الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة75%

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة مؤلف:
تصنيف: التوحيد
الصفحات: 79

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة
  • البداية
  • السابق
  • 79 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33225 / تحميل: 5953
الحجم الحجم الحجم
الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

الأسماء الثلاثة الإله، الربّ والعبادة

مؤلف:
العربية

الاَسماء الثلاثة

الاِله، الربّ، والعبادة

رسالة موجزة

في تفسير الاَسماء الثلاثة الواردة في القرآن،

والّتي تدور عليها رحى البحث

عن التوحيد والشرك

جعفر السبحاني

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه الاَوّل فلا شيء قبله، و الآخر فلا شيء بعده، الظاهر فلا شيء فوقه، والباطن فلا شيء دونه، و هو القائل عزّاسمه و علا سلطانه " هو الاَوّل والآخر والظاهر والباطن و هو بكلّ شيء عليم".

والصّلاة و السّلام على أشرف خليقته، و خاتم رسله و أنبيائه محمّد أمين وحيه ورسالاته، وعلى آله الّذين هم موضع سرّه، و عيبة علمه، و موئل حِكَمه صلاة طيّبة ، لا يحصيها العادّون.

أمّا بعد: فانّاللّه سبحانه بعث رسوله الخاتم لاِنجاز عدته، و إتمام نبوّته، مأخوذاً على النبيّين ميثاقه، مشهورةً سماته، كريماً ميلاده، وأهل الاَرض يومئذ مِلل متفرّقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتّتة، بين مشبِّهٍ للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشيرٍ إلى غيره، فهداهم من الضلالة ، وأنقذهم من الجهالة.(١)

بعثه سبحانه بمعجزته الخالدة، فيها هدىً و نور، وشفاء لما في الصدور، ولمتزل تشع نوراً و رحمة، و سيباً و عطاءً لمن أنس بها و درسها، و خالطت جسمه و روحه و قلبه و دمه.

إنّ القرآن المجيد هو المعجزة الباقية عبر القرون إلى يوم القيامة، مشتملة على معارف و حقائق لم تكن في زبر الاَوّلين، و لم تتجاوز عنها عباقرة المتأخرين، يقف و بناءً على ذلك فمن قرأالقرآن و تدبّر، وتلا آياته و فكّر، أحسّ ـ عند ذاك ـ أنّه أمام بحر ليس له ساحل.

____________

(١) اقتباس من خطبة الاِمام أمير المؤمنين ٧ ، رقم ١ .

٢

و إنّ من أبرز تعاليمه العالية ما أتى به حول التوحيد و الشرك، و التنزيه و التشبيه، و ربما يدور معظمها حول كلمات ثلاث، أعني: الاِله ، و الربّ، و العبادة.

و لمّا كان لها هذا الشأن العظيم ، فجدير بالمسلم الواعي أن يقف على معانيها، و يحلّلها حسب ما ورد في القرآن الكريم، ويزيل عنها الاَغشية التي أحاطت بها عبر تمادي القرون.

فلاَجل ذلك قمنا في هذه الرسالة، بدراسة هذه الكلمات الثلاث، في فصول أربعة مستنطقين الذكر الحكيم، والسنّة النبوية الكريمة، و كلمات علمائنا الاَبرار من السلف الصالح ،و الخلف السائر على ضوء نهجهم، راجين أن تكون نبراساً للمحقّقين و ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال و لا بنون إلاّمن أتى اللّه بقلب سليم.

جعفر السبحاني

٦|صفر|١٤١٧هـ.ق

٣

الفصل الاَوّل : الاِله في اللغة و القرآن الكريم

قد ورد لفظ «إله» في القرآن الكريم بصوره المختلفة مفرداً و تثنية و جمعاً، مضافاً و غير مضاف ١٤٧ مرّة، كما أنّ لفظ الجلالة «اللّه» ورد فيه ٩٨٠ مرة، و بما أنّ الثاني عَلَم، فهو لايثنّى و لايجمع و لايضاف، بل يستعمل مفرداً مطلقا.

وكثرة ورودهما في الكتاب العزيز تُعرِب عن دورهما في مجال المعارف الاِلهيّة ولعلّ الوقوف على مفهومهما مضافاً إلى لفظي الربّ و العبادةمفتاح لفهم جلّ المعارف القرآنيّة.

هل الاِلـه بمعنى المعبود؟

قد اشتهر في الاَلسن أن ّ الاِله من «اَلَه» بمعنى عَبَدَ، وأنّالاِله بمعنى المعبود، و هذا و إن كان مشهوراً لكن لا تصدقه وحدة المادّة ولا القرآن الكريم و إليك الكلام في المقامين.

الاِله في اللغة

أمّا الاَُول: فلاَنّاللفظين (اللّه و إله) مأخوذان من مادة واحدة فلابدّ أن يكونا بمعنى واحد غير أنّالاَوّل عَلَم دون الآخر، و لايتجاوز التفاوت بينهما هذا الحدّ، فلفظ الجلالة مأخوذ من «إله»، فحذفت منه الهمزة وحلّ مكانها اللام فصار«اللّه».

٤

يقول الزمخشري: اللّه، أصله «الاه»، قال الشاعر:

معاذ الاِله أن تكون كظبية

ولا دمية ولا عقيلة ربرب (١)

ونظيره، الناس، أصله أُناس، فحذفت الهمزة وعوضت عنها حرف التعريف.

و لذلك قيل في النداء يا اللّه بالقطع، كما يقال يا إله، و الاِله من أسماء الاَجناس كرجل.(٢)

و قال سيبويه في تفسير لفظ الجلالة: انّأصله «إلاه» على وزن فعال فحذفت الفاء التي هي الهمزة و جعلت الاَلف و اللام عوضاً لازماً عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة(٣) الداخلة على لام التعريف في النداء في نحو قوله: يا اللّه اغفر لي، و لو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا(٤) الاسم.

وقال الراغب في مفراداته: اللّه أصله إله فحذفت همزته و أُدخل عليه الاَلف واللام فخص بالباري و لتخصصه به قال تعالى: "هل تعلم له سمياً".(٥)

و على هذا فلا نحتاج إلى تفسير «إله» إلى شيء وراء تصور أنّهذا اللفظ كليّ و ما وضع عليه لفظ الجلالة، و بما أنّهذا اللفظ (اللّه) من أوضح المفاهيم فلانحتاج في فهم اللفظ الموضوع للكلي من هذا الفرد إلى شيء آخر.

وعلى ذلك، فلا فرق بينَ لفظ الجلالة و لفظ «إله» سوى أنّ أحدَهما علم والآخر موضوع لمعنى كليّ، ومصداق لفظ الجلالة فرد منه، و إن لم يوجد لهذا الكلي فرد حقيقي سوى اللّه سبحانه.

____________

(١) استعاذ الشاعر باللّه من تشبيه حبيبه بالظبية أو الدمية، و الربرب هو السرب من الوحشي.

(٢) الزمخشري: الكشاف١: ٣٠ في تفسير البسملة.

(٣) المقصود ثباتها عند دخول حرف النداء.

(٤) الطبرسي: مجمع البيان١:١٩.

(٥) الراغب: المفردات: ٣١، مادة اله.

٥

نعم اخترعت الاَوهام لهذا الكليّ مصاديقَ خاطئة تصوروا أنّها من مصاديقه ولكنّها آلهة كاذبة ليست لها من الاَُلوهية سوى الاسم الذي أطلقوه عليها، يقول سبحانه:( إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْماءٌ سمَّيتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباوَُكُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطان ) (النجم|٢٣).

فإذا كان المتبادرُ من لفظ الجلالة شيء غير المعبود، كواجب الوجود، أو الذات الجامعة لصفات الجمال والكمال او خالق السماوات والاَرض و مافيهنّ و مابينهنّ مدبّرها أو ما يقرب ممّا ذكر، فليكن المتبادر من «الاِله» هو ذلك غير أنّ أحدهما علم والآخر كلي.

و يوَيد وحدة مفهومها بالذات مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة المادة، أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الاِله بمعنى أنّه يستعمل في المعنى الكلي و الوصفي دون العلمي فيصح وضعه مكان الاِله كما في قوله سبحانه:

( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمواتِ وَ فِي الاََرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) (الاَنعام|٣)، فالآية تهدف إلى أنّ إله السماء هو إله الاَرض و ليس هناك آلهة بحسب الاَنواع و الاَقوام، فالضمير (هو) مبتدء و لفظ الجلالة خبر والمعنى هو المتفرد بالاِلهيّة في السماوات فوزانها وزان قوله سبحانه:

( وَ هُوَ الّذي فِي السَّماءِ إلهٌ وَفِي الاََرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكيم العَليم ) (الزخرف|٨٤).

فانّ اللفظين في الآيتين بمعنى و احد، بمعنى أنّ لفظ الجلالة في الآية الاَُولى خرجَ عن العلمية و عاد إلى الكلّية والوصفية، ولذلك صح جعله مكانَ الاِله في الآية الاَُولى، و جيء بنفس لفظ الاِله في الآية الثانية.

و قريب من هاتين الآيتين الآية التالية إذ يقول سبحانه:

( وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنّما اللّهُ إِلهٌ واحِد سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَد ) (النساء|١٧١).

ومن المعلوم أنّ لفظ الجلالة في الآية منسلخ عن معنى العلمية لوضوح أنّ مصداق العلم واحد لا كثير فلا وجه للتركيز على انّه واحد، فإذاً لايصحّ التركيز إلاّ بانسلاخ لفظ الجلالة عن معنى العلمية حتى يصحّ التأكيد على أنّ اللّه إله واحد.

٦

نعم لقائل أن يقول: إنّ الاِله في الآية بمعنى المعبود، والهدف من التأكيد بالوحدانيّة، أنّه لا معبود سواه، فتكون النتيجة حصر المعبود الواحد فيه سبحانه.

و لكن التمعن في صدرها و ذيلها، لا يدعم ذلك الرأي و ذلك لانّها بصدد إثبات توحيد الذات و إبطال التثليث كما عليه النصرانية في عصر الرسول و ما بعده إلى يومنا هذا. فالمسيح عندهم جزء من العناصر الثلاثة التي تشكل إلهاً واحداً ويُشار إلى ذلك الواحد بلفظ الجلالة، ففي ذلك الموقف الخطير الذي يريد فيه النصراني نفي توحيد الذات وإثبات كثرتها يُناسب التركيز على وحدة الذات، وتوحيدها، لا وحدة المعبود التي لا تصل النوبة إليها إلاّ بعد الفراغ عن مسألة وحدة الذات وكثرتها قال سبحانه:

( يا أهْلَ الْكِتاب لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاّ الحَقَّ إِنَّما الْمَسيحُ عيسَى ابنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتهُ أَلْقيها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيراً لَكُمْ إِنَّما اللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّمواتِ وَما فِي الاََرْض وَكَفى بِاللّهِ وَكيلاً ) (النساء|١٧١).

قد صيغت الآية و كأنّها سبيكة واحدة، لدحض مزعمة التثليث التي لاتتفق مع وحدانية الذات و لاَجل ذلك يقول بعد قوله:( إِنّما اللّه إله واحد ) ( سبحانه أن يكون له ولد ) أي فهو موجود بسيط ،( لم يلد و لم يولد ) ، فكيف يكون له ولد، و هو في غنى عن الولد، وهو مالك لما في السماوات و الاَرض.

وكلّ عربي صميم إذا تجرد عن كلّ رأي مسبق و دعمِ أي مذهب، لا يتلقى من الآية، إلاّ ما ذكرنا و انّ المقصود أنّه لا مصداق للاِله الذي يعتقده الاِنسان بقضاء الفطرة إلاّ هو.

٧

وهناك مجموعة من الآيات يمكن أن نستظهر منها ما قويناه و هو وحدة مفهوم اللفظين (اللّه ـ الاِله) و الاختلاف بينهما في الجزئية والكلية. قال سبحانه:

( هُوَ اللّهُ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُو عالِمُ الغَيبِ و الشَهادَةِ هوَ الرَحْمنُ الرَحيم * هُوَ اللّهُ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُوَْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبـّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبـْحانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللّهُ الْخالِقُ البارىَ المُصَوِّرُ لَهُ الاََسْـماءُ الْحُسنى يُسَبِحُ لَهُ ما فِي السَّمواتِ وَ الاََرض وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيم) (الحشر|٢٣ـ٢٤).

وأمّا كيفية الدلالة، فبيانها: انّمرجعَ الضمير في صدر الآيات هو الموجود الذي يعتقده الاِنسان بقضاء الفطرة و يتوجه إليه في الشدائد و المصائب و تعبِّر عنه كلّأُمة بلغتها ـ فعندئذٍ ، يكون مفاد الآية أنّ ذاك المعتقد العام (هو) ليس إلاّمن له هذه الاَوصاف.

( اللّهُ الّذي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ..." "اللّهُ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ..." "اللّهُ الْخالِقُ البارىَ المُصَوِّر...) (الحشر|٢٢ـ٢٤).

إلى غير ذلك من خصائص الاِله.

فلا مناص في تفسير الآيات عن القول بانسلاح لفظ الجلالة عن معنى العلمية، وترادفه مع لفظ الاِله حتى يقع وصفاً كسائر الاَوصاف.

مفهوم الاِله في القرآن

قد تعرفت على معنى الاِله في اللغة، و حان حينُ البحث في المقام الثاني و هو مفهومه في القرآن الكريم نقول:

إنّهنا آيات تدل بوضوح على أنّ الاِله ليس بمعنى المعبود، بل بمعنى المتصرف المدبر أو من بيده أزمّة الاَمور ، أو ما يقرب من ذلك على وجه يميّزه عن الموجودات الاِمكانيّة. و إليك بعض هذه الآيات:

١ـ( لَو كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسدَتا ) (الاَنبياء |٢٢).

٨

فانّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلاّإذا جعلنا «الاِله» في الآية بمعنى المتصرف، المدبر أو من بيده أزمّة الاَُمور أو ما يقرب من هذين. ولو جعلنا الاِله بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لبداهة تعدد المعبود في هذا العالم، مع عدم الفساد في النظام الكوني، و قد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة بالآلهة، و مركزاً لها و كان العالم منتظماً، غير فاسد.

و عندئذٍ يجب على من يجعل «الاِله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ «بالحق» أي لو كان فيهما معبودات ـ بالحق ـ لفسدتا، و لما كان المعبود بالحقّ مدبِّراً و متصرفاً لزم من تعدده فساد النظام و هذا كلّه تكلّف لامبرّر له.

٢ـ( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) (الموَمنون|٩١).

ويتم هذا البرهان أيضاً إذا فسرنا الاِله بما ذكرنا من أنّه كلي ما يطلق عليه لفظ الجلالة. و إن شئت قلت: إنّه كناية عن الخالق، أو المدبّر، المتصرف، أو من يقوم بأفعاله و شوَونه. والمناسب في هذا المقام هو الخالق. و يلزم من تعدده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلّإله بما خلق و اعتلاء بعضهم على بعض.

و لو جعلناه بمعنى المعبود لا نتقض البرهان، لاَنّه لايلزم من تعدده أيي اختلال في الكون. وأدلّ دليل على ذلك هو المشاهدة. فإنّفي العالم آلهة متعددة، و قد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة و ستون إلهاً و لم يقع أيّفساد و اختلال في الكون.

فيلزم على من يفسر (الاِله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

٣ـ( قُل لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابتغَوْا إلى ذِي الْعَرْش سَبِيلاً ) (الاِسراء|٤٢).

فانّابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدد الخالق أو المدبّر المتصرف أو من بيده أزمّة أمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الاَُلوهية، و أمّا تعدد المعبود فلا يلزم ذلك إلاّ بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

٤ـ( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حصبُ جهَنّمَ أنتُمْ لها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هوَلاءِ آلهةً ما وَردُوها ) (الاَنبياء|٩٨ـ ٩٩).

والآية تستدل بورود الاَصنام و الاَوثان في النار على أنّها ليست آلهة إذ لو كانوا آلهة ما وردوا النار.

٩

والاستدلال إنّما يتم لو فسرنا الآلهة بما أشرنا إليه فانّ خالق العالم أو مدبّره و المتصرف فيه أو من فوض إليه أفعال اللّه أجلّ من أن يُحكَم عليه بالنار و أن يكون حصبَ جهنّم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان، إذ لا ملازمة بين كونها معبودات و عدم كونها حصبُ جهنم. ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الاِله و الآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه.وإليك مورداً منها في قولهتعالى:

٥ـ( فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وبَشِّرِ المُخْبِتينَ ) (الحج|٣٤).

فلو فسر الاِله في الآية بالمعبود لزم الكذب، إذ المفروض تعدد المعبود في المجتمع البشري، و لاَجل دفع هذا ربما يقيد الاِله هنا بلفظ «الحقّ» أي المعبود الحقّ إله واحد. ولو فسرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرف، و إيصال النفع ، و دفع الضرّ على نحو الاستقلال لصحّ حصر الاِله ـ بهذا المعنى ـ في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة إذ من المعلوم أنّه لاإله في الحياة الاِنسانية و المجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها إلاّ اللّه سبحانه.

ولا نريد أن نقول: إنّلفظ «الاِله» بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر، إذ لا يتبادر من لفظ «الاِله» إلاّالمعنى البسيط.بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الذي وضع له لفظ الاِله. و معلوم أنّكونَ هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط، غيرُ كونها معنى موضوعاً له الّلفظ المذكور كما انّ كونه تعالى ذو سلطة على العالم كله أو سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره، وصف نشير به إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ «اللّه»، لا أنّه نفس معناه.

إلى هنا ـ أيّـها القارىَ الكريم ـ قد وقفت على معنى الاِله، و الاَُلوهية، وانّه ليس الاِله بمعنى المعبود بل المراد منه نفس المراد من لفظة «اللّه» لا غير، إلاّ أنّ أحدهما علم، والآخر كلّـي.

نعم ربما يفسّر الاِله بمعنى المعبود و لكنّه تفسير باللازم فانّ من اتخذ أحداً إلهاً لنفسه فانّه يعبده قهراً و يفزع إليه عند الشدائد، و تسكن نفسه عند ذكره إلى غير ذلك من اللوازم والآثار للاِله و هذا لا يسوِّغ لنا أن نفسر الملزوم بكلّ لازم له.

١٠

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية:

إنّاللفظين واحد مبدءاً و معنًى، و إنّالمفهوم من لفظ «إله» هو المفهوم من لفظ الجلالة ولا فرق بينهما سوى في الجزئية و الكلّية.

الفصل الثاني : الربّ في اللغة و الذكر الحكيم

قد ورد لفظ «الربّ» في الذكر الحكيم بصيغه المختلفة، مفرداً و جمعاً، مضافاً و غير مضاف ٩٨٧مرّة، و لايقال الرّب لغير اللّه الاّ بالاِضافة.

ذكر أصحاب المعاجم للربّ معاني مختلفة قائلين بأنّ:

ربُّ كلّشيء: مالكُه و مستحقّه و صاحبه.

ربَّ الاَمر: أصلحه.

الربُّ: المالك، المصلح، السيد.(١)

وما يشابه هذه المعاني و يماثلها.

إنّالمفروض على كتب اللغة هو ضبط موارد استعمال الكلمة، سواء أكان المستعمل فيه هو الّذي وضعت له اللفظة أم لا، و لذلك جاءت المعاني المجازيّة في جنب المعاني اللغوية بحجة أنّالجميع مستعمل فيه، و هذا نقص واضح و مشهود في كتب اللغة و معاجمها.

وهناك نقص آخر و هو، أنّاللغوي ربما يعدّللكلمة معاني كثيرة على وجه يظنُّ القارىَ أنّها مشتركة وضعاً بين هذه المعاني، و لكنّه سرعان ما يرجع بعد التمعّن بأنّها صور مختلفة لمعنى واحد و ليس اللفظ موضوعاً إلاّ لمعنى جامع ، و من الصدف أنّ لفظة الرب تعاني من واجهت هذا المصير حتى أنّكاتباً كالمودوديّتصور أنّ لها خمسة معان في الاَصل و ذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم ولكنّه خفي عليه أنّها ليست معاني مختلفة و إنّما هي صور موسعة لمعنى واحد و إليك هذه الموارد والمصاديق:

١ـ التربية، مثل ربّ الولد، ربّاه.

____________

(١) ابن فارس: مقاييس اللغة٢:٣٨١، الفيروز آبادي، قاموس اللغة، مادة رب، و المنجد كذلك.

١١

٢ـ الاِصلاح والرعاية مثل ربَّالضيعة.

٣ـ الحكومة والسياسة مثل فلان قد ربَّ قومَه أي ساسهم وجعلهم ينقادونله.

٤ـ المالك كما جاء في الخبر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربُّ غنمٍ أم ربّإبل.

٥ـ الصاحب مثل قوله: ربّ الدار أو كما يقول القرآن الكريم:( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْت ) (قريش|٣).

لاريب أنّهذه المعاني قد أريدت من اللفظة في هذه الموارد و ما يشابهها و لكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل، وما هذه المعاني إلاّمصاديق و صور مختلفة لذلك المعنى الاَصيل وماهي سوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي و هو، من فوض إليه أمر الشيء المربّى من حيث الاصلاح و التدبير و التربية.

فإذا قيل لصاحب المزرعة أنّه ربّها، فلاَجل أنّإصلاح أُمور المزرعة مرتبطة به و في قبضته.

وإذا أطلقنا على سائس القوم، صفة الربّ، فلاَنّ أُمور قومه مفوّضة إليه، فهو قائدهم، ومالك تدبيرهم و منظم شوَونهم.

وإذا أطلقنا على صاحبِ الدار و مالِكه اسمَ الربّ، فلاَنّه فوض إليه أمر تلك الدار و إدارتها و التصرّف فيها كما يشاء.

فعلى هذا يكون المربي و المصلح و الرئيس و المالك و الصاحب و ما يشابهها مصاديق و صور لمعنى واحد أصيل يوجد في كلّ هذه المعاني المذكورة، و ينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة و مختلفة للفظة الربّ بل المعنى الحقيقي و الاَصيل للفظ هو: من بيده أمر التدبير و الاِدارة و التصرّف، وهو مفهوم كلّي و متحقّق في جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة ( أعني: التربية، و الاِصلاح، و الحاكمية و المالكية، و الصاحبية).

فإذا أطلق يوسف الصديقعليه‌السلام لفظ الربّ على عزيز مصر ، و قال:

( إنّه رَبّي أحسنَ مَثْوايَ ) (يوسف|٢٣).

فلاَجل أنّ يوسف تربّى في بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفلاً لتربيته الظاهرية وقائماً بشوَونه.

١٢

و إذا وصف يوسف عزيزَ مصر بكونه ربّاً لصاحبه في السجن، و قال:

( أمّا أحَدُكُما فَيَسقي ربَّهُ خَمراً ) (يوسف|٤١).

فلاَنّعزيز مصر كان سيّدَمصر و زعيمها و مدبّر أُمورها و متصرّفاً في شوَونها و مالكاً لزمامها.

وإذا وصف القرآن اليهود و النصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً إذ يقول:

( اتَّخَذوا أحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (التوبة|٣١).

فلاَجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة و قدرة فيما يختص باللّه.

وإذا وصف اللّه نفسه بأنّه «ربّالبيت» فلاَنّإليه أُمور هذا البيت مادّيها و معنويها، ولا حقّلاَحد في التصرّف فيه سواه.

وإذا وصف القرآن «اللّه»بأنّه:

( رَبُّ السَّمواتِ وَ الاََرْضِ ) (الصافات|٥).

وانّه :

( ربُّ الشِّعْرى ) (النجم|٤٩).

وما شابه ذلك، فلاَجل أنّه تعالى مدبّرها و المتصرف فيها و مصلح شوَونها والقائم عليها.

وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب، الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.

التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية

إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى:

١ـ التوحيد في الربوبية.

٢ـ التوحيد في الاَُلوهية.

قائلين بأنّ التوحيد في الربوبيّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة.

١٣

وأمّا التوحيد في الاَُلوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يُعنى منه أن لا يعبد سوى اللّه، و قد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الاَمر.(١)

والحقّ أنّاتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك، و لكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ و اشتباه.

وذلك لانّ معنى «الربوبية» ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق، بل هو ـ كما أوضحنا و بينا سلفاً ـ ما يفيد التدبير و إدارة العالم، و تصريف شوَونه و لميكن هذا ـ كما نبيّن ـ موضع اتّفاق بين جميع المشركين و الوثنيين في عهد الرسالةكما ادعى هذا الفريق. (٢)

نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم وجود مدبّر سوى اللّه و لكن كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممن يعتقدون بتعدد المدبر والتدبير، و هي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر التاريخيّة.

و هنا نلفت نظر الوهابيين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية، بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية حتى يتضح لهم أنّالدعوة إلى التوحيد في الربوبية لا تعني الدعوة إلى التوحيد في الخالقية بل هي دعوة إلى «التوحيد في المدبّرية» والتصرف، و قد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً من التوحيد الربوبي، و يعتقد بتعدد المدبِّر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.

____________

(١) محمّدبن عبدالوهّاب، تسع رسائل: الرسالة الثالثة|٥٧ـ٥٨.

(٢) سيوافيك عقائد المشركين في ربوبيّة الآلهة في الفصل الآتي.

١٤

و لايمكن ـ أبداً ـ أن نفسر الربّفي هذه الآيات بالخالق والموجد. و إليك بعض هذه الآيات.

أ:( بَل ربُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ وَالاََرض الّذي فَطرهنّ ) (الاَنبياء|٥٦).

فلو كان المقصود من الربّهنا هو الخالق و الموجد، لكانت جملة( الّذي فطرهن ) زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الربّ في الآية للمسنا عدم الاحتياج ـ حينئذٍ ـ إلى الجملة المذكورة (أعني:( الذي فطرهن ) ).

بخلاف ما إذا فسّـر الربّ بالمدبّر و المتصرّف، ففي هذه الصورة تكون الجملة الاَخيرة مطلوبة، لاَنّها تكون ـ حينئذٍ ـ علّة للجملة الاَُولى، فتعني هكذا: إنّخالق الكون ، هو المتصرف فيه و هو المالك لتدبيره و القائم بإدارته، لاشخص آخر فلماذا فرقتم بين الخالق والربّو لماذا حصرتم الخالقية في اللّه سبحانه، و أعطيتم الربوبية لغيره.

ب:( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذي خَلَقَكُمْ ) (البقرة|٢١).

فانّ لفظة الربّ في هذه الآية ليست بمعنى «الخالق» و ذلك على غرار ما قلناه في الآية المتقدمة المشابهة لما نحن فيه، إذ لو كان الربّ بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة "الّذي خلقكم" وجه، بخلاف ما إذا قلنا بأنّالربّ يعني المدبّر فتكون جملة: "الّذي خلقكم" علّة للتوحيد في الربوبية إذ يكون المعنى حينئذٍ هو: انّالّذي خلقكم، هو مدبّركم.

ج:( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغي رَبّاً وَ هُوَ رَبُّ كُلّ شَيْءٍ ) (الاَنعام|١٦٤).

وهذه الآية حاكية عن أنّمشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسألة الربوبية على نحو من الاَنحاء وانّالنبي الاَعظم كان مكلّفاً بأن يُفنّد رأيهم و يبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير اللّه ربّاً على خلاف ما كانوا عليه. و من المحتّمأنّخلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة «التوحيد في الخالقية» بدليل أنّالآيات السابقة تشهد من غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى اللّه تعالى، و لذلك فلا مناص من الاِذعان بأنّالخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية، و ليس هو إلاّمسألة تدبير الكون، بعضه أو كلّه.

١٥

د:( أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَومَ القِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلينَ ) (الاَعراف|١٧٢).

فقد أخذ اللّه في هذه الآية ـ من جميع البشر ـ الاِقرار بالتوحيد الربوبي و كانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة كما يقول:

( أوْ تَقُولُوا إنَّما أشركَ آباوَنا مِنْ قبلُ وَ كُنّا ذُريّةً من بعدِهمْ أفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) (الاَعراف|١٧٣).

إذا تبيّن هذا فنقول: إنّنزولَ هذه الآية في بيئة مشركة، دليل ـ و لا شكّ ـ على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق، فإذا كانت الربوبية بمعنى الخالقية استلزم ذلك أن يكون في تلك البيئة من يخالفون النبيّ في الخالقية، و لكن الفرض هو عدم وجود أيّ اختلاف في مسألة «توحيد الخالقية» في عصر الرسالة فلم يكن المشركون في ذلك العصر مخالفين في هذه المسألة ليُعتبروا مخالفين للميثاق المذكور، فلا محيص ـ حينئذٍ ـ من أنّالخلاف كان ـ آنذاك ـ في مسألة تدبير العالم و إدارة الكون.

و بهذا التقرير يكون معنى الربّ في الآية المبحوثة هنا هو المدبّر.

هـ:( أتقتلُونَ رجُلاً أنْ يقوَل ربِّي اللّهُ و قد جاءكُمْ بالبيِّنات منْ ربِّكُمْ ) (غافر|٢٨).

تتعلق هذه الآية بموَمن آل فرعون الّذي كان يدافع عن النبيّموسى عليه السَّلام وراء قناع النصيحة و الصداقة لآل فرعون ويسعى تحتَ ستار الموافقة لهم أن يدفع الخطر عن ذلك النبيّ العظيم.وأمّا دلالتها على كون الربّ بمعنى المدبّر فواضحة، لاَنّ فرعون ما كان يدّعي انّه خالق الاَرض و السماء ولا الشركة مع اللّه سبحانه فيخلق العالم و إيجاده، و هذه حقيقة يدلّ عليها تاريخ الفراعنة أيضاً. و في هذه الصورة يجب أن يكون المراد من دعوة النبيّموسى بقوله: ربّي اللّه، هو حصر «التدبير» في اللّه سبحانه لا مسألة الخلق. ولو كانت تتعلق بمسألة الخلق والاِيجاد لما كان بينه و بين فرعون أيّ خلاف و نزاع، إذ المفروض أنّ فرعون كان يعترف بخالقية اللّه ـ كما أسلفنا ـ هذا مضافاً إلى أن ّاللّه تعالى يقول في الآية السابقة لهذه الآية.

١٦

و :( ذَرُوني أقتلْ مُوسى و لْـيَدعُ ربَّهُ إنّي أخافُ أنْ يبدِّلَ دينَكُمْ ) (غافر|٢٦).

فانّ التوحيد في الخالقية لم يكن موضع خلاف لتكون دعوة موسى لبني إسرائيل سبباً لاَيّ تبدّل و تبديل.

و من هذا البيان يتضح المراد من قول فرعون:

( أنَا ربُّكُمُ الاَعلى ) (النازعات|٢٤).

ز:( فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّمواتِ وَالاََرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دونهِ إلهاً ) (الكهف|١٤).

إنّ الفتية الّذين فرّوا من ذلك الجوّ الخانق الذي أوجدته طواغيت ذلك الزمان، كانوا جماعة يسكنون في مجتمع يعتقد بأُلوهية غير اللّه، و لكن أُلوهية غير اللّه ـ في ذلك المجتمع ـ لم تكن بصورة تعدد الخالق، خاصة أنّواقعة أهل الكهف حدثت بعد ميلاد السيد المسيح حيث كانت عقول البشرية و أفكارها قد تقدمت في المسائل التوحيدية بشكل ملحوظ وحظت من الرقى بمقدار معتد به، و لم يكن يعقل ـ في ظلّهذا الرقي الفكري ـ وجودُمجتمعٍ منكرٍ لخالقية اللّه، أو مشرك فيها فلابدّ أن يقال إنّ شركهم يرجع إلى أمر آخر و هو الاعتقاد بتعدد المدبر.

ح: إنّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبية هو مقام المدبرية و ليس الخالقيّة كما يتوهم، هو الآية المتكررة في سورة «الرحمن».

( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبان ) .

فقد وردت هذه الآية في السورة المذكورة ٣١ مرة و جاءت لفظة «ربّ» جنباً إلى جنب مع لفظة « آلاء» التي تعني النعَم و غير خفي أنّ التذكير باسباغ النعم مرّة بعد أُخرى يناسب مقام التربية و التدبير فإرداف ذكرها، بذكر الربشاهد على أنّ اللفظ بمعنى المدبّر والمدير والمربّي والمصلح. لا الخالق والموجد.

و إن شئت قلت: إنّذكر النعم (التي هي من شعب التربية الاِلهية التي يُوليها سبحانه للبشر) يناسب موضوع التربية والتدبير الذي تندرج فيه إدامة النعم و إدامة الاِفاضة.

١٧

ط: لقد اقترنت مسألة الشكر مع لفظة الربّ في خمسة موارد في القرآن الكريم، و الشكر إنّما يكون في مقابل النعمة التي هي سبب بقاء الحياة الاِنسانية و دوامها وحفظها من الفناء وصيانتها من الفساد، و ليست حقيقة تدبير الاِنسان إلاّإدامة حياته وحفظها من الفساد والفناء.

و إليك هذه الموارد:

( وَ إِذْ تَأَذَّن رَبّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لاَََزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَديد ) (إبراهيم|٧).

( وَ قالَرَبِّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ) (النمل|١٩).

( قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَني ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِِ ) (النمل|٤٠).

( قالَ رَبّ أَوزِعْني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ) (الاَحقاف|١٥).

( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبةٌ وربٌّ غَفور ) (سبأ|١٥).

ي: و ممّا يدل على ما قلناه قوله سبحانه:

( فَقُلْتُ استغفِرُوا رَبَّكُمْ إنّهُ كانَ غَفّاراً* يُرْسِلِ السّماءَ عَلَيْكُمْ مِدراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) (نوح|١٠ـ١٢).

و مثله قوله سبحانه في سورة هود الآية ٥٢.

يلاحظ القارىَ الكريم كيف جعلت إدارة الكون و تدبير شوَونه تفسيراً للرب: فهو الذي يرسل المطر،و هو الذي يُمْدد بالاَموال والبنين، و هو الّذي يجعل الجنات، و هو الّذي يجعل الاَنهار، وكلّهذه الاَُمور جوانب و صور من التدبير .

إنّ الحوار الدائر بين النبي إبراهيم و طاغوت عصره نمرود يكشف القناع عن معنى الربّ و الربوبية فالآية التالية تتضمن مضمون الحوار و إليك نصّها قال سبحانه:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذي حاجَّ إِبْراهيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاه اللّهُ الملك إِذْقالَ إِبْراهيم رَبّي الّذي يحي و َيُميت قالَ أَنَ أُحْيى و َ أُميت قالَ إِبْراهيم فانّ اللّه يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرق فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذي كَفَرَوَ اللّهُ لا يَهْدِي القوم الظّالمين ) (البقرة|٢٥٨).

١٨

فكأنّ نمرود كان يدعى أنّه ربّ من يسوسهم بدليل انّإبراهيم إبتدأ كلامه بقوله: "ربّي الّذي يحيى و يميت" ومعناه لو كنت صادقاً في ادعاء الربوبية فعليك القيام بشوَون الربوبية كالاحياء و الاماتة و لما فوجىَ بهذا البرهان الدامغ المبطل لاِدعائه السخيف حاول أن يفسر كلام إبراهيم بشكل خاطىَ قال أنا أيضاً أملك الموت والحياة فأقتل من أشاء و أحقن دم من أُريد، فعندئذٍ عدل إبراهيم إلى حجّة أُخرى ليقطع الطريق عليه و لايكون في وسع نمرود أن يعارضها فقال: أنّ ربّي له سلطان على الشّمس في طلوعها و غروبها فلو صحّ انّك ربّ فقم بهذا العمل» فأنّ اللّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب» فلما سمع نمرود هذا الدليل القاطع و أيقن انّه ليس في وسعه المعارضة سكت و لم ينبس ببنت شفه يقول سبحانه( فَبُهِتَ الّذي كَفَرَ ) .

لم يكن النزاع بين النبي إبراهيم و نمرود في خالقيته إذ لا يدعيها إلاّ المصاب بعقله بل في ربوبيته لمن كان يسوسهم فكان إبراهيم يدعي انّه لا ربّ إلاّ ربّ واحد و أنّ الكون بأجمعه مربوب للّه و لم يكن هناك أي تقسيم للربوبية و لكن نمرود كان يعتقد بربوبية نفسه و كانت حجّته أنّه ذا سلطة و ملك كمايحكى عنه قوله سبحانه:( إن آتاه اللّه الملك ) فجعل ذلك دليلاً على ربوبيّته لمن كانوا يعيشون في ملكه و زعم انّأمرهم وحياتهم و مماتهم و كلّتشريع يرجع إليه وبيده.

فالحوار بمضمونه يفسر لنا معنى الربّوالربوبية و هو المتصرف المالك لشوَون المربوب في آجله فإذا كان الاحياء والاماتة وا لسلطة على طلوع الشمس من آثار الربوبية فهي غير الخالقية. و بالتالي يرجع معناها إلى كون الرب مالكاً لحياته و موته ، و لاصلاحه و افساده.

نتيجة هذا البحث:

من هذا البحث الموسع يمكن أن نستنتج أمرين:

١ـ إنّ ربوبية اللّه عبارة عن مدبريته تعالى للعالم و ليس معناها خالقيته.

٢ـ دلّت الآيات المذكورة في هذا البحث على أنّ مسألة «التوحيد في التدبير» لم تكن موضع اتّفاق بخلاف مسألة «التوحيد في الخالقية» و أنّه كان ثمة فريق يعتقد بمدبرية غير اللّه للكون كلّه أو بعضه، و كانوا يخضعون أمامه باعتقاد أنّ هربّ.

١٩

و بما أنّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فيمكن أن يكون بعض الفرق موحِّداً في الثاني ومشركاً في القسم الاَوّل، فاليهود و النصارى تورطوا في «الشرك الربوبي» التشريعي لاَنّهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الاَحبار و الرهبان و جعلوهم أرباباً من هذه الجهة، فكأنّه فُوِّض أمر التشريع إليهم !!!، و من المعلوم أنّالتقنين والتشريع من أفعاله سبحانه خاصة.

فها هو القرآن يقول عنهم:

( اتَّخَذوا أحبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (التوبة|٣١).

( وَ لا يَتَّخِذْ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آل عمران|٦٤).

في حين أنّ الشرك في الربوبية لدى فريق آخر ما كان ينحصر بهذه الدائرة بل يتمثل في إسناد تدبير بعض جوانب الكون، و شوَون العالم إلى الملائكة و الجنّ والاَرواح المقدسة، أو الاَجرام السماوية، وإن لم نعثر ـ إلى الآن ـ على من يعزي تدبير «كل» جوانب الكون إلى غير اللّه، و لكن مسألة الشرك في الربوبية تمثلت في الاَغلبشبه تدبير «بعض» الاَُمور الكونية إلى بعض خيار العباد وبعض المخلوقات.

خاتمة المطاف

إذا تعرّفت على مفهوم «الاِله» و «الرب» فاعلم إنّ للتوحيد مراتب قد بيّنها علماء الاِسلام في كتبهم العقائدية و برهنوا عليها من الكتاب والسنة والعقل الصريح، و بما أنّ بحثنا في الاَمر الثالث مركّز على التوحيد في العبادة والشرك فيها، نذكر مراتب التوحيد بايجاز ، ثمّنتكلم عن القسم الاَخير بالتفصيل، و في فصل خاص. فنقول: للتوحيد مراتبَ عديدة وهي:

الاَُولى: التوحيد في الذات

والمراد منه أنّه سبحانه واحد لا نظير له، فرد لا مثيل له، و يدلّ عليه مضافاً إلى البراهين العقلية قوله سبحانه:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصير ) (الشورى|١١).

وقوله سبحانه:( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ*وَلَمْ يُولَد* وَ لَمْ يَكُنْ لَه كُفواً أَحَد ) (الاخلاص|١ـ٤).

٢٠

بما رواه أحمد في مسند ابن عباس لو كان لابن آدم واديان من ذهب وكذا ما يأتي من رواية الترمذي عن انس. وايضا إن تمنى الوادي والواديين والثلاث ليس بذنب يحتاج إلى التوبة إذن فما هو وجه المناسبة بتعقيب ذلك بجملة «ويتوب الله على من تاب» وإن شئت ان تستزيد مما في هذه الرواية من التدافع والاضطراب فاستمع إلى ما رواه الحاكم في المستدرك ان أبا موسى الأشعري قال كنا نقرأ سورة نشبهها بالطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير اني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب. وذكر في الدر المنثور انه أخرجه جماعة عن أبي موسى. وأضف إلى ذلك في التدافع والتناقض ما أسنده في الإتقان عن أبي موسى أيضا قال نزلت سورة نحو براءة ثمّ رفعت وحفظ منها ان الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو ان لابن آدم واديين لتمنى إلى آخره. وأسند الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (ص) لو كان لابن آدم واد من ذهب لأحبّ أن يكون له ثان ولا يملأ فاه إلّا التراب ويتوب الله على من تاب. وها أنت ترى روايات عائشة وجابر وانس وابن عباس تجعل حديث الوادي والواديين من قول رسول الله وتمثله. فهي بسوقها تنفي كونه من القرآن الكريم. ومع ذلك فقد نسبت إلى كلام الرسول (ص) ما يأتي فيه بعض من الاعتراضات المتقدمة مما يجب ان ينزّه عنه ودع عنك الاضطراب الذي يدع الرواية مهزلة.

(الأمر الثالث) ومما الصقوه بكرامة القرآن المجيد قولهم في الرواية عن زيد بن ثابت كنا نقرأ آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» وفي الرواية عن ذر عن أبيّ ان سورة الأحزاب كانت تضاهي سورة البقرة أو هي أطول منها وان فيها أو في أواخرها آية للرجم وهي «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» وفي رواية السياري من الشيعة عن أبي عبد الله بزيادة قوله بما قضيا من الشهوة. وفي رواية الموطأ والمستدرك ومسدد وابن سعد عن عمر كما سيأتي «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة» وفي رواية أبي امامة ابن سهل ان خالته قالت لقد أقرأنا رسول الله (ص) آية الرجم «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» ونحو ذلك رواية سعد بن عبد الله وسليمان بن خالد من الشيعة عن أبي عبد الله (ع). ويا للعجب كيف رضي هؤلاء المحدثون لمجد القرآن وكرامته ان يلقى هذا الحكم الشديد على الشيخ والشيخة بدون ان يذكر السبب وهو زناهما اقلا فضلا عن شرط

٢١

الإحصان. وان قضاء الشهوة أعمّ من الجماع والجماع اعمّ من الزنا والزنا يكون كثيرا مع عدم الإحصان. سامحنا من يزعم ان قضاء الشهوة كناية عن الزنابل زد عليه كونه مع الإحصان ولكنا نقول ما وجه دخول الفاء في قوله «فارجموهما» وليس هناك ما يصحح دخولها من شرط أو نحوه لا ظاهر ولا على وجه يصح تقديره وإنّما دخلت الفاء على الخبر في قوله تعالى في سورة النور( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) لأن كلمة اجلدوا بمنزلة الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ. والزنا بمنزلة الشرط. وليس الرجم جزاء للشيخوخة ولا الشيخوخة سببا له. نعم الوجه في دخول الفاء هو الدلالة على كذب الرواية. ولعلّ في رواية سليمان بن خالد سقطا بأن تكون صورة سؤاله هل يقولون في القرآن رجم. وكيف يرضى لمجده وكرامته في هذا الحكم الشديد ان يقيد الأمر بالشيخ والشيخة مع اجماع الأمة على عمومه لكل زان محصن بالغ الرشد من ذكر أو أنثى. وان يطلق الحكم بالرجم مع اجماع الأمة على اشتراط الإحصان فيه. وفوق ذلك يؤكد الإطلاق ويجعله كالنص على العموم بواسطة التعليل بقضاء اللذة والشهوة الذي يشترك فيه المحصن وغير المحصن. فتبصر بما سمعته من التدافع والتهافت والخلل في رواية هذه المهزلة. وأضف إلى ذلك ما رواه في الموطأ والمستدرك ومسدد وابن سعد من أنّ عمر قال قبل موته بأقل من عشرين يوما فيما يزعمونه من آية الرجم لو لا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة» واخرج الحاكم وابن جرير وصحّحه أيضا أنَّ عمر قال لما نزلت أتيت رسول الله (ص) فقلت اكتبها «وفي نسخة كنز العمّال» اكتبنيها فكأنّه كره ذلك. وقال عمر ألا ترى أنّ الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد وان الشاب إذا زنا وقد أحصن رجم. فالمحدّثون يروون أنَّ عمر يذكر أنَّ رسول الله كره أن تكتب آية منزلة وعمر يذكر وجوه الخلل فيها. فيا للعجب منهم. وفي الإتقان أخرج النسائي ان مروان قال لزيد بن ثابت إلّا تكتبها في المصحف قال ألا ترى أنَّ الشابين الثيبين يرجمان وقد ذكرنا ذلك لعمر فقال أنا أكفيكم فقال يا رسول الله أكتب لي آية الرجم قال لا تستطيع انتهى. فزيد بن ثابت يعترض عليها. ولما رأوا التدافع بين قول عمر اكتبها لي وبين قول النبي لا تستطيع قالوا أراد عمر بقوله ذلك ائذن لي بكتابتها وكأنهم لا يعلمون أنَّ عمر عربي لا يعبر عن قوله ائذن لي بكتابتها بقوله أكتبها لي ومع ذلك لم يستطيعوا أن يذكروا وجها مقبولا لقوله (ص) لا تستطيع. وفي رواية في كنز العمال عن ابن الضريس عن عمر قلت لرسول الله اكتبها يا رسول

٢٢

الله قال لا أستطيع. واخرج ابن الضريس عن زيد بن أسلم ان عمر خطب الناس فقال لا تشكوا في الرجم فإنه حق ولقد هممت ان اكتبه في المصحف فسألت أبي بن كعب فقال أليس اتيتني وانا استقرئها رسول الله فدفعت في صدري وقلت كيف تستقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر انتهى. فهذه الرواية تقول ان عمر لم يرض بانزال شيء في الرجم. وليت المحدّثين يفسرون حاصل الجواب من أبي لعمر وحاصل منع عمر لأبي عن استقرائها ، واخرج الترمذي عن سعد بن المسيب عن عمر قال رجم رسول الله (ص) ورجم أبو بكر ورجمت ولو لا اني اكره ان أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف. فعمر يقول ان كتابة الرجم في المصحف زيادة في كتاب الله وهو يكرهها ـ فقابل هذه الروايات الأربع إحداهن بالأخرى واعرف ما جناه المولعون بكثرة الرواية من المحدثين. وإذا نظرت إلى الجزء الثالث من كنز العمال صحيفة : ٩٠ و ٩١ فإنك تزداد بصيرة في الاضطراب والخلل

هذا ومما يصادم هذه الروايات ويكافحها ما روي من أن عليا (ع) لما جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة قال اجلدها بكتاب الله وارجمها بسنة رسوله كما رواه أحمد والبخاري والنسائي وعبد الرزاق في الجامع والطحاوي والحاكم في مستدركه وغيرهم. ورواه الشيعة عن علي (ع) مرسلا فعلي (ع) يشهد بأن الرجم من السنة لا من الكتاب

الأمر الرابع

مما الصقوه بكرامة القرآن المجيد ما رواه في الإتقان والدر المنثور انه اخرج الطبراني والبيهقي وابن الضريس ان من القرآن سورتين «وقد سماها الراغب في المحاضرات سورتي القنوت» ونسبوهما إلى تعليم علي (ع) وقنوت عمر ومصحفي ابن عباس وزيد بن ثابت وقراءة أبي وأبي موسى (والأولى منهما) بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك انتهى. لا نقول لهذا الراوي ان هذا الكلام لا يشبه بلاغة القرآن ولا سوقه فانا نسامحه في معرفة ذلك ولكنا نقول له كيف يصح قوله يفجرك وكيف تتعدى كلمة يفجر وايضا ان الخلع يناسب الأوتان إذن فما ذا يكون المعنى وبماذا يرتفع الغلط (والثانية منهما) بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدان عذابك بالكافرين ملحق انتهى. ولنسامع الراوي أيضا فيما سامحناه فيه في الرواية الأولى

٢٣

ولكنا نقول له ما معنى الجدّ هنا أهو العظمة أو الغنى أو ضد الهزل أو هو حاجة السجع نعم في رواية عبيد نخشى نقمتك وفي رواية عبد الله نخشى عذابك وما هي النكتة في التعبير بقوله ملحق. وما هو وجه المناسبة وصحة التعليل لخوف المؤمن من عذاب الله بأن عذاب الله بالكافرين ملحق بل ان هذه العبارة تناسب التعليل لأن لا يخاف المؤمن من عذاب الله لأن عذابه بالكافرين ملحق.

الأمر الخامس

ومما الصقوه بالقرآن المجيد ما نقله في فصل الخطاب عن كتاب دبستان المذاهب انه نسب إلى الشيعة انهم يقولون ان إحراق المصاحف سبب إتلاف سور من القرآن نزلت في فضل علي (ع) واهل بيته (ع) «منها» هذه السورة وذكر كلاما يضاهي خمسا وعشرين آية في الفواصل قد لفق من فقرات القرآن الكريم على أسلوب آياته. فاسمع ما في ذلك من الغلط فضلا عن ركاكة أسلوبه الملفق فمن الغلط «واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلفه» ماذا اصطفى من الملائكة وماذا جعل مّن المؤمنين وما معنى أولئك في خلقه. ومنه «مثل الذين يوفون بعهدك اني جزيتهم جنات النعيم» ليت شعري ما هو مثلهم. ومنه «ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل» ما معنى هذه الدمدمة وما معنى بما استخلف وما معنى فبغوا هارون ولمن يعود الضمير في بغوا ولمن الأمر بالصبر الجميل. ومن ذلك «ولقد اتينا بك الحكم كالذي من قبلك من المرسلين وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون» ما معنى اتينا بك الحكم ولمن يرجع الضمير الذي في منهم ولعلهم. هل المرجع للضمير هو في قلب الشاغر. وما هو وجه المناسبة في لعلهم يرجعون. ومن ذلك «وان عليا قانت في الليل ساجد يحذر الآخرة ويرجو ثواب وبه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون» قل ما محل قوله هل يستوي الذين ظلموا وما هي المناسبة له في قوله وهم بعذابي يعلمون. ولعل هذا الملفق تختلج في ذهنه الآيتان الحادية عشرة والثانية عشرة من سورة الزمر وفي آخرها( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) فأراد الملفق أن يلفق منهما شيئا بعدم معرفته فقال في آخر ما لفق هل يستوي الذين ظلموا ولم يفهم انه جيء بالاستفهام الانكاري في الآيتين لأنّه ذكر فيهما الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيله والقانت آناء الليل يرجو رحمة ربه فهما لا يستويان ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. هذا بعض الكلام في هذه المهزلة.

٢٤

وان صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدين في التتبع للشواذ وانه ليعدّ أمثال هذا المنقول في دبستان المذاهب ضالته المنشودة ومع ذلك قال انه لم يجد لهذا المنقول أثر في كتب الشيعة. فيا للعجب من صاحب دبستان المذاهب من اين جاء بنسبة هذه الدعوى إلى الشيعة. وفي أي كتاب لهم وجدها أفهكذا يكون النقل في الكتب ولكن لا عجب (شنشنة أعرفها من أخزم) فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا النقل الكاذب كما في كتاب الملل للشهرستاني ومقدمة ابن خلدون وغير ذلك مما كتبه بعض الناس في هذه السنين والله المستعان

قول الإمامية بعدم النقيصة في القرآن

ولا يخفى ان شيخ المحدّثين والمعروف بالاعتناء بما يروى وهو الصدوق طاب ثراه قال في كتاب الاعتقاد. اعتقادنا ان القرآن الذي أنزله الله على نبيه (ص) هو ما بين الدفتين وليس بأكثر من ذلك ومن نسب إلينا انا نقول انه اكثر من ذلك فهو كاذب انتهى. وحمل الروايات الواردة في النقصان على وجوه أخر. وفي أواخر فصل الخطاب من كتاب المقالات للشيخ المفيدقدس‌سره إنه قال جماعة من أهل الإمامة انه (أي القرآن) لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين (ع) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله. وعن السيد المرتضى قدس سرّه قوله بعدم النقيصة وان من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من اصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها. وفي أول التبيان الشيخ الطوسي (قده) أما الكلام في زيادته ونقصه فمما لا يليق به أيضا لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها. والنقصان فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى وهو الظاهر في الروايات غير انه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا والأولى الاعراض عنها انتهى. وتبعه على ذلك في مجمع البيان وفي كشف الغطاء في كتاب القرآن المبحث الثامن في نقصه لا ريب انه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان كما دل عليه صريح القرآن واجماع العلماء في كل زمان ولا عبرة بالنادر وما ورد من اخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظاهرها إلى ان قال فلا بد من تأويلها بأحد وجوه. وعن السيد القاضي نور الله في كتابه مصائب النواصب ما نسب إلى الشيعة الإمامية من

٢٥

وقوع التغيير في القرآن ليس مما قال به جمهور الإمامية إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم. وعن الشيخ البهائي وايضا اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه والصحيح ان القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادة كان أو نقصانا ويدل عليه قوله تعالى( وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم امير المؤمنينعليه‌السلام منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك في عليّ وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء. وعن المقدس البغدادي في شرح الوافية وانما الكلام في النقيصة والمعروف بين أصحابنا حتى حكي عليه الإجماع عدم النقيصة ايضا. وعنه أيضا عن الشيخ علي بن عبد العالي انه صنف في نفي النقيصة رسالة مستقلة وذكر كلام الصدوق المتقدم ثمّ اعترض بما يدل على النقيصة من الأحاديث وأجاب بأن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنة المتواترة أو الإجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه هذا وان المحدث المعاصر جهد في كتاب فصل الخطاب في جمع الروايات التي استدل بها على النقيصة وكثر أعداد مسانيدها باعداد المراسيل عن الأئمةعليهم‌السلام في الكتب كمراسيل العياشي وفرات وغيرها مع ان المتتبع المحقق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد. وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها. ومنها ما هو مختلف باختلاف يئول به إلى التنافي والتعارض وهذا المختصر لا يسع بيان النحوين الأخيرين. هذا مع ان القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة انفار وقد وصف علماء الرجال كلا منهم اما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية. واما بأنه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء. واما بأنه كذاب متهم لا أستحل ان اروي من تفسيره حديثا واحدا وانه معروف بالوقف وأشدّ الناس عداوة للرضاعليه‌السلام . واما بأنه كان غاليا كذابا. واما بأنه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعوّل عليه ومن الكذابين. واما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلوّ. ومن الواضح ان أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئا. ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير لوجب من دلالة الروايات المتعددة ان ننزلها على ان مضامينها تفسير للآيات أو تأويل أو بيان لما يعلم يقينا شمول عموماتها له لأنّه أظهر الافراد وأحقها بحكم العام. أو ما كان مرادا بخصوصه وبالنص عليه في ضمن العموم عند التنزيل. أو ما كان هو المورد للنزول. أو ما كان هو المراد من اللفظ المبهم. وعلى احد الوجوه الثلاثة الأخيرة يحمل ما ورد

٢٦

فيها انه تنزيل وانه نزل به جبريل كما يشهد به نفس الجمع بين الروايات. كما يحمل التحريف فيها على تحريف المعنى ويشهد لذلك مكاتبة أبي جعفرعليه‌السلام لسعد الخير كما في روضة الكافي ففيها وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده. وكما يحمل ما فيها من انه كان في مصحف امير المؤمنينعليه‌السلام أو ابن مسعود وينزل على انه كان فيه بعنوان التفسير والتأويل. ومما يشهد لذلك قول امير المؤمنين (ع) للزنديق كما في نهج البلاغة وغيره ولقد جئتهم بالكتاب كملا مشتملا على التنزيل والتأويل. ومما أشرنا إليه من الروايات ان المحدث المعاصر أورد في روايات سورة المعارج اربع روايات ذكرت ان كلمة (بولاية علي) مثبتة في مصحف فاطمة وهكذا هي في مصحف فاطمة (ع) ولا يخفى ان مصحفهاعليها‌السلام انما هو كتاب تحديث بأسرار العلم كما يعرف ذلك من عدة روايات في اصول الكافي في باب الصحيفة والمصحف والجامعة وفيها قول الصادق (ع) ما فيه من قرآنكم حرف واحد. وما أزعم ان فيه قرآنا كما في الصحيح والحسن (ومنها) ما في الكافي في باب ان الأئمةعليهم‌السلام شهداء على الناس في صحيحة بريد عن أبي جعفر (ع) وروايته عن أبي عبد الله (ع) من قولهما (ع) في قوله تعالى( جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) نحن الأمة الوسطى. وفي شرحه عن امير المؤمنينعليه‌السلام ونحن الذين قال الله( جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) . إذن فما روي مرسلا في تفسيري النعماني وسعد من أن الآية أئمة وسطا لا بد من حمله على التفسير وان التحريف إنما هو للمعنى (ومنها) كما رواه في الكافي في باب ان الأئمة هم الهداة عن الفضيل سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله تعالى( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال كل إمام هو هاد للقرن الذي هو فيهم. ورواية بريد عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) فقال رسول الله (ص) المنذر ولكل زمان منا هاد يهديهم إلى ما جاء به النبي (ص) والهداة من بعده عليّ (ع) ثمّ الأوصياء واحدا بعد واحد. ونحوها رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) ورواية عبد الرحيم القصير عن أبي جعفرعليه‌السلام ان رسول الله (ص) المنذر وعليّ الهادي وبمضمونها جاءت روايات الجمهور مسندة عن طريق أبي هريرة وأبي برزة وابن عباس وطريق امير المؤمنين (ع) وصحّحه الحاكم في مستدركه. وإذا أحطت خبرا بهذا فهل يروق لك التجاء فصل الخطاب في تلفيقه وتكثيره إلى النقل عن بعض التفاسير المتأخرة وعن الداماد في حاشية القبسات من قوله ان الأحاديث من طرقنا وطرقهم متضافرة بأنه كان التنزيل انما أنت منذر لعباد وعليّ

٢٧

لكل قوم هاد انتهى. هذا الشعر الذي ينشده المداحون ولا يرضى العارف باللغة العربية ان ينسب إليه نظمه ولا أظنك تجد من طرقنا وطرق أهل السنة غير ما سمعته أولا وهو غير ما نقله فاعتبر (ومنها) رواية الكافي عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال قولهعزوجل ( رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) يعنون بولاية علي (ع) وهذا صريح في كونه تفسيرا فهي حاكمة ببيانها على ضعيفتي أبي بصير في ظهورهما بأن لفظ «بولاية علي» محذوف من الآية ويسري البيان من رواية أبي حمزة إلى أمثال ذلك (ومنها) رواية عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (ع) في قوله تعالى في سورة البقرة( مَتاعاً إلى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ) . مخرجات. ولا أظن إلّا أنّك تقول إنَّ إلحاق الإمام (ع) لكلمة مخرجات إنّما هو تفسير للمراد من كلمة. إخراج. لا بيان للنقيصة من القرآن الكريم ولكن فصل الخطاب أورده بعنوان البيان للنقيصة فاعتبر (ومنها) صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) كما في الكافي في أول باب منع الزكاة وفيها ثمّ قال (ع) هو قول اللهعزوجل ( سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) يعني ما بخلوا به من الزكاة فالرواية كالصريحة بأن لفظ «من الزكاة» إنما هو تفسير من الإمام لا من القرآن فهي حاكمة ببيانها على مرسلة ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (ع) في قول اللهعزوجل .( سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ ) . من الزكاة( يَوْمَ الْقِيامَةِ ) وصارفة لها عن كونها بيانا للنقيصة. (ومنها) صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) كما في الكافي في باب نص الله ورسوله على الأئمة واحدا بعد واحد. وفيها : فقلت له ان الناس يقولون فما له لم يسم عليا (ع) وأهل بيته في كتاب الله قال فقولوا لهم ان رسول الله نزلت عليه الصلاة ولم بسم الله لهم ثلاثا ولا أربعا حتى كان رسول الله (ص) هو الذي فسر لهم ذلك. وكذا قال (ع) في الزكاة والحج. ومقتضى الرواية تصديق الإمام (ع) لقول الناس ان الله لم يسم عليا في القرآن وإن التسمية كانت من تفسير رسول الله (ص) في حديث من كنت مولاه وحديث الثقلين. ويشهد لذلك ما رواه في الكافي أيضا في هذا الباب بعد ذلك بيسير في صحيحة الفضلاء عن أبي جعفرعليه‌السلام ورواية أبي الجارود عنه (ع) أيضا ورواية أبي الديلم عن أبي عبد الله (ع) انهما تلوا في مقام الاحتجاج وعدم التقية قوله تعالى( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) ولم يذكرا في تلاوة الآية كلمة «في عليّ» وهذا يدلّ على انّ ما روي في ذكر اسم علي (ع) في هذا المقام بل وفي غيره إنما هو تفسير وبيان للمراد في وحي القرآن بكون التفسير والبيان جاء به

٢٨

جبرائيل من عند الله بعنوان الوحي المطلق لا القرآن( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحى ) (ومنها) رواية الفضيل عن أبي الحسن الماضي (ع) في باب النكت من التنزيلفي الولاية من الكافي قال قلت( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) قال يعني امير المؤمنين (ع) قلت تنزيل قال (ع) نعم فإنه (ع) ذكر امير المؤمنين (ع) بقوله يعني بعنوان التفسير وبيان المراد والمشار إليه في قوله تعالى هذا فقوله في الجواب «نعم» دليل على ان ما كان مرادا بعينه في وحي القرآن يسمونهعليهم‌السلام تنزيلا. فتكون هذه الرواية وأمثالها قاطعة لتشبثات فصل الخطاب بما حشده من الروايات التي عرفت حالها اجمالا وإلى ما ذكرناه وغيره يشير ما نقلناه من كلمات العلماء الأعلام قدست اسرارهم. فإن قيل ان هذه الرواية ضعيفة وكذا جملة من الروايات المتقدمة قلنا ان جل ما حشده فصل الخطاب من الروايات هو مثل هذه الرواية وأشد منها ضعفا كما أشرنا إليه في وصف رواتها على ان ما ذكرناه من الصحاح فيه كفاية لأولي الألباب

الفصل الثالث في قراءته

ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل استمرت مادته وصورته وقراءته المتداولة على نحو واحد فلم يؤثر شيئا على مادته وصورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف في قراءته من القراء السبع المعروفين وغيرهم فلم تسيطر على صورته قراءة أحدهم اتباعا له ولو في بعض النسخ ولم يسيطر عليه أيضا ما روي من كثرة القراءات المخالفة له مما انتشرت روايته في الكتب كجامع البخاري ومستدرك الحاكم مسندة عن النبي (ص) وعلي (ع) وابن عباس وعمر وأبي وابن مسعود وابن عمر وعائشة وابى الدرداء وابن الزبير وانظر اقلا إلى الجزء الأول من كنز العمال صفحة ٢٨٤ ـ ٢٨٩ نعم ربما اتبع مصحف عثمان على ما يقال في مجرد رسم الكتابة في بعض المصاحف في كلمات معدودة كزيادة الألف بين الشين والياء من قوله تعالى( لِشَيْءٍ ) من سورة الكهف وزيادتها أيضا في( لَأَذْبَحَنَّهُ ) من سورة النمل ونحو ذلك في قليل من الكلمات. وان القراءات السبع فضلا عن العشر إنما هي في صورة بعض الكلمات لا بزيادة كلمة أو نقصها ومع ذلك ما هي إلّا روايات آحاد عن آحاد لا توجب اطمئنانا ولا وثوقا. فضلا عن وهنها بالتعارض ومخالفتها للرسم المتداول المتواتر بين عامة المسلمين في السنين المتطاولة. وان كلا من القراء هو واحد لم تثبت عدالته ولا ثقته يروي عن آحاد حال غالبهم مثل حاله ويروي عنه آحاد مثله. وكثيرا ما يختلفون في الرواية عنه. فكم اختلف حفص وشعبة في الرواية

٢٩

عن عاصم. وكذا قالون وورش في الرواية عن نافع. وكذا قنبل والبزي في روايتهما عن أصحابهما عن ابن كثير. وكذا رواية أبي عمر وأبي شعيب في روايتهما عن اليزيدي عن أبي عمر. وكذا رواية ابن ذكوان وهشام عن أصحابهما عن ابن عامر. وكذا رواية خلف وخلاد عن سليم عن حمزة. وكذا رواية أبي عمر وأبي الحارث عن الكسائي. مع ان أسانيد هذه القراءات الآحادية لا يتصف واحد منها بالصحة في مصطلح أهل السنة في الاسناد فضلا عن الإمامية كما لا يخفى ذلك على من جاس خلال الديار. فيا للعجب ممن يصف هذه القراءات السبع بأنها متواترة. هذا وكل واحد من هؤلاء القراء يوافق بقراءته في الغالب ما هو المرسوم المتداول بين المسلمين وربما يشذ عنه عاصم في رواية شعبة. إذن فلا يحسن أن يعدل في القراءة عما هو المتداول في الرسم والمعمول عليه بين عامة المسلمين في اجيالهم إلى خصوصيات هذه القراءات. مضافا إلى انا معاشر الشيعة الإمامية قد أمرنا بأن نقرأ كما يقرأ الناس أي نوع المسلمين وعامتهم.

ولعلّما تقول ان غالب القراءات السبع أو العشر ناش من سعة اللغة العربية في وضع الكلمة وهيئتها نحو عليهم وإليهم ولديهم بكسر الهاء أو ضمها مع سكون الميم أو ضمهما. ونحو تظاهرون بفتح الظاء أو تشديدها. فعلى أي قراءة قرئت أكون قارئا على العربية. ولكن كيف يخفى عليك ان تلاوة القرآن وقراءته يجب فيها وفي تحققها ان تتبع ما أوحي إلى الرسول وخوطب به عند نزوله عليه وهو واحد فعليك أن تتحراه بما يثبت به وليست قراءة القرآن عبارة عن درس معاجم اللغة.

ولا تتشبث لذلك بما روي من أن القرآن نزل على سبعة أحرف فإنه تشبث واه واهن.

اما أولا فقد قال في الإتقان في المسألة الثانية من النوع السادس عشر اختلف في معنى السبعة أحرف على أربعين قولا وذكر منها عن ابن حيان خمسة وثلاثين. وما ذاك إلّا لوهن روايتها واضطرابها لفظا ومعنى. وفي الإتقان أيضا في أواخر النوع السادس عشر وقد ظن كثير من العوام ان المراد بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح (واما ثانيا) فقد روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح على شرط البخاري ومسلم عن ابن مسعود عن النبي (ص) نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجرا وآمرا وحلالا وحراما ومحكما ومتشابها وأمثالا فأحلوا حلاله. وروى ابن جرير مرسلا عن أبي قلابة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنزل القرآن على سبعة

٣٠

أحرف أمر وزاجر وترغيب وترهيب وجدل وقصص ومثل. وروى ابن جرير والسنجري وابن المنذر وابن الانباري عن ابن عباس عنه (ص) ان القرآن على اربعة أحرف حلال وحرام الحديث. وأسند السنجري في الابانة. عن علي (ع) انزل القرآن على عشرة أحرف بشير ونذير وناسخ ومنسوخ وعظة ومثل ومحكم ومتشابه وحلال وحرام (واما ثالثا) فقد جاء في روايات السبعة أحرف بأسانيد جياد في مصطلحهم ما يعرفك وهنها وإلحاقها بالخرافة ففي رواية أحمد من حديث أبي بكرة ان النبي (ص) استزاد من جبرئيل في أحرف القراءة حتى بلغ سبعة أحرف قال يعني جبرئيل كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة وآية رحمة بعذاب. وزاد في حديث آخر نحو قولك تعال واقبل وهلم واذهب واسرع واعجل. ونحوه في رواية الطبراني عن أبي بكرة. وفي الإتقان اخرج نحوه أحمد والطبراني عن ابن مسعود واخرج أبو داود في سننه عن أبي عن رسول الله (ص) إلى قوله حتى بلغ سبعة أحرف ثم قال ليس منها إلّا شاف كاف إن قلت سميعا عليما عزيزا حكيما ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب. وفي كنز العمال فيما أخرجه أحمد وابن منيع والغساني وابن أبي منصور وابو يعلى عن أبي عن النبي (ص) ان قلت غفورا رحيما أو قلت سميعا عليما أو عليما سميعا فالله كذلك ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب. واخرج ابن جرير عن أبي هريرة عنه (ص) ان هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرأوا ولا حرج ولكن لا تجمعوا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة. واخرج أحمد من حديث عمر القرآن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذابا أو عذابا مغفرة. فانظر إلى هذه الروايات المفسرة للسبعة أحرف كيف قد رخصت في التلاعب في تلاوة القرآن الكريم حسبما يشتهيه التالي ما لم يختم آية الرحمة بالعذاب وبالعكس (واما رابعا) ففي الروايات ما يقطع سند القراءات السبع فعن ابن الأنباري في المصاحف مسندا عن عبد الرحمن السلمي قال كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة. وعن ابن أبي داود مسندا عن أنس قال صليت خلف النبي (ص) وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكلهم كان يقرأ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) . وروى أيضا ان أول من قرأ ملك يوم الدين هو مروان ابن الحكم (واما خامسا) وهو فصل الخطاب فقد روى من طرق الشيعة في الكافي مسندا عن أبي جعفر الباقر (ع) ان القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيء من قبل الروايات. وأرسل الصدوق نحوه في اعتقاداته عن الصادق (ع) وفي الكافي أيضا في الصحيح

٣١

عن الفضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد الله (ع) ان الناس يقولون ان القرآن نزل على سبعة أحرف فقال (ع) كذبوا. ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد. ويؤيد ما ذكرناه رواية السياري له أيضا عن الباقر والصادق (ع)

الفصل الرابع في تفسيره

وللحاجة إليه مقامات (الأول) في مفردات ألفاظه وبيان معناها في العربية ـ قد أنزل القرآن الكريم على افصح لغات العرب وأكثرها تداولا ومألوفية لنوع العرب فلا تخفى معاني مفرداته على العرب إلّا نادرا لبعض الجهات التي لا ينفك عنها نوع الإنسان كما يروى في الأبّ والقضب في قوله تعالى في سورة عبس( وَفاكِهَةً وَأَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً ) . ولكن لما تشرفت الأمم من غير العرب بالإسلام وتطورت اللغة العربية بسبب الاختلاط ومرور الزمان عرض لبعض الألفاظ التي كانت متداولة مأنوسة معروفة المعاني في عصر النزول ان صارت غريبة بعد ذلك في استعمال العامة بعيدة عن فهمهم لمعانيها. ولا زال ذلك يزداد يوما فيوما حتى سرى داؤه إلى بعض الخواص. ولاستراحتهم في ذلك إلى الاتباع والتقليد أثر غير هين

إذن فيرجع في التفسير لمفردات ألفاظه الشريفة إلى ما يحصل به الاطمئنان والوثوق من مزاولة علم اللغة العربية والتدبر في موارد استعمالها مما يعرف انه من كلام العرب ولغتهم. وان للتدبر في أسلوب القرآن الكريم وموارد استعماله وقراءتها دخلا كبيرا في ذلك. واما محض الركون إلى آحاد اللغويين تعبدا بكلامهم وتقليدا لآرائهم فذاك مما لا مساغ له. فان الأغلب أو الغالب مما يستندون إليه في أقوالهم ما هو إلّا الاعتماد على ما يحصلونه بحسب افهامهم وتتبعهم لموارد الاستعمال مع الخلط للحقيقة بالمجاز وعدم التثبت بالقرائن ومزايا الاستعمال. ألا ترى كم يشهد بعضهم على بعض بالخطأ والوَهم

ومن شواهد ما ذكرناه ما وقع في تفسير اللمس والمسّ من الاضطراب والخبط. ففي النهاية مسست الشيء إذا لمسته بيدك. وفي القاموس لمسه مسه بيده ومسسته أي لمسته. وفي المصباح مسسته أفضيت إليه بيدي من دون حائل هكذا قيدوه وقال قبل ذلك لمسه افضى إليه باليد. هكذا فسروه. وقال ابن دريد اصل اللمس باليد ليعرف مس الشيء وقال لمست مسست وكل ماس لامس. وقال الفارابي اللمس المس. وفي التهذيب عن أبن الاعرابي اللمس يكون مس الشيء وقال في باب الميم المس مسّك الشيء بيدك. وقال الجوهري اللمس

٣٢

المس ثمّ قال في المصباح وإذا كان اللمس هو المس فكيف يفرق الفقهاء بينهما انتهى. ولعلك تذعن بأن الفقهاء احذق في استفادة المعنى من تتبع موارد الاستعمال وذلك لما اعتادوه وشحذوا به أذهانهم من بذل الجهد بالبحث والتحقيق فإن الفرق بين معنيي اللمس والمس واضح بحكم التبادر والتتبع لموارد الاستعمال. وغير خفي ان المعروف والمتبادر تبادرا يجزم معه بعدم النقل عن المعنى اللغوي الأصلي هو ان اللمس هو الإصابة بما به الإحساس من البدن بقصد الاحساس للملموس لا خصوص اللمس باليد ولا مطلق المس نعم كثير من موارد اللمس ما يكون باليد باعتبار انها آلة عادية وأقوى إحساسا. كما ان المس هو مطلق الإصابة لا بقصد الاحساس وقد صرح جماعة من أساطين علمائنا بأن معنى المس لغة بل وعرفا هو ما ذكرناه كما في المعتبر والمنتهى وروض الجنان والحدائق بل والمهذب البارع وأظن ان الذي يحقق في مراجعة العرف والتبادر وتتبع موارد الاستعمال قديما وحديثا لا يشك في ان معنى اللمس هو ما ذكرناه أولا.

ومن شواهد ما ذكرناه هو الاضطراب في معنى التوفي وما استعمل في لفظه المتكرر في القرآن الكريم. فاللغويون جعلوا الإماتة في معنى التوفي. والكثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران ٤٨( يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ ) قالوا أي مميتك. وقال بعض مميتك حتف انفك. وقال بعض مميتك في وقتك بعد النزول من السماء وكأنهم لم ينعموا الالتفات إلى مادة التوفي واشتقاقه ومحاورات القرآن الكريم والقدر الجامع بينها. وإلى استقامة التفسير لهذه الآية الكريمة واعتقاد المسلمين بأن عيسى لم يمت ولم يقتل قبل الرفع إلى السماء كما صرح به القرآن. وإلى ان القرآن يذكر فيما مضى قبل نزوله ان المسيح قال لله( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ) ومن كل ذلك لم يفطنوا إلى أن معنى التوفي والقدر الجامع المستقيم في محاورة القرآن فيه وفي مشتقاته إنما هو الأخذ والاستيفاء وهو يتحقق بالإماتة وبالنوم وبالأخذ من الأرض وعالم البشر إلى عالم السماء. وإن محاورة القرآن الكريم بنفسها كافية في بيان ذلك كما في قوله تعالى في سورة الزمر ٤٣ :( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ألا ترى أنّه لا يستقيم الكلام إذا قيل الله يميت الأنفس حين موتها وكيف يصح أنَّ التي لم تمت يميتها في منامها. وكما في قوله تعالى في سورة الانعام ٦٠ :( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ

٣٣

لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إليه مَرْجِعُكُمْ ) فإن توفي الناس بالليل إنما يكون بأخذهم بالنوم ثم يبعثهم الله باليقظة في النهار ليقضوا بذلك آجالهم المسماة ثم إلى الله مرجعهم بالموت والمعاد. وكما في قوله تعالي في سورة النساء ١٩ :( حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ) فإنه لا يستقيم الكلام إذا قيل يميتهنّ الموت وحاصل الكلام ان معنى التوفي في موارد استعماله في القرآن وغيره إنما هو أخذ الشيء وافيا أي تاما كما يقال درهم واف وهذا المعنى ذكره اللغويون للتوفي في معاجمهم وقالوا ان توفاه واستوفاه بمعنى واحد وأنشدوا له قول الشاعر

ان بني الادرد ليسوا لأحد

ولا توفاهم قريش في العدد

أي لا تتوفاهم وتأخذهم تماما (قلت) لكنّ بين الاستيفاء والتوفي فرقا واضحا من جهة اثر الاشتقاق فإن الاستيفاء استفعال كالاستخراج يشير إلى طلب الآخذ واستدعائه ومعالجته والتوفي يشير إلى القدرة على الآخذ بدون حاجة إلى استدعاء وطلب ومعالجة ولذا اختص القرآن الكريم بلفظ التوفي وعدل عن الأخذ لعدم دلالته على التمام والوفاء كالتوفي الدال على تمام القدرة على نحو المعنى في( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إليه راجِعُونَ ) . ولك العبرة فيما قلناه بقوله تعالى( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) فإنك إن جعلت قوله تعالى( وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ ) معطوفا على الأنفس لم تقدر أن تقول أن معنى يتوفى يميت. وإن قلت ان التوفي في المنام اماتة مجازية قلنا كيف يكون معنى اللفظ الواحد معنيين معنى حقيقيا ومعنى مجازيا ويتعلق باعتبار كل معنى بمفعول ويعطف احد المفعولين على الآخر مع اختلاف المعنى العامل به. وهل يكون اللفظ الواحد مرآة لكل من المعنيين المستقلين كلا لا يكون. وإن جعلت قوله تعالى( وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ ) مفعولا لكلمة «يتوفى» مقدرة يدل عليها قوله تعالى( يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ ) قلنا ان دلالة الموجود على المحذوف إنما هي بمعناه كما لا يخفى على من له معرفة بمحاورات الكلام فى كل لغة فكيف يجعل التوفي بمعنى الموت دليلا على توف محذوف هو بمعنى آخر إذن فليس إلّا أن التوفي بمعنى واحد وهو الأخذ تماما ووافيا. إمّا من عالم الحياة. وإما من عالم اليقظة. واما من عالم الأرض والاختلاط بالبشر إلى العالم السماوي كتوفي المسيح وأخذه ومن الغريب ما قاله بعض من أن رفع المسيح إلى السماء غير مشتمل على أخذ الشيء تاما انتهى وليت شعري ماذا بقي من المسيح في الأرض وماذا تعاصى منه على قدرة الله في أخذه فلا يكون رفعه مشتملا على أخذ الشيء تاما. هذا ولا يخفى ان القرآن ناطق بأن المسيح ما قتلوه

٣٤

وما صلبوه ولكن شبه لهم ورفعه الله إليه وإن عقيدة المسلمين مستمرة كإجماعهم على انه لم يمت بل رفع إلى السماء إلى ان ينزل في آخر الزمان فلأجل ذلك التجأ بعض من يفسر التوفي بالإماتة إلى ان يفسر قوله تعالى( يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) أي مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ولكني لا أدري ماذا يصنع بحكاية القرآن لما سبق على نزوله في قوله في أواخر سورة المائدة «١١٦ و ١١٧ :( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ـما قُلْتُ لَهُمْ إلّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ ـ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فهل يسوغ ان تفسر هذه الآية بالوفاة بعد النزول وهل يصح القياس في ذلك على قوله تعالى( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) وهل يخفى ان مقتضى كلام المسيح في الآيتين هو انه بعد ان توفاه الله وانقطعت تبليغاته في دعوة رسالته وكونه شهيدا على أمته تمحض الأمر ورجع إلى ان الله هو الرقيب عليهم. وان سوق الكلام واتساقه ليدل على اتصال الحالين. وان الرقيب كيفما فسرته إنما يكون رقيبا في وجود تلك الأمة في الدنيا دار التكليف لا الآخرة التي هي دار جزاء وانتقام. ولا تصح الطفرة في المقام من أيّام دعوة المسيح لأمته في رسالته وكونه شهيدا عليهم إلى ما بعد نزوله من السماء في آخر الزمان حيث يكون وزيرا في الدعوة الإسلامية لا صاحب دعوة. ومن الواضح أن المراد في الآيتين من الناس الذين جرى الكلام في شأنهم إنما هم الذين كانوا أمة المسيح وفي عصر رسالته ونوبة دعوته وتبليغه وأما صرف وجهة الكلام إلى الناس الذين هم في أيّام نزوله من السماء فما هو إلّا مجازفة فيها ما فيها وتحريف للكلم وأما قوله تعالى( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) فلم يكن اخبارا ابتدائيا يكون وقوع الفعل الماضي فيه باعتبار حال المتكلم كما في الآيتين بل جاء في سياق قوله تعالى( ما يَنْظُرُونَ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ ) في حوادث زمان البعث والقيامة ومقدماتها فهو في سياقه ناظر إلى ذلك الحين وسياق الكلام يجعله بدلالته في قوة قوله ونفخ حينئذ في الصور فهو على حقيقة الفعل الماضي وباعتبار ذلك الحين كما في قوله( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) . هذا وبعض المفسرين لقوله تعالى( يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) قال أي مميتك حتف انفك. وأقول ان أراد الإماتة بعد نزول المسيح من السماء شارك ما سبق من التفسير فى ورد الاعتراض عليه وان أراد اماتته قبل ذلك وقبل نزول القرآن خالف المعروف من عقيدة المسلمين وإجماعهم في اجيالهم ويرد عليه السؤال أيضا بأنه من أين جاء بالإماتة حتف انفه وماذا يصنع بما جاء في القرآن

٣٥

كثيرا مما ينافي اختصاص التوفي بالموت حتف الأنف بل المراد منه الأخذ بالموت وإن كان بالقتل كقوله في سورة الحج ٥ والمؤمن ٦٩ في أطوار خلق الإنسان من التراب والنطفة إلى الهرم.( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل وفي سورة البقرة ٢٣٤ و ٢٤١( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) ويونس ١٠٤( وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ) والنحل ٧٢( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) والسجدة ١١( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ) والأعراف ٣٥( حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) والنساء ٩٩( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) والنحل ٣٠ ـ ٣٣( تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) والانعام ٦١( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) ومحمد (ص) ٣٩( فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ ) والأنفال ٥٢( وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ) والزمر ٤٣( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) وإنك لا تكاد تجد في القرآن المجيد لفظ التوفي مستعملا فيما يراد منه الإماتة حتف الأنف إذن فمن اين جيء بذلك في قوله تعالى( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) نعم ابتلى لفظ التوفي ومشتقاته بالأخذ بمعناه يمنة ويسرة حتى ان العامة حسبوها مرادفة للموت حتى انهم يقولون في الذي مات توفى بفتح التاء والواو والفاء بالبناء للفاعل ويقولون في الميت متوفي بكسر الفاء

وصيغة اسم الفاعل بل يحكى ان أمير المؤمنين عليا (ع) كان يمشي خلف جنازة في الكوفة فسمع رجلا يسأل عن الميت ويقول من المتوفي بكسر الفاء وأما ما نسب إلى ابن عباس من أن معنى قوله تعالى( يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) إني مميتك فما أراه إلّا كما نسب إلى ابن عباس في مسائل نافع بن الأزرق كما ذكر في الفصل الثاني من النوع السادس والثلاثين من إتقان السيوطي من أن نافعا سأله عن قول الله( ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) أي بما يرجع إلى معنى تبهظهم وتثقل عليهم كما قال عمر ابن كلثوم في معلقته. (ومتني لدنة سمقت وطالت روادفها تنوء بما ولينا وكما أنشده اللغويّون: إلّا عصا ارزن طالت برايتها تنوء ضربتها بالكف والعضد

فذكر ان ابن عباس قال له في الجواب لتثقل أو ما سمعت قول الشاعر

تمشي فتثقلها عجيزتها

مشي الضعيف ينوء بالوسق

أي ينهض بالوسق بتكلف وجهد على عكس المعنى المذكور في القرآن. أفهل ترى ابن عباس يفسر تنوء التي في الآية بغير معناها كما ثار من هذا الاستشهاد المنسوب إليه اعتراض

٣٦

النصارى بأن القرآن جاء بلفظة «لتنوء» في غير محلها. وهل ترى ابن عباس لا يعرف ان معنى ينوء بالوسق ليس يثقل بل ينهض به بتكلف. وهل ترى ابن عباس لا يدري ببيت المعلقة ليستشهد به استشهادا صحيحا مطابقا منتظما. كيف وإن المعلقات كانت للشعر في ذلك العصر كبيت القصيد ولكن «حنّ قدح ليس منها» وقد خرجنا عما نؤثره من الاختصار ولكنا ما خرجنا عن المقصود الاصلي من الكلام في تفسير القرآن الكريم بل سارعنا إلى شيء من الخير والله المسدد الموفق

المقام الثاني

لا يخفى ان القرآن الكريم مبني على ارقى أنحاء البلاغة العربية وتفننها بمحاسن المجاز والاستعارة والكناية والإشارة والتلميح وغير ذلك من مزايا الكلام الراقي ببلاغته مما كان مأنوس الفهم في عصر النزول ورواج الأدب العربي وقيام سوقه. وكان بحيث يفهم المراد منه ومزاياه بأنس الطبع ومرتكز الغريزة كل سامع عربي. ولكن بعد اشتراك الأمم في بركة الإسلام وامتلاء جزيرة العرب من الأمم وتفرق العرب بالتجنيد في غير البلاد العربية تغير أسلوب الكلام العربي في عامة الناس وتبدلت مزايا الكلام وأساليب المحاورات فعاد ذلك المأنوس غريبا في العامة وذلك الطبيعي الغريزي يحتاج في معرفته إلى ممارسة التطبع وكلفة التعلم والتدرب في اللغة العربية وأدبها على النهج السوي. من دون تقليد معرقل ولا وقوف عند الأسماء ولا جمود على قشور القواعد التي مهّدها المتدرّبون في العربية من الخواص اقتباسا بقدر الوسع من ذلك الأدب القديم. فدونوا من مبتذلها شيئا وفاتهم من أسرارها وحقائقها الشيء الكثير. وربما أدت بهم وعورة البحث والجمود على التقليد إلى عثرات الوهم أو احجام الشكوك انظر إلى ان جماعة من النحويين كالشرّاح لألفيّة ابن مالك وغيرهم قالوا في قول الراجز «جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط» أنَّ التقدير: بمذق مقول فيه هل رأيت إلخ ولا يخفى ان الراجز يريد وصف المذق بما يبين حاله وتبدل لونه بكثرة الماء وماذا يجدي فى ذلك كونه مقولا فيه هل رأيت الذئب قط ولم يفطنوا إلى ان الصفة التي يريدها الراجز كما يقتضيها المقام قد أشار إليها باستفهامه الذي هو بمنزلة التمثيل الحي لها. فكأنه قال جاؤوا بمذق لونه كلون الذئب هل رأيت الذئب يوما من الأيام فإن لون المذق كلونه فاعرف كيف كان. ومن شواهد ذلك ان صاحب الكشاف مع تضلعه من الأدب العربي ومعرفته بفذلكات الكلام

٣٧

اضطرب كلامه وتفسيره في كلمة واحدة تكررت في القرآن الكريم على نحو واحد وهو قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ ) ففي سورة الواقعة في قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) قال فأقسم وان «لا» مزيدة مثلها في قوله( لِئَلَّا يَعْلَمَ أهل الْكِتابِ ) وفي قوله تعالى( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس:

ولا وأبيك ابنة العامري

لا يدعي القوم انّي أفر

وقال غوية بن سلمة:

ألا نادت أُمامة باحتمال

لتحزنني فلأ بك لا أبالي

وفائدتها توكيد القسم وقالوا: إنها صلة أي زائدة مثلها في( لِئَلَّا يَعْلَمَ أهل الْكِتابِ ) وقال في ذلك كلاما فيه ما فيه وقال والوجه ان يقال هو للنفي والمعنى في ذلك انه لا يقسم بالشيء إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) فكأنه بإدخال حرف النفي يقول ان اعظامي له باقسامي به كلا إعظام يعني ان يستأهل فوق ذلك انتهى. ومقتضى بيانه هذا ان يقول إعظاما للمقسم به فإنه أوضح للبيان من مثله. وليته لم يخلط بين دخول «لا» على فعل القسم كما في الآيتين وبين دخولها على حرف القسم كما في بيتي امرء القيس وغوية وغيرهما مما لا يقع جوابه إلّا منفيّا فإنه واضح الظهور في ان «لا» فيه نافية موطئة لنفي الجواب لتأكيده وسبيلها سبيل قوله تعالى في سورة النساء ٦٨( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) . وفي سورة الحاقة في قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ) قال اقسام بالأشياء كلها. وفي سورة البلد فى قوله تعالى( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) قال اقسم بالبلد الحرام ولم يقل شيئا في قوله تعالى( فَلا أُقْسِمُ ) في سورة المعارج والتكوير والانشقاق. ومن شواهد ذلك ما سمعته هنا عن صاحب الكشاف في قوله تعالى( لِئَلَّا يَعْلَمَ أهل الْكِتابِ ) من أن «لا» في لئلا مزيدة وصرّح أيضا بذلك في تفسير سورة الحديد حيث قال( لِئَلَّا يَعْلَمَ ) ليعلم ـ ووافقه على ذلك جماعة فاغتنم اعداء القرآن الكريم من ذلك فرصة فاعترضوا على القرآن بأنه مشتمل على الزيادة اللغوية ولكن الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة ٣٥٠ و ٣٥٥ أوضح البطلان في زعم الزيادة كما عليه جماعة من أن المعنى. ان الله وعد الذين آمنوا ويتقون الله ويؤمنون برسوله ان يؤتيهم كفلين من رحمته ويجعل لهم نورا يمشون به ويغفر لهم ومن فوائد ذلك وغاياته ان لا يعلم أهل الكتاب ان الذين آمنوا لا يقدرون على شيء من فضل الله ولأن الفضل بيد الله الآية وليت شعري لماذا لا تنزه جلالة القرآن المجيد وبراعته عن لغوية هذه

٣٨

الزيادة التي لا غاية فيها إلّا الإيهام.

وفي تفسير قوله تعالى في سورة الأعراف ١١( قالَ ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) قال في الكشاف أيضا «لا» في ان لا تسجد صلة «أي زائدة» بدليل قوله تعالى أي في سورة (ص) ٧٥( ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) ومثلها( لِئَلَّا يَعْلَمَ أهل الْكِتابِ ) بمعنى ليعلم انتهى. أقول وإن التدبر في آيات الأعراف. وص يشهد بأن «لا» غير زائدة بل جيء بها في الأعراف للاشارة إلى أمر قد صرح به في آيات ص وذلك ان الفعل قد يكون له مانع من ضد أو عذل أو غفلة أو عجز أو كل وقد يكون له سبب داع وحامل على تركه ومخالفته الأمر به فسأل الله إنكارا أو توبيخا في سورة ص عن المانع بقوله تعالى( ما مَنَعَكَ ) ان تسجد وعن السبب والحامل على المخالفة بقوله تعالى( أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) وأشار جل شأنه في سورة الأعراف بوجود (لا) إلى السؤال عن السبب الحامل على المعصية بعد السؤال عن المانع فكأنه قال ما منعك من أن تسجد وما حملك على ان لا تسجد ولذا وقع الجواب من إبليس في كلا المقامين بيان السبب الحامل له على ان لا يسجد لا التعليل بالمانع فقال( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) وكذا الكلام في قوله تعالى في سورة طه ٩٤( قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ألّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) فإن التفريع فى قوله( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) يدل على انه قد سبق السؤال عن المانع عن الاتباع وعن السبب الحامل على المعصية بتركه وأشير إليه بإدخال «لا» ولكن قال في الكشاف لا مزيدة والمعنى ما منعك ان تتبعني. وقال الله في سورة الأنبياء ٩٥( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) وفي الكشاف فسر الإهلاك بالعزم عليه وفسر الرجوع بالرجوع من الكفر إلى الإسلام وهذا مختاره على الظاهر من الوجوه الثلاثة ثم قال فيه و «لا» صلة مزيدة انتهى وليته أبقى الإهلاك على ظاهره وفسر الرجوع بالرجوع إلى الإيمان والتوبة عند مشاهدة آيات الهلاك وأحوال الموت كإيمان فرعون عند الغرق كما في سورة يونس ٩٠. أو كالذين( إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) وكما في سورة النساء ٢٢. وكما ذكره الله في سورة المؤمنين في حال المشركين والظالمين ١٠١( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) فإن قولهم هذا رجوع إلى التوبة ولكنها لا تقبل كما قال الله في الموارد الثلاثة ويكون معنى الآية الكريمة هو ان أهل القرى

٣٩

التي أهلكها الله حرام عليهم بسبب مشاهدتهم لآيات الإهلاك وحضور الموت وممتنع في العادة ومنفيّ بالمرة كونهم لا يرجعون إلى التوبة والإيمان بحسب الفطرة وإن كان لا ينفعهم ويستمرون على ما هم فيه حتى إذا جاءت الساعة وصار يوم القيامة وعاينوا ما كانوا يوعدون قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة عن هذا.

وقال الله تعالى في سورة آل عمران ٧٣( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ٧٤ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً ) ولا يخفى ان قوله تعالى (ولا يأمركم) معطوف على (يقول) المعطوف بثمّ على المنفي بقوله تعالى (ما كان) أي ليس له وإن (لا) هنا نافية يؤتى بها لتثبيت النفي في الأمرين مثلها في قولك ليس لك ان تقوم ولا أن تأكل لئلا يتوهم ان النفي للجمع بين الأمرين والجمع بين القيام والأكل كما قال في الكشاف في ثاني وجهيه في الآية. وقال في الكشاف ان في الآية وجهين أحدهما ان نجعل «لا» مزيدة والمعنى ثمّ يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم ان تتخذوا النبيين والثاني ان نجعل «لا» نافية غير مزيدة والمعنى ما كان لبشر يستنبئه الله ان يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة أي ما كان له أن يجمع بين الأمر والنهي. ويا للعجب ممن سوغ لنفسه في مثل بلاغة القرآن المجيد ان يفسر لا يأمركم بقوله ينهاكم ولو فسر بذلك كلام واحد من الناس لأوسعه من الملام ما أوسعه ـ ولم ينفرد الزمخشري بدعوى زيادة (لا) في هذه الموارد بل ادعى ذلك جماعة من المفسرين والنحويين كما ذكر ابن هشام في المغنى في كلمة «لا» ولو ان زيادة «لا» محققة في كلام العرب متداولة في شعرهم ونثرهم لما ساغ لهؤلاء ان يقولوا بذلك في مثل بلاغة القرآن الكريم ومجدها وفي خصوص الموارد التي ادعوا فيها الزيادة فإن البلاغة بل استقامة الكلام تقتضي تثبيت إثباتها ورفع أوهام النفي عنها لو كانت مثبتة إذن فكيف يقلق مضمونها الشريف بما يوهم النفي ويشوش الكلام. وان المخبر الذي يعرف كيف يتكلم لا يدخل على خبره ما يوهم نقيضه هذا مع أنّي لم أجد شاهدا ذكروه من الكلام على زيادة «لا» إلّا قوله :

وتلحينني في اللهو أن لا أحبّه

وللهو داع دائب غير غافل

ولو كان هذا من شعر العرب وكان المراد منه ما فهموه لجاز أن يضمر فيه وتأمرينني بأن لا أحبه أو وتدعينني إلى أن لا أحبه. ومن غرائبهم استشهاد بعضهم أيضا بقول الشاعر

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79