جامع الأخبار أو معارج اليقين في اصول الدين

مؤلف: الشيخ محمد بن محمد السبزواري
تصنيف: أصول الدين
ISBN: 964-5503-33-7
الصفحات: 742
مؤلف: الشيخ محمد بن محمد السبزواري
تصنيف: أصول الدين
ISBN: 964-5503-33-7
الصفحات: 742
الإهداء
إلى من قرن الله تعالى طاعتهما بطاعته إلى من درجت في باحة ودهما وحنانهما حتى اشتد عودي واستقام وأنا استمطر في حلك الظلام دعاءهما.
إلى من أرضعاني صفو الدين ، وغذياني لب الولاية في زمن الجدب السقيم إلى من نأت بي عنهما سطوة الأيام حتى أمستَ ذكراهما كالطيف الناعم يداعب مخيلتي المنهكة.
إلى والدي صاحب القلب الكبير ، وإلى والدتي الطيبة أهدي هذا الجهد المتواضع.
علاء آل جعفر |
بسم الله الرحمن الرحيم
ابتدء بحمد الله والثناء عليه ، رب الأرباب وخالق العباد ، ذو المن والطول ، الذي أسبغ علينا من النعم ما تنوء الألسن عن عدها ، والأفئدة عن حصرها ، الملك المتعال الذي لا اله إلا هو الرحمن الرحيم.
والصلاة على رسول الله النبي الأمي ، والرحمة العظيمة ، الذي بلّغ ونصح ، وأدى وبالغ ، فاخرج الله به من خرج من تيه الظلام إلى نور الهدى ، وعلى أهل بيته المعصومين ، حججه على العالمين ، وسبيله إلى النعيم.
أما بعد :
فليس خافياً على من له شيء من الاطلاع بحيثيات هذا الكتاب ـ الماثل بين يديك أخي القارىء الكريم ـ ما تكتنفه من ملابسات ، وما تعترض الباحث فيه من مشاق وصعوبات كانت هي التي دفعت بالكثير من اخواني وزملائي المحققين إلى الإنحاء باللائمة علي لإقدامي على هذا العمل ، واضطلاعي بتحقيق هذا الكتاب.
ومما لا ريب فيه أن للجميع عذره كما أن لي العذر أيضاً في ذلك ، فلما يحيط هذا الكتاب من جدل حول معرفة نسخته الحقيقية التي أصبحت نسخ عديدة متفاوتة بالزيادة والنقصان والترتيب والتشكيل ، وانتهاءً بالجدل القائم حول معرفة مؤلف هذا الكتاب والذي تشتت وتشعب ليصل في بعض الأحيان إلى ما يتجاوز
العشرين احتمالاً أو الأكثر ، يضاف إلى ذلك ما يظهر من جوانب أخرى عند العمل وخلال التحقيق الا أني وبالاتكال على الله تعالى لم أتردد في خوض هذه العباب متسلحاً بالصبر والتأني ، وراجياً الثواب من الباري جل اسمه ، والشفاعة من أهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم عند احياء أثر أوشك أن يندرس من آثار علومهم التي لاتنضب.
وحقاً أقول : إن هذا الكتاب وطوال هذه السنين التي مرت على تأليفه ـ والتي قد تمتد إلى ما يقارب السبعة قرون ـ قد تعرض وبشكل مقصود أوغير مقصود إلى عمليات مسخ وتشويه طالت كثيراً من رواياته وفحواه مضموناً وترتيباً ومجموعاً فلا غرابة أن نجد هذا البون الشاسع بين بعض نسخ هذا الكتاب وما هو المعول عليه ، والذي تتفق عليه جملة أخرى منِ النسخ المؤيدة بجملة من الشواهد والدلائل ، ولعل مما يثير الأسى والألم حقاَ أن تجد جهداً أنفق في عمل ما يوشكأن يضيع أدراج الرياح ، وأن يعفو عليه الزمن ، وإن كان لا غرابة في ذلك ، فقد ضاع من هذه الطائفة ولعدم تيسر السبل لها طوال دهور مرار الكثير من الأصول والأثار القيمة التي لم يتبق لنا منها إلا أسماؤها ، ناهيك عن غيرها من التي لم يتبق لنا منها حتى هذا الاسم.
ماذا كتب عن جامع الأخبار؟؟
سنحاول في بداية حديثنا أن نستعرض جانباً مما كتبه علماؤنا الأعلام في استعراضهم لهذا الكتاب ، متوخين استلال الجانب الذي يتعرض وبشكل مباشر إلى ما أثيرحوله وما قيل فيه.
قال العلامة الخوانساري في روضات الجنات :
جامع الأخبار ، المعروف المشهور الذي اختلف في مؤلفه ونسخه ، يشمل على أحاديث نادرة كثيرة من الآداب والسنن ، في طي أربعة عشر باباً ، ينفجر منها مائة وثلاثة وعشرون فصلاً ولقد أُختلف في حجيته نظراً إلى جهالة راويه وغرابة مطاويه ، واشتماله على أخبار المبالغة والارتفاع ، وعدم وجود إسناداً إلى مؤلفه أوعنه(١) .
__________________
(١) روضات الجنات ٤ : ٢٢٥.
أقول : قد نجافي الحقيقة إذا أغمضنا عن أمور لا يمكن الاغضاء عنها وسلّمنا بما ذهب إليه العلامة الخوانساري ـرحمهالله ـ ، فالبرغم من أن مسالة المبالغة والارتفاع كانت وما زالت موضع خلاف وأخذ ورد بين الكثيرين ، إلا أن الصاق هذا الأمر بكتابنا فيه الكثير من الرد ، فألكثير من الروايات التي قد تكون هي مصدر هذه التهمة تبين لي عند تحقيقي لهذا الكتاب أنها نُقلت من مصادرمعتبرة لاغبار عليها ، وهو مما ستتوضح صورته للقارىء الكريم عند مطالعته لمتن الكتاب ، أما عدم وجود الإسناد إلى مؤلفه أو الإسناد في رواياته فهذا الأمر قد يدفعه كون أن معظم هذه الروايات قد نُقلت أيضاً من مصادر معروفة ، أو أن رواياته متكررة في الكثير من مصادر الحديث ، ولا يخفى على القارىء الكريم أن بعضاً من كتب الحديث سبق أن نحت هذا المنحى كما هو في كتاب مكارم الأخلاق للطبرسي ـرحمهالله ـ ومثله في مشكاة الأنوار لولده ، فيبدو أن كتابنا صنواً لهذين الكتابين ...
وقال صاحب صحيفة الأبرار :
كتاب جامع الأخبار ، وهو مجموع حسن غير أنه مختلط الأسلوب ونسخه مختلفة ، فإن منها ما رُتب بالفصول فقط ، ومنها ما هو مبوب ، ولكن بين النسختين اختلاف في الزيادة والنقيصة ، والذي يختلج بالبال أنه لم يخرج من المسودة بيد المصنف ، ثم رتبه تلاميذه ، فلذا أخرج كذلك(١) .
وقال العلامة الطهراني في الذريعة :
جامع الأخبار ، المطبوع مكرِراً من (١٢٨٧ هـ) حتى اليوم ، المتداول المرتب على مائة واحد وأربعين فصلاً ، المشهور انتسابه إلى الشيخ الصدوق لكنه مما لا أصل له ، وقد اختلف أقوال الأصحاب في تعيين مؤلفه(٢) .
وأضاف ـرحمهالله ـ في موضع آخر :
جامع الأخبار المبوب والمرتب على غير ترتيب ما هو المطبوع ، وهو لبعض
__________________
(١) صحيفة الأبرار : ٤٥٩.
(٢) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٥ : ٣٣ / ١٥١.
المتاخرين عن مؤلف أصله المطبوع ، ذكر في أوله عين خطبة الموضوع ( الحمد لله الأول بلا أول كان قبله ـ إلى قوله ـ يشتمل أبواباً وفصولاً جامعة للزهد ) لكن في المطبوع يشتمل فصولاً فقط ، ثم زاد في الديباجة عدة جمل ليست فيِ المطبوع ، إلى أن ذكر أنه سماه بـ (جامع الأخبار) ورتبه على أربعة عشر باباً ، وفي كل باب عدة فصول على اختلاف في عددها(١) .
وأما ما قيل عن نسبة هذا الكتاب إلى مؤلف معين فقد تضاربت في ذلك الاراء ، وتشتت فيه الأقوال ، بل إنه يندر أن تجد هذا التضارب البيّن ، والاختلاف الواسع في نسبة مؤلَف إلى مؤلِفه ، وللجميع عذره.
فقد نسبه منتجب الدين في فهرسه إلى أبي الحسن علي بن أبي سعد بن أبي الفرج الخيّاط(٢) .
ونسبه صاحب رياض العلماء إلى محمد بن محمد الشعيري(٣) .
وقال الأحسائي : قال بعض المشايخ : وقفت على نسخة عتيقة جداً في دارالسلطنة أصفهان ، وفيها : تم الكتاب على يد مصنفه الحسن بن محمد السبزواري(٤) .
وأما الحر العامليرحمهالله فقد نسبه في إثبات الهداة إلى الحسن بن الفضل الطبرسي(٥) ، وقال في الايقاظ من الهجعة : كتاب جامع الأخبار للشيخ حسن بن الشيخ أبي علي الطبرسي(٦) . ولكنه في أمل الآمل تارة ينسبه إلى الحسن بن الفضل بن الحسن الطبرسي ، وتارة أخرى إلى محمد بن محمدا لشعيري(٧) .
__________________
(١) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٥ : ٣٦ / ١٥٢.
(٢) فهرست أسماء علماء الشيعة ومصنفيهم : ١٢١ / ٢٥٧.
(٣) رياض العلماء وحياض الفضلاء ٥ : ١٦٧.
(٤) انطر مقدمة الطبعه الحجرية للكتاب.
(٥) إثبات الهداة ١ : ٢٨.
(٦) الإيقاظ من الهجعة : ٢٨.
(٧) أمل الآمل ٢ : ٧٥ / ٢٠٣.
وقال العلامة المجلسي ـرحمهالله ـ واخطأ من نسبه إلى الصدوق ، بل يروى عن الصدوق بخمس وسائط ، وقد يظن كونه تأليف مؤلف مكارم الأخلاق ، ويحتمل كونه لعلي بن سعد الخياط ، ويظهر من بعض مواضع الكتاب اسم مؤلفه محمد بن محمد الشعيري(١) .
وأما الشيخ النوري ـرحمهالله ـ فقد ذكر في نَفَس الرحمان أنه مردد بين جماعة منهم : الصدوق ، والشيخ أبو الحسن علي بن أبي سعيد بن أبي الفرج الخيّاط ، ومحمد بن محمد الشعيري ، وجعفر بن محمد الدوريستي ، والحسن بن محمد السبزواري ، وأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، وولده أبو نصر الحسن صاحب كتَاب مكارم الأخلاق(٢) .
وأما في خاتمة المستدرك فقد قال : اختلف الأصحاب في مؤلفه ، فنسبه السيد حسين الكركي المفتي إلى الصدوق ، ولا يخفى ما في النسبة من الوهن ، فانه نقل في هذا الكتاب عن سديد محمود الحمصي المتأخر عن الصدوق بطبقات عديدة ، وينقل فيه أيضاً عن أمالي الشيخ أبي جعفر ، مع بعد وضع الكتاب عن طريقة الصدوق ومؤلفاته ، واحتمل المجلسي في البحار أن يكون مؤلفه الشيخ أبوالحسن علي بن أبي سعيد بن أبي الفرج الخياط(٣) .
وقال العلامة الطهراني ـرحمهالله ـ بعد حديث طويل عنه : وعلى أي فهومن المائة السادسة أولاً أو آخراً ، فليس داخلاً في التزكية والتوثيق العمومي من الشهيد لأهل المائة الخامسة ، فلا وجه للجزم بدخوله فيهم ، بل سيأتي احتمال كونه في المائة السابعة(٤) .
ثم ذكررحمهالله أحد عشر رجلاً تبتدىء أسماؤهم بمحمد بن محمد على احتمال أنه كذلك ، وكما ورد في العديد من نسخ الكتاب(٥) .
__________________
(١) بحار الأنوار ١ : ١٣.
(٢) نفس الرحمان : ١٣٤.
(٣) خاتمة مستدرك الوسائل (مخطوط).
(٤) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٥ : ٣٣ / ١٥١.
(٥) الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٥ : ٣٥ / ١٥١.
وأما العلامة الخوانساري ـرحمهالله ـ فبعد أن استعرض جملة من آراء الذين نسبوا الكتاب إلى العديد من المؤلفين قال : ثم إن في بعض المواضع أيضاً نسبته إلى شيخنا المفيد(١) .
بل ويمكن للباحث أن يجد جملة أخرى من الأراء التي ذهبت إلى نسبة الكتاب لجملة من الأعلام المشهورين في عصورمختلفة ، بل متفاوتة تفاوتاً كبيرفيما بينها وبشكل غير معقول ، فحين تجد من نسبه إلى أعلام القرن الرابع ، تجد أيضاً من ينسبه إلى القرن السابع ، بل الثاني أحياناً ، وفي جميعها قول وردّ لايخفى.
أقول مستعيناً بالله : إني حاولت طوال فترة تحقيق الكتاب أن أعتمد بعض السبل التي قد تمكنني في الوصول إلى ما أبتغيه :
أولها : محاولة تحديد الفترة الزمنية التي عاصرها مؤلف الكتاب.
ثانيها : حصر البقعة الجغرافية التي نشأ بها المؤلف ، وجمع فيها هذا الكتاب.
ثالثها : تحديد النسخة الحقيقية للكتاب باعتماد البعدين السابقين ، وبالاستفادة من الجوانب العلمية والفنية الأخرى.
رابعها : الاستقصاء ما أمكن لما يوجد من نسخ متفرقة في المكتبات العامة والخاصة ، والاستفادة من مطاويها ، وما يمكن أن يستشف من خلالها من إشاراتلا بد وأن تكون دليلاً يسترشد به للوصول إلى الهدف المنشود.
خامسها : الاستفادة ما أمكن مما كتبه علماؤنا الأعلام ـ رحمهم الله تعالى برحمته الواسعة ـ حول هذا الكتاب ، وما احتملوه من آراء فيه وفي نسبته.
وسنحاول بعون الله تعالى أن نناقش كل هذه السبل متوخين من خلالها التوصل إلى خفايا وملابسات هذا الكتاب.
__________________
(١) روضات الجنات ٤ : ٢٢٧.
زمان تاليف الكتاب :
ولغرض معرفة ذلك ينبغي معرفة البعدين الزمنيين : الأكثر والأقل ، وهذا لايمكن معرفته إلا بتتبع المصادر التي نقل عنها ، والأحداث التي أشار إلى احتمال وقوعهِا ، وفي حصر ما أمكن من تواريخ نسخ مخطوطات الكتاب لتحديد أقدمهاتاريخاً.
ونتيجة لذلك فقد تم تثبيت جملة من الملاحظات المهمة وهي :
١ ـ ينقل المؤلف في متنه عن كتاب روضة الواعظين للشيخ محمد بن الفتال النيسابوري الشهيد في سنة (٥٠٨ هـ)(١) .
٢ ـ ينقل أيضاً عن أخطب خوارزم المتوفي سنة (٥٦٨ هـ) وعن كتابه الخاص بمقتل آل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والذي انتهى من تأليفه سنة (٥٤٤ ـ هـ)(٢) .
٣ ـ نقل عن كتاب أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي الموسومبـ (مجمع البيان في تفسير القرآن) والذي فرغ من تأليفه سنة (٥٣٦)(٣) .
٤ ـ روي في الفصل المائة (في الرساتيق) عن سديد الدين محمود الحمصي بصيغة الغائب ، والتي توحي بوجود فاصلة زمنية بين الاثنين بشكل لايقبل الشك ، والحمصي هو صاحب كتاب (المنقذ من التقليد) وكان قد فرغ من تأليفه عام (٥٨١ هـ) ، وهو ـ كما يظهر ـ كان حياً حتى عام (٥٨٣ هـ)(٤) .
٥ ـ وجدته ينقل كثيراً وحرفياً عن كتاب مشكاة الأنوار للشيخ أبي الفضل علي الطبرسي ، حفيد الطبرسي الكبير مؤلف مجمع البيان في تفسير القرآن الكريم.
وصاحب مشكاة الأنوار كما هو معروف من أعلام أوائل القرن السابع الهجري.
__________________
(١) انظر : ح : ٧١٥ / ٦.
(٢) انظر : ح : ١٠٦٩ / ٣.
(٣) انظر : ذيل ح : ١٢٧ / ٧.
(٤) انظر : ذيل ح : ١٠٩٢ / ٣.
(٥) يمكن للقارىء الكريم أن يجد عند تصفحه لهذا الكتاب الكثير جداً من هذه الروايات والتي أشرت لها في الهامش كما في ح ٦٦٤ و ٦٦٥ و ٦٦٦.
٦ ـ من نتائج الاستقصاء الواسع الذي أجريته لفهارس المكتبات العامة والخاصة حصلت على جملة كبيرة من النسخ الخطية لهذا الكتاب ، ومن خلال حصر التوافق بين هذه النسخ وجدت قسماَ كبيراً منها يتفق على كون الانتهاء من تأليف هذا الكتاب كان في منتصف القرن السابع الهجري وبالتحديد في اليوم السادس من صفر عام ٦٧٩ هـ ، كما سترى في الجدول المرفق بالمقدمة.
إذن فمن ملاحظة ما تقدم يظهر بوضوح أن هذا الكتاب ألف يقيناً ـ وعلى أقل تقدير ـ بعد منتصف القرن السادس الهجري ، وإن كانت بعض الأدلة والشواهد السابقة كما في الفقرتين الخامسة والسادسة ما يدفع بهذه الفترة الزمنية نحو القرن السابع الهجري والتي تؤيدها جملة من الملاحظات البديهية.
فقبل سبعمائة عام ما كان هذا التحضر العلمي الذي نشهده الآن في الطباعة والنشر والتوزيع وغيرها ، بل كان الأمر أكثر بساطة ، والكتب أبطأ انتشاراً ، فأي مؤلَف كان لا بد أن يستغرق زمناً طويلاً لكي ينال هذا الانتشار الواسع الذي يجعله في متناول أيدي القراء والباحثين ، بعد استنساخه على أيدي النسّاخين ، ونقلهعبر الأمصار والأقطار حتى يصبح بالتالي معروفاً معتمداً لدى العلماء والمؤلفين للنقل عنه في كتبهم. إذن فمن غير المنطقي والمعقول أن تتزامن فترة تأليف كتابنا هذا مع زمن انتهاء تأليف الكتب التي اعتمد عليها ونقل منها ، ولهذا فإن ما يقوي في نظري هوأن هذا الكتاب قد تم تأليفه بعد القرن السادس الهجري ، وهو ماستؤيده الأدلة القادمة التي سنتحدث عنها إن شاء الله تعالى.
كما أني لم أجد ما يدل على أنه نقل عن كتاب أومؤلف بعد هذا القرن ـ أي القرن السابع ـ وإن كان فيه يشير إلى أنه لم يتجاوزه ، كما في الفصل الثاني والمائة في الملاحم عندما يشير إلى احداث عظيمة تقع في نهاية هذا القرن مثل : ( وفي السبعمائة تطلع الشمس سوداء مظلمة ، ولا تسألوا عما ورائها ).
أو : ( في سنة سبع وثمانين وستمائة يظهر من الروم رجل يقال له المزيد في وفي زمانه يخرج إليهم رجل من مكة يقال له : سفيان بن حرب ).
وفي خبر آخر : (من وقت خروجه إلى ظهور قائم آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمان أشهر لا يكون زيادة يوم ولا نقصان ).
ولعل في هذا ما يدل على أن هذا الكتاب لم يتجاوز عند تأليفه القرن السابع بل كان في حدوده ، وأقوى ذلك أن يكون في منتصفه كما أشارت إلى ذلك الأدلة المتقدمة.
ولذا فإن هذا ما يتعارض مع جملة من الاعتبارات القائلة بنسبة هذا الكتاب إلى جملة من الأعلام سبقوا هذه الحقبة الزمنية أو تجاوزوها.
البقعة الجغرافية لمؤلف الكتاب :
كان بالإمكان الاستفادة مما تحصل من تفحص في الفقرة ألاُولى لغرضحصر أو معرفة موطن مؤلف هذا الكتاب ، أو على الأقل محل تواجده عند جمعه لهذا الكتاب.
ولقد ثبت في تصوري ولجملة من الشواهد التي سأذكرها إن شاء الله تعالى أن مؤلف هذا الكتاب هو من أهل سبزوار أو ما يحيط بها.
وفي هذا التصور ـ المعتمد على جملة من الملاحظات ـ خيط قوي يربطهبما تحصّل أويتحصّل من الملاحظات المعتمدة ، بل وكأنها حلقات يُكمل بعضها بعضاً. وإلى ذلك مال الكثيرون كما سنذكر ، وهكذا فمن الشواهد التي يمكن الاعتماد عليها للتشخيص الحالي ما يلي :
١ ـ ينقل المؤلفرحمهالله في متن كتابه كثيراً من كتب الأعلام من أهلتلك النواحي أمثال الفتال النيسابوري صاحب كتاب روضة الواعظين ، والشيخ الطبرسي صاحب كتاب مشكاة الأنوار المتوفى في سبزوار ، كما أنه يروى في الفصل الخامس حديث (٥٢) عن علي بن عبد الله بن علي للبيهقي ، ذاكراً فينفس الحديث عين ما يطلق على سبزوار من تسميتها بالقصبة ، وبيهق كما هو معروف ناحية من نواحي نيسابور ، كما أن سبزوار هي إحدى قصبات بيهق.
٢ ـ ما ذهب إليه جمع من الأعلام في نسبة الكتاب إلى مؤلف ما كما تقدمفي الصفحات السابقة ، فترى وان اختلفوا في تحديد اسم هذا المؤلف إلا أنهم وفي أغلب ما ذهبوا إليه أنهم نسبوا مؤلفه إلى تلك النواحي.
٣ ـ مال العلامة الطهرانيِ إلى ما ذهبنا إليه كما ذكر ذلك في الذريعة (٣٤٥).
قال : فيظهر أنه كان المؤلف من أهل بيهق أو وارداً إليها.
٤ ـ وجدت معظم النسخ الخطية التي حصلت عليها تشير إلى أن مؤلف هذا الكتاب هو من أهل سبزوار كما هو في الجدول الملحق بالمقدمة.
ولا غرابة في ذلك حيث أن سبزوار كانت ـ وهذا لا يخفى ـ حافله بالعلماء والفضلاء أبان تلك الفترة التاريخية ، والأسماء في ذلك كثيرة حيث تشهد لذلك كتب التراجم المعروفة.
ولعلنا إذا أردنا أن نستعرض جميع هذه الأسماء فسنجد أنفسنا في متاهة لاحد لها ، وبحر لا مرفأ له ، ونكون بذلك قد أغمضنا أعيننا عن حقائق وشواهد ماثلة للعيان لا تخفى على الناظر إليها ، ناهيك عمن تفحص بها وتمعن فيها ، كما أن المؤلف وكما لا يقبل الشك لم يكن من أصحاب المؤلفات المعروفة ، ويشهد لذلك ما ذكره في مقدمة كتابه من كون هذا الكتاب هو أول مؤلفاته بهذا الشكل ، وأنه ألفه بعد أن تجاوز الخمسين عاماً ، بل ولم يكن من الشهرة وذياع الصيت بينعامة الفضلاء والعلماء كحال البارزين من علماء الطائفة ، وإلا لما خفى كتابه ، وكاد أن يضيع ولا يبقىِ له أثرِ ، وهوِما تراه عزيزي القارىء الفاضل واضحاً من اختلاف نسخه تنظيماَ وترتيباَ وسرداَ وغير ذلك ، وكذا فإن المؤلف لم يترك من الآثار التي تدلنا على أنه ترك لنا كتاباً اخراً بهذا النحوأو غيره بحيث يمكن الاستدلال به عليه ، بل ولم أجد أحداً من المعاصرين لتلك الحقبة الزمنية أو اللاحقين بها ـ قدر ما استطعت ـ يشير إلى هذا الأمر.
ما هي النسخة الحقيقية للكتاب؟ :
بقي لدينا أمرطالما حير الباحثين في هذا المؤلَف أو المطالعين له ، وهو هل أن النسخة الحقيقية للكتاب هي ذات الفصول أم ذات الأبواب والفصول؟
ولا يخفى على القارئ الكريم أن هذا الاختلاف لا يعني أنه مجرد اختلاف في التبويب والترتيب فقط ، بل إن الأمر أكثر من ذلك وأعقد ، حيث أن بين الاثنين اختلاف في المجموع أيضاً ، ولهذا فقد وقع العديد من الباحثين في حيرة من هذا الأمر ، إلا أن البعض الآخرفطن إلى جوانب معينة يمكننا أن نعتمد بعضه اللاستدلال على حقيقة النسخة الأصلية بإذن الله تعالى.
فالأمرِ الذي لا يخفى على الباحث أن مؤلف أي كتاب كان يرتب كتابه وفقما يراه مناسباً ومتوافقاً مع مبناه في اعداد هذا الكتاب ، فمنهم من يرتب كتابه على الفصول ، في حين يذهب البعض الآخر على أن كل مجموعة من الفصول الموجودة تتفق فيما بينها في جوانب ما ، عقائدية كانت أو أخلاقية أو أي شيء آخر ، فلذا يبادر إلى جمع كل مجموعة من هذه الفصول في أبواب مستقلة ، وهذا هو أمر شائع لا لبس فيه ، إلا أن من غير المألوف أن يلجأ شخص ما إلى حذف الأبواب لأجل اعداد كتاب ما ، لأنه بذلك سوف يعمد إلى ايجاد الاضطراب في الكتاب طالما أنه كان مرتباً على أساس الأبواب المتفقة الفصول ، بل ان ما يحصل هو العكس من ذلك ، حيث من المألوف أن يلجأ مؤلف ما إلى جمع شتات الفصول المتشابهة مبناً مثلاً في أبواب معينة.
هذا من جانب ، وأما من الجانب الأخر فإن النسخة المرتبة على أساس الأبواب خضعت لعملية حذف شملت العديد من الروايات الموجودة في النسخة الأخرى ، وهذا الأمر واضح جلي.
ويؤيد ما ذهبنا إليه أيضاً قول العلامة الطهرانيرحمهالله في الذريعة (٥ : ٣٦) حيث ذكرعند حديثه عن النسخة المبوبة : وهو لبعض المتأخرين عن مؤلف أصله المطبوع.
كما أني وجدت في نسخة من الذريعة لدى سماحة السيد عبد العزيز الطباطبائي تصحيحات نقلها من نسخة العلامة الطهراني الخاصة المصححة بيدهرحمهالله حيث أضاف على ما كتبه عن جامع الأخبار المبوب (المكتوب ٩٠١ هـ) وبذا فإن ما يبدو لي جلياً أن الأصل في كتابنا هو المرتب على الفصوللا الأبواب والفصول ، والله أعلم.
الملاحظة الرابعة :
لقد حاولت وطوال عملي في هذا الكتاب استقصاء ما أمكن الحصول عليهمن نسخ الكتاب في المكتبات العامة والخاصة ، وتتبع ما أمكن من ملاحظات متعلقة بها وشارحة لها.
وكان وبتوفيق من الله تعالى أن يسرت لي كثير من السبل ، واشرعت دون
ذلك لي الأبواب ، حتى تحققت من عشرات النسخ عياناً وعن طريق الفهارس المتعددة حتى لدول مختلفة تقتني بعض المخطوطات الإسلامية ، وكان من نتيجة ذلك الاستقصاء الواسع أن حصلت على نقاط توافق بين تلك النسخ وبشكلواضح جلي.
ومن تلك النقاط التي كانت تسترعي الانتباه وتثير التساؤل :
١ ـ اتفاق العديد من النسخ على كون انتهاء تأليف الكتاب في ٦ صفر ٦٧٩ كما سترى ذلك في الجدول الملحق بالمقدمة.
٢ ـ وردت تسمية محمد بن محمد كأسم لمؤلف الكتاب في العديد منها ، في حين أضافت الأخرى لقب السبزواري إلى الاسم ، وإلى اعتماد هذا الاسم (أي محمد بن محمد) ذهب معظم من حاول تحديد اسم مؤلف هذا الكتاب ، وعليه دارت أقطاب الرحى.
٣ ـ أوردت الكثير من النسخ وفي باب تقليم الأظافر قول المؤلف : قال محمد بن محمد مؤلف هذا الكتاب قال أبي في وصيته ..
وأخيراً :
لا ريب في أن الاستفادة مما كتبه علماؤنا الأعلام ـ رحمهم الله برحمته الواسعة ـ له كبير أثر وعظيم فضل في الاسترشاد إلى مواطن كثيرة ، وشواهد عديدة ، يمكن من خلالها الوصول إلى الهدف الذي نحاول الوصول إليه ، وكناقد ذكرنا جملة من هذه الآراء في بداية حديثنا ، واستشهدنا كذلك بأقوالهم وآرائهم أثناء حديثنا وتعليقاتنا في الملاحظات السابقة ، بالإضافة إلى ما سنذكره من هذه الأراء في حديثنا القادم إن شاء الله تعالى.
ماذا تحصل من الملاحظات السابقة؟
إذا استقرأنا الاستنتاجات التي توصلنا إليها في الملاحظات السابقة ، ونقاط الاتفاق بينها ، فسنجد جملة من الشواهد التي تظهر وبوضوح جلي لا يمكن معه الاغضاء عنها :
١ ـ الثابت أن المؤلف جمع كتابه بعد منتصف القرن السادس على أقل
تقدير ، وإن كان هنالك من الأدلة ما يؤكد وبشكل بين أن هذا التاريخ يندفع نحومطلع القرن السابع الهجري.
٢ ـ الأقوى من اتفاق العديد من الأدلة والشواهد أن مؤلف هذا الكتاب كان من أهل سبزوار ، أو من النواحي القريبة منها.
٣ ـ كذلك فإن ما يظهر من متون النسخ التي تحققنا منها ، وكما يذهب إليه جمع من العلماء والفضلاء أن مؤلف هذا الكتاب هو محمد بن محمد كما ذكرنا ذلك سابقاً.
وهكذا فمن خلال هذه الملاحظات التي استخلصناها من تحقيقنا نجد أن معظم ما ذهب إليه مما يتعارض تعارضاً بينا مع هذه الأدلة يبدو ضعيف الحجة والبرهان.
فمما لا شك فيه أن الحقبة الزمنية التي حصرنا فيها تأليف الكتاب وبما تحصل لنا من الأدلة الواقعية المقنعة لا يمكن معها أن نخضع للنقاش ما خرج عن حدودها وإلا فما قيمة الحقائق إذا لم يعمل بها ولا يستدل بها؟ نعم ان من يطرح ماخرج عن ذلك له ما يستدل به ، لكن الذي تحصل لنا وهو أيضاً ما ذهب إليه آخرون كما ذكرنا كان نتيجة تحقيق متن الكتاب والاطلاع عليه من الجلد إلى الجلد.
ومثله أيضاً ما هو واضح للعيان من الاسم الأول لمؤلف هذا الكتاب هو محمد بن محمد وهو أمر لا نلتزمه وننادي به لوحدنا فاكثر من سبقونا ذهبوا إلى التسليم بذلك فلماذا نعرض عن هذه الحقائق صفحاً ونحمل أنفسنا إلى البحثعن تصورات طالما هناك ما هو واضح ومعروف ...؟
إذن فلم يبق أمامنا سوى البحث عن نقاط الاتفاق التي قد تقودنا نحو الهدف الذي نبتغي الوصول إليه وهو ما ذكرناه سابقاً ، وإن كان هناك من ذهب إلى أن مؤلف هذا الكتاب هو محمد بن محمد الشعيري ، وهذا ما وجدت أن البعض قد أثبته كإسم حقيقي لمؤلف الكتاب بعد أن ذهب إلى ذلك العلامة المجلسيرحمهالله في البحارحيث قال : إن ذلك يظهرمن بعض نسخ الكتاب فإن ما يرد ذلك أن المذكور في متن الكتاب من اسم المؤلف هو محمد بن محمد مطلقاً أو
مقيداً بالسبزواري ، وكذا هو الحال في آخر الكتاب ، وإلى ما ذهبنا إليه سبق أن ذهب إليه صاحب رياض العلماء حيث قال : إن ما يظهر من كلام الأستاذ في أول البحار أنه من مؤلفات محمد بن محمد الشعيري ليس بصريح ، لأن العبارة في الكتاب ليس إلا محمد بن محمد ، وهومشترك ، ولا يختص بالشعيري ....
ما هو كتاب معالج اليقين فى أصول الدين؟
في الفترة التي كنت فيها منكباً على تحقيق هذا الكتاب عثرت على نسخة خطية لهذا المؤلَف المغمور ، والذي لم يبق له أثر يذكر إلا في حدود قليلة جداً ، سواء في مخطوطاته أو بين دفات كتب التراجم والفهارس ، وعند تصفحي لهذه النسخة الخطية وجدت تشابهاً كبيراً بين كتابنا وهذهِ النسخة ، ولعل الأمر الأكثر غرابة هوأن هناك توافقاً كبيراً بين ما ذهبنا إليه من استنتاجات وشواهد عند تحقيقنا لهذا الكتاب وهذهِ النسخة ، وعندما راجعت ما كتبه العلامة الطهرِاني عن معارج اليقين هذا وجدت أن هذا التوافق بين الاثنين يزداد وضوحاً وتمكناَ. ذكر العلامة الطهرانيرحمهالله في الذريعة (٢١ / ١٨٥) :
معارج اليقين : يكثر النقل عنه المولى نجف علي الزنوزي التبريزي في جواهر الأخبار ، منها أخبار في فضل زيارة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأمير والحسن والحسينعليهمالسلام .
رأيت النقل عن (معارج اليقين) أيضاً في بعض رسائل أصول الدين ، روى عنه في باب الروح بعض الأحاديث عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعنأبي عبد الله الصادقعليهالسلام ، وكذا المجلسي في بحث المعاد من حقاليقين.
يوجد عند المولى الخياباني ، وقال في آخر الثالث من (الوقائع) : أنه يشبه جامع الأخبار ، وأن مؤلفه محمد بن محمد بن محمد السبزواري ، ألفه سنة تسع وسبعين وستمائة.
وعلى هامش نسخة (من لا يحضره) الموجودة في مكتبة الأمير بالنجف نقل عن معارج اليقين الفصل السادس والثلاثين في كيف أصبحت وينقل عنه
كقوله تعالى( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) وقوله تعالى من بعد( ثُمَّ إذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) يجري هذا المجرى لانه تعالى لا يدعوهم في الحقيقة لكنه يجيبهم ويكمل عقولهم ويمكنهم فيخرجون ويرجعون إلى الله تعالى بمعنى إلى حيث لا حاكم سواه وقوله تعالى من بعد( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) ربما قالوا فيه ان ذلك يدل على جواز الضعف عليه. وجوابنا أنّه بمعنى هيّن كما إذا قلنا في الله انه أكبر وأعظم فالمراد به كبير عظيم وكما قال الشاعر :
إن الذي سمك السماء بنى لنا |
بيتا دعائمه أعز وأطول |
والمعنى أنه عزيز طويل.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) كيف يصح ظهور الفساد لاجل كسبهم؟ وجوابنا أنهم إذا أفسدوا في الارض وظلموا ومنعوا الحقوق يظهر بذلك الفساد في الموضعين واذا قلت النعم من جهة الله تعالى لاجل ذلك كان ردعا لهم عن أمثال ما فعلوا وبذلك قال تعالى( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ولا يمتنع أن يكون الصلاح عند كسبهم أن يقع من الله تعالى التضييق في المعيشة على وجه الاعتبار كما فعله تعالى بأمم الأنبياء من إنزال العقاب بهم ولذلك قال تعالى بعده( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ) فبيّن ما نالهم لاجل شركهم وقوله من بعد( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) هو خطاب للكل وإن كان لفظه خاصا والمراد بالوجه نفس الانسان فكأنه قال فأقم نفسك للدين القيم حتّى لا تحول عنه ولا تزول فلا تأمن في كل وقت من الاخترام فاذا ثبت على الاستقامة كنت من الفائزين
تنزيه القرآن (٢١)
ولذلك قال تعالى بعده( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) وقوله تعالى من بعد( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) يدل على أنه من فعله والا كانت اضافته إلى خالقه أولى وقوله تعالى( وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) يوجب أن ذلك من فعلهم أيضا وقوله تعالى من بعد( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ) يدل أيضا على ذلك لان المجازاة من الله تعالى على نفس ما خلق لا تصح وقوله تعالى من بعد( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) يدل أيضا على ذلك لأن الكفر إن كان من خلقه فقد أراده وأحبه وإذا أراده فقد أحب الكافر إذ محبة الكافر هو محبة كفره وقوله تعالى من بعد( فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) يدل على ان الجرم من قبلهم وقوله تعالى من بعد( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) يدل على ان ايمانهم من قبلهم إذ لو كان خلقا من الله لكان ناصرا لنفسه وذلك محال وقوله تعالى من بعد( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) هو على وجه المبالغة لتركهم القبول والتفكر وكذلك قوله( وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ ) ولذلك قال تعالى بعده( إذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) ولو أراد حقيقة الصم لكان حالهم في الاقبال كحالهم في الادبار ولذلك قال تعالى بعده( إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا ) فأما قوله عز وجل( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ) والضعف عرض لا يصح أن يخلق الجسم منه فالمراد المبالغة في ضعفه وهو على ما هو عليه وبيّن ان آخر أمره أن لا ينتظر له قوة بعد ضعف وبقوله تعالى( ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً ) وكل ذلك تحريك لهم على التدارك إلى التوبة خصوصا وقد أدرك حال الشيبة.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) كيف يصح أن يخبروا بذلك ويقسموا عليه وهو كذب وعندكم أنهم في الآخرة هم ملجئون
الى أن يفعلوا القبيح؟ وجوابنا أنّ المراد بذلك إخبارهم عن أنهم ما لبثوا غير ساعة عند أنفسهم لأنّ ما بين الموت والاعادة وان طالت مدته فهو كالقصير من الاوقات في أن المعاد لا يتبين له ذلك وقوله تعالى( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ) يدل على ما نقول لأنه أن كان ظلمهم من خلق الله فهم مستغنون عن المعذرة.
سورة لقمان
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ) كيف يصح مع ثقلها وعظمها أن تقف لا على عمد؟ وجوابنا أنّه تعالى اذ اسكنها حالا بعد حال وقفت وان كانت ثقيلة كما أن أحدنا يمسك يده وقد بسطها فمن حيث يفعل فيها السكون حالا بعد حال تثبت ولذلك متى لم يسكنها سقطت لانّ أحدنا يغفل ويلهو والله سبحانه يتعالى عن ذلك واختلف المفسرون في ذلك فقال بعضهم الفائدة فيه نفي نفس العمد أصلا على ما ذكرنا وقال بعضهم الفائدة فيه انا لا نرى العمد والاول هو أقوى وهو داخل في الاعجوبة وقوله تعالى من قبل( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) يدل على أن المضل هو الانسان وأنه مذموم ويدل على أن كل قول قيل بلا علم في الاديان فهو مذموم وقوله تعالى المتصلة من بعد( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) يدل على أن العشرة بأحوال الدنيا قد تحسن مع المباينة في الدين ثمّ بين أن من أناب إلى الله يجب أن يتبع فقال( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ ) إلى قوله تعالى من بعد حاكيا عن لقمان( يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ) القصد فيه أن يتأمله المرء فيعمل به فان هذه الوصية جامعة للانقطاع إلى الله تعالى بعد المعرفة بعلمه وقدرته لان قوله تعالى( إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أو فِي السَّماواتِ أو فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ
إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) يؤذن بأن ما أقدم المرء عليه دق أم جل فهو معلوم لله وتكون المجازاة بحسبه وذلك ردع عظيم وهي جامعة القيام بالعبادات وهو بقوله( يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ) وهي أيضا جامعة للآداب وما ينبغي أن يتمسك به المرء من الاخلاق والتواضع وهو بقوله( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) إلى آخر الكلام وقوله من بعد( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) يدل على أن التمسك بالمذاهب إنما يحسن إذا كان عن علم وقوله( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إلى عَذابِ السَّعِيرِ ) مما لا مزيد عليه في بطلان التقليد لأنه تعالى بيّن أنهم إذا جاز أن يتركوا الدليل اتباعا لآبائهم من دون دلالة فقد جاز أن يرجعوا إلى اتباع الشيطان فيما يدعوهم اليه لأن ما في كلا الموضعين هو اعتماد على القول من دون دلالة وهذا هو الذي نعتمد عليه في بطلان التقليد ونقول إنه إذا جاز تقليد الآباء في الاسلام فيجوز تقليد أولاد النصارى لآبائهم لأن كل ذلك اعتماد على قبول القول من غير دلالة وقوله تعالى( وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ ) يدل على أن كلام الله مقدور له يحدث حالا بعد حال لا كما قاله قوم من أنه متكلم بذات أو بكلام قديم لا يصح فيه زيادة ولا نقصان.
[ مسألة ] وربما تعلقوا بقوله تعالى( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ ) وقالوا يدل ذلك على أن جريه من فعل الله تعالى ليكون مضافا إلى الله تعالى ولو لا ذلك لوجب أن يكون مضافا إلى الملاح ولما صح أن يكون آية وقد قال تعالى( لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ ) وجوابنا أنّ وجه الاعتبار في ذلك خلقه تعالى للماء في البحر على الصفة التي معها تجري السفن
وخلقه الرياح على هذا الوجه ولو لا ذلك لـما صح جريها بفعل العباد وفي ذلك آيات الله تعالى ونعمه لأنه لو لا ذلك لـما صحّ التوصل إلى قطع البلاد وجلب النعم وقوله تعالى( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ) يدل على أن الجحد لا يكون من خلق الله تعالى إذ لو كان من خلقه لـما صح أن يذمه هذا الذم العظيم وقوله تعالى من بعد( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ) أي عقاب ربكم بالتحرز من المعاصي وقوله تعالى( وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) من أقوى دلالة ما يدل على أن وعده ووعيده لا يجوز أن يقع فيهما خلف ومن أقوى ما زجر الله به عباده عن المعاصي فإذا تدبر المرء عند قراءته ما ذكرنا عظم انتفاعه بذلك ؛ ولذلك قال بعده( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) يعني بذلك متاعها( وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) زجر بذلك عن قبول كل قول يغر المرء ويصرفه عن التمسك بطاعة الله ثمّ بين تعالى ما يختص به عز وجل من العلم ولم يطلع العباد عليه بالادلة وان جاز أن يطلع أنبيائه على بعضه ليكون معزا لهم فقال جل من قائل( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) وفي ذلك دلالة على بطلان قول من يحكم أن أحكام المنجمين صحيحة فيما جرى هذا المجرى.
سورة السجدة
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) أليس ذلك صريحا في أنه تعالى في السماء؟ وجوابنا أنّه جعل جل وعز السماء مكانا للملائكة وللأرزاق التي بها يحيي الناس ولذلك قال تعالى( وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ) فلاجل ذلك قال( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الْأَرْضِ ) ومعنى قوله( ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) أي إلى المكان الذي لا حكم فيه الا حكمه لانّ الملائكة طوع الله ولا يفعلون إلا بأمره.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) . وجوابنا أنّ المراد بهذه الآية نزول الملائكة بالوحي وغيره من السماء إلى الارض ورجوعها إلى مكانها فلا يكون ألف سنة بل بين السماء والارض مسير خمسمائة عام وأما الآية الثانية فالمراد بها يوم القيامة ويدل عليه قوله تعالى( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً ) فبين أنه يطول ذلك الزمن على الكفار لشدته فيساوي لاجل تلك الشدائد خمسين ألف سنة وقوله من بعد( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) يبين أنه لا قبيح في قوله ولا أسمائه فان قيل ففي جملة ما خلق ما يقبح في الصورة. فجوابنا أنّ المراد نفي ما يقبح في العقل من فعله لا ما يستقبح في الصورة بين ذلك ان هيئة الانسان في صلاته وقضاء حاجته والنهي عن المنكر قد يستقبح في المنظر وتوصف مع ذلك بأنها حسنة وحكمة وقوله تعالى( أَإِذا ضَلَلْنا فِي
الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) يدل على بطلان تعلقهم في باب الرؤية بذكر اللقاء لانّ الله عز وجل بين أنهم كافرون بلقاء ربهم وأراد كفرهم بالاعادة وبالثواب والعقاب وقوله عز وجل من بعد( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) المراد به يقولون ربنا وحذف مثل ذلك يحسن في الكلام إذا كان فيه ما يدل عليه ولا يجوز أن يتمنوا ذلك ويسألوه الا والعقاب من جهتهم يقع وباختيارهم يكون وقوله تعالى( وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ) فالمراد به على وجه الالجاء الذي وقع لم ينتفعوا به لانهم انما ينتفعون بما يفعلونه طوعا ليستحقوا به الثواب ولذلك قال تعالى( وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وقوله( فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) يدل على أن اللقاء ليس بمعنى الرؤية وأراد تركتم النظر والعلم بالاعادة وقوله تعالى( إِنَّا نَسِيناكُمْ ) والنسيان على الله تعالى لا يجوز والمراد به عاقبناكم على ترككم على مثال قوله تعالى( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) وقوله تعالى( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) يدل على أن الفاسق ليس بمؤمن لانه تعالى ميز بينهما فجعل للمؤمنين جنات المأوى وللفاسقين النار.
[ مسألة ] ومتى قيل ما معنى قوله تعالى( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) . وجوابنا أنّ المراد ما عجله من الآلام لكي يصلحوا فسماه عذابا مجازا ويجوز أن يريد بذلك عذاب القبر أو الحدود التي تقام على بعضهم فمن يعلم ذلك يكون أقرب إلى أن يرجع عن معاصيه وقوله تعالى( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها ) أحد ما يدل على أن العبد مختار لفعله والا فالاعراض ممن لا يقدر على الشيء وتركه محال لأنه لا يقال في أحدنا أنه أعرض عما يعجز عنه
وقوله تعالى من بعد( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ) والمراد به العقاب يدل على أن كل مجرم وان كان من أهل الصلاة فالله تعالى ينتقم منه إلاّ أن يكون تائبا أو جرمه صغيرا وقوله تعالى من بعد( وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا ) المراد به جعلناهم أنبياء وعلماء يقتدى بهم لأجل صبرهم فدل بذلك على أن الانبياء لو لا صبرهم عن معاصي الله لـما جعلوا أنبياء فيبطل بذلك قول من يجوز عليهم الكفر والكبائر قبل البعثة وقوله تعالى من بعد( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يحمل على أنه تعالى يفصل بينهم بالعلم فينقاد المبطل ويعرف المحق حاله في ذلك فان كان الفصل يقتضي نقل الاعراض فسيفعله تعالى.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ) وكيف يصح والقوم يكذبون بذلك كما قال تعالى بعده( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ومن لا يؤمن بيوم القيامة كيف ينتظر ذلك؟ وجوابنا أنّ موتهم لـما كان مقدمة الاعادة جاز أن يقول ذلك ويحتمل أنهم على غير يقين مما قالوا فهم على شك وتجويز فحكمهم حكم المنتظر.
سورة الاحزاب
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) ما معنى ذلك فان كان تعريفا لنا فهو معلوم؟ وجوابنا ما جعل لأحد ما يتسع به في النظر في الامور وفي الامور وفي الاجتهاد وفي الرأي حتّى لا يشغله بعض ذلك عن بعض بين ذلك ان المراد مقصور على ما جرت به العادة على النظر في الدين والدنيا وقد قيل انه كان في الصحابة من يلقب بذلك ويعتقد فيه الاتساع في الرأي والمعرفة فانزل الله تعالى ذلك لان المنافقين زعموا أنه له قلبين.
[ مسألة ] ومتى قيل ما المراد بقوله( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ) كيف يصح أن يكون أولى بهم من أنفسهم وكيف يصح في أزواجه أن يكنّ أمهاتهم؟ وجوابنا أنّه أولى بهم فيما يقتضي الانقياد في الشرع وأولى بهم فيما يتصل بالاشقاق أو المراد أنه أولى بهم من بعضهم لبعض كقوله تعالى فسلموا على أنفسكم واما أن أزواجه صلّى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فالمراد تأكيد تحريمهن على المؤمنين وتبرئة رسول الله عن ان يخلفه في أزواجه غيره ولذلك روي عن عائشة في امرأة قالت انك أمي انها أنكرت ذلك وقالت انما أنا أم رجالكم لأن التزويج في الرجال يصح فأكد ذلك بأن شبههن بالامهات وربما حذف في التشبيه اللفظ ليكون على وجه التحقيق كما يقال للرجل
البليد هو حمار ولمن لا يصغي ولا يفهم انه ميت قال تعالى( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) .
[ مسألة ] ومتى قيل ما معنى قوله( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ) وقوله( وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) ما هذا الميثاق المأخوذ من أمم الانبياء؟ وجوابنا أنّه تعالى لـما أعلمهم بوجوب طاعته وطاعة الرسول ودلهم على ذلك ببعثة الرسل وغيرهم وألزمهم القيام بذلك كان ذلك أوكد من المواثيق بالايمان المغلظة وأعظم في وجوب الحجة عليهم في الآخرة ولذلك قال تعالى بعده( لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً ) .
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ) كيف يجوز أن يزيد في عقابهن وذلك ظلم يتعالى الله عنه؟ وجوابنا أنّ مكان اتصالهن برسول الله صلّى الله عليه وسلم وعظم نعمة الله عليهن بذلك وبغيره يوجب ان ما يقع منهن من المعصية يكون أعظم عقابا لان المعصية تعظم بعظم نعمة المعصي كما ان معصية الولد لوالده وله عليه الحقوق العظيمة أعظم فبيّن الله تعالى ان عقاب معصيتهن لو وقعت منهن يكون أعظم لان ذلك عين المستحق فان قيل فقد قال تعالى( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ ) فانه كان عظم المعصية لعظم النعمة فيجب في الطاعة ان يكون موقعها منهن أخف لان عظم النعمة كما يعظم المعصية يخفف أمر الطاعة. وجوابنا عن ذلك ان الطاعة لله تعالى تعظم لوجه آخر وهو ان الناس يقتدون بهن لعظم منزلتهن في القلوب كما قال صلّى الله عليه وسلم مثل ذلك في من سن سنة حسنة.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ ) أليس ذلك يدل على انه تعالى يفعل فيهم الصرف عن المعاصي؟ وجوابنا أنّ المراد بهذا انه تعالى يلطف لهم زيادات الالطاف فلا يختارون الا الطاعة فهذا معنى الاذهاب بالرجس ولذلك قال بعده( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .
[ مسألة ] وربما قيل ما معنى قوله في قصة زيد( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) . وجوابنا أنّه تعالى أحب فيما أراده من تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم بامرأة زيد ان يكون مظهرا لذلك لانه من باب ما قد أحله الله تعالى له وأن لا يكون في قلبه من الناس ما يتكلف لاجله ابطان ذلك ولذلك قال( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ) وقوله تعالى( إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ) مع انه مقدم في الانزال على قوله تعالى( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ) وهي التاسعة لان المعتبر في الناسخ أن يكون متأخرا في التعريف والانزال لا في التلاوة وقوله تعالى( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ) فيها اختلاف فبعض المفسرين يزعم أن ذلك مقدار ثابت بيّن به تعالى أنه يحل له التزوج فلا يدل على أنه صلّى الله عليه وسلم مخصوص بذلك كما خص باباحة الزيادة على أربع ومنهم من يثبت الموهبة ولذلك قال تعالى( خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) .
[ مسألة ] ومتى قيل في قوله تعالى( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ) بعبارة واحدة ذلك عندكم ممنوع منه وكيف يصح الصلاة من الله تعالى ومن الملائكة على الرسول؟ فجوابنا أنّ قوله تعالى( يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ) يرجع إلى الملائكة فقط لانه تعالى يعظم أن يذكر مع غيره ولكنه يعقل بذلك أنه جل وعز أيضا يصلي على الرسول وصلاته جل وعز معناها الرحمة العظيمة والانعام الجسم وصلاة الملائكة الدعاء وقد قال تعالى قبل ذلك( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) وذكر ذلك في عباده والمراد أنه يرحمكم بالهداية لتصلوا إلى الثواب وقوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا
عَلَيْهِ ) المراد الدعاء له بالمغفرة والرحمة العظيمة وفي الفقهاء من استدل بذلك على وجوب الصلاة عليه وعلى وجوبها في التشهد ومن حيث قال( وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) فقال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد عرفنا معنى السلام عليك فكيف الصلاة عليك فعلمهم كيف يصلون عليه فيوردون ذلك في الصلاة كما علمهم التشهد من قبل.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ ) كيف يصح ذلك؟ وجوابنا أنّه تعالى يفعل ذلك في الحقيقة لانه قادر على ذلك فيكون أزيد في غمهم وقوله تعالى من بعد( رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ) في السادة الذين اتبعوهم صحيح لان من سن سنة سيئة يزاد في عقابه فأما قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا ) ففي المفسرين من قال دخل ليغتسل فلما خرج وثيابه على حجر عدا الحجر حتّى رؤي مكشوفا فبرّأه الله مما كانوا يضيفونه إليه من أنه7 آدر وهذا مما أنكره مشايخنا وقالوا إن ذلك لا يجوز على الانبياء وأن المراد بالآية أنهم اتهموه بأنه قتل هارون أخاه لانه مات قبله وكان في هارون ضرب من اللين وفي موسى صلّى الله عليه وسلم خشونة فلميلهم إليه قالوا هذا القول فبرّأه الله اعاده حتّى برئ موسى من هذه التهمة.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ ) كيف يصح ذلك فيها وهي من جملة الجمادات التي لا يصح أن تعرف وتعلم؟ وجوابنا أنّ المراد عرضنا الامانة أي تضييع الامانة وخيانتها على أهل السموات والأرض وهم الملائكة( فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها ) والاشفاق لا يصح إلا في الحي الذي يعرف العواقب ثمّ قال تعالى( وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) ولو حمل نفس الامانة لم يصح ذلك فيه.
سورة سبأ
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) كيف يصح ذلك وقد زال التكليف؟
وجوابنا انه وان زال فالشكر والحمد لله في الآخرة يكثر لانهم يسرون بذلك فيشكرون نعم الوقت حالا بعد حال ويشكرون النعم المتقدمة وما يفعله المرء لربه لا يكون داخلا في التكليف.
[ مسألة ] ومتى قيل كيف يصح في قوله تعالى( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) وما تعلق به قوله تعالى( عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ) مما تقدم وجوابنا أنّ من اقيمت له الدلالة على بطلان ما هو عليه مجوز إذا ذكر مذهبه أن يكون هذا جوابه لينبه على تقصيره فبيّن الله تعالى بأنه عالم الغيب وأنه يجازي كل أحد يوم القيامة بما استحقه على ما ذكره من بعد.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) كيف يصح أن يأمر الله تعالى الجبال والطير وكيف يلين الحديد وفي تليينه إبطال كونه حديدا؟ وجوابنا أنّ ذلك بمنزلة قوله تعالى( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) وليس ذلك بأمر فالمراد بيان أن الجبال والطيور لا تمتنع عليه فيما يريده فأما تليين الحديد فمعلوم أنه يلين بالنار ولا يخرج من ان يكون حديدا فجعله الله
تنزيه القرآن (٢٢)
عز وجل لداود صلّى الله عليه وسلم بهذه الصفة أو جعله من حيث القوة بحيث يتصرف فيه كتصرف أحدنا في الطين وكل ذلك صحيح ولما بيّن عظم نعمه على داود وسليمان بالامور التي سخرها لهما قال تعالى من بعد( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) بالامور التي سخرها لهما قال تعالى من بعد( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) وذلك يدل على ان النعم توجب مزيد الشكر والقيام بالطاعة على وجه الشكر وبيّن تعالى بقوله( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) ان التكليف وان عم الكثير فقليل منهم يقوم بحق شكره وذكر تعالى ذلك ليجتهد كل أحد أن يكون من جملة هذا القليل فيفوز بالثواب فاما قوله تعالى من بعد( وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ) فلا يصح للخوارج الذين يقولون ان كل ذنب كفر ان يتعلقوا به لان المراد وهل نجازي بما تقدم ذكره إلا الكفور وقد أجرى الله تعالى العادة بانه لا يعذب بعذاب الاستئصال في الدنيا إلا من كفر وقوله تعالى( وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ) ربما يتعلق به المجبرة انه تعالى يفعل السير وذلك بعيد لان المقدر للشيء لا يجب أن يكون فاعلا له لان من بين الشيء كيف يفعل يوصف بانه قدره وان كان الفعل من غيره ولذلك قال بعده على وجه الامر( سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) .
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) كيف يصح من العقلاء أن يسألوا ربهم أن يباعد بين أسفارهم وهي قريبة؟ وجوابنا أنّ ذلك منهم جاء على وجه الجهل كقوله تعالى( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) هذا إذا قرئ على هذا الوجه وقد قرئ ربنا باعد بين أسفارنا وذلك على وجه الجبر لانه غير أحوالهم فنالهم من المشاق في أسفارهم خلاف ما كانوا عليه وقد يقول الضعيف بعد عليّ الطريق لمزية مشقته وان كان حال الطريق لم يتغير.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ ) كيف يصح أن يصف نفسه بانه يعلم بانه لم يكن له عليهم سلطان وهو عالم بنفسه؟ وجوابنا أنّه تعالى
يذكر العلم ويريد المعلوم كما ذكرنا من قبل فالمراد به أنه لا يقع من إبليس إلا الوسوسة والترغيب في المعاصي وعند ذلك يتميز من يؤمن ممن يشك ويجهل ولذلك قال بعده( وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) أي هو انه عالم بهذه الامور قبل أن تقع.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) من المراد بذلك وما معنى قوله لمن بعد( حَتَّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ) وما الفائدة في هذا الجواب؟ وجوابنا أنّ المراد بذلك الملائكة بيّن تعالى انهم لا يشفعون إلاّ بإذنه وأنهم بخلاف الشياطين فلا يقع منهم إلا ما هو طاعة لله تعالى وفي الخبر عن ابن مسعود أنه تعالى إذا أراد أن يكلم ملائكته بما لا يريد ظهوره لغيرهم يحدث في السماء صوتا عظيما يفزع منه سائر الملائكة فإذا انجلى يقولون للملائكة الذين كلمهم الله ما ذا قال ربكم فيجيبون بقولهم قالوا الحق أي قال ربنا الحق فيعلمون أن ذلك من الباب الذي يجب أن لا يظهر فهذا معناه وقد قيل ان الملائكة الذين ينزلون لكتب أعمال العباد إذا نزلوا فزع من هو دونهم من ذلك وتوهموا أن ذلك لقيام القيامة فيسألون ويجابون بما تقدم فأما قوله من بعد( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أو إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أو فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فالمراد بيان الحق وتمييزه من الضلال كما يقوله أحدنا لمن يستدعيه لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يعلم أنه على هدى وأن المشركين على ضلال وقوله تعالى من بعد( وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) دليل قوي على ان العبد هو القادر عليه لأنه تعالى لو كان هو الخالق فيهم الايمان لـما صح أن يقولوا لو لا انتم
لكنا مؤمنين بل الصحيح أن يقولوا لو لا خلق الله تعالى الكفر فينا لكنا مؤمنين فذلك يدل على قدرتهم على الايمان واعترافهم يوم القيامة بأن الذي صرفهم عن الايمان دعاء هؤلاء الرؤساء وانه لو لا دعاؤهم لكانوا يختارون الايمان وقوله تعالى من بعد( قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ) يدل أيضا على ما ذكرنا لأنهم بينوا أن الذي وقع منهم لم يكن صدّا لهم عن الهدى وقد ظهر لهم وتجلى أن ما وقع منهم إنما وقع باختيارهم ولو كان تعالى يخلق فيهم لكان أقوى حجة لهم أن يقولوا أنحن صددناكم بل الله خلق فيكم ذلك وقوله تعالى من بعد( وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) بيان من الله تعالى بان الاموال والاولاد لا تنفع في الآخرة وأن الذي ينفعهم إيمانهم وعملهم الصالح وبيّن من بعد بقوله تعالى( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) ما يقوى قلب المرء على الانفاق في طاعة الله فإن قيل فنحن نرى من ينفق ولا يخلف الله عليه شيئا. وجوابنا أنّ المراد فهو يخلفه متى كان صلاحا ولم يكن فسادا ولم يوقت ذلك بوقت وذلك يبطل السؤال.
[ مسألة ] وربما قيل في قوله تعالى( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ) كيف يصح ذلك وفيهم من لم يكن يعبد الملائكة بل أكثرهم ليس بهذه الصفة؟ وجوابنا أنّ الغرض إبطال عبادة الله دون بيان لمن كانوا يعبدون من ملك أو جنّ أو صنم ولذلك قال تعالى بعده( فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ) فاذا أقبل على الملائكة جلّ وعزّ ونبّه على أن من عبدهم فقد عبد من لا يملك له ضرّا ولا نفعا فقد نبّه بذلك على ان عبادة الجن والصنم بهذا التوبيخ