هوية التشيع

هوية التشيع25%

هوية التشيع مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 237

هوية التشيع
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39661 / تحميل: 7822
الحجم الحجم الحجم
هوية التشيع

هوية التشيع

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فذلك مَكانَهُ مِن كُتُبِ السِيَر والتراجم، وَسَيَرِدُ في نهاية هذا الفصل، ما يُثبِتُ دعوانا مِن آراء الباحثين والمُنقِّبين.

ومع ما أسلفناه مِن كلام فما هو وجه نسبة التَشَيُّع للفارسية والذي أصبح يرسل عند بعضهم إرسال المسلمات كأنّه مِن الأُمور المفروغ مِنها؟!.

ولأجلِ أن نستوعب الموضوع سَنَضطرُّ إلى الخوضِ في جوانب مُتنوِّعة، ونستعرض آراء كثيرة، وما بَرَّرَت به هذه الآراء صِحَة هذه النِسبَة للتَشيُّع، وهي لا تَختَلِف في مُستواها مِن العِلم عن أصل صحة هذه النِسبَة، ولا أشكُّ أنّك سَتَضحكُ كثيراً عِندما تقرأ هذه الأسباب، ويَأخُذُك العَجَبُ كيفَ أنّ مِثلَ هؤلاءِ الباحثين، وهُم على منزلةٍ مِن العِلمِ والتحقيقِ لا يُستَهانُ بها: يقتنعون بوجاهة هذه الأسباب، فضلاً عن أنّهم يسوقونها لإِقناع غيرهم، لولا الهوى والعَصَبيّة أعاذنا الله تعالى وإياك مِنها، ولولا الأسْر الذي يقعُ فيه مَن نَشَأَ على عقيدة، ولا يَسمَح للضوءِ أن يسلط على عقيدته ومُسبَقاتِه، حتّى يرى مِنها ما كان ناتجاً مِن مُجرَّد تقليد أعمى، ويَصطَدِم بالمقاييس الصحيحة فينبذه، وما كان على أرض صَلِبَةٍ ويَلْتَئِمُ مع قواعد الشَرْع فيتمسَّك به.

٦١

مُؤلَّفاتِه.

إنّ التَركيبَةَ التي تكوّنَ مِنها أحمد أمين، هي الحِقدُ والكراهية للشيعة، زائداً تَقليدَ المُستَشرِقين فيما يقولونه عَنهُم.

٢ - محمّد أبو زهرة:

يذهب الشيخ محمّد أبو زهرة إلى نفس رأي أحمد أمين، ويُضيفُ له: إنّ أكثرَ الشيعةِ الأوائل فُرسٌ. ولِنَستَمع إلى ما يَقولُه في هذا الموضوع، وهو يستعرض آراء المستشرقين، ويُعَقِّبُ عليها، قال: وفي الحقِّ أنّا نَعتقِدُ أنّ الشيعةَ قد تأثَّروا بالأفكارِ الفارسيّةِ حَولَ المَلِكِ ووراثته، ويُزكّي هذا أنّ أكثرَ أهلِ فارس إلى الآن مِن الشيعة، وأنّ الشيعة الأوَّلين كانوا مِن أهلِ فارس. (١)

ورحِمَ اللهُ أبا الطيّب المُتنبّي إذ يقول:

وَدَهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارُ

وإنْ كانت لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ

وأبو زُهرَة مَورِدُ انطباق هذا البيت، إنّه يقولُ: إنّ الشيعةَ الأوَّلين كانوا مِن أهل فارس، وأنا أطلِبُ مِن كُلّ قارئ أن يَستَخرِجَ لي مِن الشيعة الأوَّلين خَمسةً مِن الفُرس، وأنا مُتأكدٌ سَلَفاً أنّهُم لا يجدون هذا العدد، فهل تبقى بعد ذلك قيمةٌ لأقوالِ مِثلِ أبي زُهرة، وكَم لأبي زُهرة مِن أقوالً لا تَعرِفُ التحقيق. وعلى كلِّ حالٍ لقد لَقيَ الرجلُ رَبَّه، وأسألُ اللهَ تعالى له العفو.

٣ - أحمد عَطيّة الله:

وهذا الرَجُل مِمَّن نَسَجَ على منوالِ المُستَشرِقينَ بِنِسبَةِ التَشَيُّع للفارسيّة، فهو يرى أنّ الأفكارَ الشيعيّة تأثَّرَت بالفارسيّة عن طريق عبد الله بن سَبَأ، الذي نَقَلَ للتشيُّع أكثر مِن رافدٍ فِكري، ومِن هذه الروافد: الفارسيّة. فَقد قالَ بالحَرفِ الواحد:

وإنّ ابنَ السوداء انتقل إلى المدينة، وبَثَّ فيها أقوالاً، وآراء مُنافيةً لِروحِ الإِسلامِ نابعةً مِن يَهوديَّتِهِ، ومِن مُعتقداتٍ فارسيّةٍ كانت شايعةً في اليَمَن، وبَرَزَ في

____________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلاميّة: ١/٤١.

٦٢

صورةِ الداعيةِ المُنتَصِرِ لِحقِّ الإِمام عليٍّ، وادَّعى أنّ لِكُلِّ نبيٍّ وصيّاً، وأنّ عليّاً وَصيُّ محمّد إلخ (١) .

هذهِ مُجرَّدُ عَيِّنةٍ مِن النماذجِ التي نَسَجَت على مِنوالِ المُستَشرِقين، وإنّك لَتَجِدُ هذه الفِكرَةَ عند المُتأخِّرينَ مِن كُتّابِ السُنّة شائعة، يَتَلَقّاها الخَلَفُ عن السَلَفِ، ثُمّ يُحاولُ تَعميقها وترسيخها، بما يَملِكُهُ هو مِن عَبْقَريَّةٍ، وسوفَ لا أتَعَجَّلُ الرَدَّ على الفِكرَةِ إلاّ بعدَ أن أستوفيها، فأذكُرُ لكَ أقوالَهُم في تعليل دُخولِ الفُرسِ للتَشيُّع، فإنّ ذلكَ يكونُ بِمثابةِ الروحِ لِلبَحثِ.

إنّ أبرَزَ هذه التعليلاتِ، التي ساقوها واعتبروها مُبَرِراً لِدُخُولِ الفُرس إلى التَشَيُّع ثلاثة أُمور:

____________________

(١) القاموس الإِسلامي: ٣/٢٢٢.

٦٣

أسبابُ دُخولِ الفُرسِ للتَشَيُّعِ

في نَظَرِ السُنّةِ

١ - الأمر الأوّل:

إصهارُ الحسينِ إلى الفُرسِ؛ لأنّهُ تَزَوَجَ ابنةَ يَزدَجُرد - وهو أحَدُ المُلوكِ الساسانيّين - واسمُها شاه زنان، فولدت لَهُ عليَّ بن الحُسين، الذي اجتَمَعَت فيهِ الخَواصُّ الوراثيّةُ للأكاسرةِ، وخواصُ الإِمامةِ مِن آبائه، كما يقول أبو الأسود الدؤلي:

وإنّ وَليداً بَينَ كِسرى وهاشمٍ

لأَكرَمُ مَن نيطَتْ عَليهِ التَمائمُ

وفي ذلك تقول سميرة الليثي، مُعَقِّبَةً على رأي أرنولد توينبي في انتشار الإِسلام بين الفُرس:

الذي أدّى إلى انتشار الإِسلام: هو زواجُ الحُسينِ مِن شاه بانو إحدى بَناتِ يَزدَجُرد، وقد رأى الفُرس في أولادِ شاه بانو والحسين وارثينَ لِمُلوكِهِم الأقدَمين (١) ، فزواجُ الحُسينِ على رأي هؤلاءِ أحَدُ العواملِ التي أدَّت إلى انتشارِ التَشَيُّع لأهلِ البَيتِ عندَ الفُرس.

٢ - الأمرُ الثاني:

التَقاربُ في الآراءِ بينَ الشيعةِ والفُرس، ومِن ذلكَ موضوعُ الحقِّ الإِلهي، فَكُلٌّ

____________________

(١) الزندقة والشعوبيّة: ص٥٦.

٦٤

مِنهُما يرى أنّ الحقَ الإِلهيَ ثابتٌ لِمَن يَتولاّه مِن القادة، فالفارسيُ يَراهُ للمُلوكِ الفُرس، والشيعي يَراهُ للإِمامِ الذي يقولُ بإمامته. وهذا المعنى وإن صَوّره بَعضُهُم بأنّه تَأثُّرٌ مِن الشيعةِ بالفُرسِ، ولكن لَمّا كانَ التَشَيُّع أقدمَ مِن دُخولِ الفُرسِ فيه، ولَمّا كانَ الروّاد مِن الشيعةِ كُلّهم عَرَباً - كما أثبتنا ذلكَ فيما سَلَفَ - ولَمّا كانت نَظريّةُ الشيعةِ في الإِمام لم تَختَلِفْ عند زُرارة عَمّا كانت عليهِ عندَ أبي ذرٍّ، وعَمّار، ينتج مِن ذلك أنّ نَظريّةَ الحقِّ الإِلهي التقى بها الشيعةُ مع الفُرسِ، ولم تكن نتيجة تَأثُّر بآراء الفُرس بِحُكمِ إيمانِ الشيعةِ بأنّ عليّاً وصيُّ النبيّ (ص)، وأنّه مَنصوصٌ عليهِ، وقد دأبَ على ذكرِ هذا التقارُبِ كَثيرٌ مِن المُستشرِقين وتلاميذهم. يقولُ محمّد أبو زُهرة:

وبَعضُ العُلماءِ، ومنهم دوزي المُستَشرِق قَرَّر أنّ أصلَ المذهبِ الشيعي نَزعَةٌ فارسيّةٌ، إذ إنّ العَرَبَ تَدينُ بالحريَّةِ، والفُرسَ تَدينُ بالمُلكِ وبالوراثةِ، ولا يعرفونَ معنى الانتخاب، إلى أن قالَ: إنّ الشيعةَ قَد تأثَّروا بالأفكارِ الفارِسيّةِ حول المـُلكِ ووراثته (١) .

وكذلكَ يَذهبُ إلى هذا الرأي أحمد أمين، وجملةٌ مِن المستشرقينَ ذَكَرَهُم هو مِن الذاهبينَ لهذا الرأي، وقد أفاضَ في شرحِ هذا المعنى في كتابه: فجرُ الإِسلامِ مُعزِّزَاً رأيه بآراء المستشرقين (٢) .

٣ - الأمرُ الثالث:

إرادةُ هَدمِ الإِسلامِ عن طَريقِ الدُخولِ في المَذهبِ الشيعي، والتَستُّرُ بحبِّ أهلِ البيتِ، ثمّ نَقلُ أفكارِهِم الهَدّامةِ للإسلام، كالقول بالوصيّةِ، والرجعةِ، والمهدي، وغير ذلك.

وفي ذلكَ يقولُ أحمد أمين: الحقُّ أنّ التَشَيُّع كان مأوى يلجأُ إليه كلُّ مَن أرادَ هَدمَ الإِسلام، لعداوة أو حِقدٍ، ومَن كان يُريدُ إدخالُ تعاليمَ آبائهِ مِن يَهوديّةٍ وَنصرانيّة وزَرادشتيّة وهِنديّة، ومَن كانَ يريدُ استقلالَ بلادهِ، والخُروج على مَملَكَتِه، كلُّ هؤلاءِ كانوا يَتَّخِذونَ حُبَ أهلِ البَيتِ سِتاراً (٣) .

وأرجو مُلاحظةَ نَغمةِ استعداءِ

____________________

(١) تاريخُ المذاهبِ الإسلاميّةِ: ١/٤٠.

(٢) فجرُ الإِسلام: ص٢٧٦.

(٣) فجرُ الإِسلام: نفس الصَحيفة.

٦٥

السُلطَةِ على الشيعةَ، فهي نَغمَةٌ ضَرَبَ عليها الكثيرون مِن قَبلِهِ، ومِن بَعدِه كصاحبِ المنارِ مثلاً (١) .

إنّ هذا الاتّجاه في تَصويرِ التَشَيُّع بأنّه أثَرٌ فارسيٌ واضح عند كثير مِن المتأخرين، مثل: مُحِبّ الدين الخطيب، وأحمد شَلبي، ومصطفى الشكعة، وغيرهم.

ولأجلِ إلقاءِ الضَوءِ على صِحَّةِ، أو عَدَم صِحةِ هذه الدعاوى التي نُسِبَت للتشيُّع، وبِالذات الأُمور الثلاثة التي عَلَّلوا بِها دُخولَ الفُرس للتشيُّع، لا بُدَّ مِن ذكر أُمور:

١ - الردُّ على الأُمور الثلاثةِ.

٢ - تَحديدُ هُويَّةِ التَشَيُّع عِرقيَّاً.

٣ - تحديدُ هُويَّةِ التَشَيُّع فكريّاً.

٤ - تحديدُ هُويَّةِ السُنّة مِن نفس المُنطَلَقِ، والعِلَلِ التي أخَذَ بِها كُتّابُ السُنّة.

وسَنَبحَثُ هذه الأُمور.

____________________

(١) مَجَلّةُ المَنار، لرشيد رضا: مُجَلَد ١١ سَنَة ١٣٢٦ هـ.

٦٦

الإجابَةُ على أسبابِ دُخولِ الفُرسِ لِلتَشَيُّع

١ - الأمرُ الأوَّل: إصهارُ الحُسين (ع) إلى الفُرس.

إنّ مِن القواعِدَ المُسلِم بها أنّ حُكمَ الأمثالِ فيها يَجوزُ أو لا يَجوزُ واحدٌ، وبناءاً على هذا، فإنّ العلّةَ التي ذَكَرَها هؤلاءِ الكُتّاب في اعتناق التَشَيُّع مِن قِبَلِ الفُرس - وهي إصهار الحسين (ع) للفرس - مَوجودَةٌ عِندَ عَبد الله بِن عُمَر بِن الخطّاب، وعِندَ محمّد بن أبي بَكر.

فقد ذَكَرَ الزمخشري في ربيع الأبرار، وغيره مِن المُؤرِّخينَ، أنّ الصَحابةَ لَمّا جاءوا بِسبي فارس في خلافةِ الخليفَة الثاني، كانَ فيهم ثلاث بناتٍ ليَزدَجُرد فباعوا السبايا، وأمَرَ الخَليفةُ بِبيَعِ بنات يَزدَجُرد، فقال الإِمام عليّ: (إنّ بَناتَ المُلوكِ لا يُعامَلْنَ مُعامَلَة غَيرَهُنّ) فَقالَ الخليفةُ: كيفَ الطريقُ إلى العملِ مَعَهُنّ؟ فقال: (يُقَوَّمن، وَمَهْما بَلَغَ ثَمَنَهُنَّ قامَ بهِ مَن يَختارَهُنّ) فَقُوِّمْنَ فأخَذَهُنَّ عليٌّ، فَدَفَعَ واحدةً لعبدِ الله بن عُمَر، وأُخرى لِوَلَدِهِ الحُسينِ، وأُخرى لمحمّد بن أبي بَكر، فأولَدَ عبدُ اللهِ بن عُمَر وَلَدَهُ سالِماً، وَأَوَلَدَ الحُسينُ زينَ العابدينِ، وأولد مُحمّد ولده القاسم، فهؤلاء أولادُ خالاةٍ، وأُمّهاتُهُم بَناتُ يَزدَجُرد (١) .

وهُنا نَسألُ: إذا كانت العِلّةُ في دُخولِ الفُرسِ للتَشَيُّع هي مُصاهرةُ الحسينِ للفُرسِ، فلماذا لا تَطََّرِدُ هذه العِلّةُ فَيَتسَننُ الفُرسُ لإصهارِ عبدِ اللهِ بن عُمَر لَهُم، ومُحمّد بن أبي بَكر كذلك؟ وكُلٌّ مِن

____________________

(١) فَجرُ الإِسلام: ص٩١.

٦٧

محمّدٍ وعبدِ اللهِ أبناءُ خليفة، كما كانَ الحُسين ابن خَليفةٍ. بالإِضافةِ لذلكَ: إنّ كلاً مِن يَزيدِ بن الوليدِ بن عبدِ الملكِ، وأُمّهُ شاه فرند بِنتَ فيروز بن يَزدَجُرد، ومَروانِ بن مُحمّد آخرِ خُلَفاءِ بني أُميّة، أُمّه أُمُّ ولد مِن كُردِ إيران، فلِماذا لا تَطَّرِدُ العِلّةُ هُنا أيضاً؟ (١) وبِالعكسِ، لِماذا لا يميلُ العَرَبُ السُنّةُ لأهلِ البيتِ الّذينَ أُمَّهاتِهم عَربيّة؟ في حين نجد قِسماً مِن العَرَب يَبغَضُ أهلَ البيتِ كالنواصب مثلاً. هذا سؤال يوجه للعقول التي تقول ولا تفكر.

٢ - الأمرُ الثاني: التَقاربُ في الآراء بينَ الشيعَةِ والفُرسِ.

وأنّ كلاًّ مِنهما يَقولُ بِنَظَريَّةِ الحقِّ الإِلهي، ويقولُ بالوِراثةِ، ولا يعرفُ الانتخابَ.

وفي هذا الأمرِ شيئان:

الأوّل: الإِتِّحاد في الآراء، الذي يُسبِّبُ الدُخولَ للتَشَيُّع، وهذا الأمرُ لا يقولُ به مَن يحترمُ عَقلَهُ، فمتى كانَ مُجَرّدِ الاشتراكِ في رأيٍ دافعاً للإِتِّحاد بالعَقيدةِ، إنّ كلَّ باحِثٍ يَعلمُ أنّ كلَّ أُمَّةٍ أو جَماعةٍ لا تَخلو مِن الإِتِّحادِ مع بعض الأُمم الأُخرى في رأيٍ مِن الآراء، أو مسألة مِن المسائل، ومعَ ذلكَ فلا يَقومُ ذلكَ سَبَباً لِلاِندِماجِ، ولِنَعُد لأحمد أمين نَفسِه، ونُلزِمهُ بِنتاِجِ رأيه إذا وَجَدَ السَبَب، فإنّهُ يَقولُ عِندَ بَحثهِ لِمسألَةِ الجبرِ والاختيار:

إنّ مسألةَ الجبرِ والاختيارِ تَكَلَّمَ فيها قبلَ المُسلِمينَ فَلاسفةُ اليونانِ، ونَقَلَها السِرْيانيِّون عَنهُم، وتَكَلَّم فيها الزرادشتيّون، كما بَحثَ فيها النصارى، ثمّ المُسلِمون (٢) .

وقد توزعَ هؤلاءِ بَينَ القولِ بالجبر،ِ والقولِ بالاختيار. وبِناءاً على مُنطِق أحمد أمين، فإنّ المُسلِمينَ نَصارى؛ لأنّهم اتَّحدوا مع النصارى في شِقٍّ مِن الرأي، وإلاّ فما هو مُبرِّرُ أحمد أمين في اعتباره الشيعةَ فُرساً؛ لأنّهم اتَّحدوا مع الفُرسِ بالقول بِنَظَريَّة الحقِّ الإِلهي؟.

____________________

(١) تاريخ الخميس للدياربكري: ٢/٣٢١ - ٣٢٢.

(٢) فَجرُ الإِسلام: ص ٢٨٤.

٦٨

أمّا الشُقُّ الثاني مِن الدعوى: وهو أنّ كلاًّ مِن الفُرسِ والشيعةِ يقولون بالوراثة فهوَ باطلٌ فيما يَخصُّ الشيعةِ؛ لأنّ الشيعةَ لا تَعتَبِرُ الإِمامَةَ مُتوارثةً، ولا تقولُ بالإرثِ في ذلك، بل تَذهَبُ إلى أنّ الإِمامَ مَنصوصٌ عليهِ مِن قِبَل الله تعالى عن طريق النبيّ (ص) أو الإِمام، وكُتُبُ الشيعةِ طافِحةٌ بذلك (١) .

وليست مسألةُ النصِّ على الإِمام مِن المسائل المُتأخِّرة عِندَهُم، بل هيَ مَعلومةٌ مِن الصدرِ الأوّلِ عِندَ الطبقةِ الأولى؛ وذلك لوضوحِ النُصوص التي اعتبروها مَصدَرَهُم في مسألة الإِمامة. وللِتدليلِ على ذلكَ أذكُرُ مُحاورةً طَريفةً، حدثت بينَ الخليفةِ الثاني وعبد الله بن عبّاس، وكان الخليفةُ الثاني يأنسُ بابنِ عبّاس، ويميل إليه كثيراً، فقال له يوماً: يا عبدَ اللهِ عليكَ دماءُ البُدن إن كَتَمتَها، هل بَقيَ في نفسِ عليٍّ شيءٌ مِن الخلافة؟.

يقولُ ابنُ عبّاس: قلت نعم، قال: أَوَ يَزعمُ أنّ رسولَ اللهِ نصَّ عليه؟ قُلتُ: نعم، فقال عُمَر: لقد كانَ مِن رسولِ اللهِ في أمرهِ ذِرُوٌ مِن قولٍ لا يُثبِتُ حُجّةً، ولا يَقطعُ عُذراً، ولَقَد كان يُربِع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مَرَضِهِ أن يُصرِّحَ باسمهِ فَمَنَعتُ مِن ذلكَ إشفاقاً، وحيطة على الإِسلام، فَعَلِمَ رَسولُ اللهِ أني عَلِمتُ ما في نفسه فأمسك (٢) .

إنّ المنعَ الذي أشارَ إليهِ الخَليفةُ عُمَر هو عندما طَلبَ النبيُّ مِن أصحابهِ في ساعاتهِ الأخيرةِ دواةً وكَتفاً، وقال: (عَلَيَّ بدواةٍ وكتفٍ أكتبُ لَكُم كِتاباً لن تَضُلّوا بعده أبداً) فقالَ الخليفةُ عُمَر: إنّه يَهجر، وقد غَلَبَ عليهِ الوجع (٣) .

وعلى العُموم إنّ هذه المُحاورةَ وأمثالها توضِحُ رأيَ الشيعةِ في موضوع

____________________

(١) الفُصولُ المُهمَّة لشرف الدين: ص٢٨١، وعقائد الإِماميّة للمُظفّر: ص٧١.

(٢) شَرحُ نَهجِ البلاغةِ لابنِ أبي الحديد: ٣/٩٧.

(٣) انظر صَحيحَ البُخاري: ٥/١٣٧، انظر طبقات ابن سعد: ٤/٦١، وانظر النهاية لابن الأثير: ٥/٢٤٦ في مادة هَجَرَ.

وفي هذا المعنى يقولُ أحَدُ الشُعراء:

أوصى النبيُّ فقالَ قائلُهُم

قد راحَ يَهجُرُ سَيِّدُ البَشَرِ

لكن أبا بكرٍ أصابَ ولم

يَهجُرْ وقد أوصى إلى عُمَرِ

لأنّ كُلاًّ مِنهما كانتْ وصيتُهُ في مَرَضِ الموت.

٦٩

الإِمامة، وأنّها بالنصِّ، وليست بالوراثة. فمِن أين جاءَ المُستَشرِقونَ وتَلاميذُهُم بنظريّةِ الوراثةِ، لولا عَدَمُ الإِحاطة بالتَشَيُّع، أو التحريف واتّباعِ الهوى؟

٣ - الأمرُ الثالث: وهو دُخولُ الفُرسِ في الإِسلامِ إرادةَ هَدمِهِ، ثمَّ لِتَحقيقِ مأرِبِهِم، ونِقلِ نظريّاتِ أسلافِهِم.

وهوَ ادِّعاءٌ طَريفٌ، ولا بُدَّ مِن الوقوفِ قليلاً حَولهُ فنقول:

أوّلاً: إنّ مُؤلَّفاتِ هؤلاءِ القومِ في الدفاعِ عن الإِسلامِ، ومَساجِدَهُم، ومُؤسّساتِهِم الدينيّة، وجِهادَهم في سبيل الله، كلّ ذلك يُشكِّلُ شواهدَ قائمةً على كَذِبِ هذه الدعوى.

وثانياً: لا بُدَّ مِن سؤالٍ لهؤلاء القائلين بهذا القول في أنّ إرادةَ الإِلحادِ والهدم عِندَ الفُرسِ، هل هي مُختصَّة بالفُرسِ الّذينَ اختاروا الإِسلام ودخلوا في التَشَيُّع، أم أنّها عِندَ كُلّ الفُرسِ مِن كلّ مَن كان مِن السُنّة مِنهم أو مِن الشيعةِ؟

ولا بُدَّ أن تكونَ الإِجابةُ بالعُمومِ؛ لأنّ إرادةَ الإِلحادِ جاءت مِن كونهم فُرساً لا مِن أمرٍ آخر، وإذا كانت كذلك، فلماذا انصبَّت الحَمَلاتُ على الفُرسِ الشيعةِ فقط دونَ الفُرس السُنّة؟.

وقد يقولُ قائلٌ: إن ذلكَ انتقلَ لِلفُرسِ مِن الشيعةِ. وهنا يَنتقلُ الكَلامُ إلى عَقائدِ الشيعةِ، وقد ذكرنا أنّ مَصدر عقائدِهِم الكِتابُ والسُنّةُ، فلا سَبيلَ لِرميهم بما يُنافي الكتابَ والسُنّةَ، هذا إذا كانَ هؤلاءِ يَبحثونَ عن الحَقيقةِ - وهُم أبعدُ الناسِ عنها - ولو لم يكونوا بَعيدينَ عن الإرادةِ الخَيِّرةِ لَما بَضّعوا شَلو الأُمّة وفرَّقوها شيعاً، ولَخَجَلوا مِن المُفارقاتٍ في أقوالهم، لأنّنا سَنوقِفُكَ عن قريب على أنّ تاريخَ، وفِقهَ، وعَقائدَ أهلِ السُنّةِ أبطالُهُ الفُرسِ أنفُسِهِم، ونَحنُ لا نَرى بذلكَ أيَّ عَيبٍ أو غَضاضةٍ، ما دُمنا نَعلمُ أنَّنا كُلُّنا مِن مَصدرٍ واحدٍ، وما دامَ قُرآنُنا يُصرِّحُ آناء الليل وأطراف النهار بشعار الوحدة، وتَوحيدِ المَصدرِ بقوله تعالى: ( أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّنْ مَّاءٍ مَّهِينٍ ) المرسلات: ٢٠.

ثالثاً: إنّ المسائلَ التي أوردها القَومُ، واعتبروها مِمّا يَهدِمُ الدينَ، ورموا بها

٧٠

الشيعةَ الفُرسَ مثل: الوِصاية، والرَجعة، والقَول بالمَهدويّة، يُشارِكُهُم بها أو بِمثلِها أهلُ السُنّة، وما سَمعنا أحَداً يَنبِزُهُم بها، أو يَعتَبِرُها عليهم سُبَّة، كما أنّ هذه القضايا وَرَدَت في رواياتِ أهلِ السُنّة بِطُرُقٍ مَوثوقَةٍ، وسَنَذكُرُ ذلكَ قريباً إنْ شاءَ الله، هذا بالإِضافةِ إلى أنّ هذهِ الآراء ليست مِن ضَروريّات الإِسلام عند الشيعة، وقد تَكونُ مِن ضَروريات المَذهب كالقولِ بالمهدي، فلماذا كُلّ هذا الضجيج المُفتَعَل؟

ولماذا كُلُّ هذا الصَرفِ للطاقاتِ، الذي يَخلُقُ فَجَواتٍ بينَ أهلِ القِبلَةِ فَضلاً عن عَدَمِ جدواه؟

ولماذا هذا الحَماسُ المُفتَعَل إزاءَ أُمورٍ لا يَنفَرِدُ بها الشيعةُ، بل يَقولُ بها السُنّة أنفُسَهُم؟

٧١

الفَصْلُ الثاني

أقوالُ الباحثينَ في فارسيَّةِ التَشَيُّع

إنّ نسبة التَشَيُّع إلى الفارسيّة نشأت في عُصور مُتَأخِّرة، ولأسباب وظُروف سياسيّة خاصّة، أهمها: أنّ الفُرس لمّا كانوا ولأسباب سنشرحها غير مرغوبين مِن قِبَلِ العَرَب، ولَمّا كان الشيعةُ فئةً معارضةً للحُكمِ، طيلة العُهودِ الثلاثة: الصدر الأوّل، والأموي، والعباسي، وَكَوجهٍ مِن وجوه مُحاصَرَة التَشَيُّع أرادوا رَميَ التَشَيُّع بما هو مَكروه عِند العَرَب، وهذه الدعوى هي واحدةٌ مِن مَجموعةِ دعاوى سَتَرِدُ علينا، ولا تتعدى هذا الهدف، بل هي جُزءٌ مِن المُخطَّط.

أمّا الأسباب التي أدَّت إلى النِفْرَة بين القوميَّتين العربيّة والفارسيّة فهي:

١ - إنّ الفُرس ما كانوا يُفَرِّقون بين الإِسلام والعروبة، وحيثُ إنّ الإِسلام قضى على دولتِهِم واجتاحهم، فإنّهم بعد إسلامهم كانوا يَنزَعون لاسترداد مجدهم بأُسلوبين: أحدهما سليمٌ إيجابيّ، والآخر سلبيٌّ، حتّى إذا جاء دَورُ الأُموييّن استعان الحُكّام بهم لتنظيم شؤون الدولة، نظراً لِخَلفيّتهم الحضاريّة، وللاستعانة بهم أحياناً لِدَعمِ جَناحٍ مُقابِلَ جَناح، ولاستيلاء جماعة مِنهم على مناصب هامَّة في العهدين، مِمّا مَكَّنهم مِن فرض نُفوذِهِم، كلُّ ذلك أدّى إلى احتكاكٍ شديدٍ بين العَرَب والفُرس، إذ رأى العَرَب أنّهُم حَمَلَةُ الإِسلام، والسَبَبُ في هِدايةِ الأُمَم، وهُم العَمَدُ الذي قام الإِسلام عليه، فلماذا يُزاحِمُهُم غيرُهُم، ويُقدَّم عليهم، ويَلمَعُ نَجمهُ، ويَحتلُّ مناصب كبيرة؟ ورأى الفُرسُ أنّهم أبناءُ حضارةٍ عَريقةٍ، وأنّهم أكثرُ عِلماً ودرايةً بسياسة العَرَب، وإدارة شؤون الحُكمِ، فلماذا يُقدَّمُ عليهم مَن لا يَملِكُ هذه

٧٢

المؤهِّلات؟. فأدّى ذلك كُلّه للاحتكاك، ونَجَمَت عنه ظاهرة الشُعوبيّة، وتَركَ خزيناً كبيراً مِن الحقد في تاريخ القوميَّتين كما أدّى إلى مواقف سلبيّة مُتبادَلَة.

٢ - أنّ فتح الثغرة التي دخل مِنها الفُرس أدّى إلى دُخولِ عناصِرَ غير عَربيّة أُخرى، مِثل التُركِ وغيرهم، مِمّا كان له بَعْدَ ذلك آثاره السلبيّة الفظيعة، وقد عُصِبَ كَسرُ النطاق هذا بالفُرس؛ لأنّهم أوّل مَن فتح هذا الباب، وأدّى إلى تَدمير الخلافة بعد ذلك.

٣ - لَعِبَ الاستعمار دوراً بارزاً فيما خَلَقَه مِن النفخ بالأبواق التي يَحسِنُ صُنعُها؛ وذلك لِتَحقيقِ مصالِحهِ عن طريق فتح أمثال هذه الفَجوات، واختلاق خصائص للجنسين - زعم أنّها تَصطدِمُ مع بَعضِها - وآراء لا تتلاقى، وتأثَّرَ بهذه الآراء فريقٌ مِن هؤلاءِ، وفريق مِن هؤلاءِ، مِمَّن عاش على موائد المُستَشرقين، ولم يَتَفَطَّن إلى أهدافهم، وغرّتهُ الصِبغَة العِلميّة الظاهريّة في أمثال هذه المزاعم؛ فَنُسِج على مِنوالِ هؤلاءِ، وكان صدى لهم، وسلاحاً بأيدي هؤلاءِ، لضرب أبناء دينه ولِهدمِ عقيدته، حتّى خُلِقَت مِن ذلك تَرِكَةٌ كَبيرةٌ تَحتاجُ إلى جُهدٍ كَبيرٍ لإِزالةِ هذا التَراكُم.

إنّ أسباب الكُرهِ اسْتُغِلَت ليُنتَزَعَ مِنها - كما ذَكرتُ - سَبَبَاً مِن الأسباب التي تُبغِّضُ التَشَيُّع وتُنفِّرُ النُفوس منه، ولذلك لا نرى هذه التُهمَةَ عند أوائل السُنّة وأسلافهم، فيما قدّموه مِن قوائم الأسباب التي يُنعَتُ بها التَشَيُّع؛ لأنّ أسبابها لم تكن قائمة آنذاك.

ومِن الغريب أنّ الألسّن السليطة التي تَشتُم الشيعة، هي ألسِنَةُ السُنّةِ الفُرس، كما سَيردُ ذلك قريباً.

إنّ أصحاب الغَرَضِ الأصلي في الضرب على هذا الوَتَر كثيرون، ومِن أكثرِهِم حَماساً في ذلك: المُستَشرِقون وتلاميذهم، حيث يَستَهدِفُ المُستَشرِقون مصالح لا تَخفى، ويضربُ تلاميذُهُم على نفس الطُبول، ولِمُختَلَفِ الغايات والأهداف، وبالإِضافة إلى مَن يَهتَزُّ على هذا الإِيقاع.

وإليكَ آراءُ بعضِهم:

٧٣

١ - المُستَشرِق دوزي:

لقد قرَّرَ المُستَشرِق دوزي، أنَّ أصلَ المذهب الشيعي نزعة فارسيّة؛ وذلك لأنّ العَرَب تدين بالحريّة، والفُرس تدين بالمُلكِ والوراثة، ولا يعرفون معنى الانتخاب، ولمّا كان النبيّ (ص) قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولم يَترُك وَلَداً فعليٌّ أولى بالخلافة مِن بعده (١) .

٢ - المُستَشرِق فان فلوتن:

ذهب هذا المُستَشرِق إلى نَفسِ الرأي في كِتابهِ السيادة العربيّة، ولكِنَّه رجَّحَ أخذ الشيعة مِن آراء اليهود، أكثر مِن أخذهم مِن رأي الفُرس ومبادِئِهِم (٢) .

٣ - المُستَشرِق براون:

قال: إنّه لم تُعتََنّق نَظريّة الحقِ الإِلهي بِقوَّة، كَما اعتُنِقَتْ في فارس، ولَمَحَ إلى أخذِ الشيعةِ مِنهُم (٣) .

٤ - المُستَشرِق ولهوزن:

إنّ هذا المُستَشرِق أشارَ إلى فارسيّة قِسمٍ كَبير مِن الشيعة ضمناً، حيث ذَكَرَ أنّ أكثر مِن نصف سُكانِ الكوفة مِن الموالي، ولَمّا كان مُعظَمُهُم شيعة، فَقِسمٌ كبيرٌ مِنهم مِن الفُرس (٤) .

٥ - المُستَشرِق بروكلمان:

الذي يقول: وحزبُ الشيعةِ الذي أصبحَ فيما بعد مُلتقى جَميعِ النَزَعاتِ المناوئة للعرب، واليوم لا يزال ضريح الحُسين في كربلاء أقدس مَحَجّةٍ عند الشيعة، وبِخاصةٍ الفُرس، الّذين مابرحوا يعتبرون الثواء الأخير في جواره غايةَ ما يَطمَعونَ

____________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلاميّة، لأبي زهرة: ١/٤١.

(٢) نفس المصدر السابق والصفحة.

(٣) فجر الإِسلام: ص١١١.

(٤) فجر الإِسلام: ص٩٢.

٧٤

فيه (١) .

وبِالجُملة، فإنّ مُراجَعَةَ أيِّ بحث للمستشرقين في هذا الموضوع، يظهر مِنهُ أنّ كثيراً مِنهم يذهبون إلى هذا الرأي، ولأسباب لا تَخفى.

وقد رَبَطوا بِفارسيّة التَشَيُّع أثراً آخر يكون بمثابة النتيجة للسبب، وذلك الأثر هو أنّه لَمّا كان أكثرُ الفُرس شيعةً، وكانوا يُسمَّون بالموالي، وحيث إنّهم يرون أنّ العَرَب انتزعوا دولتهم مِنهم، ولِما كانت الدولةُ الأُمويَّةُ يَتجسَّدُ فيها المَظهَر العربي، فقد زَحَفَ عليها الموالي وأسقطوها، وأعلنوا بَدَلَها دَولَةَ العباسيّين، التي دَعَمَت الفُرس، والتي زَحَفَ معها بالتالي الفِكرُ الشيعي فَتَغَلغَل أيّام العباسيّين. وأنت واجد هذه الأفكار عِندَ مُعظَمِ مَن كَتَبَ في العُصورِ الإسلاميّة، وخُصوصاً الكُتّاب المصريّين، ويَتلخَّص مِن هذه المقتطفة ثلاثة أُمورٍ:

١ - تصوير الزَحف الذي جاء مِن خُراسان للقضاء على الدولة الأمويّة، بأنّه زَحفٌ دَوافِعُهُ قَوميّة وليست دوافعَ اجتماعيةٍ أو إنسانيّة، وقد اجتمعت فيه أكثر مِن قوميّة واحدة، وبِذلك يُطمَسُ الهَدَفُ الاجتماعي الذي كان مِن وراء تلك الحَمْلَة.

٢ - أنّ العُنصُر الرئيسي في الحَمْلة والفاعل هُم الفُرس، وبذلك تَكون الحَمْلَة انتقاميّة تَستهدِف إعادة مَجدِ الفُرس الذي قضى عليه العَرَب، وبذلك يُطمَسُ الدورُ الرئيسي، الذي قامَ بهِ العَرَبُ في الحَملة، وتولَّوا فيه القيادة.

٣ - إنّ الفِكرَ الشيعي زَحَفَ بِزَحفِ هؤلاءِ، وانتصرَ في العَهدِ العبّاسي.

إنّ كُلّ هذهِ الأُمور غيرُ مُسَلَمٍ بها، ولم تَقُمْ على واقع، بل هي تَغطية في مُحاولةٍ مَكشوفة.

____________________

(١) تاريخ الشعوب الإسلاميّة: ص١٢٨.

٧٥

تَعْقيبٌ على الأقوالِ

أمّا الزعم الأوّل:

فَيُبطِلُهُ أن القادَةَ الّذينَ قادوا الحَملَةَ، إنّما قادوها لتخليص الناس مِن جور الأُموييّن، وبإمكان أيِّ قارئ أن يَستَبْيِنَ الحقيقةَ باستقراء أحوال الحُكمِ الأُموي، الذي سايره الجور والظلم مِن أيّامه الأولى، حتّى سَقَطَ أيّام مروان بن محمّد، آخر حُكّامِ الأُموييّن، ومِن الخطأ أن نُورِدَ شاهِداً أو شاهدين للتدليل على ذلك، محاولة لإيضاح الظُلم والجَور، فإنّ كلّ أيّامهم كانت مَليئة بالظُلم والجور، وإنّي لأُحيل القارئ إلى تَتبُّعِ التاريخ مِن أيّام معاوية الأوّل حتّى نهاية الدولة، وفي كُتُبِ كلّ المُسلِمينَ لا الشيعة وَحدهم، فربما يُقال أنّ الشيعة خصوم الأُموييّن، وهم يحقدون عليهم، وهذه كُتُبُ الطبري، وابن الأثير، وابن كثير، وابن خُلدون، وما شِئت فَخُذ لترى إلى أين وصلت الحالة حتّى بلغ الأمر حدّاً يوجزه أحد الشعراء بقوله:

وا حرباً يا آلَ حربٍ مِنكمُ

يا آلَ حربٍ منكمُ وا حربا

مِنكُم وفيكُم وإليكم وبِكُم

ما لو شرحناهُ فَضحنا الكُتُبا

وأمّا الزعم الثاني:

فيُبطِله أنّ قادة الحَملة ووجوهِها هُم العَرَب، وقد أفاض في ذلك الجاحظ برسالته المُسمّاة مناقب الأتراك، وقد ذكر مِن قادة الحَمْلَة، قحطبة بن شبيب الطائي، وسُليمان بن كَثير الخُزاعي، ومالك بن الهَيثَم الخُزاعي، وخالد بن إبراهيم الذهلي، ولاهز بن طريف المُزني، وموسى بن كعب المُزني، والقاسم بن مجاشع المُزني، كما نَصَّ المؤرِّخون على أسماءِ القبائل العربيّة التي كانت مُقيمةً في خُراسان، والتي كَوَّنَت الزحف في مُعظمه، وهم: خُزاعة، وتَميم، وطَي، ورَبيعة، ومُزينة وغيرها مِن القبائل العربيّة.

وللتوسُّع في معرفة أسماء القادة، والقبائل العربيّة، التي جاءت في الحَملة للقضاء على الحُكم الأُموي، يُراجع كتاب ابن الفوطي مؤرِّخ العراق، لمحمّد رضا الشبيبي، فقد تَوسَّع في إيراد النُصوص التاريخيّة مِن

٧٦

أمَّهاتِ الكُتُب، وَشَرَحَ أهداف الحَمْلَة، ونوعيّة الجيش، والأقطاب الّذين اشتركوا بالحملة، وبالجملة بِكُلِّ مُلابسات الموضوع (١) .

والشق الثاني الوارد في الزعم، وهو أنّ العناصر غيرَ العَربيّة أرادت الانتقام؛ لأنّها كانت مَحرومة مِن الإِشراك بالمناصب، فهو بالجملة غير صحيح؛ لأنّ كثيراً مِن العناصر الأجنبيّة والموالي، شَغَلوا مناصِبَ كبيرة في العهد الأُموي على امتداد هذا العهد، ولم يكن وضعُهُم أيّام العباسيّين يَختَلِف كثيراً عن وضعهم أيّام الأُموييّن، وقد أشار لذلك الدكتور أحمد أمين بقوله: فَسُلطَةُ العُنصُرِ الفارسي كانت تنمو في الحكم الأُموي، وعلى الأخصّ في آخره، ولو لم يُتَح لها فُرصَة الدولة العباسيّة لأُتيحَت فُرَصٌ أُخرى مُختَلِفة الأشكال (٢) .

لقد تَوَلّى جماعةٌ مِن غير العَرَب مناصِب هامّة، ومنهم سِرجَون بن منصور كان مُستشاراً لمعاوية، ورئيس ديوان الرسائل، ورئيس ديوان الخَراج، ومرداس مولى زياد كان رئيس ديوان الرسائل، وزاذا نفروخ كان رئيس خَراجِ العراق، ومحمّد بن يزيد مولى الأنصار كان والياً على مصر مِن قِبَلِ عُمَر بن عبد العزيز، ويزيد بن مُسلِم مولى ثَقيف كان والياً على مِصر، وكان منه القُضاة، والولاة، ورُؤساء دواوين الخراج، وقد تَغَلغَلُوا في أبعاد الدَولة، وَشُعُبِها بِصورةٍ واسعةٍ (٣) .

هذا مِن ناحية، ومِن ناحية أُخرى إنّ وضع العَرَب لم يكن يستأثر باهتمام الأُموييّن إلاّ بمقدار ما يُحقِّق مَصالِح الأُموييّن أنفسهم، فإذا اقتضت مَصالِحُهُم أن يضربوا العَرَب بَعضَهُم ببعض فعلوا، كما حَدَثَ ذَلِك أكثرَ مِن مَرَّة في حُكم الأُموييّن فَراجِع (٤) .

وقد تعرَّضَ الدكتور أحمد أمين إلى ذلك، وَشَرَحَهُ مُفصَّلاً، وبَيّنَ كَيف كان العَرَب يضرب بعضُهُم بعضاً إذا اقتضى الأمر ذلك، فراجع (٥) .

____________________

(١) مؤرِّخ العراق ابن الفوطي: ١/٣٦ - ٣٧.

(٢) ضحى الإِسلام: ج ص٣.

(٣) راجع الإِمام الصادق لأسد حيدر: ١/٣٤٤.

(٤) مروج الذهب: ج٢.

(٥) ضحى الإِسلام: ١/٢٠.

٧٧

وأمّا الزعم الثالث:

وهو انتشار الفِكر الشيعي عن طريق الموالي، وتعاظم نفوذهم، وامتداده تَبَعَاً لذلك. فَيُكَذِّبُهُ أنّ هذا المضمون بِجُملتِهِ غير صحيح، فقد نُكِبَ الفُرس أيّام العباسيّين، وضُرِبَ نُفوذُهُم أكثر مِن مرَّة، ومِن أمثلةِ ذلك: القضاء على أبي مُسلِم وأتباعه، أيّام المنصور، والقضاء على البَرامِكةِ أيّام الرشيد، والقضاء على آلِ سَهل أيّام المأمون وهكذا.

يبقى أنّ الموالي لَمَعوا في مَيادين أُخرى، فذلك صَحيح بالجملة، وتَصوُّر نفوذ الفُرس إنّما هو مِن أيّام السفّاح حتّى أيّام المأمون، وهي كما ترى لا تُثبِت للفُرسِ والموالي نفوذاً خارج دائرة العباسيّين، وإنّما ضِمن دائرتهم، بحيث يستطيعون احتواءهم في أيِّ وقت. أمّا الفَترَة التي تبدأ مِن عَصر المُتَوَكِّل حتّى نهاية الحُكمِ العبّاسي، فإنّ الحُكم العبّاسي ضَعُفَ نُفوذُه حتّى انقضَّ عليه حُكّامُ الأطراف. ولا يعني ذلك استشراء نُفوذِ الفُرس فقط، بل هو شأنُ الكيان الضعيف، الذي ينهشه كُلُّ طامع.

إنّ العوامل التي أدَّت إلى ضَعفِ الحُكم العبّاسي أشبَعَها الباحثون بالتفصيل.

إنّ تصويرَ نُفوذِ الفُرس بالشكل الذي أورده بعضهم ونفوذ الموالي، مُبالَغٌ فيه غايةَ المُبالَغَةِ، فإذا كانت الشُعوبيّة قد وُجِدَت أيّام العباسيّين، فإنّها امتدادٌ لِنَزعَة الشُعوبيّة مُنذُ أيّام الأُموييّن، وإذا كان للفُرس نُفوذٌ، فلم يصل إلى الحَدِّ الذي يَنتزِعُ نُفوذَ العَرَب، بل كان ذلك النُفوذ ملحوضاً مِن قِبَل الدولة، ومَسموحاً به؛ لأهدافٍ كثيرةٍ، استهدفها العباسيون مِن السماحِ بذلك -.

يقول فلهوزن عن نفوذ الفُرس في العصر العبّاسي: أمّا أنّ النُفوذ الفارسي كان هو الراجِح، فهو أمرٌ غيرُ مؤكَّد (١).

أمّا الشُق الثاني مِن هذا الزعم: وهو تَنَفُّس التَشَيُّع أيّامَ العباسيّين فَهوَ غَيرُ صَحيحٍ، بل العكس هو الصحيح، فإنّ العباسيّين أولَعوا بِدَمِ الشيعة وأئمَّتِهِم

____________________

(١) الزندقة والشعوبيّة لسميرة الليثي: ص٨١.

٧٨

وتعرض التَشَيُّع في مُختَلَفِ أدوارِهِم إلى مِحَنس وخُطوبٍ مُروِّعة، عدى فَتَراتٍ بسيطةٍ مرَّت مُرُورَ الغَمامِ، كما هو الحالُ في فَترَةِ البُوَيهيّين.

وبالجملة إنّ كُتُبَ التاريخِ قَد حَفِظَت لَنا صُوَراً مُروِّعة مِن تَعَرُّضِ الشيعة للإبادةِ أيّامَ العباسيّين، وبوسع القارئ الرُجوع إلى أيِّ كِتابٍ مِن كُتُبِ التاريخِ الرئيسيّة، ليرى ذلك واضحاً.

وبعدَ هذا التعقيب البسيط على هذه المَزاعِم، أعودُ إلى تلاميذِ المستشرقين، الّذين نَسَجوا على مِنوالِ أساتِذَتِهِم، فَقَلَّدوهُم في هذا الزعم - وهو فارسيّة التَشَيُّع - ومنهم:

١ - الدكتور أحمد أمين:

يذهب الدكتور أحمد أمين إلى استيلاء الفِكرِ الفارسي على التَشَيُّع، بِرَغمِ قِدَمِ التَشَيُّع على دخول الفُرس فيه؛ وذلك لأنّ أكثرَ الشيعةِ فُرسٌ - على زعمه - فَغَلَبَت نَزَعاتُهُم على التَشَيُّع، وَصَبَغتهُ بالفارسيّة. وَلِنَستَمِع إلى قوله حَرفيّاً:

والذي أرى كَما يَدُلُّنا التاريخ: أنّ التَشَيُّع لعليٍّ بَدَأ قبل دُخُولِ الفُرسِ في الإِسلام، وَلكنْ بِمعنى ساذَجٍ، ولكنّ هذا التَشَيُّع أخَذَ صِبغَةً جَديدةً بِدُخُولِ العَناصِر الأُخرى في الإِسلام، وحيثُ إنّ أكبرَ عُنصُرٍ دَخَلَ الإِسلام الفُرس، فَلَهُم أكبرُ الأثَرِ بالتَشيُّع (١) .

ويقول في مورد آخر: فَنَظرَةُ الشيعَةِ في عليٍّ وأبنائه، هي نَظرَةُ آبائِهِم الأوَّلين مِن المُلوكِ الساسانيّين، وثنويّة الفُرس كانوا مَنبَعاً يَستَقي مِنهُ الرافِضَةُ في الإِسلام، فَحَرَّكَ ذلكَ المُعتَزِلةَ لدفع حُجَجِ الرافِضَةِ (٢) .

إنّي أطلِبُ مِن القارئ هُنا التَأمُّل في هذه اللهجةِ الحادَّةِ، التي يَلوحُ مِنها الشَرَرُ والنارُ؛ حتّى يَعرِفَ مدى مَوضوعيّة أحمد أمين وَنُظَرائِه، وقَد دَأبَ أحمد أمين على اجترارِ هذه الفِكرَةِ، وترتيب الآثار عليها، كما يظهرُ ذلك واضِحاً في كُلّ

____________________

(١) فجر الإِسلام: ص٢٧٦.

(٢) فجر الإِسلام: ص١١١.

٧٩

الفَصلُ الثالِث

هُويَّة التَشَيُّع العِرقيَّة وآراءُ الباحثينَ فيها

في صدرِ هذا العنوان لا بُدَّ مِن سؤالٍ عن معنى مَضمونِ العُروبة، الذي يُميِّزُها عَمّا عداها؟

وأوّلُ ما يَتبادرُ للذهنِ أنّ العَربيَّ: هو الذي يُولدُ مِن أبَوَينٍ عَرَبيِّيَنِ.

وبِعِبارةٍ أُخرى: هو المُتَحدِّر مِن دَمٍ عَرَبي، وهذا الفَرضُ غَيرُ مُتَحقِّقٍ؛ لأنّنا لا يُمكِنُنا الحُصول على دمٍ خالصٍ مائة بالمائة مِن الشوائبِ والاختِلاط، ولأنّ الدماءَ إنسانيِّةِ الانتِماء كُلُّها تَعودُ لِمصدَرٍ واحدٍ، وهي مُختَلِطَة اختلاطاً يَصعُبُ مَعهُ فَرزُها عن غَيرِها، ثُمّ بَعدَ ذلكَ، لأنّهُ ليسَ مِن المُتَصوَّر أنّ الدِماءَ تَتَأثرُ بالعَقيدةِ والفِكرِ والمشاعرِ، فأيُّ مَعنى للعُروبَةِ مع هذا الفرض؟ وانطلاقاً مِن هذا، فإنّ كلّ رأيٍ يَقومُ على فَرضِ وُجودِ دَمٍ عَرَبيٍّ خالِصٍ هو فَرضٌ غَيرُ عِلمي، ولا يُمكِنُ الرُكونُ إليه.

ومع التَنَزُّلِ والتَسليمِ بِصحَّةِ هذه المَقولَةِ وهذا الفَرضُ، فقد ذَكَرنا فيما مَرَّ أنّ الشيعةَ الّذينَ بَدَأ بِهم التَشَيُّع، وقامَ على أيديهم هُم مِن القبائلِ العَربيّةِ، وذَكَرنا الطَبَقةَ الأولى مِنهم، ولا نُريدُ أن نُثقِلَ على القارئ فَنَذكُرَ لهُ الطَبَقَتَين، الثانية والثالثة، فَبِوسع كُلّ قارئ الرُجوع إلى كُتُبِ التَراجم؛ ليرى أنّهم في جُمهورِهم مِن العَرَب.

وإذا كان افتِراضُ أنّ هُناكَ دَماً خالِصاً غَيرَ مُتأثِّرٍ بِغيرِهِ أمراً خيالياً، نعود إلى السؤالِ عن مَعنى العُروبَةِ، وسَنَجِدُ الجواب: إنّ العُروبَةَ هي المَزيجُ المُتَكَوّنُ مِن الفِكرِ والمشاعِرِ واللُغَةِ والتُربَةِ، وانتزاعُ العُروبَةِ مِن هذه المَصادِرِ هو المَسلَكُ الصَحيحُ، فهي التي تُحَدِّدُ الهُويّة، ومُعظَمُ مَن كَتَبَ في تُحديدِ هُويَّةِ الإِنسانِ أكدوا على

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

كانا بلا حكمة. غافلين عن أنّ الدنيا إنّما هي دار إمتحان وابتلاء ، والله سبحانه وتعالى إنّما يمتحن البعض بالفقر كما يمتحن البعض الآخر بالغنى والثروة ، وربّما يضع الله الإنسان وفي وقتين مختلفين في بوتقة الامتحان الغنى والفقر ، وينظر هل يؤدّي الأمانة حال فقره ويتمتّع بمناعة الطبع ويلج مراتب الشكر اللائقة ، أم أنّه يطأ كلّ ذلك بقدمه ويمرّ؟ وفي حال الغنى هل ينفق ممّا تفضّل الله به عليه ، أم لا؟

ورغم أنّ البعض قد حصر الآية من حيث التطبيق في مجموعة خاصّة كاليهود ، أو المشركين في مكّة ، أو جميع الملاحدة الذين أنكروا الأديان الإلهيّة ، ولكن يبدو أنّ للآية مفهوما عامّا يمكن أن تكون له مصاديق في كلّ عصر وزمان ، وإن كان مصداقها حين نزولها هم اليهود أو المشركون فتلك ذريعة عامّة يتشبّثون بها على مرّ العصور ، وهي قولهم : إذا كان الله هو الرازق إذا لماذا تريدون منّا أن نعطي الفقراء من أموالنا؟ وإذا كان الله يريد أن يرى هؤلاء محرومين فلما ذا تريدون منّا إغناء من أراد الله حرمانه؟ غافلين عن أنّ نظام التكوين قد يوجب شيئا ، ويوجب نظام التشريع شيئا غيره.

فنظام التكوين ـ بإرادة الله ـ أوجب أن تكون الأرض بجميع مواهبها وعطاياها مسخّرة للبشر ، وأن يعطي البشر حريّة انتخاب الأعمال لطي طريق تكاملهم ، وفي نفس الوقت خلق الغرائز التي تتنازع الإنسان من كلّ جانب.

ونظام التشريع أوجب قوانين خاصّة للسيطرة على الغرائز وتهذيب النفوس ، وتربية الإنسان عن طريق الإيثار والتضحية والتسامح والإنفاق ، وذلك الإنسان الذي لديه الأهلية والاستعداد لأن يكون خليفة الله في الأرض ، إنّما يبلغ ذلك المقام الرفيع من هذا الطريق ، فبالزكاة تطهر النفوس ، وبالإنفاق ينتزع البخل من القلوب ، ويتحقّق التكافؤ ، وتقلّ الفواصل الطبقية التي تفرز آلاف العلل والمفاسد في المجتمعات.

وذلك تماما كما يقول شخص : لماذا ندرس؟ أو لماذا نعلّم غيرنا؟ فلو شاء الله

٢٠١

سبحانه وتعالى لأعطى العلم للجميع ، فلا تكون هنالك حاجة إلى التعلّم! فهل يقبل ذلك عاقل(١) ؟

جملة( قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) والتي ورد التأكيد فيها على صفة الكفر ، في حين يمكن أن يكتفي بالضمير ، إشارة إلى أنّ هذا المنطق الخرافي والتعلّل إنّما ينبع من الكفر!

ولسان حال المؤمنين بقولهم :( أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) إشارة إلى أنّ المالك الأصلي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ، وإن كانت تلك الأموال أمانة في أيدينا أو أيديكم لأيّام ، ويا لهم من بخلاء أولئك الذين لم يكونوا حاضرين لأن يحولوا المال إلى آخرين بأمر صاحب المال؟!

أمّا جملة :( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فلتفسيرها توجد احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أنّها تتمّة ما قاله الكفّار للمؤمنين.

الثاني : أنّه كلام الله سبحانه وتعالى يخاطب به الكفّار.

الثالث : أنّه تتمّة ما قاله المؤمنون للكفّار.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأنسب ، لأنّه يتّصل مباشرة بحديث الكفّار السابق ، وفي الحقيقة إنّهم يريدون معاملة المؤمنين بالمثل ونسبتهم إلى الضلال المبين.

* * *

__________________

(١) بعض المفسّرين احتمل التّفسير التالي وهو : أنّ العرب كانوا مشهورين بالضيافة في ذلك الزمان ، وما كانوا يمتنعون عن الإنفاق ، وكان هدف الكفّار هو الاستهزاء بالمؤمنين الذين كانوا ينسبون الأشياء والأمور جميعها إلى المشيئة الإلهية ، فكانوا يقولون لهم : إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يغني الفقراء فما الحاجة إلى إنفاقنا ، ولكن يبدو أنّ التّفسير الذي أوردناه هو الأنسب (راجع التبيان ، وتفسير القرطبي ، وروح المعاني).

٢٠٢

الآيات

( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) )

التّفسير

صيحة النشور!

بعد ذكر المنطق الأجوف والذرائع التي تشبّث بها الكفّار في مسألة الإنفاق في الآيات السابقة ، تتعرّض هذه الآيات إلى الحديث عن استهزائهم بالقيامة ، لتنسف بجواب قاطع منطقهم الفارغ حول إنكار المعاد.

مضافا إلى أنّها تكمل بحوث التوحيد التي مرّت في الآيات السابقة بالبحث حول المعاد.

٢٠٣

تقول الآية الكريمة الاولى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) . فإذا لم تستطيعوا تشخيص زمان دقيق لقيام الساعة ، فمعنى هذا أنّكم لستم صادقين في حديثكم.

الآية التالية ترد على هذا التساؤل المقرون بالسخرية بجواب قاطع حازم ، وتخبرهم بأنّ قيام الساعة ليس بالأمر المعقّد أو المشكل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى :( ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ) .

فكلّ ما يقع هو صيحة سماوية كافية لأن تقبض فيها أرواح جميع المتبقّين من الناس على سطح الأرض بلحظة واحدة وهم على حالهم ، وتنتهي هذه الحياة المليئة بالصخب والدعاوى والمعارك والحروب ، ليتخلّف وراءها صمت مطبق ، وتخلو الأرض من أي صوت أو إزعاج.

وفي حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه فما يطويانه حتّى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما تصل إلى فيه حتّى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتّى تقوم»(١) .

جملة «ما ينظرون» هنا بمعنى «ما ينتظرون» ، فكما يقول (الراغب) في مفرداته «النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمّل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص ، وهو الرويّة ، والنظر الانتظار».

«صيحة» صاح : رفع الصوت ، وأصله تشقيق الصوت من قولهم انصاح الخشب أو الثوب إذا انشقّ فسمع منه صوت ، وصيح الثوب كذلك ، ويقال : بأرض فلان شجر قد صاح ، إذا طال فتبيّن للناظر لطوله ، ودلّ على نفسه بصوته.

«يخصّمون» من مادّة «خصم» بمعنى النزاع.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٢٧. وذكرت هذه الرواية بتفاوت قليل في تفسير «القرطبي» و «روح المعاني» وغيرهما.

٢٠٤

أمّا فيم كانوا يختصمون؟ لم تذكر الآية ذلك ، ولكن من الواضح أنّ المقصود هو التخاصم على أمر الدنيا والأمور المعيشية الاخرى ، ولكن البعض يرى : إنّه تخاصم في أمر «المعاد» ، والمعنى الأوّل أنسب على ما يبدو ، وإن كان اعتبار شمول الآية لكلا المعنيين ، وأي نوع من النزاع والخصومة ليس ببعيد.

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الضمائر المتعدّدة في الآية جميعها تعود على مشركي مكّة الذين كانوا يشكّكون في أمر المعاد ، ويستهزئون بذلك بقولهم : متى تقوم الساعة؟

ولكن المسلّم به أنّ الآية لا تقصد أشخاص هؤلاء ، بل نوعهم «نوع البشر الغافلين عن أمر المعاد» لأنّهم ماتوا ولم يسمعوا تلك الصيحة السماوية أبدا «تأمّل بدقّة»!!

على كلّ حال ، فإنّ القرآن بهذا التعبير القصير والحازم إنّما أراد تنبيههم إلى أنّ القيامة ستأتي وبشكل غير متوقّع ، وهذا أوّلا. وأمّا ثانيا فإنّ قيام الساعة ليس بالموضوع المعقّد بحيث يختصمون ويتنازعون فيه ، فبمجرّد صيحة واحدة ينتهي كلّ شيء وتنتهي الدنيا بأسرها.

لذا فهو تعالى يضيف في الآية التالية قائلا :( فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) .

في العادة فإنّ الإنسان حينما تلم به حادثة ويحسّ بعدها بقرب أجله ، يحاول جاهدا أن يوصل نفسه إلى أهله ومنزله ويستقرّ بين عياله ، ثمّ يقوم بإنجاز بعض الأمور المعلّقة ، ويعهد بأبنائه أو متعلّقيه إلى من يثق به عن طريق الوصيّة أو غير ذلك. ويوصي بإنجاز بعض الأمور الاخرى.

ولكن هل تترك الصيحة السماوية فرصة لأحد؟ ولو سنحت الفرصة فرضا فهل بقي أحد حيّا ليستمع الوصيّة؟ أو يجتمع الأولاد مع امّهم على سرير الأب ـ مثلا ـ ويحتضنونه ويحتضنهم لكي يسلم الروح بطمأنينة؟ لا أبدا ، فلا إمكان لأي من هذه

٢٠٥

الأمور.

وما نلاحظه من تنكير التوصية في التعبير القرآني هنا إنّما هو إشارة إلى أنّ الفرصة لا تسنح حتّى لوصية صغيرة أيضا.

ثمّ تشير الآيات إلى مرحلة اخرى ، مرحلة الحياة بعد الموت. فتقول :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) .

التراب والعظام الرميم تلبس الحياة من جديد ، وتنتفض من القبر بشرا سويّا ، ليحضر المحاكمة والحساب في تلك المحكمة العظيمة المهولة ، وكما أنّهم ماتوا جميعا بصيحة واحدة ، فبنفخة واحدة يبعثون أحياء من جديد ، فلا هلاكهم يشكّل عقبة أمام قدرة الله سبحانه وتعالى ، ولا حياتهم كذلك ، تماما كما هو الحال في جمع الجنود في الجيوش ، بنفخة بوق واحدة ينهضون جميعا من فرشهم ويخرجون من خيمهم ، ويقفون في صفّ واحد ، وإحياء الموتى وبعثهم بالنسبة إلى الله سبحانه بهذه البساطة والسرعة.

«أجداث» جمع «جدث» وهو القبر ، والتعبير يشير بوضوح إلى أنّ للمعاد جنبة جسمانية بالإضافة إلى الجنبة الروحية ، وأنّ الجسد يعاد بناؤه جديدا من نفس المواد السابقة.

واستخدام صيغة الماضي في الفعل «نفخ» إشارة إلى عدم وجود أدنى شكّ في وقوع مثل هذا الأمر ، وكأنّه لثباته وحتميته قد وقع فعلا.

«ينسلون» من مادّة «نسل» والنسل الانفصال عن الشيء ـ كما يقول الراغب في المفردات ويضيف ـ يقال : نسل الوبر عن البعير والقميص عن الإنسان ، و ومنه نسل إذا عدا ، والنسل الولد لكونه ناسلا عن أبيه.

وقوله تعالى :( رَبِّهِمْ ) كأنّها تلميح إلى أنّ ربوبية ومالكية وتربية الله كلّها توجب أن يكون هناك حساب وكتاب ومعاد.

وعلى كلّ حال ، فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ نهاية هذا العالم وبداية

٢٠٦

العالم الآخر يكون كلاهما على شكل حركة عنيفة وغير متوقّعة ، وسوف نتعرّض إلى تفصيل هذا الموضوع في تفسير الآية (٦٨) من سورة الزمر إن شاء الله.

تضيف الآية التالية :( قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ، هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) .

نعم فإنّ المشهد مهول ومذهل إلى درجة أنّ الإنسان ينسى جميع الخرافات والأباطيل ولا يتمكّن إلّا من الاعتراف الواضح الصريح بالحقائق ، الآية تصوّر القبور «بالمراقد» والنهوض من القبور (بالبعث) كما ورد في الحديث المعروف «كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون».

ففي البدء يستغربون انبعاثهم ويتساءلون عمّن بعثهم من مرقدهم؟ ولكنّهم يلتفتون بسرعة ويتذكّرون بأنّ أنبياء الله الصادقين ، وعدوهم بمثل هذا اليوم ، فيجيبون أنفسهم قائلين:( هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ) ولكن وا أسفاه إنّنا كنّا نستهزئ بكلّ ذلك!

! وعليه فإنّ هذه الجملة هي بقيّة حديث هؤلاء المتكبّرين الكفرة بالمعاد والبعث ، ولكن البعض ذهب إلى أنّ حديث الملائكة أو المؤمنين ، وذلك على ما يبدو خلاف ظاهر الآية ، ولا داعي ولا ضرورة له ، لأنّ اعتراف الكفّار والمنكرين للمعاد في ذلك اليوم لا ينحصر بهذه الآية ، ففي الآية (٩٧) من سورة الأنبياء( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ التعبير بـ «مرقد»(١) يوضّح أنّهم في عالم البرزخ كانوا بحالة شبيهة بالنوم العميق ، وكما ذكرنا في تفسير الآية (١٠٠) من سورة «المؤمنون» ، فإنّ البرزخ بالنسبة إلى أكثر الناس الذين هم على الوسط من الإيمان أو الكفر هو حالة شبيهة بالنوم ، وفي حال المؤمنين أصحاب المقامات

__________________

(١) يأتي تارة بمعنى اسم مكان ، واخرى اسم للنوم ، أي مصدر ميمي.

٢٠٧

الرفيعة ، أو الكفّار الموغلين في الكفر والجحود فإنّ البرزخ بالنسبة إليهم عالم واضح المعالم ، وهم فيه أيقاظ يهنأون في النعيم أو يصطرخون في العذاب.

احتمل بعضهم أيضا أنّ هول ودهشة القيامة شديدان إلى درجة أنّ العذاب في البرزخ يكون شبه النوم بالنسبة إلى ما يرونه في القيامة.

ثمّ تقول الآية لبيان سرعة النفخة :( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) .

وعليه فإحياء الموتى وبعثهم من القبور وإحضارهم في محكمة العدل الإلهي لا يحتاج إلى مزيد وقت ، كما كان الأمر عند هلاكهم ، فالصيحة الاولى للموت ، والصيحة الثانية للحياة والحضور في محكمة العدل الإلهي.

واستخدام تعبير «الصيحة» والتأكيد عليها بـ «واحدة» وكذلك التعبير بـ «إذا» في مثل هذه الموارد ، إنّما هو للإشارة إلى وقوع غير المتوقّع ، والتعبير بـ( هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) بصيغة الجملة الاسمية دليل على الوقوع السريع لهذا المقطع من القيامة.

واللهجة الحازمة لهذه الآيات تترك أعمق الأثر في القلوب ، وكأن هذه الصيحة تقول : يا أيّها الناس النائمون ، أيّتها الأتربة المتناثرة ، أيّتها العظام المهترئة! انهضوا انهضوا واستعدّوا للحساب والجزاء فما أجمل الآيات القرآنية ، وما أروع إنذاراتها المعبّرة!!

* * *

٢٠٨

الآيات

( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) )

التّفسير

أصحاب الجنّة فاكهون!

هنا يبدأ البحث حول كيفية الحساب في المحشر ، ثمّ ينتقل في الختام إلى تفصيل وضع المؤمنين الصلحاء والكفّار الطالحين ، فتقول الآية الكريمة الاولى :( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ) .

فلا ينقص من أجر وثواب أحد شيئا ، ولا يزاد على عقوبة أحد شيئا ، ولن يكون هنالك أدنى ظلم أو اضطهاد لأحد حتّى بمقدار رأس الإبرة.

ثمّ تنتقل الآية لتوضّح تلك الحقيقة وتعطي دليلا حيّا عليها فتقول :( وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

إنّ ظاهر الآية ـ ومن دون تقدير مضمر ـ يهدف إلى القول بأنّ جزاءكم جميعا

٢٠٩

هو نفس أعمالكم ، فأي عدالة أفضل وأعلى من هذه العدالة؟!

وبعبارة اخرى : فإنّ الأعمال الحسنة والسيّئة التي قمتم بها في هذه الدنيا سترافقكم في ذلك العالم أيضا ، ونفس تلك الأعمال ستتجسّد هناك وترافقكم في جميع مراحل الآخرة ، في المحشر وبعد نهاية الحساب.

فهل أنّ تسليم حاصل عمل إنسان إليه أمر مخالف للعدالة؟

وهل أنّ تجسيد الأعمال وقرنها بعاملها ظلم؟

ومن هنا يتّضح أن لا معنى للظلم أساسا في مشهد يوم القيامة ، وإذا كان يحدث في الدنيا بين البشر أن تتحقّق العدالة حينا ويقع الظلم أحيانا كثيرة ، فذلك لعدم إمكان ربط الأعمال بفاعليها.

جمع من المفسّرين تصوروا أنّ الجملة الأخيرة أعلاه تتحدّث عن الكفّار والمسيئين الذين سيرون عقابا على قدر أعمالهم ، دون أن تشمل المؤمنين ، بلحاظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد جزاهم وأثابهم بأضعاف ما يعادل أعمالهم.

ولكن بملاحظة ما يلي ينحلّ هذا الاشتباه ، وهو أنّ الحديث هنا هو حديث عن العدالة في الثواب والعقاب وأخذ الجزاء حسب الاستحقاق ، وهذا لا ينافي أنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يزيد المؤمنين من فضله ، فهذه مسألة «تفضل» وتلك مسألة «استحقاق».

ثمّ تنتقل الآيات لتتعرّض إلى جانب من مثوبة المؤمنين العظيمة ، وقبل كلّ شيء تشير إلى مسألة الطمأنينة وراحة البال فتقول :( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ) .

«شغل» : ـ على وزن سرر ـ و «شغل» ـ على وزن لطف ـ : كليهما بمعنى العارض الذي يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه ، سواء كان ممّا يبعث على المسرّة أو الحزن ، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك ، يمكن استنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه

٢١٠

والمنصرف تماما عن التفكير في أي قلق أو ترقّب ، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه ، وحتّى أنّه ينسى تماما هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية ، تلك المواقف التي لو لا نسيانها فإنّها حتما ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب ، وبناء على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على انشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر(١) .

وبعد التعرّض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاخرى وشرط الاستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاخرى ، ينتقل إلى ذكر بقيّة النعم فيقول تعالى :( هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ ) (٢) .

«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنّة ، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.

وأمّا ما احتمله البعض من أنّها بمعنى «النظائر» كما في الآية ـ ٢٢ سورة الصافات( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ) الآية فيبدو بعيدا. خصوصا أنّ (أرائك) جمع «أريكة» وهي الحجلة على السرير. كما يقول أرباب اللغة(٣) .

التعبير بـ «ظلال» إشارة إلى أنّ أشجار الجنّة تظلّل الأسرة والتخوت التي يجلس عليها المؤمنون في الجنّة ، أو إشارة إلى ظلال قصورهم ، وكلّ ذلك يدلّل على وجود الشمس هناك ، ولكنّها ليست شمسا مؤذية ، نعم فإنّ لهم في ذلك الظلّ الملائم لأشجار الجنّة سرورا ونشاطا عظيمين.

__________________

(١) يرى «الراغب» في مفرداته بأنّ «فاكهة» تطلق على كلّ أنواع الثمار والفواكه ، و «فاكه» الحديث الذي يأنس به الإنسان وينشغل به عن غيره. ويرى «ابن منظور» في لسان العرب أنّ «فكاه» بمعنى المزاح ، و «فاكه» يطلق على الإنسان المرح.

(٢) هناك احتمالات عديدة في إعراب الجملة ، وأفضلها أنّ «هم» مبتدأ ، و «متكئون» خبر ، و «على الأرائك» متعلّق به ، و «في ظلال» متعلّق به أيضا أو متعلّق بمحذوف.

(٣) لسان العرب ـ مفردات الراغب ـ مجمع البيان ـ القرطبي ـ روح المعاني ـ وتفاسير اخرى.

٢١١

إضافة إلى ذلك فإنّ( لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ) .

يستفاد من آيات القرآن الاخرى أنّ غذاء أهل الجنّة ليس الفاكهة فقط ، ولكن تعبير الآية يدلّل على أنّ الفاكهة ـ وهي فاكهة مخصوصة تختلف كثيرا عن فاكهة الدنيا ـ هي أعلى غذاء لهم ، كما أنّ الفاكهة في الدنيا ـ كما يقول المتخصّصون ـ أفضل وأعلى غذاء للإنسان.

«يدعون» أي يطلبون ، والمعنى أنّ كلّ ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه ، فما يتمنّوه من شيء يحصل ويتحقّق على الفور.

يقول العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان : العرب يستخدمون هذا التعبير في حالة التمنّي ، فيقول : «ادع عليّ ما شئت» أي تمنّ عليّ ما شئت

وعليه فإنّ كلّ ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ ، والله عنده حسن الثواب.

وأهمّ من كلّ ذلك ، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) (١) .

هذا النداء الذي تخفّ له الروح ، فيملؤها بالنشاط ، هذا النداء المملوء بمحبّة الله ، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اخرى. نعم فسماع نداء المحبوب ، النداء الندي بالمحبّة ، المعطّر باللطف ، يغمر سكّان الجنّة بالحبور الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا ، بل ويفيض عليه.

ففي رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنّة ، وذلك قول الله تعالى :( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) قال فينظر إليهم وينظرون إليه

__________________

(١) اختلف حول إعراب «قولا» وأنسب ما ذكر هو اعتبارها (مفعول مطلق) لفعل محذوف تقديره «يقول قولا».

٢١٢

فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم»(١) .

نعم فإنّ جذبة مشاهدة المحبوب ، ورؤية لطفه ، تبعث اللذّة والشوق في النفس بحيث أنّ لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأيّة نعمة ، بل بالعالم أجمع ، وعشّاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنّه لو قطعت عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنّهم يحسّون بالحسرة والألم ، وكما ورد في حديث لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام «لو حجبت عنه ساعة لمتّ»(٢) .

الملفت للنظر أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ سلام الله الذي ينثره على المؤمنين في الجنّة ، هو سلام مستقيم بلا واسطة ، سلام منه تعالى ، وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه ، ويا لها من نعمة عظيمة!!

* * *

ملاحظة

أنواع «السلام» المنثور على أهل الجنّة

الجنّة هي «دار السلام» كما ورد في الآية (٢٥) من سورة يونس حيث نقرأ :( وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ) .

وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك ، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة( وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) (٣) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، مجلّد ٢٣ ، صفحة ٣٥.

(٢) روح البيان ، مجلّد ٧ ، صفحة ٤١٦.

(٣) الرعد ، ٢٤.

٢١٣

ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم( وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) .(١)

وعند ما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة.

وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(٢) ويسلّم بعضهم على بعض( تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) .(٣)

وأخيرا ، أسمى وأعظم سلام هو سلام اللهعزوجل ( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) .

الخلاصة :( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) .(٤)

والسلام ليس لفظا فحسب ، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة ، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.

* * *

__________________

(١) الأعراف ، ٤٦.

(٢) النحل ، ٣٢.

(٣) إبراهيم ، ٢٣.

(٤) الواقعة ، ٢٦.

٢١٤

الآيات

( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) )

التّفسير

لماذا عبدتم الشيطان؟!

مرّ في الآيات السابقة جانب من المصير المشوّق لأهل الجنّة ، وفي هذه الآيات مورد البحث جانب بئيس من مصير أهل النار وعبدة الشيطان.

أوّلا : يخاطبون في ذلك اليوم خطابا تحقيريا( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

فأنتم ربّما دخلتم في صفوف المؤمنين في الدنيا وتلونتم بلونهم تارة ، واستفدتم من حيثيتهم واعتبارهم ، أمّا اليوم «فامتازوا عنهم» وأظهروا بشكلكم الأصلي الحقيقي.

هذا في الحقيقة هو تحقّق للوعد الإلهي الوارد في الآية (٢٨) من سورة ص حيث يقول الباريعزوجل :( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ

٢١٥

فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .

وعلى كلّ حال ، فظاهر الآية هو التمييز في العرض بين المجرمين والمؤمنين ، وإن كان بعض المفسّرين قد احتمل احتمالات اخرى من جملتها : تفريق صفوف المجرمين أنفسهم إلى مجموعات فيما بينهم ، أو انفصال المجرمين عن شفعائهم ومعبوداتهم ، أو انفصال المجرمين كلّ واحد عن الآخر ، بحيث يكون ذلك العذاب الناتج عن الفراق مضافا على عذاب الحريق في جهنّم.

ولكن شمولية الخطاب لجميع المجرمين ، ومحتوى جملة «وامتازوا» تقوّي المعنى الأوّل الذي أشرنا إليه.

الآية التالية تشير إلى لوم الله تعالى وتوبيخه المجرمين في يوم القيامة قائلا :( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا العهد الإلهي أخذ على الإنسان من طرق مختلفة ، وكرّر على مسمعه مرّات ومرّات :( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (١)

جرى هذا التحذير وبشكل متكرّر على لسان الأنبياء والرسل :( وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (٢) .

وكذلك في الآية (١٦٨) من سورة البقرة نقرأ :( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

ومن جانب آخر فإنّ هذا العهد أخذ على الإنسان في عالم التكوين ، وبلسان إعطاء العقل له ، إذ أنّ الدلائل العقلية تشير بشكل واضح إلى أنّ على الإنسان أن لا يطيع من تصدّى لعداوته منذ اليوم الأوّل وأخرجه من الجنّة ، وأقسم على إغواء

__________________

(١) الأعراف ، ٢٧.

(٢) الزخرف ، ٦٢.

٢١٦

أبنائه من بعده.

ومن جانب ثالث فقد أخذ هذا العهد على الإنسان بالفطرة الإلهيّة للناس على التوحيد ، وانحصار الطاعة في الله سبحانه ، وبهذا لم تتحقّق التوصية الإلهية هذه بلسان واحد ، بل بعدّة ألسنة وأساليب ، وامضى هذا العهد والميثاق.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ «العبادة» الواردة الإشارة إليها في جملة( لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) بمعنى «الطاعة» ، لأنّ العبادة لا تنحصر بمعنى الركوع والسجود فقط ، بل إنّ من مصاديقها الطاعة. كما ورد في الآية (٤٧) من سورة «المؤمنون»( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) وفي الآية (٣١) من التوبة نقرأ :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً ) .

والجميل أنّه ورد في رواية عن الصادقعليه‌السلام تعليقا على الآية بقوله : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون»(١) .

وعن الصادقعليه‌السلام أيضا أنّه قال : «من أطاع رجلا في معصية فقد عبده»(٢) .

وعن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»(٣) .

الآية التالية تأكيد أشدّ وبيان لوظيفة بني آدم ، تقول الآية الكريمة :( وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .

أخذ على الإنسان العهد بأن لا يطيع الشيطان ، إذ أنّه أعلن له عن عداوته بشكل واضح منذ اليوم الأوّل ، فهل يطيع عاقل أوامر عدوّه!؟ هذا من جانب.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٨٩ ، حديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩١ ، حديث ٨ و ٩.

(٣) المصدر السابق.

٢١٧

ومن جانب آخر ، أخذ عليه العهد بطاعة الله سبحانه وتعالى ، لأنّ سبيله هو الصراط المستقيم ، وهذا في الحقيقة أعظم محرّك للبشر ، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ لو كان في وسط صحراء قاحلة محرقة ، وكانت حياته وحياة عياله في معرض خطر قطّاع الطرق والضواري ، فأهمّ ما يفكّر به هو العثور على الطريق المستقيم الآمن الذي يؤدّي إلى المقصد ، الطريق السريع والأسهل للوصول إلى منزل النجاة.

ويستفاد كذلك من هذا التعبير ضمنا بأنّ الدنيا ليست بدار القرار ، إذ أنّ الطريق لا يرسم لأحد إلّا لمن يريد الذهاب إلى مقصد آخر.

وللتعريف بهذا العدو القديم أكثر فأكثر يضيف تعالى :( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) .

ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب.

ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أي مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشيطان؟ آثار مدنهم المدمّرة أمام أعينكم ، والعاقبة المؤلمة التي وصلوا إليها واضحة لكلّ من يمتلك القليل من التعقّل والتفكّر.

إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدو لكم مرّات ومرّات؟ ولا زلتم تتّخذونه صديقا بل قائدا ووليّا وإماما!!

«الجبلّ» الجماعة تشبيها بالجبل في العظم (كما يقول الراغب في مفرداته).

و «كثيرا» للتأكيد على كثرة من اتّبع الشيطان من كافّة المستويات الاجتماعية في كلّ مجتمع.

ذكر بعضهم أنّ «الجبلّ» بحدود عشرة آلاف نفر ، أو أكثر ، وما دون ذلك لا يكون جبلّا(١) ، ولكن البعض الآخر لم يلتزم بتلك الأرقام(٢) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ العقل السليم يوجب على الإنسان أن يحذر بشدّة من عدوّ

__________________

(١) انظر روح المعاني والفخر الرازي.

(٢) المصدر السابق.

٢١٨

خطر كهذا ، لا يتورّع عن أي شيء ، ولا يرحم أي إنسان أبدا ، وقرابينه في كلّ زاوية ومكان هلكى صرعى ، فلا ينبغي له أن يغفل عنه طرفة عين أبدا ، ولنقرأ ما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام :

«فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوّ الله ، أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد ، وأغرق إليكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب ، فقال : ربّ بما أغويتني لازينّن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٢ (القاصعة).

٢١٩

الآيات

( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) )

التّفسير

يوم تسكت الألسن وتشهد الأعضاء!!

تعرّضت الآيات السابقة ، إلى قسم من التوبيخات والتقريعات الإلهيّة وإلى مخاطبته سبحانه المجرمين في يوم القيامة.

هذه الآيات تواصل البحث حول الموضوع نفسه أيضا.

نعم ، ففي ذلك اليوم وحينما تظهر جهنّم للمجرمين الكافرين يذكّرهم الله بوعده ، والآية تشير إلى ذلك فتقول :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237