وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يبقى هذا الدين محفوظا وإن رحل النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد أوكلت مهمة حفظ الدين إلى ذرية النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم وعترته، وهم وراث علمه ومقامه الأئمة الاثنا عشر أولهم أمير المؤمنينعليهالسلام ، وآخرهم الحجة بن الحسن العسكريعليهالسلام ، وعلى ذلك قامت الأدلة والبراهين أيضا.
ونتيجة ذلك أنه كما أن نبوة النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم عامة شاملة، فكذلك إمامة الأئمةعليهمالسلام عامة وشاملة، ومعنى ذلك أن إمامة الأئمةعليهمالسلام ليست مقتصرة على مجتمع معين أو عنصر معين، أو فئة من الناس معينة، فكما أن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم بعث للأبيض والأسود على السواء، فكذلك إمامة الأئمةعليهمالسلام لكافة الناس.
ومن هنا يتضح لنا وجه آخر في اقتران بعض الأئمةعليهمالسلام بنساء غير عربيات بل من قوميات أخرى كالفارسية أو الرومية أو غيرهما، وقد وردت الروايات الدالة على ذلك. فإن أم الإمام السجادعليهالسلام كانت من أصل فارسي(1) ، وكانت أم الإمام الكاظمعليهالسلام من أشراف الأعاجم(2) ، وكانت أم الإمام الرضاعليهالسلام من أهل المغرب(3) ، وكانت أم الإمام الجوادعليهالسلام من أهل النوبة من قبيلة مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكانت أفضل نساء زمانها، وأشار إليها رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله: بأبي ابن خير الإماء النوبية الطيبة(4) ، وكانت أم الإمام الهاديعليهالسلام
____________________
(1) الأنوار البهية ص 107.
(2) الأنوار البهية ص 179.
(3) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 18.
(4) منتهى الآمال ج 2 ص 523.
مغربية، ولم يكن لها مثيل في الزهد والتقوى(1) ، وكانت أم الإمام الحسن العسكري في بلدها من الأشراف في مصاف الملوك(2) ، وكانت أم الإمام الحجة بنت قيصر ملك الروم، وأمها من ولد الحواريين، وتنسب إلى وصي المسيح شمعون(3) .
والذي نود أن نشير إليه في هذا الوجه أن الإمامة لما كانت عامة وأن الإمام إمام لكل الناس على شتى اختلاف أعراقهم وأصولهم انحدر بعض الأئمة من جهة أمهاتهم من أصول غير عربية ليكون ذلك علامة بارزة على عالمية إمامتهم، وشمولها لجميع أهل الأرض، وأن لكل من السلالات البشرية طرفا يوصلها بهذا الدين الإلهي العظيم، وتلك حكمة بالغة ولطف عام لكل البشر، وأما العروبة فليس لها خصوصية في حد ذاتها من حيث هي،( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) .
ولعل هناك سرا آخر ينطوي تحت هذا الوجه قد تكشف عنه الأيام نورده كاحتمال ليس إلا، إذ لا نملك دليلا قاطعا عليه، وإن كان في نفسه غير بعيد، وحاصله: أن الإمام المهدي الموعود به على لسان النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم ، ونطق بذلك القرآن الكريم، وأكدت عليه الروايات المتواترة عن أهل البيتعليهمالسلام سيكون له الشأن العظيم في إعلاء كلمة الله تعالى، وسيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، وسيقوم بأداء مهمته في أغلب أحواله بشكل طبيعي، وإن كان يأتي
____________________
(1) منتهى الآمال ج 2 ص 591.
(2) منتهى الآمال ج 2 ص 649.
(3) منتهى الآمال ج 2 ص 695.
بالمعجزة والكرامة تأييدا من الله تعالى، ولا شك أن تلك مهمة شاقة كما شرحتها الروايات والآيات.
وإذا كانت أم الإمام المهديعليهالسلام تنحدر من سلالة أحد أوصياء عيسى بن مريمعليهماالسلام فما يدرينا: لعل في ذلك تمهيدا وتسهيلا لإنجاز مهمة الإمامعليهالسلام في خضوع النصارى والكفار وتسليمهم له نظرا إلى أن أجداده لأمه منهم، فيحرك في نفوسهم الجانب العاطفي للرحم القائمة بينه وبينهم، الأمر الذي يختصر عليه كثيرا من الأمور وينجزها في سهولة ويسر.
على أن ذلك أحد أسباب اللطف العام بأولئك النصارى حيث يكونون على مقربة من الهداية والنجاة.
وبعد هذا نقول: إن أم السيدة فاطمة المعصومة هي أم الإمام الرضاعليهالسلام ، وقد اجتمعت فيها الكمالات والفضائل التي أهلتها لأن تكون أما لولي اللهعليهالسلام وحاضنة لكريمة أهل البيتعليهمالسلام ، ولم تسعفنا الروايات الواردة في تاريخ مراحل حياتها إلا بالنزر القليل، وإن كان يكشف عن جلالة قدرها ورفعة مقامها، فقد ورد في بعض الروايات أنها كانت تعيش في بيت الإمام الصادقعليهالسلام قبل اقترانها بالإمام الكاظمعليهالسلام ، وكانت جليلة ذات عقل ودين(1) .
روى الصدوق بسنده عن علي بن ميثم أنه قال: اشترت حميدة المصفاة - وهي أم أبي الحسن موسى بن جعفرعليهماالسلام - وكانت من
____________________
(1) منتهى الآمال ج 2 ص 405.
أشراف العجم - جارية مولدة واسمها تكتم، وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفاة، حتى أنها ما جلست بين يديها منذ ملكتها إجلالا لها.
وكانت علائم الجلالة والنجابة تلوح منها حتى شهدت بذلك مولاتها حميدة المصفاة على ما يروي الصدوق، فقد روى أن حميدة قالت لابنها موسىعليهالسلام : يا بني إن تكتم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها، ولست أشك أن الله تعالى سيطهر نسلها، إن كان لها نسل، وقد وهبتها لك فاستوص بها خيرا(1) .
ولا شك أن الحياة في بيت الإمام الصادقعليهالسلام ، في حد ذاتها كافية في تأسيس حياة هي أفضل ما تكون، حيث منبع الطهر والعفاف والقداسة والكمال، فإذا انضم إلى ذلك الاستعداد التام كانت النتيجة هي بلوغ الغاية الممكنة، في الكمال والاستقامة.
وقد انعكس ذلك على حياة السيدة تكتم، فكانت من أهل العبادة والتهجد، فإنها لما أنجبت الرضاعليهالسلام وكان كما تصفه الروايات يرتضع كثيرا، وكان تام الخلقة، قالت: أعينوني بمرضعة، فقيل لها أنقص الدر؟
فقالت: لا أكذب، والله ما نقص، ولكن علي ورد من صلاتي وتسبيحي وقد نقص منذ ولدت(2) .
وفي ذلك دلالة على عظمة هذه المرأة، ومدى تعلقها بالله تعالى وارتباطها به، ولا شك أن لذلك تأثيرا على ما ينحدر منها من نسل.
____________________
(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 15.
(2) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 15.
قد تقدم أن الإمام الكاظمعليهالسلام هو الذي اشترى السيدة تكتم حيث بعث هشاما لابتياعها له، ومر آنفا أن حميدة المصفاة أم الإمام الكاظمعليهالسلام هي التي اشترتها وظاهر ذلك هو التنافي.
ولكن يمكن الجمع بين الروايتين بأن يقال: إن الإمام الكاظمعليهالسلام اشتراها جارية لأمه فمكثت عند أمه مدة، ثم وهبتها أمه إليه، وبذلك يرتفع التنافي بين الروايتين.
وعلى أي تقدير فقد ذكرت الروايات أن السيدة تكتم كانت ذات حظوة عند الإمامعليهالسلام ، وموضع عنايته، فإنها لما ولدت له الرضاعليهالسلام سماها الطاهرة(1) .
وكان لها عدة أسماء منها: تكتم، ونجمة، وأروى، وسكن، وسمانة، وأم البنين، وقيل: خيزران، وصقر، وشقراء(2) .
____________________
(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 15.
(2) منتهى الآمال ج 2 ص 404 - 405.
ومما يناسب المقام الإشارة إلى ظاهرة تعدد أسماء الجواري والعبيد، والملاحظ أن لأمهات الأولاد عدة أسماء، فإن لأم الإمام الرضاعليهالسلام كما مر عشرة أسماء، ولغيرها من أمهات الأئمةعليهمالسلام عدة أسماء، وهي ظاهرة تثير الالتفات، ووراءها حكمة لعلنا نستطيع استجلاءها من خلال ما تسعفنا به المصادر التي تناولت هذه الظاهرة أو أشارت إليها.
ونقول: إن لهذه الظاهرة أصلا شرعيا، فقد ورد النص بذلك، واستفاد الفقهاء منه استحباب تغيير اسم العبد أو الجارية، أما النص فهو ما رواه الكليني في الكافي بسنده عن ابن أبي عمير (عن رجل) عن زرارة، قال: كنت جالسا عند أبي عبد اللهعليهالسلام ، فدخل عليه رجل، ومعه ابن له، فقال أبو عبد اللهعليهالسلام : ما تجارة ابنك؟ فقال: التنخس، فقال له أبو عبد اللهعليهالسلام : لا تشتر شينا ولا عيبا، وإذا اشتريت رأسا فلا ترين ثمنه في كفة الميزان، فما من رأس يرى ثمنه في كفة الميزان فأفلح، وإذا اشتريت رأسا فغير اسمه وأطعمه شيئا حلوا إذا ملكته، وصدق (وتصدق خ ل) عنه بأربعة دراهم(1) .
قال المحقق في الشرائع: ويستحب لمن اشترى مملوكا أن يغير اسمه(2) .
____________________
(1) الفروع من الكافي ج 5 باب شراء الرقيق الحديث 14 ص 212.
(2) شرائع الإسلام ج 2 ص 58.
وقال العلامة في القواعد: ويستحب لمن اشترى مملوكا تغيير اسمه وإطعامه حلوة والصدقة عنه بشئ(1) .
وقال في التذكرة: يكره للرجل إذا اشترى مملوكا أن يريه ثمنه في الميزان، ويستحب له تغيير اسمه، وأن يطعمه شيئا من الحلاوة، وأن يتصدق عنه بأربعة دراهم(2) .
وقال صاحب الحدائق: ومنها أنه يستحب لمن يشتري مملوكا أن يغير اسمه، وأن يطعمه شيئا من الحلو، وأن يتصدق عنه بشئ(3) .
وغيرها من الأقوال الكثيرة الدالة على ذلك، والتي يظهر منها الاتفاق على هذا الحكم، وإن كان أمرا استحبابيا.
ويبدو الجانب الأخلاقي واضحا في هذا الحكم، فإن للرقية واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان وصيرورته آلة لا يملك من أمره شيئا آثارا سيئة خطيرة.
ولم تكن الرقية تشريعا إلهيا، وليس في الإسلام حكم بمشروعية الاسترقاق الابتدائي، وإنما كان الرق نظاما سائدا بين الناس قبل الإسلام في الأمم السابقة.
ولما جاء الإسلام كان هذا النظام قائما بين الناس فأقره ووضع له أحكاما خاصة من شأنها القضاء عليه قضاء تاما في معالجة حكيمة لهذه المسألة المهمة.
____________________
(1) قواعد الأحكام ص 130.
(2) تذكرة الفقهاء ج 2 ص 500.
(3) الحدائق الناضرة ج 19 ص 417.
وفي الأحكام الجزائية التي وضعها الإسلام عند المخالفات الشرعية أكبر شاهد على ذلك، إضافة إلى ما ندب إليه الدين، ورغب فيه، ووعد عليه الثواب ونيل الدرجات، وإثارة الشعور الإنساني وتحريك الجانب العاطفي عند الأحرار نحو العبيد الذين قهرتهم ظروف معينة أصبحت فيها أمورهم وشؤونهم بأيدي غيرهم.
هذا غير ما فتحه الإسلام من أبواب تمكن العبد من الدخول فيها للانطلاق من قيد الرقية، فإن لذلك دورا آخر ساهم في القضاء على هذه المشكلة.
نعم سوغ الإسلام الاسترقاق في حالة واحدة، وليست هي أمرا ابتدائيا كما ذكرنا، وهي ما ذكرته المصادر الفقهية من جواز الاسترقاق في حالة الحروب بين المسلمين وبين غيرهم من الملل الكافرة، ولكن على ضوء شرائط معينة، وفي حالات خاصة، وقد تكفلت الكتب الفقهية ببيان ذلك ضاربة بذلك أروع المثل الأخلاقية.
وإنما ساغ ذلك لأنه عمل جزائي لوقوفه في مواجهة الإسلام ومحاربته، وقد كان في معرض القتل، إلا أنه لما وقع أسيرا كان جزاؤه أن يسترق، وفي ذلك تخفيف وامتنان عليه، على أن هناك حلولا ذكرت في الفقه تعالج حالة الاسترقاق يتمكن من خلالها الخروج من هذه الحالة.
ومن ذلك يظهر أن الاسترقاق ليس مقصودا في الشرع لذاته، ولا
غرضا من أغراضه، وإنما هو أمر استثنائي وظرف طارئ اقتضى ذلك، ولسنا في مقام دراسة هذه الناحية، وتكفينا هذه الإشارة الإجمالية التي يتضح من خلالها عظمة الإسلام وسمو أحكامه وشرف مقاصده ونبل أهدافه.
ثم نقول: إن هذا الإنسان الذي قهرته الظروف فجعلت منه آلة لا يملك من أمره شيئا، يمر بمعاناة وآلام نفسانية خطيرة، وتعتصره المرارة حيث يرى نفسه عبدا حقيرا يستعبده غيره، ممن قد يكون دونه شرفا ومكانة فتنهدم معنوياته وتنسد في وجهه الآمال والأحلام، وربما يتنقل من يد تصفع إلى أخرى تلطم، وهكذا يعيش محطما قد ارتبط مصيره بأيدي الباعة والنخاسين.
ومن هنا تتجلى الحكمة في استحباب تغيير اسمه عند الشراء لأنه بذلك يبدأ حياة جديدة ينسى فيها ماضيه البائس، وأيامه السوداء، وفي ذلك إعانة له على نسيان أو تناسي عهده السابق وتخفيف لآلامه ومعاناته.
وفي إطعامه الحلو دلالة أخرى: فإن فيها إشعارا ببداية عهد جديد لا مرارة فيه، وهكذا في التصدق عنه بشئ.
وأما كراهة أن يرى ثمنه فهي أوضح دلالة وأجلى بيانا في مراعاة الشعور وحفظ الكرامة الإنسانية التي دأب الإسلام على مراعاتها والحفاظ عليها في جميع الأحوال والظروف.
ولسنا نقول: إن ما يعانيه هذا الإنسان من الهوان دائمي التحقق والوقوع، وإنما هو مقتضى طبيعة الاسترقاق وشأنه، وإلا فقد ينتقل المملوك من يد رحيمة إلى يد أرحم، ومن عطف إلى ما هو أشد عطفا وشفقة وحنوا، وربما كانت سعادة امرء أن يعيش مملوكا لا أن يعيش طليقا، وفي ما يذكره التاريخ من قصة زيد بن حارثة حيث فضل الحياة مع رسول اللهصلىاللهعليهوآله على الحياة مع أبيه حتى بلغ الأمر أن تبناه النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم فكان يدعى زيد بن محمد بعد أن تبرأ منه أبوه إلى أن نزل قوله تعالى:( ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ) (1) .
وفي ما حدث به التاريخ من سيرة أمير المؤمنينعليهالسلام وأولاده مع مماليكهم شواهد تدل على أن ما ذكرناه ليس مطردا وفي جميع الأحوال، فإن كثيرا من أولئك العبيد والجواري قد بلغوا مبلغا من العلم والفضيلة والشرف انحنى لهم التاريخ إجلالا لمقامهم واعترافا بسمو ذواتهم، وإكبارا لعظمتهم، لأنهم حظوا بقلوب عطوفة، ونفوس رحيمة، وعقول ناضجة مدبرة، مكنتهم من تسنم أرقى الدرجات.
إذن فتغيير الاسم يكشف عن حكمة بالغة أراد منها الشرع أن يخفف من شئ من المعاناة التي قد ينالها من قهرته الظروف فساقته إلى سوق الرقيق.
ومن المحتمل أن يكون تعدد الأسماء للشخص الواحد لكونها
____________________
(1) مجمع البيان في تفسير القرآن ج 7 ص 335 - 337.
تتضمن معاني وإشارات إلى خصائص المسمى، وهذا الأمر نقف عليه في كثير من الناس أحرارا كانوا أو عبيدا، فإن لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم أكثر من اسم يحمل أكثر من معنى وأكثر من لقب كذلك، كما للأئمةعليهمالسلام وللصديقة الزهراءعليهاالسلام ، وكان ذلك محل عناية من الآداب الشرعية التي لم تغفل هذا الجانب فرغبت في اختيار الاسم الحسن واللقب الحسن والكنية الحسنة.
ومن المحتمل أيضا أن تعدد الأسماء لم يكن عن شئ من ذلك ولا سيما في العبيد والجواري، إذ لا يعيشون حياة مستقرة، ولا يهم البائع أو المشتري اسم سلعته، فيضع بإزائها اسما ما لمجرد التمييز، فتجتمع عدة أسماء للشخص الواحد نتيجة ذلك.
ولعل هناك وجوها أخرى لم ندركها بعد وراء تعدد الأسماء، إلا أن في ما ذكرناه قد يكشف بعض الوجه في تعدد أسماء أمهات الأئمةعليهمالسلام .
وبذلك لا نحتاج إلى تكلف البحث عن المعنى الاشتقاقي لمعنى الاسم وتطبيق المعنى المناسب على المسمى كما حاول بعضهم(1) أن يوجد المناسبة ولو كانت بعيدة ليستنتج الوجه في التسمية.
وإنما لا نحتاج إلى ذلك لأننا لا نعلم الواضع لهذه الأسماء، لنلتمس الوجه اللائق في التسمية بالاسم المعين، نعم إذا كان الواضع معروفا وهو عالم بمداليل الألفاظ قاصدا لمعانيها فلا بد من حمل كلام الحكيم
____________________
(1) كريمة أهل البيتعليهمالسلام (فارسي) ص 83 - 86.
على ما يناسبه من المعاني، صيانة لكلامه عن اللغو، وقد مر أن الإمام الكاظمعليهالسلام أطلق اسم الطاهرة على السيدة تكتم بعد أن أنجبت الإمام الرضاعليهالسلام .
فهذه التسمية منهعليهالسلام تكشف عن معنى عظيم في المسمى صدر من المعصوم في شأن أم المعصوم، وهو العالم بحقائق الأمور الذي يضع الأشياء في مواضعها، وهو نظير ما ورد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليهالسلام ، فقد جاء في كتاب الكافي أنهعليهالسلام لما بعث من يشتري حميدة أم الإمام الكاظمعليهالسلام وجئ بها إليه، قال لها: ما اسمك؟ قالت:
حميدة، فقالعليهالسلام : حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة(1) .
فإنه وإن لم تكن التسمية منهعليهالسلام إلا أنه إقرار لها وإمضاء منه، بل فسرهعليهالسلام بتفسير يكشف عن معنى عظيم في هذه المرأة الطاهرة، وقد وصفها الإمام الصادقعليهالسلام كما في الكافي بقوله: حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلي كرامة من الله لي، والحجة من بعدي(2) .
وبناء على هذا فبقية الأسماء إن كانت على الوجه الذي ذكرناه فهو، وإلا فلا داعي للتكلف في التماس معنى مناسب فإن بعض ما ذكر من المعاني وتطبيقه عليها بعيد جدا.
هذا، وقد ذكرت ستة أسماء أخرى لأم الإمام الرضاعليهالسلام غير ما
____________________
(1) الأصول من الكافي ج 1 باب مولد أبي الحسن موسى بن جعفرعليهالسلام الحديث 1 ص 477.
(2) الأصول من الكافي ج 1 باب مولد أبي الحسن موسىعليهالسلام الحديث 2 ص 477.
ذكرناه، وهي: سكينة، وسلامة، وتحية، ونجية، وسها، وشهد(1) .
وإلى هنا تبين أن أم الإمام الرضاعليهالسلام والسيدة فاطمة المعصومةعليهاالسلام من سيدات النساء، وقد بلغت من الشرف والفضل والطهر والعفاف والكمال أعلى المراتب وأرفع الدرجات، حتى أصبحت قرينة المعصوم وأما للمعصوم. فسلام الله عليها وتحياته وبركاته.
____________________
(1) كريمة أهل البيتعليهمالسلام ص 86.
ولادة السيدة فاطمة المعصومةعليهاالسلام
في ذلك البيت الطاهر ولدت سليلة الطهر والعفاف فاطمة المعصومة، وكانت الظروف التي ألمت بأهل البيتعليهمالسلام آنذاك عصيبة جدا إلى حد غاب فيها عن المؤرخين والرواة تسجيل أحداث الولادة وتأريخها، أو ذكر شئ مما يتعلق بها، إذ كانت السلطة العباسية قد أحكمت قبضتها وأخذت تتتبع مناوئيها ممن تتوجس منهم وترى أنهم سبب إزعاج لهم ومصدر قلق لسياستهم، وهم العلويون وفي طليعتهم الإمام الكاظمعليهالسلام صاحب الحق الشرعي الذي ما فتئ يلمح بل ويصرح بأنه صاحب الحق، وأن العباسيين خدعوا الأمة بسياستهم الملتوية حيث أعلنوا للناس أن حركتهم ضد بني أمية إنما كانت غضبا لبني هاشم مما حل بهم من خصومهم الأمويين، وطلبا لثأرهم منهم، وأن دعوتهم كانت للرضا من آل محمدعليهمالسلام ، وبذلك استطاعوا أن يسيروا عواطف الناس ومشاعرهم نحو تأييدهم، وانطلت اللعبة على أكثر الناس فاستجابوا لهم في سذاجة وحسن نية، وفي غفلة عما بيته
العباسيون، حتى انخدع بذلك القواد الذين كان لهم الدور في توطيد الملك والقضاء على بني أمية وإخضاع البلاد، في ظن منهم أن الدعوة للرضا من آل محمدعليهمالسلام دعوة صادقة، وما علموا أن بني العباس إنما استخدموهم آلات لتحقيق أغراضهم، ولذا ما إن استلم العباسيون زمام الأمر واكتشف هؤلاء القواد أنهم خدعوا فأعلنوا سخطهم حتى فتكوا بهم واستأصلوهم كأبي سلمة الخلال، وأبي مسلم الخراساني وغيرهما من القادة العسكريين(1) .
ولم تكن هذه اللعبة لتخفى على آل محمدعليهمالسلام الذين اتخذهم العباسيون درعا تترسوا به من أجل الوصول إلى أغراضهم، وقد كشف الإمام الصادقعليهالسلام هذه المهزلة العباسية وأخذ حذره ولم يتورط في أحداث هذه الحركة المبيتة في حين قد تورط غيره من بني عمه فانساق معهم، وكان مآله أن فتك به كما فتك بغيره.
وفي هذه الحقبة الزمنية من التاريخ أحداث كبيرة، وهي جديرة بالبحث، ولسنا في صدد الحديث عنها، ولعلنا نشير إلى بعضها في موضع آخر.
أقول: من أجل هذا تحاشى الرواة والمؤرخون من الدنو من أهل البيتعليهمالسلام في هذه الفترة لتسجيل ونقل بعض الأحداث التي ترتبط بتاريخهم خوفا على أنفسهم من بطش الحكام وغضبهم بل انضم
____________________
(1) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهماالسلام ج 1 ص 347 - 372.
بعضهم إلى صفوف الحكام تزلفا وطمعا.
وقد غاب عنا كثير من الحقائق وخفيت علينا وقائع كثيرة، وذهبت في طي النسيان، ومنها تاريخ ولادة السيدة المعصومةعليهاالسلام ، فلم يرد في شئ من الروايات ذكر السنة التي ولدت فيها فضلا عن اليوم أو الشهر.
وما بأيدينا من المصادر التي ذكرت تاريخ ولادتهاعليهاالسلام هي في الحساب متأخرة جدا، ولم تذكر مستندا لذلك، بل ذكر بعض الكتاب أن ذلك أمر مجهول(1) .
ونحن وإن ننقل ما ذكره المؤلفون إلا أننا لسنا على يقين، وتبقى حلقة مفقودة تضاف إلى كثير من الحلقات الضائعة من تاريخ أهل البيتعليهمالسلام .
ذكر بعض المؤلفين - ونسبه إلى المؤرخين - أن ولادتهاعليهاالسلام كانت سنة 183 هـ، وهي السنة التي استشهد فيها والدها الإمام الكاظمعليهالسلام ، في قول أكثر المؤرخين(2) .
وعلى هذا فلم تحظ السيدة المعصومة بلقاء أبيهاعليهالسلام ورعايته، وعاشت في كنف أخيها وشقيقها الإمام الرضاعليهالسلام وصي أبيه والقائم مقامه.
واستبعد بعضهم(3) أن تكون ولادتهاعليهاالسلام في تلك السنة، لأن السنوات الأربع الأخيرة من عمرهعليهالسلام - على أقل التقادير - كان فيها
____________________
(1) رياحين الشريعة ج 5 (فارسي) ص 31.
(2) أعلام النساء المؤمنات ص 576.
(3) كريمة أهل البيتعليهمالسلام ص 103.
رهين السجون العباسية، مضافا إلى أنه قد ذكر أن للإمام الكاظمعليهالسلام أربعا من البنات(1) ، اسم كل منها فاطمة، وأن الكبرى من بينهن هي فاطمة المعصومةعليهاالسلام ، ولذا فلا بد أن تكون ولادتها قبل سنة 179 هـ، وهي السنة التي قبض فيها على الإمامعليهالسلام وأودع السجن.
ولكن بالالتفات إلى احتمال أن هؤلاء الفاطميات الثلاث - غير الكبرى - لسن من أم واحدة، بل من أمهات شتى، فلا استبعاد في أن تكون ولادتهن في سنة واحدة.
على أنه يمكن القول بأنه قد قبض على الإمامعليهالسلام وأمهاتهن حوامل بهن، وكانت ولادتهن بعد سنة 179 هـ، وأن فاطمة المعصومة كانت ولادتها في سنة 179 هـ.
ولكن مع ذلك لا يمكن الجزم بشئ، نعم بناء على أن شهادة الإمام الكاظمعليهالسلام كانت سنة 183 هـ، فمن البعيد أن تكون ولادة السيدة المعصومة في تلك السنة، ولا سيما أنها الكبرى من بين أخواتها الثلاث.
ثم إنه قد ذهب آخرون(2) إلى أن ولادتهاعليهاالسلام كانت في غرة شهر ذي القعدة سنة 173 هـ. والقائل بذلك وإن كان من الباحثين الأجلاء وله باع طويل في التحقيق والتتبع، وأرسل ذلك إرسال المسلمات إلا أنه لم يشر إلى مستنده في تحديد هذا التاريخ.
____________________
(1) تذكرة الخواص ص 351.
(2) مستدرك سفينة البحار ج 8 ص 261.
وبناء على هذا التاريخ تكون السيدة فاطمة قد عاصرت من حياة أبيها عشر سنوات، غير أن السنين الأربع الأخيرة من عمرهعليهالسلام كان فيها رهين السجون العباسية كما ذكرنا، فلم تحظ منه إلا بست سنوات.
ولم نقف في شئ من المصادر على غير هذين القولين في تحديد سنة ولادتهاعليهاالسلام .
وعلى أي تقدير فقد فتحت هذه السيدة عينيها على الدنيا في أيام محنة أبيها، وقد أحاطت به الخطوب، فارتسمت حياتها بالحزن والأسى، وإذا كان عمرهاعليهاالسلام ست سنوات يوم قبض على أبيها فهي في سن تدرك فيه غياب الأب عن البيت، وتعي ما يجري في هذا البيت، وما يسوده من الحزن والألم، وما يعانيه أهله من لوعة وعناء، ثم ما يتناهى إلى سمعها من شهادة أبيهاعليهالسلام ، وما تلاها من أحداث مروعة فيعتصر الألم قلبها الصغير، وهي لا ترجو لأبيها عودة إلى البيت، وترى أن هناك أخطارا تحدق بأهل هذا البيت، وربما أثار ذلك في نفسها كثيرا من التساؤلات حول ما يجري، ولماذا قصد أبوها بالذات، وأهل بيتها بالخصوص، بأنواع الإيذاء من دون سائر الناس، ولكنها ما تلبث أن تدرك أن لهذه القضايا جذورا تمتد إلى زمان جدتها الزهراءعليهاالسلام .
فمن ذلك اليوم الذي عانت فيه أمها فاطمةعليهاالسلام آلام الظلم والعدوان، ومن ذلك اليوم الذي نحي فيه جدها أمير المؤمنينعليهالسلام عن
منصب الإمامة أصبح أهل هذا البيت عرضة لظلم الظالمين وتعدي الغاشمين.
وما كانت السيدة فاطمة المعصومة لتبقى مهملة بلا كفيل، فإنها وإن فقدت أباها وهي في مقتبل العمر إلا أنها عاشت في كنف شقيقها الرضاعليهالسلام ، وأولاها العناية الخاصة في تربيتها ورعايتها، حتى غدت أفضل بنات الإمام موسى ين جعفرعليهماالسلام .
ونشأت هذه السيدة تتلقى من أخيها العلم والحكمة في بيت العصمة والطهارة، فأصبحت ذات علم ورواية ومقام وسيوافيك عنه حديث.
لا يخفى أن للتسمية أهمية كبيرة، ولها في نظر أهل البيتعليهمالسلام عناية خاصة، وهي وإن وجدت مع وجود الإنسان باعتبار المدنية الطبيعية المقتضية للتعامل مع الأشخاص والأشياء المختلفة الموجبة للتمييز فيما بينها إلا أن تعاليم أهل البيتعليهمالسلام أدخلت تعديلات مهمة في وضعها وإطلاقها على الأشخاص والأشياء راعت فيها الجوانب النفسانية والأخلاقية، فحثت على تخير الاسم الحسن، واعتبرت ذلك من حقوق الأبناء على آبائهم.
ففي رواية عن أبي الحسن موسىعليهالسلام قال: جاء رجل إلى
النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال: يا رسول الله ما حق ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه، وأدبه، وضعه موضعا حسنا(1) .
بل إضافة على ذلك كان أهل البيتعليهمالسلام يغيرون بعض الأسماء إذ ربما تترك أثرا سلبيا على نفس المسمى.
فقد روى الإمام الصادقعليهالسلام عن آبائهعليهمالسلام : أن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم كان يغير الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان(2) .
وروي عن موسى بن جعفرعليهماالسلام في حديث إسلام سلمان وأن اسمه كان روزبه، وأن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم اشتراه من امرأة يهودية بأربعماءة نخلة - إلى أن قالعليهالسلام -: قال سلمان: فأعتقني رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم وسماني سلمان(3) .
وروى الكليني بسنده عن يعقوب السراج أنه قال: دخلت على أبي عبد اللهعليهالسلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسىعليهالسلام ، وهو في المهد، فجعل يساره طويلا فجلست حتى فرغ، فقمت إليه، فقال: ادن إلى مولاك فسلم عليه، فدنوت فسلمت عليه، فرد علي بلسان فصيح ثم قال لي: إذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنه اسم يبغضه الله، وكانت ولدت لي بنت فسميتها بالحميراء، فقال أبو عبد اللهعليهالسلام :
انته إلى أمره ترشد فغيرت اسمها(4) .
____________________
(1) وسائل الشيعة ج 15 باب 22 من أبواب أحكام الأولاد الحديث 6.
(2) وسائل الشيعة ج 15 باب 22 من أبواب أحكام الأولاد الحديث 7.
(3) كمال الدين وتمام النعمة ص 165.
(4) الأصول من الكافي ج 1 باب الإشارة والنص على أبي الحسن موسىعليهالسلام الحديث 3 ص 308.