هوية التشيع

هوية التشيع25%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39636 / تحميل: 7815
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

تشير الآية (٢٥٧) من سورة البقرة إلى هذا الموضوع فتقول :( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

وبما أنّ العين المبصرة وحدها لا تكفي لتحقّق الرؤية ، فيجب توفّر النور والإضاءة أيضا لكي يستطيع الإنسان ـ الإبصار بمساعدة هذين العاملين ـ تضيف الآية التالية :( وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ) .

لأنّ الظلام منشأ الضلال ، الظلام سبب السكون والركود ، الظلام مسبّب لكلّ أنواع المخاطر ، أمّا النور والضياء فهو منشأ الحياة والمعيشة والحركة والرشد والنمو والتكامل ، فلو زال النور لتوقّفت كلّ حركة وتلاشت جميع الطاقات في العالم ، ولعمّ الموت العالم المادّي ـ بأسره ، وكذلك نور الإيمان في عالم المعنى ، فهو سبب الرشد والتكامل والحياة والحركة.

ثمّ تضيف الآية( وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ) فالمؤمن من يستظلّ في ظلّ إيمانه بهدوء وأمن وأمان ، أنمّا الكافر فلكفره يحترق بالعذاب والألم.

يقول «الراغب» في مفرداته : الحرور : (على وزن قبول) الريح الحارّة. واعتبرها بعضهم «ريح السموم» وبعضهم قال بأنّها «شدّة حرارة الشمس».

ويقول «الزمخشري» في الكشّاف : «السموم يكون بالنهار ، والحرور بالليل والنهار ، وقيل بالليل خاصّة»(١) ، على أيّة حال ، فأين الحرور من الظلّ البارد المنعش الذي يبعث الارتياح في روح وجسم الإنسان.

ثمّ يقول تعالى في آخر تشبيه :( وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ) . المؤمنون حيويون ، سعاة متحرّكون ، لهم رشد ونمو ، لهم فروع وأوراق وورود وثمر ، أمّا الكافر فمثل الخشبة اليابسة ، لا فيها طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظلّ لها ، ولا تصلح إلّا حطبا للنار.

__________________

(١) الكشّاف ، الجزء ٣ ، ص ٦٠٨.

٦١

في الآية (١٢٢) من سورة الأنعام نقرأ :( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) .

وفي ختام الآية يضيف تعالى :( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ) لكي يسمع دعوة الحقّ ويلبّي نداء التوحيد ودعوة الأنبياء( وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .

فمهما بلغ صراخك ، ومهما كان حديثك قريبا من القلب ، ومهما كان بيانك معبّرا ، فإنّ الموتى لا يسعهم إدراك شيء من ذلك ، ومن فقد الروح الإنسانية نتيجة الإصرار على المعاصي ، وغرق في التعصّب والعناد والظلم والفساد ، فبديهي أنّ ليس لديه الاستعداد لقبول دعوتك.

وعليه فلا تقلق من عدم إيمانهم ، ولا تجزع ، فليس عليك من وظيفة إلّا الإبلاغ والإنذار( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ) .

* * *

بحوث

١ ـ آثار الإيمان والكفر

نعلم أنّ القرآن لا يعير اهتماما للحواجز الجغرافية والعرقية والطبقية وأمثالها ممّا يفرّق بين الناس ، فالقرآن الكريم يعتبر أنّ الحدّ هو الحدّ بين [الإيمان والكفر] ، وعليه فإنّه يقسّم المجتمع البشري إلى قسمين «المؤمنين» و «الكافرين».

ولتعريف «الإيمان» شبّهه القرآن الكريم بـ «النور» ، كما أنّه شبّه الكفر بـ «الظلام» وهذا التشبيه أحسن مؤشّر على ما يستخلصه القرآن الكريم من مسألة الكفر والإيمان(١) .

فالإيمان نوع من الإحساس والنظرة الباطنية ، ونوع من العلم والمعرفة متوائمة

__________________

(١) راجع الآيات ٢٥٧ : البقرة ، ١٥ : المائدة ، ١٦ : المائدة ، ١ و ٥ : إبراهيم ، ٢٢ : الزمر ، ٩ : الحديد ، ١١ : الطلاق.

٦٢

مع عقيدة قلبية وحركة ، ونوع من التصديق الذي ينفذ في أعماق روح الإنسان ليكون منبعا لكلّ الفعّاليات البنّاءة.

أمّا الكفر ، فجهل وعدم معرفة وتكذيب يؤدّي إلى تبلّد ، بل فقدان الإحساس بالمسؤولية ، كما يؤدّي إلى كلّ أنواع الحركات الشيطانية والتخريبية.

كذلك نعلم أيضا بأنّ «النور» منشأ لكلّ حياة وحركة ونمو ورشد في الحياة ، بالنسبة إلى الإنسان والحيوان والنبات ، على عكس الظلام فهو عامل الصمت والنوم والموت والفناء في حال استمراره. لذا فلا عجب حينما يشبه القرآن الكريم «الإيمان والكفر» «بالنور والظلمة» تارة و «بالحياة والموت» تارة اخرى ، وفي مكان آخر يشبّههما (بالظلّ الظليل والريح السموم) ، أو حينما يشبّه (المؤمن والكافر) (بالبصير والأعمى). وقد أوضحنا كلّ ما يتعلّق بهذه التشبيهات الأربعة.

ولا نبتعد كثيرا ، فعند ما نجالس (مؤمنا) نحسّ أثر ذلك النور في كلّ وجوده ، أفكاره تنير لمن حوله ، وحديثه مليء بالإشراق ، أعماله وأخلاقه تعرّفنا حقيقة الحياة وحياة الحقيقة.

أمّا الكافر فكلّ وجوده مليء بالظلمة ، لا يفكّر إلّا بمنافعه الماديّة وكيفية الترقّي في الحياة الماديّة ، أفقه وفضاء فكره لا يتجاوز حدود حياته الشخصية ، غارق في الشهوات ، لا يدفع روح وقلب جليسه إلّا إلى أمواج الظلمات.

وعليه فإنّ ما أوضحه القرآن في هذه الآيات ، قابل للإدراك والتعقّل بشكل محسوس وملموس.

٢ ـ هل أنّ الموتى واقعا لا يدركون؟

من ملاحظة ما ورد في الآيات أعلاه ، يطرح هنا سؤالان :

الأوّل : كيف يقول تعالى في القرآن الكريم مخاطبا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) ؟ مع أنّه جاء في الحديث المعروف أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٦٣

أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طويّ من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلمّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته ، فشدّ عليها رحلها ثمّ مشى واتّبعه أصحابه وقالوا : ما نراه ينطلق إلّا لبعض حاجته ، حتّى قام على شفة الركي مجفل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسّركم أنّكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟ قال : فقال عمر : يا رسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والّذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»(١) .

أو ما ورد في آداب دفن الموتى من تلقينهم عقائد الحقّ.

فكيف يمكن التوفيق بين هذه الأمور والآيات مورد البحث أعلاه.

يتّضح الجواب على هذا السؤال إذا أخذنا بنظر الإعتبار ما يلي : إنّ الحديث في الآيات كان حول عدم إدراك الموتى بالشكل الطبيعي والاعتيادي ، أمّا الرواية التي ذكرناها أو تلقين الميّت فإنّما ترتبط بظروف خاصّة وغير عاديّة ، حيث أنّ الله سبحانه مكّن حديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الحالة من الوصول إلى أسماع الموتى.

وبتعبير آخر فإنّ الإنسان في عالم البرزخ ينقطع ارتباطه مع عالم الدنيا ، إلّا في الموارد التي يأذن الله فيها أن يوصل هذا الارتباط ، ولذا فإنّنا لا نستطيع عادة الاتّصال بالموتى في الظروف العادية.

السؤال الآخر : هو إذا كان حديثنا غير بالغ أسماع الموتى فما معنى لسلامنا على الرّسول الأكرم والأئمّةعليهم‌السلام والتوسّل بهم ، وزيارة قبورهم ، وطلب الشفاعة منهم عند الله؟

__________________

(١) تفسير «روح البيان» ذيل الآيات مورد البحث : وورد هذا الحديث أيضا في صحيح البخاري بتفاوت يسير (صحيح البخاري ، الجزء الخامس ، ص ٩٧ باب قتل أبي جهل).

٦٤

وقد استندت جماعة من الوهّابيين المعروفين بجمودهم الفكري على هذا التوهّم الباطل ، وبالتمسّك بظواهر الآيات القرآنية ، دون الاهتمام بمحتواها العميق ، أو الالتفات إلى الأحاديث الشريفة الكثيرة الواردة في هذا المجال ، سعوا إلى نفي وردّ مفهوم «التوسّل» وإثبات بطلانه.

الجواب على هذا السؤال أيضا يتّضح ممّا ذكرناه كمقدّمة في الإجابة على السؤال الأوّل ، من أنّ التعامل مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولياء الله يختلف عنه مع الآخرين ، فهؤلاء كالشهداء (بل إنّهم يحتلّون الصفّ الأوّل أمام الشهداء) وهم أحياء وخالدون ، وهم مصداق لقوله :( أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ، وبأمر من الله فإنّهم يحتفظون بارتباطهم بهذا العالم ، كما أنّهم يستطيعون وهم في هذه الدنيا أن يتّصلوا بالموتى ـ كما في حالة قتلى بدر ـ.

استنادا إلى ذلك نقرأ في روايات كثيرة وردت في كتب الفريقين أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام يسمعون سلام من يسلّم عليهم سواء كان قريبا أو بعيدا ، بل إنّ أعمال الامّة تعرض عليهم(١) .

الجدير بالملاحظة أنّنا مأمورون بالسلام على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التشهّد الأخير للصلوات اليومية ، وهذا إعتقاد المسلمين عامّة ، أعمّ من كونهم شيعة أو سنّة ، فكيف يمكن مخاطبة من لا يمكنه السماع أصلا؟

كذلك وردت روايات متعدّدة في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ، عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لقّنوا موتاكم لا إله إلّا الله»(٢) .

كذلك وردت الإشارة في نهج البلاغة إلى مسألة الارتباط مع أرواح الموتى ، فعند ما كان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال راجعا من صفّين أشرف

__________________

(١) كشف الارتياب ، ص ١٠٩ ـ كذلك فقد أشرنا إلى روايات (عرض الأعمال) عند تفسير الآية (١٠٥) من سورة التوبة ـ راجع المجلّد السادس من هذا التّفسير.

(٢) صحيح مسلم ، كتاب الجنائز ، حديث ١ و ٢ (المجلّد ٢ ، صفحة ٦٣١).

٦٥

على القبور بظاهر الكوفة : «يا أهل الديار الموحشة إلى أن قال : أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى»(١) .

٣ ـ تنويع التعبيرات جزء من الفصاحة

لوحظ في التشبيهات الأربعة الواردة في الآيات أعلاه ، تعبيرات متفاوتة تماما مثلا (أعمى ـ بصير) و (ظلّ ـ حرور) جاءت بصورة المفرد في حال أنّ (أحياء ـ أموات) بصورة الجمع ، وجاءت (ظلمات ـ نور) بصورة جمع والثانية بصورة مفرد هذا من جانب.

ومن جانب آخر فقد قدمت التشبيهات ذات المنحى السلبي على غيرها في التشبيه الأوّل والثاني (أعمى ـ ظلمات) في حال قدمت التشبيهات ذات المنحى الإيجابي في التشبيه الثالث والرابع (ظلّ ـ أحياء).

ومن جانب ثالث تكرّرت أداة النفي في التشبيهات الثاني والثالث والرابع في حين أنّها لم تتكرّر في التشبيه الأوّل.

وأخيرا ، فإنّ جملة( ما يَسْتَوِي ) وردت فقط في التشبيه الأوّل والأخير ، ولا أثر لها في التشبيهات الاخرى.

بعض المفسّرين علّلوا هذه الاختلافات بتعليلات كثيرة بعضها جدير بالاهتمام وبعضها الآخر مورد مساءلة.

وضمن جملة التعليلات اللطيفة أنّ جمع «الظلمات» وإفراد «النور» للتدليل على أنّ الظلمة ـ التي تعني الكفر ـ ذات تشعّبات كثيرة ، بينما حقيقة «الإيمان» والتوحيد واحدة ليس إلّا. فالإيمان كالخطّ المستقيم الذي يوصل بين نقطتين لا وجود لسواه بينهما ، في حين أنّ ظلمة الكفر مثل آلاف الآلاف من الخطوط المتعرّجة المنحرفة التي يمكن إيجادها بين نقطتين.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، جملة ١٣٠.

٦٦

كذلك فإنّ تقديم التشبيهات ذات المنحى السلبي في المثالين الأوّليين إنّما هو للإشارة إلى الإسلام نقل الناس من الجاهلية وظلمات الشرك إلى نور الهداية.

وأمّا المثالان الأخيران فإشارة إلى المراحل الاخرى التي أحكم الإسلام فيها جذوره في القلوب ، ووسّع المناحي الإيجابية في المجتمع.

وإذا تجاوزنا كل ذلك فإنّ التنوّع أصلا في البيان يمنح الحديث طراوة وروحا خاصّة ، ممّا يجعل ذلك مؤثّرا وجميلا وجذّابا ، في حال إنّ التكرار على نمط واحد يسلب الحديث لطافته ـ إلّا في موارد استثنائية ـ وبناء على هذا فإنّ الفصحاء والبلغاء يسعون دائما إلى تنويع تعبيراتهم وجعلها مؤثّرة ، ونعلم أنّ القرآن على أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.

وعليه ، فلو لم يكن غير مراعاة الفصاحة أمر آخر لكفى ، مع أنّ من الممكن أن يتوصّل غيرنا من الأجيال القادمة إلى كشف أسرار اخرى غير ما ذكرنا ممّا هو محجوب عنّا الآن.

* * *

٦٧

الآيات

( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) )

التّفسير

لا عجب من عدم إيمان :

توصّلنا في الآيات السابقة إلى أنّ هناك أفرادا كالأموات والعميان لا تترك مواعظ الأنبياء في قلوبهم أدنى أثر ، وعلى ذلك فإنّ الآيات مورد البحث تقصد مواساة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الخصوص وتخفيف آلامه لكي لا يغتمّ كثيرا.

أوّلا تقول الآية الكريمة :( إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) . فيكفيك من أداء وظيفتك أن لا تقصّر فيها ، أوصل نداءك إلى مسامعهم ، بشّرهم بثواب الله ، وأنذرهم عقابه ، سواء استجابوا ولم يستجيبوا.

الملفت للنظر أنّه تعالى قال في آخر آية من الآيات السابقة مخاطبا الرّسول الأكرم( إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ) ، ولكنّه في الآية الاولى من هذه الآيات يقول :( إِنَّا

٦٨

أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ) إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقوم بهذا العمل من عند نفسه ، وإنّما هو مأمور من قبل الله تعالى.

وإذا كانت الآية السابقة قد ركّزت على الإنذار فقط ، فلأنّ الحديث كان حول الجاهلين المعاندين الذين هم كالأموات المقبورين الذين لا يتقبّلون أي حديث ، أمّا هذه الآية فإنّها توضّح بشكل كامل ، وظيفة الأنبياء الثنائية الهدف «البشارة» و «الإنذار» ، مؤكّدة في آخرها من جديد على «الإنذار» لأنّ الإنذار هو القسم الأساس من دعوة الأنبياء في قبال المشركين والظلمة.

«خلا» : من (الخلاء) وهو المكان الذي لا ساتر فيه من بناء ومساكن وغيرهما ، والخلوّ يستعمل في الزمان والمكان ، ولأنّ الزمان في مرور ، قيل عن الأزمنة الماضية «الأزمنة الخالية» لأنّه لا أثر منها ، وقد خلت الدنيا منها.

وعليه فإنّ جملة( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) بمعنى أن كلّ امّة من الأمم السالفة كان لها نذير.

الجدير بالملاحظة ، طبقا للآية أعلاه ، أنّ كلّ الأمم كان فيها نذير إلهي ، أي كان فيها نبي ، مع أنّ البعض تلقّي ذلك بمعنى أوسع ، بحيث يشمل العلماء والحكماء الذين ينذرون الناس أيضا ، ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر الآية.

على كلّ حال ، فليس معنى هذا الكلام أن يبعث في كلّ مدينة أو منطقة رسول ، بل يكفي أن تبلّغ دعوة الرسل وكلامهم أسماع المجتمعات المختلفة ، إذ أنّ القرآن يقول :( خَلا فِيها نَذِيرٌ ) ولم يقل «خلا منها نذير».

وعليه فلا منافاة بين هذه الآية التي تقصد وصول دعوة الأنبياء إلى الأمم ، مع الآية (٤٤) من سورة سبأ والتي تقول :( وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ) والتي يقصد منها كون المنذر منهم.

ويضيف تعالى في الآية التالية :( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ) فلا عجب من ذلك ، ولا تحزن بسبب ذلك ، لأنّه( فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ

٦٩

وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ ) .

فلست وحدك الذي أصبحت موضع تكذيب هؤلاء القوم الجاهلين بما عندك من معجزات وكتاب سماوي ، فقد واجه الرسل السابقون هذه المشكلة أيضا ، لذا فلا تغتمّ وواصل سيرك بحزم ، واعلم أنّ من كتبت له الهداية فسوف يهتدي.

أمّا ما هو الفرق بين (البيّنات ـ والزبر ـ والكتاب المنير)؟ المفسّرين أظهروا وجهات نظر مختلفة ، أوضحها تفسيران :

١ ـ «البيّنات» بمعنى الدلائل الواضحة والمعجزات التي تثبت حقّانية النبي ، أمّا «الزبر» فجمع «زبور» بمعنى الكتب التي كتبت بإحكام (مثل الكتابة على الحجر وأمثالها) وهي كناية عن استحكام مطالبها(١) . وإشارة إلى الكتب النازلة قبل موسىعليه‌السلام . في حين أنّ «الكتاب المنير» إشارة إلى كتاب موسىعليه‌السلام والكتب السماوية الاخرى التي نزلت بعده ، (لأنّه وردت الإشارة في القرآن المجيد في سورة المائدة ـ الآيات ٤٤ و ٤٦ إلى التوراة والإنجيل على أنّهما (هدى ونور وفي نفس السورة ـ الآية ١٥ عبّر عن القرآن الكريم بالنور أيضا).

٢ ـ المقصود بـ «الزبر» ذلك القسم من كتب الأنبياء التي تحتوي على العبرة والموعظة والنصيحة والمناجاة (كزبور داود) ، وأمّا «الكتاب المنير» فتلك المجموعة من الكتب السماوية التي تحتوي على الأحكام والقوانين والتشريعات الاجتماعية والفردية المختلفة مثل التوراة والإنجيل والقرآن. ويبدو أنّ هذا التّفسير أنسب.

تشير الآية الأخيرة من هذه الآيات إلى العقاب الأليم لتلك المجموعة فتقول :( ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (٢) فهم لم يكونوا بمنأى عن العقاب الإلهي ، وإن

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : زبرت الكتاب كتبته كتابة عظيمة ، وكلّ كتاب غليظ يقال له زبور.

(٢) (أخذت) من مادّة (أخذ) بمعنى حيازة الشيء وتحصيله ، لكنّها هنا كناية عن المجازاة ، لأنّ الأخذ مقدّمة للعقاب.

٧٠

استطاعوا أن يستمروا بتكذيبهم إلى حين.

فبعض عاقبناهم بالطوفان ، وبعض بالريح العاصفة المدمّرة ، وآخرون بالصيحة والصاعقة والزلزلة.

أخيرا لتأكيد وبيان شدّة وقسوة العقوبة عليهم يقول :( فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) ذلك تماما مثلما يقوم شخص بإنجاز عمل مهمّ ثمّ يسأل الحاضرين : كيف كان عملي؟

على أيّة حال فإنّ هذه الآيات تواسي وتطمئن من جانب كلّ سالكي طريق الله والقادة والزعماء المخلصين منهم بخاصّة ، من كلّ امّة وفي أي عصر وزمان ، لكي لا ييأسوا ولا يفقدوا الأمل عند سماعهم استنكار المخالفين ، ولكي يعلموا أنّ الدعوات الإلهية واجهت دائما معارضة شديدة من قبل المتعصّبين الجاحدين الظلمة ، وفي نفس الوقت وقف المحبّون العاشقون المتولّهون إلى جنب دعاة الحقّ وفدوهم بأنفسهم أيضا.

ومن جانب آخر فهي تهديد للمعاندين الجاحدين ، لكي يعلموا أنّهم لن يستطيعوا إدامة أعمالهم التخريبية القبيحة إلى الأبد ، فعاجلا أو آجلا ستحيط بهم العقوبة الإلهية.

* * *

٧١

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) )

التّفسير

العجائب المختلفة للخلقة :

مرّة اخرى تعود هذه الآيات إلى مسألة التوحيد ، وتفتح صفحة جديدة من كتاب التكوين أمام ذوي البصائر من الناس ، لكي ترد بعنف على المشركين المعاندين ومنكري التوحيد المتعصّبين.

لفتت هذه الصفحة المشرقة من كتاب الخلق العظيم إلى تنوّع الجمادات والمظاهر المختلفة والجميلة للحياة في عالم النبات والحيوان والإنسان ، وكيف جعل الله سبحانه من الماء العديم اللون الآلاف من الكائنات الملوّنة ، وكيف خلق من عناصر معيّنة ومحدودة موجودات متنوّعة أحدها أجمل من الآخر.

فهذا النقاش الحاذق أبدع بقلم واحد وحبر واحد أنواع الرسوم والأشكال التي

٧٢

تجذب الناظرين وتحيّرهم وتدهشهم.

أوّلا تقول الآية الكريمة :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ) .

شروع هذه الجملة بالاستفهام التقريري ، وبتحريك حسّ التساؤل لدى البشر ، إشارة إلى أنّ هذا الموضوع جلي إلى درجة أنّ أي شخص إذا نظر أبصر ، نعم ، يبصر هذه الفواكه والزهور الجميلة والأوراق والبراعم المختلفة بأشكال مختلفة تتولّد من ماء وتراب واحد.

«ألوان» : قد يكون المراد «الألوان الظاهرية للفواكه» والتي تتفاوت حتّى في نوع الفاكهة الواحد كالتفّاح الذي يتلوّن بألوان متنوعة ناهيك عن الفواكه المختلفة. وقد يكون كناية عن التفاوت في المذاق والتركيب والخواص المتنوّعة لها ، إلى حدّ أنّه حتّى في النوع الواحد من الفاكهة توجد أصناف متفاوتة ، كما في العنب مثلا حيث أنّه أكثر من ٥٠ نوعا ، والتمر أكثر من سبعين نوعا.

والملفت للنظر هو استخدام صيغة الغائب في الحديث عنهعزوجل ، ثمّ الانتقال إلى صيغة المتكلّم ، وهذا النوع من التعابير ، غير منحصر في هذه الآية فقط ، بل يلاحظ في مواضع اخرى من القرآن المجيد أيضا ، وكأنّ الجملة الاولى تعطي للمخاطب إدراكا ومعرفة جديدة ، وتستحضره بهذا الإدراك والمعرفة بين يدي الباريعزوجل ، ثمّ عنده حضوره يلقى عليه الحديث مباشرة.

ثمّ تشير الآية إلى تنوّع أشكال الجبال والطرق الملوّنة التي تمرّ من خلالها وتؤدّي إلى تشخيصها وتفريقها الواحدة عن الاخرى. فتقول :( وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ ) (١) .

هذا التفاوت اللوني يضفي على الجبال جمالا خاصّا من جهة ، ومن جهة

__________________

(١) قال البعض بأنّ هذه الجملة الاستئنافية «من الجبال» خبر مقدّم و «جدد» مبتدأ مؤخّر ، وذهب آخرون : إنّ تقدير الجملة هكذا «ألم تر أنّ من الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها».

٧٣

اخرى ، يكون سببا لتشخيص الطرق وعدم الضياع فيما بين طرقها المليئة بالالتواءات والانحدارات ، وأخيرا فهو دليل على أنّ الله على كلّ شيء قدير.

«جدد» جمع «جدّة» ـ على وزن غدّة ـ بمعنى الجادّة والطريق.

«بيض» جمع «أبيض» كما أنّ «حمر» جمع «أحمر» وهو إشارة إلى الألوان.

«غرابيب» جمع «غربيب» ـ على وزن كبريت ـ وهو المشبّه للغراب في السواد ، كقولك أسود كحلك الغراب. وعليه فإنّ ذكر كلمة «سود» بعدها والتي هي أيضا جمع «أسود» تأكيد على شدّة وحلك السواد في بعض الطرق الجبلية(١) .

واحتمل أيضا أن يكون التّفسير : ألم تر أنّ الجبال نفسها مثل طرائق بيضا وحمرا وسودا مختلفا ألوانها خطّت على سطح الأرض ، وخاصّة إذا نظر إليها الشخص من فاصلة بعيدة ، فانّها ترى على شكل خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض وحمر وسود مختلف ألوانها(٢) .

على كلّ حال فإنّ تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة ، وتلوين الطرق الجبلية بألوان متفاوتة ، من جهة اخرى ، دليل آخر على عظمة وقدرة وحكمة الله سبحانه وتعالى والتي تتجلّى وتتزيّن كلّ آن بشكل جديد.

وفي الآية التالية تطرح مسألة تنوّع الألوان في البشر والأحياء الاخرى ، فيقول تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) .

أجل ، فالبشر مع كونهم جميعا لأب وأمّ واحدين ، إلّا أنّهم عناصر وألوان متفاوتة تماما ، فالبعض أبيض البشرة كالوفر ، والبعض الآخر أسود كالحبر ، وحتّى في العنصر الواحد فإنّ التفاوت في اللون شديد أيضا ، بل إنّ التوأمين الذين يطويان المراحل الجنينية معا ، واللذين يحتضن أحدهما الآخر منذ البدء ، إذا دقّقنا

__________________

(١) استنادا إلى ما صرّحت به بعض كتب اللغة كلسان العرب فإنّ (سود) في الآية أعلاه هي بدل عن «غرابيب» لأنّه في حالة الألوان لا يقدّم التأكيد ، لاحظ أنّ (غرابيب) أكثر إشباعا للتأكيد من ناحية السواد ، لذا قيل إنّ الأصل كان «سود غرابيب».

(٢) تفسير الميزان ، مجلّد ١٧ ، صفحة ٤٢.

٧٤

النظر نجدهما ليسا من لون واحد ، مع أنّهما من نفس الأبوين ، وتمّ انعقاد نطفتيهما في وقت واحد ، وتغذّيا من غذاء واحد.

ناهيك عن التفاوت والاختلاف الكامل في بواطنهم عدّ أشكالهم الظاهرية ، وفي خلقهم ورغباتهم وخصوصيات شخصياتهم واستعداداتهم وذوقهم ، بحيث يتكوّن بذلك كيان مستقل منسجم بكلّ احتياجاته الخاصّة.

في عالم الكائنات الحيّة أيضا يوجد آلاف الآلاف من أنواع الحشرات ، الطيور ، الزواحف ، الحيوانات البحرية ، الوحوش الصحراوية ، بكلّ خصائصها النوعية وعجائب خلقتها. كدلالة على قدرة وعظمة وعلم خالقها.

حينما نضع قدمنا في حديقة كبيرة من حدائق الحيوان فسوف نصاب بالذهول والحيرة والدهشة بحيث أنّنا ـ بلا وعي منّا ـ نتوجّه بالشكر والثناء لله المبدع لكلّ هذا الفن الخلّاب على صفحة الوجود. مع أنّنا لا نرى أمامنا في تلك الحديقة إلّا جزء من آلاف الأجزاء من الموجودات الحيّة في العالم.

وبعد عرض تلك الأدلّة التوحيدية يقول تعالى في الختام جامعا : نعم إنّ الأمر كذلك( كَذلِكَ ) (١) .

ولأنّ إمكانية الانتفاع من آيات الخلق العظيمة هذه تتوفّر أكثر عند العباد العقلاء والمفكّرين يقول تعالى في آخر الآية :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

نعم فالعلماء من بين جميع العباد ، هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية «وهي الخوف من المسؤولية متوافق مع إدراك لعظمة الله سبحانه» ، حالة (الخشية) هذه تولّدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية ، والتعرّف على حقيقة علم وقدرة الله وغاية الخلق.

__________________

(١) حول ما هو إعراب «كذلك» أعطيت احتمالات عديدة ، بعضهم قالوا بأنّها جملة مستقلّة تقديرها (الأمر كذلك) ونحن انتخبنا في تفسيرنا هذا المعنى لكونه الأنسب ، ولكن البعض ربطوها بالجملة السابقة فقالوا : إنّ المعنى هو كما أنّ الثمرات وجدد الجبال مختلف ألوانها كذلك الناس والدواب والأنعام ، وقد احتمل أيضا أن تكون الجملة مرتبطة بما بعدها والمعنى : كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.

٧٥

الراغب في مفرداته يقول : «الخشية خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ، ولذلك خصّ العلماء بها».

قلنا تكرارا بأنّ الخوف من الله بمعنى الخوف من المسؤولية التي يواجهها الإنسان ، الخوف من أن يقصّر في أداء رسالته ووظيفته ، ناهيك عن أنّ إدراك جسامة تلك المسؤولية يؤدّي أيضا إلى الخشية ، لأنّ الله المطلق قد عهد بها إلى الإنسان المحدود الضعيف ، (تأمّل بدقّة)!!

كذلك يستفاد من هذه الجملة ضمنا بأنّ العلماء الحقيقيين هم أولئك الذين يستشعرون المسؤولية الثقيلة حيال وظائفهم ، وبتعبير آخر : أهل عمل لا كلام ، إذ أنّ العلم بدون عمل دليل على عدم الخشية ، ومن لا يستشعر الخشية لا تشمله الآية أعلاه.

هذه الحقيقة وردت في حديث عن الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام حيث يقول : «وما العلم بالله والعمل إلّا إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه ، وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله ، وإنّ أرباب العلم وأتباعهم (هم) الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه ، وقد قال الله :( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) »(١) .

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية «يعني بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم»(٢) .

وفي حديث آخر جاء «أعلمكم بالله أخوفكم لله»(٣) .

ملخّص القول أنّ العلماء ـ بالمنطق القرآني ـ ليسوا أولئك الذين تحوّلت أدمغتهم إلى صناديق للآراء والأفكار المختلفة من هنا وهناك ومليئة بالقوانين والمعادلات العلميّة للعالم وتلهج بها ألسنتهم ، أو الذين سكنوا المدارس

__________________

(١) روضة الكافي ، طبقا لنقل نور الثقلين ، مجلّد ٤ ، صفحة ٣٥٩.

(٢) مجمع البيان ، تفسير الآيات مورد البحث.

(٣)

٧٦

والجامعات والمكاتب ، بل إنّ العلماء هم أصحاب النظر الذين أضاء نور العلم والمعرفة كلّ وجودهم بنور الله والإيمان والتقوى ، والذين هم أشدّ الناس ارتباطا بتكاليفهم مع ما يستشعرونه من عظمة المسؤولية إزاءها.

نقرأ في سورة القصص أيضا أنّه حينما اغترّ «قارون» واستشعر الرضى عن نفسه وادّعى لها مقام العلم ، قام يعرض ثروته أمام الناس ، وتمنّى عبّاد الدنيا الذين أسرتهم تلك المظاهر البرّاقة أن تكون لهم مثل تلك الثروة والإمكانية الدنيوية ، ولكن علماء بني إسرائيل قالوا لهم : إنّ ثواب الله خير وأبقى لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يفوز بذلك إلّا الصابرون المستقيمون :( وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ ) (١) .

وفي ختام الآية يقول تعالى ، كدليل موجز على ما مرّ :( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) .

«عزّته» وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند العلماء ، و (غفرانه) ، سبب في الرجاء والأمل عندهم ، وبذا فإنّ هذين الاسمين المقدسين يحفظان عباد الله بين الخوف والرجاء ، ونعلم بأنّه لا يمكن إدامة الحركة باتّجاه التكامل بدون الاتّصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافئ.

* * *

__________________

(١) القصص ـ ٨٠

٧٧

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) )

التّفسير

التجارة المربحة مع الله :

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء ، تشير الآيات مورد البحث إلى مرتبة «الأمل والرجاء» عندهم أيضا ، إذ أنّ الإنسان بهذين الجناحين ـ فقط ـ يمكنه أن يحلّق في سماء السعادة ، ويطوي سبيل تكامله ، يقول تعالى أوّلا :( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) (١) .

بديهي أنّ «التلاوة» هنا لا تعني مجرّد القراءة السطحية الخالية من التفكّر والتأمّل ، بل قراءة تكون سببا وباعثا على التفكّر ، الذي يكون بدوره باعثا على العمل الصالح ، الذي يربط الإنسان بالله من جهة ، ومظهر ذلك الصلاة ، ويربطه

__________________

(١) يلاحظ أنّ «يرجون» خبر «أنّ».

٧٨

بخلق الله من جهة ثانية ، ومظهر ذلك الإنفاق من كلّ ما تفضّل به الله تعالى على الإنسان ، من علمه ، من ماله وثروته ونفوذه ، من فكره الخلّاق ، من أخلاقه وتجاربه ، من جميع ما وهبه الله.

هذا الإنفاق تارة يكون (سرّا) ، فيكون دليلا على الإخلاص الكامل. وتارة يكون (علانية) فيكون تعظيما لشعائر الله ودافعا للآخرين على سلوك هذا الطريق.

ومع الالتفات إلى ما ورد في هذه الآية والآية السابقة نستنتج أنّ العلماء حقّا هم الذين يتّصفون بالصفات التالية :

* قلوبهم مليئة بالخشية والخوف من الله المقترن بتعظيمه تعالى.

* ألسنتهم تلهج بذكر الله وتلاوة آياته.

* يصلّون ويعبدون الله.

* ينفقون في السرّ والعلانية ممّا عندهم.

* وأخيرا ومن حيث الأهداف ، فإنّ أفق تفكيرهم سام إلى درجة أنّهم أخرجوا من قلوبهم هذه الدنيا الماديّة الزائلة ، ويتأمّلون ربحا من تجارتهم الوافرة الربح مع الله وحده ، لأنّ اليد التي تمتدّ إليه لا تخيب أبدا.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ «تبور» من «البوار» وهو فرط الكساد ، ولمّا كان فرط الكساد يؤدّي إلى الفساد كما قيل «كسد حتّى فسد» عبّر بالبوار عن الهلاك ، وبذا فإنّ «التجارة الخالية من البوار» تجارة خالية من الكساد والفساد.

ورد في حديث رائع أنّه جاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال : «ألك مال» قال : نعم. قال : «فقدّمه» قال : لا أستطيع. قال : «فإنّ قلب الرجل مع ماله ، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به ، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه»(١) .

إنّ هذا الحديث في الحقيقة يعكس روح الآية أعلاه ، لأنّ الآية تقول إنّ الذين

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٧.

٧٩

يقيمون الصلاة ، وينفقون في سبيل الله لهم أمل وتعلّق بدار الآخرة ، لأنّهم أرسلوا الخيرات قبلهم ولهم الميل للحوق به.

الآية الأخيرة من هذه الآيات ، توضّح هدف هؤلاء المؤمنين الصادقين فتقول : انّهم يعملون الخيرات والصالحات( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (١) .

هذه الجملة في الحقيقة تشير منتهى إخلاصهم ، لأنّهم لا ينظرون إلّا إلى الأجر الإلهي ، أي شيء يريدونه من الله يطلبونه ، ولا يقصدون به الرياء والتظاهر وتوقّع الثناء من هذا ومن ذاك ، إذ أنّ أهمّ قضيّة في الأعمال الصالحة هي «النيّة الخالصة».

التعبير بـ «أجور» في الحقيقة لطف من الله ، فكأنّ العباد يطلبون من الله مقابل أعمالهم أجرا!! في حال أنّ كلّ ما يملكه العباد منه تعالى ، حتّى القدرة على إنجاز الأعمال الصالحة أيضا هو الذي أعطاهم إيّاها.

وألطف من هذا التعبير قوله( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) الذي يبشّرهم بأنّه علاوة على الثواب الذي يكون عادة على الأعمال والذي يكون مئات أو آلاف الأضعاف المضاعفة للعمل ، فإنّه يزيدهم من فضله ، ويعطيهم من سعة فضله ما لم يخطر على بال ، وما لا يملك أحد في هذه الدنيا القدرة على تصوره.

جاء في حديث عن ابن مسعود عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في قوله :( وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) : هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفا في الدنيا(٢) .

وبذا فإنّهم ليسوا فقط من أهل النجاة ، بل إنّهم يكونون سببا في نجاة الآخرين بفضل الله ولطفه.

__________________

(١) جملة «ليوفّيهم» إمّا أنّها متعلّقة بجملة «يتلون كتاب الله ...» وعليه يكون معناها «إنّ هدفهم من التلاوة والصلاة والإنفاق الحصول على الأجر الإلهي» أو أنّها متعلّقة بـ «لن تبور ...» وبذا يكون معناها «إنّ تجارتهم لن يصيبها الفساد لأنّ المثيب لهم هو الله تعالى».

(٢) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٠٧.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

مادّته مِن هذا التخريف، فإنّ لنا مِن مُحتويات تاريخنا الناصع ما هو مَحلُّ اعتزاز الإِنسانية، وإلحاقاً بهذا أُشفع لك هذا الروايات ببعض النماذج الأُخرى التي خلقها التنافُس بين المذاهب بدون أن يُلتَفت إلى أنّه بذلك يُحط مِن قيمة المذاهب كُلّها.

يقول ابن الجوزي في كتابه الياقوتة: إنّ أبا حنيفة كان في حياته يُعلِّم الخضر، ولمّا مات، أسف الخضر وناجى ربّه وقال:

(إلهي إن كان لي عندك مَنزلة، فأذن لأبي حنيفة حتّى يعلمني مِن القبر على حَسَب عادته حتّى أتعلّم شرع محمّد على الكمال)، فأحياه الله تعالى، وتعلّم منه العِلم إلى خمسة وعشرين سنة إلخ (١) . فمن هو الذي يقول بالرجعة يا مسلمون؟

ويقول ابن الجوزيّة في كتاب المناقب عن عليِّ بن إسماعيل قال: رأيت القيامة قد قامت، وجاء الناس إلى قنطرة ولا يترك أحد يجوز حتّى يأتي بخاتم، ورجل جالس ناحية يَختم للناس ويعطيهم فقلت: مَن هذا؟ قالوا: أحمد بن حنبل (٢) .

وبوسعك أن تقرأ روايات في الإِمام مالك، وفي الإِمام الشافعي، وفي كثير مِن الفقهاء والأئمّة مِمّا نُسِج مِن الخيال، ووضِع في طريق القارئ يؤذي ذوقه ويخدش حسّه، وبعد ذلك فماذا يُسمّى مثل هذا؟

هل هو غلوٌّ أم لا؟ سؤال موجه للأستاذ فرغل.

وسأُقدِّم لفرغل نموذجاً واحداً فقط، يقول صاحب تفسير روح البيان عند تفسير قوله تعالى: ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) : إنّ نصف الثمانية الّذين ذَكرَتهم الآية هم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل.

ما يقول مولانا فرغل في ذلك؟؟!!

____________________

(١) الإِمام الصادق لأسد حيدر: ٥/١١٧.

(٢) المصدر السابق: ٣/٤٧٠.

١٦١

الفَصلُ الرابِع

مُناقَشَةُ كِتاب نشأة الآراء والمذاهب

يقول مُؤلِّف الكِتاب المذكور يحيى هاشم فرغل، مُستعرضاً فِكرة عصمة الأئمّة: إنّ عِصمة الأئمّة ظَهَرت عند غُلاة الشيعة. وذكر أنّ زيد بن عليٍّ كان يستنكرها، ثمّ استنتج أنّ السُنّة إنّما بحثوا عِصمة الأنبياء؛ لأنّ الشيعة بَحثوا عِصمة الأئمّة، وذكر أدلّة الإماميّة على العِصمة، ومنها حديث الثَقَلين وقد رواه هكذا:

(إنّي تركت فيكم ما إن تَمسكتُم به لن تضلّوا بَعدي، كتاب الله حَبل ممدود مِن السماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يَرِدا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما)، ثمّ ذكر صُوراً أُخرى للحديث، ثمّ قال: إنّ هذا الحديث جعل العترة أهل البيت بمنزلة القرآن وعِدلاً له، كما جعل لهم جميع ما كان للنبي مِن المناصب إلاّ النُبوّة؛ ليكون كأنه موجود بنفسه ليقوم على رعاية الشريعة، وقد نزّل الحديث العِترة منزلة القرآن، فلا بُدَّ مِن أن يكون عندهم كلّ ما فيه مِن العلوم، فمن ثمّ يكون الإِمام عالماً بجميع تفاصيل القرآن والسُنّة؛ لتُؤخذَ عنه عُلومهما كاملة.

ثمّ أورد روايات للشيعة حول عِلم الإِمام، ومنها ما ورد عن الإِمام عليٍّ (ع): (ما أُنزِلت آية مِن القرآن على رسول الله (ص) إلاّ وأقرأنيها وتلاها عليَّ، فكتبتها بيدي، وعَلَّمني تفسيرها وتأويلها ومُحكمها ومُتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصّها وعامّها، ودعا الله تعالى أن يعطيني فَهمها وحِفظها، ووضع يَده على صدري، ودعا الله أن يملأ قلبي عِلماً وحكمة)، ثمّ أورد روايات هي في الواقع تجسيد لمنطوق هذا الحديث وهذه الرواية كوجود كِتاب الجفر، والجامعة، ومِصحف فاطمة

١٦٢

عند أهل البيت، وشرح آراء الشيعة في معنى وجود هذه الكُتُب عند أهل البيت، وذكر أنّ الشيعة قالوا: إنّها بإملاء النبيّ، وخطِّ عليٍّ، وأنّه ليس فيها مِن القرآن شيء، وإنّما هي شُروح وأخبار بالملاحِم، ثمّ ذكر الروايات التي تَدلّ على أنّ أهل البيت مُحدَّثون، وأنّهم - أي الشيعة - يَعضدون هذه الروايات بروايات سُنيّة، ومنها قول النبيّ (ص)، الذي اتّفق عليه أهل السُنّة: (إن فيكُم مُحدَّثين)، وقولُ بعض الصحابة: كنت أُحدَّث حتّى اكتويت، ثمّ انتقل بَعد ذلك إلى الروايات التي تدلُّ على وحدة السنخيّة بين النبيّ والأئمة كقول النبيّ (ص): (إنّ الله خلقني وخلق عليّاً والحسن والحسين مِن نورٍ واحد). وقال في نهاية هذا الفصل: وإذاً فنحنُ في النهاية نصل إلى عقيدة فلسفية أو ميتافيزيقيّة في الإِمام، تجعل مِن الأئمّة ومِن الرسول جوهراً نورانيّاً واحداً، سابقاً على الوجود الأرضي، وهنا نَصِل إلى نُقطة هامّة، نسأل فيها عن ماهيّة درجة الإِمامة، وهل هي بِدرجة النُبوّة أم لا؟

واستطراداً مِن هُنا أقول: إنّ المرء أمام هذه الآراء لا يستغرب أن تنشأ في تُربتها آراء الغُلاة، ودعاوى التنبّؤ، ويَجِد في هذه إظهاراً طبيعيّاً للمكوِّنات تلك (١) .

انتهى كلام فرغل بتلخيص وتَصرُّف في لفظ العبارة مع حفط المضمون بمنتهى الضبط.

أتّضح مِن هذا الفصل الذي لخّصناه، أنّ فرغل يستنكر عدّة أُمور، ويعتبرها نوعاً مِن الغلوِّ، وهي: العصمة، ثمّ وحدة الأصل والسنخيّة بين النبي (ص) وأهله (ع)، ثمّ استنكر ما يُنسَب لأهل البيت مِن عُلوم، واستنكر رابعاً أن تكون مَنزِلة الأئمّة بعد النبيّ (ص)، وخامساً نَسب الشيعة للغلو.

تعقيب

وأنا أُوجِّه للأستاذ فرغل سؤالاً هو: لو أنّ هذه الأُمور التي استنكرها عند الشيعة وجِدَت عند السُنّة، فهل ينتقد السُنّة أم لا؟

وستعجب مِن هذا السؤال، وتقول: كيف لا ينتقدُهم والموضوع واحدٌ، ولا فرقَ بين أن يقولَ به السُنّة أو الشيعة؟

____________________

(١) نشأة الآراء والمذاهب والفِرَق الكلاميّة: ١/١٢٧ حتّى١٤٢.

١٦٣

وأنا أُجيبك: إنّه لا ينتقدهم إذا كانوا غير شيعة، وهو ما وقع بالفعل؛ لأنّهم قالوا بهذه الأُمور التي نُقد بها الشيعة، وسأُوقفك على قولهم فيما يلي:

١ - فالأمر الأوّل

الذي نُقِد به الشيعة: القول بالعصمة، ولا أحتاج أن أُكرِّر ما سبق أن ذكرتُه، ودللت عليه مِن قول كثير مِن السُنّة بالعصمة، إن لم يكن كلُّهم، ومع ذلك لم يتعرَّض له يحيى فرغل بالنقد. على أنّ يحيى فَرغل أهون مِن غيره في هذا الباب؛ ذلك أنّ غيره كان أكثر منه عُنفاً وتهجُّماً.

خُذ مثلاً: الدكتور نبيه حجاب أُستاذ الأدب - لو كان هناك أدب - في دار العُلوم بالقاهرة، إنّ هذا الرجل يَشتم الشيعة شتماً عجيباً، ويعتبر عقيدتهم بالعصمة مَظهراً مِن مَظاهر الشُعوبيّة فاقرأ ما يقول:

إنّ هذه العقيدة تسرّبت للشيعة عن الفُرس، الذين نشأوا على تقديس الحاكم؛ لهذا أطلق عليها العَرَب: النزعة الكُسرويّة - ولا أعرف أحداً مِن العَرَب قال ذلك في حدود اطلاعي - ولعلّ غالبيّة الشيعة كانت ترمي مِن وراء هذه الفكرة إلى تنزيه عليٍّ (ع) عن الخطأ؛ حتّى يتّضح للملأ عُدوان بني أُميّة في اغتصاب الخلافة، هذا وفي اليهوديّة كثير مِن المذاهب التي تسرّبت إلى الشيعة (١) .

أَسَمِعت هذه الأنشودة التي يتناقلها الخَلَف عن السَلف بصورة بَلهاء، وقد فَنّدنا لك هذا الزعم فيما مضى مِن مبحث فارسيّة التَشَيُّع.

لكنّ الذي أُريد السؤال عنه: ما هو الخطأ في سُلوك الإِمام عليٍّ (ع) في نَظَر نبيه حجاب، هل هو الحُروب التي قام بها مِن أجل المبادئ؟ مِمّا أدّى إلى عدم الاستقرار في الوقت الذي لم يستقر فيه وضع الأُموييّن إلاّ على الجماجم، وعلى كلّ حال لا يضرّ عليّاً أن يُخطّئه نبيه حجاب، بعد أن قال فيه الرسول: (عليّ مع الحقِّ، والحقُّ مع علي) ومِن الطبيعي جدّاً أن يكون عليٌّ في جانبٍ مع مَن هو مِن معدنه، ونبيه حجاب ومَن هُم مِن معدنه في الجانب المُقابل.

____________________

(١) مظاهر الشعوبّة في الأدب العربي: ص٤٩٢.

١٦٤

٢ - الأمرُ الثاني:

الذي استنكره فرغل: هو كونُ النبيّ (ص) وأهل بيته مِن نور واحد.

ولا أدري ما هو وجه الاستغراب، بعد أن أثبت الشيعة ذلك مِن مصادره الصحيحة؟ هل لأنّ ذلك لم يُصادف هوىً في نفوس مَن لا يوالون أهل البيت أم ماذا؟

ثمّ لماذا إذا وُجِد مِثل هذا عند السُنّة لا يكون داعياً للاستغراب؟! هذا الذهبي يروي في ميزان الاعتدال حديثاً عن طريق أبي هُريرة عن النبيّ (ص) أنّه قال: (خلقني الله مِن نورٍ، وخلق أبا بَكر مِن نوري، وخلق عُمَر مِن نور أبي بكر وخلق عُثمان مِن نور عُمَر وعمر سراج أهل الجنّة) (١) .

ولا أدري لماذا جاء النور إلى حدِّ عُثمان، ولم يَصل إلى عليٍّ مع أنّه على الأقل خَليفة رابع؟!

لك الله يا ابن أبي طالب، وما أدري ماذا يقول الأستاذ فرغل؟ هل هذا غلوٌّ أم لا؟ أفتونا يرحمكم الله.

هذا مع أنّه مِن الطبيعي وحدة السِنخيّة بين الإِنسان وأهله، وآل محمّد عِدل الكتاب، وعيبة عِلم النبيّ، فلماذا يستكثر عليهم الأُستاذ فرغل ما لا يَستكثِره على غيرهم؟

٣ - الأمرُ الثالث:

الذي استنكره الأستاذ فرغل هو: عِلم أهل البيت بالشريعة، والعلوم القرآنية، وعلوم السُنّة الشريفة، وأن يكونوا مُحدَّثين.

وهنا يُقال: إنّ عِلم أهل البيت إمّا أن يكون بالطُرق العاديّة كالتلقّي والمُدارسة، أو يكون مِن قبيل الإِلهام، وأنّهم مُحدَّثون، أمّا الطريق الأوّل فهو مُتحقِّق لأهل البيت؛ لأنّهم نشأوا في بيت محمّد (ص)، وتربّوا في حِجره، وأخذوا العلم مِن هذه البيئة، وهذا الأمر لا غبار عليه، أمّا العِلم بالطريقة الثانية، وهو الإِلهام والتحديث كما تذهب إليه الروايات، فالمسلمون كُلّهم يقرّون بذلك، وسأذكر جُملة مِن نُصوصهم في إمكان مِثل هذا العلم:

يقول الآلوسي في تفسيره روح المعاني عند تفسيره الآية ٦٥ مِن سورة النحل: وهي قوله تعالى: ( قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ

____________________

(١) ميزان الاعتدال: ١/١٦٦.

١٦٥

اللَّهُ ) عَقَّب عليها فقال: لعلَّ الحقّ أن يٌقال، إنّ عِلم الغيب المنفيّ عن غيره جلّ وعلا، هو ما كان للشخص بذاته، أي بلا واسطة في ثُبوته له، وما وقع للخواص ليس مِن هذا العلم المنفي في شيءٍ، وإنّما هو مِن الواجب عزّ وجلّ إفاضه منه عليهم بوجه مِن الوجوه، فلا يُقال: إنّهم علموا بالغيب بذلك المعنى فإنّه كُفر، بل يقال، إنّهم أُظهِروا واطّلعوا على الغيب (١) .

وما قاله الآلوسي هو عين ما ورد عن أئمة أهل البيت، يقول الإِمام الرضا ثامن أئمة أهل البيت: ( يُبسَط لنا العِلم فنعلم، ويُقبَض عنّا فلا نَعلم ) ، وهذا المعنى هو عين مفاد الآية: ٢٧ مِن سورة الجِن، وهي قوله تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّ مَنِ ارْتَضَى )

وفي شرح هذه الآية يقول الرضا (ع) لعمر بن هداب، وقد سأله عن عِلم الأئمّة قال: (إنّ رسول الله (ص) هو المُرتضى عند الله، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أَطلَعَه الله على غيبه، فَعَلِمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة) (٢) .

وفي هذا المعنى يقول النيسابوري المُفسِّر: إنّ امتناع الكرامة عن الأولياء إمّا لأنّ الله ليس أهلاً لأن يُعطي المؤمن ما يُريد، وإمّا لأنّ المؤمن ليس أهلاً لذلك، وكلّ مِنهما بَعيد، فإنّ توفيق المؤمن لِمعرفته لَمِنْ أشرف المواهب منه تعالى لعبده، فإذا لم يبخل الفيّاض بالأشرف، فلأن لا يبخل بالأدون أولى.

وقد ألقى الإِمام الصادق (ع) الضوء على بعض العُلوم التي أخذوها مِن القرآن بالطُرق الطبيعيّة، وذلك عندما سأله بعض أصحابه، فقال الصادق: (إنّي أعلم ما في السموات والأرض، وأعلم ما في الجنّة والنار، وأعلم ما كان وما يكون) فلّما رأى أنّ السائل استغرب كلامه قال الإِمام: (إنّي علمت ذلك مِن كتاب الله عزّ وجل الذي يقول: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) ) النحل: ٨٩.

وقد روى ذلك عنه وعن

____________________

(١) روح المعاني: ٢٠/٩.

(٢) البحار للمجلسي: ١٢/٢٢.

١٦٦

نَظريّة تلقّي أهل البيت للعلم المُقرّمُ في فصلٍ كبير (١) .

السُنّةُ وعِلمُ الغَيب

وبعد أن أشرتُ إلى أنّ الشيعة يرون أنّ الإِمام مُستعدٌّ لأن يُفيض عليه اللهُ عزَّ وجلّ مِن نوره وعلمه؛ لأنّه وُجِد القابل فلا بخل في ساحة الله تعالى، فعِلمُ الغيب للذات عند الشيعة مُختصٌّ بالله تعالى، أمّا عِلم أهل البيت فإمّا إفاضة مُباشرة مِن الله عن طريق الإِلهام أو التحديث، أو بتوسُّط النبيّ، على أنّه لا يُنكر أنّ هناك مَن يغلو في أهل البيت، ونَحن مِن هؤلاءِ بُراء، وسيمرُّ علينا ذلك، إلاّ أنّ الذي أُريد قوله: إنّ أهل السُنّة يُثبّتون علم الغيب لأئمّتهم على نحو ما يَفعل الشيعة، ويرون أنّهم مُحدّثون، ومِن ذلك ما رواه القُرطبي في تفسير للآية ٥٢ مِن سورة الحج، وهي قوله تعالى:

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) إلى آخر الآية، فقال: جاء عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ الآية هكذا: وما أرسلنا قبلك مِن رسول، ولا نبيٍّ، ولا مُحدَّث إلخ.

ذكره مسلمة بن القاسم بن عبد الله، ورواه سفيان عن عُمَر بن دينار عن ابن عبّاس قال مُسلمة: فوجدنا المُحدّثين معتصمين بالنبوّة؛ لأنّهم تكلّموا بأُمور عالية مِن أنباء الغيب خطرات، ونطقوا بالحكمة الباطنة، فأصابوا فيما تكلَّموا، وعُصِموا فيما نطقوا كعمر بن الخطاب في قِصّة سارية، وما تَكلّم به مِن البراهين العالية (٢) .

هذا هو نصّ ما أورده القُرطبي، وكذلك روى السيوطي قراءة الآية المذكورة، وتكلَّم عن المُحدَّثين في تفسيره الدُرُّ المَنثور فراجعه (٣) .

وقد روى البُخاري في صحيحه، باب مَناقب عُمَر، عن أبي هُريرة قال، قال النبيّ (ص): (لقد كان فيما قَبلَكم مِن بني إسرائيل رجال يُكلَّمون مِن غير أن يكونوا

____________________

(١) مَقتل الحسين للمُقرّم، باب علم الإِمام: ص٢٤ فصاعداً.

(٢) انظر القُرطبي، تفسير سورة الحج مِن تفسيره.

(٣) انظر الدُرُّ المَنثور: ٤/٣٦٦.

١٦٧

أنبياء، فإن يكن مِن أُمّتي فيهم أحد فعُمر).

كما أخرج مُسلِم في صحيحه في باب فضائل عُمَر عن عائشة عن النبيّ (ص): (قد كان في الإِسلام قبلكم مُحدَّثون، فإن يكن في أُمّتي مِنهم أحد فعمر بن الخطاب مِنهم) (١) .

ولم يقف الأمر عند الخلفاء، ولكنّه وصل إلى عُمران بن الحُصين، فعن مطرف قال، قال لي عمران بن الحصين: أُحدّثك حديثاً عسى الله أن ينفعك به، إنّ رسول الله (ص) جمع بين حِجّة وعمرة، ثمّ لم ينه عنه حتّى مات، ولم ينزل فيه قرآن يُحرّمه، وإنّي كنت أُحدَّث حتّى اكتُويت فتُرِكت، ثمّ تركت الكيَّ فعاد. وقد روى ذلك كلٌّ مِن: الدارمي، ومسلم في صحيحيهما (٢) .

ولست أدري ما هي صِله الكي بهروب المُحدِّث، والعلم عند ابن الحُصين رحمه الله.

بل إنّ عُمَر بن عبد العزيز - الخليفة الأُموي - كان الخضرُ يمشي معه ويُحدّثه كما روى ذلك ابن حَجَر في التهذيب (٣) .

وبعد كلّ هذا الذي أوردناه، فهل يُشكِّل هذا مُبرراً لأن يكون أهلُ البيت مِمَّن يُفاض عليهم العلم أم لا؟

أغلبُ الظنِّ أنّ الإِشكال سيبقى قائماً، وسيبقى الشيعة غُلاة أومُخرِّفين؛ لأنّهم يقولون: إنّ الأئمّة يعلمون الغيب بأمر الله.

الأمرُ الرابع:

الذي استنكره الأُستاذ فرغل: أن تأتي مَنزلة أئمة أهل البيت بعد مَنزلة النبيّ (ص) مُباشرة عند الشيعة، والمَقصود: الأئمّة الإثنى عشر فقط لا غيرهم، والحقيقة أنّ الشيعة ليسوا هُم الّذين وضعوا الأئمّة بهذا الموضع، بل السماء هي التي وضعتهم، والشيعة تعبّدوا بأمر السماء، يقول الله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ

____________________

(١) صحيح البُخاري وصحيح مُسلِم، باب فضائل عُمَر.

(٢) الغدير للأميني: ٦/١٨٦.

(٣) التهذيب لابن حجر: ٧/٤٧٧.

١٦٨

وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) المائدة:٥٦.

فقد تظافرت الروايات على نُزولها في الإِمام عليٍّ (ع)، وأنّها أشركته في الولاية العامّة، وقد روى ذلك كلٌّ مِن: الفخر الرازي في تفسيره، وابن جَرير الطبري في تفسيره، والبيضاوي في تفسيره، وأبي حيان في تفسيره، والزمخشري في تفسيره، وابن كثير في تفسيره وغيرهم.

ثمّ مِن بعد القرآن الكريم أعطته السُنّة النبويّة هذه المكانة، فقال له النبيّ (ص): (أنت منّي بمنزلة هارون مِن موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ بعدي)، والحديث مِن الأحاديث المتواترة، وقد أخرجه أهل الصِحاح، ومنهم: البُخاري ومسلم في صحيحيهما في باب فضائل عليّ مِن صحيح البُخاري، وكذلك مِن صحيح مُسلِم.

ويأتي أولاد عليٍّ (ع) مِن بعده، وقد وضعهم النبيّ (ص) في هذه المكانة، وليس أدلَّ على ذلك مِن أنّه جَعلهم عِدلُ الكِتاب فقال (ص): (إنّي مُخلّف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً) إلى آخر الحديث (١) .

والآن لنرجع إلى الفكر السُنّي، فسنجده يضع أئمته في نفس الموضع بدون نكير، بل يرى أنّ النبيّ (ص) وهو المُسدّد بالوحي لا يستغني عن هؤلاءِ الأئمّة؛ لحاجته إليهم.

يقول الحاكم في المستدرك بسنده عن حذيفة بن اليمان، سمعت رسول الله (ص) يقول: (لقد هممت أن أَبعَثُ إلى الآفاق رجالاً يُعلِّمون الناس السُنن والفرائض كما بعث عيسى بن مريم الحواريين) قيل له: فأين أنت عن أبي بكر وعُمر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: (إنّه لا غنى بي عنهما، إنّهما مِن الدين كالسمع والبصر) (٢) .

بل أعطى السُنّة للصحابة منزلة تُساوي مَنزلة النبيّ مِن ناحية حُجيّة أقوالهم وأفعالهم، وكونهم مَصدراً للتشريع.

يقول موسى جار الله في الوشيعة: نحن فقهاء أهل السُنّة والجماعة، نَعتبر سيرة الشيخين الصِدّيق والفاروق أصلاً تُعادِل سُنن الشارع في إثبات الأحكام الشرعيّة في حياة الأُمّة وإدارة الدولة، وأنّ الخلافة الراشدة مَعصومة عِصمة الرسالة، وأنّها ناصفتها في

____________________

(١) البيان والتعريف لابن حمزة الحنفي: ٢/١٣٦.

(٢) مستدرك الحاكم: ٣/٧٤٥.

١٦٩

تثبيت أركان دين الإِسلام (١) .

فالخلفاء كما ينصُّ جار الله هُنا سيرتهم تُعادِل سُنّة النبيّ ونصَّ القرآن، والخلفاء مَعصومون كالنبي (ص)، وأنّهم شاطروا النبيّ، فلهم نصف تثبيت الإِسلام، وللنبي (ص) النصف الثاني.

ويقول الإِمام الغزالي: مذهب الصحابي حُجّة مطلقا ً (٢) .

ويقول: ابن قيم الجوزي: إنّ فتاوى الصحابة أولى أن يُؤخذ بها، وإن اختلفوا، فإن كان الخلفاء الأربعة في شقٍّ فلا شكّ أنّه الصواب، وإن كان أكثرهم في شقٍّ فالصواب للشُقّ الأغلب، وإن كانوا اثنين واثنين، فشق أبي بكر وعُمر أقرب إلى الصواب، فإن اختلف أبو بكر وعمر فالصواب مع أبي بكر، وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب (٣) .

وما أدري ما يقصده ابن القيم مِن قُرب العهد، فإذا كان يُريد القُرب الزماني، فكلّ الخلفاء كانوا مع النبيّ (ص) في زمان واحد، وإن كان يُريد القُرب المكاني بالإِضافة لذلك فعليّ كان ألزم للنبي (ص) مِن ظلِّه، فعلى تعليل ابن القيم يجب تقديم قوله إذا تعارض مع أقوال غيره.

ودعني أُحدّثك عن أروع مِن هذا كُلّه، وهو أن يكون قول بعض أئمة السُنّة هو المقياس لتصحيح القرآن وأحاديث النبيّ (ص) إذا اختلف الكتاب والسُنّة مع قول ذلك الإِمام!

يقول الكَرخي مِن أئمّة الأحناف:

الأصل وجوب العمل بقول أبي حَنيفة، فإن وافقه نصُّ الكتاب والسُنّة فذالك، وإلا وجب تأويل الكتاب والسُنّة على وِفق قول أبي حنيفة، وقد ذكر ذلك الأُستاذ رشيد رضا في تفسير المنار عند تفسير الآية: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً ) البقرة: ١٦٥ (٤) .

ويأتي القوشجي دون الكَرخي بمرقاة فإذا كان الكَرخي جعل فقه الأحناف هو المقياس الذي يَعرض عليه الكِتاب والسُنّة، فإن القوشجي جعل للخليفة عُمَر حقّاً في أن يجتهد مُقابل

____________________

(١) نظريّة الإِمامة: ص٦١.

(٢) المُستصفى: ١/٢٦٠.

(٣) أعلام الموقعين: ٤/١١٨.

(٤) تفسير المنار: ٢/٨٣.

١٧٠

الرسول، فاسمعه في مبحث الإِمامة مِن كِتابه شرح التجريد يقول، إنّ عُمَر قال وهو على المنبر: أيها الناس ثلاث كُنَّ على عَهد رسول الله (ص)، وأنا أنهى عنهنّ وأُحرمهنّ، وأُعاقب عليهنّ: مِتعَة النساء، ومِتعَة الحجّ، وحيَّ على خير العمل. ثمّ عَقّب القوشجي على ذلك بقوله: إنّ ذلك ليس مِمّا يوجب قَدحاً فيه، فإنّ مُخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهاديّة ليس ببدع (١) .

بعد ذلك نقول للأستاذ فَرغل إنّنا نَضع الإِمامة بعد النُبوّة، ونتعبّد بما أعطاه النبيّ (ص) للإِمام من صلاحيات، ولكنّنا لا نجعل الإِمام مقياساً يُعرَض عليه الكتاب والسُنّة، بل العكس، المقياس هو الكِتاب والسُنّة، ونرمي بما خالفهما عَرض الجدار، كما أنّنا لا نُجيز الاجتهاد مُقابل النصّ كما اعتبر القوشجي النبيّ (ص) على أنّه مُجتهد، وقد خالف بذلك إطلاق قوله تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) النجم: ٤ و٣، ومع ذلك فإنّ تقييم الإِمام عندنا موضع استغراب، بينما يذهب غيرنا في أئمّتهم إلى ما ذكرناه عنهم، ومع ذلك لا تَسمع مَن ينقدهُم فلماذا هذا يا أستاذ فرغل؟

هل حاولت مرّة أنت أو أمثالك أن تسألوا أنفسكم عن صِحّة عقائدكم، أو تَنقدوها كما تنقدون غيركم؟ أم أنكم شعب الله المختار يجوز لكم ما لا يجوز لغيركم أم ماذا؟

٥ - الأمرُ الخامس:

اعتبر الأُستاذ فَرغل روايات الشيعة بأنّها مَناخ صالح للّغلو، وأُريد أن أشرح للأستاذ فَرغل موقف الشيعة مِن الغُلوِّ والغُلاة، فالغلو عَرّفه الطبرسي في تفسيره عند شرح الآية ٧٧ مِن سورة المائدة: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) بأنّه ما يُقابل التقصير، وهو تجاوز الحدّ، فقال: إنّ معنى الآية، لا تتجاوزوا الحدَّ الذي حدّه الله لكم إلى الازدياد، وضدّه التقصير، وهو الخُروج عن الحدِّ إلى النُقصان، والزيادة في الحدّ والنقصان عنه كلاهما فساد، ودين الله الذي أمَرَ به هو بين الغلوّ والتقصير، وهو الاقتصاد - أي الاعتدال - (٢) .

____________________

(١) الغدير للأميني: ٦/٢٢٣.

(٢) مجمع البيان: ٢/٢٣٠.

١٧١

أمّا مناشئ الغلوّ فأبرزها وأهمّها في نَظرنا أربعة مناشئ هي على التوالي:

المنشأ الأوّل:

أن يُغالي الإِنسان بشخص أو فِكرة؛ ليتّخذ مِن ذلك مُبرِّراً لاختياره الانتماء لهذه الفكرة أو الشخص، فكأنّه يُريد مُرجِّحاً أمام الناس ومبرِّراً نفسيّاً، ويتبلور هذا المعنى أكثر وأكثر في العقيدة بالأشخاص، فإنّ الأتباع يحاولون رفع مَن يعتقدون به إلى مُستويات غير عاديّة، وهذا المعنى موجود على الصعيد الديني والسياسي، فقد وصف هوبز الحاكم: بأنّه المُعبّر عن إرادة الله وإرادة الشعب، ومنحه السُلطة المُطلقة في التصرُّف، ولم يُعطِ الشَعب حقَّ عَزلِه، واعتبر إرادته مِن إرادة الله تعالى.

وقد ذهب فلاسفة الألمان نفس المَذهب فيما خلعوه على الحاكم مِن صفات، وأشدّهم في ذلك: هيكل أُستاذ ماركس، فالملك عند هيكل صاحب السلطة المُطلقة، وله مَركز مُستقل عن مصالح الأفراد، وتتمثّل في شخصيّته الذات النهائيّة، وهو مجموع الشعب مُشخَّص في واحد، وهو وهو إلخ.

وقد سَبَقَ هؤلاءِ جميعاً أفلاطون حين أعطى الحاكم منازل مُقدّسة، وكذلك الفارابي حيث صَوَّر رئيس المدينة بأنّه مُتّصل بالعقل الفَعّال حيث يقترب مِن الله تعالى (١) .

إنّ كلّ هذه المواقف تَبرير لاعتناق الفِكرة بنحوٍ وآخر يوجده تصور مُعيّن.

المنشأ الثاني للغُلو: ردُّ الفِعل

فإنّ البعض قد يُضطَهد مِن أجل مُعتقداته، وقد يُنتقص أو يُشتَم أو يُهزأ به؛ فيدفعه كلّ ذلك إلى المغالاة بدافع ردِّ الفعل، ولهذا رأينا القرآن الكريم في مثل هذه المواطن أخذ العوامل النَفسيّة بِعين الاعتبار إذ يقول تعالى: ( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) الأنعام: ١٠٨.

وهذه المسألة لها تطبيقاتها على أبعاد التاريخ في كثير مِن الموارد، ومِن هُنا ذهب دونالدسن: إلى أنّ القول بالعِصمة هو ردُّ فعلٍ مِن الخُلفاء الغاصبين، وهو

____________________

(١) نَظريّة الإِمامة: ص١٣٥ فصاعداً.

١٧٢

واهم بذلك (١) .

وقد كان لردَّة الفعل دور كبير في تاريخ المُسلِمينَ وعقائدهم يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند مُعالجة كثير مِن المواقف، وتقييم النُصوص في مُختَلف الميادين.

المنشأ الثالث:

هو الغلو الذي يَنشأ مِن الطيبة والبراءة وحُسن الظنِّ بالآخرين، فيركن إلى مَرويّاتهم مِن دون تمحيص خصوصاً مِن الّذين اندسّوا في الإِسلام لسبب وآخر، وأردوا تغطية حَقيقتهم؛ فتحمّسوا تَحمُّساً مشبوهاً لأشخاص أو أفكار، وهذا المنشأ الحديثُ فيه طويل، فإنّ كثيراً مِن المُندسّين لعبوا دوراً بارزاً في تسجيل نظريّات ومواقف تنزع إلى الغُلوّ حتّى أفسدوا على كثير مِن المُسلِمينَ عقائدهم؛ لمختلف الأهداف التي كانت تَدفعهم، وقد كان لكلِّ مَذهب مِن المذاهب حِصّة مِن هؤلاءِ، تَكثُر أو تقُلّ تبعاً لظروف المذهب نفسه، وربما يَمرُّ علينا هذا المعنى مُفصّلاً فيما يأتي.

المنشأ الرابع: عَدَم الدِقّة

فقد يُبتَلى بعضهم بشُبهات نتيجة فَهم خاطئ، أو تعميم غير مُبرّر علميّاً. كأن يرى رأياً لشخص مِن طائفة فيُعمِّم رأيه على الطائفة كُلّها، وقد تذهب جماعة إلى رأي، ثمّ تبيد ويبقى الرأي، فيأتي مَن يَحمل الرأي للآخرين، وقد يكون استنتاجاً لرأي مِن لازم مِن لوازم القول لم يتفطّن له صاحب القول نفسه، وقد يكون نتيجة خطأ في تَطبق ضابط مِن الضوابط الكُليّة على بعض الجزئيّات وهكذا.

ولذا لا بدَّ مِن التَروّي والحَذَر الشديد عند الكِتابة عن فئة أو طائفة، ولا بُدَّ مِن أخذ رأيها مِن مصادرها المُتسالم عليها، فإذا كان بعض الشيعة في يومٍ مِن الأيّام غالى بالإِمام عليٍّ لقلعه باب خَيبر، فليس كلّ الشيعة كذلك، وإذا كان شَخص قال لعليٍّ وهو يَخطب أنت أنت، فليس كلّ الشيعة كذلك.

____________________

(١) عقيدة الشيعة لدونالدسن: ص٢٢٨.

١٧٣

قيل: إنّ مَثَلَ ذلك كَمَثلِ إقامة الحُدود في الدنيا مع أنّ المُجرم لا يُترك في الآخرة.

هذه بعض الفوائد في موضوع الإِمام المهدي، وليست هي عِلّة تامّة، بل حِكمة ونحن نَتعبَّد بما ورد في النُصوص، وهناك فوائد أُخرى ذكرتها المطوَّلات، وغطّت أبعاد المسألة يمكن الرجوع إليها.

المَردودُ السَلبي في عَقيدة المهدي

المردود الأوّل:

إنّ أوّل المردودات السلبيّة: أنّ هذه الفكرة تشلُّ الإِنسان، وتمنعه عن القيام بواجباته، وتُخدِّر الإِنسان، وتتركه خائفاً ذليلاً، بانتظار ظهور الإِمام ليأخذ له بحقِّه، وقد صوّر بعضُهم شِدَّة لهفة الشيعة لانتظار ظُهور الإِمام بأنّ قسماً مِن الشيعة لا يُصلّون مَخافة أن يخرج الإِمام وهم مشغولون بالصلاة، فلا يستطيعون اللّحِاق به (١) !

وهذا التصوُّر مَردود جُملة وتفصيلاً، فلا أحتاج إلى إكثار القول فيه، بل أُلفِت النظر إلى كُتُب فقهِ الإماميّة، فإنّ الجهاد، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ووجوب الدِفاع عن النفس قائم بالفِعل، ولا يرتبط بالمهدي مِن قريب أو بعيد، ومَن ادّعى خلاف ذلك فليدلّنا على المصدر.

وأمّا الدعاوى الفارغة والقول البذيء، فمردود على القائل، وهو به أولى، ومَن قفا مؤمناً بما ليس فيه حسبه الله تعالى في ردغة الخَبال، كما يقول الحديث النبويّ الشريف (٢) .

____________________

(١) منهاج السُنّة لابن تيميّة: ١/٢٩.

(٢) تفسير الفَخر الرازي عند قوله تعالى: ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... ) .

١٧٤

المَردودُ الثاني:

إنّ الإيمان بفكرة المهدي يؤدّي إلى الازدراء بالعقل؛ لِما في ذلك مِن مُفارقات مثل: طول العُمر غير المُعتاد، وغيبته عن الأبصار، وعدم وجود فائدة في إمام كهذا وغير ذلك.

والجواب على ذلك بالاختصار: إنّ الشيعة لا يجعلون بقاءه هذه المُدّة أمراً طبيعيّاً، وإنّما هو مُعجزة؛ لأنّهم يقولون لِما ثبت بالأدلّة وجوده وغيبته، والوعد بظهوره، فلا بُدَّ والحالة هذه مِن الإِيمان بذلك بالإِضافة لِعدم خُلوِّ الزمان مِن إمامٍ مُفترض الطاعة، وبناءاً على أنّ وجوده مُعجزة يُنقَل حينئذ الكلام إلى المُعجزات كَكُل، فإمّا أن تُصدّق أو تُكذّب، وإذا كذّبناها كذّبنا الثابت في الإِسلام، أمّا أنّه لا يُرى فليس بمعلوم، بل يجوز أن يُرى ولا يُعرف، ويستفاد بآرائه؛ لأنّه يَشترك مع الناس بالآراء، ويلقي بالرأي الصحيح.

يبقى الكلام على عدم تعليل اختفائه، وما أكثر العقائد والأحكام التي لا نَجد لها عِلّة، ونقول بمضمونها مثل: رمي الجَمَرات في الحج، والهرولة، ومُعاقلة المرأةُ الرجل إلى ثلث الديّة، وأعداد ركعات الصلاة وهكذا. فإنّها كُلّها أحكام غير مُعَلَّلَة، بل مُعظم الأحكام هكذا، وكذلك كثير مِن العقائد.

المَردود الثالث:

الازدواجية التي تحصل مِن وجود إمام تَجب طاعته ولا يَحكُم، وآخر يَحكُم ولا تجب طاعته.

والجواب: إنّ فقهاء الإماميّة بالجملة في حال غيبة الإِمام يَقرّون حُكومة الحاكم العادل الذي يرعى مصالح المُسلِمينَ، ويحمي ثُغورهم، ويجاهد عدوّهم، ويُرتِّبون المشروعيّة على تصرفاته بالجملة.

أمّا بعد، فهذه إلمامة موجزة بفكرة الإِمام المهدي أردّت أن اُذكّر مَن يكتبون عنها، فيصوّرون الشيعة كأنّهم اقتبسوا أحكامهم مِن كسرى وقيصر مع وفرة ما أوردناه مِن أحاديث حول فِكرة المهدي، فهل يسع مُسلماً يؤمن بالله نُكرانها، أو رميها بعيداً عن الإِسلام؟ اللهم إلاّ أن يُقال: إنّ أحاديث المهدي دسّها الشيعة في كُتُب السُنّة كما قيل ذلك في موارد أُخر، فإنّ بعضهم إذا لزمته الحُجّة بحديث قال ذلك،

١٧٥

وعليه: يجب أن نرمي كلّ كُتُب التُراث بالبحر إذا كانت قابلة لهذا التصوّر، ولا يبقى بها ثقة إرضاءً لسواد عيون بعض مَن لا يروق له الإِذعان للحقّ، ويُطربه أن يتأصّل الخلاف بين المُسلِمينَ.

إنّنا مَدعوّون إلى حَمل شِعار القرآن: ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٩٢، وما أروع إيماءة القرآن بالأمر للأُمّة بعبادة الله عقيب ذكر وحدة الأُمّة. ففي الآية إشارة إلى أنّ كثيراً مِن الناس يعزّ عليهم وحدة الأُمة؛ لأنّ مصلحتهم الماديّة في فرقتها، ولأنّ أصناماً مِن العصبيّة في رؤوسهم يعبدونها، وقد أمرهم الله تعالى بنبذها وعبادته وحده؛ لأنّه وحّد الأُمّة، وصهرها بكلمة التوحيد.

التَقيّة وأحكامُها

ومّما أُلصِق بالشيعة، وأصبح لا يَتخلّف عنهم عندما يَخطرون في الذهن، وكأنّه عُضو مِنهم خاصّة دون باقي المُسلِمينَ: التَقيّة، والذي ساعد على ذلك أنّ التَشَيُّع انفرد على مَدى تاريخه بالتعرُّض إلى ضغط يَفوق الوصف؛ لأنّه يُشكّل جبهة المعارضة في وقت لا معنى للمعارضة إلاّ العداء، وليس كما تعطيه لفظة المُعارضة مِن مدلول في الوقت الحاضر، وكان اعتياديّاً أن يَتعرّضوا إلى مُطاردة وتَنكيل، وكان لا بُدَّ مِن المُحافظة على أنفسهم مِن الإِبادة التامّة؛ فلجئوا إلى التَقيّة باعتبارها وسيلة يقرُّها الدِّين للاحتماء بها عند الضرورة، ورووا لها سَندها مِن الكتاب والسُنّة، وكان مِن الأولى أن يُمدحوا على ذلك؛ لأنّهم استعملوا ما أمرَ به الشارع لحفظ النفس عند الخطر، ولئلاّ يُعرَّضوا إلى أحدِ أمرين: إمّا الإِبادة، أو الانهيار والارتماء في أحضان الظالمين كما فعل غيرهم مِمَّن آوى إلى فراش الحُكم والحُكّام، يَرتع في موائدهم، ويعيش في حِمايتهم، ويَتكلّف الأدلّة لتصبح آراؤهم منسجمة مع الشَرع، كما قال ابن خلكان في ترجمة أبي يوسف القاضي، قال: إنّ زبيدة زوجة الرشيد كَتَبت إلى أبي يوسف القاضي: ما ترى في كذا؟ وأُحبُّ الأشياء إليَّ أن يكون الحقُّ فيه كذا.

فأفتاها بما أحبَّت، فبعثت إليه بحُقّْ فضّة فيه حِقاق فضّة

١٧٦

مُطبّقات في كلّ واحد لون مِن الطيب، وفي جام دراهم وسطها جام فيه دنانير، وإلخ (١) .

وقد كان للشيعة مندوحة عن كلّ ما عانوه مِن الجور والظلم بشيءٍ مِن مُجاراة الحُكّام، ولكنّهم أبوا ذلك، وتصلّبوا مِن أجل مبادئهم، إلاّ في حالات شاذة.

على أنّ هناك ظاهرة أُلفِت النظر إليها: وهي أنّ الشيعة مُنذ تعرّضوا للضغط عاشت عندهم التَقيّة على مُستوى الفتاوى، ولم تَعشْ على المستوى العملي، بل كانوا عمليّاً مِن أكثر الناس تضحية، وبوسع كلّ باحث أن يرجع إلى مواقف الشيعة مع معاوية وغيره مِن الحُكّام الأُموييّن والحُكّام العباسيّين كحجر بن عَدي، وميثم التمّار، ورشيد الهجري، وكُميل بن زياد ومئات غيرهم، وكمواقف العلويّين على امتداد التاريخ وثوراتهم المُتتالية.

وبعد هذا، فإنّ القول بالتقيّة لم ينفرد به الشيعة، بل هُم في ذلك كسائر المُسلِمينَ، وذلك واضح مِن آراء المُسلِمينَ عند شرحهم للآيات الكريمة والأحاديث الواردة في هذا الخصوص. فمِن الآيات الكريمة التي وردت في هذا الموضوع قوله تعالى: ( لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ) آل عمران: ٢٨ وقوله تعالى: ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) النحل: ١٠٦.

أمّا الأحاديث، فمنها ما ذكره البُخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب المُداراة مع الناس عن النبيّ (ص): (إنّا لنُكشِّر في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم) (٢) .

وكقوله: (رُفع عن أُمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكرِهوا عليه) (٣) .

ذكر ذلك ابن عربي عند تفسيره للآية ١٠٦ مِن سورة النحل.

وكقول النبيّ (ص)

____________________

(١) وَفَيَات الأعيان: ٢/٤٦٥.

(٢) البُخاري: ٤/٤٣.

(٣) أحكام القرآن لابن العربي: ص١١٦٦ تسلسل عام.

١٧٧

لمحمّد بن مسلمة ومَن مَعه َلمّا أرسلهم لقتل كعب بن الأشرف فقالوا: يا رسول الله، أتأذن لنا أن ننال منك؟ فأذن لهم (١) .

وقد انقسم المسلمون في مَفاد هذه النُصوص، ودلالتها على التَقيّة إلى أقسام:

قال بعضهم بجوازها بالقول دون الفعل، وعمّمها بَعضهم إلى الفعل، واختلفوا في وجوبها مُطلقاً، أو جوازها مُطلقاً، أو التفصيل فتجب في بعض الموارد وتجوز في أُخرى.

وسأذكر لك في الفصل القادم آراء بعض فُقهاء المُسلِمينَ؛ لأخذ صورة عن الموضوع، وذلك بعد مَدخل بسيط لصُلب الموضوع:

تَعريفُ التَقيّة:

عرّف المفسّرون التَقيّة بأنّها: إخفاء المُعتقد خوفاً مِن ضرر هالك، ومُعاشرة ظاهرة مع العدوّ المُخالف والقلب مُطمأنٌّ بالعداوة والبغضاء، وانتظار زوال المانع مِن شقِّ العصا (٢) .

وعرّفها الشيخ المُفيد في كتابه أوائل المقالات بأنّها: كتمان الحقِّ، وستر الاعتقاد به، ومُكاتمة المخالفين، وترك مُظاهرتهم بما يُعقب ضرراً في الدنيا والدين (٣) .

والمؤدّى واحد في كلٍّ مِن التعريفين.

وبعد تعريف التَقيّة أعود إلى آراء فقهاء المذاهب الإسلاميّة في أحكام التَقيّة المختلفة.

أقوال فرق المُسلِمينَ فيها

١ - المعتزلة:

أجاز المُعتزلة التَقيّة عند الخَطر المُهلك، وعند خوف تَلَف النفس، وفي ذلك يقول أبو الهذيل العلاّف: إنّ المُكرَه إذا لم يَعرف التعريض والتورية فيما أُكره عليه، فله أن يكذب ويكون وزر الكذب موضوعاً عنه (٤) .

____________________

(١) المصدر السابق: ٢/١٢٥٧.

(٢) دراساتٌ في الفِرَق والعقائد: ص٤٥.

(٣) أوائل المقالات: ص٦٦.

(٤) الانتصار للخيّاط: ٨/١٢٨.

١٧٨

٢ - الخوارج:

انقسم الخوارج حول التَقيّة إلى ثلاثة أقسام:

فالقسم الأوّل: وهُم الأزارقة، أتباع نافع بن الأزرق، منعوا التَقيّة، وندّدوا بمن يعمل بها بِشدّة، وكفّروا القاعدين عن الثورة بوجه الظُلم والظالمين، وفي ذلك يقول نافع بن الأزرق: التَقيّة لا تحلُّ، والقعود عن القتال كُفر واضح؛ لقوله تعالى: ( إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ... ) النساء: ٧٧.

ولقوله تعالى: ( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ) المائدة: ٥٥.

والقسم الثاني: وهم النجدات، أتباع نجدة بن عويمر، فقد أجازوا التَقيّة في القول والعمل، ولو أدّى ذلك إلى قتل النفس التي حرّم الله.

والقسم الثالث: وهم الصفريّة، أتباع زياد بن الأصفر، فكانوا وسَطَاً بين هؤلاءِ وهؤلاء، فأجازوها في القول دون الفعل، كما نصَّ على ذلك عنهم الشهرستاني (١) ، وأدلتهم قابلة للمناقشة ولست بصدد ذلك.

٣ - أهل السُنّة:

التَقيّة عند السُنّة بالإِجماع جائزة في القول دون العَمَل، ويذهب بعضهم إلى الوجوب، فيقول بوجوبها في بعض الحالات، ومنهم الغزالي حيث يقول في ذلك:

إنّ عصمة دم المُسلِم واجبة، فمهما كان القصد سفك دم مُسلِم فالكذب فيه واجب (٢) .

وقد اقتصر بعضهم على الرُخصة بالتقيّة، إذا كان المُسلِم بين كفّار يخافهم على نفسه أو ماله، ومِن هؤلاءِ القائلين بالرُخصة: الرازي المُفسّر، والطبري كذلك في تفسيريهما عند قوله تعالى: ( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) (٣) ، بينما ذهب قِسم آخر مِن العلماء إلى أنّ التَقيّة مُتعيّنة ليست بين الكُفّار فقط، بل حتّى إذا كان المُسلِم بين مسلمين شابهت حالهم الحال مع الكافرين، أي في حال عدم قدرة المُسلِم على

____________________

(١) المِلَل والنِحَل، هامش الفصل: ٤/٦٨.

(٢) إحياء العلوم: ٣/١١٩.

(٣) تفسير الطبري: ٣/٢٢٩، وتفسير الرازي عند تفسير الآية المذكورة.

١٧٩

إظهار عقيدته المذهبيّة بين مسلمين مِن فِرَق أُخرى، وممّن ذهب لهذا الرأي الإِمام الشافعي، وابن حزم الظاهري (١) .

وحُكم التَقيّة كباقي الأحكام باقٍ إلى يوم القيامة، خلافاً لمن قصَّره على أيّام ضعف الإِسلام، وفي ذلك يقول الفقهاء:

إنّها جائزة للمسلم إلى يوم القيامة، مُستندين إلى قول النبيّ (ص) لعمّار بن ياسر لمّا قال للنبي (ص): ما تركوني حتّى نِلت مِنك فقال له: (إن عادوا فعد لهم بما قُلت)، ذكر ذلك البيضاوي في تفسيره للآية ١٠٦ مِن سورة النَحل فراجعه.

٤ - رأي الشيعة بالتَقيّة:

لا يختلف الشيعة عن السُنّة في القول بالتقيّة، فإنّها عِندهم وسيلةٌ أرشد إليها الشرع لحفظ النفوس الواجب حفظها، وحفظ باقي الأُمور التي أمَرَ الشارع بحفظها.

هذا كلّ هَدف التَقيّة عندهم لا غير، وليس كما يقول البعض إنّ الشيعة اتّخذوا مِن التَقيّة أداة للختل والمراوغة والازدواجيّة، ولأجل المؤسّسات السريّة الهدّامة (٢) .

والتقية عند الشيعة تَختلف باختلاف المقام، فقد تكون واجبة، وقد تكون مُباحة، وقد تكون محرمة، ولذلك تجد عبارات فقهاء الشيعة قد ذكرت الحالات الثلاث.

يقول ابن بابويه القمّي: اعتقادنا في التَقيّة: أنّها واجبة، وأنّ مَن تَركها فكأنّما ترك فرضاً لازماً كالصلاة، ومَن تركها قبل ظُهور المهدي، فقد خرج عن دين الله ودين نبيّه والأئمة.

بينما يقول الشيخ المُفيد محمّد بن محمّد بن النُعمان:

التَقيّة جائزة عند الخوف على النفس، وقد تجوز في حال دونه عند الخوف على المال، ولضروب مِن الاستصلاح، وأقول إنّها قد تَجب أحياناً مِن غير وجوب، وأقول: إنّها جائزة في الأقوال كُلّها عند الضرورة، وليس يجوز من الأفعال في قَتل المؤمنين، ولا فيما يُعلم أو

____________________

(١) المُحلّى لابن حزم: ٨/٣٣٥، والمسألة: ١٤٠٨.

(٢) ضحّى الإِسلام: ٣/٢٤٦.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237