روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة25%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116021 / تحميل: 7007
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

أيسر حقّ منها: أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك.

ومنها: أن تجتنب سخطه، وتتّبع مرضاته، وتطيع أمره.

ومنها: أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.

ومنها: أن تبرّ قسمه، وتجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته، وإذا علمت أنَّ له حاجةً تبادره إلى قضائها، ولا تلجئه أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرةً، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته، وولايته بولايتك) (1) .

وفي رواية أُخرى ذَكر (عليه السلام) جملةً من الحقوق فقال: (إنَّ من حقّ المؤمن على المؤمن: المودّة له في صدره، والمواساة له في ماله، والخَلف له في أهله، والنُصرة له على مَن ظلمه، وإن كان نافلةً في المسلمين وكان غائباً أخذ له بنصيبه، وإذا مات الزيارة في قبره، وأن لا يظلمه، وأن لا يغشّه، وأن لا يخونه، وأن لا يخذله، وأن لا يكذب عليه، وأن لا يقول له أفّ..) (2) .

ومن الحقوق أن يناصح المؤمن غيره من المؤمنين، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (يجب للمؤمن على المؤمن أن يناصحه) (3) .

ومن الحقوق: صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وحُسن الخُلق، والقُرب من الناس، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أقربكم مني غداً في

____________________

(1) الكافي 2: 169.

(2) الكافي 2: 171.

(3) الكافي 2: 208.

١٢١

الموقف أصدقكم للحديث، وآداكم للأمانة، وأوفاكم بالعهد، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس) (1) .

ومن الحقوق تحكيم الأواصر المشتركة في العلاقات، والتعامل من خلال الأُفق الواسع الذي يجمع الجميع في أُطر ونقاط مشتركة، ونبذ جميع الأواصر الضيّقة، فحرّم الإسلام التعصّب للعشيرة أو القومية، ودعا إلى إزالة جميع المظاهر التي تؤدّي إلى التعصّب المقيت، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس منّا مَن دعا إلى عصبية، وليس منّا مَن قاتل على عصبية، وليس منّا مَن مات على عصبية) (2) .

ومن أهم الحقوق إصلاح ذات البين؛ لأنّه يؤدي إلى علاج كثير من الممارسات السلبية، التي تفكّك أواصر الإخاء، وتستأصل الوِئام في أجوائه، لذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام) (3) .

حقوق المجتمع في رسالة الحقوق:

وضع الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في رسالة الحقوق منهجاً متكاملاً، في خصوص الحقوق الاجتماعية المترتبة على الفرد، باعتباره جزءً من الأُسرة ومن المجتمع، وممّا ورد في قوله (عليه السلام): (وأمّا حق أهل ملّتك عامة: فإضمار السلامة، ونشر جناح الرحمة، والرِّفق بمسيئهم، وتألّفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم إلى نفسه واليك، فإنّ إحسانه إلى نفسه

____________________

(1) تحف العقول: 32.

(2) كنز العمال 3: 510 / 7657.

(3) ثواب الأعمال: 178.

١٢٢

إحسانه إليك، إذا كفّ عنك أذاه وكفاك مؤونته، وحبس عنك نفسه، فعمّهم جميعاً بدعوتك، وانصرهم جميعاً بنصرتك.

وأنزلهم جميعاً منك منازلهم؛ كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ، فمَن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة، وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه.

وأمّا حق أهل الذمّة، فالحكم فيهم أن تقبل منهم ما قِبل الله، وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده، وتكلهم إليه فيما طلبوا من أنفسهم وأُجبروا عليه، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك، فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم، من رعاية ذمة الله، والوفاء بعهده، وعهد رسوله، حائل، فإنّه بلغنا أنّه قال: مَن ظلم معاهداً كنت خصمه) (1) .

الآثار الايجابية لمراعاة حقوق المجتمع:

فيما يلي نستعرض بعض الروايات التي وردت في ثواب مَن راعى حقوق أفراد المجتمع.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مَن ردّ عن عِرض أخيه المسلم وجبت له الجنة البتة) (2) .

وقال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): (مَن كفّ عن أعراض الناس كفّ الله عنه عذاب يوم القيامة، ومَن كفّ غضبه عن الناس أقاله الله نفسه يوم

____________________

(1) تحف العقول: 195 - 196.

(2) ثواب الأعمال / الصدوق: 175، مكتبة الصدوق، طهران 1391 هـ.

١٢٣

القيامة) (1) .

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (أربع مَن كنّ فيه بنى الله له بيتاً في الجنّة: مَن آوى اليتيم، ورحم الضعيف، وأشفق على والديه، ورفق بمملوكه) (2) .

وقال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (مَن أطعمَ مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومَن سقى مؤمناً من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، ومَن كسا مؤمناً كساه الله من الثياب الخضر) (3) .

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (البرّ والصدقة ينفيان الفقر، ويزيدان في العمر، ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء) (4) .

ولمراعاة الحقوق الاجتماعية مزيد من الآثار الايجابية، التي تنعكس على الفرد والأسرة والمجتمع في دار الدنيا والآخرة، وردت في كتب الحديث، سيّما في كتاب (ثواب الأعمال) للشيخ الصدوق، لا مجال لذكرها جميعاً في هذا المختصر.

____________________

(1) ثواب الأعمال: 161.

(2) ثواب الأعمال: 161.

(3) ثواب الأعمال: 164.

(4) ثواب الأعمال: 169.

١٢٤

الفصل السادس

أحكام العلاقة بين الجنسينِ

سنكرّس البحث في هذا الفصل عن أحكام العلاقات بين الرجل والمرأة، والتي ينبغي أن تكون منسجمةً مع أُسس وقواعد المنهج الإسلامي، الذي رسم لها هدفاً بيّناً، وحدّد لها طريقاً معلوماً، فلم يتركها للنزوة العارضة والرغبة الغامضة، والفلتة التي لا تستند إلى موازين ثابتة، بل أراد لها أن تكون على مستوى الأمانة العظيمة التي أناطها الله تعالى ببني الإنسان، فقد جعلها علاقة سكن للنفس، وطمأنينة للروح، وراحة للجسد، ثمّ ستراً، وإحصاناً، وصيانةً، ثمّ مزرعةً للنسل، وامتداداً للحب والودّ.

فقد تعامل مع الجنسينِ على أساس الفطرة، مراعياً الحاجات المادية والروحية، بلا إفراط ولا تفريط، فحرّم جميع مظاهر وألوان العلاقات المخالفة للنزاهة والعفّة، والمؤدية إلى الانحراف والانزلاق والشذوذ؛ لكي يأخذ الجنسان نصيبهما في إصلاح النفس والأُسرة والمجتمع.

وقد جعلنا هذا الفصل ضمن آداب الأُسرة؛ لأنّ الغالب في عصرنا

١٢٥

الحاضر ابتلاء الأُسر بمثل هذه الأحكام.

أحكام النظر:

النظر إلى الجنس الآخر من قِبل أحد الجنسين تترتب عليه آثار عملية عديدة، ومواقف سلوكية متباينة، قد تؤدي إلى إثارة الشهوة والوقوع في الفتنة.

قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوةَ، وكفى بها لصاحبها فتنة) (1) .

والنظر يؤدّي في أغلب الأحيان إلى الوقوع في شباك إبليس، فتعقب صاحبها الندامة والحسرة، قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرةً طويلة) (2) .

والنظر قد يكون مقصوداً وبشهوة فيكون إحدى مقدمات الزنا، قال الإمامان محمد الباقر وجعفر الصادق (عليهما السلام): (ما من أحد إلاّ وهو يصيب حظّاً من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القُبلة، وزنا اليدين اللّمس، صدّق الفرج ذلك أم كذّب) (3) .

ولأجل الحفاظ على المجتمع من الانحراف، والابتذال، والسقوط، دعا الإسلام المؤمنين والمؤمنات إلى غض البصر، وتجنّب النظر إلى الجنس الآخر، قال تعالى: ( قُلْ لِلمؤمِنينَ يَغُضُّوا من أبصَارِهِم ويَحفظُوا فُرُوجَهم

____________________

(1) مَن لا يحضره الفقيه / الصدوق 4: 18 / 4970، جماعة المدرّسين، ط2، قم 1404 هـ.

(2) الكافي / الكليني 5: 559، دار الكتب الإسلامية، طهران 1403 هـ.

(3) الكافي 5: 559.

١٢٦

ذلكَ أزكَى لَهُم إنَّ اللهَ خَبيرٌ بما يَصنَعُونَ * وَقُل لِلمؤمِناتِ يَغْضُضْنَ مِن أَبصارِهِنَّ ويَحفظنَّ فُرُوجَهُنَّ ولا يُبدِينَ زِينتَهُنَّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنها وليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ على جيُوبهِنَّ... ) (1) .

وفي هذه الآية أمر الله تعالى الجنسينِ بغض البصر، وأمر المرأة بالحجاب بتغطية رأسها ورقبتها، وحفظ مواضع الزينة إلاّ ما ظهر منها كالوجه والكفينِ (2) .

أمّا إظهار الزينة بنفسها فحرام، ولكن المقصود هو مواضع الزينة عند أغلب المفسّرين.

عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفراً (عليه السلام)، وسُئل عمّا تظهر المرأة من زينتها، قال: (الوجه والكفيّن) (3) .

والنظر الجائز هو النظرة الأُولى، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تُتبع النظرة النظرة، فليس لك إلاّ أَوّل نظرة) (4) .

والجمع بين الأدلة في جواز النظر وحرمته، يقيّد بجواز النظرة الأُولى غير المقصودة وغير المتعمدة.

ومعاودة النظر حرام (ولا ينظر الرجل إلى المرأة الأجنبية إلاّ مرةً من غير معاودة...) (5) .

____________________

(1) سورة النور: 24 / 30 - 31.

(2) مجمع البيان / الطبرسي 4: 138، مطبعة العرفان، صيدا 1355 هـ. وجواهر الكلام 29: 75.

(3) الكافي 5: 522.

(4) وسائل الشيعة 20: 193.

(5) اللمعة الدمشقية / محمد مكي العاملي: 183، دار الناصر، ط1، طهران 1406 هـ. وجامع المقاصد 12: 32.

١٢٧

وإنّه لا خلاف في (تحريم نظر المرأة إلى الأجنبي أعمى كان أو مبصراً) (1) .

والنظرة الأُولى مهما كانت أسبابها ودوافعها مقيّدة بعدم التلذّذ والريبة، كأن تقع مصادفةً، أو لضرورة، أو غير ذلك، فالنظرة بتلذّذ وريبة حرام (2) .

المستثنى في جواز النظر إلى غير الوجه والكفين:

هنالك مستثنيات لحرمة النظر يجوز فيها النظر لأشخاص معيّنين مطلقاً، ولحالات ومواقف معيّنة، وجميع هذا الجواز مقيّد بعدم التلذّذ والريبة إلاّ في (الزوجين) (3) .

أَوّلاً: استثناء بعض الأشخاص:

جوّزت الآية المتقدمة لبعض الأشخاص النظر إلى الجنس الآخر كما جاء في قوله تعالى: ( ... وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ) (4) .

تقدم أنّ المراد هو موضع الزينة وليست الزينة نفسها، وموضع الزينة هو الوجه والكفان، فيجوز لأشخاص معيّنين النظر إلى أكثر من الوجه

____________________

(1) الحدائق الناضرة / يوسف البحراني 23: 65. وجامع المقاصد 12: 41 - 42.

(2) المقنعة: 521. والحدائق الناضرة 23: 61.

(3) الحدائق الناضرة 23: 61.

(4) سورة النور: 24 / 31.

١٢٨

والكفيّن، كالشعر وباقي أجزاء الجسد عدا العورة، وهم:

1 - الزوج والأب وأبو الزوج.

2 - الابن وابن الزوج من زوجة ثانية.

3 - الأخ وأبناء الأخ وأبناء الأخت.

ويجوز للرجل النظر إلى زوجته وأُمّه، وأمّ زوجته وبنته، وبنت زوجته من زوج ثانٍ، وأُخته وبنات أخيه وبنات أخته، أي يجوز النظر إلى مطلق المحارم (1) ، وبمعنى آخر لا يتوجب على المذكورات لبس القناع، وتغطية الرأس، وعدم وجوب الحجاب مخصوص بما ذكرته الآية الشريفة.

أمّا ما تعارف عليه عند البعض، وهو عدم الحجاب من أخ الزوج، أو زوج الخالة، أو زوج العمة، أو ابن العم، وابن الخال، ومَن بدرجتهما، أو عدم تحجّب أخت الزوجة، أو زوجة ابن الأخ، أو زوجة ابن الأخت، فهذا لا جواز له؛ لأنّ هذه الأصناف ليست من المحارم، وعدم وجوب الحجاب مخصوص بالمحارم فقط.

ويحرم على المرأة المسلمة أن تتجرّد أمام اليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية، إلاّ إذا كانت أَمَةً، أي مملوكةً (2) .

ويجوز تعمّد النظر دون ريبة من قِبل (أولي الإربة)، وهو كما قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (الأحمق الذي لا يأتي النساء) (3) ، وليس له حاجة

____________________

(1) الحدائق الناضرة 23: 61. وجامع المقاصد 12: 33.

(2) مجمع البيان 4: 183.

(3) مجمع البيان 4: 138.

١٢٩

جنسية في النساء.

ويجوز النظر للأطفال الذين لم يعرفوا عورات النساء، ولم يقووا عليها؛ لعدم شهوتهم، وكذلك جواز التبرّج أمامهم، قال الإمام الرضا (عليه السلام): (لا تغطّي المرأة رأسها من الغلام حتى يبلغ) (1) .

ويجوز إدامة النظر إلى البنت الصغيرة، والعجوز المسنّة (2) دون تلذّذ وريبة.

ثانياً: استثناء بعض النساء من غير المحارم:

إنّ علة تحريم النظر الدائم والمتواصل، هو منع مقدمات وأسباب الانحراف، والأمر بعدم النظر موجّه للرجل والمرأة على حدٍّ سواء، ولكنّ الإسلام استثنى بعض النساء، وجوّز النظر إليهنّ دون تلذّذ؛ مراعاةً للأمر الواقع.

فجوّز النظر إلى وجوه وأيدي وشعور نساء أهل الكتاب وأهل الذمة (3) .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا حرمة لنساء أهل الذمة أن ينظر إلى شعورهنّ وأيديهنّ) (4) .

ويجوز النظر إلى كلِّ متبرّجة غير متقيّدة بالحجاب الإسلامي، ويجوز النظر غير المتعمّد إلى المجنونة.

____________________

(1) الكافي 5: 533. وجامع المقاصد 12: 33.

(2) الحدائق الناضرة 23: 64.

(3) المقنعة: 521. وجامع المقاصد 12: 31.

(4) الكافي 5: 524.

١٣٠

قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (لا بأس بالنظر إلى رؤوس أهل تهامة، والأعراب، وأهل السواد، والعُلُوج لأنّهم إذا نُهوا لا ينتهون).

وقال (عليه السلام): (والمجنونة والمغلوبة على عقلها، ولا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما لم يتعمد ذلك) (1) .

والنظر الجائز مختصّ بنظر الرجال إلى الأصناف المذكورة من النساء، وأن لا يكون نظر شهوة وتلذّذ، ولا يجوز تعميم الحكم للنساء المسلمات بأن ينظرنَ إلى رجال أهل الكتاب.

ثالثاً: استثناء بعض الحالات:

المحرّم في الشريعة يصبح جائزاً عند الضرورة، فالنظر المتبادل بين الرجل والمرأة - سواء كان متوالياً أو متقطعاً - يكون جائزاً في حال الضرورة (2) .

والضرورة قد تكون حاجةً مخفّفةً، وقد تكون ضرورةً شديدة، وجواز النظر عند الحاجة يكون مختصاً بالنظر إلى الوجه واليدين، والحاجة مثل الشهادة للمرأة أو عليها، فلابدّ من رؤية وجهها ليعرفها (3) .

وجواز النظر للحاكم والقاضي من أجل؛ التعرّف عليها للمثول أمامه، أو الحكم عليها (4) .

____________________

(1) الكافي 5: 524.

(2) اللمعة الدمشقية: 183. وجواهر الكلام 29: 89.

(3) المبسوط 4: 161. والحدائق الناضرة 23: 63.

(4) المبسوط 4: 161.

١٣١

وجواز النظر لمَن أُريد التعامل معها، في بيع، وشراء، وإجارة، وغير ذلك من أنواع المعاملات (1) .

والضرورة تبيح جميع المحظورات حتى النظر إلى جسد المرأة، وأفضل مصداق للضرورة، هو حالات العلاج التي قد تكون على أيدي الرجال في حال الاضطرار، أو عدم وجود المِثل - أي المرأة - التي تقوم بنفس دور الطبيب من الرجال، ويشمل ذلك جميع حالات العلاج وما يتوقف عليه من (فصد، وحجامة، ومعرفة نبض العروق، ونحو ذلك) (2) .

وعند الضرورة يجوز النظر إلى أي موضع لا يمكن العلاج إلاّ بعد الوقوف عليه (3) .

روى أبو حمزة الثمالي، عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام)، قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها، إمّا كسر، أو جِراح، في مكان لا يصلح النظر إليه، ويكون الرجال أرفق بعلاجه من النساء، أيصلح له أن ينظر إليها؟ قال: (إذا اضطرت إليه فيعالجها إن شاءت) (4) .

وهذا يعني جواز إجراء العمليات الجراحية من قِبل الرجال للنساء، ومنها عملية الولادة حيث يطّلع الطبيب فيها على عورة المرأة، وهذا الجواز مشروط بالضرورة، والضرورة تأتي بعد عجز النساء عن علاج المرأة في الولادة، أو عدم توفّر القابلة من النساء.

____________________

(1) المبسوط 4: 161. والحدائق الناضرة 23: 63. وجامع المقاصد 12: 34.

(2) الحدائق الناضرة 23: 63.

(3) راجع المبسوط 4: 161.

(4) الكافي 5: 534.

١٣٢

والقاعدة الكلية في النظر أنّه (يجوز نظر الرجل إلى مِثله ما خلا العورة، والمرأة إلى مِثلها كذلك، والرجل إلى محارمه ما عدا العورة، كل ذلك مقيّد بعدم التلذّذ والريبة إلاّ في الزوجين) (1) .

وشرط عدم التلذّذ والريبة نافذ الحرمة في جميع الحالات، حتى في النظر إلى المحارم كالأخت والخالة، والعمة وزوجة الأب، وبعكسها في النساء أيضاً، كنظر الأخت والخالة، والعمة وزوجة الأب، إلى مقابلها من الرجال.

ويُكره النظر إلى أدبار النساء من خلف الثياب، وإذا كان هذا النظر مصحوباً بالتلذّذ والريبة فهو حرام.

سُئل الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عن هذا النظر فقال: (أَما يخشى الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا بذلك في نسائهم) (2) .

____________________

(1) الحدائق الناضرة 23: 61.

(2) الكافي 5: 520.

١٣٣

أحكام متفرّقة في العلاقات العملية

1 - حكم سماع صوت المرأة الأجنبية:

سماع صوت المرأة الأجنبية جائز من قِبل الرجال، وقد دلّت السيرة على جوازه، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما هو متواتر - كان يسمع صوت النساء، وكنّ يسألنه عن شؤون الدين، وقد اشتهر عن الزهراء (عليها السلام) خطبتها في المسجد النبوي الشريف، ومعارضتها لأبي بكر وعمر في خصوص الخلافة، وفدك (1) .

والمحرّم من السماع هو السماع الموجب للّذة والفتنة (2) .

ولذا حرّم الإسلام على المرأة ترقيق القول، وتليين الكلام بالصورة التي تثير الرجال، أو يكون الكلام بنفسه مؤدياً للإثارة؛ لاحتوائه على معانٍ مثيرة، فلابدّ أن يكون الكلام مستقيماً بريئاً من الريبة موافقاً للدين (3) .

قال تعالى: ( ... فلا تَخْضَعْنَ بالقولِ فَيَطمَعَ الَّذي في قَلبهِ مَرضٌ وقُلنَ قَولاً مَّعرُوفاً ) (4) .

____________________

(1) تاريخ الطبري، أحداث سَنة 11 هـ. والإمامة والسياسة. وتاريخ اليعقوبي. والكامل في التاريخ، أحداث سنة 11 هـ.

(2) الحدائق الناضرة 23: 66 - 67. وجامع المقاصد 12: 43.

(3) مجمع البيان 4: 356.

(4) سورة الأحزاب: 33 / 32.

١٣٤

2 - حكم مصافحة المرأة الأجنبية:

يحرم مصافحة المرأة الأجنبية مباشرةً، ويجوز من وراء الثياب بأن يكون عازلاً بين اليدين، بشرط أن لا يغمز كفّها، فإنّ غمز الكفّ من المحرّمات، قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (لا يحلّ للرجل أن يصافح المرأة، إلاّ امرأة يحرم عليه أن يتزوّجها: أخت أو بنت، أو عمة أو خالة، أو ابنة أُخت أو نحوها، فأمّا المرأة التي يحلُّ له أن يتزوجها، فلا يصافحها إلاّ من وراء الثوب ولا يغمز كفّها) (1) .

فالمصافحة حرام بين الرجل والمرأة، ويمكن للإنسان الذي يعيش في أوساط الاختلاط، أو في مجتمعات غير إسلامية أن يصافح من وراء الثياب؛ دفعاً للحرج الذي يواجهه.

3 - حكم الخلوة بالمرأة الأجنبية:

حرّم الإسلام الاختلاء بالمرأة الأجنبية التي يحلُّ له أن يتزوجها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يخلونّ رجل بامرأة، فإنّ ثالثهما الشيطان) (2) .

وقال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (فيما أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من البيعة على النساء... ولا يقعدنّ مع الرجال في الخلاء) (3) .

والاختلاء يعني الانفراد في مكان خالٍ من الناس، في موضع واحد لا يصله أحد، مع عدم الأمن من الفساد؛ لأنّ الاختلاء يؤدّي إلى إثارة

____________________

(1) الكافي 5: 525. وجامع المقاصد 12: 44.

(2) مستدرك الوسائل 14: 266.

(3) الكافي 5: 519.

١٣٥

الشهوة، وتيسير مقدمات الانحراف، وقد اعتاد البعض على ترك الأخ مع الزوجة، أو ابن الأخ مع زوجة العم، أو ما شابه ذلك، وهو من الأمور التي حرّمتها الشريعة إلاّ في حالات الضرورة القصوى.

4 - حكم مشي المرأة في الطريق:

من الأفضل للمرأة أن لا تمشي وسط الطريق، وإنّما في جانبه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس للنساءِ من سَرَوات الطريق شيء، ولكنّها تمشي في جانب الحائطِ والطريقِ) (1) .

5 - حكم الدخول على النساء:

أوجب الإسلام الاستئذان في حالة دخول الرجل على المرأة، قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدخل الرجال على النساء إلاّ بإذنهنّ).

وفي رواية (أن يدخل داخل على النساء إلاّ بإذن أوليائهنّ) (2) .

فالاستئذان واجب، وهو حق شخصي للمرأة من جهة، وهو يحول عن الوقوع في ما هو حرام على الرجال من جهة أُخرى، فطلب الإذن يتيح للمرأة الفرصة لارتداء حجابها، وبذلك يتجنّب الرجل النظرة المحرّمة.

ويجوز للعبيد المملوكين لمرأة معيّنة أو الأطفال الدخول على المرأة المالكة في أي وقت؛ لأنّ الاستئذان المتكرّر يولّد الحرج في مسألة

____________________

(1) الكافي 5: 518.

(2) الكافي 5: 528.

١٣٦

الخدمة (1) ، واستثنى الإسلام ثلاث أوقات، فلا يباح لهم الدخول إلاّ بعد الاستئذان، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ.... ) (2) .

أمّا إذا بلغ الطفل الحُلُم فيجب عليه الاستئذان عند الدخول، على أيّة امرأة وإن كانت محرّمةً عليه قال تعالى: ( وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا... ) (3) .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (ومَن بلغ الحُلُم فلا يلج على أُمّه، ولا على أُخته، ولا على خالته، ولا على سوى ذلك، إلاّ بإذن...) (4) .

وقال (عليه السلام): (يستأذن الرجل إذا دخل على أبيه، ولا يستأذن الأب على الابن، ويستأذن الرجل على ابنته وأُخته إذا كانتا متزوجتين) (5) .

فالاستئذان حقّ يجب العمل به؛ لكي لا يفاجأ الداخل المرأة وهي في حالة لم تكن متهيّئةً لاستقباله.

6 - حكم تشبّه الرجال بالنساء وبالعكس:

خلق الله تعالى الإنسان ذكراً وأنثى، ووضع لكل جنس خصوصياته،

____________________

(1) مجمع البيان 4: 154.

(2) سورة النور: 24 / 58.

(3) سورة النور: 24 / 59.

(4) الكافي 5: 529.

(5) الكافي 5: 528.

١٣٧

التي تميّزه عن غيره من الحركة والسكون، ومن الاندفاع نحو ممارسة معيّنة والانكماش عنها؛ ولذا فمن الواجب على الجنسين أن يحافظ كل منهما على خصوصياته المميّزة له، في كلامه وجلوسه ومشيته، ولباسه وعاداته وتقاليده؛ لذا حرّم الإسلام تشبّه أحد الجنسين بالجنس الآخر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لعن الله المتشبّهين من الرجال بالنساء، والمتشبّهات من النساء بالرجال) (1) .

وتشديداً على الحرمة قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أخرجوهم من بيوتكم فإنّهم أقذر شيء) (2) .

وأعراف المجتمع وتقاليده هي التي تشخّص وتحدّد طبيعة التشبّه، وهو قد يختلف من مجتمع لآخر ومن زمن لآخر.

7 - حكم العلاقة مع الصبيان قبل البلوغ:

وضع الإسلام بعض الأُسس والقواعد السلوكية؛ لوقاية الإنسان من الانحراف، وتهذيب ممارساته عن طريق التمرّن، والتدريب، ومجاهدة النفس؛ لتكون له حصانة من الانزلاق، ولهذا وضع الإسلام أحكام الاستحباب والكراهة لهذا الغرض، فمن المستحسن للإنسان المسلم أن يداوم على المستحبات، ويتجنّب المكروهات وإن كانت جائزةً، ومن هذه المكروهات التي نهى عنها الإسلام، هي تقبيل الصبي من قِبل المرأة، وتقبيل الصبيّة من قِبل الرجل من غير محارمه، فهو مكروه إن كان بدون شهوة، ومحرّم إن كان بشهوة.

____________________

(1) علل الشرائع / الصدوق: 602، دار إحياء التراث العربي، ط2، بيروت 1385 هـ.

(2) علل الشرائع / الصدوق: 602، دار إحياء التراث العربي، ط2، بيروت 1385 هـ.

١٣٨

عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): إنّ بعض بني هاشم دعاه مع جماعة من أهله، فأتى بصبيّة له، فأدناها أهل المجلس جميعاً إليهم، فلمّا دنت منه سأل عن سنّها، فقيل: (خمس سنين، فنحّاها عنه) (1) .

وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (إذا بلغت الجارية ستّ سنين، فلا ينبغي لك أن تقبّلها) (2) .

وقال (عليه السلام): (إذا بلغت الجارية ستّ سنين فلا يقبّلها الغلام، والغلام لا يقبّل المرأة إذا جاز سبع سنين) (3) .

فمن المستحسن عدم تعويد الصبيان على هذه الممارسات؛ لكي لا يشبّوا عليها؛ لأنّهم سوف لا يجدون حرجاً منها عند بلوغهم، وقد أثبت الواقع صحة ذلك، فكثير من الانحرافات عند البلوغ تكون مستشريةً بين النساء أو الرجال، الذين واجهوا مثل هذه الممارسات في مرحلة الصبا.

وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين

____________________

(1) الكافي 5: 533.

(2) تهذيب الأحكام 7: 481. والكافي 5: 533.

(3) وسائل الشيعة 20: 230 / 25502.

١٣٩

الفهرس

مقدمة المركز 5

المقدِّمة 7

الفصل الأَوّل: مقدمات تشكيل الأُسرة 11

معنى الأُسرة: 11

استحباب النكاح وأهميته: 12

كراهية العزوبة: 14

استحباب السعي في النكاح: 15

استحباب الدعاء للنكاح: 16

اختيار الزوجة: 17

اختيار الزوج: 21

الكفاءة في الزوج: 22

الأحكام المتعلّقة بالخطبة: 24

استحباب الخطاب أثناء الخطبة: 25

أحكام خطبة المرأة ذات العِدّة: 26

المهر والصَداق: 27

حكم ما يأخذه الأب: 29

الفصل الثاني: الأحكام العملية لبناء الأُسرة 31

صيغة العقد: 31

الإشهاد في العقد: 32

شروط العقد الذاتية والإضافية: 33

أولياء العقد: 34

المحلّل والمحرّم في النكاح: 35

مراسيم الزواج: 39

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

أنت أم رامق؟ فقلت: بل رامق(١) .

قال: طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتّخذوا الأرض بساطا و ترابها فراشا و ماءها طيبا و القرآن شعارا و الدّعاء دثارا، ثم قرضوا الدنيا قرضا على منهاج المسيح إن داود عليه السلام قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلاّ أن يكون عشّارا أو عريفا أو شرطيّا(٢) .

لا تقولوا بما لا تعرفون

من خطبة له في صفة الخيّرين: عباد اللّه، إنّ من أحبّ عباد اللّه اليه عبدا قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحقّ و يعمل به، لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها(٣) و لا مظنّة إلاّ قصدها(٤) .

أيها الناس، لا تقولوا بما لا تعرفون، فإنّ أكثر الحق في ما تنكرون و اعذروا من لا حجّة لكم عليه

____________________

(١) أراد ب «الرامق» منتبه العينين، في مقابلة الراقد بمعنى النائم.

(٢) العشار: من يتولى أخذ أعشار الاموال، و هو المكاس. و العريف: من يتجس على أحوال الناس و أسرارهم فيكشفها لأميرهم، مثلا. الشرطة: أعوان الحاكم.

(٣) أمّها: قصدها.

(٤) المظنّة: موضع ظن لوجود الخير.

١٨١

منطقهم الصّواب و مشيهم التّواضع

روي أن صاحبا لابن أبي طالب يقال له «همام» قال له: يا أمير المؤمنين، صف لي المتّقين حتى كأني أنظر اليهم فتثاقل الإمام عن جوابه قليلا، ثم قال في صفة المتّقين قولا رائعا كثيرا، هذا بعضه: أمّا بعد، فإن اللّه سبحانه و تعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم، لأنه لا تضرّه معصية من عصاه و لا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسم بينهم معايشهم و وضعهم من الدنيا مواضعهم، فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب و ملبسهم الاقتصاد و مشيهم التواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم و وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزّلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزّلت في الرّخاء(١) ، و لو لا الأجل الذي كتب عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين.

لا يرضون من أعمالهم القليل و لا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم

____________________

(١) أي انهم إذا كانوا في بلاء كانوا بالأمل في اللّه كأنهم في رخاء لا يجزعون و لا يهنون، و إذا كانوا في رخاء كانوا من خوف اللّه و حذر النقمة كأنهم في بلاء، لا يبطرون و لا يتجبرون.

١٨٢

متّهمون، و من أعمالهم مشفقون(١) ، إذا زكّي أحدهم(٢) خاف مما يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، و ربّي أعلم بي مني بنفسي.

اللهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، و اجعلني أفضل مما يظنّون، و اغفر لي ما لا يعلمون فمن علامة أحدهم: أنك ترى له حزما في لين، و إيمانا في يقين، و قصدا في غنى(٣) ، و خشوعا في عبادة، و تجمّلا في فاقة، و صبرا في شدّة، و نشاطا في هدى، و تحرّجا عن طمع(٤) . يمزج الحلم بالعلم و القول بالعمل. الخير منه مأمول، و الشرّ منه مأمون. يعفو عمّن ظلمه و يعطي من حرمه و يصل من قطعه، بعيدا فحشه ليّنا قوله حاضرا معروفه، لا يحيف على من يبغض و لا يأثم في من يحب. يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه. لا ينابز بالألقاب(٥) و لا يضارّ بالجار و لا يشمت بالمصائب و لا يدخل في الباطل و لا يخرج من الحق. نفسه منه في عناء و الناس منه في راحة. بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة، و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة. ليس تباعده بكبر و عظمة و لا دنوّه بمكر و خدعة.

____________________

(١) أي: خائفون من التقصير فيها.

(٢) زكي: مدحه أحد.

(٣) قصدا: اقتصادا.

(٤) التحرج، هنا: التباعد.

(٥) أي: لا يدعو غيره باللقب الذي يكرهه و يشمئزّ منه.

١٨٣

المنافقون

و من خطبة له يصف فيها المنافقين: يتلوّنون ألوانا و يفتنّون افتنانا(١) . لهم بكلّ طريق صريع(٢) ، و إلى كلّ قلب شفيع، و لكلّ شجو دموع(٣) . يتقارضون الثناء(٤) و يتراقبون الجزاء. إن سألوا ألحفوا و إن عذلوا كشفوا(٥) و إن حكموا أسرفوا. قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا و لكلّ قائم مائلا و لكلّ حيّ قاتلا، و لكل باب مفتاحا و لكلّ ليل مصباحا: يتوصلون الى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم و ينفقوا به أعلاقهم(٦) .

____________________

(١) يفتنّون: يأخذون في فنون من القول لا يذهبون مذهبا واحدا.

(٢) الصريع: المطروح على الأرض، أي: انهم كثيرا ما خدعوا أشخاصا أوقعوهم في الهلكة.

(٣) الشجو: الحزن، أي: يبكون تصنعا متى اردوا.

(٤) يتقارضون: كل واحد منهم يسلف الآخر دينا ليؤديه اليه، و كل يعمل للآخر عملا يرتقب جزاءه منه.

(٥) كشفوا: فضحوا.

(٦) ينفقوا: يروّجوا. الأعلاق، جمع علق، و هو الشي‏ء النفيس. و المراد: ما يزينونه من خدائعهم.

١٨٤

كان عليهم سرمدا

من كلام له في وصف من فارقوا الدنيا: لا يفزعهم ورود الأهوال و لا يحزنهم تنكّر الأحوال، و لا يحفلون بالرواجف و لا يأذنون للقواصف، غيّبا لا ينتظرون و شهودا لا يحضرون، و إنما كانوا جميعا فتشتّتوا، و ما عن طول عهدهم و لا بعد محلّهم عميت أخبارهم و صمّت ديارهم(١) ، و لكنهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنطق خرسا و بالسمع صمما و بالحركات سكونا.

جيران لا يتآنسون و أحبّاء لا يتزاورون، بليت بينهم عرى التعارف و انقطعت منهم أسباب الإخاء، فكلّهم وحيد و هم جميع، و بجانب الهجر و هم أخلاّء، لا يتعارفون لليل صباحا و لا لنهار مساء، أيّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا(٢) .

____________________

(١) صمّت: خرست عن الكلام. و خرس الديار: عدم صعود الصوت من سكانها.

(٢) الجديدان: الليل و النهار، فإن ذهبوا في نهار فلا يعرفون له ليلا، أو في ليل فلا يعرفون له نهارا.

١٨٥

تحمله على اهوالها

و من خطبة رائعة له في معنى الدنيا: ساكنها ظاعن و قاطنها بائن(١) تميد بأهلها ميدان السفينة تقصفها العواصف في لجج البحار فمنهم الغرق و منهم الناجي على بطون الأمواج تحفزه الرياح بأذيالها و تحمله على أهوالها(٢) ، فما غرق منها فليس بمستدرك و ما نجا منها فإلى مهلك

كانوا اطول اعمارا

من خطبة له في أحوال الدنيا: أمّا بعد، فإني أحذّركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفّت بالشهوات و تحلّت بالآمال و تزيّنت بالغرور.

____________________

(١) بائن: مبتعد، منفصل.

(٢) أي: منهم من هلك عند تكسر السفينة و منهم من بقيت فيه الحياة فخلص محمولا على بطون الأمواج، كأن الأمواج في انتفاخها كالحيوان المنقلب على ظهره و بطنه إلى أعلى. أما هذا الناجي الذي تدفعه الرياح، فمصيره أيضا إلى الهلاك، بعد طول العناء.

١٨٦

لم يكن امرؤ منها في حبرة(١) إلاّ أعقبته بعدها عبرة، و لم يلق في سرّائها بطنا إلا منحته من ضرّائها ظهرا(٢) . و حريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكّرة. و إن جانب منها احلولى، أمرّ منها جانب فأوبي(٣) . لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا(٤) إلا أرهقته من نوائبها تعبا و لا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف(٥) كم من واثق بها قد فجعته، و ذي طمأنينة اليها قد صرعته، و ذي أبّهة(٦) قد جعلته حقيرا، و ذي نخوة قد ردّته ذليلا. ملكها مسلوب، و عزيزها مغلوب، و موفورها منكوب، و جارها محروب(٧) أ لستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا، و أبقى آثارا، و أبعد آمالا، و أعدّ عديدا، و أكثف جنودا تعبّدوا للدنيا أيّ تعبّد، و آثروها أيّ إيثار، ثم ظعنوا عنها بغير زاد فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية، أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة

____________________

(١) الحبرة: المسرة و النعمة.

(٢) كنى ب «البطن» عن الإقبال، و ب «الظهر» عن الإدبار.

(٣) أوبى: صار كثير الوباء.

(٤) الغضارة: النعمة و السعة. الرغب بفتح الباء الرغبة.

(٥) القوادم: أربع ريشات في مقدّم جناح الطائر.

(٦) الأبهة: العظمة.

(٧) محروب: مسلوب المال.

١٨٧

ويل لسكككم العامرة

و من كلام له في مصير البصرة: ويل لسكككم العامرة(١) ، و الدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور، و خراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، و لا يفقد غائبهم. أنا كابّ الدنيا لوجهها، و قادرها بقدرها و ناظرها بعينها

اللّهمّ قد انصاحت جبالنا

من خطبة له في الاستسقاء، و هي من الخطب التي تزخر بالعاطفة و الحنان، و بالتواضع لخالق الكون و هيبة الوجود: اللهمّ قد انصاحت جبالنا(٢) ، و اغبرّت أرضنا، و هامت دوابّنا و تحيّرت في مرابضها و عجّت عجيج الثّكالى على أولادها، و ملّت التردّد في مراتعها و الحنين إلى مواردها. اللهمّ فارحم أنين الآنّة، و حنين

____________________

(١) سكك، جمع سكة: الطريق المستوي.

(٢) انصاحت: جفت أعالي بقولها و يبست من الجدب.

١٨٨

الحانّة اللهمّ فارحم حيرتها في مذاهبها و أنينها في موالجها(١) اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين و أخلفتنا مخايل الجود(٢) ، فكنت الرجاء للمبتئس و البلاغ(٣) للملتمس: ندعوك حين قنط الأنام و منع الغمام و هلك السوامّ(٤) أن لا تؤاخذنا بأعمالنا و لا تأخذنا بذنوبنا، و انشر علينا رحمتك بالسّحاب المنبعق و الربيع المغدق و النبات المونق سحّا وابلا(٥) تحيي به ما قد مات و تردّ به ما قد فات. اللهمّ سقيا منك محيية مروية، تامّة عامة، طيّبة مباركة، هنيئة، مريعة، زاكيا نبتها ثامرا فرعها(٦) ناضرا ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك و تحيي بها الميت من بلادك. اللهمّ سقيا منك تعشب بها نجادنا(٧) و تجري بها و هادنا و تخصب بها جنابنا(٨) و تقبل بها ثمارنا و تعيش بها مواشينا و تندى بها أقاصينا(٩) و تستعين بها ضواحينا من بركاتك الواسعة

____________________

(١) مداخلها في المرابض.

(٢) مخايل، جمع مخيلة، كمصيبة، و هي: السحابة تظهر كأنها ماطرة ثم لا تمطر.

و الجود: المطر.

(٣) البلاغ: الكفاية.

(٤) السوام: جمع سائمة و هي: البهيمة الراعية من الإبل و نحوها.

(٥) سحّا: صبّا. الوابل: الشديد من المطر الضخم القطر.

(٦) زاكيا: ناميا. ثامرا: آتيا بالثمر.

(٧) النجاد جمع نجد، و هو: ما ارتفع من الأرض.

(٨) الجناب: الناحية.

(٩) القاصية: الناحية أيضا، و هي بمعنى البعيدة عنّا من أطراف بلادنا، في مقابلة «جنابنا».

١٨٩

الغيبة

من كلام له في النهي عن غيبة الناس: و إنما ينبغي لأهل العصمة أن يرحموا أهل الذنوب و المعصية، و يكون الشكر هو الغالب عليهم، فكيف بالغائب الذي غاب أخاه و عيّره ببلواه؟ يا عبد اللّه، لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعلّه مغفور له، و لا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه

يذهب اليوم و يجى‏ء الغد

من خطبة له: إعلموا، عباد اللّه، أنّ عليكم رصدا من أنفسكم(١) و عيونا من جوارحكم، و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم و عدد أنفاسكم لا تستركم منهم ظلمة ليل داج و لا يكنّكم منهم باب ذو رتاج(٢) ، و إنّ غدا من اليوم قريب.

____________________

(١) الرصد، جمع راصد، و يريد به رقيب الذمة و واعظ السر الوجداني الذي لا يغفل عن التنبيه و لا يخطى‏ء في الإنذار و التحذير.

(٢) الرتاج: الباب العظيم إذا كان محكم الغلق.

١٩٠

يذهب اليوم بما فيه و يجي‏ء الغد لاحقا به، فكأنّ كلّ امرى‏ء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته، فيا له من بيت وحدة و منزل وحشة و مفرد غربة

آه من بعد السّفر

دخل ضرار بن حمزة الضبائي على معاوية، فسأله هذا عن الإمام علي، فقال ضرار: فأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم(١) و يبكي بكاء الحزين، و يقول: يا دنيا يا دنيا، إليك عني أ بي تعرّضت؟ أم إليّ تشوّفت؟ لا حان حينك(٢) هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، فعيشك قصير، و خطرك يسير، و أملك حقير آه من قلّة الزاد، و طول الطريق، و بعد السفر، و عظيم المورد(٣)

____________________

(١) السليم: الملدوغ.

(٢) تعرض به: تصدّى له و طلبه. لا حان حينك: لا جاء وقت وصولك الى قلبي و تمكّن حبك منه.

(٣) المورد: موقف الورود على اللّه في الحساب.

١٩١

طبيعة الوجود

و من خطبه التي تدل على إدراكه العميق لطبيعة الوجود و أحواله: مع كل جرعة شرق، و في كلّ أكلة غصص، لا تنالون منها يعني الدنيا نعمة إلا بفراق أخرى، و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله، و لا تجدّد له زيادة في أكله إلاّ بنفاد ما قبلها من رزقه، و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر، و لا يتجدّد له جديد إلا بعد أن يخلق له جديد(١) ، و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصودة. و قد مضت أصول نحن فروعها

و اجرى فيها قمرا منيرا

من خطبة له يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض: ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء و شقّ الأرجاء و سكائك الهواء(٢) فأجرى فيها ماء متلاطما تيّاره متراكما زخّاره حمله على متن الريح

____________________

(١) يخلق: يبلى.

(٢) سكائك، جمع سكاكة و هي: الهواء الملاقي عنان السماء.

١٩٢

العاصفة و الزعزع القاصفة. ثم أنشأ سبحانه ريحا أعصف مجراها فأمرها بتصفيق الماء الزخّار(١) و إثارة موج البحار، فمخضته مخض السّقاء(٢) و عصفت به عصفها بالفضاء تردّ أوله إلى آخره و ساجيه إلى مائره(٣) حتى عبّ عبابه.

ثم زيّنها بزينة الكواكب و ضياء الثواقب(٤) و أجرى فيها سراجا مستطيرا(٥) و قمرا منيرا، في فلك دائر و سقف سائر

تلاطم الماء

من خطبة له في قدرة اللّه: يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، و معاصي العباد في الخلوات، و اختلاف النّينان في البحار الغامرات(٦) ، و تلاطم الماء بالرياح العاصفات

____________________

(١) تصفيق الماء: تحريكه و تقليبه.

(٢) مخضته: حركته بشدة كما يمخض السقاء بما فيه من اللبن ليستخرج زبده. و السقاء: وعاء من جلد للبن و الماء.

(٣) الساجي: الساكن. و المائر: الذي يذهب و يجى‏ء، أو المتحرك مطلقا.

(٤) الثواقب: المنيرة المشرقة.

(٥) مستطيرا: منتشر الضياء، و يقصد به الشمس.

(٦) النينان، جمع نون و هو: الحوت.

١٩٣

خلقة الخفّاش

من خطبة له يذكر فيها خلقة الخفاش: و من لطائف صنعته و عجائب حكمته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكلّ شي‏ء، و يبسطها الظلام القابض لكلّ حيّ، و كيف عشيت أعينها عن أن تستمدّ من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها و تصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، و ردعها تلألؤ ضيائها عن المضيّ في سبحات إشراقها(١) و أكنّها في مكامنها عن الذهاب في بلج ائتلافها(٢) فهي مسدلة الجفون بالنهار على أحداقها، و جاعلة الليل سراجا تستدلّ به في التماس أرزاقها، فلا يردّ أبصارها إسداف ظلمته(٣) ، و لا تمتنع من المضيّ فيه لغسق دجنّته(٤) .

فإذا ألقت الشمس قناعها و بدت أوضاح نهارها، و دخل من إشراق نورها على الضّباب(٥) في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها و تبلّغت(٦) بما اكتسبت من في‏ء ظلم لياليها. فسبحان من جعل الليل لها نهارا

____________________

(١) سبحات النور: درجاته و أطواره.

(٢) البلج: الضوء و وضوحه. الائتلاق: اللمعان الشديد.

(٣) أسدف الليل: أظلم.

(٤) الدجنة: الظلمة.

(٥) الضباب، جمع ضب و هو الحيوان المعروف.

(٦) تبلغت: اكتفت أو اقتاتت.

١٩٤

و معاشا، و النهار سكنا و قرارا، و جعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة الى الطيران كأنها شطايا الآذان(١) غير ذوات ريش و لا قصب، إلاّ أنك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاما(٢) لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا و لم يغلظا فيثقلا، تطير و ولدها لاصق بها لاجى‏ء إليها: يقع إذا وقعت و يرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتدّ أركانه و يحمله جناحه و يعرف مذاهب عيشه و مصالح نفسه. فسبحان الباري لكلّ شي‏ء على غير مثال خلا من غيره

خلقة الطّاووس

من خطبة له يذكر فيها عجيب خلقة الطاووس: و من أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد، بجناح أشرج قصبه(٣) و ذنب أطال مسحبه،

____________________

(١) شظايا، جمع شظية، و هي: الفلقة من الشي‏ء، أي: كأنها مؤلفة من شقق الآذان.

(٢) رسوما ظاهرة.

(٣) أشرج قصبه: داخل بين آحاده و نظمها على اختلافها في الطول و القصر.

١٩٥

إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه و سما به مظلاّ على رأسه كأنه قلع داريّ عنجه نوتيّه(١) يختال بألوانه و يميس بزيفانه(٢) .

تخال قصبه مداري من فضّة(٣) و ما أنبت عليه من عجيب داراته(٤) و شموسه خالص العقيان(٥) و فلذ الزّبرجد. فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت: جنى جني من زهرة كل ربيع و إن ضاهيته بالملابس فهو كموشّى الحلل و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان نطّقت باللجين المكلّل(٦) ، يمشي مشي المرح المختال، و يتصفّح ذنبه و جناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله و أصابيغ وشاحه فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا(٧) معولا يكاد يبين عن استغاثته، و يشهد بصادق توجّعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسيّة(٨) .

____________________

(١) القلع: شراع السفينة. عنجه: جذبه فرفعه. النوتي: الملاّح.

(٢) الزيفان: التبختر، و يريد به حركة ذنب الطاووس يمينا و شمالا.

(٣) القصب: الريش. المداري، جمع مدرى. و المدرى و المدراة: أداة ذات أسنان كأسنان المشط.

(٤) الدارات جمع دارة، و هي بالنسبة للشمس كالهالة بالنسبة للقمر.

(٥) العقيان: الذهب الخالص.

(٦) اللجين: الفضة. المكلل: المزين بالجواهر.

(٧) زقا يزقو: صاح.

(٨) حمش، جمع أحمش، أي: دقيق. و الديك الخلاسي: الديك المتولد بين دجاجة و ديك من لونين مختلفين.

١٩٦

و له في موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة. و مخرج عنقه كالإبريق و مغرزها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية(١) أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال(٢) . و كأنه ملفّع بمعجر أسحم إلاّ أنه يخيّل لكثرة مائه و شدّة بريقه أن الخضرة الناضرة ممتزجة به.

و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان أبيض يقق، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق. و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط و علاه بكثرة صقاله و بريقه و بصيص ديباجه و رونقه(٣) ، فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربّها أمطار ربيع و لا شموس قيظ.

و قد ينحسر من ريشه و يعرى من لباسه فيسقط تترى، و ينبت تباعا، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان(٤) . ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه: لا يخالف سالف ألوانه و لا يقع لون في غير مكانه.

و إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية،

____________________

(١) مغرزها: الموضع الذي غرز فيه العنق منتهيا الى مكان البطن. الوسمة: نبات يخضّب به.

(٢) الصقال: الجلاء.

(٣) علاه: فاقه. البصيص: اللمعان.

(٤) ينحسر من ريشه: يتكشف منه و يعرى. تترى: شيئا بعد شي‏ء. ينحتّ: يسقط و ينقشر. انحتات الأوراق: تناثر الأوراق.

١٩٧

و تارة خضرة زبرجديّة، و أحيانا صفرة عسجدية(١) ، فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن أو تبلغه قرائح العقول(٢) أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين و أقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه و الألسنة أن تصفه

خلقة النّملة

من خطبة له في وصف خلقة النملة: أنظروا الى النملة في صغر جثتها و لطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحاظ البصر و لا بمستدقّ الفكر، كيف دبّت على أرضها و صبت على رزقها تنقل الحبّة الى جحرها و تعدّها في مستقرّها. تجمع في حرّها لبردها و في ورودها لصدرها، مكفولة برزقها مرزوقة بوفقها(٣) لا يغفلها المنّان و لا يحرمها الديّان و لو في الصّفا اليابس و الحجر الجامس(٤) . و لو فكّرت في مجاري أكلها، في علوها و سفلها، و ما في الجوف من شراسيف بطنها(٥) و ما في الرأس من عينها و أذنها، لقضيت من خلقها عجبا و لقيت

____________________

(١) ذهبية.

(٢) عمائق، جمع عميقة. القرائح جمع قريحة و هي: الخاطر و الذهن.

(٣) الصدر: الرجوع بعد الورود. بوفقها: بما يوافقها من الرزق و يلائم طبعها، أو بما هو قدر كفايتها منه.

(٤) الجامس: الجامد.

(٥) الشراسيف: مقاطع الأضلاع.

١٩٨

في وصفها تعبا فتعالى الذي أقامها على قوائمها و بناها على دعائمها لم يشركه في فطرتها فاطر و لم يعنه في خلقها قادر.

و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلاّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصيل كلّ شي‏ء(١) و غامض اختلاف كل حي و ما الجليل و اللطيف، و الثقيل و الخفيف، و القوي و الضعيف، في خلقه إلاّ سواء

خلقة الجرادة

و منها في وصف الجرادة: و إن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين، و أسرج لها حدقتين قمراوين(٢) و جعل لها السمع الخفيّ، و فتح لها الفم السويّ، و جعل لها الحسّ القويّ، و نابين بهما تقرض و منجلين بهما تقبض(٣) .

يرهبها الزرّاع في زرعهم و لا يستطيعون ذبّها(٤) و لو أجلبوا بجمعهم، حتى ترد الحرث في نزواتها(٥) و تقضي منه شهواتها و خلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة

____________________

(١) أي: إن دقة التفصيل في النملة على صغرها و في النخلة على طولها، تدلّك على ان الصانع واحد.

(٢) أي: مضيئتين كأن كلاّ منهما ليلة أضاءها القمر.

(٣) أراد بالمنجلين هنا: رجليها، لاعوجاجهما و خشونتهما.

(٤) دفعها.

(٥) و ثباتها.

١٩٩

اغفر لى

من كلام له كان يدعو به: اللهمّ اغفر لي ما أنت أعلم به مني، فإن عدت فعد عليّ بالمغفرة اللهمّ اغفر لي ما تقرّبت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي اللهمّ اغفر لي رمزات الألحاظ(١) و سقطات الألفاظ، و شهوات الجنان و هفوات اللسان

ما ذا لقيت

و قال في سحرة اليوم الذي ضرب فيه(٢) : ملكتني عيني و أنا جالس(٣) فسنح لي رسول اللّه (ص) فقلت: يا رسول اللّه، ما ذا لقيت من أمّتك من الأود و اللّدد(٤) فقال: ادع عليهم فقلت: أبدلني اللّه بهم خيرا منهم، و أبدلهم بي شرا لهم مني

____________________

(١) رمزات الألحاظ: الإشارة بها.

(٢) السحرة: السحر الأعلى من آخر الليل.

(٣) ملكتني عيني: غلبني النوم.

(٤) الأود: الاعوجاج. اللدد: الخصام.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237