آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير

آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير15%

آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 373

آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير
  • البداية
  • السابق
  • 373 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96758 / تحميل: 6634
الحجم الحجم الحجم
آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير

آيات الغدير بحث في خطب حجة الوداع وتفسير آيات الغدير

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وبالجملة : لكون عمدة نفيهم متوجّهة إلى ذلك ؛ خصّصنا بعض أدلّتها بالذِّكر ، والباقي محول إلى ما سيجيء إن شاء الله .

قال تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١) .

وقال :( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (٢) .

وقال :( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) (٣) .

وقال :( وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ) (٤) .

وقال :( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (٥) .

وقال :( أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة القيامة : الآيتان ٢٢ و ٢٣ .

(٢) سورة النجم : الآية ٤٢ .

(٣) سورة العنكبوت : الآية ٢١ .

(٤) سورة الخرف : الآية ١٤ .

(٥) سورة المائدة : الآية ١٨ .

(٦) سورة الشورى : الآية ٥٣ .

٢٠١

وقال :( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (١) .

وقال :( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ) (٢) .

وقال :( مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) (٣) .

أقول : وهذان اللفظان ، أعني (اللقاء) و(الرجوع) كثير الدور في الكتاب والسُّنّة .

وقال سبحانه :( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) (٤) .

وسياق الآية الأُولى ، وهو قوله :( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ ) إلى :(حَتَّى يَتَبَيَّنَ ) ، يعطي أنّ المراد بالشهيد هو المشهود دون الشاهد .

وكذلك قوله :( أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ ) ، وهذا كالاعتراض ، وجوابه قوله سبحانه :( أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) .

وسياق هذه الآية الأخيرة ، وهو قوله : (أَلَا إِنَّهُ) ينافي ما يقولون : إنّ معنى اللقاء هو الموت ، أو القيامة مجازاً ؛ لبروز آياته وظهور حقّيّته سبحانه يومئذٍ ، فكأنّه تعالى مرئي مشاهد لا يراب فيه ؛ وذلك لأنّه سبحانه ردّ عليهم ريبهم في لقائه بإحاطته بكلِّ شيء ، وإحاطته في الدنيا ويوم الموت ويوم القيامة سواء ، فلا وجه لتعبيره عن الموت أو عن القيامة من جهة إحاطته باللقاء .

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ٢٤٥ .

(٢) سورة السجدة : الآية ٢٣ .

(٣) سورة العنكبوت : الآية ٥ .

(٤) سورة فصّلت : الآيتان ٥٣ و ٥٤ .

٢٠٢

على أنّ الآية حينئذٍ لا ترتبط بالآية السابقة ، بل معنى الآية ـ والله العالم ـ كفى في حقّيّته وثبوته سبحانه أنّه مشهود على كلّ شيء ، لكن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم لارتيابهم في شهوده ولقائه ، ولا يجوز لهم وكيف يجوز لهم الارتياب والامتراء وهو بكلّ شيء محيط ، فهو الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن عند كلّ شيء ،( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (١) ،( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ ) (٢) ،( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (٣) .

والذي هذا شأنه ، لا يتأنّى الامتراء في شهوده ولقائه ، لكن يجوز الشكّ في أنّ آياته ستظهر ظهوراً لا ارتياب فيه من هذه الجهة ، فافهم .

وهذا الذي ذكرناه لا ينافي ما رواه في (التوحيد) عن عليّعليه‌السلام ، أنّ ما ورد في القرآن من كلمة اللقاء فُهم منه البعث ، الحديث [ توحيد الصدوق / ص ٢٦٧ ] فإنّ كلامنا في المفهوم المستعمل فيه ، كما هو ظاهر ، دون المصداق فمن المعلوم أنّ البعث من مصاديق اللقاء كما سيأتي جملة من الآيات والروايات في ذلك ، وكما هو ظاهر قوله سبحانه : ( وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا ) (٤) ، وقوله سبحانه :( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) (٥) .

ومن الروايات ما في (المحاسن) ، مسنداً عن زُرارة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قول الله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) (٦) ، قال :(كان ذلك معاينة الله ، فأنساهم المعاينة ، وأثبت الإقرار في صدورهم ولولا

ـــــــــــــ

(١) سورة البقرة : الآية ١١٥ .

(٢) سورة المجادلة : الآية ٧ .

(٣) سورة الحديد : الآية ٤ .

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٣٠ .

(٥) سورة السجدة : الآية ١٠ .

(٦) سورة الأعراف : الآية ١٧٢ .

٢٠٣

ذلك ، ما عرف أحد خالقَه ولا رازقَه ، وهو قول الله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (١) ) (٢) .

ومنها : ما في (تفسير القمّي) مسنداً عن ابن مُسْكان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، في قوله تعالى :( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ) (٣) إ لى قوله : (بَلَى) ، قلت : معانية كان هذا ؟ قال :(نعم ، فثبتت المعرفة ، ونسوا الموقف ، وسيذكرونه ولولا ذلك ، لم يدرِ أحد مَن خالقُه ورازقه ، فمنهم مَن أقرَّ بلسانه في الذرّ ولم يؤمن بقلبه فقال : ( فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ) (٤) ) (٥) .

ومنها : ما في (تفسير العياشي) عن زرارة ، قال : سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله :( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) إلى : (أَنفُسِهِمْ) ، قال :(أخرج الله من ظهر آدم ذرّيته إلى يوم القيامة ، فخرجوا كالذرّ ، فعرّفهم نفسه ، واراهم نفسه ، ولولا ذلك ما عرف أحد ربّه ، وذلك قوله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) (٦) ) (٧) .

ومنها : ما في (التوحيد) مسنداً عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال : قلت له : أخبرني عن الله عزّ وجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال :(نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة) ، فقلت : متى؟ قال :(حين قال لهم : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ) (٨) ) ، ثمّ سكت ساعة ، ثمّ قال :(وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم

ـــــــــــــ

(١) سورة الزخرف : الآية ٨٧ .

(٢) المحاسن : ١ / ٤٣٨ ، كتاب مصابيح الظلم ، ٤٣ ـ باب بدء الخلق ، الحديث ١٠١٥ / ٤١٧ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ١٧٢ .

(٤) سورة الأعراف : الآية ١٠١ .

(٥) تفسير القمّي : ١ / ٢٤٨ ، تفسير سورة الأعراف : الآية ٢٤٨ .

(٦) سورة لقمان : الآية ٢٥ .

(٧) تفسير العيّاشي : ٢ / ١٧٣ ، تفسير سورة الأعراف : الآية ١٠١ ، ت ١٦٥٤ / ١١٢ .

(٨) سورة الأعراف : الآية ١٧٢ .

٢٠٤

القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا ؟ ) ، قال أبو بصير : فقلت له : جعلت فداك ، فأُحدِّث بهذا عنك ؟ فقال :(لا ، فإنّك إذا حدَّثت به فأنكره منكر ، جاهل بمعنى ما تقوله ، ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه كَفَر (١) وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون) (٢) .

ومنها : ما في (التوحيد) عن هشام ـ في حديث الزنديق ـ حين سأل الصادقعليه‌السلام عن حديث نزوله إلى سماء الدنيا ، فأجاب :(بأنّه ليس كنزول جسم عن جسم إلى جسم) ، إلى أن قال :(ولكنّه ينزل إلى سماء الدنيا بغير معاناة ولا حركة ، فيكون هو كما في السماء السابعة على العرش ، كذلك في سماء الدنيا ، إنّما يكشف عن عظمته ، ويُري أولياءه نفسه حيث شاء ، ويكشف ما شاء من قدرته ، ومنظره بالقرب والبعد سواء) (٣) .

ومنها : ما في (التوحيد) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، في حديث :(وسأل موسى وجرى على لسانه من حمد الله عزّ وجلّ : ربِّ أرني أنظُرْ إليك فكانت مسألته تلك أمراً عظيماً ، وسأل أمراً جسيماً ، فعوقب ، فقال الله تبارك وتعالى : لن تراني في الدنيا حتّى تموت ، فتراني في الآخرة) (٤) ـ الحديث .

ومنها : ما في عدّة من أخبار الجنّة: (أنّ الله سبحانه يتجلّى فيها لوليّه ، ثمّ يقول له : ولك في كلّ جمعة زورة) (٥) .

ـــــــــــــ

(١) كَفَرَ : فعل ماض جواب إذا .

(٢) التوحيد : ١١٣ ، باب ما جاء في الرؤية ، الحديث ٢٠ .

(٣) انظر هامش التوحيد : ٢٤٢ ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، الحديث ١ ، طبع ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي / جامعة المدرّسين بحار الأنوار : ٣ / ٣٣٠ ، كتاب التوحيد ، باب ١٤ ـ نفي الزمان والحركة والانتقال عنه تعالى ، الحديث ٣٥ .

(٤) التوحيد : ٢٥٦ ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، الحديث ٥ .

(٥) بحار الأنوار : ٨ / ٢١٥ ، باب ٢٣ ـ الجنّة ونعيمها ، الحديث ٢٠٥ .

٢٠٥

وفي (جوامع الجامع) ، الحديث :(سَتَرَون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر) (١) .

ومن الروايات ما ورد في خصوص رسول الله والأئمّةعليهم‌السلام ، ففي (التوحيد) مسنداً عن محمّد بن الفضيل ، قال : سألت أبا الحسنعليه‌السلام : هل رأى رسول الله ربّه عزّ وجلّ ؟ فقال :(نعم ، بقلبه رآه ، أمَا سمعت الله عزّ وجلّ يقول : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) (٢) ، أي لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد) (٣) .

ومنها : ما في (التوحيد) عن الرضاعليه‌السلام في حديث :(كان ( يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )إذا نظر إلى ربّه بقلبه ، جعله في نور مثل نور الحجب ، حتّى يستبين له ما في الحجب) (٤) .

ومنها : ما في (كامل الزيارة) لابن قولويه ، مسنداً عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال :(بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منزل فاطمة عليها‌السلام والحسين في حجره ؛ إذ بكى وخرّ ساجداً ، ثمّ قال : يا فاطمة ، يا بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ العليَّ الأعلى تراءى لي في بيتك هذان في ساعتي هذه ، في أحسن صورة وأهيَأ هيئة ، وقال لي : يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أتحبُّ الحسين عليه‌السلام ؟ فقلت : نعم ، قرّة عيني ، وريحانتي ، وثمرة فؤادي ، وجلدة ما بين عينيّ ، فقال لي : يا محمّد ، ووضع يده على رأس الحسين بورك من مولود عليه بركاتي وصلواتي ورحمتي ورضواني) (٥) ـ الحديث .

ومنها : قول أمير المؤمنينعليه‌السلام مستفيضاً :(لم أعبد ربّاً لم أره) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) تفسير جوامع الجوامع / الطبرسي : ١ / ٧٠٠ ، تفسير سورة الأعراف : ١٤٣ ـ ١٤٥ بحار الأنوار : ٩١ / ٢٥١ ، باب ٤٠ ـ أحراز مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الحديث ١١ .

(٢) سورة النجم : الآية ١١ .

(٣) التوحيد : ١١٢ ، باب ما جاء في الرؤية ، الحديث ١٧ .

(٤) المصدر المتقدّم : ١١٠ ، الحديث ١٣ .

(٥) كامل الزيارات : ١٤١ ، باب لعنُ الله تبارك وتعالى ولعن الأنبياء قاتلَ الحسين بن عليّعليه‌السلام ، الحديث ١٦٦ / ١ .

(٦) الكافي : ١ / ١١٩ ، باب في إبطال الرؤية ، الحديث ٢٦٠ / ٦ .

٢٠٦

ومنها : قولهعليه‌السلام :(ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله) (١) .

وبالجملة ، فالأخبار في هذا المعنى كثيرة جدّاً ، مستفيضة أو متواترة .

وليس المراد من الرؤية فيها هو قوّة العلم الحاصل بالدليل ؛ فإنّه علم فكري ، والأخبار الكثيرة الأُخرى تنفي كونه معرفة بالحقيقة ، فضلاً عن كونه رؤية وشهوداً ، فإذن المطلوب ثابت ، والحمد لله .

الفصل الرابع : في أنّ الطريق إلى هذا الكمال ـ بعد إمكانه ـ ما هو؟

نقول : حيث إنّ نسبة الحقائق إلى ما في هذه النشأة المادية والنفس البدنيّة نسبة الباطن إلى الظاهر ، وكلّ خصوصيّة وجوديّة متعلّقة بالظاهر ، متعلّقةٌ بباطنه بالحقيقة ، وبنفس الظاهر بعَرضه وتبعه ، فالإدراك الضروري الذي للنفس إلى نفسها متعلّقة بباطنها أوّلاً وبالحقيقة ، وبنفسها بعرضه وتبعه .

فالحقيقة التي في باطن النفس أقدم إدراكاً عند النفس من نفسها وأبده ، وما هي في باطن باطنها أقدم منها وأبده البديهيّات .

وحيث إنّ الوجود صرف عندها ، لا يتصوّر له ثانٍ ولا غير ، فلا يتصوّر بالنسبة إلى إدراكها دفع دافع ، ولا منع مانع ، وهذا برهان تامّ غير مدفوع البتّة .

ثمّ نقول : إنّ كلّ حقيقة موجودة ، فهي مقتضية لتمام نفسها في ذاتها وعوارضها وهذه مقدّمة ضروريّة في نفسها ، غير أنّها محتاجة إلى تصوّر تامّ : فإذا فرضنا حقيقة مثل (أ) مثلاً ، ذات عوارض مثل : (ب) (ج) (د) , فهذه الحقيقة في ذاتها تقتضي أن تكون (أ) , لا ناقصاً من (أ) والناقص من (أ) ليس هو (أ) , وقد فرضناها (أ) .

وأيضاً هي تقتضي عوارض مثل : (ب) (ج) (د) , وهي هي والناقص من (ب) (ج) (د) , ليس هو (ب) , ليس هو (ب) (ج) (د) , وقد فرضناها (ب) (ج) (د) لا غير ، وهو ظاهر .

وهذا الذي تقتضيه كلّ حقيقة في ذاتها وعوارضها ، هو الذي نسمّيه بالكمال والسعادة .

ـــــــــــــ

(١) شرح الأسماء الحسنى / الملاّ هادي السبزواري : ١ / ٤ نظرات في التصوّف والكرامات / محمّد جواد مغنية : ٧١ ، صدر المتألّهين ، ولكن ورد فيها : (ما رأيت شيئاً إلاّ رأيت الله معه) .

٢٠٧

ثمّ ِإنّ حقيقة كلّ كمال هي التي تتقيّد في ذاتها بقيد عدمي ، وهو النقص ، فإنّ كلّ كمال فهو في ذاته واجد لذاته ، فلا يفقد من ذاته شيئاً إلاّ من جهة قيد عدمي معه بالضرورة فحقيقة (أ) مثلاً واجدة لما فرض أنّه (أ) فانفصال وجود هذا الشخص من (أ) من ذلك الشخص من (أ) ، ليس إلاّ لوجود قيد عدمي عند كلّ واحد من الشخصين ؛ يوجب فقد حقيقة (أ) في كلّ منهما شيئاً من ذاتها لا من عوارضها ، وهو محال بالانقلاب أو الخلف ، بالنظر إلى ذات (أ) المفروض في ذاته ، بل الفاقد لخصوصيّة هذا الشخص هو ذلك الشخص من (أ) .

فلحقيقة (أ) مرتبتان : مرتبةٌ في ذاتها لا تفقد فيها شيئاً من ذاتها ، ومرتبةٌ عند هذا الشخص وعند ذلك الشخص ، فيها يصير شيء من كمالها مفقوداً .

وليس ذلك من التشكيك في شيء ؛ فإنّا إذا فرضنا هذا الشخص مرتبة منها ، فهو أيضاً (أ) وعاد المحال ، بل الشخص بحيث إذا فرض معه الحقيقة كان هذا الشخص ، وإذا قطع عنها النظر لم يكن شيئاً ؛ إذ لا يبقى معه إلاّ قيد عدمي ، فهو هو معها وليس هو دونها ، فليس في مورد الشخص إلاّ الحقيقة ، والشخص أمر عدمي وهمي اعتباري وهذا المعنى هو الذي نصطلح عليه بالظهور ، فافهم.

ويظهر من هنا أنّ حقيقة كلّ كمال هو المطلق المرسل الدائم منه ، وأنّ قرب كلّ كمال من حقيقته بمقدار ظهور حقيقته فيه ، أي اقترانها بالقيود والحدود فكلّ ما ازدادت القيود قلّ الظهور ، وبالعكس .

ويظهر من هنا أنّ الحقّ سبحانه هو الحقيقة الأخيرة لكلّ كمال ، حيث إنّ له صِرف كلّ كمال وجمال ، وأنّ قرب كلّ موجود منه على قدر قيوده العدميّة وحدوده .

٢٠٨

ويظهر من ذلك أنّ وصول كلِّ موجود إلى كماله الحقيقي مستلزم لفنائه ، حيث إنّه مستلزم لفناء قيوده وحدوده في ذاته ، أو في عوارضه فقط ، وبالعكس ، فناءُ كلِّ موجود مستلزم لبقاء حقيقته في مورده فقط ، قال تعالى :( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) (١) .

فالكمال الحقيقي لكلّ موجودٍ ممكنٍ هو الذي يفنى عنده ، فالكمال الحقيقي للإنسان أيضاً هو الذي يصير عند كماله الإنساني مطلقاً مرسلاً ، ويفنى عنده الإنسان لا كمال له غير ذلك البتّة .

وقد مرّ في البرهان السابق أنّ شهود الإنسان لذاته الذي هو عين ذاته ، شهود منه لجميع حقائقه ولحقيقته الأخيرة ، وحيث أنّه فان ٍعند ذلك ؛ فالإنسان شاهد في عين فنائه .

وإن شئت قلت : إنّ حقيقته هي الشاهدة لنفسها ، والإنسان فانٍ .

هذا ، فالكمال الحقيقي للإنسان وصولُه إلى كماله الحقيقي ذاتاً وعوارض ؛ أي وصوله إلى كماله الأخير ذاتاً ووصفاً وفعلاً ، أي فنائه ذاتاً ووصفاً وفعلاً في الحقّ سبحانه ؛ وهو التوحيد الذاتي والاسمي والفعلي ، وهو تمكّنه من شهود أن لا ذات ولا وصف ولا فعل إلاّ لله سبحانه ، على الوجه اللائق بقُدس حضرته جلّت عظمته ، من غير حلول واتّحاد ـ تعالى عن ذلك .

وهذا البرهان من مواهب الله سبحانه المختصّة بهذه الرسالة والحمد لله .

ثمّ إنّ المتحصّل من البرهان المذكور في أوّل الفصل أنّ شهود هذه الحقائق ومعرفتها منطوية في شهود النفس ومعرفتها ، فأقرب طُرق الإنسان إليها طريق معرفة النفس وقد تحصّل أيضاً سابقاً أنّ ذلك بالإعراض عن غير الله ، والتوجّه إلى الله سبحانه .

ـــــــــــــ

(١) سورة الرحمن : الآيتان ٢٦ ـ ٢٧ .

٢٠٩

تتمّة :

إذا تتبّعنا الكتاب والسُّنّة ، وتأمّلنا فيها تأملاً وافياً ، وجدنا أنّ المدار في الثواب والعقاب ، هو الإطاعة والانقياد ، والتمرّد والعناد فمن المسلّم المحصّل منهما أنّ المعاصي ـ حتّى الكبائر الموبقة ـ لا توجب عقاباً إذا صدرت ممّن لا يشعر بها أو ممَّن يجري مجراه ، وأنّ الطاعات لا توجب ثواباً إذا صدرت من غير تقرّب وانقياد ، إلاّ إذا كانت ممّا الانقياد ملازم لذاته كبعض الأخلاق الفاضلة الشريفة .

وكذلك صدور المعصية ممّن لا يشعر بكونها معصية ، إذا قصد الإطاعة ، لا يخلو من حسن ، وصدور الطاعة بقصد العناد واللعب لا يخلو من قبح وكذلك مراتب الطاعة والعصية تختلف حسب اختلاف الانقياد والتمرّد اللذين تشتمل عليهما ؛ فقد ورد :(أفضل الأعمال أحمزها) (١) . وورد متواتراً في متفرّقات أبواب الطاعات والمعاصي اختلاف مراتبها فضلاً وخسّة ، وثواباً وعقاباً والعقل السليم ـ أيضاً ـ حاكم بذلك وأكثر الآيات القرآنيّة تحيل الناس إلى ما يحكم به العقل والميزان ـ بناءً على حكم العقل ـ هو الانقياد للحقّ والعناد لا غير ، وهذان أمران مختلفان بحسب المراتب بالضرورة .

وحيث إنّ السعادة والشقاوة تدوران مدارهما ، فلهما عرض عريض بحسب المراتب الموجودة من الانقياد والتمرّد .

ومن هنا يظهر أنّ المختصّ من السعادة بالمنتحل بدين الحقّ ، إنّما هو كمالها وأمّا مطلق السعادة ، فغير مختصّ بالمنتحل بدين الحقّ ، بل ربّما وجد في غير المنتحل أيضاً ، إذا وجد فيه شيء من الانقياد ، أو فقد شيء من العناد بحسب المرتبة .

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٧٩ / ٢٢٨ ، كتاب الصلاة ، باب ١ ـ فضل الصلاة وعقاب تاركها ، الحديث ٥٥ مفتاح الفلاح : ٤٥ ، الباب الأوّل : فيما يعمل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فصل ، وقد ورد : (أفضل العبادة أحمزها) ـ انظر شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٥٠ ، حِكم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الحكمة رقم ٢٤٦ .

٢١٠

وهذا هو الذي يحكم به العقل ويظهر من الشرع ، فإنّما الشرع يعيّن حدود ما حكم به العقل ، كما في الحديث المشهور عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :(إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق) (١) .

وذلك كما ورد في كسرى وحاتم أنّهما غير معذّبين لوجود صفتي العدل والجود فيهما .

وفي (الخصال) عن الصادق ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّعليهم‌السلام ، قال :

(إنّ للجنّة ثمانية أبواب :

باب يدخل منه النبيُّون والصدّيقون .

وباب يدخل منه الشهداء والصالحون .

وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا فلا أزال واقفاً على الصراط أدعو وأقول : ربّ سلِّم شيعتي ومُحبّيَّ وأنصاريَ ومَن تولاّني في دار الدنيا ، فإذا النداء من بُطنان العرش : قد أُجيبت دعوتك ، وشُفّعت في شيعتك ويشفع كلُّ رجل من شيعتي ومَن تولاّني ونصرني وحارب مَن حاربني ، بفعل أو قول ، في سبعن ألف من جيرانه وأقربائه .

وباب يدخل منه سائر المسلمين ، ممّن يشهد أن لا إله إلاّ الله ، ولم يكن في قلبه مثقال ذرّة من بغضنا أهل البيت) (٢) .

وفي (تفسير القمّي) مسنداً عن ضُريس الكناسي ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال : قلت له : جُعلت فداك ، ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ، ولا يعرفون ولايتكم ؟ فقال :

(أمّا هؤلاء ، فإنّهم في حُفرهم لا يخرجون منها فمَن كان له عمل صالح ، ولم يظهر منه عداوة ، فإنّه يُخدُّ له خدّاً إلى الجنّة التي خلقها الله بالمغرب ، فيدخل عليه الروحُ في حفرته إلى يوم القيامة ، حتّى يلقى الله ، فيحاسبه بحسناته وسيّئاته ، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار ، فهؤلاء المُرجَون لأمر الله) .

ـــــــــــــ

(١) مستدرك الوسائل : ١١ / ١٨٧ ، باب استحباب التخلّق بمكارم الأخلاق ، الحديث ١٢٧٠١ / ١ .

(٢) الخصال : ٢ / ٤٠٧ ، باب الثمانية ـ للجنّة ثمانية أبواب ، الحديث ٦ .

٢١١

قال :(وكذلك يفعل بالمستضعفين والبُلّه والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغوا الحُلم وأمّا النصّاب من أهل القبلة ، فإنّه يخدُّ لهم خدّاً إلى النار التي خلقها الله في المشرق ، فيدخل عليهم اللهب والشَّرَر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة ، ثمّ بعد ذلك مصيرهم إلى الجحيم) (١) .

وفي دعاء كميل المروي عن عليّعليه‌السلام :

(فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك ، وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النّار كلّها برداً وسلاماً ، وما كانت لأحد فيها مقرّاً ولا مقاماً ، لكنّك تقدَّست أسمائك ، أقسمت أن تملأها من الكافرين ، من الجنّة والنّاس أجمعين ، وأن تخلّد فيها المعاندين) (٢) ـ الدعاء .

وأكثر الآيات القرآنيّة إنّما توعد الذين قامت لهم البيّنة ، وتمّت عليهم الحجّة ، وتقيّد الكفر بالجحود والعناد ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) (٣) ، وقال تعالى : ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (٤) .

وبالجملة : فالميزان كلّ الميزان في السعادة والشقاوة ، والثواب والعقاب ،

ـــــــــــــ

(١) تفسير القمّي : ٢ / ٢٦٠ ، تفسير سورة غافر : الآية ٧٥ .

(٢) المصباح / الكفعمي : ٥٥٩ ، دعاء أمير المؤمنينعليه‌السلام في ليلة نصف من شعبان .

(٣) سورة المائدة : الآية ١٠ و ٨٦ .

(٤) سورة الأنفال : الآية ٤٢ .

٢١٢

هو سلامة القلب وصفاء النفس ، قال سبحانه :( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) ، وقال سبحانه :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) (٢) .

وجميع الملل الإلهية تروم في تربية الناس هذا المرام وهذا مسلّم من سلائقها وما تندب إليها ، وهو الذي يراه الحكماء المتألّهون من السابقين .

وأمّا شريعة الإسلام ، فأمرها في ذلك أوضح ، غير أنّها ـ كما مرّ في أوار الفصل الثاني ـ تدعو إلى كلّ سعادة ممكنة إلاّ أنّ معرفة الربّ من طريق النفس حيث كانت أقرب طريقاً ، وأتمّ نتيجة ، فإتيانها لها أقوى وآكد ؛ ولذلك ترى الكتاب والسُّنّة يقصدان هذا المقصد ، ويدعوان إلى هذا المدّعى بأيّ لسان أمكن :

قال سبحانه :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (٣) ، وهذه الآية كعكس النقيض ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المشهور بين الفريقين :(مَن عرف نفسه عَرف ربّه) (٤) ، أو : (فقد عرف ربّه) (٥) .

قال سبحانه :( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (٦) .

ـــــــــــــ

(١) سورة الشعراء : الآيتان ٨٨ و ٨٩ .

(٢) سورة الطارق : الآية ٩ .

(٣) سورة الحشر : الآيتان ١٨ و ١٩ .

(٤) غرر الحكم : ٢٣٢ ، معرفة النفس وعلائمه ، الحديث ٤٦٣٧ .

(٥) بحار الأنوار : ٢ / ٣٢ ، باب ٩ ـ استعمال العلم والإخلاص في طلبه ، الحديث ٢٢ .

(٦) سورة المائدة : الآية ١٠٥ .

٢١٣

وقد روى الآمدي في كتاب (الغرر والدرر) من كلمات عليّعليه‌السلام القصار ، ما يبلغ نيفاً وعشرين حديثاً في معرفة النفس(١) ، منها : أنّهعليه‌السلام قال :(الكيّس مَن عرف نفسه وأخلص أعماله) .

وقالعليه‌السلام :(المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين)

وقالعليه‌السلام :( العرَّاف مَن عرف نفسه فأعتقها ، ونزّهها عن كلّ ما يبعّدها ويوبقها) .

وقالعليه‌السلام :(أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه) .

وقالعليه‌السلام : (أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربّه) .

وقالعليه‌السلام :(أفضل العقل معرفة الإنسان [المرء]نفسه ، فمَن عرف نفسه عقل ، ومَن جهلها ضلّ) .

وقالعليه‌السلام :(عجبت لمَن ينشد ضالّته ، وقد أضلّ نفسه فلا يطلبها ؟! ) .

وقالعليه‌السلام :(عجبت لمَن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه ؟! ) .

وقالعليه‌السلام :(غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه) .

وقالعليه‌السلام :(كيف يعرف غيره مَن يجهل نفسه ؟! ) .

وقالعليه‌السلام :(كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه) .

وقالعليه‌السلام :(كفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه) .

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه تجرّد) .

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه جاهدها) .

وقالعليه‌السلام :(مَن جهل نفسه أهملها) .

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه عرف ربّه) .

ـــــــــــــ

(١) غرر الحكم : ٢٣٢ ، معرفة النفس وعلائمه ـ جهل النفس ، الحديث ٤٦٢٩ وما بعده .

٢١٤

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه جلّ أمره) .

وقالعليه‌السلام :(مَن جهل نفسه كان بغيره أجهل) .

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه كان لغيره أعرف) .

وقالعليه‌السلام :(مَن عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفة وعلم) .

وقالعليه‌السلام :(مَن لم يعرف نفسه بَعُد عن سبيل النجاة ، وخبط في الضلال والجهالات) .

وقالعليه‌السلام :(معرفة النفس أنفع المعارف) .

وقالعليه‌السلام :(نال الفوز الأكبر مَن ظفر بمعرفة النفس) .

وقالعليه‌السلام : (لا تجهل نفسك ، فإنّ الجاهل معرفة نفسه جاهل بكلّ شيء) .

أقول : وهذه الأحاديث تدفع ـ كما ترى ـ تفسير مَن يُفسّر من العلماء (رحمه الله) قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(مَن عرف نفسه فقد عرف ربّه) (١) ـ الحديث ، بأنّ المراد : استحالة معرفة النفس لتعلُّيقها بمعرفة الربّ ، وهو مستحيل ويدفعه الروايات السابقة ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه) (٢) ـ الحديث النبوي .

مع أنّ معرفته سبحانه لو كانت مستحيلة ، فإنّما هي المعرفة الفكريّة من طريق الفكر ، لا من طريق الشهود ومع التسليم ، فإنّما المستحيل معرفته بمعنى الإحاطة التامّة .

وأمّا المعرفة بقدر الطاقة الإمكانيّة ، فغير مستحيلة .

هذا ، وبالجملة : فكون معرفة النفس أفضل الطرق وأقربها إلى الكمال ، ممّا لا ينبغي الريب فيه ، وإنّما الكلام في كيفيّة السير من هذا المسير .

ـــــــــــــ

(١) تقدّم ذكره في الصفحة ٢٣٧ ، الهامش رقم ٥ .

(٢) جامع الأخبار : ٤ ، الفصل الأوّل : في معرفة الله تعالى .

٢١٥

فقد زعم البعض أنّ كيفيّة السير من هذا الطريق غير مبيّنة شرعاً ، حتّى ذكر بعض المصنّفين أنّ هذا الطريق في الإسلام كطريق الرهبانيّة التي ابتدعتها النصارى من غير نزول حكم إلهي به ، فقبل الله سبحانه ذلك منهم ، فقال سبحانه : ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) الآية(١) .

قال : فكذلك طريق معرفة النفس غير واردة في الشريعة ، إلاّ أنها طريقة إلى الكمال مرضيّة ، انتهى ملخّصاً .

ومن هنا ربّما يوجب عند بعض أهل هذا الطريق ، وجوه من الرياضات ومسالك مخصوصة ، لا تكاد توجد ـ أو لا توجد ـ في مطاوي الكتاب والسُّنّة ، ولم يشاهَد في سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام .

وذلك كلّه بالبناء على ما مرّ ذكره ، وأنّ المراد هو العبور والوصول بأيّ نحو أمكن بعد حفظ الغاية وكذلك الطُّرق المأثور عن غير المسلمين من متألّهي الحكماء وأهل الرياضة ، كما هو ظاهر لمَن راجع كتبهم ، أو الطُّرق المأثورة عنهم .

لكنّ الحقّ الذي عليه أهل الحقّ ، وهو الظاهر من الكتاب والسُّنّة ، أنّ شريعة الإسلام لا تجوّز التوجّه إلى غير الله سبحانه للسالك إليه تعالى بوجه من الوجوه ، ولا الاعتصام بغيره سبحانه إلاّ بطريق أمرَ بلزومه وأخْذِه .

وإنّ شريعة الإسلام لم تهمل مثقال ذرّة من السعادة والشقاوة إلاّ بيّنتها ، ولا شيئاً من لوازم السير إلى الله سبحانه ، يسيراً أو خطيراً ، إلاّ أوضحتها ، فلكلّ نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، قال سبحانه : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٢) ،

ـــــــــــــ

(١) سورة الحديد : الآية ٢٧ .

(٢) سورة النحل : الآية ٨٩ .

٢١٦

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (١) ، وقال سبحانه :( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (٢) ، وقال سبحانه :( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣) إلى غير ذلك .

والأخبار في هذا المعنى من طريق أهل البيت مستفيضة ، بل متواترة .

وممّا يظهر أنّ حظّ كلّ امرئ من الكمال بمقدار متابعته للشرع ، وقد عرفت أنّ هذا الكمال أمر مشكّك ذو مراتب ونِعم ما قال بعض أهل الكمال : إنّ المَيل من متابعة الشرع إلى الرياضات الشاقّة ، فرار من الأشقّ إلى الأسهل ، فإنّ الشرع قتل مستمرّ للنفس ، دائمي ما دامت موجودة ، والرياضة الشاقّة قتل دفعي ، وهو أسهل إيثاراً .

وبالجملة : فالشرع لم يهمل بيان كيفيّة السير من طريق النفس .

بيان ذلك : أ نّ العبادة تتصّور على ثلاثة أقسام :

أحدها : العبادة طمعاً في الجنّة .

والثاني : العبادة خوفاً من النار .

والثالث : العبادة لوجه الله ، لا خوفاً ولا طمعاً .

وغير القسم الثالث ، حيث إنّ غايته الفوز بالراحة أو التخلّص من العذاب ، فغايته حصول مشتهى النفس فالتوجّه فيه إلى الله سبحانه إنّما هو لحصول مشتهى النفس ، ففيه جعل الحقّ سبحانه واسطة لحصول المشتهى .

والواسطة ، من حيث هي واسطة ، غير مقصودة إلاّ بالتبع والعَرض ، فهي بالحقيقة ليست إلاّ عبادة للشهوة .

ـــــــــــــ

(١) سورة الروم : الآية ٥٨ .

(٢) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

(٣) سورة الأحزاب : الآية ٢١ .

٢١٧

بقي القسم الثالث ، وهو العبادة بالحقيقة ، وقد وقع التعبير عنه مختلفاً ، ففي (الكافي) مسنداً عن هارون ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال :(إنّ العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً ، فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب ، فتلك عبادة الأُجراء وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّاً له ، فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة) (١) .

وفي (نهج البلاغة) :(أنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار ، وأنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وأنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار) (٢) .

وفي (العلل) ، و(المجالس) ، و(الخصال) : مسنداً عن يونس ، عن الصادق جعفر بن محمدعليه‌السلام : (أنّ النّاس يعبدون الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه : فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه ، فتلك عبادة الحرصاء ، وهو الطمع وآخرون يعبدونه خوفاً من النار ، فتلك عبادة العبيد ، وهي رهبة ولكنّي أعبده حبّاً له عزّ وجلّ ، فتلك عبادة الكرام ، وهو الأمن ؛ لقوله عزّ وجلّ : ( وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) (٣) ، ولقوله عزّ وجلّ : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (٤) . فمَن أحبّ الله عزّ وجلّ أحبّه اللهُ ، ومَن أحبّه الله كان من الآمنين وهذا مقام مكنون لا يمسُّه إلاّ المطهّرون) (٥) .

وعن (المناقب) :(كان ( يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )يبكي حتى يغشى عليه ، فقيل له :

ـــــــــــــ

(١) الكافي : ٢ / ١١١ ، باب العبادة ، الحدث ١٦٦٥ / ٥ .

(٢) نهج البلاغة : ٥١٠ ، حِكم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، الحكمة ٢٣٧ .

(٣) سورة النمل : الآية ٨٩ .

(٤) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

(٥) العلل : ١ / ١٢ ، باب علّة خلق الخَلق واختلاف أحوالهم ، الباب ٨ أمالي الصدوق ـ المجلس العاشر : ٩١ ، الحديث ٦٥ / ٥ الخصال : ١ / ١٨٨ ، باب الثلاثة ـ الناس يعبدون الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه ، الحديث ٢٥٩ ، ولكن ورد فيها : (فَرَقاً من النار) بدل (خوفاً من النار) .

٢١٨

أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟ فقال : أفلا أكون عبداً شكوراً ؟! ) (١) ـ الحديث .

أقول : والشكر والحبّ مرجعهما واحد ، فإن الشكر هو الثناء على الجميل من حيث هو جميل ، فتكون العبادة توجّهاً وتذلّلاً له سبحانه ؛ لأنّه جميل بالذات ، فهو سبحانه المقصود لنفسه لا لغيره ، كما قال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (٢) .

فغاية خلقهم ، أي وجودهم ، أي كمال وجودهم ، هو عبادته سبحانه ، أي التوجّه إليه وحده والتوجّه وسط غير مقصود بالذات ، فهو سبحانه غاية وجودهم ؛ ولذا فسّر العبادة هاهنا في الأخبار بالمعرفة .

وقال سبحانه : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) (٣) .

وقال سبحانه :( هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٤) .

وكذلك الحبّ انجذاب النفس إلى الجميل من حيث هو جميل ، وعنده سبحانه الجمال المطلق .

وقال سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ) (٥) .

وقال سبحانه :( وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ) (٦) ، وستأتي رواية الديلمي .

وفي دعاء كميل :(واجعل قلبي بحبّك متيّماً) .

وفي مناجاة عليعليه‌السلام :(إلهي أقمني في أهل ولايتك مقام [مَن]رجا الزيادة

ـــــــــــــ

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٤ / ١٦١ ، باب إمامة أبي محمّد علي بن الحسينعليه‌السلام / زهده .

(٢) سورة الذاريات : الآية ٥٦ .

(٣) سورة الإسراء : الآية ٢٣ .

(٤) سورة غافر : الآية ٦٥ .

(٥) سورة آل عمران : الآية ٣١ .

(٦) سورة البقرة : الآية ١٦٥ .

٢١٩

من محبّتك) (١) .

وحديث الحبّ كثير الدور في الأدعية .

وإن تعجب فعجب قول مَن يقول : إنّ المحبّة لا تتعلّق به سبحانه حقيقة ، وما ورد من ذلك من خلال الشريعة مجاز يراد به امتثال الأمر والانتهاء من النهي !! وهذا دفع للضرورة ، ومكابرة مع البداهة .

ولعمري كم من الفرق بين مَن يقول : إنّ المحبّة لا تتعلّق بالله سبحانه ، ومَن يقول : إنّ المحبّة لا تتعلّق إلاّ بالله سبحانه .

ولنرجع إلى ما كنّا فيه ، ونقول : حيث إنّ العبادة ، وهي التوجّه إلى الله سبحانه ، لا تتحقّق من دون معرفة ما ، وإن كانت هي أيضاً مقدِّمة أو محصِّلة للمعرفة ، فإتيانها بحقيقتها المقدورة يحتاج إلى سير في المعرفة ، وإن كانتا كالمتلازمتين كما في خبر إسماعيل بن جابر ، عن الصادقعليه‌السلام :(العلم مقرون إلى العمل ، فمَن عَلِمَ عَمِلَ ، ومَن عَمِلَ عَلِمَ) (٢) ـ الحديث .

وبعبارة أُخرى : يلزم أن تقع العبادة عن معرفة حتى تنتج معرفة ، كما في النبوي ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(مَن عَمِلَ بما عَلِمَ أورثه الله علْمَ ما لم يعلم) (٣) الحديث وهو معنى قول

ـــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٩١ / ٩٨ ، باب ٣٢ ـ أدعية المناجاة ، الحديث ١٣ .

(٢) بحار الأنوار : ٢ / ٤٠ ، باب ٩ ـ استعمال العلم والإخلاص في طلبه ، الحديث ٧١ الكافي : ١ / ٦٣ ، باب استعمال العلم ، الحديث ١٠٨ / ٢ ، وقد خلت بعض الأحاديث من : (ومن عمل علم) بحار الأنوار : ٢ / ٣٦ ، الباب المتقدّم ، الحديث ٤٣ .

(٣) كشف الخفاء / العجلوني : ٢ / ٢٨٧ ، الحديث ٣٤٦ و : ٣٤٧ ، الحديث ٢٥٤٢ ، ولكن ورد فيها : (علم ما لم يعمل) تفسير الصافي / الفيض الكاشاني : ٤ / ١٢٣ ، تفسير سورة العنكبوت : الآية ٦٩ ، وقد ورد : (كفي ما لم يعلم) ـ راجع : التوحيد : ٤٠٥ ، الحديث ١٧ ، باب التعريف والبيان والحجّة ، والوسائل : ٢٧ / ١٦٤ ، باب وجوب التوقّف والاحتياط في القضاء والفتوى ، الحديث ٣٣٤٩٨ / ٣٥ .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

رأي أهل البيت عليهم‌السلام

- قال العياشي في تفسيره: ١ / ٢٨٨

عن عيسى بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن علي عليه‌السلام قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً، وإنما كان يؤخذ من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآخره، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة، فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء. لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء، وثقل عليه الوحي، حتى وقفت وتدلى بطنها، حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض، وأغمي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي، ثم رفع ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرأ علينا سورة المائدة، فعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعملنا. انتهى.

ويقصد علي عليه‌السلام بذلك: أن المسح على القدمين في الوضوء هو الواجب، وليس غسلهما، لأن المسح نزل في سورة المائدة، وعمل به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون ولم ينسخ. ورواه في تفسير نور الثقلين: ١ / ٥٨٢ و: ٥ / ٤٤٧

- وفي الكافي: ١ / ٢٨٩

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود، جميعاً عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي وأنزل عليه: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وفرض ولاية أولي الأمر، فلم يدروا ما هي؟ فأمر الله محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفسر لهم الولاية، كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتخوف أن يرتدوا عن دينهم، وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه عز وجل فأوحى الله عز وجل إليه: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس ، فصدع بأمر الله تعالى ذكره، فقام بولاية علي عليه‌السلام يوم غدير خم، فنادى الصلاة جامعة، وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب -

٢٤١

قال عمر بن أذنية: قالوا جميعاً غير أبي الجارود - وقال أبو جعفر عليه‌السلام : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي. قال أبو جعفر عليه‌السلام : يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.

- وفي تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٣

وقد قيل إن آخر ما نزل عليه: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا، وهي الرواية الصحيحة، الثابتة الصريحة.

مصادر السنيين الموافقة لرأي أهل البيت عليهم‌السلام

- الدر المنثور: ٢ / ٢٥٢

وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن أبي ميسرة قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة، وإن فيها لسبع عشرة فريضة.

- المحلى: ٩ / ٤٠٧

روينا من طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أن سورة المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حلالاً فحللوه، وما وجدتم فيها حراماً فحرموه. وهذه الآية في المائدة فبطل أنها منسوخة، وصح أنها محكمة.

- المحلى: ٧ / ٣٨٩

فإن هذا قد عارضه ما رويناه عنها من طريق ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن جري بن كليب، عن جبير بن نفير قال: قالت لي عائشة أم المؤمنين: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم؟ قالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها حراماً فحرموه. انتهى. ورواه أحمد في مسنده: ٦ / ١٨٨، ورواه البيهقي في سننه: ٧ / ١٧٢ عن ابن نفير، ونحوه عن عبد الله بن عمرو. ورواه في طبقات الحنابلة: ١ / ٤٢٧، ورواه الحاكم: ٢ / ٣١١ وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

٢٤٢

ثم روى عن عبد الله بن عمرو أن آخر سورة نزلت سورة المائدة وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى. وستعرف أنهما لم يخرجاه مراعاة لعمر حيث ادعى أن آخر ما نزل من القرآن غير المائدة.

- وفي مجمع الزوائد: ١ / ٢٥٦

وعن ابن عباس أنه قال: ذكر المسح على الخفين، وعند عمر سعدٌ وعبد الله بن عمر، فقال عمر: سعد أفقه منك، فقال عبد الله بن عباس: ياسعد إنا لا ننكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح، ولكن هل مسح منذ نزلت المائدة، فإنها أحكمت كل شيء، وكانت آخر سورة نزلت من القرآن، ألا تراه قال ...

فلم يتكلم أحد.

رواه الطبراني في الأوسط، وروى ابن ماجة طرفاً منه، وفيه عبيد بن عبيدة التمار وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يُغرب. انتهى.

يقصد الهيثمي أن الرواية ضعيفةٌ بهذا الراوي، الذي هو ثقة عند ابن حبان، ولكنه يروي روايات غريبة، أي مخالفة لمقررات المذهب الرسمي الذي يقول إن الواجب هو غسل الرجلين في الوضوء، ويقول إن المائدة ليست آخر سورة نزلت!

- وفي الدر المنثور: ٢ / ٢٥٢

وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المائدة ( من ) آخر القرآن تنزيلاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها. انتهى.

ويشك الإنسان في كلمة ( من ) التي تفردت بها هذه الرواية، وكأن راويها أضافها للمصالحة بين الواقع وبين ما تبنته السلطة، وجعلته مشهوراً.

- وفي تفسير التبيان: ٣ / ٤١٣

وقال عبد الله بن عمر: آخر سورة نزلت المائدة.

٢٤٣

- وفي الغدير: ١ / ٢٢٨

ونقل ابن كثير من طريق أحمد والحاكم والنسائي عن عايشة: أن المائدة آخر سورة نزلت. انتهى.

ويتضح من مجموع ذلك أن المتسالم عليه عند عند أهل البيت عليهم‌السلام أن آخر ما نزل من القرآن سورة المائدة وأنه مؤيدٌ برواياتٍ صحيحة وكثيرة، في مصادر إخواننا بل يمكن القول بأن آية ( اليوم أكملت لكم دينكم ) وحدها تكفي دليلاً على أنها آخر نزلت في آخر ما نزل من كتاب الله تعالى، لأنها تنص على أن نزول الفرائض قد تمت بها، فلا يصح القول بأنه نزل بعدها فريضة، على أنه وردت نصوصٌ بذلك كما تقدم عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، وكما سيأتي من رواية الطبري والبيهقي وقول السدي. وعليه، فكل ما نزل بعدها من القرآن، لا بد أن يكون خالياً من الفرائض والأحكام، لأن التشريع قد تم بنزولها، فلا حكم بعدها!

الآراء المخالفة والمتناقضة

ولكن هذا الأمر المحدد الواضح، صار غير واضحٍ ولا محددٍ عندهم!! وكثرت فيه الروايات وتناقضت! وزاد في الطين بلةً أن المتناقض منها صحيحٌ بمقاييسهم! وأنها آراء صحابةٍ كبارٍ لايجرؤون على ردهم!

ولعل السيوطي استحى من كثرة الأقوال في آخر ما نزل من القرآن، فأجملها إجمالاً، ولم يعددها أولاً وثانياً كما عدد الأقوال الأربعة في أول ما نزل!!

ونحن نعدها باختصار، لنرى أسباب نشأتها!

١ - أن آخر آية هي آية الربا، وهي الآية ٢٧٨ من سورة البقرة.

٢ - أن آخر آية هي آية الكلالة، أي الورثة من الأقرباء غير المباشرين، وهي الآية ١٧٦ من سورة النساء.

٣ - أن آخر آية هي آية ( واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله ) البقرة - ٢٨١.

٢٤٤

٤ - أن آخر آية هي آية ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) التوبة - ١٢٨.

٥ - أن آخر آية هي آية ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ) الأنبياء - ٢٥.

٦ - أن آخر آية هي آية ( فمن كان يرجو لقاء ربه ) الكهف - ١١٠.

٧ - أن آخر آية هي آية ( ومن يقتل مؤمنا متعمداً ) النساء - ٩٣.

٨ - أن آخر سورة نزلت هي سورة التوبة.

٩ - أن آخر سورة نزلت هي سورة النصر.

هذا ما جاء فقط في إتقان السيوطي ١ / ١٠١، وقد تبلغ أقوالهم ورواياتهم ضعف هذا العدد، لمن يتتبع المصادر!!

كيف نشأت هذه الآراء المتناقضة

القصة التالية تعطينا ضوءً على نشأة هذا الإضطراب والضياع:

سئل الخليفة عمر ذات يوم عن تفسير آية الربا وأحكام الربا، فلم يعرفها فقال: أنا متأسف، لأن هذه الآية آخر آية نزلت، وقد توفي النبي ولم يفسرها لي!

ومن يومها دخلت آيات الربا على الخط، وشوشت على سورة المائدة، وصار ختام ما نزل من القرآن مردداً بين المائدة، وبين آيات الربا!

ولكن الربا ذكر في أربع سور من القرآن: في الآيتين ٢٧٥ - ٢٧٦ من سورة البقرة والآية ١٦١ من سورة النساء، والآية ٣٩ من الروم، والآية ١٣٠ من آل عمران وبعض هذه السور مكي وبعضها مدني! فأي آيةٍ منها قصد الخليفة؟!

وتبرع المبررون للخليفة وقالوا إن مقصوده الآية ٢٧٨ من سورة البقرة! فصار مذهبهم أن آخر آية نزلت من القرآن وضعت في سورة البقرة، التي نزلت في أول الهجرة! وصار مذهبهم أن تحريم الربا تشريعٌ إضافي، لأنه نزل بعد آية إكمال الدين! ولعلهم يتصورون أنه لا بأس بهذه المفارقة في نزول القرآن والوحي، مادام هدفهم هدفا شرعياً صحيحاً هو الدفاع عن خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

٢٤٥

- قال الإمام أحمد في مسنده: ١ / ٣٦:

عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر رضي‌الله‌عنه : إن آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسرها، فدعوا الربا والريبة!! ورواه في كنز العمال: ٤ / ١٨٦ عن ( ش وابن راهويه حم ه‍ وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ق في الدلائل ) .

- وقال السرخسي في المبسوط: ٢ / ٥١ و ١٢ / ١١٤:

فقد قال عمر رضي‌الله‌عنه : إن آية الربا آخر ما نزل، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبين لنا شأنها!

- وقال السيوطي في الإتقان: ١ / ١٠١

وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الربا. وروى البيهقي عن عمر مثله وعند أحمد وابن ماجه عن عمر: من آخر ما نزل آية الربا. انتهى.

ولكن إضافة ( من ) في هذه الرواية لا تحل المشكلة، كما لم تحلها في سورة المائدة، لأن الروايات الأخرى ليس فيها ( من ) وهي نص على أن آية الربا آخر ما نزل!

قصة ثانية!

وذات يومٍ بل ذات أيام لم يعرف الخليفة عمر معنى الكلالة، وتحير فيها، واستعصى عليه فهمها، الى آخر عمره! فقال وقالوا عنه: إنها آخر آية نزلت، وتوفي النبي قبل أن يبينها له، أو بينها له بياناً ناقصاً!

- ففي البخارى: ٥ / ١١٥

عن البراء رضي‌الله‌عنه قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ونحوه في: ٥ / ١٨٥

- وقال السيوطي في الإتقان: ١ / ١٠١

فروى الشيخان عن البراء بن عازب قال آخر آية نزلت: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة، وآخر سورة نزلت براءة.

٢٤٦

- وفي مسند أحمد: ٤ / ٢٩٨

عن البراء قال: آخر سورة نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك الى آخر السورة الى آخره!

ومن يومها دخلت آية الكلالة على الخط، وشاركت في التشويش على سورة المائدة! وصار ختام ما نزل من القرآن مردداً بين آيات الربا والكلالة، وبقية المائدة بما فيها آيتا العصمة من الناس، وإكمال الدين!

وقد راجعت ما تيسر لي من مصادر إخواننا في مسألة الربا والكلالة، فهالتني مشكلة الخليفة معهما، خاصةً مسألة الكلالة، حتى أنه جعلها من القضايا الهامة على مستوى قضايا الأمة الإسلامية الكبرى، وكان يطرحها من على منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمر يطرحها كمشكلة كبرى، حتى ساعات حياته الأخيرة، وأوصى المسلمين بحلها! الأمر الذي يدل على شعوره العميق بالحرج أمام المسلمين، لعدم تمكنه من استيعابها!! ففي صحيح البخاري: ٦ / ٢٤٢

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل. والخمر ما خامر العقل. وثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهداً: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا. انتهى. ورواه مسلم في: ٢ / ٨١، بتفصيل أكثر، وروى نحوه في: ٥ / ٦١ و٨ / ٢٤٥، ورواه ابن ماجة في: ٢ / ٩١٠، وقال عنه السيوطي في الدر المنثور: ٢ / ٢٤٩: وأخرج عبد الرزاق والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر عن عمر ...

ويدل هذا الصحيح المؤكد، على أن عمر لم يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكلالة.

وقد صرح بذلك صحيح الحاكم الذي رواه في المستدرك: ٢ / ٣٠٣، فقال:

محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال: أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثٍ أحب إلي من حمر النعم: عن

٢٤٧

الخليفة بعده، وعن قوم قالوا نقرُّ بالزكاة في أموالنا ولا نؤديها إليك، أيحل قتالهم؟ وعن الكلالة. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى.

ولكن في صحيح مسلم أن عمر سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها مرراً!!

- قال مسلم في: ٥ / ٦١: عن معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب خطب يوم جمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أبا بكر ثم قال: إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة! ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة! وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري وقال: يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟! وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. انتهى.

يعني أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها مراراً فوضحها له مراراً، ولكنه كرر سؤاله حتى غضب عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدم فهمه لشرحه إياها!

بل يدل الصحيحان التاليان على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عمر أنه سوف لن يفهم الكلالة طول عمره، أو دعا عليه بذلك!

- ففي الدر المنثور: ٢ / ٢٥٠

وأخرج العدني والبزار في مسنديهما، وأبو الشيخ في الفرائض، بسند صحيح عن حذيفة قال: نزلت آية الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بحذيفة فلقاها إياه، فنظر حذيفة فإذا عمر فلقاها إياه. فلما كان في خلافة عمر، نظر عمر في الكلالة فدعا حذيفة فسأله عنها، فقال حذيفة: لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتك كما لقاني، والله لا أزيدك على ذلك شيئاً أبداً. انتهى.

- وفي كنز العمال: ١١ / ٨٠ حديث ٣٠٦٨٨ عن سعيد بن المسيب أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يورث الكلالة؟ قال: أو ليس قد بين الله ذلك، ثم قرأ: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة الى آخر الآية، فكأن عمر لم يفهم!

٢٤٨

فأنزل الله: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الى آخر الآية، فكأن عمر لم يفهم! فقال لحفصة: إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس، فاسأليه عنها فقال: أبوك ذكر لك هذا؟ ما أرى أباك يعلمها أبداً!!

فكان يقول: ما أراني أعلمها أبداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال!! وذكر في مصدره أن ابن راهويه أو ابن مردويه صححه.

- بل روى السيوطي في الدر المنثور: ٢ / ٢٤٩ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كتبها لعمر في كتف! قال: وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن مردويه عن طاوس، أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فسألته فأملاها عليها في كتف، وقال: من أمرك بهذا أعمر؟ ما أراه يقيمها، أو ما تكفيه آية الصيف؟!!

قال سفيان: وآية الصيف التي في النساء: وإن كان رجلٌ يورث كلالةً أو امرأةٌ فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت الآية التي في خاتمة النساء. انتهى.

فانظر الى هذه التناقضات في أحاديث عمر والكلالة، وكلها صحيحة!

ولاحظ أن الكلالة هي إحدى المسائل الثلاث التي قال البخاري إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبينها للأمة، ولا سأل عمر النبي عنها مع أن روايتهم الصحيحة تقول إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كتب الكلالة لعمر في كتف!

وأما المسألة الثانية التي هي الخلافة، فقد روى البخاري نفسه أيضاً أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا بدواة وكتف ليكتب للأمة الإسلامية كتاباً لا تضل بعده أبداً، ولكن عمر أبى ذلك ..

وأما المسألة الثالثة، وهي أبواب الربا، فيستحيل أن لا يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بينها وشرحها للمسلمين أيضاً، وقد يكون كتبها لعمر أو غيره في كتف أيضاً!!

دلالة هاتين القصتين

تدل هاتان القصتان على أن صحاح إخواننا فيها متناقضاتٌ لا يمكن لباحثٍ أن يقبلها جميعاً، بل لا بد له أن يرجح بعضها ويرد بعضها.

٢٤٩

وكيف يمكن لعاقلٍ أن يقبل في موضوعنا أن عمر لم يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الآية لأنها آخر آية نزلت وأنه سأله عنها مراراً، حتى دفعه بإصبعه في صدره، وغضب منه، الخ!!

وكيف يقبل أن الكلالة آخر آية، وآيات الربا آخر آيات الى آخر التناقضات التي ذكرناها، وأكثر منها فيما لم نذكره!

وتدل القصتان على أن سلطة الخليفة عمر على السنيين بلغت حداً تستطيع معه أن تجعل ادعاءه غير المعقول معقولاً! وأن المهم عندهم تكييف تفسير القرآن، وأحداث نزول آياته، وأسبابها، وفق ما قاله الخليفة، حتى لو تناقضت أقواله، وحتى لو لزم من ذلك إثارة شبهة التناقض في دين الله تعالى، وفي أفعاله تعالى!

وإذا اعترض أحدٌ على ذلك فهو رافضي، عدوٌّ للإسلام ورسوله وصحابته!.

وتدل القصتان في موضوعنا على أن آيات الربا وإرث الكلالة، وربما غيرهما، حسب رأي الخليفة قد نزلت بعد آية إكمال الدين، ومعنى ذلك أن الله تعالى قال للمسلمين: اليوم أكملت لكم دينكم ، ولكنه لم يكن أكمل أحكام الإرث والربا وأحكام القتل!!

إن من يحترم نفسه لا يمكنه أن يقبل منطقاً يجادل عن إنسان غير معصوم ليبرئه من التناقض، حتى لو استلزم ذلك نسبة التناقض الى الله عز وجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

* *

بقية الأقوال:

لا نطيل في ذكر بقية الأقوال، وأحاديثها الصحيحة عندهم، بل نجملها إجمالاً:

- ففي صحيح البخارى: ٥ / ١٨٢

قال سمعت سعيد بن جبير قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها الى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم ( النساء - ٩٣ ) هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء.

٢٥٠

- وفي البخاري: ٦ / ١٥

عن سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيه الى ابن عباس فقال: نزلت في آخر ما نزل، ولم ينخسها شيء.

- وفي الدر المنثور: ٢ / ١٩٦

وأخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني من طريق سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فرحلت فيها هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.

وأخرج أحمد، وسعيد بن منصور، والنسائي، وابن ماجة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في ناسخه، والطبراني من طريق سالم بن أبى الجعد، عن ابن عباس قال: لقد نزلت في آخر ما نزل ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى؟

قال: وأنى له بالتوبة؟!.

- وفي مجموع النووي: ١٨ / ٣٤٥

قوله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جنهم خالداً فيها الآية.

في صحيح البخارى هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. وكذا رواه مسلم والنسائي من طرق عن شعبة به. ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الآية فقال: ما نسخها شيء. انتهى.

فهل يمكن لمسلم أن يقبل هذه الروايات ( الصحيحة ) من البخاري أو غيره، ومن ابن عباس أو غيره، ويلتزم بأن تحريم قتل المؤمن تشريع إضافي في الإسلام، نزل بعد آية إكمال الدين!

* *

٢٥١

- وفي مستدرك الحاكم: ٢ / ٣٣٨

عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه قال: آخر ما نزل من القرآن: لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم. حديث شعبة عن يونس بن عبيد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى. وهذه الرواية ( الصحيحة ) على شرط الشيخين تقصد الآيتين ١٢٨ - ١٢٩، من سورة التوبة.

- وفي الدر المنثور: ٣ / ٢٩٥

وأخرج ابن أبي شيبة، واسحق بن راهويه، وابن منيع في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، من طريق يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال: آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم - وفي لفظ أن آخر ما نزل من القرآن - لقد جاءكم رسول من أنفسكم الى آخر الآية.

* وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مروديه، عن الحسن أن أبي بن كعب كان يقول: إن أحدث القرآن عهداً بالله - وفي لفظ بالسماء - هاتان الآيتان: لقد جاءكم رسول من أنفسكم الى آخر السورة.

- الدر المنثور: ٣ / ٢٩٥

واخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند، وابن الضريس في فضائله، وابن أبي دؤاد في المصاحف: وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، والخطيب في تلخيص المتشابه، والضياء في المختارة، من طريق أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنهم جمعوا القرآن في مصحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون ويمل عليهم أبي بن كعب، حتى انتهوا الى هذه الآية من سورة براءة: ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم قوم لا يفقهون، فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن، فقال أبي بن كعب: إن النبى صلى الله عليه وسلم قد أقرأني بعد هذا آيتين: لقد

٢٥٢

جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم، فإن تولوا فقل حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. فهذا آخر ما نزل من القرآن. قال فختم الأمر بما فتح به بلا إله إلا الله، يقول الله: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحي اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون .

وأخرج ابن أبي دؤاد في المصاحف عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك اليه.

فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده شيء من كتاب الله فليأتنا به، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد به شاهدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما!

فقالوا: ما هما؟

قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم الى آخر السورة.

فقال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما؟

قال: إختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة. انتهى.

وشبيه به في سنن أبي داود: ١ / ١٨٢ ، وقد بحثنا هذه الروايات في كتاب تدوين القرآن.

* *

- وفي صحيح مسلم: ٨ / ٢٤٣

عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: تعلم - وقال هارون تدري - آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً؟

٢٥٣

قلت نعم، إذا جاء نصر الله والفتح . قال: صدقت.

وفي رواية ابن أبي شيبة: تعلم أي سورة، ولم يقل آخر.

- وفي سنن الترمذي: ٤ / ٣٢٦

وقد روي عن ابن عباس أنه قال: آخر سورة أنزلت: إذ جاء نصر الله والفتح .

- وفي الغدير: ١ / ٢٢٨: وروى ابن كثير في تفسيره: ٢ / ٢

عن عبد الله بن عمر أن آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ( يعني النصر ).

- وفي الدر المنثور: ٦ / ٤٠٧

وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة في قوله: إذا جاء نصر الله والفتح ، قال: علمٌ وحدٌّ حده الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ونعى اليه نفسه، إنك لا تبقى بعد فتح مكة إلا قليلا.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً: إذا جاء نصر الله والفتح .

* *

- وفي المجعم الكبير للطبرانى: ١٢ / ١٩

عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت: واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله . انتهى. وهي الآية ٢٨١ من سورة البقرة!

* *

ونذكر في آخر ادعاءاتهم في آخر آيةٍ من القرآن: أن معاوية بن أبي سفيان أدلى بدلوه في هذا الموضوع، ونفى على المنبر أن تكون آية ( اليوم أكملت لكم دينكم ) آخر ما نزل، وأفتى للمسلمين بأن آخر آيةٍ نزلت هي الآية ١١٠ من سورة الكهف، وأنها وكانت تأديباً من الله لنبيه!! ففي المعجم الكبير للطبراني: ١٩ / ٣٩٢:

عمرو بن قيس أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر نزع بهذه الآية: اليوم

٢٥٤

أكملت لكم دينكم قال: نزلت يوم عرفة في يوم جمعة، ثم تلا هذه الآية: فمن كان يرجو لقاء ربه وقال: إنها آخر آية نزلت تأديباً لرسول الله انتهى.

وقد التفت السيوطي الى أن كيل التناقض قد طفح لإبعاد آية إكمال الدين عن ختم القرآن، وحجة الوداع، وغدير خم فاستشكل في قبول قول معاوية وعمر! ولكنه مرَّ بذلك مروراً سريعاً، على عادتهم في التغطية والتستر والروغان!

قال في الإتقان: ١ / ١٠٢

من المشكل على ما تقدم قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم ، فإنها نزلت بعرفة في حجة الوداع وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها. وقد صرح بذلك جماعة منهم السدي، فقال: لم ينزل بعدها حلالٌ ولا حرامٌ، مع أنه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعدها!

وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال: الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم الدين بإفرادهم بالبلد الحرام، وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون، لا يخالطهم المشركون! انتهى.

ومعنى كلام ابن جرير الطبري الذي ارتضاه السيوطي: أن حل التناقض في كلام الصحابة بأن نقبله ونبعد إكمال الدين وإتمام النعمة عن التشريع وتنزيل الأحكام والفرائض، ونحصره بتحرير مكة فقط، حتى تسلم لنا أحاديث عمر عن الكلالة والربا وحديث معاوية في آخر آية في ( تأديب النبي )!!

إنها فتوى تتكرر أمامك من العلماء السنيين بوجوب قبول كلام الصحابة - ما عدا أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - حتى لو استلزم ذلك تفريغ آيات الله تعالى وأحاديث رسوله من معانيها! فهم عملياً يعطون الصحابة درجة العصمة، بل يعطونهم حق النقض على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنهم يجعلون كلامهم حاكماً عليه!

ثم يفرضون عليك أن تقبل ذلك وتغمض عينيك، وتصمَّ سمعك عن صراخ ضحاياهم من الآيات الظاهرة والأحاديث الصحيحة!!

٢٥٥

ونتيجة هذا المنطق: أن آية اليوم أكملت لكم دينكم ليست آخر آية، ولا سورتها آخر سورة، ولا معناها أكملت لكم الفرائض والأحكام، بل أكملت لكم فتح مكة!

وأن معنى ( اليوم ) في الآية ليس يوم نزول الآية، بل قبل سنتين من حجة الوداع!

وسوف تعرف أن الخليفة عمر أقر في جواب اليهودي بأن معنى اليوم في الآية: يوم نزولها، وليس يوم فتح مكة! بل قال القرطبي إن اليوم هنا بمعنى الساعة التي نزلت فيها الآية، كما سيأتي.

نص الآية الكريمة

يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً، وإذا حللتم فاصطادوا، ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب .

حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام، ذلكم فسق، اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون - اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا - فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم . المائدة ٢ - ٣

* *

آية إكمال الدين واللحوم المحرمة

أول ما يواجه الباحث في آية إكمال الدين غرابة مكانها في القرآن، فظاهر ما رواه المحدثون والمفسرون عنها، أنها نزلت في حجة الوداع آية مستقلة لا جزء آية ثم يجدها في القرآن جزءً من آية اللحوم المحرمة، وكأنها حشرت حشراً في وسطها، بحيث لو رفعنا آية إكمال الدين منها لما نقص من معناها شيء، بل لاتصل السياق!!

٢٥٦

فما هي الحكمة من هذا السياق؟ وهل كان هذا موضعها الأصلي من القرآن، أم وضعت هنا باجتهاد بعض الصحابة؟!

نحن لا نقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى، معاذ الله، لكن نتساءل عسى أن يعرف أحد الجواب: ما هو ربط آية إكمال الدين باللحوم المحرمة؟

ألا يحتمل أن تكون بالأساس في خاتمة سورة المائدة مثلاً، ولم يلتفت الى ذلك الذين جمعوا القرآن، فوضعوها هنا.

ثم قد يقبل الإنسان أن تكون الآية نزلت بعد آيات بيان أحكام اللحوم، ولكن كيف يمكن أن ينزلها الله تعالى في وسط أحكام اللحوم! فإذا قال الله تعالى: أكملت لكم دينكم ، فقد تمت الأحكام، فكيف يقول بعدها مباشرة: فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإن الله غفور رحيم ؟! ثم يقول بعدها مباشرة: يسألونك ماذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات وما علمتم الى آخر أحكام الدين الذي قال عنه أحكم الحكماء سبحانه قبل لحظات: إنه قد أكمله وأتمه؟!!

- قال في الدر المنثور: ٢ / ٢٥٩:

وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: اليوم أكملت لكم دينكم قال: هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حرامٌ ولا حلالٌ. انتهى.

- وقال في: ٢ / ٢٥٧

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله: اليوم أكملت لكم دينكم ، يقول حلالكم وحرامكم، فلم ينزل بعد هذا حلالٌ ولا حرامٌ. انتهى.

والأحاديث والأقوال في عدم نزول أحكام بعد الآية كثيرة، وقد مر بعضها، ولا تحتاج الى استقصائها بعد أن كان ذلك يفهم من الآية نفسها ويؤيده ما ذكره اللغويون في معنى الكمال والتمام

٢٥٧

- قال الزبيدي في تاج العروس: ٨ / ١٠٣:

( الكمال: التمام ) وهما مترادفان كما وقع في الصحاح وغيره، وقد فرق بينهما بعض أرباب المعاني، وأوضحوا الكلام في قوله تعالى اليوم: أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، وبسطه في العناية، وأوسع الكلام فيه البهاء السبكي في عروس الأفراح. وقيل: التمام الذي تجزأ منه أجزاؤه كما سيأتي، وفيه ثلاث لغات ( كمل كنصر وكرم وعلم ) قال الجوهري والكسر أردؤها، وزاد ابن عباد: كمل يكمل مثل ضرب يضرب، نقله الصاغاني ( كمالاً وكمولاً فهو كامل وكميل ) جاؤوا به على كمل.

وقال في ص ٢١٢: ( وتمام الشيء وتمامته وتتمته ما يتم به ) وقال الفارسي: تمام الشيء ماتم به بالفتح لا غير يحكيه عن أبي زيد. وتتمة كل شيء ما يكون تمام غايته، كقولك هذه الدراهم تمام هذه المائة، وتتمة هذه المائة.

قال شيخنا: وقد سبق في كمل أن التمام والكمال مترادفان عند المصنف وغيره، وأن جماعة يفرقون بينهما بما أشرنا اليه. وزعم العيني أن بينهما فرقا ظاهراً ولم يفصح عنه.

وقال جماعة: التمام الإتيان بما نقص من الناقص، والكمال الزيادة على التمام، فلا يفهم السامع عربياً أو غيره من رجل تام الخلق إلا أنه لا نقص في أعضائه، ويفهم من كامل، وخصه بمعنى زائد على التمام كالحسن والفضل الذاتي أو العرضي. فالكمال تمامٌ وزيادة، فهو أخص.

وقد يطلق كل على الآخر تجوزاً، وعليه قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي . كذا في كتاب التوكيد لابن أبي الإصبع.

وقيل التمام يستدعي سبق نقص، بخلاف الكمال. وقيل غير ذلك، مما حرره البهاء السبكي في عروس الأفراح، وابن الزملكاني في شرح التبيان، وغير واحد.

٢٥٨

قلت وقال الحراني: الكمال: الإنتهاء الى غاية ليس وراءها مزيد من كل وجه. وقال ابن الكمال: كمال الشيء: حصول ما فيه الغرض منه، فإذا قيل كمل فمعناه حصل ما هو الغرض منه. انتهى.

وبعد السؤال عن مكان الآية يواجهنا السؤال عن معناها، وسبب نزولها وفي ذلك ثلاثة أقوال:

القول الأول

قول أهل البيت عليهم‌السلام أنها نزلت يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة في الجحفة، في رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجة الوداع، عندما أمره الله تعالى أن يوقف المسلمين في غدير خم، قبل أن تتشعب بهم الطرق، ويبلغهم ولاية علي عليه‌السلام من بعده، فأوقفهم وخطب فيهم وبلغهم ما أمره به ربه. وهذه نماذج من أحاديثهم:

فقد تقدم ما رواه الكليني في الكافي: ١ / ٢٨٩

عن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام وفيه ( وقال أبو جعفر عليه‌السلام : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل الله عز وجل: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت لكم الفرائض.

- وعن علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن هارون بن خارجة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: كنت عنده جالساً فقال له رجل: حدثني عن ولاية علي، أمن الله أو من رسوله؟

فغضب ثم قال: ويحك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخوف ( لله ) من أن يقول ما لم يأمره به الله!! بل افترضه الله، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.

- وفي الكافي: ١ / ١٩٨

أبو محمد القاسم بن العلاء رحمه‌الله رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال: كنا مع الرضا عليه‌السلام بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر

٢٥٩

الامامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي عليه‌السلام فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسم عليه‌السلام ثم قال:

يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً، فقال عز وجل: ما فرطنا في الكتاب من شيء ، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .

وأمر الامامة من تمام الدين، ولم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بين لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم علياً عليه‌السلام علماً وإماماً، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا بينه، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله، ومن رد كتاب الله فهو كافر به.

هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة، فيجوز فيها اختيارهم؟!

إن الامامة أجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم.

إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه‌السلام بعد النبوة والخلة، مرتبةً ثالثة، وفضيلة شرفه بها، وأشاد بها ذكره فقال: إني جاعلك للناس إماماً ، فقال الخليل عليه‌السلام سروراً بها: ومن ذريتي ؟ قال الله تبارك وتعالى: لا ينال عهدي الظالمين . فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم الى يوم القيامة، وصارت في الصفوة.

ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال: ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاًّ جعلنا صالحين . وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين .

فلم تزل في ذريته، يرثها بعض عن بعض، قرناً فقرناً، حتى ورثها الله تعالى النبي عليه‌السلام فقال جل وتعالى: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373