روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة25%

روائع نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 237

روائع نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 237 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116045 / تحميل: 7008
الحجم الحجم الحجم
روائع نهج البلاغة

روائع نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

و إني لا أعرف في مبادى‏ء المحافظين على كرامة الانسان كإنسان لا يتكبر و لا يتواضع بل يكون صادقا و حسب، ما يفوق هذه الكلمة لابن أبي طالب أو ما يساويها قيمة: «الإنسان مرآة الانسان» و من أقواله الدالّة على ضرورة أخذ الحياة أخذا بسيطا: «ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى. الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق و التقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد. لا تقل ما لا تعلم. لا تعمل الخير رياء و لا تتركه حياء. يا ابن آدم، ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك. لا ينصت للخير ليفخر به، و لا يتكلّم ليتجبّر على من سواه. من حمّل نفسه ما لا يطيق عجز. لا خير في معين مهين». و كأنّي بابن أبي طالب لا يترك جانبا ممّا وعاه فكره و شعوره و أمور الحياة و الانسان إلاّ أطلق فيه رائعة تختصر دستورا كاملا. و هذا ما فعله ساعة شاء أن يوجّه الناس إلى أخذ الحياة أخذا صادقا بسيطا، فقال هذه الكلمة الدافئة بعفويّة الحياة: «إذا طرقك إخوانك فلا تدّخر عنهم ما في البيت، و لا تتكلّف لهم ما وراء الباب».

و إذ يفرغ عليّ من حديثه الكثير الدائر حول ضرورة الصدق مع الحياة بصورة مباشرة، ثم حول البساطة التي لا يكون صدق بدونها و لا تكون بغير صدق، يواصل طريقه في مفاهيم التهذيب التي تتلازم في مذهبه و تترابط حتى لكأنّها صورة عن كلّ موجودات الكون، و التي يظلّ الصدق مدارها الأوّل و إن تناولت وجوها أخرى من وجوه الأخلاق. فيوصي بأن يتغافل المرء عن زلاّت غيره فإنّ في ذلك رحمة من المتغافل و تهذيبا للمسي‏ء بالسيرة و المثل أبلغ من تهذيبه بالنصيحة أو بالبغضاء، يقول: «من أشرف أعمال الكريم غفلته عمّا يعلم». كما يوصي بالحلم و الأناة لأنهما نتيجة لعلوّ الهمّة ثمّ مدرجة لكرم النفس: «الحلم و الأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمّة». و يكره الغيبة لأنها مذهب من النفاق و الاساءة و الشرّ جميعا: «اجتنب الغيبة فإنّها إدام كلاب النار». و الخديعة مثل الغيبة و كلتاهما من خبث السرائر: «إيّاك و الخديعة فإنّها من خلق اللئام». و كما رأى أنّ كذبة واحدة لا تجوز لأنّ الصدق ينكسر بها، يرى أن كل ذنب مهما كان في زعم صاحبه خفيفا قليل الشأن إنّما هو شديد لأنه ذنب، بل إنه أشدّ وقعا على كرامة الانسان إذا

٦١

استخفّ به صاحبه، من ذنب عظيم عاد مقترفه إلى الرجوع عنه في الحال: «أشدّ الذنوب ما استخفّ به صاحبه». و ينهاك عليّ عن التسرّع في القول و العمل لأنه مدعاة إلى السقوط و على الانسان المهذّب ألاّ يبيح نفسه لأيّة سقطة: «أنهاك عن التسرّع في القول و العمل».

و هو يريدك أن تعتذر لنفسك من كلّ ذنب أذنبت إصلاحا لخلقك، و لكنّه ينبّهك تنبيها عبقريّ الملاحظة و البيان إلى أنّ الانسان لا يعتذر من خير، فعليه إذن ألاّ يفعل ما يضطرّه إلى الاعتذار: «إيّاك و ما تعتذر منه فإنه لا يعتذر من خير». و منعا للاشتغال بعيوب الناس و إغفال عيوب النفس، و في ذلك ما يدعو إلى سوء الخلق و المسلك سلبا و إيجابا، يقول علي: «أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله» و «من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره».

و إذا أتى القبيح من مصدر عليك أن تنكره أوّلا، فإن لم تستطع ذلك تحتّم عليك ألاّ تستحسنه لئلاّ تصبح شريكا فيه: «من استحسن القبيح كان شريكا فيه». و إذا كان التعاطف بين الناس ضرورة أخلاقية لأنه ضرورة وجودية على ما مرّ معنا في الفصل السابق، فإنّ منطق العقل و القلب يأمر بأن يكون عطفك على من أنطقك و أحسن إليك أكثر و أوسع.

و في ذلك يقول عليّ: «لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك و بلاغة قولك على من سدّدك». ثم يقول: «و ليس جزاء من عظّم شأنك أن تضع من قدره، و لا جزاء من سرّك أن تسوءه».

و يهاجم الحرص و الكبرياء و الحسد لأنّها سبيل إلى الانحدار الخلقي: «الحرص و الكبر و الحسد دواع إلى التقحّم في الذنوب». و إذا كان الأخلاقيون القدماء يذمّون البخل فلأنه في نظرهم صفة مذمومة لذاتها. أمّا عند ابن أبي طالب الذي يرصد الأخلاق بنظرة أشمل و فكر أعمق، فالبخل ليس مذموما لذاته قدر ما هو مذموم لجمعه العيوب كلّها، و لدفعه صاحبه إلى كل سوءة في الخلق و المسلك. فالبخيل منافق، معتد، مغتاب، حاسد ذليل، مزوّر، جشع، أناني، غير عادل. يقول علي: «البخل جامع لمساوى‏ء العيوب».

و يطول بنا الحديث و يتّسع إذا نحن شئنا أن نورد تفاصيل مذهب ابن أبي طالب في الأخلاق و تهذيب النفس، فهي كثيرة لم تترك حركة من حركات الانسان إلاّ صوّرتها و وجّهتها. و إذا قلت إن مثل هذا العمل طويل واسع شاقّ فإنّي أعني ما أقول. و ما

٦٢

على القارى‏ء إلاّ أن يطّلع على الروائع التي أخذناها من أدب ابن أبي طالب في هذا الكتاب، حتى يثق بأنّ المجلّدات قد تضيق عن دراسة مذهبه في الأخلاق و تهذيب النفس، و عمّا تستوجبه هذه المختارات من شرح و تعليق. و يكفي أن نشير إلى أنّ هذه الروائع العلويّة من أشرف ما في تراث الانسان، و من أعظمه اتّساعا و عمقا.

على أنه لا بد لنا الآن من التلميح إلى آية الآيات في التهذيب العظيم بوصفه إحساسا عميقا بقيمة الحياة و كرامة النفس و كمال الوجود. و إنّ نفرا قليلا من المتفوّقين كبوذا و المسيح و بتهوفن و أشباههم هم الذين أدركوا أنّ آية التهذيب إنّما تكون في الدرجة الأولى بين الانسان و نفسه. و لا تكون بين الانسان و ما هو خارج عنه إلاّ انبثاقا بديهيّا طبيعيّا عن الحالة الأولى. و قد أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة إدراكا قويّا واضحا لا غموض فيه و لا إبهام. و عبّر عنها تعبيرا جامعا. يقول عليّ في ضرورة احترام الانسان نفسه و أعماله دون أن يكون عليه رقيب: «اتّقوا المعاصي في الخلوات». و يقول في المعنى ذاته: «إيّاك و كلّ عمل في السرّ يستحى منه في العلانية. و إيّاك و كلّ عمل إذا ذكر لصاحبه أنكره».

و إليك ما يقوله في الرابطة بين السرّ و العلانية، أو بين ما أسميناه «آية التهذيب» و ما أسميناه «انبثاقا» عنها: «من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيّته».

و من بدائع حكيم الصين كنفوشيوس في تهذيب النفس هذه الكلمة: «كل على مائدتك كأنك تأكل على مائدة ملك». و جليّ أنه يريد منك أن تحترم نفسك احتراما مطلقا غير مرهون بظرف أو مناسبة، حتى ليجدر بك أن تتصرف حين تخلو الى نفسك كما تتصرف و أنت بين يدي ملك. و مثل هذا المعنى يقوله عليّ بن ابي طالب على هيئة جديدة: «ليتزيّن أحدكم لأخيه كما يتزيّن للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة» و هو يريدك في كلّ حال أن تعظ أخاك لتعينه في الانتقال من حسن إلى أحسن في الخلق و الذوق و المسلك. و لكنّ روح التهذيب الأصيل يأبى عليك أن تجرحه أو تؤذيه بنصحه علنا، بل إنّ هذا الروح يقضي عليك أن تكون ليّنا رفيقا فلا تنصح إلاّ خفية و لا تعظ إلاّ سرّا. يقول عليّ: «من وعظ أخاه سرّا فقد زانه، و من وعظه علانية فقد شانه».

٦٣

و أيّة كانت حالك فعليك أن تصدق مع نفسك و الحياة و الناس. فبهذا الصدق تحيا و بغيره تهلك. و به تحفظ سلامة روحك و قلبك و جسدك. و بغيره تفقدها. و بالصدق تحبّ و تحبّ و يوثق بك، و بغيره تجلب لنفسك المقت و الكراهية و السيّئات جميعا و ير ذلك الناس تافها حقيرا. و هذا الصدق عهد منك و عليك لأنه إرادة الحياة القادرة الغلاّبة و هي إرادة تقضي عليك بأنّ تنظر في عهدك كلّ يوم. و ابن أبي طالب يقول: «على كلّ إنسان أن ينظر كلّ يوم في عهده»

٦٤

خير الوجود و ثوريّة الحياة

لشدّ ما رأيناه يجعل ثوريّة الحياة كلاّ من خير الوجود، و خير الوجود كلاّ من ثورية الحياة و قالت الثورة: «أنا الهادمة البانية و ليس من حقّ الوجود العادل إلاّ أن يكون خيّرا كريما. و ليس من طبيعته إلاّ العطاء. و هو لا يأخذ ما يعطيه إلاّ ليعود إلى بذله طيّبا جديدا. و خير الوجود كيان من كيانه و جوهر من جوهره. و عهد عليّ به هو هذا العهد. و إحساسه بخيره هو إحساسه بعدله لا يقلّ و لا يزيد. و على ذلك تحدّث عن هذا الخير فأكثر الحديث و قد رويناه من أقواله في خير الوجود شيئا غير قليل. و لعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة شيئا غير قليل. و لعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة قالها و كأنّه يوجز بها مذهبه المؤمن بخير الوجود: «و ليس اللّه بما سئل بأجود منه بما لم يسأل». فإذا عرفنا أنّ لفظة «اللّه» تعني في أقصى ما تعينه عند القدماء من أصحاب الأصالة الذهنية و الروحية: «مركز الوجود و الروابط الكونية، عرفنا أيّ خير شامل عميم هو خير الوجود الذي يمنحك ما تسأل ضمن شروط، ثمّ يعطيك فوق ما تسأل، ثمّ يزيد و لمّا كان الانسان الذي يحسب أنّه جرم صغير، ممثّلا لهذا العالم الأكبر على ما يقول ابن أبي طالب، فلا بدّ أن يكون هو أيضا صورة عن الوجود بخيره كما هو صورة عنه بعدله. فإذا أعطاك الوجود فوق ما تسأله من خيره، يكون قد بدأك لحاجة في طبيعته إلى أن يكون خيرا. و إذا كنت صورة عنه، فأنت أحوج إلى اصطناع الخير من أهل الحاجة

٦٥

إليه. و هذا ما يؤكّده عليّ بقوله هذا: «أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه» و هذا ما يؤكّده أيضا في عبارة يرجع إليها كلّما تحدّث عن اصطناع الخير بين الناس: «و الفضل في ذلك للبادى‏ء».

و إذ ننتقل إلى النظر في الخير و معناه على صعيد العلاقات بين الناس، أمكننا أن نجري آراء ابن أبي طالب في المجاري التالية: «أولا، الخير بين الناس يكمن في أن يتعاونوا و يتساندوا، و أن يعمل واحدهم من أجل نفسه و الآخرين سواء بسواء، و ألاّ يكون في هذا العمل رياء من جانب هذا و لا إكراه من جانب ذاك لكي «يعمل في الرغبة لا في الرهبة» على حدّ ما يقول عليّ، ثم أن يضحّي بالقليل و الكثير توفيرا لراحة الآخرين و اطمئنان الخلق بعضهم إلى بعض، و أن تأتي هذه التضحية مبادرة لا بعد سؤال و لا بعد قسر و إجبار. و كلّ ما من شأنه أن ينفع و يفيد، سواء أ كان ذلك على صعيد مادّي أو روحيّ، كان خيرا.

ثانيا، يرى عليّ أنّ الخير لا يأتي إلاّ عملا أولا، ثم قولا، لأن الانسان يجب أن يكون واحدا كالوجود الواحد، و أن يساند بعضه بعضا وفاء لهذه القاعدة، فإن قال فعل، و إن فعل قال. و من روائع ابن أبي طالب كلمة قالها في رجل يرجو اللّه في أمر و لا يعمل من أجل هذا الرجاء: «يدّعي بزعمه أنّه يرجو اللّه كذب و العظيم ما باله لا يتبيّن رجاءه في عمله، فكلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله» أمّا إذا عملت خيرا، فمن حقك عند ذاك أن تقول خيرا: «قل خيرا و افعل خيرا» ثالثا، يفسح عليّ في المجال أمام قوى الخير لأن تنطلق أبعد ما يكون الانطلاق، و ذلك بأن يجعل قبول التوبة عن الشرّ قاعدة يعمل بها. فإذا أثم المرء مسيئا إلى الآخرين، فإنّ في التوبة بابا يلجه من جديد إلى عالم الخير إذا شاء. يقول عليّ: «إقبل عذر من اعتذر إليك، و أخّر الشرّ ما استطعت». و يعرف التاريخ مقدار الإساءة التي لحقت بعليّ عن طريق أبي موسى الأشعري، و يعرف كذلك أنّ عليّا لا ينزع إلاّ عن مذهبه أيّة كانت الظروف و الصعوبات، لذلك نراه يبعث إلى أبي موسى قائلا: «أمّا بعد، فإنّك امروء ضلّلك الهوى، و استدرجك الغرور، فاستقل اللّه يقلك عثرتك، فإنّ من استقال اللّه أقاله»

٦٦

رابعا، يؤمن عليّ بأن قوى الخير في الانسان تتداعى و يشدّ بعضها بعضا شدّا مكينا.

فإذا وجد في إنسان جانب من الخير فلا بدّ من ارتباطه بجوانب أخرى منه، و لا بدّ من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات. و في هذه النظرة إشارة صريحة إلى أنّ الوجود واحد متكافى‏ء عادل خيّر سواء أ كان وجودا عامّا كبيرا، أو وجودا خاصّا مصغّرا يتمثّل بالانسان: «إذا كان في رجل خلّة رائقة فانتظروا أخواتها» خامسا، و مثل هذه العدوى الخيّرة بين الخلال الرائقة، عدوى مماثلة تنتقل من الخير الى الشر بين الناس و الناس: «جالس أهل الخير تكن منهم» و «اطلبوا الخير و أهله».

سادسا، الإيمان العميق بأنّ في طاقة الانسان أيّا كان أن ينهج نهج الخير، و أنّه ليس من إنسان أجدر من إنسان آخر بهذا النهج: «و لا يقولنّ أحدكم إنّ أحدا أولى بفعل الخير منّي» سابعا، على المرء ألاّ يستكثر من فعل الخير كثيرا. بل إنّ ما يفعله من خير يظلّ قليلا مهما كان كثيرا لأنّ في الاكتفاء بقدر من الخير جحودا بخير الوجود العظيم و إنكارا لطاقة الانسان الذي ينطوي فيه العالم الأكبر. يقول عليّ في أهل الخير: «و لا يرضون من أعمالهم القليل، و لا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، و من أعمالهم مشفقون(١) » ثامنا، لا بدّ من الإشارة إلى النظرة العميقة التي يلقيها عليّ على مفاهيم النزوع الانساني إلى ما يجعل الناس، كلّ الناس، في نعيم.

فإذا نحن نظرنا في آثار معظم المفكّرين الذين أعاروا شؤون الناس اهتمامهم، رأينا أنّ لفظة «السعادة» هي التي تتردّد في هذه الآثار، و أنّ مدلول هذه اللفظة إنّما، هو بالذات، مدار أبحاثهم و غاية ما يريدون. أمّا عليّ فقد استبدل بلفظة «السعادة» هذه ما هو أبعد مدى، و أعمق معنى، و أرحب أفقا، و أجلّ شأنا في ما يجب أن تتصف به الطبيعة الانسانية و تصبو إليه. لقد استبدل ب «السعادة» هذه، لفظة «الخير» فما كان يوجّه القلوب إليها بل إليه. لأنّ في السعادة ما هو محصور في نطاق الفرد، و لأنّ الخير ليس

____________________

(١) من أعمالهم مشفقون: «خائفون من التقصير فيها

٦٧

بمحصور في مثل هذا النطاق. فالخير إذن أعظم ثمّ إنّ الخير يحتوي السعادة و لا تحتويه، فهو أشمل أضف إلى ذلك أنّ بعض الناس قد يسعدون بما لا يشرّف الانسان، و أنّهم قد يسعدون بما يؤذي الآخرين، و أنّهم قد يتفهون و يترهّلون و هم يحسبون أنّهم بذلك سعداء. أمّا الخير فهو غير السعادة إذ يكون معدنها هذا المعدن. فهو السعادة منوطة بسعادة الناس جميعا. و هو الرضى عن أحوال الجسد و العقل و الضمير لذلك أكثر عليّ من استخدام هذا اللفظ في دعوته الحارّة إلى كلّ ما يرفع من شأن الانسان و لم أعثر في آثار ابن أبي طالب على لفظة «السعادة» إلاّ مرّة واحدة. و لكنّه لا يخرج بمعناها الذي يقصد عن مفهوم الخير بما يحمّلها من حدوده و معانيه. أمّا العبارة التي وردت فيها لفظة «السعادة» فهي هذه: «من سعادة الرجل أن تكون زوجته صالحة و أولاده أبرارا و إخوانه شرفاء و جيرانه صالحين و رزقه في بلده». فانظر كيف ربط سعادة المرء بسعادة المحيطين به من أفراد عائلته ثم بسعادة إخوانه و جيرانه جميعا. بعد ذلك ناط سعادة هذا الرجل بسعادة بلاده مستندا إلى أنها بلاد تنتج الرزق لجميع أبنائها و هو واحد منهم تاسعا، إنّ خير الوجود و خير الانسان يستلزمان، بالضرورة، الثقة بالضمير الانسانيّ ثقة تجعله حكما أخيرا في ما يضرّ و ينفع. و لنا في هذا الموضوع رأي نفصّله نقول: من روائع ابن أبي طالب ما يخاطب به العقل وحده. و منها ما يخاطب به الضمير.

و أكثرها ممّا يتوجه به إلى العقل و الضمير مجتمعين. أمّا تلك التي يخاطب بها العقل، فقل إنّها الغاية في الاصالة، و إنّها نتيجة محتومة لنشاط العقل الذي لاحظ و دقّق و تمرّس بخير الزمان و شرّه، و عرف من التجارب كلّ ما يكشف له عن الحقائق و يجلّيها، فإذا هي مصوغة على قواعد هندسيّة ذات حدود و أبعاد لشدّة ما ترتبط بالحقائق، و مظهرة في أروع إطار فنّي لشدّة ما ترتبط بالجماليّة التعبيرية، مما يجعلها، من حيث المادة و الشكل، في أصول الأدب الكلاسيكي العربي.

و في هذا النوع من الحكم الموجّه إلى العقل، نرى عليّا يصوّر تاركا للناس أن يحكموا بما يرون. فيأخذوا إذا شاؤوا أو يتركوا. لذلك لا نرى في هذا النوع من الحكم صيغ الطلب. إنّما نرى حكما صيغت بقالب خبريّ خالص جرّد من صور الأمر و النهي جميعا.

٦٨

حكما تتبلور فيها طبائع الصديق و العدوّ، و المحسن و المسي‏ء، و الأحمق و العاقل، و البخيل و الكريم، و الصادق و المنافق، و الظالم و المظلوم، و المعوز و المتخم، و صاحب الحقّ و صاحب الباطل، و مفهوم الخلق السليم و الخلق السقيم، و شؤون الجاهل و العالم، و الناطق و الصامت، و الأرعن و الحليم، و صفات الطامع و القانع، و أحوال العسر و اليسر، و تقلّبات الزمان و ما لها من أثر في أخلاق الرجال، و ما إلى ذلك من أمور لا تحصى في فصل أو باب.

أمّا تلك التي يخاطب بها الضمير، و العقل و الضمير مجتمعين، فإليك ما هي و ما حولها: من الثابت أنّ الذين رأوا في الأنظمة و التشريعات وحدها سلامة الانسان و كفاية المجتمع، قد أخطأوا خطأ عظيما. فإنّ هذه الأنظمة و التشريعات التي تعلن عن حقوق الانسان و تأمر برعايتها و المحافظة عليها، لا يضبطها في النتيجة، كما لا يخلص في اكتشافها و ابتداعها، إلاّ عقل سليم و نفس مهذّبة و ضمير راق. فإنّ دنيا الناس هذه يرتبط كلّ ما فيها، ضمن حدود معيّنة طبعا، بأخلاق القيّمين على دساتيرها و انظمتها، و بمدى الخير الذي يتّسع في نفوسهم أو يضيق، بقدر ما يرتبط بضمير الجماعة التي تؤلّف ميدان هذه الأنظمة و الدساتير و تبرّر وجودها. هذا، مع الاعتراف بأنّ الأنظمة الاجتماعية الحديثة تتفاوت تفاوتا عظيما في سماحها للقيّمين عليها بمسايرتها أو بالخروج عليها. و ذلك بحكم طبيعتها و بنسبة ما تحويه أصولها من إمكانات التنفيذ. أمّا الإنظمة و الدساتير القديمة، فقد كانت أكثر تأثّرا بأخلاق القيّمين عليها المشرفين على إقامة ما تقتضيه من حدود.

و لذلك أسباب ليست من موضوع حديثنا هذا.

و بالرغم من أنّ الأنظمة و التشريعات الصالحة من شأنها أن توجّه الناس و تفرض عليهم ما يؤدي إلى نفعهم فرضا، فإنّ هذا التوجيه و هذا الفرض يظلاّن خارج حدود القيمة الانسانية إن لم يوافقهما العمل النابع من الوجدان بالذات. و في مذهبنا أنّ كلّ عمل يأتيه الانسان لا بدّ أنه فاقد الدف‏ء الانسانيّ، و هو أثمن و أعظم ما يوافق الصنيع الانساني، إن لم يحمل وهج الضمير و عبق النفس و إرادة العطاء على غير قسر و إكراه. و لا تنجح الأنظمة

٦٩

و التشريعات في إقامة العلاقات الانسانية إلاّ بمقدار ما يمكنها أن تتوجّه إلى العقل و الضمير فتقنعهما بالخير، فتخلق الانسجام الرائع بين إتاحة الفرصة للعمل النافع و إرادة العامل في وحدة تكفل للفرد و للجماعة الصعود في طريق الحضارة.

و ما يصدق، بهذا الصدد، في نطاق الأفراد و الجماعات، يصدق كذلك في تاريخ المفكّرين و المتشرعين و العلماء و المكتشفين و من إليهم. فإنك لترى، إذا أنت استعرضت تاريخ هؤلاء الذين خدموا الانسان و الحضارة، أنّ العقل الذي دلّهم على الطريق الصحيح في كلّ ميدان، لم يكن وحده في تاريخهم. فالعقل بارد، جافّ، لا يتعرف إلاّ إلى الأرقام و الأقسام و الوجوه ذات الحدود. فهو لذلك يدلّك على الطريق و لكنّه لا يشدّك إلى سلوكه و لا يدفعك في سهله و وعره. أما الدافع، فالضمير السليم و العاطفة الحارة. فما الذي حمل ماركوني على العزلة القاسية و الانفراد الموحش الكئيب، إن لم يكن الضمير الذي يحسّن له الانصراف عن مباهج الحياة الى كآبة الوحدة في سبيل الحضارة و الانسان؟

و إن لم يكن العاطفة التي تغمر هذا الضمير السليم بالحرارة و الدف‏ء فلا يفتر أبدا.

و ما يقال في ماركوني يقال في باستور، و غاليليو، و غاندي، و بتهوفن، و بوذا، و أفلاطون، و غيتي، و في غيرهم من أصحاب المركّب الانساني القريب من الكمال.

و الدليل الإيجابي على هذه الحقيقة يستتبع دليلا سلبيا لزيادة الايضاح. فهذا ادولف هتلر، و جانكيزخان، و هولاكو، و الحجاج بن يوسف الثقفي، و قيصر بورجيا بطل كتاب «الأمير» المشؤوم لمكيافيللي(١) ، و بعض علماء الذرة المعاصرين الذين يوافقون

____________________

(١) مكيافيللي: «نابغة ايطالي عاش في عصر الرسام العظيم رافاييل، و كان صديقا له و معينا.

و قد دفعه عقله الفذّ و خلقه الكريم الى مهاجمة أساليب الظلم و البربرية عند حكام التاريخ، فألف كتابه الشهير «الامير» الذي يصف فيه وقاحة أولئك الحكام، و شخصياتهم المبتذلة، بطريقة غير مباشرة اذ دفع الى الناس صورة عن شخصية الامير الذي يخلو من كل ضمير و كل عقل و كل ذوق و يلجأ لشتى وسائل العنف في التقتيل و الترويع و التشريد و سائر الفظائع تثبيا لمركزه.. مشيرا إلى أنّ امارات التاريخ و العصر الذي هم فيه انما «تركزت» على هذا الاسلوب السمج. و قد أخذ مكيافيللي صفات «الامير» في كتابه هذا من شخصية قيصر بورجيا ابن اسكندر بورجيا، صاحب المظالم المعروفة. و يطلق على المبدأ القائل باللجوء الى هذا الاسلوب توسّلا الى الحكم ثم الى تركيزه، اسم المكيافيلية، نسبة لمكيافيللي صاحب الكتاب.

٧٠

على تجربتها على الآدميين، أ لم يتميز هؤلاء جميعا بعقول واسعة و مدارك قد تهون أمامها مدارك الآخرين؟ و مع ذلك، فما كان من شأنهم إلا التقتيل و التدمير و الاعتداء على مقدسات الحضارة و مخلّفات الجهود الانسانية، و على كرامة الحياة و الأحياء و خير الوجود ذلك أن عقولهم لم تواكبها الضمائر السليمة و العواطف الكريمة فحيث لا ضمير و لا عاطفة، لا نفع من العقل، بل قل إنه إلى المضرّة أقرب.

و لا أريد هنا التفصيل بين مختلف قوى الانسان من عاطفة و ضمير و عقل و ما إليها، فهي و لا شكّ تتفاعل و تتعاون. غير أنّ ما أردته بالعقل هو القوّة التي تعقل الأمور على صعيد يربط السبب بالنتيجة و يحكم بين العلّة و المعلول، فيدور في نطاق من الأرقام و الحدود التي لا تتأثّر، بحدّ ذاتها، بالبيئة الانسانية الخاصّة و العامّة. و على هذا الضوء أجزت هذا التفصيل.

إذن، فالعقل المكتشف لا بدّ لصاحبه من ضمير و عاطفة يدفعانه في طريق الخير.

و ما يصحّ بهذا الشأن في المشترع يصحّ في المشترع له. فالأفراد الذين يطلب إليهم أن يسيروا على هذا النظام الخيّر أو ذاك، لا بدّ لهم من اقتناع وجدانيّ، إلى جانب الاقتناع العقلي المجرّد، يدفعهم في طريق التهذيب الانسانيّ الرفيع، لبناء المجتمع الصالح. لا بدّ لهم من التمرّس بالفضائل الأخلاقيّة التي تحيط الأنظمة و التشريعات بحصون رفيعة منيعة.

لا بدّ لهم من أن يكونوا خيّرين لذلك راح عليّ يحرّك في الأفراد عواطف الخير على ما رأينا، و يوقظ فيهم ما غشّته الأيام من الضمائر السليمة. و يعمل على إنمائها و ينصح برعايتها.

توجّه عليّ إلى الضمائر بتوصياته و خطبه و عهوده و أقواله جميعا. لأنه لم يفته أنّ لتهذيب الخلق شأنا في رعاية النظم العادلة، و في بثّ الحرارة في المعاملات بين الناس. و لم يفته كذلك، أن هذا التهذيب يطلب لذاته بما هو من القيم الإنسانية، كما يطلب لحماية العدالة الاجتماعية و سننها بما هو ضبط لنوازع و توجيه لأخرى. و قد ساعده في ذلك ما أوتي من مقدرة خارقة ينفذ بها إلى أعماق الناس أفرادا و جماعات، فيدرك ميولهم و أهواءهم، و يعرف طباعهم و أخلاقهم، فيزن خيرها و شرّها، ثم يصوّر، و يطوّر، و يأمر و ينهى، على ضوء ثقته الراسخة بالضمير الانساني الذي يتوجه اليه.

٧١

كانت ثقة ابن أبي طالب بالضمير الانساني ثقة العظماء الذين تآلف فيهم العقل النيّر و القلب الزاخر بالدف‏ء الانساني، النابض بالحب العميق الذي لا يعرف حدودا.

كانت ثقته بهذا الضمير ثقة بوذا و بتهوفن و روسّو و غاندي و سائر العظماء الذين مدّهم القلب بنور يخبو لديه كلّ نور. و على أساس هذه الثقة أرسى ابن أبي طالب حكمه و أمثاله، و على أساسها تترابط الأفكار و التوجيهات التي يخاطب بها وجدانات الناس.

و إذا كان للإمام علي مثل هذه الثقة بنواحي الخير في الناس، على ما مني به على أيديهم من نكبات و فواجع، فإنه يأبى إلاّ أن يلقي بذور هذه الثقة في قلوبهم جميعا. فهو يعرف «أنّ في أيدي الناس حقّا و باطلا، و كذبا و صدقا». و لكنّ الأولى بالمرء أن يفتح عينيه و قلبه على نواحي الخير هذه، فلعلّها هي التي تنمو دون نواحي الشر. و لعلّ التعليم بالمثل و السيرة يكون أجلّ و أجدى. و قد طالما كرّر عليّ وصاياه بضرورة هذه الثقة بالضمير الانساني، و في جملة ما يقوله: «من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنه». و يقول في مكان آخر: «لا تظننّ بكلمة خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها في الخير محتملا» و «ليس من العدل القضاء بالظنّ على الثقة» و «و إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم تظهر منه خزية، فقد ظلم» و «أسوأ الناس حالا من لم يثق بأحد لسوء ظنّه، و لم يثق به أحد لسوء فعله» و قد أخطأ دارسو الإمام عليّ ساعة رأوا أنه متشائم بالناس شديد التشاؤم، متبرّم بهم كثير التبرّم. و ساعة احتجّوا لرأيهم هذا بأقوال له يهاجم بها أبناء زمانه بشدّة و عنف.

أمّا رأينا نحن فعلى العكس من ذلك تماما. رأينا أنّ عليّا لم ينقض ثقته بالانسان ساعة واحدة و إنّ نقضها ببعض الناس في بعض الظروف. فمن عرف طاقة ابن أبي طالب على احتمال المكاره تأتيه من الناس، و جلده العجيب في مقاساة الأهوال الناجمة عن الغدر و الخيانة و الفجور في الكثير من خصومه و أنصاره، ثم ما كان من أموره معهم جميعا إذ يأخذهم بالرفق و العطف ما أمكنه أن يرفق و أن يعطف، أقول: «من عرف ذلك أدرك أنّ عليّا عظيم التفاؤل بحقيقة الانسان، و بفطرته التي أضلّها المجتمع في بعض أحواله. لا يختلف في ذلك عن أخيه العظيم روسّو.

٧٢

و إذا كان له في ذمّ أهل الخيانة و الغدر و الظلم قول كثير، فما ذاك إلاّ لأنه يعترف، ضمنا، أنّ الانسان ممكنا إصلاحه و لو طال على ذلك الزمن. فإنّ المتفائل وحده هو الذي يزجر المسي‏ء كما يثيب المحسن أملا منه بتقويم الاعوجاج في الخلق و المسلك. و لو لم يكن لابن أبي طالب مثل هذا الأمل، لما استطاع احتمال ما لا يحتمل من مكاره الدهر التي جرّها عليه المسيئون، و لما صبر على ما يكره و هو إن قال في الدنيا و أهلها: «فإنّما أهلها كلاب عاوية و سباع ضارية، يهرّ بعضها بعضا، و يأكل عزيزها ذليلها، و يقهر كبيرها صغيرها»، فإنّما يقول ذلك لأنه قاسى من غدر الغادرين و فجور الفاجرين ما آلمه و آذاه. فوبّخهم هذا التوبيخ الموجع إيثارا منه لمن لا يفجر و لا يغدر و لا يكون كلبا عاويا و لا سبعا ضاريا و لا عزيزا يأكل ذليلا أو كبيرا يقهر صغيرا يقول ذلك ثم يحارب السبع الضاري و العزيز الظالم و الكبير الجائر كما يحارب الطبيب الجراثيم إيثارا منه لسلامة البدن و الروح، بل إيثارا منه للحياة على الموت، و تفاؤلا بحسن النجاة إذن، فالإمام عليّ، و هو الذي يحترم الحياة: «أعظم ما خلق اللّه، و يحترم الناس الأحياء: «أجمل نماذج هذه الحياة، عظيم الثقة بالخير الانساني. عظيم التفاؤل بالانسان يريده حرّا كما يجب أن يكون و لو لا هذه الثقة و هذا التفاؤل لما كان من أمره من الناس ما كان، و لما قال: «لا تظنّنّ بكلمة خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها في الخير محتملا» ثمّ لما توجّه إلى الضمير الفرديّ و الجماعي بوصاياه التي تجمع عمق الفهم و حرارة العاطفة الى سموّ الغاية و نبل المقصد. هذه الوصايا التي أرادها حصنا منيعا للأخلاق العامّة، و العاطفة الانسانية، و تركيز العمل النافع على أسس الايجابية في العقل و الضمير. و استنادا الى هذه الثقة بالضمير الانساني، و تحصينا للعمل الخيّر الشريف، نراه يقيم على الناس أرصادا من أنفسهم و عيونا من جوارحهم فيخاطبهم قائلا: «اعلموا أن عليكم رصدا من أنفسكم و عيونا من جوارحكم و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم و عدد أنفاسكم» و استنادا إلى هذه الثقة بخير الوجود و عدله، و إلى عظمة الحياة و الأحياء، يخاطب عليّ ابن أبي طالب أبناء زمانه بما يوقظهم على أنّ الحياة حرّة لا تطيق من القيود إلاّ ما كان

٧٣

سببا في مجراها و واسطة لبقائها و قبسا من ضيائها و ناموسا من نواميسها. و أنّها لا يطيب لها البقاء في مهد الأمس. فعليهم ألاّ يحاولوا غلّها و تقييدها و إلاّ أسنت و انقلبت إلى فناء.

فالحياة جميلة، كريمة، حرّة، خيّرة كالوجود أبيها، تحفظ نفسها بقوانينها الثابتة لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين.

و هي متجدّدة أبدا، متطوّرة أبدا، لا ترضى عن تجدّدها و تطوّرها بديلا و هما أسلوب تنهجه في فتوحاتها التي تستهدف خيرا أكثر و بقاء أصلح. و ملاحظة ابن أبي طالب الدقيقة العميقة للحياة و نواميسها و هي أعظم موجودات الوجود الخيّر، مكّنت في نفسه الايمان بثوريّة الحياة المتطلّعة أبدا إلى الأمام، المتحرّكة أبدا في اتّجاه الخير الأكثر. و ثورية الحياة أصل تحرّكها و سبب تطوّرها من حسن إلى أحسن. و لهذا كانت الحياة حرّة غير مقيّدة إلاّ بشروط وجودها. و ثوريّة الحياة أصل تحرّك المجتمع الانساني و سبب تطوّره. و لو لا هذه الخاصّة لكانت الحياة شيئا من الموت و الأحياء أشياء من الجماد.

آمن ابن أبي طالب بثوريّة الحياة إيمانا أشبه بالمعرفة، أو قل هو المعرفة. فترتّب عليه إيمان عظيم بأنّ الأحياء يستطيعون أن يصلحوا أنفسهم و ذلك بأن يماشوا قوانين الحياة.

و يستطيعون أن يكونوا أسياد مصائرهم و ذلك بأن يخضعوا لعبقريّة الحياة. و قد سبق أن قلنا في حديث مضى إنّ ثوريّة الحياة ألصق مزايا الحياة بها و أعظمها دلالة على إمكاناتها العظيمة. و هي تستلزم من المؤمنين بها أن يعملوا على أساس من الثقة المطلقة بالتطوّر المحتوم، و أن ينبّهوا الخواطر إليه، و أن يستخدموا الدليل و البرهان في زجر المحافظين عن كلّ تصرّف غبيّ يتوهّم أصحابه أنّهم يستطيعون الوقوف في وجه الحياة الثائرة المتطوّرة بثورتها.

بهذه الثقة و بهذا الايمان خاطب ابن أبي طالب الانسان بقوله: «فإنك أوّل ما خلقت جاهلا ثمّ علّمت، و ما أكثر ما تجهل من الأمر، و يتحيّر فيه رأيك، و يضلّ فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك» ففي هذا القول اعتراف بأنّ الحياة متطوّرة، و أنّ التعلّم إنّما هو الانتفاع بما تخزن الحياة من عبقريتها في صدور أبنائها، على ما قلنا سابقا. و فيه إيمان بالقابلية الانسانية العظيمة للتقدّم، أو قل للخير. و ما دعوته الحارّة إلى المعرفة التي تكشف كلّ

٧٤

يوم عن جديد، و تبني كلّ يوم جديدا، إلاّ دليل عن الايمان بثوريّة الحياة الخيّرة و إمكانات الأحياء. فالمعرفة لديه كشف و فتح لا يهدآن.

و هو بهذا الايمان و هذه الثقة يخاطب أبناء زمانه يقول: «لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم». فلو لا تفاؤله العظيم بأنّ في الحياة جمالا، و بأنّ في الناس قابليّة التطوّر إلى الخير، لما أطلق هذا القول الذي يوجز علمه بثوريّة الحياة، و يوجز تفاؤله بإمكانات الانسان المتطوّر مع الحياة، كما يوجز روح التربية الصحيحة، و يخلّص كلّ جيل من الناس من أغلال العرف و العادة التي ارتضاها لنفسه جيل سابق.

و لابن أبي طالب في هذا المعنى قول كثير منه هذه الآيات الخالدة التي يمجّد بها العمل بوصفه حقيقة و ثورة و خيرا: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» و «قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه» و «اعلموا أنّ الناس أبناء ما يحسنون» و «لكلّ امرى‏ء ما اكتسب».

و من أقواله ما يدفع به المرء إلى أن يطلب التقدّم بالعمل، و ألاّ يحجم أو يتراجع إذا هو أخفق كثيرا أو قليلا، لأنّ الوجود الخيّر لا يحرم أبناءه ما يستحقّون. و إذا هو حرمهم فبعض الحرمان لا كلّه. و قد يسوّى الأمر في دفعة ثانية من الطلب بواسطة العمل. و من قوله في ذلك هذه الآية: «من طلب شيئا ناله أو بعضه». و أظن أن القارى‏ء فطن الى روح هذه العبارة التي تتألق و كأنها انبثاق عن كلمة المسيح الشهيرة: «إقرعوا إقرعوا يفتح لكم».

و لعلّ أجمل ما في المذهب العلويّ بهذا الشأن، أنّ صاحبه كان يوحّد ثوريّة الحياة و خير الوجود نصّا كما كان يوحّدهما روحا و معنى. فلشدّ ما نراه يوحّد معنى التطوّر، أو ثوريّة الحياة، بمعنى خير الوجود توحيدا لا يجعل هذا شيئا من تلك، و لا تلك شيئا من هذا، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاّ من خير الوجود، و خير الوجود كلاّ من ثورية الحياة. و إن في آياته هذه لدليلا كريما على صحة ما نقول فليس فيها ما يحتاج إلى شرح أو تعليق. و إليك نموذجا عنها: «العاقل من كان يومه خيرا من أمسه» و «من كان

٧٥

غده شرّا من يومه فهو محروم» و «من اعتدل يوماه فهو مغبون». و أخيرا إليك هذه الرائعة التي تجمع كلّ ما نحن بصدده الآن، إلى دف‏ء الحنان العميق، إلى جمال الفن الأصيل، إلى إشراك الأيام بأحاسيس البشر: «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلاّ قال له: «أنا يوم جديد، و أنا عليك شهيد، فقل فيّ خيرا و اعمل خيرا فإنك لن تراني بعد أبد» و لسوف نسوق في هذا الكتاب روائع لابن أبي طالب ستبقى ما بقي الانسان الخيّر.

و إنّها لطائفة تؤلّف نهجا في الأخلاق الكريمة، و الأحلام العظيمة، و التهذيب الانسانيّ الرفيع الذي أراده انبثاقا عن ثوريّة الحياة و خير الوجود بيروت جورج جرداق

٧٦

٧٧

٧٨

الفاتحة العلويّة

٧٩

الفاتحة العلويّة

أ و أقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم مكاره الدهر؟ إمنع من الاحتكار.

إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة.

أ لا و إني أقاتل رجلين: «رجلا ادّعى ما ليس له، و آخر منع الذي عليه ما جاع فقير إلا بما متّع به غنيّ ما رأيت نعمة موفورة إلاّ و إلى جانبها حقّ مضيّع و إنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها. و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ليس بلد أحق بك من بلد. خير البلاد ما حملك

____________________

(١) إشراف أنفس الولاة على الجمع: «تطلّعهم الى جمع المال و ادخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن

اين عمّار

و من الخطبة السابقة نفسها: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق(١) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟

و أين ابن التّيهان؟ و أين ذو الشّهادتين(٢) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة(٣) ؟

____________________

(١) الرنق: الكدر.

(٢) عمار: عمار بن ياسر، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة.

و ابن التيهان: ابو الهيثم مالك بن التيهان، من أكابر الصحابة. ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، من الصحابة. و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها.

(٣) أبرد برووسهم: أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم.

١٤١

الكبر و التّعصّب و البغي

من خطبة له طويلة تسمّى «القاصعة(١) »: و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة.

فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية.

و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم(٢) و مصارع جنوبهم. و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر(٣) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

____________________

(١) قصع فلان فلانا: حقّره. و قد سميت هذه الخطبة «القاصعة» لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي.

(٢) مثاوي، جمع مثوى، بمعنى المنزل. و منازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت. و مصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(٣) لواقح الكبر: محدثاته في النفوس.

١٤٢

و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: «أنا ناريّ و أنت طينيّ» و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة، فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام، و الطاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(١) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث(٢) و الفساد في الأرض: فأمّا الناكثون فقد قاتلت. و أما القاسطون فقد جاهدت(٣) . و أمّا المارقة

____________________

(١) المثلات: العقوبات.

(٢) النكث: نقض العهد.

(٣) القاسطون: الجائرون على الحق.

١٤٣

فقد دوّخت. و أمّا شيطان الرّدهة(١) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره. و بقيت بقيّة من أهل البغي، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(٢) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا(٣) .

و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل و منار النهار(٤) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون(٥) و لا يفسدون: قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل.

الدّنيا تطوى من خلفكم

من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان: و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

____________________

(١) الردهة: النقرة في الجبل قد يجتمع فيها. و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة.

(٢) لأديلن منهم: لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم.

(٣) يتشذّر: يتفرق، أي: لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد.

(٤) عمار، جمع عامر، أي: يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة.

(٥) يغلون. يخونون.

١٤٤

و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم(١) ، و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة

دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام. كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، و في مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر.

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

____________________

(١) النواصي، جمع ناصية، و هي: مقدّم شعر الرأس.

١٤٥

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت(١) . و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبّة لهم، و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل(٢) ، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ(٣) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة(٤) .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك(٥) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده. و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة،

____________________

(١) الشح: البخل. يقول: انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق.

(٢) يفرط: يسبق. الزلل: الخطأ.

(٣) يؤتى على أيديهم: تأتي السيئات على أيديهم.

(٤) بجح بالشي‏ء: فرح به. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

المندوحة: المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص.

(٥) من لك فيه هوى، أي: من تميل اليه ميلا خاصا.

١٤٦

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة(١) . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف(٢) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر، من أهل الخاصة(٣) .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر(٤) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين.

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة(٥) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

____________________

(١) يحجف: يذهب. يقول للحاكم: إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء. أما إذا رضي عليك العامة، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل، فسخط الخاصة مغتفر.

(٢) الإلحاف: الإلحاح.

(٣) يقول: ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة. فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم.

(٤) الوتر: العداوة: يقول: احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم. و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا.

(٥) البطانة: الخاصة.

١٤٧

الظّلمة(١) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك(٢) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله(٣) .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه(٤) و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم(٥) و تخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم(٦) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

____________________

(١) الأثمة: جمع آثم. الظلمة: جمع ظالم.

(٢) آثرهم: أفضلهم. مرارة الحق. صعوبته. يقول: ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك.

(٣) رضهم: عوّدهم. يطروك: يطنبوا في مدحك. يبجحوك بباطل لم تفعله: يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته.

(٤) أي: أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه، و هو استحقاق الإحسان. و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك، و هو استحقاق العقاب.

(٥) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم. و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم.

(٦) قبلهم، بكسر ففتح: عندهم.

١٤٨

حسن الظنّ برعيّتك، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده(١) .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء(٢) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممّن يبطى‏ء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء(٣) و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم(٤) .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

____________________

(١) البلاء: الصنع، حسنا أو سيئا.

(٢) المنافثة: المحادثة.

(٣) ينبو: يشتدّ و يعلو. يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء.

(٤) الحيطة، بكسر الحاء: مصدر «حاط» بمعنى: صان و حفظ، يقول: ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم.

١٤٩

غيره(١) ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(٢) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم(٣) و لا يتمادى في الزلّة، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه(٤) ، و أوقفهم في الشّبهات(٥) و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاع الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه(٦) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة

____________________

(١) لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره.

(٢) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة.

(٣) تمحكه: تغضبه.

(٤) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة.

(٥) الشبهات، جمع شبهة، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح.

(٦) أي: تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف.

١٥٠

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة(١) . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون(٢) من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم(٣) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية. و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(٤) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب به من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التهمة.

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك.

و إن العمران محتمل ما حمّلته، و إنما يؤتى خراب الأرض من

____________________

(١) أي: ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا.

(٢) العيون: الرقباء.

(٣) حدوة: سوق و حثّ.

(٤) اجتمعت عليها أخبار عيونك: اتفقت عليها أخبار رقبائك.

١٥١

إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك(٢) و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم(٣) ، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء. و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته(٤) .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله(٥) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

____________________

(١) إشراف انفس الولاة على الجمع: تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

(٢) الفراسة: قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر. الاستنامة: الاطمئنان إلى حسن الرأي. أي: لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء.

(٣) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم.

(٤) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك.

(٥) المتردد بأمواله بين البلدان.

١٥٢

اللّه عليه و سلّم منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع(١) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف(٢) .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول: و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر(٣) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه(٤) لإحكامك المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم(٥) و لا تصعّر خدّك لهم(٦) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون(٧) و تحقره الرجال، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. و تعهّد

____________________

(١) المبتاع: المشتري.

(٢) قارف: خالط. الحكرة: الاحتكار. نكل به: أوقع به العذاب عقوبة له. يقول: من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها.

(٣) البطر: طغيان النعمة.

(٤) يقول: لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير.

(٥) لا تشخص همك عنهم: لا تصرف همك عنهم.

(٦) صعّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا.

(٧) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر اليه احتقارا.

١٥٣

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن(١) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك(٢) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع(٣) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن(٤) : «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم و العيّ(٥) و نحّ عنهم الضيق و الأنف(٦) .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك(٧) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه.

____________________

(١) ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

(٢) أي: تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم.

(٣) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز و عيّ، أو من خوف.

(٤) في مواطن كثيرة.

(٥) الخرق: العنف. العي: العجز عن النطق. أي: لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك.

(٦) الأنف: الاستنكاف و الاستكبار.

(٧) تحرج: تضيق. يقول: إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، و يحبون المماطلة في قضائها، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت.

١٥٤

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل. و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات(١) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك(٢) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك(٣) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال(٤) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة(٥) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

____________________

(١) سمات: علامات.

(٢) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم، أو في عمل تمنحهم إياه؟

(٣) يقول: و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك، فلا حاجة للاحتجاب.

(٤) احسم: اقطع. يقول: اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

(٥) الاقطاع: المنحة من الأرض. القطيعة: الممنوح منها. الحامة، كالطّامة: الخاصة و القرابة. الاعتقاد: الامتلاك. العقدة: الضيعة.

١٥٥

غيرهم فيكون مهنأ ذلك(١) لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة(٢) .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر(٣) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك(٤) و رفقا برعيّتك و إعذارا(٥) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك. و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت(٦) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

____________________

(١) المهنأ: المنفعة الهنيئة.

(٢) المغبة: العاقبة، يقول: إن إلزام الحق لمن لزمهم، و إن ثقل على الوالي و عليهم، محمود العاقبة يحفظ الدولة.

(٣) الحيف: الظلم. أصحر بهم: ابرز لهم.

(٤) رياضة منك لنفسك: تعويدا لنفسك على العدل.

(٥) الإعذار: تقديم العذر أو إبداؤه.

(٦) أصل معنى الذمة: وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد. الجنة: الوقاية.

يقول: حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد.

١٥٦

و لا تختلنّ(١) عدوّك. و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل(٢) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ(٣) .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد في ما كان من فعلك(٤) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس.

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها(٥) أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

____________________

(١) خاس بعهده: خانه و نقضه. الختل: الخداع.

(٢) العلل: جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته.

(٣) لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض. يقول: إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك.

(٤) التزيّد: إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار.

(٥) التسقط: يريد به هنا: التهاون.

١٥٧

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة(١) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم. إملك حميّة أنفك(٢) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك(٣) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة(٤) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه(٥) .

____________________

(١) احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

(٢) أي: أملك نفسك عند الغضب.

(٣) السورة: الحدة: و الحد: البأس. و الغرب: الحد، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه.

(٤) البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا، و السكون يطفى‏ء من لهبه.

(٥) يريد من العذر الواضح: العدل، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.

١٥٨

حدود الضّريبة

من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم(١) ، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل: لا فلا تراجعه. و إن أنعم لك منعم(٢) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه(٣) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين(٤) ثم خيّره:

____________________

(١) أخدجت السحابة: قلّ مطرها.

(٢) أنعم لك منعم، أي: قال لك: نعم.

(٣) تعسفه: تأخذه بشدة. ترهقه: تكلفه ما يصعب عليه.

(٤) أي: اقسمه قسمين.

١٥٩

فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله، فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله(١) ، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله.

السفهاء و التجار

من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها: إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها(٢) ما باليت و لا استوحشت. و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي، و لكني آسى(٣) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا(٤) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم

____________________

(١) أي: فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده، و طلب الإعفاء من هذه القسمة، فاعفه منها، و اخلط، و أعد القسمة.

(٢) الطلاع: مل‏ء الشي‏ء. يقول: لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم. و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان.

(٣) آسى: أحزن.

(٤) دولا، جمع دولة «بالضم»: أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه. الخول: العبيد.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237