ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب13%

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 433

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب
  • البداية
  • السابق
  • 433 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182671 / تحميل: 10285
الحجم الحجم الحجم
ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

ليلة عاشوراء في الحديث والأدب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

٣

٤

٥

٦

مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلَّى الله على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين

وبعد :

فإن وقائعَ وأحداثَ الطف الدامية استأثرت باهتمام المؤرخين وأصحاب السير مُنذ الأيام الاُولى لواقعة الطف ، حتى قيل إنه كان في معسكر عمر بن سعد مَنْ كانت مهمتُه مقتصرةً على تسجيل تلك الوقائع ، ومن هنا استوعبتها الكثير من كتب التاريخ والسيرة ، ومعظم المؤرخين ذكروا هذه الواقعة الأليمة جملةً وتفصيلاً ، واهتموا بدراستها واستكشاف دوافعها وأسبابها وما فيها من دروس وعبر وما تركته من آثار ونتائج على مختلف الأصعدة ، واعتبروها أهمَ حدثٍ جرى منذُ عام ٦١ ه‍ بل أعظم حدث مأساوي في تاريخ الأمة الإسلامية حيث مقتل ابن بنت نبي الأمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن خلال نظرة عابرة إلى كثرة ما أُلّف في سرد وقائع هذه الحادثة الأليمة من الكتب المعنية بدراستها فقط ككتب المقاتل ، وما أعطته الكتب التاريخية العامة وكتب الحديث لهذا الفصل من تاريخ الإسلام من أهمية ، ناهيك المقاتل المخطوطة التي لم يُقدَّر لها حتى الآن أن تطبع وتنشر ، تبدو الأهمية الكبرى لهذه الواقعة في أنظار الباحثين والمؤرخين وأصحاب السير والتراجم.

ومن الملاحظ أن أصحاب السّير والمؤرخين ذكروا جُلَّ وقائع هذه الحادثة الأليمة ، منذ خروج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة المنورة في شهر رجب إلى يوم العاشر من محرم الحرام والأحداث التي تلت المقتل ، ولم يتناسوا الليلةَ

٧

الأخيرة من حياتهعليه‌السلام وسجّلوا ما أمكنهم من وقائعها وأحداثها ، وإن كان بعض المؤرخين أهملها أو ذكرها في غاية الإختصار.

فاسترعى ذلك اهتماميَ الشديد في أن أعطي هذه الليلة بعض حقّها من عَرض وقائعها وحوادثها وما يرتبط بها بشيء من التفصيل ، ولما في هذه الليلة من أحداث ومواقف يجدر الوقوف عندها ودراستها بإمعان ، إذ هي الليلة الأخيرة من حياة الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه الأوفياء ، وليلة في منتهى العظمة ، قُدّر لها أن تبقى خالدةً بما فيها من عِبَر ودروس ومأساة ومواقف مشرفة ، فيجدر الاهتمام بالبحث والتمحيص في وقائعها وأحداثها والمعرفة الكاملة بما جرى في طياتها ، ولذا لا ننسى هنا تأكيد الأئمة الطاهرينعليهم‌السلام الشديد في إحياء هذه الذكرى الأليمة والنظر إليها بعين الإعتبار.

ومن هنا قمت بجمع ما وسعني جمعه وإعداده من وقائع وحوادث هذه الليلة العظيمة وتنظيم تسلسل أحداثها وما جاء فيها من مواقف مُشرّفة ، وما جاء فيها من الأحاديث الشريفة وما يرتبط بها ، وتناولت أيضاً جانباً دراسياً عن أبعادها الدينية والأخلاقية وغيرهما من المواقف والأبعاد والتي يَجدُر الوقوفُ عندها والتأمل فيها والاستفادة منها ، فكان هذا هو القسم الاول :( ليلة عاشوراء في الحديث ) والذي يشتمل على الأمور التالية :

١ ـ الوقائع والأحداث

٢ ـ أعمال ليلة عاشوراء

٣ ـ الأبعاد المستوحاة من ليلة عاشوراء

وبما أنّ كتابنا هذا قد خُصّ بذكر ليلة عاشوراء في الحديث رأيت من الضرورة بمكان أن أتناول ليلة عاشوراء في الأدب ، فقمت بجمع ما تسنّى لي جمعه من قصائد وأشعار في ما يخصها ويرتبط بها ، كما إني التمست من إخواني

٨

الأدباء والشعراء المشاركة بما تجود به قرائحهم الوقّادة بما يناسب هذه الليلة حدثاً وموقفاً وتسليط الأضواء عليها ـ تخليداً لهذه الذكرى الأليمة ـ وقد رتبت تسلسل القصائد على حسب الحروف الهجائية لأسماء الشعراء الأولى ، مع دراسة نقدية أيضاً حولها بقلم الأستاذ الأديب ثامر الوندي وذلك لأهمية مثل هذه الدراسات ، فكان هذه هو القسم الثاني( ليلة عاشوراء في الأدب ) والذي يشتمل على الأمور التالية :

١ ـ من خصائص الأدب الشيعي وميزاته.

٢ ـ أهمية النقد الأدبي الموضوعي.

٣ ـ مرايا ليلة عاشوراء ( دراسة نقدية ).

٤ ـ القصائد في ليلة عاشوراء.

وكما لا يفوتني أن أقدم جزيل شكري وامتناني لكل أديب بارع وشاعر مبدع استجاب معي في المشاركة في هذا العمل الحسيني.

كما آمل أني قدمتُ بذلك خدمة متواضعة للمكتبة الحسينية إذ لا زلنا في حاجة ماسة إلى الإطلاع الواسع في هذه الواقعة الأليمة ، والمعرفة التامة بأبعادها ونتائجها ، والارتباط الشديد بها وإحيائها وعدم إغفالها في أي زمان ومكان ، وليتحقق بذلك إحياء أمر أهل البيتعليهم‌السلام إذ هو أمرٌ واجبٌ على عاتق كل من يُدين بالولاء الصادق لهم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى.

عبد الله الحسن

الجمعة / ٩ / ١١ / ١٤١٦ ه‍

٩

١٠

١١

١٢

تَمهيْد

في أحداث يوم التاسع

الخيل والرجال تحاصر الحسينعليه‌السلام

جاء في حديث عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام عن يوم تاسوعا ، قال : تاسوعا يومٌ حوصر فيه الحسينعليه‌السلام واصحابه ـ رضي الله عنهم ـ بكربلاء ، واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه ، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها ، واستضعفوا فيه الحسين صلوات الله عليه وأصحابَه وأيقنوا أنّه لا يأتي الحسينعليه‌السلام ناصر ، ولا يمدَّه أهل العراق ، بأبي المستضعف الغريب(١) .

حديث الأمان

روى أصحاب السير أن عُمر بنَ سعد نهضَ إلى الحسينِعليه‌السلام عشيةَ الخميسِ

__________________

(١) الفروع من الكافي للكليني : ج ٤ ، ص ١٤٧ ، بحار الأنوار : ج ٤٥ ، ص ٩٥.

١٣

لتسع مضينَ من المحرم ، وجاء شمرٌ حتى وَقفَ على أصحابِ الحسينِعليه‌السلام فقال : أينَ بنو أختِنا ؟ فَخرجَ اليه العباسُ وجعفرٌ وعبد الله وعثمان بنو عليّعليه‌السلام .

فقالوا له : ما لكَ وما تريد ؟ قال : أنتم يا بني أختي آمِنون ، قال له الفتية : لعنكَ اللهُ وَلعنَ أمانَكَ ، لئن كُنتَ خالنَا أتؤمِنُنا وَابن رسولِ اللهِ لا أمان له ؟

الحسين يرى جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال : ثُمَّ إن عُمرَ بنِ سعدٍ نادى : يا خيلَ الله اركبي وَأبشري فركب في الناسِ ثُمَّ زَحفَ نَحوهم بعدَ صلاةِ العصرِ وحسينٌعليه‌السلام جالسٌ أمامَ بيتهِ مُحتبئٌ(١) بسيفهِ إذ خفقَ برأسه على ركبتيه ، وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها ، فقالت : يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت.

قال : فرفع الحسينعليه‌السلام رأسه فقال : إني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقال لي : إنك تروح إلينا ، قال : فلطمت أخته وجهها وقالت : يا ويلتا ، فقال : ليس لك الويل يا أختي ، اسكني رحمكِ الرحمن.

وفي رواية السيد ابن طاووس ـ عليه الرحمة ـ قال : وجلس الحسينعليه‌السلام فرقد ثم استيقظ ، فقال : يا أختاه إني رأيتُ الساعةَ جدي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي علياً وأُمي فاطمة وأخي الحسنعليهم‌السلام وهم يقولون : يا حسين إنك رائح الينا عن قريب ، وفي بعض الروايات غداً(٢) .

__________________

(١) احتبى الرجُلُ : جمع ظهرَهُ وساقيهِ بثوب أو غيره المصباح المنير للفيومي : ص ١٢٠.

(٢) اللهوف لابن طاووس : ص ٣٩ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٩١.

١٤

العباسعليه‌السلام يكلم القوم

وقال العباس بن عليعليه‌السلام : يا أخي أتاك القوم ، قال : فنهض ، ثم قال : يا عباس اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم : ما لكم وما بدا لكم ؟ وتسألهم عمّا جاء بهم ؟

فأتاهم العباسعليه‌السلام فاستقبلهم في نحوٍ من عشرين فارساً فيهم زهير بن القين(١) وحبيب بن مظاهر(٢) ، فقال لهم العباس : ما بدا لكم وما تريدون ، قالوا :

__________________

(١) هو : زهير بن القين بن قيس الأنماري البجلي ، كان رجلاً شريفاً في قومه ، نازلاً بالكوفة ، وشجاعاً له في المغازي مواقف مشهورة ومواطن مشهودة وقد كان في بادىء أمره عثمانياً ، انضم إلى الحسينعليه‌السلام في الطريق من مكة إلى العراق بعد أن كان كارهاً للقائه ، وكان في المسير ، إذا سار الحسين تخلف زهير وإذا نزل الحسين تقدّم زهير إلى أن اجتمع معه في منزل واحد بغير اختياره ، ثم أرسل إليه الحسين يدعوه وكان على الطعام فبقي كأن على رأسه الطير فقالت له زوجته دلهم بنت عمرو : أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه. ثم ذهب للحسين فما لبث أن جاء مستبشراً ، قد أسفر وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه ، فقوِّض وحمل إلى الحسين ثم قال لزوجته أنت طالق الحقي بأهلك فإني لا اُحب أن يصيبك بسببي إلاّ خير ، ثم لحق بركب الحسين ، واستشهد زهيرعليه‌السلام بعد صلاة الخوف وأبلى بلاءً حسناً.

راجع إبصار العين للسماوي : ص ٩٥ ـ ٩٩ ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص ٨٨.

(٢) هو : حبيب بن مظهر بن رئاب بن الأشتر بن جخوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قيس بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد أبو القاسم الأسدي الفقعسي ، كان صحابياً رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نزل إلى الكوفة ، وصحب أمير المؤمنينعليه‌السلام في حروبه كلها ، وكان من خاصته وحملة علومه ومن

١٥

جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم ، قال : فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام فأعرض عليه ما ذكرتم ، قال : فوقفوا ثم قالوا : القه فأعلمه ذلك ، ثم القنا بما يقول ، قال : فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسينعليه‌السلام يخبره بالخبر.

ووقف أصحابه يخاطبون القوم ، فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين : كلِّم القوم إن شئت وإن شئت كلّمتُهم ؟ فقال له زهير : أنت بدأت بهذا فكن أنت تكلّمهم ؟

فقال له حبيب بن مظاهر : أما والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته وأهل بيتهعليه‌السلام وعباد أهل المصر المجتهدين بالأسحار ، والذاكرين الله كثيراً(١) .

فقال له عزرة بن قيس : إنك لتزكي نفسك ما استطعت !؟

فقال له زهير : يا عزرة إن الله قد زكاها وهداها فاتق الله يا عزرة فإني لك من الناصحين ، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضَّلال على قتل النفوس الزكية

__________________

شرطة الخميس ، وكان أحد الزعماء الكوفيين الذين كتبوا إلى الحسينعليه‌السلام وأخذوا البيعة له ، ولما نزل الحسينعليه‌السلام كربلاء سار إليه مختفياً والتحق به ، وكان معظماً عند الحسين وأهل بيته ، وذلك لجلالة قدره وعلو منزلته ، وقد حاول جهده في استقدام أنصار من بني أسد إلاّ أن الجيش الأموي حال دون وصولهم إلى معسكر الحسين ، وقد جعله الحسين على ميسرة أصحابه عند التعبئة للقتال ، وجاهدعليه‌السلام مستميتاً إلى أن قُتل ، واحتز رأسه التميمي فهدّ مقتله الحسين ووقف عليه وقال : عند الله أحتسب نفسي وحُماة أصحابي.

راجع : إبصار العين للسماوي : ص ٥٧ ـ ٦٠ ، تاريخ الطبري : ج ٤ ص ٣٣٦ ، أنصار الحسين لشمس الدين : ص ٨١ ـ ٨٢.

(١) وفي الفتوح لابن الأعثم : الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار وشيعته الأتقياء الأبرار.

١٦

قال يا زهير : ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت إنما كنت عثمانياً !

قال : أفلست تستدلّ بموقفي هذا أني منهم ؟ أما والله ما كتبت إليه كتاباً قط ، ولا أرسلت إليه رسولاً قط ، ولا وعدته نصرتي قط ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلما رأيته ذكرت به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومكانه منه وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم فرأيت أن أنصره ، وأن أكون في حزبه وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيَّعتم من حق الله وحق رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : وأقبل العباس بن عليعليه‌السلام يركض حتى انتهى إليهم.

فقال : يا هولاء إن أبا عبد اللهعليه‌السلام يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في هذا الأمر ، فإن هذا أمرٌ لم يجرِ بينكم وبينه فيه منطق فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله فإما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه أو كرهنا فرددناه وإنما أراد بذلك أن يردهم عنه تلك العشية حتى يأمر بأمره ويوصي أهله فلما أتاهم العباس بن عليعليه‌السلام بذلك ، قال عمر بن سعد : ما ترى يا شمر ؟ قال : ما ترى أنت ؟ أنت الأمير والرأي رأيك.

قال : قد أردت ألا أكون ثم أقبل على الناس ، فقال : ماذا ترون ؟ فقال عمر بن الحجاج بن سلمة الزبيدي : سبحان الله والله لو كانوا من الديلم(١) ثم سألوك هذه المنزلة لكانَ ينبغي لَكَ أن تُجيَبهُم إليها.

وفي رواية السيد ـ عليه الرحمة ـ فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي : والله لو أنهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم ، فكيف وهم آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

__________________

(١) الديلم : القسم الجبلي من بلاد جيلان شمالي بلاد قزوين ، وهي من قرى أصبهان بناحية جرجان.

مراصد الإطلاع : ج ٢ : ص ٥٨٠ ، المنجد في الاعلام : ص ٢٩٦.

١٧

فأجابوهم إلى ذلك(١) .

وَقال قيسُ بن الأشعث : أجبهُم إلى مَا سألوكَ فَلعمري ليصبِحنَّكَ بالقتالِ غدوةً فقال : واللهِ لو أعلمُ أنْ يفعلوا ما أخرتهم العشية.

قال : وكانَ العباسُ بن عِليعليه‌السلام حينَ أتى حسيناً بما عرضَ عليه عمرُ بن سِعد قال : ارجعْ إليهم فإنْ استطعت أن تؤخرهم إلى غدوةَ ، وتَدفعهُم عند العشيةِ لعلنا نُصلّي لربِّنا الليلةَ وَندعوه وَنستغفُره ، فهوَ يَعلم أني قد كنتُ اُحبُ الصلاة لَه وَتلاوةَ كتابهِ وَكثرةَ الدعاءِ وَالاستغفارِ.

فاستمهل السبط الطغاة لعلّه

يدعو إلى الله العلي ويضرعُ

فأقام ليلته يناجي ربّه

طوراً ويسجد في الظلام ويركع

وَرويَ عن الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام قال : أتانا رسولٌ مِنْ قِبل عُمر بن سَعدٍ فقامَ مثلَ حَيثُ يُسمعُ الصوتُ فقال : إنا قَد أجلناكم إلى غد فإن استسلمتم سَرحنا بكُم إلى أميرِنا عبيد الله بن زياد وَإنْ أبيتُم فَلسنا تاركيكُم(٢) .

حديث زينب مع أبي الفضل العباسعليهما‌السلام

وذكر البعض حديثاً جرى بين العباسعليه‌السلام وبين اخته زينبعليها‌السلام وذلك بعد رجوعه من محادثة الشمر ، وقد انكر عليه رافضا أمانه الذى جاء به له ولإخوته !

__________________

(١) اللهوف لابن طاووس : ص ٣٩.

(٢) تاريخ الطبري : ج ٤ ، ص ٣١٥ ـ ٣١٧ ، نهاية الأرب للنويري : ج ٢٠ ، ص ٣٣٢ ـ ٣٣٤ ، الإرشاد للمفيد : ص ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، العوالم للبحراني : ج ١٧ ، ص ٢٤٣.

١٨

قال : ورجع أبو الفضل العباسعليه‌السلام يتهدرس كالأسد الغضبان استقبلته الحوراء زينبعليها‌السلام وقد سمعت كلامه مع الشمر ، قالت له أخي إنّي أحدثك بحديث ؟ قال : حدّثي يا زينب لقد حلا وقت الحديث !

قالت : إعلم يا بن والدي لما ماتت أمنا فاطمةعليها‌السلام قال أبي لأخيه عقيل : اُريد منك أن تختار لي امرأةً ، من ذوي البيوت والشجاعة حتى اُصيب منها ولداً ينصر ولدي الحسين بطف كربلاء ، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم ، فلا تقصّر يا أبا الفضل !

فلما سمع العباسعليه‌السلام كلامها تمطى في ركاب سرجه حتى قطعهما ، وقال لها : أفي مثل هذا اليوم تشجعينني وأنا ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟! فلما سمعت كلامه سرّت سروراً عظيما(١) .

بطلٌ إذا ركب المطهَّم خلتَه

جبلاً أشّم يخفّ فيه مطهمُ

بطلٌ تورّث من أبيه شجاعةً

فيها انوف بني الضلالة ترغم

وقد أجاد السيد محمد رضا القزويني حيث يقول :

قرَّت لها عينُ الكريمة زينب

لتراك أهلاً أن تصون خباءَها

فمضت تقص عليك دوراً عاصفاً

فيك الشهامة ما اعتزمت فداءََها

في ليلة طاب الحديث الحلو من

اخت وأنت على الجواد إزاءَها

تروي مصاهرة الكرام بقصة

قد انجبتك ولم تُرد اخفاءَها

فهززت سيفك أن تُطمئن قلبها

بيدٍ تلقت في غد جذاءَها

__________________

(١) ثمرات الأعواد : للسيد علي الهاشمي : ج ١ ، ص ١٦٧ ـ ١٦٨.

١٩

فتصاعدت بيضاء تدعوا ربّها

ألا يَخيبَ السائلون رجاءَها

فتحَّدث التاريخُ عنها أنَّها

ملئت بأسخى المكرُمات عطاءَها

حديث زهير مع أبي الفضل العباسعليه‌السلام

ومثل هذا الحديث حديث أخر جرى بين زهير بن القين مع أبي الفضل العباسعليه‌السلام كما في أسرار الشهادة للدربندي ـ عليه الرحمة ـ قال : أتى زهير إلى عبد الله بن جعفر بن عقيل قبل أن يُقتل ، فقال له : يا أخي ناولني الرّاية.

فقال له عبد الله : أوَفيَّ قصور عن حملها ؟! قال : لا ، ولكن لي بها حاجة ، قال : فدفعها إليه ، وأخذها زهير وأتى فجأةً العباس بن عليعليه‌السلام وقال ! يابن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أريد أن احدثك بحديث وعيته ، فقال : حَدّث ، فقد حلا وقت الحديث.

فقال له : اعلم يا أبا الفضل ، إنَّ أباك أمير المومنينعليه‌السلام ، لما أراد أن يتزوج بأمك اُم البنين ، بعث إلى أخيه عقيل ، وكان عارفاً بأنساب العرب ، فقالعليه‌السلام : يا أخي ، اُريد منك أن تخطب لي امرأةً من ذوي البيوت والحسب والنسب والشجاعة ، لكي اُصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي هذا ، وأشار إلى الحسينعليه‌السلام ليواسيه في طفّ كربلاء ، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم ، فلا تقصر عن حلائل أخيك وعن إخوانك ؟!

قال : فارتعد العباس وتمطى في ركابه حتى قطعه ، قال : يا زهير ، تشجعني في مثل هذا اليوم ؟ والله لأريَّنكَ شيئاً ما رأيتَه قط(١) .

__________________

(١) أسرار الشهادة للدربندي : ج ٢ ، ص ٤٩٧ ، معالي السبطين للحائري : ج ١ ، ص ٤٣٤ ، مقتل الحسين للمقرم : ص ٢٠٩ بتفاوت.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

فلا يمكن الالتزام بتسلسل الإضافات والتعلّقات دون العلوم.

وأمّا الجواب بتسلسل العلوم الاعتبارية ، فلأنّه ـ بعد فرض أنّ علمه تعالى صفة وجودية ـ لم يدرك العقل فرقا بين علمه تعالى ، و [ بين ](١) علمه بعلمه ، حتّى يقال : إنّ الأوّل حقيقي وغيره اعتباري ، فإنّ الجميع علمه ، وعلمه صفة وجودية عندهم ، والتحكّمات الباردة لا أثر لها عند ذي المعرفة.

ولا يرد النقض علينا بعلمه تعالى على مذهبنا ؛ لأنّ علمه تعالى عندنا عين ذاته ، وليس هناك إلّا انكشاف المعلومات له ، فلا يتصوّر اعتبار مطابقة ذاته للمعلومات.

نعم ، يمكن فرض مطابقة علمه لها بمجرّد الاعتبار الذي لا تضرّ معه المطابقة ، لأمور غير متناهية ، في مراتب غير متناهية.

وأمّا ما أجاب [ به ] (٢) عن المحال الرابع ، فغير منطبق بكلا شقّي الترديد فيه على مراد المصنّف ; ، فإنّه أراد أنّه لو كانت الصفات زائدة على ذاته تعالى لزم التركيب في حقيقة الإله ؛ لأنّ الذات في نفسها ـ مع قطع النظر عن الحياة والعلم والقدرة ، وغيرها من الصفات ـ خالية عن مقتضيات الإلهية ، فإذا كان الإله هو المركّب من الذات والصفات ، ولا إله إلّا الله ، كان الله سبحانه مركّبا ، والتركيب ينفي الوجوب

مع إنّ القول بإلهية المركّب ـ لا الذات ـ في نفسها كفر بالإجماع والضرورة.

وأمّا تخصيصه لكلام أمير المؤمنين ٧ بصفات هي غير الذات

__________________

(١) أضفنا ما بين القوسين المعقوفتين لضرورة السياق.

(٢) أضفنا ما بين القوسين المعقوفتين لضرورة السياق.

٢٨١

بالكلّيّة ، فتخصيص بلا شاهد ، مع إنّه إنّما ينفع إذا كان القول بأنّ صفاته ليست عين ذاته ولا غيرها رافعا لإشكال التركيب والخروج عن الوجوب ، وهو بالضرورة ليس كذلك ؛ لأنّه اعتذار لفظي فقط لا يغيّر قولهم بزيادة الصفات على الذات الذي جاء الإشكال من قبله.

هذا ، ويمكن أن يشير أمير المؤمنين ٧ بكلامه المذكور إلى المحال الثاني ، ويكون حاصله :

من وصف الله سبحانه فقد قرنه بغيره ؛ وهو صفاته

ومن قرنه بغيره فقد ثنّاه بواجب آخر ؛ لما عرفت من أنّ صفاته تعالى لا يمكن أن تصدر عنه بالاختيار أو الإيجاب ، فتكون واجبة الوجود بنفسها ، أو منتهية إلى واجب آخر صفاته عين ذاته ، فيتعدّد الواجب

ومن عدّده وثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد صيّره ممكنا وجهله.

والله ووليّه أعلم.

وأمّا ما أجاب به عن المحال الخامس ، فحاصله :

إنّ قولنا : « الصفات ليست عين الذات ، ولا غيرها » اصطلاح لفظي ناشئ من اعتبارين.

وفيه : إنّا رأيناهم يجيبون به عن الإلزامات الحقيقية المبنيّة على مغايرة الذات للصفات حقيقة ـ كما سمعت بعضها ـ ، فكيف يكون اصطلاحا واعتبارا مجرّدا؟!

وبالجملة : إن أرادوا به الحقيقة ، فهو غير معقول ، كما بيّنه المصنّف ;.

وإن أرادوا به الاعتبار والاصطلاح ، فلا مشاحّة.

٢٨٢

لكن ما بالهم يجيبون به عن الأمور المبنيّة على الحقائق؟! فلا بدّ أنّهم أخطأوا على أحد الوجهين!

* * *

٢٨٣
٢٨٤

البقاء ليس زائدا على الذات

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

المبحث التاسع

في البقاء

وفيه مطلبان :

[ المطلب الأوّل

إنّه ليس زائدا على الذات

وذهب الأشاعرة إلى أنّ الباقي إنّما يبقى ببقاء زائد على ذاته ، وهو عرض قائم بالباقي ، وأنّ الله تعالى باق ببقاء قائم بذاته(٢) .

ولزمهم من ذلك المحال ـ الذي تجزم الضرورة ببطلانه ـ من وجوه :

الأوّل : إنّ البقاء إن عني به الاستمرار ، لزمهم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ؛ وهو محال بالضرورة.

بيان الملازمة : إنّ الاستمرار كما يتحقّق في جانب الوجود ، كذا

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٥ ـ ٦٧.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٥٩ وما بعدها ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٦٤ ـ ١٦٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ، شرح التجريد : ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

٢٨٥

يتحقّق في جانب العدم ؛ لإمكان تقسيم المستمرّ إليهما ، ومورد القسمة مشترك ؛ ولأنّ معنى الاستمرار كون الأمر في أحد الزمانين كما كان في الزمان الآخر.

وإن عني به صفة زائدة على الاستمرار ، فإن احتاج كلّ منهما إلى صاحبه ؛ دار

وإن لم يحتج أحدهما إلى الآخر ، أمكن تحقّق كلّ منهما بدون صاحبه ، فيوجد بقاء من غير استمرار وبالعكس ؛ وهو باطل بالضرورة

وإن احتاج أحدهما [ إلى صاحبه ] خاصة ، انفكّ الآخر عنه ؛ وهو ضروري البطلان.

الثاني : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور ؛ لأنّ البقاء عرض يحتاج في وجوده إلى الجوهر

فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر ـ الذي فرض باقيا ـ كان كلّ من البقاء ووجود الجوهر محتاجا إلى صاحبه ؛ وهو عين الدور المحال.

وإن احتاج إلى وجود جوهر غيره ، لزم قيام الصفة بغير الموصوف ؛ وهو غير معقول.

أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، فجاز أن يقوم بذاته لا في محلّ ، ويقتضي وجود الجوهر في الزمان الثاني ، وهو خطأ ؛ لأنّه يقتضي قيام البقاء بذاته فيكون جوهرا [ مجرّدا ] ، والبقاء لا يعقل إلّا عرضا قائما بغيره.

وأيضا : يلزم أن يكون هو بالذاتية أولى من الذات ، وتكون الذات بالوصفيّة أولى منه ؛ لأنّه مجرّد مستغن عن الذات ، والذات محتاجة إليه

والمحتاج أولى بالوصفيّة من المستغني ، والمستغني أولى بالذاتية من

٢٨٦

المحتاج ؛ ولأنّه يقتضي بقاء جميع الأشياء ؛ لعدم اختصاصه بذات دون أخرى.

الثالث : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنيا عن هذا البقاء ، كان وجوده في الزمان الثاني كذلك ؛ لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا بذاته إلى شيء وبعض أفرادها غنيا عنه.

* * *

٢٨٧

وقال الفضل(١) :

اتّفق المتكلّمون على إنّه تعالى باق ، لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتيّة زائدة أو لا؟

فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وأتباعه ، وجمهور معتزلة بغداد(٢) إلى أنّه صفة ثبوتية زائدة على الوجود ، إذ الوجود متحقّق دونه [ أي دون البقاء ] كما في أوّل الحدوث ، بل يتجدّد بعده صفة هي البقاء(٣) .

ونفى كون البقاء صفة موجودة زائدة كثير من الأشاعرة ، كالقاضي أبي بكر ، وإمام الحرمين ، والإمام الرازي(٤) ، وجمهور معتزلة

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٤٧ ـ ٢٤٩.

(٢) منهم : بشر بن المعتمر الهلالي ( ت ٢١٠ ه‍ ) ، وثمامة بن الأشرس البصري ( ت ٢١٣ ه‍ ) ، وأبو جعفر محمّد بن عبد الله الإسكافي ( ت ٢٤٠ ه‍ ) ، وعيسى بن الهيثم الصوفي الخيّاط ( ت ٢٤٥ ه‍ ) ، وأبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي الكعبي ( ت ٣١٩ ه‍ ).

(٣) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٥٩ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦.

(٤) أمّا القاضي أبو بكر فهو : محمّد بن الطيّب بن محمّد بن جعفر بن القاسم البصري الباقلّاني ، المتكلّم ، المالكي مذهبا ، الأشعري اعتقادا وطريقة.

ولد سنة ٣٣٨ ه‍ ، وسكن بغداد وتوفّي بها سنة ٤٠٣ ه‍ ، من تصانيفه : إعجاز القرآن ، الملل والنحل ، وهداية المسترشدين في الكلام ، وتمهيد الأوائل ، والإنصاف.

انظر في ترجمته : ترتيب المدارك ٢ / ٥٨٥ ، وفيات الأعيان ٤ / ٢٦٩ رقم ٦٠٨ ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٩٠ رقم ١١٠ ، شذرات الذهب ٣ / ١٦٨ ، هديّة العارفين ٦ / ٥٩.

٢٨٨

البصرة(١) ، وقالوا : البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني ، لا أمر زائد عليه(٢) .

ونحن ندفع ما أورده هذا الرجل على مذهب الشيخ الأشعري ، فنقول : أورد عليه ثلاث إيرادات :

الأوّل : إنّ البقاء إن عني به الاستمرار ، لزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية إلى آخر الدليل.

__________________

وأمّا إمام الحرمين فهو : ضياء الدين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ، الفقيه الشافعي.

ولد سنة ٤١٩ ه‍ ، قدم بغداد ثمّ سافر وجاور مكّة والمدينة ، ورجع إلى نيسابور يدرّس العلم ، ويعظ ، إلى أن توفّي بها سنة ٤٧٨ ه‍ ؛ من تصانيفه : الإرشاد في علم الكلام ، البرهان في الأصول ، غياث الأمم ، نهاية المطلب.

انظر في ترجمته : وفيات الأعيان ٣ / ١٦٧ رقم ٣٧٨ ، سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٦٨ رقم ٢٤٠ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٥ / ١٦٥ رقم ٤٧٧ ، شذرات الذهب ٣ / ٣٥٨ ، هديّة العارفين ٥ / ٦٢٦.

وأمّا الرازي فهو : أبو عبد الله فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين بن الحسن ، الفقيه الشافعي ، المعروف بابن الخطيب.

ولد بالريّ سنة ٥٤٣ ه‍ أو ٥٤٤ ه‍ ، وتوفّي بمدينة هراة سنة ٦٠٦ ه‍ ، له تصانيف كثيره في فنون عديدة ، منها : تفسير القرآن الكريم ، المطالب العالية ، نهاية العقول ، الأربعين في أصول الدين ، المحصّل ، إبطال القياس.

انظر في ترجمته : وفيات الأعيان ٤ / ٢٤٨ رقم ٦٠٠ ، سير أعلام النبلاء ٢١ / ٥٠٠ رقم ٢٦١ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٨ / ٨١ رقم ١٠٨٩ ، شذرات الذهب ٥ / ٢١ ، هديّة العارفين ٦ / ١٠٧.

(١) منهم : واصل بن عطاء ( ت ١٣١ ه‍ ) ، وعمرو بن عبيد ( ت ١٤١ ه‍ ) ، وأبو بكر الأصمّ ( ت ٢٠٠ ه‍ ) ، وإبراهيم النظّام ( ت ٢٣١ ه‍ ) ، وأبو الهذيل العلّاف ( ت ٢٣٥ ه‍ ) ، وأبو علي الجبّائي ( ت ٣٠٣ ه‍ ) ، وأبو هاشم الجبّائي ( ت ٣٢١ ه‍ ).

(٢) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٥٩ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦.

٢٨٩

والجواب : إنّ البقاء عني به استمرار الوجود ، لا الاستمرار المطلق حتّى يلزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ، فاندفع ما قال.

الثاني : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور

ثمّ ذكر أنّ الأشاعرة أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، ورتّب عليه أنّه حينئذ جاز أن يقوم بذاته لا في محلّ

وهذا الجواب افتراء عليهم!(١) .

بل أجابوا بمنع احتياج الذات إليه ، وما قيل [ من ] أنّ وجوده في الزمان الثاني معلّل به ، ممنوع ؛ غاية ما في الباب أنّ وجوده فيه لا يكون إلّا مع البقاء ، وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علّة لوجوده فيه ، إذ يجوز أن يكون تحقّقهما معا على سبيل الاتّفاق(٢) .

فاندفع كلّ ما ذكر من المحذور.

الثالث : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنيا ، كان في الثاني كذلك.

والجواب : إنّ جميع أفراد الوجود محتاج إلى البقاء في الزمان الثاني ، غنيّ عنه في الزمان الأوّل ، فلا يختلف أفراد الطبيعة في الاحتياج والغنى الذاتيّين

وهو حسب أنّ الوجود في الزمان الأوّل فرد ، وفي الزمان الثاني فرد آخر ، وهذا غاية جهله وعدم تدرّبه في شيء من المعقولات!

__________________

(١) بل حكاه الفخر الرازي في : الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٣.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٠٨.

٢٩٠

وأقول :

ما نقله عن الأشعري وأتباعه من أنّ تحقّق الوجود في أوّل الحدوث دون البقاء ، يدلّ على تجدّد صفة ثبوتية زائدة على الوجود هي البقاء ، ضروري البطلان ؛ لجواز أن يكون البقاء عين الوجود المستمرّ لا صفة زائدة متجدّدة.

ولو سلّم ، فلا يدلّ على كونها وجودية ، بل يجوز أن تكون اعتبارية ـ كما هو الحقّ ـ كمعيّة الباري سبحانه مع الحوادث المتجدّدة بتجدّد الحوادث.

وذكر شارح « المواقف » الجواب الأخير وعلم به الخصم(١) ، فإنّ ما ذكره من كيفية الخلاف قد أخذه من « المواقف » وشرحها(٢) ، فكان الأحرى به تركه.

وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الأوّل ، ففيه :

إنّ حقيقة البقاء هي الاستمرار ، لكن إذا كان البقاء صفة للوجود ، كان عبارة عن استمرار الوجود من باب تعيين المورد ، لا أنّ حقيقة البقاء هي خصوص استمرار الوجود ، فإنّه لا يدّعيه عاقل ، وذلك نظير الوجود ، فإنّه عبارة عن الثبوت ، فإذا كان وصفا لزيد ، كان عبارة عن ثبوته ، ولا يصحّ أن يقال : إنّ معنى الوجود ثبوت زيد ؛ فحينئذ يتمّ كلام المصنّف.

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٠٧.

(٢) المواقف : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٨.

٢٩١

وأمّا ما نقله عن الأشاعرة في الجواب عن الإيراد الثاني ، ففيه : إنّه لو لم تحتج الذات إلى البقاء ، وجاز أن يكون تحقّقهما على سبيل الاتّفاق ، لجاز انفكاك كلّ منهما عن صاحبه ؛ وهو غير معقول ؛ لا من طرف الذات ؛ لاستلزامه جواز أن لا تبقى ، فتكون ممكنة ؛ ولا من طرف البقاء ؛ لأنّ افتقار العرض إلى المعروض ضروري.

وأيضا : لو جاز أن يكون تحقّقهما اتّفاقيا ، لكان البقاء مستغنيا في نفسه عن الذات ، فيكون جوهرا ، وهو غير معقول ؛ ويكون واجبا إن استغنى عن غيرها أيضا ؛ أو ممكنا إن احتاج إليه ؛ ولا بدّ أن ينتهي إلى واجب آخر ، فيكون مع الذات واجب آخر ، ويلزم التركيب ويخرجان عن الوجوب.

وأيضا : لو استغنى البقاء عنها ، لكانت نسبته إلى جميع الأشياء على حدّ سواء ، فيثبت لجميع الأشياء ولا يختصّ بالذات.

فظهر أنّ ما نقله الخصم مشتمل على أكثر المفاسد التي ذكرها المصنّف وزيادة ـ وإن كان بعض ما زدناه واردا أيضا على ما نقله المصنّف عنهم ـ فأيّ حاجة للمصنّف في تغيير الجواب؟!

لكنّ الخصم لمّا لم يعرف غير « المواقف » ، يرى أنّ كلّ ما ليس فيها كذب ، على إنّ جواب « المواقف » وشرحها ـ الذي ذكره ـ مشتمل على ما نقله المصنّف ؛ لأنّهما إذا أجازا أن يكون اجتماع الذات والبقاء اتّفاقيا ، فقد قالا بعدم حاجة البقاء إلى المحلّ.

وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الثالث ، فأجنبيّ عن الإشكال لأنّ صريح كلام المصنّف هو أنّ الوجود المستمرّ لا يصحّ أن يكون في الزمن الأوّل غنيا عن البقاء ، وفي الزمن الثاني محتاجا إليه

٢٩٢

وقد تخيّل أنّ مراد المصنّف هو اختلاف أفراد الوجود ، فبعضها غني عن البقاء في الزمن الأوّل ، محتاج إليه في الزمن الثاني ، والبعض الآخر ليس كذلك ، فأشكل عليه بعدم اختلاف أفراد الوجود بالغنى والاحتياج.

نعم ، مبنى الإشكال في كلام المصنّف على كون الوجود المستمرّ فردين للوجود : أحدهما : الوجود في الزمن الأوّل ، وثانيهما : الوجود في الزمن الثاني

فإنّه حينئذ لا يمكن احتياج ثانيهما إلى البقاء مع غنى أوّلهما عنه ؛ لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا بذاته إلى شيء ، وبعض أفرادها مستغنيا عنه ، وإنّما بنى الإشكال على كونهما فردين ؛ لأنّ التعدّد مقتضى قول الأشاعرة باختلاف الوجود في الزمانين بالغنى والحاجة إلى صفة البقاء ذاتا(١) ، فيكونان فردين من طبيعة واحدة حسب الفرض.

ولو بنى المصنّف ; الإشكال على القول بأنّ الوجود المستمرّ فرد واحد لا تزايد فيه ولا اشتداد ، لكان بطلان مذهب الأشعري أظهر ، إذ يمتنع أن يكون الفرد الواحد مختلفا بذاته بالاستغناء والحاجة في زمانين.

وقد كان الأولى بالمصنّف أن يذكر بطلان مذهب الأشعري على كلا الوجهين.

* * *

__________________

(١) انظر مؤدّاه في شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٧.

٢٩٣
٢٩٤

إنّه تعالى باق لذاته

قال المصنّف ـ نوّر الله ضريحه ـ(١) :

المطلب الثاني

في أنّ الله تعالى باق لذاته

الحقّ ذلك ؛ لأنّه لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ، فلا يكون واجبا ؛ للتنافي الضروري بين الواجب والممكن.

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، وذهبوا إلى أنّه تعالى باق بالبقاء(٢) .

وهو خطأ لما تقدّم(٣) ؛ ولأنّ البقاء إن قام بذاته تعالى لزم تكثّره واحتياج البقاء إلى ذاته تعالى ، مع إنّ ذاته محتاجة إلى البقاء ، فيدور.

وإن قام بغيره كان وصف الشيء حالّا في غيره ؛ ولأنّ غيره محدث.

وإن قام البقاء بذاته كان مجرّدا.

وأيضا : بقاؤه تعالى باق لامتناع تطرّق العدم إلى صفاته تعالى ؛ ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث ، فيكون له بقاء آخر ، ويتسلسل.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٧.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٨.

(٣) راجع : المبحث التاسع ، الصفحة ٢٨٥ وما بعدها.

٢٩٥

وأيضا : صفاته تعالى باقية ، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى.

* * *

٢٩٦

وقال الفضل(١) :

قد عرفت في ما سبق أكثر أجوبة ما ذكره في هذا الفصل

قوله : « لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ».

قلنا : الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الإمكان ، ومن كان صفاته من ذاته لم يكن ممكنا.

قوله : « ولأنّ البقاء إن قام بذاته لزم تكثّره ».

قلنا : لا يلزم التكثّر ؛ لأنّ الصفات الزائدة ليست غيره مغايرة كلّيّة.

قوله : « احتاج البقاء إلى ذاته ، وذاته محتاجة إلى البقاء ، فيلزم الدور ».

قلنا : مندفع بعدم احتياج الذات إلى البقاء ، بل هما متحقّقان معا كما سبق(٢) ، فهو قائم بذاته من غير احتياج الذات إليه ، بل هما متحقّقان معا.

قوله : « بقاؤه باق ».

قلنا : مسلّم ، فالبقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء ، كاتّصاف الوجود بالوجود.

قوله : « ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث ».

قلنا : ممنوع ؛ لأنّا قائلون بقدمه.

قوله : « يكون له بقاء آخر ، ويتسلسل ».

قلنا : مندفع بما سبق من أنّ بقاء البقاء نفس البقاء.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٥٢.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٩٠ من هذا الجزء.

٢٩٧

قوله : « صفاته تعالى باقية ، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى ».

قلنا : قد سبق أنّ الصفات ليست مغايرة للذات بالكلّيّة ، فيمكن أن يكون البقاء صفة للذات ، وتبقى الصفات ببقاء الذات ، فلا يلزم قيام المعنى بالمعنى.

٢٩٨

وأقول :

ما أجاب به عن لزوم إمكان الواجب مبنيّ على قولهم : إنّ صفاته ليست غير ذاته بالكلّيّة.

وقد عرفت أنّه لا طائل تحته ، إذ لا يرجع إلّا لإصلاح لفظي ، فإنّهم يقولون بزيادة الصفات في الوجود ، فتغاير الذات بالكلّيّة ، فيلزم إمكان الذات ، لحاجتها في الوجود إلى غيرها ، وهو البقاء ، ويلزم التكثّر.

وأمّا ما أجاب به عن لزوم الدور ، من عدم احتياج الذات إلى البقاء ، بل هما متحقّقان على سبيل الاتّفاق ، فقد عرفت في المبحث السابق ما فيه من المفاسد الكثيرة.

وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف : « بقاؤه باق » ، من أنّ بقاء البقاء عينه ، ففيه :

إنّه لو ساغ ذلك فلم لا يكون بقاء الذات عينها؟! مع إنّه باطل على مذهبهم ؛ لأنّهم زعموا أنّ القول بالعينية راجع إلى النفي المحض(١) ؛ لأنّه يؤدّي إلى أن يكون تعالى عالما لا علم له ، وقادرا لا قدرة له ، وباقيا لا بقاء له ، وهكذا

فإذا قالوا : إنّ بقاء البقاء عينه ، كان البقاء باقيا لا بقاء له ، وهو باطل بزعمهم(٢) .

__________________

(١) المواقف : ٢٨٠.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، المواقف : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٨.

٢٩٩

وأيضا : دليلهم السابق الذي استدلّوا به على إنّ البقاء صفة ثبوتية زائدة على الذات وارد مثله في بقاء البقاء

فيقال : تحقّق البقاء في أوّل حدوثه دون بقاء البقاء ، دليل على تجدّد صفة بقاء البقاء وزيادتها على البقاء ، فيلزمهم أيضا أن يكون بقاء البقاء أيضا صفة ثبوتية متجدّدة زائدة على البقاء ، لا أنّها عينه.

وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف : « ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث »

فهو دالّ على إنّه لم يفهم مراده ، فإنّه لم يدّع أنّ البقاء حادث حتّى يجيب بأنّا قائلون بقدمه ، بل أراد أن يستدلّ على قوله : « بقاؤه باق » بأمرين :

الأوّل : امتناع طرق العدم إلى صفاته.

الثاني : إنّه لو جاز عدم بقاء البقاء ، لكان البقاء حادثا ؛ لأنّ ما يجوز عدمه حادث ، ولو كان البقاء حادثا لكان الواجب محلّا للحوادث ، فلا بدّ أن يكون البقاء باقيا ، وهكذا ويتسلسل.

وغرض الخصم في ما أجاب به عن التسلسل أنّه تسلسل في الاعتباريات ، وهو ليس بمحال ؛ لأنّ بقاء البقاء نفس البقاء واقعا وإن خالفه اعتبارا.

وفيه : إنّه مستلزم لكون البقاء أيضا اعتباريا ، فلم قالوا : إنّه صفة وجوديّة؟!(١) وذلك لأنّ التماثل في الأفراد المتسلسلة يستدعي وحدة حقيقتها.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٠٦.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433