التي نريدها مِن وراء العصمة، لا أنّ المعصوم مِن نوع آخر غير نوع الإِنسان كما قد يَتصوّر البعض. فالعصمة في نظرنا: ضابط يُؤدّي إلى حِفظ شريعة الله تعالى نظريّاً، وصيانتها مِن البعث تطبيقيّاً، وأساطين السُنّة يذهبون لِمثل ذلك، ولكنّهم في الوقت نفسه يُنكرون علينا القول بها، وإليك نَماذج مِن أقوالهم؛ لتعرف صحّة ما نسبناه لهم:

١ - الرازي:

يذهب الرازي - في مَعرض ردِّه على عصمة الإِمام عند الشيعة - إلى أنْ لا حاجة إلى إمام مَعصوم، وذلك لأنّ الأُمّة حال إجماعها تكون مَعصومة؛ لاستحالة اجتماع الأُمّة على خطأ بمقتضى حديث رسول الله (ص): (لا تجتمع أُمّتي على

١٤٨

ضلالة) (١) .

ومع غضِّ النظر عن صحَّة وعدم صحَّة هذا الحديث، نسأل: هل مِثل هذا الإِجماع مُمكن بحيث يَضمُّ كلَّ مُسلِم في شرق الأرض وغربها؟.

قد يكون الجواب: إنّ المُسلِمينَ يُمثّلون في هذا الإِجماع بأهل الحلِّ والعقد.

وهنا نسأل: مَن هُم؟ وما عددهم؟ وهل هم محصورون في مكان مُعيّن؟ وما الدليل على ذلك؟

ثمّ نسأل: هل المجموع إلاّ ضَمُّ فَرد إلى فرد؟ فإذا جاز الخطأ على الأفراد، جاز على المجموع المُكوَّن مِن الأفراد.

إنّ الإِمام ابن تيميّة يُجيبُ على ذلك بأنّه: لا يَلزم أن يخطأ المجموع إذا أخطأ الأفراد؛ لأنّ للجمع خاصيّة لا توجد في الأفراد، ومَثَلُها مَثَلُ اللُقمة الواحدة لا تُشبع، ومجموع اللُقم يُشبع، والعصا الواحدة تُكسَر في حين مجموع العصيّ لا يُكسَر. إلى أن يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد) (٢) .

وما أدري ما هو وجه الشبه بين كون اللُقَم تُشبع بعكس اللُقمة الواحدة، وبين كون المجموع يَعصِمُ، والأفراد لا تَعصِم؟ وذلك لأنّ اللُقمة تحمل قابليّة الإِشباع بِنسبة مُعيّنة، فإذا ضُمَّت إلى مِثلِها اجتمعت هذه الأفراد مِن قابلية الإِشباع فكوّنت إشباعاً كاملاً، وكذلك العصا تَحمل نِسبة مِن القوَّة، فإذا ضُمَّت لمثلها كوَّنت قوَّة كافية. وأين هذا مِن الفرد المُخطئ؟ فإنّه لا يكوِّن نسبة مِن الصِحّة إذا ضُمَّت لغيرها كَوَّنت مجموعاً صحيحاً، بل بالعكس فالفرد يُمثِّل هُنا نِسبة مِن الخطأ، إذا ضُمَّت لمثلها تَضاعَف الخطأ وكوّن خطأً كبيراً.

إنّ هذا القياس مع الفارق، هذا مِن ناحية، ومِن ناحية أُخرى فإنّ ابن تيميّة لم يَنفِ فِكرة العِصمة، وإنّما نفى أن يكون لواحد ليس إلاّ، فكأنّ العُقدة أن تكون لواحد، أمّا لو نُسِبَت لجماعة فلا إشكال، ومِن ناحية ثالثة: إنّه إنّما اشترط العصمة للأُمّة مِن أجل الثقة وضمان سلامة الأحكام، وهو عين الهَدف الذي تذهب إليه الشيعة، وأنا أنقل لك رأيه مُفصّلاً:

____________________

(١) المُستصفى، مبحث أركان الإِجماع.

(٢) نَظريّة الإِمامة: ١١٧.

١٤٩

رأي ابن تيميّة في العِصمة

قال ابن تيميّة عند رده على الشيعة، عند قولهم: إنّ وجود الإِمام المعصوم لا بُدَّ منه بعد موت النبيّ؛ وذلك لأنّ الأحكام تتجدّد تبعاً للموضوعات، والأحوال تتغيَّر، وللقضاء على الاختلاف في تفاسير القرآن، وفي فَهم الأحاديث وغير ذلك. ولو كانت عِصمة النبيّ (ص) وكمال الدين كافيين لَما حَدث الاختلاف، فثبت أنّه لا بدَّ مِن إمام مَعصوم يُبيّن لنا معاني القرآن، ويُعيّن لنا مَقاصد الشَرع كما هو مُراده إلى آخر ما ذكروه في المقام، فقال ابن تيميّة: لا يُسلّم أهل السُنّة أن يكون الإِمام حافظاً للشَرع بعد انقطاع الوحي؛ لأنّ ذلك حاصل للمجموع، والشَرع إذا نَقله أهلُ التواتُر كان ذلك خيراً مِن نقل الواحد، فالقُرّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدثون معصومون في حفظ الأحاديث وتبليغها، والفُقهاء مَعصومون في الكلام والاستدلال (١) .

ويختلف هُنا ابن تيميّة عن الرازي، فإذا كانت العِصمة عند الرازي لمجموع الأُمّة، فهي عند ابن تيميّة لجماعة مِن الناس كالقرّاء والفقهاء والمُحدّثين. وهنا يَشترط ابن تيميّة العصمة؛ لضمان حِفظ مضمون الشريعة كما هو الحال عند الآخرين مِن الشيعة وغيرهم، فما الذي أجازها لمجموعة ومنعها عن فرد؟

إنّ عدد المعصومين عند الشيعة لا يَتجاوز الأربعة عَشَر، وهُم مجموعة مُنتَخبة خَصّها الله تعالى بكثير مِن الفضائل بإجماع فِرَق المُسلِمينَ، فلماذا نَستكثر عليهم العِصمة، ونجيزها لغيرهم؟ مجرد سؤال.

رأي جُمهورِ السُنّةِ في العِصمَة

يمكن القول أنّ جُمهور السُنّة يُصحّحون الحديث المرويَّ عن النبيّ (ص)، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلّم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (٢) ، ولازم هذا الحديث عِصمة الصحابة كما سَيرِد به التصريح مِن بعضهم؛ لأنّ صحَّة الإِقتداء

____________________

(١) نَظريّة الإِمامة: ١٢٠.

(٢) طبقات الفُقهاء للشيرازي: ص٣.

١٥٠

بأيٍّ مِنهم ومتابعته في الظُلم لو حصلت حال كونه مُرتكباً للذنب - وهو الحاصل مِن كونه غير معصوم - فمعناه الأمر مِن الله تعالى باتّباع العاصي والظالم ولو لنفسه، وإذا لم يُتابع ويعمل بما أراده النبيّ، فإنّ معناه تركُ أمر القرآن؛ لأنّه قال: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (١) ، والصحابيُّ هُنا ينقل أمرَ الرسول.

فإن قُلت: إنّ الله تعالى أمَرَنا بأن نأخذ الحديث مِن العادل الثِقة لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ) الحجرات: ٦ التي دلَّت بمفهومها على حُجيّة خَبر العادل، ونحن لا نأخذ الأمر إلاّ مِن العادل مِنهم.

قُلت: إنّ ذلك يدلُّ بالمفهوم على أنّ فيهم غيرُ العادل حينئذ وهو المطلوب.

وعلى العموم، إنّ لازم الحديث المذكور عصمة الصحابة، وما سَمعنا مَن يُنكر على هؤلاءِ، فلماذا إذا قال الشيعة بعصمة أئمّتهم يُنتَقدون؟

التفتازاني والعصمة

يقول التفتازاني - وهو مِن أجلاء علماء السُنّة - في كِتابه شرح المقاصد: احتجَّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالإِجماع على إمامة أبي بَكر وعُمر وعُثمان (رض) مع الإِجماع على أنّهم لم تَجب عِصمتهم، وإن كانوا مَعصومين بمعنى أنّهم مُنذ آمنوا كان لهم مَلَكة اجتناب المعاصي مع التَمكّن مِنها (٢) ، وفي هذا النصّ أُمور:

١ - إنّ التفتازاني هُنا يُصرِّح بعصمة الخُلفاء الثلاثة.

٢ - يقول: إنّ عِصمتهم غير واجبة. بمعنى أنّهم لا يقسرون عليها، وإلاّ فلا يُتصور تَعلّق الأحكام بالأُمور التكوينيّة، وإنّما مجال الأحكام السُلوك الاختياري، والاستعداد لقبول العِصمة أمرٌ مخلوق فيهم.

٣ - مفاد كلامه: أنّ العصمة ملَكَةٌ تمنع صاحبها مِن مُقارفة الذنب لا على

____________________

(١) الحشر: ٧.

(٢) شرح المقاصد بِتوسّط الغدير للأميني: ٩/٣٧٥.

١٥١

نحو سَلب الاختيار، وهذا عين ما يقوله الشيعة في أئمتهم، وليرجع مَن شاء إلى بحث العصمة في كُتُب الكلام الشيعيّة، وعلى هذا، فلماذا هذه الجعجعة يا مسلمون؟!

شَمسُ الدين الأصفهاني ونور محمّد والعصمة

يذهب الحافظ نور محمّد وشمس الدين الأصفهاني، الأوّل في تاريخ مزار شريف، والثاني كما نَقله عنه الغدير إلى أنّ الخليفة عُثمان معصوم (١) ، وقد نَقله عن كتابه مطالع الأنظار. والرجُلان مِن علماء أهل السُنّة.

الإِيجي والعصمة

يذهب عبد الرحمان الإِيجي صاحِب كتاب المواقف في نفس الكتاب إلى عِصمة الخُلفاء، وعلى النحو الذي قال به التفتازاني فيما ذكرناه عنه، أي أنّها مَلَكة فيهم لا توجب سلب الاختيار (٢) ، وهو مِن عُلماء السُنّة، وقد كَشَفت لنا هذه الجولة، أنّ الشيعة لا ينفردون بالقول بالعِصمة، بل عُلماء السُنّة يذهبون لذلك.

إذاً فما هو وجه نِسبتها إلى عبد الله بن سَبَأ؟ وما هو وجه نقد الشيعة على القول بها؟

أنا لا أُريد أن أحُشِّد للقارئ نَقد كُتُب السُنّة ومؤلَّفيهم حول موضوع العِصمة، فإنّ كُتبهم طافحة بذلك، ولكن سأستعرض لك رأي كاتب يعيش في القرن العشرين، وفي عصر الذرَّة بالذات، وهو وأَيم الحق مِن أكثر أهل السُنّة الّذين قرأتُ لهُم اعتدالاً في الكتابة عن الشيعة، ولكن مع ذلك كُلّه تبقى الرواسب في النُفوس تعمل عَملها.

إنّي أعتقد أنّ هذا الرجل قد بحث في كُتُب الشيعة وغيرهم قبل أن يَكتُب كِتابه؛ وذلك لِما رأيت له مِن كَثرة المصادر مع افتراض أنّه اطّلع على آراء أهل السُنّة في هذه المواضيع، فلماذا الإِنكار على الشيعة دون الآخرين، وإذا كان لم يطَّلِع - وهو ما أَستبعده - فلماذا يكتب؟

____________________

(١) الغدير نفس: ٩/٣٧٥.

(٢) الغدير لأميني: ٧/١٤٠. المواقف: ص٣٩٩.

١٥٢

موقفنا مِن الغُلوِّ والغُلاة

وبعد شرح مناشئ الغُلوّ أو أهمّها نقول: إنّ الشيعة تبعاً لمواقف أئمّتهم وقفوا موقِفاً حازماً مِن الغلُوّ والغُلاة؛ فسلّطوا عليهم الأضواء وتبرّأوا مِنهم، وكافحوهم، وشهَّروا بهم، وهُم بذلك لا يتعدَّون موقف أمير المؤمنين (ع) حينما يقول: (هلك فيَّ اثنان: مُحبٌّ غالٍ، وعدوٌّ قال)، وموقف الإِمام الصادق (ع) حينما يقول: (ما نحن إلاّ عَبيد الذي خَلقنا واصطفانا، والله مالنا على الله مِن حُجّة، ولا مَعَنا مِن الله براءة، وإنّا لميّتون وموقوفون، ومسؤولون، مَن أحبَّ الغُلاة فقد أبغضنا، ومَن أبغضهم فقد أحبّنا، الغُلاة كُفّار، والمُفوّضة مُشركون، لعنَ الله الغُلاة ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدريّة ألا كانوا مُرجّئة، ألا كانوا حروريّة) (١) .

والإِماميّة لا يورثون الغُلاة، وإليك نَصّ عبارتهم في ذلك: يَرث المُحقُّ مِن المُسلِمينَ مِن مُبطِلهم، ومُبطلهم مِن مُحقِّهم ومبطلهم، إلاّ الغُلاة يرث مِنهم المسلمون، وهم لا يرثون المُسلِمينَ، كما أنّ الإماميّة لا يُغسِّلون موتى الغُلاة ولا يدفنونهم، ويُحرِّمون تزويجهم وإعطائهم الزكاة.

وتجد هذه الأحكام موزّعة في كُتُب فقه الإماميّة في أبواب الطهارة والزكاة والإِرث.

إنّ الإماميّة لا يعتبرون الغُلاة مُسلمين:

يقول الشهيدان الأوّل والثاني في اللُمعة وشرحها في باب الوقف! عنه تعريف المُسلِمينَ: والمسلمون مَن صلّى إلى القبلة، أي اعتقد الصلاة إليها، وإن لم يصلِّ لا مستحلاً، إلاّ الخوارج والغُلاة، فلا يدخلون في مََفهوم المُسلِمينَ، وإن صلّوا إليها للحُكم بكُفرهم (٢) وألحقا بهم المشبهة والمجسمة في الحكم، بل إنّ

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي: ٣/٥١.

(٢) اللُمعة الدِمشقيّة: ١/٢٨٨ طبع إيران.

١٥٣

الإِمام الصادق (ع) يعتبر الجُلوس إلى المُغالي، وتصديقه بحديثه مُخرجاً مِن الإِيمان كما روى ذلك المُفَضّل بن يزيد قال: قال لي أبو عبد الله الصادق، وقد ذكر أصحاب أبي الخطّاب والغُلاة: (لا تُقاعدوهم، ولا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصافحوهم، ولا تورثوهم)، وقال الصادق لمرازم - أحد أصحابه -: (قل للغالية توبوا إلى الله فإنّكم فُسّاقٌ مشركون) (١) .

آراء بعض الباحثين

وانطلاقاً مِن ذلك يقول الشيخ المُفيد: الغُلاة مِن المتظاهرين بالإِسلام، وهم الّذين نَسبوا أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب وذريته إلى الإلوهيّة، والنبوّة، ووصفوهم مِن الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدَّ، وخرجوا عن القصد، فهُم ضُلاّل كُفّار (٢) .

ولا أحتاج إلى حَشد النُصوص والأدلة على براءة الشيعة مِن الغُلاة، وأي موقف أشدُّ صراحةً مِن هذه المواقف التي ذكرتها.

ولا يسع مؤمناً يؤمن بالله ورسوله، ويصدر عن تعاليم الإِسلام في سلوكه، ثمّ يَنزع إلى الغلو في عقيدة أو بَشر، إلاّ مَن ضَرب الله على بصيرته.

ولأجل وضوح موقف الشيعة مِن الغُلاة انطلقت الأصوات الموضوعيّة تَشهد ببراءتهم مِن ذلك، ومِن هذه الأصوات: مؤلفو دائرة المعارف الإسلاميّة، فقد جاء في دائرة المعارف:

الزيديّة والإِماميّة الّذين يؤلّفون المذهب الوسط يحاربون الشيعة الحلوليين حرباً شعواء - الحلولي لا نعتبره مِن الشيعة كما مرَّ - ويعتبرونهم غُلاة يُسيئون إلى المَذهب، بل يعتبرونهم مارقين عن الإِسلام (٣) .

ويقول الدكتور أحمد محمود في نَظريّة الإِمامة عند ذكره للبابيّة والبهائيّة:

____________________

(١) الإِمام الصادق لأسد حيدر: ٤/١٥٠.

(٢) شرح عقائد الصدوق للشيخ المفيد: باب الغُلاة.

(٣) دائرة المعارف الإسلاميّة: ١٤/٦٣.

١٥٤

وفي البابيّة آراء غالية جعلت مِنها مذهباً منشقاً تماماً عن الإِسلام، واتّفق عُلماء الأزهر في مصر، وعُلماء الشيعة في العراق وإيران على تكفير البابيّة والبهائيّة، وأُغلق المَحفل البهائي في مصر (١) .

وقد استعرض الدكتور أحمد أمين حَرَكة الغُلاة فقال: إنّ أفراداً بُسطاء هُم الغُلاة الّذين يؤلِّهون عليّاً، وإنّ الشيعة تبرأ مِنهم، ولا يجوز عندهم الصلاة عليهم (٢) .

هذه أمثلة بسيطة في موضوع الغلوّ والغُلاة، أضعها أمام الّذين دأبوا على رمي الشيعة بالغلو، ولست أنفي أن يكون بعضَ مَن شمِله اسم الشيعة بمعنى انتمائه إلى الفِئة التي تُفضِّل عليّاً، أو قل: للتشيُّع بمعناه اللغوي قد نسبت له آراء وأقوال تُفيد الغُلوّ، وقد بادوا، وبادت معهم آراؤهم، ولا يوجد اليوم مِنهم أحد إلاّ في بُطون الكُتُب.

ومِن ذلك ما ذكره البغدادي في الفَرقُ بينَ الفِرَق حيث قال: الإماميّة مِن الرافضة، هم خمس عشرة فِرقة هي: الكامليّة، والمحمديّة، والباقريّة، والناووسيّة، والشمطيّة، والعماريّة، والإِسماعيليّة، والمُباركيّة، والموسويّة، والقطعيّة، والاثنا عشريّة، والهشاميّة، والزراريّة، واليونسيّة، والشيطانيّة (٣) .

وتعقيباً على قول البغدادي نَذكر: أن الإماميّة هُم الاثنا عشريّة، وهم جمهور الشيعة اليوم، ولا يوجد مِن الشيعة غيرهم، وغير الزيديّة والإسماعيليّة في هذه الآونة، ثمّ إنّ الاثني عشريّة الّذين هُم مدار بحثنا يمتازون عن غيرهم بعقائدهم، ولا يصحُّ أن تُنسب إليهم آراء غيرهم؛ لأنّه يجمعه معهم الاسم، وشيء آخر هو أنّ مَن ذكرهم البغدادي قد يُمثِّلون لكلِّ فرقة ذكرها بضعة أفراد ليس إلاّ، وهذا اللون مِن الخبط والتساهُل تعلّمنا أن نرى مِثله كثيراً في كِتاب الفِرَق لابن طاهر، وغيره، خذ مثلاً ما يقول ابن طاهر في كتابه الفَرقُ بينَ الفِرَق عن جابر بن يزيد الجُعفي يقول:

جابر بن يزيد الجعفي مِن المحمديّة، وهم أصحاب محمّد بن عبد الله بن الحسن ينتظرون ظهوره، وكان يقول برجعة الأموات إلى الدنيا قبل القيامة (٤) .

____________________

(١) نَظريّة الإِمامة: ص٤٣٦ هامش.

(٢) فجر الإِسلام: ص٢٣٧١.

(٣) الفَرقُ بينَ الفِرَق: ص٥٣.

(٤) الفَرقُ بينَ الفِرَق: ص٤٤.

١٥٥

ولم يكن جابر مِن أتباع محمّد بن عبد الله بن الحسن، ولا كان يقول برجعة مُطلق الأموات، وإنّما كان يقول برجعة بعض أهل البيت؛ لروايات سمِعها ليس إلاّ، وهكذا يكون التحقيق عند أمثال ابن طاهر مِن الكُتّاب، كأنّ مسألة العقائد أمرٌ بهذه السُهولة بحيث ينسب للناس ما لم يقولوه، ويرجعهم إلى فئة ليسوا مِنها.

وأعود لموضوع الغُلاة فأقول: قد اتّضح للقارئ موقف الشيعة مِن الغُلاة، ولكن مع ذلك تجد باحثاً كالزبيدي صاحب تاج العروس يُعرِّف الإماميّة في كتابه التاج فيقول: الإماميّة هُم فرقة مِن غُلاة الشيعة (١) .

وتجد الدكتور محمود حِلمي في كتابه تَطوّر المُجتمع الإِسلامي العربي يقول: وقد سُمّوا بالشيعة؛ لأنّهم شايعوا عليّاً، وقدّموه على سائر أصحاب رسول الله (ص)، واستشهد أهل الشيعة بنُصوص مِن القرآن الكريم، فسروها على حسب نظريّتهم، وغالى بعضُ الشيعة في تبرير أحقيّة عليِّ بن أبي طالب، وأضفى عليه بعض صِفات التقديس والإلوهيّة (٢) .

إنّك لَتستغرب لهجة هؤلاءِ الكُتّاب، خُصوصاً بعض كُتّاب مصر، فإنّهم يُصوّرون الشيعة كأنّهم أُناس لا إيمان لهم ولا دين، يتلاعبون بالنصوص مِن دون رقيب مِن الله تعالى، ولا ضوابط مِن عِلم وخُلُق، وإنّهم واللهِ أولى بذلك، وإلاّ فما الدليل على ما ذكره محمود حلمي، وهذه كُتُب الإماميّة بين يديه، فليدلّنا على مكان تَنسب فيه الشيعة الحلول والإلوهيّة إلى عليٍّ، وسوف لا يجد ذلك قطعاً.

إنّهم يَصدُرون فيما يقولون عن عدم شعورٍ بالمسؤوليّة: ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِباً ) الكهف: ٥ والأنكى مِن ذلك أن تجد مَن تأثّر بهؤلاء الكُتّاب مِن قريب أو بعيد، وهو مِن الشيعة وتراه يكتب بنفس الأُسلوب، ورحم الله مَن يقول:

وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضة

على المرءِ مِن وقع الحُسام المُهنّدِ

يقول الدكتور كامل مصطفى في كتابه: وبذلك يتبيّن أنّ الغُلاة - وإن كانوا مغضوباً عليهم - مِن الشيعة المعتدلين، وأئمّتهم قد أسّسوا العقائد الأصليّة للتشيُّع

____________________

(١) تاج العروس: ٨/١٩٤.

(٢) تَطوّر المُجتمع الإِسلامي: ص٤٨.

١٥٦

في بداء، ورجعة، وعِصمة، وعِلم لَدُنّي بحيث صارت مبادئ رسميّة للتشيُّع فيما بعد، ولكن على صورة مُلطّفة، انتهى.

وظهر لي أنّ الدكتور كامل أخذ ذلك مِن تصريح ابن نوف - وهو أحد أصحاب المُختار - وهو قد أخذها مِن المُختار (١) ، وأُعيد إلى الذاكرة أنّ العقائد قد أخذها الشيعة مِن القرآن والسُنّة كما بَرهنّا عليه فيما مرَّ، ثمّ لو قُدِّرَ أنّ ابن نَوف هذا أو المُختار قد قالا قولاً خاصّاً بهما، فما ذنب الشيعة، ومَن هو ابن نوف حتّى يُمثِّل الشيعة؟!

وإذا كان الدكتور كامل يَعترف بأنّ الغُلاة مَغضوب عليهم مِن الشيعة وأئمّتهم، فكيف تأخذ الشيعة مِنهم؟! وهي إنّما غضبت عليهم لغلوِّهم. إذا كانت هذه العقائد مِن الغلوّ، وهو ليس منه في شيء، أليس هذا هو التناقض بِعينه؟ وإذا كنّا نعذر حلمي وأمثاله؛ لأنّهم لم يأخذونا مِن مصادرنا، فما عُذر مثل كامل الشيبي، وهو مِن الشيعة، ويعيش بين مصادرهم.

وليس هذا بالاستنتاج الوحيد مِن الدكتور كامل الذي لا نقرّه عليه، بل له استنتاجات كثيرة مِن هذا النوع، ومنها:

أنّه عندما استعرض مصادر القول بالرجعة عنه الشيعة ذكر أنّ مِن مصادرها كلمات للإِمام عليٍّ (ع) - وَرَدَت في نهج البلاغة - عندما أظفره الله تعالى بأصحاب الجمل، وقال له بعض أصحابه: وددّتُ أن أخي فلاناً كان شاهدنا؛ ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال له أمير المؤمنين (ع): (أَهَوى أخيك معنا؟) قال: نعم، قال: (فقد شَهِدَنا) ولعلّ الإِمام يشير إلى الآية: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران: ١٦٩. ولكنّ الخَبَر يتوجّه إلى الرجعة بكلّ ما فيها مِن عِبرة وعمق، بل إنّ بقيّة الخبر تنفذ إلى أغوار بعيدة مِن فلسفة الرجعة وحكمتها، فإنّ الإِمام يقول:

(ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال، وأرحام النساء سَيَرعف بهم الزمن، ويقوى بهم الإِيمان)

ومِن ذلك يبدو أنّ عليّاً لا يكتفي بتقرير عودة الماضين في الجهاد ليقطفوا ثمرة جهادهم، بل يُقرّر أنّ المجاهدين الآتين يحضرون هذا النصر؛ ليزيد ذلك مَن أيدهم، ويربط على قلوبهم، وتلك أُمور فيها مِن

____________________

(١) الصِلَة بين التصوّف والتَشَيُّع، فصل الغُلاة.

١٥٧

الأفلاطونيّة القديمة والحديثة مدخل كبير انتهى كلامه (١) .

وأنا أضع هذا النصّ بين يدي القارئ؛ ليرى ما هو مقدار الصواب مِن هذه الاستنتاجات التي أوردها الدكتور، والآثار التي رَتّبها عليها، والاكتشافات الأفلاطونيّة التي ذكرها، وأُعقِّب على ذلك بما يلي:

أولاً: إذا كان هذا النصّ وارداً في الرجعة، فمعنى هذا أنّ الإِمام عليّاً (ع) هو الذي وضع عقيدة الرجعة، وليس الغُلاة كما يقول الدكتور كامل.

ثانياً: إنّ هذا النصّ - وبكل بساطة - أجنبي كما ذكره الدكتور، ولا صِلة له بالمَرّة بالمعاني التي ذكرها، وكلّ ما في الأمر أنّ هذا النصّ يُفيد معنى الرواية (مَن أحبَّ عمل قوم حُشر معهم، وشاركهم في عملهم)، ولذلك سأل الإِمام عليّ (ع) الرجل عن هوى أخيه، هل هو مع أمير المؤمنين (ع) وأصحابه؟ فلّما أجابه بنعم قال: (لقد شهدنا) أي شاركنا بمشاعره، ثمّ قال له الإِمام: إنّ جميع مَن سيرعف بهم الزمان، وهُم على رأينا سيشاركوننا بعد ذلك بحصول الثواب والفرح بالنصر، وكم لهذا الموضوع مِن نظائر، ومِن ذلك ما رواه مؤرّخوا واقعة الطفِّ حيث قالوا: إنّ جابر بن عبد الله زار الحسين (ع) بعد قَتله، فقال في زيارته: (أشهدُ أنّا شاركناكم فيما أنتم فيه)، فقال له رفيقه الأعمش: إن القوم قُطعت رؤوسهم، وجاهدوا حتّى قُتلوا، فكيف شاركناهم نحن فيما هُم فيه؟! فقال له جابر: إنّ نيّتي ونيّة أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحاب الحسين.

ذكر ذلك أصحاب المزارات كافّة.

هذا هو معنى كلام الإِمام عليّ (ع)، لا كما ذهب إليه الدكتور.

أينَ مَوضِعُ الغُلوِّ

أعود بعد ذلك لأضع بين يدي الأستاذ فرغل بضع روايات مِن مئات مِن نوعها تدله على موضع الغُلوِّ؛ ليعلم أنّ الغُلوَّ عند غير الشيعة، وعلى أسوأ

____________________

(١) الصِلة بين التَصوّف والتَشَيُّع: ص١١٤.

١٥٨

الفروض، فإنّ عند السُنّة أضعاف ما عند الشيعة، وسأبدأ معه مِن الخلافة وأتسلسل معه.

١ - الشاهدُ الأوّل:

ذكر الشيخ إبراهيم العبيدي المالكي في كتابه عُمدة التحقيق في بشائر آل الصِدّيق، قال رويَ أنّ النبيّ (ص) قال يوماً لعائشة: (إنّ الله لمّا خَلق الشمس، خَلقها مِن لؤلؤة بيضاء بِقَدر الدُنيا مائة مَرّة وأربعين مَرّة - مع مُلاحظة أنّ حجم الشمس كما يقول الفلكيّون مليون وثلثمائة ألف مَرّة تقريباً - وجعلها على عَجَلَة، وخلق للعجلة ثمانمائة عُروة وستين عُروة، وجعل في كلّ عُروة سلسلة مِن الياقوت الأحمر، وأمر ستّين ألفاً مِن الملائكة المُقرَّبين أن يَجرّوها بتلك السلاسل مع قوتهم التي اختصَّهم الله بها، والشمس مِثل الفلك على تلك العَجَلَة، وهي تجول في القُبّة الخَضراء، وتجلو جَمالها على أهل الغبراء، وفي كلّ يوم تقف على خط الاستواء فوق الكعبة؛ لأنّها مركز الأرض - ملاحظة: خط الاستواء ليس فوق الكعبة - وتقول: يا ملائكة ربّي، إنّي لأستحيي مِن الله عزّ وجل إذا وصلت إلى مُحاذاة الكعبة التي هي قِبلة المُسلِمينَ أن أجوز عليها، والملائكة تَجرُّ الشمس؛ لتعبر على الكعبة بكلِّ قوّتها، فلا تَقبل مِنهم، وتعجز الملائكة عنها فالله تعالى يوحي إلى الملائكة، ومِن الإِلهام فَيُنادون: أيتها الشمس بحرمة الرجل الذي اسمه منقوش على وجهك المنير إلاّ رجعت إلى ما كُنت فيه مِن السير، فإذا سمعت ذلك تَحرّكت بقُدرة المالك.) فقالت عائشة:

يا رسول الله مَن الرجل الذي اسمه منقوش عليها؟

قال: (هو أبو بكر الصِدّيق، يا عائشة قَبلَ أن يخلق الله العالم، عَلِمَ بعلمه القديم أنّه يَخلق الهواء، ويخلق على الهواء هذه السماء، ويخلق بحراً مِن الماء، ويخلق عليه عَجَلَة مركباً للشمس المُشرقة على الدنيا، وإنّ الشمس تَتمرَّد على الملائكة إذا وصلت الاستواء، وإنّ الله قدَّر أن يخلق في آخر الزمان نبيّاً مُفضَّلاً على الأنبياء، وهو بعلك يا عائشة على رغم الأعداء، ونقش على وجه الشمس اسم وزيره أعني أبا بكر صِدّيق

١٥٩

المصطفى، فإذا أقسَمَتْ الملائكة عليها به زالت الشمس، وعادت إلى سيرها بقدرة المولى، وكذلك إذا مرَّ العاصي مِن أُمتي على نار جهنَّم، وأرادت النار أن تَهجم على المؤمن، فلحُرمة مَحبّة الله في قَلبه، ونقش اسمه على لسانه ترجع النار إلى ورائها هاربة) (١) .

٢ - الشاهد الثاني:

ذكر محمّد بن عبد الله الجرداني في مصباح الظلام قال: روي عن ابن عبّاس جاء جبرئيل وقال: (يا محمّد اقرأ عُمَر السلام، وأخبره أنّ رضاه عِزٌّ، وغضبه حِلمٌ، وليبكِ الإِسلام بعد موتك على موت عُمَر.)

فقال: (يا جبرئيل أخبرني عن فضائل عُمَر، وما له عند الله تعالى؟) فقال: (يا محمّد لو جلستُ معك قدر ما لبث نوح لم أستطع أن أُخبرك بفضائل عُمَر، وما له عند الله تعالى) (٢) .

٣ - الشاهد الثالث:

ذكر الإِمام أحمد في مسنده بإسناده عن عائشة: أنّ أبا بكر استأذن على رسول الله (ص)، وكان مُضطجعاً في بيته كاشفاً عن فَخذيه وساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال فتَحدّث، ثمّ استأذن عُمَر فأذن له وهو كذلك فتحدّث، ثمّ استأذن عُثمان، فجلس رسول الله (ص) وسوّى ثيابه، فلّما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهش له ولم تُباله، ثمّ دخل عُمَر فلم تهش له ولم تُباله، ثمّ دخل عُثمان فجلس، فجلست وسوّيت ثيابك!

فقال: (ألا أستحي مِن رجل تستحي منه الملائكة) (٣) .

هذا ثلاثة نماذج مِن عشرات مِن الروايات: التي يأباها الخُلفاء أنفسهم، فإنّ لهم مِن مواقفهم ومَناقبهم ما يكفيهم. إنّهم ليسوا بحاجة إلى أن تُشاد لهم صُروح مِن خيال أبله، كما أّنّ تاريخنا الإِسلامي أعزَّ علينا مِن أن نرضى بأن تكون

____________________

(١) عُمدة التحقيق: ص١٨٤.

(٢) مصباح الظلام: ٢/٢١٦.

(٣) مصباح الظلام: ٢/١٦.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

 في أوائل المائة الخامسة.

29 - الحاكم النيسابوري، أبو عبدالله محمد بن عبدالله؛ الحافظ الكبير، إمام المحدّثين في عصره في الحديث والعارف به حق معرفته، وكان صالحاً ثقة يميل إلى التشيّع. (405).

30 - ابن مردويه، أبوبكر أحمد بن موسى الأصبهاني، الحافظ الكبير العلاّمة، كان فهماً بهذا الشأن، بصيراً بالرجال، طويل الباع، مليح التصانيف. (410).

31 - البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين؛ الإمام الحافظ العلاّمة، شيخ خراسان، إنفرد بالإتقان والضبط والحفظ، وعمل كتباً لم يسبق إليها وبورك له في علمه. (458).

32 - ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن؛ الإمام الكبير حافظ الشام بل حافظ الدنيا، الثقة الثبت الحجّة، سمع منه الكبار، وكان من كبار الحفّاظ المتقنين. (571).

33 - ابن الأثير، المبارك محمد بن محمد؛ من مشاهير العلماء وأكابر النبلاء وأوحد الفضلاء (606).

34 - الضياء المقدسي، أبو عبدالله محمّد بن عبدالواحد؛ الإمام العالم الحافظ الحجّة، محدّث الشام شيخ السنّة، رحل وصنّف، وصحّح وليّن، وجرّح وعدّل، وكان المرجوع إليه في الشأن، جبلاً ثقة ديّناً زاهداً ورعاً. (643).

35 - القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري؛ مصنّف التفسير المشهور الذي سارت به الركبان، كان من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، قال الذهبي: «إمام متقن متبحّر في العلم، له تصانيف مفيدة تدلّ على إمامته وكثيرة اطّلاعه ووفور

١٨١

 فضله». (671).

36 - إبن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر؛ الإمام المحدّث الحافظ، وصفه الذهبي بالإمام المفتي المحدّث البارع، ثقة متفنّن محدّث متقن. (774).

37 - إبن حجر العسقلاني، أحمد بن علي المصري؛ شيخ الإسلام، وإمام الحفّاظ في زمانه، وحافظ الديار المصرية، بل حافظ الدنيا مطلقاً، قاضي القضاة، صنّف التصانيف التي عمّ النفع بها. (852).

38 - السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر؛ الحافظ الشهير صاحب المؤلفات الكثيرة في العلوم المختلفة، أثنى عليه مترجموه كالشوكاني في (البدر الطالع) والسخاوي في (الضوء اللامع) وابن العماد في (شذرات الذهب) وغيرهم. (911).

39 - المتّقي، نور الدين علي بن حسام الهندي؛ كان فقيهاً محدّثاً صاحب مؤلفات، أشهرها: كنز العمّال، أثنى عليه ابن العماد في (شذرات الذهب) والعيدروسي في (النور السافر في أعيان القرن العاشر). (975).

40 - الآلوسي، شهاب الدين محمود بن عبدالله البغدادي؛ المفسّر المحدّث الفقيه اللغوي النحوي، صاحب «روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني». وغيره من المؤلفات (1270).

هؤلاء جملة ممّن روى أحاديث التحريف

١٨٢

من تجوز نسبة التحريف إليه منهم.

فهل تجوز نسبة القول بالتحريف إليهم جميعاً؟

لقد علم ممّا سبق في غضون الكتاب: أنّ مجرّد رواية الحديث وثقله لا يكون دليلاً على التزام الناقل والراوي بمضمونه، وعلى هذا الأساس لا يمكننا أن ننسب إليهم هذا القول الباطل

نعم، فيهم جماعة التزموا بنقل الصحاح، فلم يخرجوا في كتبهم إلاّ ما قطعوا بصدوره من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وصحابته، حسب شروطهم التي اشترطوها في الراوي والرواية، فهم - وكل من تبعهم في الإعتقاد بصحّة جميع أخبار كتبهم - ملزمون بظواهر ما أخرجوا فيها من أحاديث التحريف، مالم يذكروا لها محملاً وجيهاً أو تأويلاً مقبولاً

وممّن التزم بنقل الصحاح من هؤلاء:

1 - مالك بن أنس

لقد اشترط مالك في كتابه (المؤطّأ) الصحّة، ولذلك استشكل بعض الأئمة إطلاق أصحيّة كتاب البخاري مع اشترك البخاري ومالك في اشتراط الصحّة والمبالغة في التحرّي والتثبّت(1) .

وقال الشافعي: «ما أعلم في الأرض كتاباً في العلم أكثر صواباً من كتاب مالك»(2) .

__________________

(1) هدى الساري 1: 21.

(2) مقدّمة ابن الصلاح: 14 وغيره.

١٨٣

وقال الحافظ مغلطاي: «أول من صنّف الصحيح مالك»(1) .

وقال الحافظ ابن حجر: «كتاب مالك صحيح عنده وعند من يقلّده على ما اقتضاء نظره من الإحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما»(2) .

2 - أحمد بن حنبل

قال أحمد في وصف مسنده:

«إنّ هذا كتاب قد جمعته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فارجعوا إليه، فإن كان فيه وإلاّ ليس بحجّة»(3) .

وعنه: إنّ شرط في مسنده الصحيح(4) .

وقال السبكي: «ألّف مسنده وهو أصل من اصول هذه الامّة»(5) .

وقال الحافظ المديني: هذا الكتاب أصل الكبير ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتقي من حديث كثير ومسموعات وافرة، فجعل إماماً ومعتمداً وعند التنازع ملجأ ومستنداً»(6) .

هذا وقد ألّف الحافظ ابن حجر كتاباً في شأن «المسند»

__________________

(1) تنوير الحوالك: 8.

(2) تنوير الحوالك: 8.

(3) تدريب الراوي 1: 172 وغيره.

(4) تدريب الراوي وغيره.

(5) طبقات الشافعية، ترجمة أحمد.

(6) طبقات الشافعية. ترجمة أحمد.

١٨٤

سماّه «القول المسدّد في الذبّ عن المسند» ردّ به على قول من قال بوجود أحاديث ضعيفة في مسند أحمد.

وقد أتمّه الحافظ السيوطي بذيل سماّه «الذيل الممهّد»(1) .

3 - محمد بن إسماعيل البخاري

وقد شرط البخاري في كتابه: أن يخرج الحديث المتّفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متّصلاً غير مقطوع، وإن كان للصحابي راويان فصاعداً فحسن، وإن لم يكن إلاّ راو واحد وصحّ الطريق إليه كفى(2) .

وعن البخاري أنّه قال: «ما وضعت في كتاب الصحيح حديثاً إلاّ اغتسلت قبل ذلك وصلّيت ركعتين»(3) .

وعنه أيضاً: «صنّفت كتابي الصحيح في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثاً حتّى استخرت الله تعالى وصلّيت ركعتين وتيقّنت صحّته»(4) .

وعنه: «صنّفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ستّ عشرة سنة وجعلته حجّة فيما بيني وبين الله»(5) .

وعنه أيضاً: «رأيت النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وكأنّني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذبّ بها عنه، فسألت بعض

__________________

(1) تدريب الراوي 1: 172.

(2) هدى الساري: 2: 261.

(3) هدى الساري 2: 261.

(4) هدى الساري 2: 261.

(5) هدى الساري 2: 261.

١٨٥

المعبّرين فقال لي: أنت تذبّ عنه الكذب.

فهذا الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح»(1) .

وعنه أنّه قال: «لم اخرج في هذا الكتاب إلاّ صحيحاً وما تركت من الصحيح أكثر ...»(2) .

وقال الحافظ ابن حجر:

«تقرّر أنّه التزم فيه الصحّة، وأنّه لا يورد فيه إلاّ حديثاً صحيحاً، هاذ أصل موضوعه، وهو مستفاد من تسميته إيّاه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وأيّامه، وممّا نقلناه عنه من رواية الأئمة عنه صريحاً ...»(3) .

وقال ابن الصلاح: «أول من صنّف في الصحيح: البخاري أبو عبدالله محمد بن إسماعيل، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري، ومسلم مع أنّه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنّه يشارك البخاري في كثير من شيوخه، وكتاباهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله العزيز ثمّ إنّ كتاب البخاري أصحّ الكتابين صحيحاً وأكثرهما فوائد ...»(4) .

وقد نقل هذا الحافظ ابن حجر وأثبت اصحيّة كتاب البخاري من كتاب مسلم، وذكر أنّ هذا ممّا اتّفق عليه العلماء، واستشهد بكلمات الأئمّة على ذلك(5) .

__________________

(1) هدى الساري 1: 18.

(2) هدى الساري 1: 18.

(3) هدى الساري 1: 19.

(4) مقدّمة ابن الصلاح: 13 - 14.

(5) هدى الساري 1: 21.

١٨٦

وكذا الحافظ النووي في التقريب، ووافقه الحافظ السيوطي في شرحه وقال: «وعليه الجمهور، لأنّه أشدّ اتصالاً وأتقن رجالاً ...»(1) .

4 - مسلم بن الحجّاج النيسابوري

وقال مسلم: «ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنّما وضعت ما أجمعوا عليه»(2) .

وقال: «لو أنّ أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند - يعني صحيحة -»(3) .

وقال أيضاً: «عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكلّ ما أشار أنّ له علّة تركته، وكلّ قال أنّه صحيح وليس له علّة أخرجته»(4) .

وقال: «صنّفت هذا السند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة»(5) .

هذا، وقد قالوا: إنّ أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان، ثمّ اختلفوا في أنّ أيّهما أفضل وأصحّ، فذهب جمهورهم إلى أنّ البخاري أصحّ، وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء

__________________

(1) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 1: 88 - 91.

(2) مقدّمة ابن الصلاح: 16، تدريب الراوي 1: 98.

(3) المنهاج في شرح مسلم 1: 22 هامش إرشاد الساري.

(4) المصدر نفسه.

(5) المنهاج في شرح مسلم 1: 22 هامش إرشاد الساري.

١٨٧

كتاب أصحّ من كتاب مسلم، وتبعه بعض شيوخ المغرب(1) .

5 - أبو عيسى الترمذي

قال الترمذي: «صنّفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به.

ومن كان بيته هذا الكتاب فكأنّما في بيته نبي يتكلّم»(2) .

وقال في كتاب العلل الذي في آخر جامعه:

«جميع ما في هذا الكتاب - يعني جامعه - من الحديث هو معمول به، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين: حديث عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنه: إنّ النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ولا سفر، وحديث النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم أنّه قال: من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه.

قال: وقد بيّنّا علّة الحديثين جميعاً في الكتاب».

قال المباركفوري: «قلت: قد تعقّب الملاّ معين في كتابه (دراسات اللبيب) على كلام الترمذي هذا، وقد أثبت أنّ هذين الحديثين كليهما معمول به، والحقّ مع الملاّ معين عندي والله تعالى

__________________

(1) تدريب الراوي 1: 93 وغيره.

(2) تذكرة الحفّاظ - ترجمته.

١٨٨

أعلم»(1) .

هذا، وقد جاء في مقدّمة تحفة الأحوذي فصل «في بيان أنّه ليس في جامع الترمذي حديث موضوع»(2) .

وجامع الترمذي من الكتب الستّة الصحاح عند أهل السنّة بلا خلاف بينهم، غير أنّهم اختلفوا في رتبته هل هو بعد الصحيحين أو بعد سنن أبي داود أبو بعد سنن النسائي؟(3) .

6 - أحمد بن شعيب النسائي

وكتاب النسائي أحد الصحاح الستّة بلا خلاف.

قالوا: وقد صنّف النسائي في أول أمره كتاباً يقال له: «السنن الكبير» ثمّ اختصره وسماّه «المجتبى» وسبب اختصاره: أنّ أحداً من أمراء زمانه سأله أنّ جميع أحاديث كتابك صحيح؟

قال: لا.

فأمره الأمير بتجريد الصحاح وكتابة صحيح مجرّد.

فانتخب منه «المجتنى» وأسقط منه كل حديث تكلّم في إسناده(4) .

فإذا أطلق المحدّثون بقولهم: رواه النسائي، فمرادهم هذا المختصر المسمّى بالمجتنى لا السنن الكبير(5) .

__________________

(1) مقدّمة تحفة الاحوذي: 367.

(2) مقدّمة تحفة الاحوذي: 365 - 367.

(3) مقدّمة تحفة الاحوذي: 364.

(4) جامع الاصول 1: 66 وغيره.

(5) مقدّمة تحفة الاحوذي: 131.

١٨٩

وعن الحاكم وأبي علي الحافظ والخطيب: للنسائي شرط في الرجال أشدّ من شرط مسلم(1) .

7 - ابن ماجة القزويني

قال ابن ماجة: عرضت هذه السنن على أبي زرعة فنظر فيه وقال: أظنّ إن وقع هذا في أيدي الناس تعطّلت هذا الجوامع أو أكثرها ...»(2) .

وقال المباركفوري: «وأمّا سنن ابن ماجة فهو سادس الصحاح الستّة ...»(3) .

وفي كشف الظنون: «إنّه سادس الصحاح الستّة عند بعض الأئمة»(4) .

قلت: وممّن بذلك الحافظان ابن طاهر وعبد الغني المقدسيان.

8 - الحاكم النيسابوري

وألّف أبو عبدالله الحاكم النيسابوري كتاب «المستدرك على الصحيحين»، ذكر فيه ما فات البخاري ومسلماً ممّا على شرطهما أو شرط أحدهما أو هو صحيح(5) .

__________________

(1) مقدّمة تحفة الاحوذي: 131.

(2) تذكرة الحفّاظ 2: 636.

(3) مقدّمة تحفة الاحوذي: 134.

(4) كشف الظنون: 1004.

(5) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 1: 26.

١٩٠

فالمستدرك من الكتب التي التزم فيها بالصحّة، ولذا يعبّر عنه بالصحيح المستدرك(1) .

ولقد أثنى على الجاكم كلّ من جاء بعده من الحفّاظ، ونسبه بعضهم إلى التشيّع وقالوا: إنّه قد تساهل في ما استدر على شكرط الصحيح.

قلت: لا يبعد أن يكون من أسباب رميه بالتشيّع والتساهل إخراجه أحاديث في فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بل قد صرّح بذلك الخطيب(2) .

9 - أبو جعفر الطبّري

وقد التزم أبو جعفر محمد بن جرير الطبّري الصحّة في كتابه (تهذيب الآثار) الّذي أورد فيه بعض الأحاديث المذكورة كما أورد منها في (تفسيره) ...

10 - الضياء المقدسي

وقد التزم الحافظ الضياء المقدسي الصحّة في كتابه «المختارة».

قال الحافظ العراقي: «وممّن صحّح أيضاً من المتأخّرين الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي، فجمع كتاباً سماّه (المختارة)

__________________

(1) تدريب الراوي 1: 108، مقدّمة تحفة الاحوذي: 155.

(2) مقدّمة تحفة الاحوذي: 156.

١٩١

التزم فيه الصحّة ...»(1) .

وقال الحافظ السيوطي: «ومنهم الحافظ ضياء الدين محمد بن عبدالواحد المقدسي، فجمع كتاباً سماّه (المختارة) التزم فيه الصحّه وذكر فيه أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها»(2) .

وفي «كشف الظنون» بعد أن صرّح بما تقدّم: «قال ابن كثير: وهذا الكتاب لم يتمّ، وكان بعض الحفّاظ من مشايخنا يرجّحه على مستدرك الحاكم»(3) .

هذا، وقد أثنى عليه كل من ترجم له، قال الحافظ الذهبي ما ملخّصه: «الإمام العالم الحافظ الحجّة، محدّث الشام، شيخ السنّة، صاحب التصانيف النافعة، نسخ وصنّف، وصحّح وليّن، وجرّح وعدّل، وكان المرجع إليه في هذا الشأن، قال تلميذه عمر بن الحاجب: شيخنا أبو عبدالله شيخ وقته ونسيج وحده علماً وحفظاً وثقة وديناً، من العلماء الربّانيّين، وهو أكبر من أن يدلّ عليه مثلي.

رأيت جماعة من المحدّثين ذكروه فأطنبوا في حقّه ومدحوه بالحفظ والزهد.

سألت الزكيّ البرزالي عنه فقال: ثقة، جبل، حافظ، ديّن.

قال ابن النجّار: حافظ متقن حجّة، عالم بالرجال، ورع تقي.

وقال الشرف ابن النابلسي: ما رأيت مثل شيخنا الضياء»(4) .

__________________

(1) التقييد والإيضاح لما اطلق أو اغلق من كتاب ابن الصلاح.

(2) تدريب الراوي 1: 144.

(3) كشف الظنون.

(4) تذكرة الحفّاظ: 4: 1406.

١٩٢

الفصل الثالث

الأقوال والآراء في أهل السنّة

حول التحريف وأحاديثه

لقد تقدّم ذكر الأحاديث الدالّة على التحريف وعرفت من خلال ذلك أنّ القول بنقصان القرآن مضاف إلى جماعة كبيرة من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى راسهم:

عمر بن الخطّاب، عثمان بن عفّان، عبدالله بن العبّاس، عبدالله بن عمر، عبدالرحمن بن عوف، اُبيّ بن كعب، عبدالله بن مسعود، زيد بن ثابت، أبو موسى الأشعري، خديفة بن اليمان، جابر بن عبدالله، زيد بن أرقم، عائشة بنت أبي بكر، حفصة بنت عمر

ومن مشاهير التابعين وعلى رأسهم:

سعيد بن جبير، عكرمة، الضحّاك، سعيد بن المسّيب، عروة بن الزبير، محمد بن مسلم الزهري، زرّ بن حبيش، مجاهد، الحسن البصري

وعرفت أنّ تلك الاحاديث مخرجة في أهمّ كتب أهل السنّة

١٩٣

وأسفارهم، ومن أشهرها:

الموطّأ، صحيح البخاري، صحيح مسلم، صحيح الترمذي، صحيح النسائي، صحيح ابن ماجة، المصنّف لابن أبي شيبة، المسند لأحمد، المستدرك للحاكم، الجوامع الثلاثة للطبراني، المسند لأبي يعلى، السنن للبيهقي، جامع الاصول، فتح الباري، إرشاد الساري، المصاحف لابن الأنباري، الدرّ المنثور، كنز العمّال، تاريخ دمشق، تفسير الطبري، تفسير الرازي، تفسير القرطبي، تفسير البغوي، تفسير الخازن، الكشّاف، البحر المحيط تفسير ابن كثير، مشكل الآثار، التسهيل لعلوم التنزيل، البرهان في علوم القرآن، مناهل العرفان في علوم القرآن، الإتقان في علوم القرآن، وغيرها من الكتب في الحديث والفقه والتفسير ...

موقف علماء الشيعة من هذه الأخبار والآثار:

أمّا علماء الشيعة فإنّ موقفهم من هذه الأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة نفس الموقف الذي اتّخذوه تجاه الأحاديث المرويّة في كتبهم أنفسهم فإنّهم بعدما قالوا بعدم تحريف القرآن - للأدلّة القائمة عليه كتاباً وسنّة وإجماعاً - حملوا ما أمكن حمله من أحاديثهم المعتبرة سنداً على بعض الوجوه، وطرحوا كل خبر غير معتبر سنداً أو غير قابل للتأويل كما عرفت في (الباب الأول) بالتفصيل.

وهذا هو النهج الذي ينبغي اتّباعه بالنسبة إلى أحاديث التحريف في كتب أهل السنّة وبه يتمّ الجمع بين الإعتقاد بعدم التحريف والإعتقاد بصحّة أخبار الصحيحين وغيرهما على اصول أهل السنّة

١٩٤

إنّ التأويل إمّا الحمل على التفسير، وإمّا الحمل على اختلاف القراءة، وإمّا الحمل على نسخ التلاوة. لكنّ التأويل على الوجهين الأوّلين لا يتمّ إلاّ بالنسبة إلى قليل جدّاً من الأحاديث، والحمل على نسخ التلاوة غير تامّ صغروياً وكبروياً، كما ستعرف في «الفصل الرابع».

فلا مناص من الردّ والتكذيب ولا مانع، إلاّ ما اشتهر بينهم من عدالة جميع الصحابة وصحّة أخبار الصحيحين وأمثالها لكنّ هذين المشهورين لا أصل لهما كما ستعرف في «الفصل الخامس».

هذه خلاصة الطريقة الصحيحة لعلاج هذه الأحاديث، وعليها المحقّقون من أهل السنّة، كما سيظهر في هذا الفصل والفصلين اللاحقين.

موقف أهل السنّة من هذه الأحاديث والآثار:

وأمّا أهل السنّة فالرواة لهذه الأحاديث منهم من يلتزم بصحّتها كأصحاب الصحاح الستّة وأمثالهم من أرباب الكتب المشهورة والمسانيد، ومنهم من لا ندري رأيه فيها كما لا ندري أنّ القائلين بالحصّة يحملون تلك الآيات المحكيّة في هذه الأحاديث على النسخ، أو يقولون بالتحريف تبعاً لمن قال به من الصحابة والتابعين

وفي المقابل طائفتان من المحدّثين والعلماء؛ طائفة تقول بالتحريف صراحة، أخذاً بالأحاديث الظاهرة فيه، واقتداءاً بالصحابة المصرّحين به، وطائفة تقول ببطلان الأحاديث وتردّها الردّ القاطع

فأهل السنّة بالنسبة إلى أحاديث التحريف على ثلاثة طوائف:

١٩٥

طائفة يروون التحريف ولا نعلم رأيهم فيه

وهم المحدّثون والعلماء الّذين يروون أحاديث التحريف وينقلونها في كتبهم الحديثية وغيرها، ولا سبيل لنا إلى الوقوف على آرائهم في تلك الأحاديث، فهل يقولون بصحّتها أولا؟ وعلى الأول هل يحملونها على النسخ؟ أو يقولون بالتحريف حقيقة؟

وهؤلاء كثيرون، بل هم أكثر رجال الحديث والمحدّثين والعلماء الرواة والناقلين لهذه الأحاديث ...

طائفة يروونه ويقولون به:

وهم الّذين أوردوا الأحاديث والآثار الظاهرة أو الصريحة في نقصان القرآن من غير جواب أو تأويل، وهؤلاء عدّة من العلماء وليس عددهم بقليل

فمثلاً:

يقول ابن جزي الكلبي في تفسيره: «والصابئون. قراءة السبعة بالواو، وهي مشكلة، حتى قالت عائشة: هي من لحن كتاب المصحف»(1) .

- «والمقيمين» منصوب على المدح بإضمار فعل، وهو جائز كثيراً

__________________

(1) التسهيل لعلوم التنزيل 1: 173 وابن جزي الكلبي المالكي وصفه الداودي في طبقات المفسرين 1: 101 بقوله: كان شيخاً جليلاً ورعاً زاهداً عابداً متقلّلاً من الدنيا وكان فقيهاً مفسّراً وله تفسير القرآن العزيز، توفّي في حدود العشرين وستمّائة.

١٩٦

في الكلام، وقالت عائشة: هو من لحن كتّاب المصحف، وفي مصحف ابن مسعود: (والمقيمون) على الأصل»(1) .

- «إنّ هذان لساحران» قرىء: إنّ هذين، بالياء، ولا إشكال في ذلك وقالت عائشة رضي الله عنها: هذا ممّا لحن فيه كتاب المصحف»(2) .

ويقول الخطيب الشربيني في تفسيره:

«وحكي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - وأبان بن عثمان: أنّ ذلك غلط من الكتاب، ينبغي أن يكتب «والمقيمون الصلاة». وكذلك قوله في سورة المائدة:( إنّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والصابئون والنصارى ) وقوله تعالى:( إنّ هذان لساحران ) قالا: ذلك خطأ من الكاتب، وقال عثمان: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تغيّره؟! فقال: دعوه فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً. وعامّة الصحابة وأهل العلم على أنّه صحيح»(3) .

وإذا ما قارنت بين هذا الموقف وموقف الطائفة الثالثة من هذه الأحاديث، وأساليبهم في ردّها، أمكنك نسبة القول بالتحريف إلى هذين العالمين الجليلين وأمثالهما من أهل السنّة ...

التصريح بوقوع التحريف

بل في علماء أهل السنّة من يعتقد بتحريف القرآن الكريم

__________________

(1) التسهيل لعلوم التنزيل 1: 164.

(2) التسهيل لعلوم التنزيل 3: 15.

(3) السراج المنير 1: 345 لمحمد بن أحمد الخطيب الشربيني الفقيه الشافعي المفسّر، توفي سنة 977، له ترجمة في الشذرات 8: 384.

١٩٧

وينادي به بأعلى صوته إمّا اعتماداً على ما روي في كيفية جمع القرآن، وإمّا اعتقاداً بصحّة كل ما اخرج في كتابي البخاري ومسلم، وإمّا إنكاراً لنسخ التلاوة وعلى كلّ حال فقد ذهب جماعة منهم إلى القول بسقوط شيء من القرآن، قال الرافعي ما نصّه: «... فذهب جماعة من أهل الكلام - ممّن لا صناعة لهم إلاّ الظّن والتأويل واستخراج الأساليب الجدليّة من كلّ حكم وكلّ قول - إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملاً على ما وصفوا من كيفيّة جمعه»(1) .

وقال القرطبي: «قال أبو عبيد: وقد حدّثت عن يزيد بن زريع، عن عمران بن جرير، عن أبي مجلز، قال: طعن قوم على عثمانرحمه‌الله - بحمقهم - جمع القرآن، ثمّ قرأوا بما نسخ»(2) .

وقال: «قال أبو عبيد: لم يزل صنيع عثمان - رضي الله عنه - في جمعه القرآن يعدّ له بأنّه من مناقبه العظام، وقد طعن عليه فيه بعض أهل الزيغ، فانكشف عواره ووضحت فضائحه»(3) .

وقال أيضاً: «قال الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن محمد الأنباري: ولم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون من شرف القرآن وعلوّ منزلته ما يوجب الحقّ والإنصاف والديانة، وينفون عنه قول المبطلين وتمويه الملحدين وتحريف الزائغين، حتى نبغ في زماننا هذا زائغ زاغ عن الملّلة وهجم على الامّة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيّدها ويثبت اسّها وينمي فرعها ويحرسها عن معايب اولي

__________________

(1) إعجاز القرآن: 41.

(2) الجامع لأحكام القرآن 1: 84.

(3) الجامع لأحكام القرآن 1: 84.

١٩٨

الجنف والجور ومكائد أهل العداوة والكفر.

فزعم أنّ المصحف الذي جمع عثمان رضي الله عنه - باتّفاق أصحاب رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله ] على تصويبه فيما فعل - لا يشتمل على جميع القرآن، إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف، قد قرأت ببعضها وسأقرأ ببقيّتها، فمنها [ والعصر - ونوائب الدهر - ] فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين «ونوائب الدهر» ومنها [ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّيّنت وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس - وما كان الله ليهلكها إلاّ بذنوب أهلها - ] فادّعى هذا الإنسان أنّه سقط عن أهل الإسلام من القرآن «وما كان الله ليهلكها إلاّ بذنوب أهلها» وذكر ممّا يدّعي حروفاً كثيرة ...»(1) .

ولقد نسب هذا القول إلى الحشوية من أهل السنّة والجماعة - وهم أصحاب أبي الحسن البصري - فإنّهم ذهبوا إلى وقوع التحريف في القرآن تغييراً ونقصاناً(2) .

وفي كلام النحّاس: إنّ العلماء تنازعوا حديث عائشة في الرضاع، فردّه جماعة وصحّحه آخرون، قال:

«وأمّا قول من قال: إنّ هذا كان يقرأ بعد وفاة رسول الله - صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم - فعظيم ...» وستأتي عبارته كاملة.

ومن الواضح: أنّه إذا كان يقرأ بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أصل القرآن وأنّه لا نسخ بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالإجماع فهو

__________________

(1) الجامع لأحكام القرآن 1: 81 - 82.

(2) مجمع البيان وغيره.

١٩٩

إذاً ساقط من القرآن، فالقرآن محرّف ومن ثمّ استعظم النّحّاس هذا القول.

وأمّا توجيه البيهقي لهذا الحديث: فإقرار منه بأنّ هذا كان من القرآن حتى بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان المسلمون يتلونه في أصل القرآن.

وزعمه: أنّ الآية كانت منسوخة على عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ الذّين كانوا يتلونها لم يبلغهم النسخ، عارٍ عن الصحّة ولا دليل يدلّ عليه، على أنّا نقطع بأنّه كما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ينشر سور القرآن وآياته ويأمر بقراءتها بمجّرد نزولها، فإنّه كان عليه - على فرض وجود النسخ بصورة عامّة - أن يذيع ذلك بين الامّة ويبلّغهم جميعاً ليطّلع الكلّ على ذلك، كما كان يفعل بالنسبة إلى نشر الآيات والسور النازلة.

على أنّ كلامه يستلزم أن تكون الآية من القرآن وأن لا تكون منه في وقت واحد، وهو باطل وسيأتي مزيد بحث حوله في «الفصل الرابع».

وقال الشعراني(1) : «ولو لا ما يسبق للقلوب الضعيفة ووضع الحكمة في غير أهلها لبيّنت جميع ما سقط من مصحف عثمان»(2) .

وقال الزرقاني - في بيان الأقوال في معنى حديث نزول القرآن على سبعة أحرف - ما نصّه: «وهو: أنّ المراد بالأحرف: السبعة أوجه من

__________________

(1) الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني، من فقهاء الحنفية ومن علماء المتصوّفين، له مؤلفات كثيرة في الحديث والمواعظ والتراجم وغيرها من العلوم، توفّي سنة 973، وله ترجمة في الشذرات: 8: 372 وغيرها.

(2) الكبريت الاحمر - المطبوع على هامش اليواقيت والجواهر: 143.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237