فرائد الاصول الجزء ٢

فرائد الاصول9%

فرائد الاصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 438

  • البداية
  • السابق
  • 438 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26255 / تحميل: 7295
الحجم الحجم الحجم
فرائد الاصول

فرائد الاصول الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يسطو فتصعق من بوارقه

وبعزمه كف الردى يسطو

يا روضة الدنيا وبهجتها

ودليلها إن راعها خبط

تقضي ظماً والماء تشربه

عصب الشقا والوحش والرط

الله أكبر أيّ نازلة

بالدين قام بعبئها السبط

سلبت من الدنيا أشعتها

وبها السماء اغتالها الشط

يقضي ابن فاطمة ولا رفعت

سوداء ملؤ إهابها سخط

وهذا نموذج من شعره في الغزل ـ وهذه القطعة من الروضة:

سل عن جوى كبدي لظى أنفاسي

تخبرك عنه وما له من آس

سفك الغرام دمي ولا من ثائر

كمهلهل فيه على جساس

سيان حدّ السيف والمقل التي

بسوادها يبيض شعر الراس

سرّ الهوى أودعت قلبا واثقاً

لولا الدموع وحرقة الأنفاس

سأقول إن عدنا وعاد حديثنا

واها لقلبك من حديد قاسي

ومن غزله قوله:

أهلاً بها بعد الصدود

هيفاء واضحة الخدود

بكر كغصن البان

باكره الصبا بربى زرود

تختال في برد الصبا

أحبب بهاتيك البرود

فسكرتُ في نغماته

وطربت فيه بغير عود

حتى إذا صال الصبا

ح على الدجنّة في عمود

ألوى فقمتُ معانقا

شغفا به جيداً بجيد

مضنى الحشاشة قائلاً

حذر القطيعة والصدود

عُدلي بوصلك وادّكر

يا ظبي ( أوفوا بالعقود )

حتى تريح من الجوى

قلباً به ذات الوقود

فرنا إليّ بمقلة

تصطاد هاصرة الاسود

١٤١

متلفتاً كالريم حلأ

ه الرماة عن الورود

حذر الوشاة فليتهم

فزعوا لقاطعة الوريد

وتذكر العهد القديم

فجاد بالوصل الجديد

ترجم له صاحب الحصون المنيعة ترجمة ضافية وقال: جمع ديوانه بنفسه وبخطه الجيد ويبلغ خمسة عشر الف بيت كله من الرصين المحكم وأكثره في مدايح ومراثي أهل البيتعليهم‌السلام كما ضمّنه مفاكهات ومراسلات مع العلماء من أحبابه والادباء والاشراف من أترابه، أقول وكان الشيخ السماوي يحتفظ بنسخة من الديوان ويقول البعض أنها مستنسخة من نسخة المرحوم الحاج مهدي الفلوجي الحلي، وترجم له الشيخ اغا بزرك الطهراني في ( نقباء البشر في القرن الرابع عشر ) وترجم له البحاثة المعاصر علي الخاقاني في شعراء الحلة.

جاء في ( طبقات أعلام الشيعة ) ج 2 صفحة 430: الشيخ حسين الحلي، هو الشيخ حسين بن مصبح الحلي النجفي فاضل جليل. كان من فضلاء عصره في النجف، ويظهر من بعض الخصوصيات أنه كان من الأجلاء. استعار بعض الكتب العلمية في حدود (1240) كما على ظهر ( إثبات الهداة ) في النصوص والمعجزات في مكتبة السيد اغا التستري في النجف، فالظاهر أن وفاته بعد التاريخ، وهو جد الشاعر الشهير الشيخ حسن مصبح الحلي ابن حسين ابن المترجم، المولود في حدود (1246) المتوفى في 1317 ه‍ كما ترجمناه في ( نقباء البشر ) م 1 صفحة 429.

١٤٢

الشيخ محمد نظر علي

المتوفى 1317

قال من قصيدة يرثي بها الحسين (ع):

لهفي لزينب بعد الصون حاسرة

بين اللئام ومنها الخدر مبتذل

تقول وآضيعتا بعد الحسين أخي

من لي وقد خاب مني الظن والأمل

وأخرجوا السيد السجاد بينهم

يساق قسراً وبالاغلال يعتقل

إذا وَنى قنّعوه بالسياط وإن

مشى أضرّ به من قيده ثقل

وقد سروا ببنات المصطفى ذللا

تسرى بها في الفيافي الأنيق البزل

ما بين باكية للخدّ لاطمة

وبين ثاكلة أودى بها الثكل

وبين قائلة يا جدنا فعلوا

بنا علوج بني مروان ما فعلوا

وقال:

يا قلب ذب كمداً لما

قد ناب أبناء النبيّ

أيلومني الخالي بهم

أين الخليّ من الشجيّ

قد جرعتني علقما

أرزاء نهر العلقميّ

أجسامهم فوق الثرى

ورؤوسهم فوق القنيّ

وعقائل المختار تسبى

بعدهم لابن الدعيّ

وحملن من بعد الخدور

سوافراً فوق المطيّ

* * *

هو ابن الشيخ جعفر بن نظر علي، وبجده هذا يعرف بين الحليين فيعبرون عنه ب‍ ( الشيخ محمد بن نظر علي ) ويلقبونه بالمحدث أيضاً لطول باعة وسعة

١٤٣

أطلاعه في علم الحديث، فقد كان ذا إحاطة واسعة بأحاديث النبي وأهل بيته الأطهار خصوصاً ما ورد منها في صحاح الإمامية وما ألف بعدها من الكتب المعتبرة وقد استفاد كثيراً في هجرته من الحلة إلى النجف من منبر العلامة المتأله الشيخ جعفر التستري ومن ثمة اشتهر أمره بالصلاح والورع وحسن الأساليب في مواعظه وخطابته المنبرية، ودرس عنده جماعة منهم الشيخ محمد حسين بن حمد الحلي، وقد ترك جملة من الاثار والمجاميع المخطوطة كان قد دوّن فيها ما وعاه من مشايخه وما انتخبه من أُمهات الكثب في سيرة أهل البيت وآثارهم وقد تلف قسم منها وبقي بعضها عند صهريه على كريمتيه، الأول منهما خطيب الفيحاء الشيخ محمد آل الشيخ شهيب ( والد الدكتور محمد مهدي البصير ) والثاني السيد جعفر ابن السيد محمد حسن آل السيد ربيع ـ من أطباء العيون في النجف ـ وكان المترجم لهرحمه‌الله يحب العزلة ولا يغشى أندية الفيحاء على كثرتها يوم ذاك عدا نادي آل السيد سلمان في عهد المرحوم السيد حيدر وعمه السيد مهدي بن السيد داود لقرب بيته من بيوتهم. وما زال منقطعاً إلى التهجد والاذكار في مسجدهم الواقع تجاه داره وهو المعروف بمسجد ( أبو حواض ). كانت ولادة المترجم له في الحلة سنة 1259 على التقريب ونشأ وتأدب فيها وكان يقضي شهري المحرم وصفر في البصرة للوعظ والارشاد في المحافل الحسينية كغيره من الخطباء فعاد في آخر سنيّ حياته منها وقد أُصيب فيها بمرض الحمى النافضة ( الملاريا ) فلم تمهله إلا أياماً حتى أجاب داعي ربه سنة 1317 ه‍ أو قبلها بسنة، ورثاه جماعة من شعراء الفيحاء الذين كانوا معجبين بفضله ونسكه منهم الأديب الحاج عبد المجيد الشهير بالعطار والشاعر الفحل الحاج حسن القيم ـ فمن قصيدة القيم قوله:

بادرا في بردة النسك أدرجاه

واعقدا اليوم على التقوى رداه

لي بقايا كبد بينكما

بالبكا يا ناظريّ اقتسماه

وهذا الشيخ وان كان ذا موهبة شعرية ولكنه لا ينظم إلا في اهل البيتعليهم‌السلام . ( انتهى عن البلابليات )

١٤٤

الشيخ محمد العوّامي

المتوفى 1318

مصائب عاشورا تهيج تضرمي

فلله من يوم بشهر محرم

بها المجد ينعى مصدر الفيض إذ غدا

بلا قيّم يأوى إليه وينتمى

ومن قصيدة أخرى:

فيا مضر الحمرا ويا أُسد الشرى

ويا غوث مَن يبغي الندا ويريد

وأمنع مَن في الأرض جاراً وجانبا

وأمنتح مَن أمّت اليه وفود

فيا مطعمي الأضياف يوم مجاعة

ويا خير مَن يبنى العلا ويشيد

ويا مخمدي نار الوغى إن تضرّمت

وشبّ إلى الحرب العوان وقيد

وبدر واحد يشهدان لهاشم

ورب السما من فوق ذاك شهيد

ولما بدت من آل حرب ضغائن

لثارات بدر أظهرت وحقود

وأخرجت المولى الحسين مروّعاً

وقد سبقت منكم اليه عهود

فلهفي عليه من وحيد مضيّع

على الماء يقضي وهو عنه بعيد

بني مضر ماذا القعود عن العدا

وفي كربلا مولى الوجود فريد

وكيف بقى ملقى ثلاثاً على الثرى

تواريه من نسج الرياح برود

١٤٥

الشيخ محمد بن عز الدين الشيخ عبد الله العوامي القطيفي. اشتهر بأبي المكارم لمكارم أخلاقه، ولدرحمه‌الله سنة 1255 ه‍ ثالث شهر شعبان وبدت طلائع النبوغ على أساريره ونمت مداركه ومعارفه فأصبح منهلاً ينتهل منه وبحراً يغترف السائلون من عبابه، حج سنة 1317 ه‍ فأبهر الحاج بعلمه وكرمه وسخائه وعطائه، وعندما تشرف بزيارة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستقرّ بالمدينة المنورة فاجأه السقام فمكث أياماً والمرض يلازمه حتى قبضه الله اليه في عصر يوم السابع والعشرين من شهر محرم الحرام سنة 1318 وعمره ثلاث وستون سنة فدفع بالبقيع، وأولاده أربعة كلهم من أهل الفضل، أما آثاره العلمية فهي:

1 ـ أجوبة المسائل النحوية، كتاب مختصر.

2 ـ المناظرات في مسائل متفرقة.

3 ـ المسائل الفقهية.

4 ـ ديوان شعره يحتوي على: منظومة في عقائد الاصول، من توحيد وعدل ونبوة وإمامة ومعاد.

شكوى وعتاب:

ترجمت في هذه الموسوعة بأجزائها الثمانية لمجموعة كبيرة من ادباء البحرين والاحساء والقطيف ممن كانوا في زوايا النسيان ذلك لأن بلاد البحرين من أقدم بلاد الله في العلم والأدب والتشيع لأهل البيت وعريقة في الشعر. وأمامنا ردم من القصائد لم نقف بعد على ترجمة أربابها وكم كتبنا واستنجدنا بعلمائها وادبائها ليزودونا بمعلومات عن تراثهم وحياة أسلافهم، ولكن لا حياة لمن تنادي.

١٤٦

الشيخ حسن القيِّم

المتوفى 1318

قال يرثي الامام الحسين (ع):

إن تكن جازعاً لها أو صبورا

فلياليك حكمها أن تجورا

تصحبنك الضدين ما دمت حياً

نوبا تارة وطوراً سرورا

ربما استكثر القليل فقير

وغنيٌ بها استقل الكثيرا

فكأن الفقير كان غنياً

وكأن الغني كان فقيرا

فحذاراً من مكرها في مقام

ليس فيه تحاذر المحذورا

نذرت أن تسيء فعلاً فأمست

في بني المصطفى تقضّي النذورا

يوم عاشور الذي قد أرانا

كل يوم مصابه عاشورا

يوم حفت بابن النبي رجال

يملؤن الدروع بأساً وخيرا

عمروها في الله أبيات قدس

جاورت فيه بيته المعمورا

ما تعرّت بالطف حتى كساها

الله في الخلد سندساً وحريرا

لم تعثّر أقدامها يوم أمسى

قدم الموت بالنفوس عثورا

بقلوب كأنما البأس يدعو

هالقرع الخطوب كوني صخورا

رفعت جرد خيلهم سقف نقع

ألف الطير في ذراه الوكورا

حاليات يرشحن بالدم مرجاناً

ويعرقن لؤلؤاً منثورا

عشقوا الغادة التي أنشقتهم

من شذاها النقع المثار عبيرا

فتلقوا سهامها بصدور

تركوهن للسهام جفيرا

١٤٧

لازموا الوقفة التي قطّرتهم

تحت ظل القنا عفيراً عفيرا

فخبوا أنجماً وغابوا بدوراً

وهووا أجبلا وغاضوا بحورا

من صريع مرمل غسّلته

من دماء السيوف ماء طمورا

ومعرى على الثرى كفنته

أُمّه الحرب نقعها المستثيرا

عفّر الترب منهم كل وجه

علّم البدر في الدجا أن ينيرا

ونساء كادت بأجنحة الرعب

شظايا قلوبها أن تطيرا

قد أداروا بسوطهم فلك الضرب

عليهنّ فاغتدى مستديرا

صرن في حيث لو طلبن مجيراً

بسوى السوط لم يجدن مجيرا

لو يروم القطا المثار جناحاً

لأعارته قلبها المذعورا

يا لحسرى القناع لم تلف إلا

آثماً من أمية أو كفورا

أوقفوها على الجسوم اللواتي

صرن للبيض روضة وغديرا

فغمرن النحور دمعاً ولو لم

يك قانٍ غسلن تلك النحورا

علّ مستطرقاً يرى الليل درعاً

وعلى نسجه النجوم قتيرا

يبلغن المهديّ عني شكوى

قلّ في أنها تضيق الصدورا

قل له إن شممت تربة أرض

وطأت نعله ثراها العطيرا

وتزودت نظرة من محيّا

تكتسي من بهائه الشمس نورا

قم فأنذر عداك وهو الخطاب

الفصل أن تجعل الحسام نذيرا

كائناً للمنون هارون في البعث

لموسى عوناً له ووزيرا

قد دجا في صدورهم ليل غي

فيه يهوى نجم القنا أن يغورا

أو ما هزّ طود حلمك يوم

كان للحشر شره مستطيرا

يوم أمسى الحسين منعفر الخد

ين فيه ونحره منحورا

أفتديه مخدّراً صار يحمي

بشبا السيف عن نساء الخدورا

ليس تدري محبوكة الدرع ضمّت

شخصه في ثباته أم ثبيرا

١٤٨

أعدت السيف كفه في قراها

فغدا في الوغى يضيف النسورا

صار موسى وآل فرعون حرباً

والعصى السيف والجواد الطورا

وأصريعاً بثوب هيجاء مدرو

جاً وفي درع صبره مقسورا

كيف قرت في فقد مسكنها الأر

ض وقد آذنت له أن تمورا

وقضى في الهجير ظام ولكن

بحشى حرها يذيب الهجيرا

صار سدراً لجسمه ورق البيض

ونقع الهيجا له كافورا

أحسين تقضي بغير نصير

مستظاماً فلا عدمت النصيرا

بأبي رأسك المشهرّ أمسى

يحمل الرمح منه بدراً منيرا

* * *

الشيخ حسن ابن الملا محمد القيّم الحلي أحد نوابغ عصره. كان شاعراً بارعاً من اسرة كانوا قوّاماً في بعض المشاهد فلذلك لقّب بالقيّم، في شعره يحذو حذو المهيار ويعارض قصائده. كان أبوه أيضاً شاعراً خفيف الروح. والشيخ حسن القيم عارض قصيدة المهيار التي أولها:

لمن الطلول كأنهنّ رقوم

تصحو لعينك تارة وتغيم

بقصيدة شهيرة يرويها أكثر خطباء المنبر الحسيني وأولها:

عطن بذات الرمل وهو قديم

حنّت بواديه الخماص الهيم

ولد سنة 1278 ه‍ فاحتضنه أبوه، وهو يومئذ استاذ الخطابة في بغداد والحلة، حتى إذا نشأ وترعرع كان السيد حيدر الحلي، والشيخ حمادي نوح من أوائل مَن تلقفوه وتعاهدوا ملكاته الأدبية. ثم كان له من حانوته الضيق الذي إذا أراد أن يدخله ينحني مع شدة قصره وضآلة جسمه ما يغنيه عن أن يمدّ يد الارتزاق لأحد، حيث احترف فيه حياكة المناطق الحريرية المعروفة ب‍ ( الحُيُص ) ولعلّ هذه المهنة المتواضعة هي الباعث على الاعتقاد بأنه أُميّ لا يقرأ ولا يكتب رغم أن الشيخ محمد علي اليعقوبي يعلق على هذا الزعم بقوله:

١٤٩

وقد رأينا كثيراً من مسودات قصائده بخط يده عند ولده المرحوم عبد الكريم ولقد توفق الاستاذ الخطيب الشيخ اليعقوبي لجمع وتحقيق ديوان الشاعر القيم ونشره في مطابع النجف الأشرف سنة 1385 ه‍ وعثرت أخيراً على مخطوطة للخطيب السيد عباس البغدادي وفيه مرثية نظمها شاعرنا في رثاء سيدة من آل القزويني في سنة 1317 ويعزي العلامة الكبير السيد محمد القزويني قال:

هي نفس تقدست فحباها

محض تقديسها عُلا لا يُضاهى

كيف منها الردى استطاع دنواً

وبأسد الشرى يُحاط خباها

يا لنفس لها نفائس أوصاف

بها الله للملائك باهى

سكنت خدرها المنيع إلى أن

سكنت خير مرقد واراها

فهب اللحد في ثراه طواها

أفهل يستطيع طيّ علاها

شكرت أجرها صحيفتها الملآى

بما قدمت فيا بشراها

فمضت والعفاف يتبعها بالنوح

والنسك ثاكلا ينعاها

يا خطوب الزمان إن خلت أن لا

عاصم اليوم للعلى من أساها

فقد استعصمت ببأس ( أبي

القاسم ) من كل معضل يغشاها

بدر علم وطودُ حلم ولجيّ

صفات جلّت فلا تتناهى

نير المحتد الذي تتجلى الشمس

فيه فيستشف ضياها

طاهر البرد معدن الرشد سامي

المجد غوث الأنام في بأساها

فالقوافي بنعته انشقتنا

نفحات يحيى النفوس شذاها

جمع الله فيه شمل المعالي

وأعزّ الاله فيه حماها

سادة العالمين آل معز الدين

فيكم سمت شريعة طه

فبكم تكشف الحوادث عنا

وتنال النفوس أقصى مُناها

ولنا تُرسل السحائب من أنملكم

حفّلا يفيض نداها

والينا شوارق العلم منكم

تتجلّى فنهتدي بهداها

١٥٠

وجميل اصطباركم بشّر الله

به الصابرين في أُخراها

قدس الله تربة عطّرتها

بنت خير الورى بنشر تقاها

لا عداها صوب الغوادي لأني

قلت أرخ ( صوب الغوادي سقاها )

وفي المخطوطة قصيدة اخرى يرثي بها السيد علي الموسوي ويعزي ولده السيد عباس الخطيب سنة 1316 وأولها:

تخطّى الردى في فيلق منه جرار

اليه فأخلى أُجمة الأسد الضاري

كتب عنه الدكتور البصير في مؤلفه ( نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر ) فقال: أخبرني شاهد عيان ثقة أن حانوته الصغير كان ندوة أدب خطيرة الشأن ـ ذلك لأنه كان يطلع تلاميذه من صغار الحاكة على خير ما يقرأ وخير ما ينظم ويرشدهم الى ما في هذا كله من سحر وجمال وفن وصناعة. وكان عارفو فضله من أهل العلم والأدب يختلفون إلى حانوته دائماً يستمتعون بحديثه العذب وأدبه الغض.

توفيرحمه‌الله سنة 1319 ولم يتجاوز الخامسة والأربعين. أما صفاته فقد كان أبيّاً وفياً ذكيّ القلب خفيف الروح بارع النكتة شديد التأمل في شعره كثير التنقيح له، قرض الشعر وهو عامل بسيط فلم تحدثه نفسه في يوم من الأيام أن يتخذه وسيلة لجرّ المغانم وكسب الجوائز ولو أراد هذا لكان ميسوراً سهلاً، ولكنه أبى إلا أن يصطنع الأدب للأدب وأن يقرض الشعر للشعر. ولذلك كان شعره رثاءً لأهل البيت أو غزلاً أو تهنئة لصديق أو مديحاً أو رثاء له، أو نكتة تستدعيها مناسبة طريفة، وللتدليل على ذلك نذكر إحدى طرفه وذلك أنه عاده في مرضه جمع من الأصدقاء وجاء أحد الثقلاء يهمّه أن يتكلم ولا يهمه أن يكون كلامه مفيداً ام غير مفيد مقبولاً أم غير مقبول، فأكثر من الهذيان إلى أن قال: أكثر ما يؤذيك شدّة الحر ـ وكان الفصل صيفاً ـ فأجابه شاعرنا قائلاً: وكثرة الهذيان.

١٥١

ومن درره هذه المرثية الحسينية التي أشرنا اليها:

عطن بذات الرمل وهو قديم

حنت بواديه الخماص الهيم

وتذكرت بالأنعمين مرابعاً

خضر الأديم ونبتهن عميم

أيام مرتبع الركائب باللوى

خضل وماء الواديين جميم

ومن العذيب تخب في غلس الدجى

بالمدلجات مسومات كوم

والركب يتبع ومضة من حاجر

فكأنه بزمامها مخطوم

سل أبرق الحنّاء عن أحبابنا

هل حيهم بالأبرقين مقيم

والثم ثرى الدار التي بجفونها

يوم الوداع ترابها ملثوم

واحلب جفونك ان طفل نباتها

عن ضرع غادية الحيا مفطوم

عجباً لدار الحي تنتجع الحيا

وأخو الغوادي جفني المسجوم

ومولّع باللوم ما عرف الجوى

سفهاً يعنف واجداً ويلوم

فأجبته والنار بين جوانحي

دعني فرزئي بالحسين عظيم

أنعاه مفطور الفؤاد من الظما

وبنحره شجر القنا محطوم

جمّ المناقب منه يضرب للعلا

عرق بأعياص الفخار كريم

فلقد تعاطى والدماء مدامة

ولقد تنادم والحسام نديم

في حيث أودية النجيع يمدّها

بطل بخيل الدارعين يعوم

يغشى الطريد شبا الحسام ورأسه

قبل الفرار أمامه مهزوم

لبّاس محكمة القتير مفاضة

يندق فيها الرمح وهو قويم

يعدو وحبات القلوب كأنها

عقد بسلك قناته منظوم

ومضى يريد الحرب حتى أنه

تحت اللواء يموت وهو كريم

واختار أن يقضي وعمّته الضبا

فيها وظِلته القنا المحطوم

وقضى بيوم حيث في سمر القنا

قِصدٌ وفي بيض الضبا تثليم

ثاوٍ بظل السمر يشكر فعله

في الحرب مصرعه بها المعلوم

١٥٢

فدماؤه مسفوكة وحريمه

مهتوكة وتراثه مقسوم

عجباً رأى النيران بابن قسيمها

برداً خليل الله ابراهيم

وابن النبي قضي بجمرة غلة

منها يذيب الجامدات سموم

وكريمة الحسبين بابن زعيمها

هتفت عشية لا يجيب زعيم

هتكوا الحريم وأنت أمنع جانباً

بحميةٍ فيها تصان حريم

ترتاع من فزع العدو يتيمة

ويأن من ألم السياط يتيم

تطوي الضلوع على لوافح زفرة

خرساء تقعد بالحشا وتقوم

في حيث قدر الوجد يوقد نارها

ملؤ الجوانح زفرة وهموم

فتعج بالحادي ومن أحشائها

جمعت شظايا ملؤهن كلوم

إما مررت على جسوم بني أبي

دعني ولولوث الأزار أقيم

وأرواح ألثم كل نحرٍ منهم

قبلي بأفواه الضبا ملثوم

وأشمّ من تلك النحور لطائماً

فيهن خفاق النسيم نموم

وبرغمهم أسري وأترك عندهم

كبداً ترف عليهم وتحوم

أنعى بدوراً تحت داجية الوغى

يطلعن فيها للرماح نجوم

أكل الحديد جسومهم ومن القنا

صارت لأرؤوسهم تنوب جسوم

ماتوا ضرباً والسيوف بوقفة

فيها لأظفار القنا تقليم

ومشوا لها قدماً وحائمة الردى

لهم بأجنحة السيوف تحوم

وقضوا حقوق المجددون مواقف

رعفت بهنّ أسنة وكلوم

* * *

١٥٣

وله في الامام الحسينعليه‌السلام :

بأيّ حمى قلب الخليط مولع

وفي أي واد كاد صبرك ينزع

وقفن بها لكنها أيّ وقفة

وجدن قلوباً قد جرت وهي ادمع

ترجّع ورقاء الصدى في عراصها

فتنسيك مَن في الأيك باتت ترجّع

مضت ومضى قلب المشوق يؤمها

فلا نأيها يدنو ولا القلب يرجع

فأسرعت دمعي فيهم حيث أسرعوا

وودعت قلبي فيهم حيث ودعوا

كأن حنيني وانصباب مدامعي

زلازل إرعاد به الغيث يهمع

جزعت ولكن لا لمن كان ركبهم

ولولاك يوم الطف ما كنت أجزع

قضت فيك عطشى من بني الوحي فتية

سقتها العدى كأس الردى وهو مترع

بيوم أهاجوا للهياج عجاجة

تضيّع وجه الشمس من حيث تطلع

بفيض نجيع الطعن والسمر شرّع

ويسود ليل النقع والبيض لمّع

بخيل سوى فرسانها ليس تبتغي

وقوم سوى الهيجاء لا تتوقع

تجرد فوق الجرد في كل غارة

حداد سيوف بينها الموت مودع

عليها من الفتيان كل ابن بجدة

يردّ مريع الموت وهو مروع

أحب اليها في الوغى ما يضرها

إذا كان من مال المفاخر ينفع

وما خسرت تلك النفوس بموقف

يحافظ فيها المجد وهي تضيع

تُدفّع من تحت السوابق للقنا

نفوساً بغير الطعن لا تتدفع

كأن رماح الخط بين أكفهم

أراقم في أنيابها السمّ منقع

ولما أبت إلا المعالي بمعرك

به البيض لا تحمي ولا الدرع تمنع

هوت في ثرى الغبرا ولكن سما لها

على ذروة العلياء عزٌ مرفّع

فبين جريح فهو للبيض أكلة

وبين طعين وهو للسمر مرتع

ثوت حيث لا يدري بيوم ثوائها

اصيبت اسود ام بنو الوحي صرّع

فمنعفر خداً وصدر مرضض

ومختضبٌ نحراً وجسم مبضع

١٥٤

كأني بها في كربلا وهي كعبة

سجود عليها البيض والسمر ركع

فيا لوجوه في ثرى الطف غيبت

ومن نورها ما في الأهلة يسطع

ولما تعرّت بالعراء جسومها

كساها ثياباً مجدها ليس ينزع

وظمآنة كادت تروي غليلها

بأدمعها لو كان يروي وينقع

فذا جفنها قد سال دمعاً وقلبها

بكف الرزايا بات وهو موزع

هوت فوق أجساد رأت في هوّيها

حشاشتها من قلبها فهي وقّع

تبيت رزايا الطف تأسر قلبها

وتطلقه أجفانها وهي أدمع

فيا منجد الاسلام إن عز منجد

ويا مفزع الداعي إذا عزّ مفزع

حسامك من ضرب الرقاب مثلّمٌ

ورمحك من طعن الصدور مصدّع

فما خضت بحر الحتف إلا وقد طغى

بهام الأعادي موجه المتدفع

إذا حسرت سود المنايا لثامها

وللشمس وجه للغبار مقنع

ولم أدر يوم الطعن في كل موقف

قناتك ام طير القرى فيه اطمع

فجمعت شمل الدين وهو مفرق

وفرقت شمل الشرك وهو مجمع

إذا لم تفدهم خطبة سيفك اغتدى

خطيباً على هاماتهم وهو مصقع

له شعلة لو يطلب الأفق ضوءها

لأبصرت شمساً لم تغب حين تطلع

ولو كان سمعٌ للصوارم لاغتدى

مجيباً إلى داعي الوغى وهو مسرع

وقفتَ وقد حمّلتَ ما لو حملنَه

الجبال الرواسي أوشكت تتصدع

ورحّبتَ صدراً في امور لو أنها

سرت بين رحب ضاق وهو موسّع

بحيث الرماح السمهريات تلتوي

عليك وبيض المشرفيات تلمع

فلا عجب من هاشم حيث لم تكن

تذب بيوم الطف عنك وتدفع

إذا ضيعوا حتى الوصي ولم تقم

بنصرته فاليوم حقك أضيع

تشيّع ذكر الطف وقعتك التي

بقيت لديها عافراً لا تشيّع

لقد طحنت أضلاعك الخيل والقنا

بجنبك يوم الطعن فيهن ضلّع

١٥٥

فنحرك منحور وصدرك موطأ

ورأسك مشهور وجسمك مودع

إذا لم تضيّع حق عهد جفوننا

عليك فعهد الصبر منا مضيع

وإن جف صوب الدمع باتت قلوبنا

لهن عيون في مصابك تدمع

وإن أدركت بالطف وترك هاشم

فلا المجد منحط ولا الأنف أجدع

تروّي القنا الخطار وهي عواطش

وتشبع ذؤبان الفلا وهي جوّع

تدافع عن خدر التي قد تقنعت

بسوط العدى اذلا حماة تقنّع

أموقع يوم الطف أبقيت حرقة

لها كل آن بين جنبيّ موضع

سأبكيك دهري ما حييت وإن أمت

فلي مقلة عبرى وقلب مفجّع

بنفسي أوصال المكارم واصلت

سيوف العدى حتى انحنت تتقطع

مصارعها في كربلا غير أنها

لها كل آنٍ نصب عينيّ مصرع

* * *

١٥٦

الشيخ محمد سعيد السكافي

المتوفى 1319

يقلّ لدمعي دماً أن يصوبا

وللقلب مني أسىً أن يذوبا

لما قد ألمّ بآل النبي

فأجرى الدموع وأورى القلوبا

ولا مثل يومهم في الطفوف

فقد كان في الدهر يوماً عصيبا

غداة حسين وخيل العدى

تسدّ عليه الفضاء الرحيبا

دعته لينقاد سلس القياد

وتأبى حميته أن يجيبا

فهبّ لحربهم ثائراً

بفتيان حرب تشبّ الحروبا

فمن كل ليث وغىً تتقي

له في الوغى الاسد بأساً مهيبا

وأروع يغشى الوغى باسما

ووجه المنية يبدي قطوبا

فكم ثلمت للمواضي شبا

وكم حطمت للعوالي كعوبا

إلى أن ثوت في الثرى جثّما

تضوّع من نشرها الترب طيبا

وأضحى فريداً غريب الديار

بنفسي أفدي الفريد الغريبا

فراح يخوض غمار الحتوف

ونار حشاه تشبّ لهيبا

وأضحى بجنب العرى عاريا

كسته الأعاصير برداً قشيبا

وسيقت حرائره كالإماء

تجوب حزونا وتطوي سهوبا

ويا رب نادبة والحشى

يكاد بنار الجوى أن يذوبا

أريحانة المصطفى هل ترى

درى المصطفى بك شلواً سليبا

يعز على المصطفى أن يرى

على الترب خدك أمسى تريبا

١٥٧

يعزّ على المصطفى أن يرى

بقاني الدما لك شيباً خضيبا

يعزّ على المصطفى أن يرى

بأيدي العدى لك رحلاً نهيبا

ألانت قناتي يد الحادثا

ت وقد كان عود قناتي صليبا

فهل لليالي بهم أوبة

وهيهات ما قد مضى أن يؤوبا

* * *

الشيخ محمد سعيد الاسكافي ابن الشيخ محمود بن سعيد النجفي الشهير بالاسكافي شاعر مبدع وأديب له شهرته في عصره، ولد في النجف الأشرف 14 رجب 1250 ه‍ ترجم له صاحب الحصون المنيعة نقلاً عن ( كنز الأديب في كل فن عجيب ) تأليف الشيخ أحمد بن الحاج درويش علي الحائري البغدادي المتوفى 1322 فقال: الشيخ محمد سعيد ابن الشيخ محمود الشاعر، الجامع لاشتات المفاخر، كانت لابائه نيابة التولية والنظارة في الحضرة المنورة الحيدرية حينما كان الخازن لها هو المتولي للحكومة السنية في النجف برهة من الزمن وهو الملا يوسف، ثم تغيرت الأحوال بعد وفاة أبيه وابن عم أبيه فصرفت عنهم هذه التولية. توفي والده الشيخ محمود بعد ولادة المترجم له بسنتين وشبّ الصبي وترعرع وتدرج على الأدب والعلم باللغتين الفارسية والعربية ومن أوائل نظمه قوله:

وأخ وفيٌ لا أُطيق فراقه

حكم الزمان بأن أراه مفارقي

بان الأسى مذبان وابيضت أسى

لنواه سود نواظري ومفارقي

ومما يجدر ذكره أنه من اسرة تعرف ب‍ ( آل الحاج علي هادي ) ولم يكن من آل السكافي ( البيت النجفي المعروف ) وإنما يتصل بالقوم من طريق الخؤلة، ومما يتحدث به المعمرون من أسرته التي أشرنا اليها أن أصلهم يرجع إلى الملوك البويهيين الذين ملكوا العراق في غرة القرن الرابع وأنشأوا العمارات الضخمة في النجف وغيرها من العتبات المقدسة، وإذا صحّ ذلك فهم من أقدم البيوت

١٥٨

التي تقطن النجف زهاء الف عام، وتوجد عند بقيتهم صكوك رسمية ( فرامين ) يتوارثونها خلفاً عن سلف قد صودق عليها من قبل الشاهات الصفويين والسلاطين العثمانيين تدل على قدمهم في النجف ورسوخ قدمهم في خدمة الروضة العلوية.

وشاعرنا المترجم له نال هذه الملكة الأدبية بحكما لتربية وأثرها من خاله الذي نشأ في حجره وهو الشاعر المعروف الشيخ عباس بن الملا علي المتوفى سنة 1276 ومن ثمة تجد شاعرنا هذا يسلك في شعره طريقة خاله في الرقة والجزالة وحسن السبك وسرعة البديهة ومن غزله قوله متغزلاً ومتحمساً وقد كتبه بخطه الجيد فانه خطاط مليح الخط قال:

تذكرت عهداً بالحمى راق لي دهرا

فهاجت تباريح الغرام لي الذكرى

وأومض من وادي الغضا لمع بارق

فأذكى لنيران الغضا في الحشا جمرا

فيا حبذا تلك المغاني وإن نأت

وياما أُحيلى العيش فيها وإن مرّا

فيا طالما بالانس كانت أواهلا

وان هي أمست بعد موحشة قفرا

عشية عاطاني المدامة شادن

أغنّ غضيض الطرف ذو غرة غرا

حكى الغصن قداً والجأذر لفتة

وعين ألمها عيناً وبيض الضبا نحرا

فبتنا وقد مدّ الظلام رواقه

علينا وأرخى من جلابيبه سترا

وقد هدأت عنا العيون وهوّمت

سوى أن عين النجم ترمقنا شزرا

من العدل يا ظبي الصريمة أن ترى

وصالي حراماً في الهوى ودمي هدرا

لقد هنت قدراً في هواك وإنني

لأعلى الورى كعباً وأرفعهم قدرا

ويا رب لاح قط ما خامر الهوى

حشاه ولا فاضت له مقلة عبرى

يلوم فلم أرع المسامع عذله

كأن باذني عند تعنيفه وقرا

وهيهات يصغى للملامة وامق

معنّى الحشى مضنى أخو كبد حرى

وقائلة مالي أراك مشمراً

لجوب القفار البيد توسعها مسر

تجوب الفلا أو تركب البحر جاهداً

فلم تتئد أن تقطع البر والبحرا

١٥٩

فقلت لها كفيّ الملامة إنما

هلال الدجى لولا السرى لم يكن بدرا

سأفرى نحور البيد شرقاً ومغربا

وأقطع من أجوازها السهل والوعرا

لأمنية أحظى بها أو منية

فان لم تك الاولى فيا حبذا الاخرى

وللشاعر ديوان جمعه في حياته وروى لنا الأخ الخاقاني في ( شعراء الغرى ) طائفة من روائعه، أقول واختار شاعرنا لنفسه أن يسكن في إحدى المدارس الدينية ويعيش عيشة طلاب العلم الروحيين فقضى شطراً من حياته في مدرسة ( البقعة ) بكربلاء المقدسة حتى استأثرت بروحه الرحمة الالهية وحيداً لا عقب له ودون أن يتزوج وذلك ليلة الاربعاء سلخ ربيع الأول سنة 1319 ه‍ ودفن في صحن الإمام الحسين (ع) وكان عمره 69 عاماً.

ومن رثائه للحسين (ع):

معاهدهم بالسفح من أيمن الحمى

سقاهن وجافّ الغمام إذا همى

وقفت بها كيما أبثّ صبابتي

فكان لسان الدمع عنها مترجما

دهتها صروف الحادثات فلم تدعد

بها أثراً إلا طلولاً وأرسما

بلى إنها الأيام شتى صروفها

إذا ما رمت أصمت ولم تخط مرتمى

وليس كيوم الطف يوم فإنه

أسال من العين المدامع عندما

غداة استفزت آل حرب جموعها

لحرب ابن من قد جاء بالوحي معلما

فلست ترى إلا أصمّ مثقفاً

وأبيض إصليتا وأجرد أدهما

أضلّت عداها الرشد والهدي والحجى

وباعت هداها يوم باعته بالعمى

أتحسب أن يستسلم السبط ملقياً

اليها مقاليد الامور مسلّما

ليوث وغىً لم تتخذ يوم معرك

بها أجماً إلا الوشيج المقوّما

ولم ترض غير الهام غمداً إذا انتضت

لدى الروع مشحوذ الغرارين مخذما

ومذ عاد فرد الدهر فرداً ولم يجد

له منجداً إلا الحسام المصمما

رمى الجيش ثبت الجأش منه بفيلق

يردّ لُهام الجيش أغبر أقتما

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الصفحة ٨٠٣

والغرض من إطالة الكلام هنا أن بعضهم تخيل: أن المرجحات المذكوره في كلماتهم للخبر من حيث السند او المتن، بعضها يفيد الظن القوي، وبعضها يفيد الظن الضعيف، وبعضها لا يفيد الظن أصلا.

فحكم بحجية الاوليين واستشكل في الثالث، من حيث أن الاحوط الاخذ بما فيه المرجح، ومن إطلاق أدلة التخييرن وقوى ذلك بناء على أنه لا دليل على الترجيح بالامور التعبدية في مقابل إطلاقات التخيير.

وأنت خبير بأن جميع المرجحات المذكورة مفيدة للظن الشأني بالمعنى الذي ذكرنا.

وهو أنه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان إحتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه.

وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين فليس في المرجحات المذكورة ما يوجب الظن بكذب أحد الخبرين، ولو فرض أن شيئا منها كان في نفسه موجبا للظن بكذب الخبر كان مسقطا للخبر عن درجة الحجية ومخرجا للمسأله عن التعارض، فيعد ذلك الشئ موهنا لا مرجحا، إذ فرق واضح عند التأمل بين ما يوجب في نفسه مرجوحية الخبر وبين ما يوجب مرجوحيته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع.

وأما ما يرجع إلى المتن فهي أمور: منها: الفصاحة، فيقدم الفصيح على غيره، لان الركيك أبعد من كلام المعصوم، عليه السلام، إلا أن يكون منقولا بالمعنى.

ومنها: الافصحية، ذكره جماعة خلافا للاخرين.

وفيه تأمل، لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام المعصوم الامام، ولا الافصح أقرب إليه في مقام بيان الاحكام الشرعية.

ومنها: إضطراب المتن، كما في بعض روايات عمار.

ومنها كون أحدهما منقولا باللفظ والاخر منقولا بالمعنى، إذ يحتمل في المنقول بالمعنى أن يكون المسموع من الامام، عليه السلام، لفظا مغايرا لهذا اللفظ المنقول إليه.ومرجع الترجيح بهذه إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدورا من متن الاخر.

وعلل بعض المعاصرين الترجيح لمرجحات المتن بعد أن عد هذه منها بأن مرجع ذلك إلى الظن بالدلالة.

وهو مما لم يختلف فيه علماء الاسلام وليس مبنيا على حجية مطلق الظن المختلف فيه.

ثم ذكر في المرجحات المتن النقل باللفظ والفصاحة والركاكة، والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى

٤٠١

الصفحة ٨٠٤

المقروء عليه، والجزم بالسماع من المعصوم، عليه السلام، على غيره، وكثيرا من أقسام مرجحات الدلالة، كالمنطوق والمفهوم والخصوص والعموم ونحو ذلك.

وأنت خبير بأن مرجع الترجيح بالفصاحة والنقل باللفظ إلى رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الاخر.

فالدليل عليه هو الدليل على إعتبار رجحان الصدور، وليس راجعا إلى الظن في الدلالة المتفق عليه بين علماء الاسلام.

وأما مرجحات الدلالة، فهي من هذا الظن المتفق عليه، وقد عدها من مرجحات المتن جماعة كصاحب الزبذة وغيره.

والاولى ما عرفت، من أن هذه من قبيل النص الظاهر والظاهر والاظهر، ولا تعارض بينهما ولا ترجيح في الحقيقة، بل هي من موارد الجمع المقبول، فراجع.

وأما الترجيح من حيث وجه الصدور بأن يكون احد الخبرين مقرونا بشئ يحتمل من أجله أن يكون الخبر صادرا على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم الله الواقعي من تقية أو نحوها من المصالح.

وهي وإن كانت غير محصورة في الواقع إلا أن الذي بأيدينا أمارة التقية، وهي مطابقة ظاهر الخبر لمذهب أهل الخلاف، فيحتمل صدور الخبر تقية عنهم احتمالا غير موجود في الخبر الاخر.

قال في العدة: (إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد عمل بأبعدهما من قول العامة وترك العمل بما يوافقه)(١)، إنتهى.

وقال المحقق في المعارج، بعد نقل العبارة المتقدمة عن الشيخ: (والظاهر أن احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق، عليه السلامن وهو إثبات مسالة علمية بخبر الواحد.

ولا يخفى عليك ما فيه، مع أنه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالممفيد وغيره.

فإن احتج بأن الابعد لا يحتمل إلا التقوى، والموافق للعامة يحتمل التقية، فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل.

____________________

(١) عدة الاصول ص ٦٠.

٤٠٢

الصفحة ٨٠٥

قلنا: لا نسلم أنه لا يحتمل إلا الفتوى، لانه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الامام، عليه السلام، كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الامام، عليه السلام، وإن كنا لا نعلم ذلك.

فإن قال: إن ذلك يسد باب العمل بالحديث.

قلنا: إنما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقا فلا يلزمم سد باب العمل)(١)، إنتهى كلامه رفع مقامه.

* * *

أقول: توضيح المرام في هذا المقام أن ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامة يمكن أن يكون بوجوه:

أحدها: مجرد التعبد، كما هو ظاهر كثير من أخباره، ويظهر من المحقق إستظهاره من الشيخ قدس سرهما.

الثاني: كون الرشد في خلافهمم، كما صرح به في غير واحد من الاخبار المتقدمة ورواية علي بن أسباط: (قال: قلت للرضا عليه السلام: يحدث الامر، لا أجد بدا من معرفته، وليس في البلد الذي انا فيه أحد أستفتيه من مواليك.

فقال: إئت فقيه البلد واستفته في أمرك.فإذا افتاك بشئ فخذ بخلافه.فإن الحق فيه)(٢).

وأصرح من ذلك كله خبر أبي إسحاق الارجاني: (قال: قال أبوعبدالله، عليه السلام: أتدري لم أمرتم بالاخذ بخلاف ما يقوله العامة؟ فقلت: لا أدري.

فقال: إن عليا، صلوات الله عليه، لم يكن يدين الله بشئ إلا خالف عليه العامة، إرادة لابطال أمره، وكانوا يسألونه، صلوات الله عليه، عن الشئ الذي لا يعلمونه.فإذا أفتاهم بشئ جعلوا له ضدا من عندهم ليلبسوا على الناس)(٣).

الثالث: حسن مجرد المخالفة لهم.

فمرجع هذا المرجح ليس الاقربية إلى الواقع، بل هو نظير ترجيح دليل الحرمة على الوجوب، ودليل الحكم الاسهل على غيره.

ويشهد لهذا الاحتمال بعض الروايات، مثل قوله عليه السلام في مرسلة داود بن الحصين: (إن من وافقنا خالف عدونا، ومن وافق عدونا في قول أو عمل فليس منا ولا نحن منه)(٤).

____________________

(١) معارج الاصول، ص ١٥٦.

(٢) عيون أخبار الرضا، ج ١، ص ٢٧٥.

(٣) علل الشرائع، ج ٢، ص ٢١٨.

(٤)

٤٠٣

الصفحة ٨٠٦

ورواية الحسين بن خالد: (شيعتنا: المسلمون لامرنا، الآخذون بقولنا، المخالفون لاعدائنا.

فمن لم يكن ذلك فليس منا.

فيكون حالهم حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى الله عليه وآله: خالفوهم ما استطعتم)(١).

الرابع: الحكم بصدور الموافق تقية.

ويدل عليه قوله عليه السلام في رواية: (ما سمعته مني يشبه قول الناس ففيه التقية، وما سمعته مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه)(٢).

بناء على أن المحكي عنه، عليه السلام، مع عدالة الحاكي كالمسموع منه، وأن الرواية مسوقة لحكم المتعارضين، وأن القضية غالبية، لكذب الدائمة.

أما (الوجه الاول)، فمع بعده عن مقام ترجيح أحد الخبرين المبني اعتبارهما على الكشف النوعي، ينافيه التعليل المذكور في الاخبار المستفيضة المتقدمة.

ومنه يظهر ضعف (الوجه الثالث)، مضافا إلى صريح رواية أبي بصير عن ابي عبدالله عليه السلام، قال: (ما أنتم والله على شئ مما هو فيه، ولا هم على شئ مما أنتم فيه، فخالفوهم، فإنهم ليسوا من الحنفية على شئ)(٣) فقد فرع الامر بمخالفتهم على مخالفة أحكامهم للواقع، لا مجرد حسن المخالفة.

فتعين (الوجه الثاني)، لكثرة ما يدل عليه من الاخبار.

أو (الوجه الرابع)، للخبر المذكور وذهاب المشهور.

إلا أنه يشكل (الوجه الثاني): بأن التعليل المذكور في الاخبار بظاهره غير مستقيم، لان خلافهم ليس حكما واحدا حتى يكون هو الحق.وكون الحق والرشد فيه بمعنى وجوده في محتملاته لا ينفع في الكشف عن الحق.

نعم ينفع في الابعديه عن الباطل لو علم أو احتمل غلبة الباطل على أحكامهم وكون الحق فيها نادرا.ولكنه خلاف الوجدان.ورواية أبي بصير المتقدمة وإن تأكد مضمونها بالحلف.

لكن لا بد من توجيهها، فيرجع الامر إلى التعبد بعلة الحكم، وهو أبعد من التعبد بنفس الحكم.

و (الوجه الرابع): بأن دلالة الخبر المذكور عليه لا يخلو عن خفاء، لاحتمال أن يكون المراد من شباهة أحد الخبرين بقول الناس كونه متفرعا على قواعدهم الباطلة.

مثل تجويز الخطأ على المعصومين من الانبياء والائمة، عليهم السلام، عمدا أو سهوا والجبر والتفويض ونحو ذلك.

وقد أطلق

____________________

(١) صفات الشيعة، ص ٤٥.

(٢) تهذيب الاحكام، ج ٨، ص ٩٨.

(٣) وسائل الشيعة، ج ١٨، ص ٨٥.

٤٠٤

الصفحة ٨٠٧

الشباهة على هذا المعنى في بعض أخبار العرض على الكتاب والسنة، حيث قال: (فإن أشبههما فهو حق، وإن لم يشبههما فهو باطل) وهذا الحمل أولى من حمل القضيه على الغلبة لا الدوام بعد تسليم الغلبة.

ويمكن دفع الاشكال في (الوجه الثاني) عن التعليل في الاخبار: بوروده على الغالب من إنحصار الفتوى في المسألة على الوجهين، لان الغالب أن الوجوه في المسألة إذا كثرت كانت العامة مختلفين، ومع إتفاقهم لا يكون في المسألة وجوه متعددة.

ويمكن أيضا الالتزام بما ذكرنا سابقا، من غلبة الباطل في أقوالهم، على ما صرح به في رواية الارجاني المتقدمة.

وأصرح منها ما حكي عن أبي حنيفة من قوله: (خالفت جعفرا في كل ما يقول إلا أني لا أدري أنه يغمض عينيه في الركوع والسجود او يفتحهما).وحينئذ فيكون خلافهم أبعد من الباطل.

ويكن توجبه (الوجه الرابع): بعدم إنحصار دليله في الرواية المذكوره، بل الوجه فيه هو ما تقرر في باب التراجيح واستفيد من النصوص والفتاوى من حصول الترجيح بكل مزية في احد الخبرين يوجب كونه أقل أو أبعد إحتمالا لمخالفة الواقع من الاخر.

ومعلوم أن الخبر المخالف لا يحتمل فيه التقية، كما يحتمل في الموافق، على ما تقدم من المحقق قدس سره، فمراد المشهور من حمل الخبر الموافق على التقية ليس كون الموافقة أمارة على صدور الخبر تقية، بل المراد أن الخبرين لما إشتركا في جميع الجهات المحتملة لخلف الواقع عدى إحتمال الصدور تقية المختص بالخبر الموافق تعين العمل بالمخالف وانحصر محمل الخبر الموافق المطروح في التقية.

وأما ما أورده المحقق من معارضة إحتمال التقية بإحتمال الفتوى على التأويل ففيه: أن الكلام فيما إذا إشترك الخبران في جميع الاحتمالات المتطرقة في السند والمتن والدلالة، فإحتمال الفتوى على التأويل مشترك.

كيف ولو فرض إختصاص الخبر المخالف بإحتمال التأويل وعدم تطرقه في الخبر الموافق، كان اللازم إرتكاب التأويل في الخبر المخالف، لما عرفت من أن النص والظاهر لا يرجع فيهما إلى المرجحات.

وأما ما أجاب به صاحب المعالم عن الايراد بأن إحتمال التقية في كلامهم أقرب وأغلب ففيه، مع إشعاره بتسليم ما ذكره المحقق من معارضة إحتمامل التقية في الموافق بإحتمال التأويل،

____________________

(١) تفسير العياشي، ج ١، ص ٩، ح ٧، وسائل الشيعة، ج ١٨، ص ٨٩، ح ٣٣٣٦٥.

٤٠٥

الصفحة ٨٠٨

مع ما عرفت من خروج ذلك عن محل الكلام، منع أغلبية التقية في الاخبار من التأويل.

ومن هنا يظهر: أنا ما ذكرنا من الوجه في رجحان الخبر المخالف مختص بالمتباينين.

وأما في ما كان من قبيل العامين من وجه بأن كان لكل واحد منهما ظاهر يمكن الجمع بينهما بصرفه عن ظاهره دون الاخر.فيدور الامر بين حمل الموافق منهما على التقية والحكم بتأويل أحدهما ليجتمع مع الاخر.

مثلا إذا ورد الامر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه، وورد كل شئ يطير لا بأس بخرئه وبوله، فدار الامر بين حمل الثاني على التقية وبين الحكم بتخصيص أحدهما لا بعينه، فلا وجه لترجيح التقية، لكونها في كلام الائمة ن عليهم السلام، أغلب من التخصيص.

فالعمدة في الترجيح بمخالفه العام، بناء على ما تقدم من جريان هذا المرجح.

وشبهه في هذا القسم من المتعارضين هو ما تقدم من وجوب الترجيح، لكون مزية في أحد المتعارضين.

وهذا موجود فيما نحن فيه، لان إحتمال مخالفة الظاهر قائم في كل منهما والمخالفة للعامة مختص بمزية مفقودة في الاخر، وهو عدم إحتمال الصدور.

فتلخص مما ذكرنا: أن الترجيح بالمخالفة من أحد وجهين، على ما يظهر من الاخبار.

أحدهما: كونه أبعد عن الباطل وأقرب إلى الواقع، فيكون مخالفة الجمهور نظير موافقه المشهور من المرجحات المضمونية، على ما يظهر من أكثر أخبار هذا الباب.

والثاني: من جهة كون المخالف ذا مزية، لعدم إحتمال التقية.ويدل عليه ما دل على الترجيح بشهرة الرواية معللا بأنه لا ريب فيه بالتقريب المتقدم سابقا.ولعل الثمرة بين هذين الوجهين يظهر لك في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

٤٠٦

الصفحة ٨٠٩

بقي في هذا المقام أمور:

الاول: أن الخبر الصادر تقية، يحتمل أن يراد به ظاهره فيكون من الكذب المجوز لمصلحة، ويحتمل أن يراد منه تأويل مختف على المخاطب فيكون من قبيل التورية.

وهذا أليق بالامام، عليه السلام، بل هو اللائق له، إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكن من التورية.

الثاني: أن بعض المحدثين، كصاحب الحدائقن وإن لم يشترط في التقيه موافقة الخبر لمذهب العامة، لاخبار تخيلها دالة على مدعاه سليمة عما هو صريح في خلاف ما ادعاه، إلا أن الحمل على التقية في مقام الترجيح لا يكون إلا مع موافقة أحدهما، إذ لا يعقل حمل أحدهما بالخصوص على التقية، إذا كانا مخالفين لهم.

فمراد المحدث المذكور ليس الحمل على التقية مع عدم الموافقة في مقام الترجيح.

كما أورده عليه بعض الاساطين في جملة المطاعن على ما ذهب إليه من عدم إشتراط الموافقة في الحمل على التقية.

بل المحدث المذكور لما أثبت في المقدمة الاولى من مقدمات الحدائق خلو الاخبار عن الاخبار المكذوبة، لتنقيحها وتصحيحها في الازمنة المتأخره، بعد أن كانت مغشوشة مدسوسة، صح للقائل ان يقول: فما بال هذه الاخبار المتعارضة التي لا تكاد تجتمع.

فبين في المقدمة الثانية دفع هذا السؤال بأن معظم الاختلاف من جهة إختلاف كلمات الائمه، عليهم السلام، مع المخاطبين، وأن الاختلاف إنما هو منهم، عليهم السلام، واستشهد على ذلك بأخبرا زعمها دالة على أن التقية كما تحصل ببيان ما يوافق العامة، كذلك تحصل بمجرد إلقاء الخلاف بين الشيعة كيلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم.

وهذا الكلام ضعيف، لان الغالب إندفاع الخوف بإظهار الموافقه مع الاعداء.

وأما الاندفاع بمجرد رؤية الشيعة مختلفين منع إتفاقهم على مخالفتهم فهو وإن أمكن حصوله أحيانا لكنه نادر جدا، فلا يصار إليه في جل الاخبار المختلفة، مضافا إلى مخالفته لظاهر قوله، عليه السلام، في الرواية

٤٠٧

الصفحة ٨١٠

المتقدمة: (ما سمعت مني يشبه قول الناس ففيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه).

فالذي يقتضيه النظر على تقدير القطع بصدور جميع الاخبار التي بأيدينا على ما توهمه بعض الاخباريين، والظن بصدور جميعها إلا قليل في غاية القلة، يقتضيه الانصاف ممن إطلع على كيفية تنقيح الاخبار وضبطها في الكتب وهو أن يقال: إن عمدة الاختلاف إنما هي كثره إرادة خلاف الظواهر في الاخبار إما بقرائن متصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الاخبار او نقلها بالمعنى أو منفصلة مختفية من جهة كونها حالية معلومة للمخاطبين أو مقالية إختفت بالانطماس، وإما بغير القرينة لمصلحة يراها الامام، عليه السلام، من تقية، على ما اخترناه من أن التقيه، على وجه التورية أو غير التقية من المصالح الاخر.

وإلى ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ، قدس سره، في الاستبصار من إظهار إمكان الجمع بين متعارضات الاخبار بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلى معنى بعيد.

* * *

وربما يظهر من الاخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب مما ذكره الشيخ تشهد بأن ما ذكره الشيخ من المحامل غير بعيد عن مراد الامام، عليه السلام، وإن بعدت عن ظاهر الكلام إلا أن يظهر فيه قرينة عليها: فمنها: ما روي عن بعضهم صلوات الله عليهم: (لما سأله بعض أهل العراق وقال: كم آية تقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه السلام: ثمانون.ولم يعد السائل.

فقال عليه السلام: هذا يظن أنه من أهل الادراك.

فقيل له عليه السلام: ما أردت بذلك ومان هذه الايات؟ فقال: أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال، فإن الحمد والتوحيد لا يزيد على عشر آيات، ونافله الزوال ثمان ركعات)(١).

ومنها: ما روي من: (أن الوتر واجب)، فلما فرغ السائل واستفسر، قال عليه السلام: (إنما عنيت وجوبها على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم)(٢).

ومنها: تفسير قولهم عليهم السلام: (لا يعيد الصلاة ففيه بخصوص الشك بين الثلاث والاربع)(٣).

ومثله تفسير وقت الفريضة في قولهم، عليهم السلام: (لا تطوع في وقت الفريضة)(٤)،

____________________

(١) الكافي (الفروع)، ج ٣، ص ٣١٤.مع اختلاف.

(٢) راجع: تهذيب الاحكام، ج ٢، ص ١٢١ و ٢٤٣.

(٣) تهذيب الاحكام، ج ٢، ص ١٩٣.المقنع، ص ٩.

(٤) تهذيب الاحكام، ج ٢ ص ٣٤٠.

٤٠٨

الصفحة ٨١١

بزمان قول المؤذن: (قد قامت الصلاة)، إلى غير ذلك مما يطلع عليه المتتبع.

ويؤيد ما ذكرنا من أن عمدة تنافي الاخبار ليس لاجل التقيه ما ورد مستفيضا من عدم جواز رد الخبر وإن كان مما ينكر ظاهره، حتى إذا قال للنهار إنه ليل ولليل إنه نهار، معللا ذلك بأنه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطن السامع له فينكره فيكفر من حيث لا يشعر، فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الاخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا في الادلة تقيه، لم يكن في إنكار كونها من الامام عليه السلام مفسدة، فضلا عن كفر الراد.

الثالث: إن التقية قد تكون من فتوى العامة، وهو الظاهر من إطلاق موافقة العامة في الاخبار.

وأخرى من حيث أخبارهم التي رووها.

وهو المصرح به في بعض الاخبار.لكن الظاهر أن ذلك محمول على الغالب من كون الخبر مستندا للفتوى.

وثالثة من حيث علمهم.

ويشير إليه قوله، عليه السلام، في المقبولة المتقدمة: (ما هو إليه أميل قضاتهم وحكامهم).

ورابعة بكونه أشبه بقواعدهم وأصول دينهم وفروعه، كما يدل عليه الخبر المتقدم، وعرفت سابقا قوة إحتمال التفرع على قواعدهم الفاسدة ويخرج الخبر حنيئذ عن الحجية ولو مع عدم المعارض، كما يدل عليه عموم الموصول.

الرابع: أن ظاهر الاخبار كون المرجح موافقة جميع الموجودين في زمان الصدور او معظمهم على وجه يصدق الاستغراق العرفي.

فلو وافق بعضهمم بلا مخالفة الباقين فالترجيح به مستند إلى الكلية المستفادة من الاخبار من الترجيح بكل مزية.

وربما يستفاد من قول السائل في المقبولة: (قلت: يا سيدي ! هما معا موافقان للعامة)، أن المراد بما وافق العاممة أو خالفهمم في المرجح السابق يعم ما وافق البعض أو خالفه.

ويرده أن ظهور الفقرة الاولى في إعتبار الكل أقوى من ظهور هذه الفقره في كفاية موافقة البعض، فيحمل على إرادة صورة عدم وجود هذا المرجح في شئ منهما وتساويهما من هذه الجهة، لا صورة وجود المرجح في كليهما وتكافؤهما من هذه الجهة.

وكيف كان، فلو كان كل واحد موافقا لبعضهم مخالفا لاخرين منهم وجب الرجوع إلى ما يرجح في النظر ملاحظة التقية منه.

وربما يستفاد ذلك من أشهرية فتوى أحد البعضين في زمان الصدور ويعلم ذلك بمراجعة أهل

٤٠٩

الصفحة ٨١٢

النقل والتأريخ.

فقد حكي عن تواريخهمم: (إن عامة أهل الكوفة كان عملهم على فتاوى أبي حنيفة وسفيان الثوري ورجل آخر، وأهل مكة على فتاوى إبن جريح، وأهل المدينة على فتاوى مالك، وأهل البصرة على فتاوى عثمان وسوار وأهل الشام على فتاوى الاوزاعي والوليد، وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد، وأهل خراسان على فتاوى عبدالله بن المبارك الزهري.

وكان فيهم أهل الفتاوى من غير هؤلاء، كسعيد بن المسيب وعكرمة وربيعة الرأي ومحمد بن شهاب الزهري.

إلى أن استقر رأيهم بحصر المذاهب في الاربعة سنة خمس وستين وثلاثمائة)، كما حكي(١).

وقد يستفاد ذلك من الامارات الخاصة، مثل قول الصادق، عليه السلام، حين حكي له فتوى إبن أبي ليلى في بعض مسائل الوصية: (أما قول إبن أبي ليلى فلا أستطيع رده)(٢).

وقد يستفاد من ملاحظة أخبارهم المروية في كتبهم.

ولذا أنيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم.

الخامس: قد عرفت أن الرجحان بحسب الدلالة لا يزاحمه الرجحان بحسب الصدور، وكذا لا يزاحمه هذا الرجحان، أي الرجحان من حيث جهة الصدور.

فإذا كان الخبر الاقوى دلالة موافقا للعامة قدم على الاضعف المخالف، لما عرفت من أن الترجيح بقوة الدلالكة من الجمع المقبول الذي هو مقدم على الطرح.

أما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان الارجح صدورا موافقا للعامة، فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفا للعامة، بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامة بإحتمال التقية في الموافق، لان هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا، كما في المتواترين، أو تعبدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الاخر.وفيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور.

فإن قلت: إن الاصل في الخبرين الصدور، فإذا تعبدنا بصدورهما إقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة ن فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدما على الترجيح بحسب الصدور.

____________________

(١) الوحيد البهبهاني، الفوائد القديمة، ص ١٢١.

(٢) الكافي (الفروع)، ج ٧، ص ٦٢.

٤١٠

الصفحة ٨١٣

قلت: لا ممعنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية لانه إلقاء لاحدهما في الحقيقة.

ولذا لو تعين حمل خير غير معارض على التقية على تقدير الصدور لم يشمله أدلة التعبد بخبر العادل.

نعم لو علم بصدور خبرين لم يكن بد من حمل الموافق على التقية وإلغائه.

وأما إذا لم يعلم بصدورهما، كما في ما نحن فيه من المتعارضين، فيجب الرجوع إلى المرجحات الصدورية.

فإن أمكن ترجيح أحدهما وتعينه من حيث التعبد بالصدور دون الاخر تعين، وإن قصرت اليد عن هذا الترجيح كان عدم احتمال التقية في أحدهما مرجحا.

فمورد هذا المرجح تساوي الخبرين من حيث الصدور، إما علما كما في المتواترين، أو تعبدا كما في المتكافئين من الآحاد.

وأما ما وجب فيه التعبد بصدور أحدهما المعين دون الآخر، فلا وجه لاعمال هذا المرجح فيه، لان جهة الصدور متفرع على أصل الصدور.

والفرق بين هذا الترجيح في الدلالة المتقدم على الترجيح بالسند أن التعبد بصدور الخبرين على أن يعمل بظاهر أحدهما وبتأويل الآخر بقرينة ذلك الظاهر ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل، بخلاف التعبد بصدورهما.

ثم حمل أحدهما على التقية الذي هو في معنى الغايه وترك التعبد به.

هذا كله على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة بإحتمال التقية.

أما لو قلنا بأن الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلى الحق وأبعد عن الباطل، كما يدل عليه جملة من الاخبار، فهي من المرجحات المضمونية، وسيجئ حالها مع غيرها.

٤١١

الصفحة ٨١٤

المرجحات الخارجية... القسم الاول: ما يكون غير معتبر في نفسه

فمن الاول شهرة أحد الخبرين، إما من حيث رواته، بأن إشتهر روايته بين الرواة، بناء على كشفها عن شهرة العمل أو إشتهار الفتوى به ولو مع العلم بعدم إستناد المفتين إليه.

ومنه كون الراوي له أفقه من رواي أخر في جميع الطبقات أو في بعضها، بناء على أن الظاهر عمل الافقه به.

ومنه مخالفة أحد الخبرين للعامة، بناء على ظاهر الاخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها.

ومنه كل أمارة مستقلة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين إذاكان عدم إعتبارها لعدم الدليل، لا لوجود الدليل على العدم، كالقياس.

ثم الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجح ما يستفاد من الاخبار من الترجيح بكل ما يوجب أقربية أحدهما إلى الواقع وإن كان خارجا عن الخبرين، بل يرجع هذا النوع إلى المرجح الدخلي، فإن أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنية فلازمه الظن بوجود خلل في الآخر إما من حيث الصدور أو من حيث جهة الصدور، فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب، وقد عرفت أن المزية الداخلية قد تكون موجبة لانتفاء إحتمال في ذيها موجود في الآخر، كقلة الوسائط ومخالفة العامة، بناء على الوجه السابق، وقد توجب بعد الاحتمال الموجود في ذيها بالنسبة إلى

____________________

(١) جاء في بعض النسخ: المقام الثالث في المرجحات الخارجية وقد أشرنا.

٤١٢

الصفحة ٨١٥

الاحتمال الموجود في الآخر، كالاعدلية والاوثقية.والمرجح الخارجي من هذا القبيل.

غاية الامر عدم العلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما البعيد في الآخر، بل ذون المزية داخل في الاوثق المنصوص عليه في الاخبار.

ومن هنا يمكن أن يستدل على المطلب بالاجماع المدعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين، بناء على عدم شمولها للمقام، من حيث أن الظاهر من أقواهما أقواهما في نفسه ومن حيث هو، لا مجرد كون مضمونه أقرب إلى الواقع لموافقة أمارة خارجية.

فيقال في تقريب الاستدلال: إن الامارة موجبة لظن خلل في المرجوح مفقود في الراجح، فيكون الراجح أقوى إجمالا من حيث نفسه.

فإن قلت: إن المتيقن من النص ومعاقد الاجماع إعتبار المزية الداخلية القائمة بنفس الدليل.

وأما الامارة الخارجية التي دل الدليل على عدم العبرة بها من حيث دخولها في ما لا يعلم، فلا إعتبار بكشفها عن الخلل في المرجوح.

ولا فرق بينه وبين القياس في عدم العبرة بها في مقام الترجيح كمقام الحجية، هذا.

مع أنه لا معنى لكشف الامارة عن خلل في المرجوح، لان الخلل في الدليل من حيث أنه دليل قصور في طريقيته والمفروض تساويهما في جميع ماله مدخل في الطيقية.

ومجرد الظن بمخالفة خبر للواقع لا يوجب خللا في ذلك، لان الطريقية ليست منوطة بمطابقة الواقع.

قلت: أما النص، فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه السلام: (لان المجمع عليه لا ريب فيه)، وقوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، لما نحن فيه.

بل قوله: (فإن الرشد فيما خالفهم)، وكذا التعليل في رواية الارجاني: (لم أمرتم بالاخذ بخلاف ما عليه العامة)، وارد في المرجح الخارجي، لان مخالفه العامة نظير موافقة المشهور.

وأما معقد الاجماعات، فالظاهر أن المراد منه: الاقرب إلى الواقع والارجح مدلولا، ولو بقرينة ما يظهر من العلماء قديما وحديثا من إناطة الترجيح بمجرد الاقربية إلى الواقع.كإستدلالهم على الترجيحات بمجرد الاقربية إلى الواقع.

مثل ما سيجئ من كلماتهم في الترجيح بالقياس.

ومثل الاستدلال على الترجيح بموافقة الاصل بأن الظن في الخبر الموافق له أقوى، وعلى الترجيح بمخالفة الاصل بأن الغالب تعرض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان.

وإستدلال المحقق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطايفة بأن الكثرة أمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب.

وغير ذلك مما يجده المتتبع في كلماتهم.

مع أنه يمكن دعوى حكم العقل بوجب العمل بالاقرب إلى الواقع في ما كان حجيتها من حيث الطريقية، فتأمل.

٤١٣

الصفحة ٨١٦

بقي في المقام أمران أحدهما: أن الامارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص، كالقياس، هل هي من المرجحات أم لا؟ ظاهر المعظم العدم، كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلالية في الفقه.

وحكى المحقق في المعارج عن بعض القول بكون القياس مرجحا، قال: (وذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

ويمكن أن يحتج لذلك بأن الحق في أحد الخبرين، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما فتعين العمل.

وإذا كان التقدير تقدير التعارض، فلا بد في العمل بأحدهما من مرجح، والقياس يصلح أن يكون مرجحا لحصول الظن به، فتعين العمل بما طابقه.

لا يقال: أجمعنا على أن القياس مطروح في الشريعة.

لانا نقول: بمعنى أنه ليس بدليل، لا بمعنى أنه لا يكون مرجحا لاحد الخبرين.

وهذا، لان فائدة كونه مرجحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض، فيكون العمل به لا بذلك القياس.وفيه نظر)(١)، إنتهى.وما إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين.

والحق خلافه، لان رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة، كرفع العمل بالخبر السليم عن المعارض والرجوع معه إلى الاوصول.

وأي فرق بين رفع القياس لوجوب العمل بالخبر السليم عن المعارض وجعله كالمعدوم حتى يرجع إلى الاصل وبين رفعه لجواز العمل بالخبر المكافئ لخبر آخر وجعله كالمعدوم حتى يتعين العمل بالخبر الاخر.

ثم إن الممنوع هو الاعتناء بالقياس مطلقا.

ولذا إستقرت طريقة اصحابنا على هجره في باب الترجيح، ولم نجد موضعا منهم يرجحونه به.

ولولا ذلك لوجب تدوين شروط القياس في الاوصول ليرجح به في الفروغ.

____________________

(١) معارج الاصول، ص ١٨٦.

٤١٤

الصفحة ٨١٧

الثاني: في مرتبة هذا المرجح بالنسبة إلى المرجحات السابقة.

فنقول: أما الرجحان من حيث الدلالة، فقد عرفت غير مرة تقدمه على جميع المرجحات.

نعم لو بلغ المرجح الخارجي إلى حيث يوهن الارجح دلالة فهو يسقطه عن الحجية ويخرج الفرص عن تعارض الدليلين.ومن هنا قد يقدم العام المشهور والمعتضد بالامور الخارجية على الخاص.

وأما الترجيح من حيث السند، فظاهر مقبولة إبن حنظلة تقديمه على المرجح الخارجي.

لكن الظاهر أن الامر بالعكس، لان رجحان السند إنما اعتبر لتحصيل الاقرب إلى الواقع، فإن الاعدل أقرب إلى الصدق من غيره، بمعنى أنه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدق الاعدل وكذب العادل.

فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع وخبر الاعدل مظنون المخالفة، فلا وجه لترجيحه بالاعدلية.

وكذلك الكلام في الترجيح بمخالفة العامة بناء على أن الوجه فيه هو نفي إحتمال التقية.

٤١٥

الصفحة ٨١٨

القسم الثاني: ما يكون معتبرا في نفسه

وأما القسم الثاني، وهو ما كان مستقلا بإعتبار ولو خلي المورد عن الخبرين، فقد أشرنا إلى أنه على قسمين، الاول ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين، والثاني ما لا يكون كذلك.

فمن [ القسم ] الاول الكتاب والسنة، والترجيح بموافقتهما مما تواتر به الاخبار واستدل في المعارج على ذلك بوجهين: (أحدهما أن الكتاب دليل مستقل فيكون دليلا على صدق مضمون الخبر.

ثانيهما أن الخبر المنافي لا يعمل به لو انفرد عن المعارض فما ظنك به معه)(١)، إنتهى.

وغرضه الاستدلال على طرح الخبر المنافي، سواء قلنا بحجيته مع معارضته لظاهر الكتاب أم قلنا بعدم حجيته، فلا يتوهم التنافي بين دليليه.

ثم إن توضيح الامر في هذا المقام يحتاج إلى تفصيل اقسام ظاهر الكتاب أو السنة المطابق لاحد المتعارضين.

فنقول: إن ظاهر الكتاب إذا لوحظ مع الخبر المخالف فلا يخلو عن صور ثلاث: الاولى: أن يكون على وجه لو خلي الخبر المخالف له عن معارضة المطابق له كان مقدما عليه، لكونه نصا بالنسبة إليه، لكونه أخص منه أو غير ذلك، بناء على تخصيص الكتاب بخبر الواحد، فالمانع عن التخصيص حينئذ أخصل منه أو غير ذلك، بناء على تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، فالمانع عن التخصيص حينئذ إبتلاء الخاص بمعارضة مثله.

كما إذا تعارض: أكررم زيدا العالم، ولا تكرم زيدا العالم.

وكان في الكتاب عموم يدل على وجوب إكرام العلماء.

ومقتضى القاعدة في هذا المقام أن يلاحظ أولا جميع ما يمكن أن يرجع به الخبر المخالف

____________________

(١) معارج الاصول ص ١٤٥.

٤١٦

الصفحة ٨١٩

للكتاب على المطابق له.

فإن وجد شئ منها رجح المخالف به وخصص به الكتاب، لان المفروض إنحصار المانع عن تخصيصه به في إبتلائه بمزاحمة الخبر المطابق للكتاب، لانه مع الكتاب من قبيل النص والظاهر، وقد عرفت أن العمل بالنص ليس من باب الترجيح، بل من باب العمل بالدليل والقرينة في مقابلة أصالة الحقيقة، حتى لو قلنا بكونها من باب الظهور النوعي.

فإذا عولجت المزاحمة بالترجيح صار المخالف كالسليم عن المعارض، فيصرف ظاهر الكتاب بقرينة الخبر السليم ولو لم يكن هناك مرجح.

فإن حكما في الخبرين المتكافئين بالتخيير، إما لانه الاصل في المتعارضين، وإما لورود الاخبار بالتخيير، كان اللازم التخيير، وأن له أن يأخذ أن يأخذ بالمطابق وأن يأخذ بالمخالف، فيخصص به عموم الكتاب، لما سيجئ من أن موافقة أحد الخبرين للاصل لا يوجب رفع التخيير، وإن قلنا بالتساقط او التوقف كان المرجح هو ظاهر الكتاب.

فتلخص أن الترجيح بظاهر الكتاب لا يتحقق [ بمقتضى القاعدة ] في شي ء من فروض هذه الصورة.

الثانية: أن يكون على وجه لو خلي الخبر المخالف له عن معارضه لكان مطروحا لمخالفة الكتاب.

كما إذا تباين مضمونهما كلية.

كما لو كان ظاهر الكتاب في المثال المتقدم وجوب إكرام زيد العالم.

واللازم في هذه الصورة خروج الخبر المخالف عن الحجية رأسا، لتواتر الاخبار ببطلان الخبر المخالف للكتاب والسنة والمتيقن من المخالفة هذا الفرد، فيخرج الفرض عن تعارض الخبرين، فلا مورد للترجيح في هذه الصورة أيضا، لان المراد به تقديم أحد الخبرين لمزية فيه، لا لما يسقط الاخر عن الحجية.

وهذه الصورة عديمة المورد فيما بأيدينا من الاخبار المتعارضة.

الثالثة: أن يكون على وجه لو خلي المخالف له عن المعاررض لخالف الكتاب، لكن لا عن وجه التباين الكلي، بل يمكن الجمع بينهما بصرف أحدهما عن ظاهره.

وحينئذ، فإن قلنا بسقوط الخبر المخالف بهذه المخالفة عن الحجية كان حكمها حكم الصورة الثانية، وإلا كان الكتاب مع الخبر المطابق بمنزلة دليل عارض الخبر المخالف، والترجيح حينئذ بالتعاضد وقطعية سند الكتاب.

فالترجيح بموافقة الكتاب منحصر في هذه الصورة الاخيرة.

لكن هذا الترجيح مقدم على الترجيح بالسند، لان أعدلية الراوي في الخبر المخالف لا تقاوم قطعية سند الكتاب الموافق للخبر الاخر، وعلى الترجيح بمخالفة العامة، لان التقية غير متصورة في الكتاب الموافق للخبر الموافق للعامة، وعلى المرجحات الخارجية، لان الامارة المستقلة المطابقة للخبر الغير المعتبرة لا تقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار.

ولو فرضنا الامامرة المذكورة مسقطة لدلالة الخبر

٤١٧

الصفحة ٨٢٠

والكتاب المخالفين لها عن الحجية، لاجل القول بتقييد إعتبار الظواهر بصورة عدم قيام الظن الشخصي على خلافها خرج المورد عن فرض التعارض.

ولعل ما ذكرنا هو الداعي للشخ، قدس سره، في تقديم الترجيح بهذا المرجح على جميع ما سواه من المرجحات وذكر الترجيح بها بعد فقد هذا المرجح.

إذا عرفت ما ذكرنا علمت توجه الاشكال فيما دل من الاخبار العلاجية على تقديم بعض المرجحات على موافقة الكتاب، كمقبولة إبن حنظلة.

بل وفي غيرها مما اطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب والسنة، من حيث أن الصورة الثالثة قليلة الوجود في الاخبار المتعارضة.

والصورة الثانية أقل وجودا بل معدومة، فلا يتوهم حمل تلك الاخبار عليها وإن لم تكن من باب ترجيح أحد المتعارضين بسقوط المخالف عن الحجية مع قطع النظر عن التعارض.

ويمكن إلتزام دخول الصورة الاولى في الاخبار التي اطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب، فلا يقل موردها.

وما ذكر من ملاحظة الترجيح بين الخبرين المخصص أحدهما لظاهر الكتاب ممنوع.

بل نقول: إن ظاهر تلك الاخبار ولو بقرينة لزوم قلة المورد بل عدمه، وبقرينة بعض الروايات الدالة على رد بعض ما ورد في الجبر والتفويض بمخالفة الكتاب مع كونه ظاهرا في نفيهما أن الخبر المعتضد بظاهر الكتاب لا يعارضه الخبر الاخر وإن كان لو إنفرد رفع اليد به عن ظاهر الكتاب.وأما الاشكال المختص بالمقبولة من حيث تقديم بعض المرجحات على موافقة الكتاب.فيندفع بما أشرنا إلى سابقا من أن الترجيح بصفات الراوي منها من حيث كونه حاكما.

وأول المرجحات الخبرية فيه هي شهرة إحدى الروايتين وشذوذ الاخرى.

ولا بعد في تقديمه على موافقة الكتاب ثم إن الدليل المستقل المعاضد لاحد الخبرين حكمه حكم الكتاب والسنة في الصورة الاولى.

وأما في الصورتين الاخيرتين فالخبر المخالف له يعارض مجموع الخبر الاخر والدليل المطابق له، والترجيح هنا بالتعاضد لا غير.

وأما القسم الثاني، وهو ما لا يكون معاضدا لاحد الخبرين، فهي عدة أمور: منها: الاصل، بناء على كون مضمونه حكم الله الظاهري، إذ لو بني على إفادة الظن بحكم الله الواقعي كان من القسم الاول.

ولا فرق في ذلك بين الاصول الثلاثة، أعني أصالة البراء‌ة

٤١٨

الصفحة ٨٢١

والاحتياط والاستصحاب.

لكن يشكل الترجيح بها، من حيث أن مورد الاصول ما إذا فقد الدليل الاجتهادي المطابق أو المخالف.

فلا مورد لها إلا بعد فرض تساقط المتعارضين لاجل التكافؤ، والمفروض أن الاخبار الستفيضة دلت على التخيير مع فقد المرجح.فلا مورد للاصل في تعارض الخبرين رأسا، فلا بد من التزام عدم الترجيح بها.

وإن الفقهاء إنما رجحوا بأصالة والاستصحاب في الكتب الاستدلالية من حيث بنائهم على حصول الظن النوعي بمطابقة الاصل.

وأما الاحتياط، فلم يعلم منهمم الاعتماد عليه، لا في المقام الاسناد ولا في مقام الترجيح.

وقد يتوهم أن ما دل على ترجيح التخيير مع تكافؤ الخبرين معارض بما دل على الاصول الثلاثة، فإن مورد الاستصحاب عدم اليقين، بخلاف الحالة السابقة، وهو حاصل مع تكافؤ الخبرين.

ويندفع:: بان ما دلك على الاصل، فإن مؤداه جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة والالتزام بإرتفاعها.

فكما أن ما دل على تعيين العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة مع سلامته عن المعارض حاكم على دليل الاستصحاب، كذلك يكون الدليل الدال على جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة المكافئ لمعارضه حاكما عليه من غير فرق أصلاة، مع أنه لو فرض التعارض المتوهمم كان اخبار التخيير أولى بالترجيح وإن كانت النسبة عموما من وجه، لانها أقل موردا، فيتعين تخصيص أدلة الاصول، مع أن التخصيص في أخبار التخيير يوجب إخراج كثير مواردها بل أكثرها، بخلاف تخصيص أدلة الاصول.

مع أن بعض اخبار التخيير ورد في مورد جريان الاصول، مثل مكاتبة عبدالله بن محمد الواردة في فعل ركعتي الفجر في المحمل، ومكاتبة الحميري المروية في الاحجاج الواردة في التكبير في كل إنتقال من حال إلى حال من أحوال الصلاة.

ومما ذكرنا ظهر فساد ما ذكره بعض من عاصرناه في تقديم الموافق للاصل على المخالف، من أن العمل بالموافق موجب للتخصيص فيما دل على حجية المخالف، والعمل بالمخالف مستلزم للتخصيص فيما دل على حجية الموافق وتخصيص الاخر فيما دل على حجية الاصول، وأن الخبر الموافق يفيد ظنا بالحكم الواقعي، والعمل بالاصل يفيد الظن بالحكم الظاهري فيتقوى به الخبر الموافق، وأن الخبرين يتعارضان ويتساقطان، فيبقى الاصل سليما عن المعارض.

٤١٩

الصفحة ٨٢٢

بفي هنا شئ وهو أنهم إختلفوا في تقديم المقرر وهو الموافق للاصل على الناقل وهو الخبر المخالف له.

والاكثر من الاصوليين، منهم العلامة، قدس سره، وغيره، على تقديم الناقل.

بل حكي هذا القول عن جمهور الاصوليين، معللين ذلك بأن الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى البيان ولا يستغنى عنه بحكم العقل.

مع أن الذي عثرنا عليه في الكتب الاستدلالية الفرعية الترجيح بالاعتضاد بالاصل، لكن لا يحضرني الان مورد لما نحن فيه، أعني المتعارضرين الموافق أحدهما للاصل.فلا بد من التتبع.

ومن ذلك كون أحد الخبرين متضمنا للاباحة والاخر مفيدا للحظر، فإن المشهور تقديم الحاظر على المبيح.

بل يظهر من محكي عن بعضهم عدم الخلاف فيه، وذكروا في وجهه ما لا يبلغ حد الوجوب، ككونه متيقنا في العمل، إستنادا إلى قوله صلى الله عليه وآله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)(١)، وقوله: (ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال)(٢).

وفيه: أنه لو تم هذا الترجيح لزم الحكم بأصالة الحرمة عند دوران الامر بينها وبين الاباحة، لان وجود الخبرين لا مدخل له في هذا الترجيح، فإنه من مرجحات أحد الاحتمالين، مع أن المشهور تقدم الاباحة على الحظر.

فالمتجه ما ذكره الشيخ، قدس سره، في العدة من إبتناء المسألة على أن الاصل في الاشياء الاباحة أو الحظر أو التوقف.

حيث قال: (وأما ترجيح أحد الخبرين على الاخر من حيث أن أحدهما يتضمن الحظر والاخر الاباحة والاخذ بما يقتضي الحظر أو الاباحة.

فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه من الوقف، لان الحظر والاباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع، ولا ترجيح بذلك، وينبغي لنا الوقف بينهما جميعا أو يكون الانسان مخيرا في العمل بأيهما شاء)(٣)، إنتهى.

ويمكن الاستدلال لترجيح الحظر بما دل على وجوب الاخذ بما فيه الاحتياط من الخبرين وإرجاع ما ذكروه من الدليل في ذلك.

فالاحتياط وإن لم يجب الاخذ به في الاحتمالين المجردين عن الخبر إلا أنه يجب الترجيح به عند تعارض الخبرين.

____________________

(١) عوالي اللئالي، ج ٣، ص ٣٣٠.

(٢) عوالي اللئالي، ج ٢، ص ١٣١.

(٣) عدة الاصول، ص ٦٢

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438