التقية في الفكر الاسلامي

التقية في الفكر الاسلامي33%

التقية في الفكر الاسلامي مؤلف:
المحقق: مركز الرسالة
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 169

التقية في الفكر الاسلامي
  • البداية
  • السابق
  • 169 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33858 / تحميل: 9183
الحجم الحجم الحجم
التقية في الفكر الاسلامي

التقية في الفكر الاسلامي

مؤلف:
العربية

التقية في الفكر الاسلامي





ال دكتور السيد ثامر العميدي

١

بسم الله الرحمن الرحيم

٢

٣
٤

كلمة المركز :

الحمد للّه الواحد الأحد الذي تطمئن القلوب بذكره ، والصلاة والسلام على أبي القاسم محمد أشرف أنبياء اللّه ورسله ، وعلى آله المنتجبين أولي الألباب والنهى ، وعدل الكتاب المطهرين بمحكمه وكفى.

أما بعد فإنّ نشر مفاهيم الإسلام ، ومحاولة تصحيح النظر إلى بعضها عبر وسائل التثقيف الإسلامي الصحيح بالدعوة إلى اتباع القرآن الكريم ، والسُنّة المطهّرة ، يتطلب معرفة تلك المفاهيم وموقف الدين الإسلامي منها ، ووضعها في مكانها الصحيح بعد تشخيص موقعها من الفكر الديني ، وعمق تاريخها فيه ، وعلاقتها بديمومة ذلك الفكر وصلاحيتها للامتداد في كلِّ آن وزمان ، وقابليتها على استيعاب ما يفرزه تطور الحياة من مشاكل ومستجدات لوضع الحلول الشافية لها.

وإذا ما ثبت أنها من الدين ، فلا شكّ سيكون التعرض لها بحاجة إلى إجادة الدفاع عن كرامة الدين الحنيف والذب عن حماه من خلال التعريف المتين بمفاهيمه الراقية التي جاءت لخدمة الإنسان وبناء مجتمع حر كريم ، مع رصد سائر القنوات التي تصب فيها دسائس المغرضين وشبهات المغفلين لقلع جذورها بالحجج الدامغة ؛ لكي لا تكون وسيلة لضلالة من لم يعِ وجه الحق فيها.

ولعلَّ من بين تلك المفاهيم التي نطق بها القرآن الكريم والسُنّة المطهّرة هو مفهوم التقيّة الذي لم ينحصر في الواقع بدين الإسلام؛ بل عرفته الأديان السماوية كلّها ، وطبّقته سائر المجتمعات البشرية منذ أقدم العصور وإلى يوم الناس هذا ، لانسجامه التام مع مقتضى العقول وفطرة الإنسان في الحفاظ على كيانه ، بل مع فطرة الحيوان أيضاً كما هو المشاهد في سعي جميع الحيوانات نحو البقاء وهروبها من أسباب الفناء.

فالتقيّة إذن لم تكن قاعدة فقهية ، أو مبدأً إسلامياً صرفاً فحسب ، وإنّما هي كذلك قاعدة عقلية جبلت عليها العقول السليمة ، فحكمت بضرورة تجنب الضرر شخصياً كان أو نوعياً ، ومن هنا أصبح موقف الإسلام من التقيّة موقف المؤيد والمساند لا المؤصّل والمشرّع ، وما جاء في القرآن الكريم والسُنّة الثابتة بشأن التقيّة

٥

إنما هو إمضاء لها لأنها من شرع ما قبلنا كما يفهم من تقية إبراهيم ويوسفعليهما‌السلام ، ومن تقية أصحاب الكهف ومؤمن آل فرعون.

وبما أن تاريخ التقيّة ضارب بجذوره في أعماق الأديان قبل الإسلام ، كما حكاه لنا القرآن الكريم في أكثر من آية ، سيكون الصاقها بمذهب معين كما يحبّ إشاعته البعض من الجهل بحقيقة ذلك المفهوم والتخبّط الأعمى في تحديد تاريخه.

ومن هنا أصبح الدفاع عن التقيّة ليس دفاعاً عن مذهب ، ولا دفاعاً عن تشريع إسلامي ، وانما هو دفاع عن موقف الإسلام قرآناً وسُنّة في تبنيه وإمضائه وتأييده لهذا المفهوم ، بل هو في الواقع دفاع عن الفطرة والعقل السليم.

والكتاب الماثل بين يديك عزيزي القارئ ، حاول استجلاء أبعاد التقيّة كلّها بدراسة علمية مقارنة استطاع من خلالها أن يضع التقيّة في مكانها الصحيح بين معارف الإسلام ، ويشخّص موقعها من الفكر الديني بدقة ، مستهدياً بالقرآن الكريم أولاً ، وبالسُنّة المطهّرة ثانياً ، مبيناً تاريخها وأدلتها وأقسامها وشروطها وفوائدها والفرق بينها وبين النفاق مع الكثير من صورها القولية والفعلية عند مذاهب المسلمين وقادتهم من الصحابة والتابعين ، وغير ذلك من الاُمور التي لا غنى عنها في هذا المجال.

وإذ يسرّ مركز الرسالة أن يقدم لقرائه الأعزاء هذا الكتاب المتّسم بمراعاة المنهج العلمي الدقيق باعتماد الدليل المعتبر وتحليل النصوص ونقدها بمنطق العقل والعلم ، يأمل أن يسد في إصداره هذا جميع الثغرات المفتعلة بشأن التقيّة ، وأن يغلق منافذ التشكيك حولها بعد أن تمهّدت سائر السبل الناصعة في طياته لفهم التقيّة فهماً إسلامياً أصيلاً بعيداً عن التأويلات والمغالطات.

سائلين المولى عزَّ وجلَّ أن يسدّد خطانا لخدمة دينه الحنيف ، ويمنحنا القوة على مواصلة العطاء الفكري النافع ، إنه سميع مجيب.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربِّ العالمين

مركز الرسالة

٦

المقدِّمة

نحمدك اللَّهم في الضراء والسراء ، ونلوذ بك في الشدة والرخاء ، ونصلي ونسلم على نبيك ورسولك العظيم محمد أشرف الرسل والأنبياء ، وعلى آله المنتجبين الأوصياء ، وأصحابهم المخلصين الأوفياء ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الجزاء ، وبعد.

إنّ التدبر في ما انطوت عليه مفاهيم الشريعة الإسلامية ، يعطي انطباعاً كافياً لعناية الإسلام الفائقة بكل ما يرفع من قدر الإنسان ، ويصون ماء محياه من الوقوف على أبواب المذلة والهوان التي لا تستسيغها النفوس المتطلعة إلى الكمال ، ولا يقبلها كل ذي مجد أثيل.

ويكفي أن الشريعة الغرّاء اسقطت في حالات الإكراه والاضطرار بعض الواجبات وأباحت بعض المحرمات لهذا المخلوق العجيب الذي مُيز عن سائر المخلوقات ، وجُعل أجل وأسمى من أن يعيش بلا غاية ولا هدف هملاً كالسوائم والهوائم التي ليس من شأنها أن تطمح في الوصول إلى مراقي العز والكرامة والشرف.

ومن بين تلك المفاهيم التي أحببنا الحديث عنها ، هو مفهوم التقيّة الذي طالما فهمه الجهلاء من خصوم الحق وأتباعه ، وسيلة للتخلص من تبعة التقصير في الدين ، أو المسائل التي تخدم المجتمع وتنفع الاُمّة ، فنقول :

٧

ليست التقيّة شبيهة بالقدر الذي كان يراه معاوية ويرجع إليه والحثالة من أنصاره وأتباعه على طول التاريخ ، كلّما أرادوا التملص من جناية ارتكبوها أو ذنب اقترفوه ، ليكون في ذلك الرجوع عذراً مقبولاً يسعهم في ارتكاب ما شاءوا من الموبقات تحت ذريعة القدر!

كما أنها ليست دعوة إلى نشر ما يوجب ضعف العزيمة والوهن ، ولادعوة لزرع اليأس والقنوط في نفوس المؤمنين لكي تتعطل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهل رأيت مفهوماً اسلامياً ثابتاً كالتقيّة يدعو إلى ذلك؟ كيف والدين الحنيف لم تبرح مفاهيمه محلّقة وحدها في سماء الخلود ، خافقة عليها ألوية النصر والنجاح ، وتخترق بصوتها كل الآفاق حيث يحمله الهواء الطلق؟

فالتقيّة ليست نداءً لترك تعاليم الدين طمعاً في عيش زائل وحقير ، ولا جبناً ولا هلعاً وخوفاً إذا ما اتصل الأمر بحماية الدين أو ارتبط بمصلحة المجتمع الإسلامي ومنفعة الاُمّة وحفظ كيانها ، بل ستكون حينئذ تقية على الدين بوقايته وحفظه بالمضي قدماً على طريق الجهاد وبذل كل غال ونفيس ، واقتحام الأخطار ولو كان حتف المتقي فيها.

وأما التقيّة في حفظ النفوس والأعراض والأموال في غير تلك الحال ، فإنّما تكون بالسبل المتاحة شرعاً ، ولا ضير في ذلك فهي تقية تصب في خدمة الدين من طريق آخر ، وليست كما يتصورها الجهلاء خروجاً عن المسؤولية ، وهل رأيت ديناً قام بلا نفوس ، وأُهيب جانبه بالمذلة والفقر؟

إنّ الإسلام العظيم لم يشرّع شيئاً عبثاً ، ولن يضره ما يلقيه المشنّعون على مفاهيمه الراقية من الشُبه شيئاً ، حتى وإن توثقوا من تمكين جملة من

٨

العقائد الفاسدة في نفوس البعض من المسلمين الذين أصبحوا على درجة كافية لتقبل الجهل والتمرن عليه ، فصاروا غثاءً كغثاء السيل لايملكون حيلة ولا يهتدون سبيلا.

ولأجل هذا أصبح تبصير المشتبه وهدايته لما في الكتب التي يعتقد بصحتها ، وتنبيه المنتبه لما في بعض المسائل التي قد يغفل عنها ، وجعلها سلاحاً بيده لتحمل مسؤولية الدفاع عن مفاهيم الإسلام وتعاليمه ومعارفه قرآناً وسُنّة محفزاً قوياً على دراسة التقيّة واستجلاء أبعادها في أربعة فصول :

تناولنا فيالفصل الأول ، علاقة التقيّة بالإكراه ، ثم أركان الإكراه ، وأنواعه ، ودور القواعد الفقهية في بيان حكم ما يكره عليه ، ثم الفرق والاتفاق بين الضرورة والإكراه.

وكان هذا الفصل مهماً جداً باعتباره الركيزة التي تقف عليها أغلب مباحث الفصول اللاحقة.

وتعرضنا فيالفصل الثاني إلى أدلة التقيّة وأصولها التشريعية من القرآن والسُنّة والعقل ودليل الاجماع ، معتمدين بذلك على أصح ما ثبت نقله عند الفريقين.

وخصصناالفصل الثالث لأقسام التقيّة وبيان أهميتها وفوائدها ، والفرق بينها وبين النفاق.

أماالفصل الرابع والأخير فكان عن صور التقيّة في كتب العامّة ، وقد شرعنا أولاً ببيان الصور القولية ، ثم الفعلية ، وأخيراً الفتاوى التي تختص بمسائل التقيّة في فقه العامّة.

آملين من المولى أن يجعل بضاعتنا هذه خالصة لوجهه الكريم ،

٩

صادقة في خدمة دينه العظيم ، نافعة يوم نفد عليه بلا مال ولا بنون ، إنّه سميع مجيب.

١٠

الفصل الأول

التقيّة والإكراه

تعريف التقيّة :

التقيّة في اللغة : الحيطة والحذر من الضرر والتوقي منه ، والتقيّة والتقاة بمعنى واحد ، قال تعالى : «إلاّ أن تتقوا منهم تقاة »(١) أي : تقية ، بالاتفاق(٢) .

قال ابن منظور : وفي الحديث : «قلت : وهل للسيف من تقية؟ قال : نعم ، تقية على اقذاء ، وهدنة على دخن» ومعناه : إنّهم يتقون بعضهم بعضاً ، ويظهرون الصلح والاتفاق وباطنهم بخلاف ذلك(٣) .

وفي الاصطلاح :

فقد عرفها جمع من علماء المسلمين بألفاظ متقاربة وذات معنى واحد.

فهي عند الشيخ المفيد (ت / ٤١٣ هـ) عبارة عن : (كتمان الحق ، وستر

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢٨.

(٢) تاج العروس ١٠ : ٣٩٦ وسيأتي اتفاق المفسرين على تفسير (التقاة) بالتقيّة.

(٣) لسان العرب ١٥ : ٤٠١ ، واُنظر : المصباح المنير / الفيومي ٢ : ٦٦٩ ، وأساس البلاغة / الزمخشري : ٦٨٦ مادة (وَقِيَ).

١١

الاعتقاد فيه ، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين والدنيا)(١) .

وعرفها الشيخ الأنصاري (ت / ١٢٨٢ هـ) ب (الحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق)(٢) .

وقال السرخسي الحنفي (ت / ٤٩٠ هـ) : (والتقيّة : أن يقي نفسه من العقوبة ، وإن كان يضمر خلافه)(٣) ، وبهذا النحو عرّفها آخرون(٤) .

صلة التقيّة بالإكراه :

يتضح من تعريف الشيخ الأنصاري للتقية أن إكراه الإنسان على الإتيان بشيء مخالف للحق يكون سبباً مباشراً من أسباب حصول التقيّة ، ويؤيّده ما جاء في قصة عمار بن ياسر وجماعته الذين اتقوا من المشركين فأجروا كلمة الكفر على ألسنتهم كرهاً ، حتى أنزل اللّه تعالى فيهم قرآناً : «إلاّ من أُكرِه وقلبه مطمئن بالإيمان »(٥) وسيأتي تفصيل ذلك في مشروعية التقيّة.

ولكن يبدو واضحاً من خلال مراجعة موارد التقيّة في فقه المذاهب

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد : ٦٦.

(٢) التقيّة / الشيخ الأنصاري : ٣٧. واُنظر القواعد الفقهية / البجنوردي ٥ : ٤٤. والقواعد الفقهية / ناصر مكارم الشيرازي ٣ : ١٣.

(٣) المبسوط / السرخسي الحنفي ٢٤ : ٤٥.

(٤) راجع تعريف التقيّة عند ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بشرح صحيح البخاري١٢ : ١٣٦. وعزالدين عبدالعزيز بن عبدالسلام السلمي في قواعد الأحكام في مصالح الأنام١ : ١٠٧. والآلوسي في روح المعاني٣ : ١٢١. والمراغي في تفسيره ٣ : ١٣٧. ومحمد رشيدرضا في تفسير المنار ٣ : ٢٨٠ وغيرهم.

(٥) سورة النحل : ١٦ / ١٠٦.

١٢

الإسلامية ، وتدبّر أدلتها من القرآن والسُنّة وسيرة الصحابة وتطبيقات التابعين وغيرهم من المسلمين أنه لا حصر للتقية على كتمان الحق وإظهار خلافه خوفاً على النفس من اللائمة والعقوبة بالإكراه ، لدخول ما إذا كان هذا الكتمان لمصالح أُخر فردية أو اجتماعية في مصاديق التقيّة وإن لم يكن ثمّة إكراه أصلاً ، ويؤيّده أن الإكراه لم يؤخذ قيداً في تعريف التقيّة اصطلاحاً ـ كما مرَّ ـ عند بعضهم.

الوجه في تقديم بحث الإكراه على التقيّة :

إنّ نفي الملازمة بين الإكراه والتقيّة من وجه كما يُفهم من الكلام المتقدم مراعاة لأقسام التقيّة لا يعني نفيها من كلِّ وجه كما لا يعني عدم الحاجة إلى دراسة الإكراه في بحث التقيّة ؛ لأنّه من أهم وأقوى أسبابها على الإطلاق ، زيادة على ما في بحث الإكراه من الاُمور الباعثة على تقديمه بحيث لا يمكن معها اغفاله بحال ، وسوف نشير إلى بعضها وهي : ١ ـ إنّ جميع التفصيلات الفقهية الواردة في فقه المذاهب العاميّة الأربعة بشأن التقيّة إنّما هي مبحوثة عندهم في كتب الإكراه غالباً ، ولم نجد في جميع مصادرهم الفقهية التي رجعنا إليها كتاباً أو باباً بعنوان التقيّة ، ومن هنا قد يشتبه الأمر على بعضهم بان فقهاء العامّة لم يتناولوا التقيّة وأحكامها ، وربما يزعم وهو ليس ببعيد بأن جميع ما سنذكره من صور التقيّة في الفقه العامي كما في الفصل الأخير من هذا البحث لا علاقة له بالتقيّة ؛ لأنّه من الإكراه!! ورفع مثل هذا الاشتباه لا يكون إلاّ ببيان العلاقة بين الإثنين وأنها علاقة السبب بالمسبب والعلة بالمعلول.

٢ ـ إنّ فهم أحكام التقيّة وبعض أقسامها متوقف على فهم الإكراه

١٣

ومعرفة أركانه ومقوماته وأقسامه وحالاته وصوره بحيث لو لم تبحث هذه الاُمور قبل التقيّة لاضطررنا إلى ذكرها ثانية مع توزيعها على أغلب مباحث التقيّة الآتية ، ولا يخفى ما في ذلك من تشتيت لاطراف البحث وتضييع لفائدته ، زيادة على ما يسببه ذلك من ارباك في المنهج العلمي الذي حرصنا على أن يكون دقيقاً وسليماً.

٣ ـ اشتراك التقيّة بمعناها العام بأكثر مقومات الإكراه وأركانه بمعناها الإكراهي الخاص بجميعها مع فارق التسمية ، ومنه يعلم أن الملاك بين الإثنين واحد ، ولا شكّ ان هذا لا يتضح مع اهمال بحث الإكراه ، إلى غير ذلك من الأمور الاُخر التي طوينا عنها صفحاً.

إذن ، فلنقف هنيهة عند الإكراه ، لنتعرف على معناه لغة واصطلاحاً ، مع بعض خصوصياته المهمة وأقسامه وحالاته ؛ لكي تتضح بذلك العلاقة بينه وبين التقيّة مع وحدة الملاك بينهما.

تعريف الإكراه :

أصل الاكراه لغةً : مأخوذ من الفعل (كَرَهَ) ، والاسم : (الكَرهُ) ويراد به كل ما أكرهك غيرك عليه ، بمعنى : أقهرك عليه ، وأما (الكُرْه) فهو المشقة ، يُقال : قمت على كُرْهٍ ، أي : على مشقة.

والفرق بين (الكَرْهِ) ، و (الكُرْهِ) أن الأول هو فعل المضطر ، بينما الثاني هو فعل المختار(١) .

وأمّا في الاصطلاح : فقد عرّفه التفتازاني بأنه : (حمل الغير على أن

__________________

(١) لسان العرب / ابن منظور ١٢ : ٨٠ كَرَهَ.

١٤

يفعل ما لا يرضاه ، ولا يختار مباشرته لو خُلِّي ونفسه)(١) .

كما عرّفه عبدالعزيز البخاري الحنفي بقوله ، هو : (حمل الغير على أمرٍ يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ، ويصير الغير خائفاً به)(٢) .

وعند السرخسي الحنفي ، هو : (اسم لفعل يفعله المرء بغيره ، فينتفي به رضاه ، أو يفسد به اختياره)(٣) .

ولعلّ أوجز تعريف للإكراه هو ما نجده عند الشيخ الأنصاريرحمه‌الله ، إذ عرّف الإكراه بأنّه (حمل الغير على ما يكرهه)(٤) .

ومن كل ما تقدم يعلم اتفاق الفريقين على كون الإكراه حالة من حالات الإجبار على النطق بشيء أو فعل شيء من غير رضا المكره ولا باختياره. ومع هذا فقد لا يتحقق الإكراه في الواقع وإن توفرت بعض مقوماته ، وهذا ما يستدعي التعرف على ما يتقوم به الإكراه من أركان ، وهو ما سنتناوله تحت عنوان :

أركان الاكراه :

لا خلاف بوجود أربعة أركان أساسية يتقوم بها الإكراه ، فإن توفرت واجتمعت كلّها تحقق الإكراه ، واما لو تخلف ركن منها ، فلا إكراه ، وهي : الأول ـ المُكْرِه : وهو من يصدر منه التهديد والوعيد ، ويشترط فيه أن يكون

__________________

(١) التلويح على التوضيح / سعد الدين التفتازاني ٢ : ١٩٦ طبعة مصر / ١٣٢٢ هـ.

(٢) كشف الأسرار عن اصول البزدوي / عبدالعزيز البخاري ٤ : ١٥٠٣ طبعة دار الخلافة.

(٣) المبسوط / السرخسي ٢٤ : ٣٨ من كتاب الإكراه.

(٤) المكاسب / الشيخ الأنصاري ٣ : ٣١١ في الحديث عن شرط الاختيار من شروط المتعاقدين ، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي ، لجنة تحقيق التراث ، ط١ ، قم / ١٤١٨ هـ.

١٥

قادراً على تنفيذ تهديده ووعيده بحق من يكرهه ، وإلاّ فمع عجزه عن ذلك يسقط الإكراه. ولا يشترط في المكرِه أن يكون سلطاناً أو حاكماً جائراً ، بل يكفي أن يكون قادراً متمكناً على تنفيذ وعيده وتهديده ، كما لا يشترط أن يكون المُكْرِه كافراً ، لأنّ العقل يحكم بلزوم حفظ النفس من الهلكة ، سواء كانت على أيدي بعض المسلمين أو الكفار ، وأنه لا فرق ـ بحكم العقل ـ في ضرورة تجنب الضرر شخصياً كان أو نوعياً ، من أي جهة كان.

الثاني ـ المُكْرَه : وهو من يقع عليه التهديد والوعيد ، ويشترط هنا أن يكون المُكْرَه متأكداً أو ضاناً بحصول الضرر على نفسه أو ماله أو عرضه أو على اخوانه أو دينه(١) فيما لو لم يأتمر بأمر المُكْرِه.

كما يشترط به أيضاً أن يكون عاجزاً عن دفع ما يتهدد به ، بطريق الهرب أو الاستغاثة ، أو المقاومة ونحو ذلك وأما لو لم يكن عالماً ولاظاناً بذلك أو كان قادراً على دفع ما هدد به فلا شك بأن ما يأتي به من قول أو فعل مخالف للحق بذريعة الإكراه عليه يكون محرماً ويعاقب عليه ، لعدم تحقق الإكراه بتخلف هذا الركن من أركانه.

الثالث ـ المُكْرَه به : وهو نوع الضرر المتوعّد به المُكرَه ، سواء كان ذلك الضرر متعلقاً بنفسه أو ماله أو عرضه أو اخوانه المؤمنين ، أو دينه.

وسواء كان ذلك الضرر مادياً كالضرب المبرح أو قطع الأطراف مثلاً ، أو معنوياً كالإهانة والتشهير ونحوهما.

هذا ، وأما لو لم يتصل الضرر بنفس المُكرَه ولا بماله ولا بعرضه ،

__________________

(١) لثبوت التقيّة عند الخوف الشخصي كما لو خاف المكرَه على نفسه أو عرضه أو ماله ، وكذلك عند الخوف النوعي كالخوف على الدين أو الوطن أو العشيرة ونحو ذلك.

١٦

ولا بأخوانه ، ولا بدينه ، ولا بمن تربطه معهم حتى صلة الإسلام ، كما لو أُكْرِهَ على أمر ، فإن لم يفعل قتلوا مشركاً ، فهنا لا اكراه ، لعدم تحقق الركن الثالث.

الرابع ـ المُكْرَه عليه : وهو نوع ما يراد تنفيذه من المُكرَه ، سواء كان كلاماً أو فعلاً. ويشترط فيه أن لا يكون الضرر الناتج عنه أكبر من الضرر المتوعد به المُكْرَه ، وكذلك أن يكون مما يحرم تعاطيه على المكرَه.

ومثاله : ان يُكره الإنسان على ارتكاب جريمة الزنا ، وإلاّ أخذت بعض أمواله ، أو ان يشهد زوراً على بريء ، وإلاّ فُصِل من وظيفته ، ففي مثل هاتين الصورتين ونظائرهما لا يجوز الإقدام على التنفيذ ، لاختلال الركن الرابع من أركان الإكراه.

كما يشترط أيضاً في هذا الركن أن يكون الإتيان به منجياً من الضرر بمعنى أن يحصل من اتيان المكرَه عليه الخلاص من الشر المتوعد به ، وأما لو علم المُكرَه بانه لا نجاة له مما هدد به حتى مع الإتيان بما أُمر فلا اكراه هنا ، ومثاله : أن يقول المُكرِه للُمكرَه : أعطني دارك وإلاّ أخذتها منك بالقوة.

أو أُقتل نفسك وإلاّ قتلتك ونحوه.

أنواع الإكراه :

الإكراه في جميع صوره على نوعين ، وهما :

النوع الأول : الإكراه على الكلام المخالف للحق.

وهذا النوع لا يجب به شيء عندهم ، فكل ما أكرِه عليه المسلم فله ذلك وله أمثلة كثيرة جداً ، أشدها : التلفظ بكلمة الكفر ، وهنا يجب الالتفات إلى نقطة في غاية الأهمية في مسألة الإكراه على اللفظ المخالف للحق ،

١٧

ونعني بها صلة الألفاظ بأفعال القلوب التي لا سبيل للمكرِه إلى علمها في قلب المكره ، وعليه فلا يصح التجاء المكره إلى شيء منها قط ، كما لو أُكرِه على كلمة الكفر ، أو على الاعتقاد بعقيدة فاسدة ، أو إنكار كل ما ثبت أنه من الدين إنكاراً قلبياً لا لفظياً.

فمثل هذه الاُمور ونظائرها يجب الاحتراز فيها جداً ، بحيث لا يتعدى النطق باللفظ إليها ، لانها ممالا يصح فيه الإكراه ، فغاية الأمر : إن المكرَه يريد التخلص من الشر بإتيان اللفظ المخالف للحق ، لا أن يُؤمِن بما يتلفظ به حقيقة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى صراحة في قوله تعالى : «لا يتَّخِذِ المُؤمنُونَ الكافِرينَ أولِيَاءَ مِنْ دون المُؤمِنينَ وَمَنْ يَفْعَل ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شيءٍ وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وإلى اللهِ المَصِيرُ »(١) .

ومما يلحظ هنا هو أن التحذير الشديد الوارد في الآية المباركة قد جاء مباشرة بعد تشريع التقيّة في الآية نفسها ، ثم أكده تعالى بقوله الكريم : «قُلْ إن تُخْفُوا ما في صُدُورِكُمْ أو تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ واللهُ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ »(٢) .

وكل هذا التحذير قد جاء في سياق واحد بعد تشريع التقيّة ، لئلا يتحول إنكار المؤمن للحق بفعل الإكراه إلى إنكار قلبي كما يريده من أكرَهه؛ لأنّ الواجب أنْ يبقى القلب مطمئناً بالإيمان.

وفي هذا الصدد قال الفخر الرازي في تفسيره : (إنّه تعالى لما نهى

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٢٨.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٢٩.

١٨

المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهراً وباطناً واستثنى عنه التقيّة في الظاهر ، اتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقيّة ؛ وذلك لأنَّ من أقدمَ عند التقيّة على إظهار الموالاة ، فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سبباً لحصول تلك الموالاة في الباطن ، فلا جرم بيّن تعالى أنّه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر ، فيعلم العبد إنّه لابدّ أن يجازيه على ما عزم عليه في قلبه)(١) .

هذا ، ومن الجدير بالإشارة إنّ الإكراه اللفظي قد لا يكون هكذا في جميع صوره ، فلو أُكره المرء المسلم على الطلاق مثلاً ، وكانت نيته موافقة للفظه فلا يكون بهذا خارجاً عن ربقة الإسلام ، بخلاف مالو أُكرِه بالقتل على سب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسبّه بكلِّ رضاً وارتياح ، فهو بهذا سيكون كافراً بلا خلاف.

النوع الثاني : الإكراه على الفعل المحظور

لا شكّ أنّ الشريعة لم تبح جميع الأفعال المحظورة بلا قيد أو شرط ، لأنَّ الأفعال المحرمة في نظر الشريعة الغراء على نحوين :

أحدهما ، تسوغ معه التقيّة حال الإكراه عليه ، وأمثلته كثيرة كالتقيّة في السرقة ، أو اتلاف مال الغير ، أو الإفطار في شهر رمضان ، أو تأخير الصلاة ، أو الامتناع عنها إذا اقتضى الإكراه ذلك أو شرب الخمر على خلاف فيه ، ونحوها من الاُمور التي يجوز ارتكابها عند الإكراه عليها.

والآخر ، لا تسوغ معه التقيّة مطلقاً وفي جميع الأحوال مهما بلغت درجة الإكراه عليه ، كالاقدام مثلاً على قتل مسلم بريء بحجة الإكراه ، فهنا

__________________

(١) التفسير الكبير / الفخر الرازي ٨ : ١٥.

١٩

لو أقدم المكره على القتل فلولي الدم القصاص بلا خلاف بين سائر فقهاء الشيعة ، وأحاديثهم المروية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترتهعليهم‌السلام صريحة بهذا كل الصراحة ، وأيدهم على هذا أكثر فقهاء المذاهب سوى الاحناف كما سيأتي بيانه في مكان آخر في هذا البحث.

ومما يجب التنبيه عليه هنا ، هو أن التقيّة ليست واجبة شرعاً في جميع حالات الإكراه ، فهي قد تكون واجبة ، أو محرمة ، أو مباحة ، أو مندوبة ، أو مكروهة بحسب الأحكام التكليفية الخمسة ، ولكن ليس لاحكامها ضابط معين بحيث لا يمكن تجاوزه في جميع حالات الإكراه ومن أي مُكرَه ، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.

نعم يستثنى من ذلك ما نصّ عليه الدليل المعتبر ، وأمّا ما لا نصّ فيه من صور الإكراه فيترك تقدير الإقدام على التقيّة فيه لمن يحمل عليها قسراً ، مع مراعاة اجتناب أصعب الضررين ، وسيأتي المزيد من التوضيح في بيان حكم ما يُكْرَه عليه ، مع صلة بعض القواعد الفقهية بهذا البيان.

حكم ما يُكْرَه عليه :

إنّ من الثوابت التي لا يشك بها أحد هو أن الدين الإسلامي دين اليسر ورفع الحرج ، إذ أباحت الشريعة الإسلامية للمضطر والمكره ارتكاب المحظور شرعاً ، كل ذلك من أجل أن يعيش الإنسان حياة حرّة كريمة بعيدة عن كل ما يتلفها أو ينتقص من كرامتها وقدرها ، حتى ولو أدّى ذلك إلى ارتكاب المحرمات ، أو المساس بحقوق الآخرين التي صانتها الشريعة الإسلامية نفسها وبأروع ما يكون.

ومن هنا انطلق فقهاء المذاهب الإسلامية ليقعّدوا بعض القواعد

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز أخاه المؤيد من العهد وضربه وقيّده فمات بعد أيام ، فخشي المعتز أن يتحدّث عنه أنّه قتله أو احتال عليه ، فأحضر القضاة حتى شاهدوه وليس به أثر ، وكان المعتز مستضعفاً مع الأتراك ، فاتفق أنّ جماعة من كبارهم أتوه وقالوا : يا أمير المؤمنين أعطنا أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف ، وكان المعتز يخاف منهم فطلب من أُمّه ( قبيحة ) مالاً لينفقه فيهم ، فأبت عليه وشحّت نفسها ، ولم يكن بقي في بيوت المال شيء بينما كانت أُمه تملك الأموال العظيمة ، حيث أنفقت على صالح بن وصيف مالاً عظيماً بعد قتله ؛ ولهذا اجتمع الأتراك على خلعه ، ووافقهم صالح بن وصيف ، ومحمد بن بُغا ، فلبسوا السلاح وجاءوا إلى دار الخلافة فبعثوا إلى المعتز أن اخرج إلينا ، فبعث يقول : قد شربت الدواء وأنا ضعيف ، فهجم عليه جماعة وجرّوا برجله وضربوه بالدبابيس ، وأقاموه في الشمس في يوم صائف ، وهم يلطمون وجهه ويقولون : اخلع نفسك ، ثم احضروا القاضي بن أبي الشوارب والشهود وخلعوه ، ثم أحضروا من بغداد إلى دار الخلافة ـ وهي يومئذٍ سامراء ـ محمد ابن الواثق ، وكان المعتز قد أبعده إلى بغداد فسلّم المعتز إليه الخلافة وبايعه(١) .

ومات المعتزّ بعد خلعه من الخلافة بطريقة غريبة ، بعد خمس ليال من خلعه ، حيث أدخلوه الحمّام ، فلمّا اغتسل عطش فمنعوه الماء ، ثم أُخرج فسقوه ماء بثلج فشربه وسقط ميتاً ، وذلك في شهر شعبان المعظّم سنة خمس وخمسين ومائتين .

اضطهاد الشيعة :

لقد ذكر المؤرّخون موقف المعتز المعادي لآل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضطهادهم واضطهاد شيعتهم ، ومن نماذج سيرته أنّه أعمل السيف في العلويين وآخرين حتّى ماتوا في سجونه ، وممّن قُتل في عهده :

١ ـ جعفر بن محمد الحسيني ، وقد قُتل في وقعة حدثت بالري بينه وبين أحمد بن عيسى عامل محمد بن طاهر(٢) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٣٤ .

١٠١

٢ ـ إبراهيم بن محمد العلوي فقد قتله طاهر بن عبد الله في وقعة كانت بينه وبين الكوكبي بقزوين(١) ، وغير هؤلاء كثير ممّن أعمل ولاة العباسيين فيهم السيف والقتل .

أمّا مَن مات في الحبس فكثير أيضاً ، منهم : عيسى بن إسماعيل الحضرمي ، وأحمد بن محمد الحسيني(٢) .

ــــــــــــــ

(١) المصدر السابق : ٤٣٣ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٣٤ .

١٠٢

الفصل الثالث : ملامح عصر الإمام الهاديعليه‌السلام

١ ـ الحالة السياسية العامّة

مارس الإمام الهاديعليه‌السلام مهامّه القيادية في حكم المعتصم سنة (٢٢٠هـ) واستشهد في حكم المعتزّ سنة (٢٥٤ هـ) وخلال هذه السنوات الأربعة والثلاثين قد عاصر ستّة من ملوك بني العباس الذين لم يتمتّعوا بلذّة الحكم والخلافة كما تمتّع آباؤهم ؛ حيث تراوحت فترة خلافة كل منهم بين ستة أشهر وخمسة إلى ثمان سنوات سوى المتوكل الذي دام حكمه خمسة عشر عاماً .

ويعتبر عهد المتوكل العباسي بدء العصر العباسي الثاني ، وهو عصر نفوذ الأتراك (٢٣٢ ـ ٣٣٤ هـ) واعتبره البعض بدء عصر انحلال الدولة العباسية ، الذي انتهى بسقوطها على أيدي التتار سنة (٦٥٦ هـ) .

وكان لسياسة المتوكل وأسلافه الأثر البالغ في انفصال بعض أمصار الدولة واستقلالها عن السلطة المركزية بالتدريج ، حيث نشأت دويلات صغيرة وكيانات متنافسة فيما بينها : كالسامانية ، والبويهية ، والحمدانية ، والغزنوية ، والسلجوقية ، بعد هذا العصر(١) .

وكما كان لهذه الدويلات تأثير في تقدّم الحضارة الإسلامية باعتبار

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي : ٣ / ١ بتصرّف .

١٠٣

انفتاح بعض الأُمراء على العلم والعلماء لكنّها أضعفت كيان الدولة العباسية سياسيّاً ؛ لأنّها قد ساهمت في إيجاد شرخ في وحدة الدولة الإسلامية الكبرى .

وقد يعزى هذا الانفصال وتشكيل هذه الدويلات ـ إضافة إلى الاضطهاد وتعسّف سلاطين الدولة العباسية ـ إلى استخدام الأتراك في مناصب الدولة الحسّاسة ، واعتمادهم كقوّة رادعة ضدّ معارضي الدولة العبّاسية ؛ إذ أصبح الجيش يتكوّن منهم قيادة وأفراداً ، بينما أُبعد العرب وسواهم عن تلك المناصب ممّا أثار حفيظة العرب ضد السلوك السياسي للدولة العبّاسية ؛ وبالتالي أدّى إلى الانفصال عنها .

وكان المعتصم أوّل الخلفاء العباسيين الذين استعانوا بالأتراك وأسندوا إليهم مناصب الدولة وأقطعوهم الولايات الإسلامية(١) .

وقد انتهج المتوكل سياسة العنف تجاه العلويين وشيعة أهل البيتعليهم‌السلام فضلاً عن أهل البيتعليهم‌السلام أنفسهم ، وتجلّى ذلك بوضوح في أمره بهدم قبر الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام وما حوله من الدور ، بل أمر بحرثه وبذره وسقي موضع القبر ومنع الناس من زيارته وتوعّد بالسجن على مَن زاره(٢) .

وقد أثار المتوكل بهذه السياسة حفيظة المسلمين بشكل عام ، وأهل بغداد بشكل خاصّ ، وقد ردّوا على الإهانات التي ألحقها بالعلويين فسبّوه في المساجد والطرقات(٣) .

وفي زمن المتوكل أصابت مدن العراق مجاعة شديدة وهلك كثير من الناس ، وانتهز الروم فرصة ضعف الدولة فاستأنفوا غاراتهم على أراضيها فأغاروا على دمياط وفتكوا بأهلها وأحرقوا دورهم ، ثم غزوا فيليفيا جنوبي

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي : ٣ / ٢ ويراجع تاريخ الطبري : ٧ حول ازدياد نفوذ الأتراك في عصر المعتصم .

(٢) تاريخ الطبري : ١١/٤٤ .

(٣) تاريخ الإسلام السياسي : ٣ / ٥ .

١٠٤

آسيا الصغرى وهزموا أهلها هزيمة منكرة(١) .

وفي عام (٢٣٥ هـ) عهد المتوكل إلى أولاده الثلاثة المنتصر والمعتز والمؤيد ، بيد أنّه رأى أن يقدّم المعتز على أخويه لمحبّته أم المعتز ( قبيحة ) ولكنّ المنتصر غضب لذلك فدبّر مع أخواله الأتراك مؤامرة لاغتيال أبيه ، وحاول بعض الأتراك في دمشق اغتيال المتوكل غير أنّ محاولتهم تلك باءت بالفشل بفضل ما عمله بغا الكبير والفتح بن خاقان(٢) .

ولم ينج المتوكل من الاغتيال فقد قُتل فيما بعد ، بعد اتفاق بغا الصغير وباغر التركي للتخلّص منه وتنصيب ابنه المنتصر عام (٢٤٧ هـ) .

وكان المنتصر يحسن للعلويين مخالفاً بذلك سياسة أبيه ، وتجلّت سياسته في إزالة الخوف عنهم والسماح لهم بزيارة قبر الحسينعليه‌السلام .

ولم يدم حكم المنتصر طويلاً فقد تآمر عليه الأتراك وقتلوه عن طريق طبيبه طيفور في سنة (٢٤٨ هـ)(٣) .

وبعد مقتل المنتصر تولّى كرسيّ الخلافة المستعين بالله سنة (٢٤٨ هـ) وأرجع عاصمته إلى بغداد غير أنّ الأتراك لم يأمنوا جانبه ، فاتفق باغر التركي مع جماعته على خلع المستعين ونصب المعتز مكانه(٤) .

ووقعت بينهما حرب دامت عدّة أشهر انتهت بإبعاد المستعين إلى واسط ثم قتله غيلة(٥) .

كما أنّ المعتز لم ينج من أعمال العنف والتعسّف التي قام بها قوّاد الدولة العباسية من الأتراك فقُتل شرّ قتلة على أيديهم وذلك سنة (٢٥٥ هـ) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي : ٣/٥ .

(٢) مروج الذهب : ٢ / ٣٩٠ .

(٣) تاريخ الطبري : ٧ أحداث عام ٢٤٨ هـ .

(٤) مروج الذهب : ٢ / ٤٠٧ ـ ٤٠٨ .

(٥) الكامل في التاريخ : ٧ / ٥٠ وما بعدها .

١٠٥

وكان اغتيال الإمام الهادي عليه‌السلام في حكم المعتزّ في سنة (٢٥٤ هـ) (١) .

إنّ ضعف شخصيّة الحكّام هو أحد عوامل التفكّك والانهيار الذي أصاب الدولة الإسلامية ، وقد رافقه نفوذ زوجاتهم وأُمّهاتهم إلى جانب سيطرة الأتراك الذين اعتمدوا عليهم للتخلّص من نفوذ الإيرانيين والعرب ، كما كان لظلم الأُمراء والوزراء دوره البالغ في زعزعة ثقة الناس بالحكّام وإثارة الفتن والشغب داخل بلاد المسلمين(٢) ؛ تمرّداً على ظلم الظالمين ونهب ثروات المسلمين والاستهتار بالقيم الإسلامية والتبذير في بيت مال المسلمين .

إنّ ضعف شخصيّة الحكّام أدّى إلى سقوط هيبتهم عند الولاة ممّا دعاهم إلى الاتّجاه نحو الاستقلال بشكل تدريجي لعلمهم بضعف مركز الخلافة وانهماك الحكّام بالملاهي والملذّات .

وقد شجّع الحكّام الأُمراء وعمّالهم على الاهتمام بجمع الأموال وإرسالها إلى الخليفة ونيل رضاه واتّقاء تساؤلاته عن تصرّفات الأُمراء .

وأدّت هذه الظاهرة إلى طغيان المقاييس المادّية واستقرارها في مختلف الشرائح الاجتماعية .

وقد ساعدت الفتوحات ـ التي كانت أشبه بالغزو لإحكام السيطرة على الأراضي بدل فتح القلوب والعقول ـ على استحكام المقاييس المادية ؛ لأنّها كانت تدرّ الأموال والغنائم على الجيش الفاتح فكانت مصدراً من مصادر الثروة التي يفكّر بها الحكّام والأُمراء .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٥٠٣ .

(٢) لقد توالت حوادث الشغب في بغداد من سنة (٢٤٩ هـ) وتجدّدت أربع مرات حتى سنة (٢٥٢ هـ) وبدأت مشاغبات الخوارج من سنة (٢٥٢ هـ) واستمرّت إلى سنة (٢٦٢ هـ) ورافقها ظهور صاحب الزنج سنة (٢٥٥هـ) ، وهذه سوى ما سيأتي من انتفاضات العلويين خلال النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري .

١٠٦

٢ ـ الحالة الثقافية

كان لترجمة الكتب اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية أثر كبير في ثقافة هذا العصر ، وكانت ظاهرة الترجمة قد ابتدأت منذ أيام المأمون ، وقد أسهمت في رفد الثقافة الإسلامية من جهة والانفتاح على الثقافات الأخرى التي قد تتقاطع مع ما أفرزته الحضارة الإسلامية من اتجاهات فكرية وثقافية من جهة أخرى .

كما كان لارتحال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أثر كبير في التبادل والتعاطي الثقافي بين شرق البلاد الإسلامية وغربها ، وأنتج ذلك نشاطاً ثقافياً متميّزاً وحركة فكرية ، أعطت للعلماء والفقهاء دوراً كبيراً وموقعاً مرموقاً عند الخلفاء والحكّام حتى عُدّ القرن الرابع الهجري ـ فيما بعد ـ العصر الذهبي للحضارة الإسلامية .

وقد حظي الشعراء والأدباء بمكانة رفيعة عند الأُمراء ممّا أدّى إلى ازدهار الأدب في هذا العصر .

ولا ينبغي أن نغفل عن محنة خلق القرآن وما رافقها من توتّر في المجتمع الإسلامي طيلة عقود ثلاثة(١) .

٣ ـ الحالة الاقتصادية

إنّ الاضطرابات السياسية والصراع على السلطة وبدء انفصال أجزاء عن الدولة العباسية واستقلالها قد أثّر في تدهور الوضع الاقتصادي .

وكان لظهور الطبقية في المجتمع الإسلامي آثار سلبية أدّت إلى سرعة الانهيار الاقتصادي فضلاً عن المجاعة وارتفاع الأسعار ، ممّا كان له أثر كبير

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي : ٣ / ٣٣٢ وما بعدها .

١٠٧

في اضطراب الأمن وفقدان السيطرة من قِبل الدولة ، وقد تجلّى ذلك في قصر فترة حكم الخلفاء إلى جانب انتقال إدارة الدولة إلى القوّاد الأتراك بدل الخلفاء ؛ وهو دليل واضح على ضعف شوكتهم وفقدان هيبتهم أمام قوّاد الجيش ووزرائهم وكتّابهم (١) .

٤ ـ الموقع الاجتماعي والسياسي للإمام الهاديعليه‌السلام

إنّ حادثة إشخاص الإمامعليه‌السلام من قِبل المتوكل من المدينة إلى سامراء وإيكال ذلك الأمر إلى يحيى بن هرثمة ، وما نقله يحيى هذا عن حالة أهل المدينة المنوّرة ، وما انتابهم وما أحدثوا من ضجيج واضطراب لإبعاد الإمامعليه‌السلام عنهم ؛ يصوّر لنا مدى تأثّر أهل المدينة بأخلاقيّة الإمامعليه‌السلام المثلى وحسن سلوكه وتعامله معهم وشدّة اندماجه في حياتهم ، ولا غرو ، فهو سليل دوحة النبوّة وثمرة شجرة الإمامة التي هي فرع النبوّة ، فالإمام هو حجّة الله سبحانه على خلقه وهو المثل والقدوة التي يُقتدى بها وهو القيّم والحافظ لرسالة الإسلام .

وهذا عبيد الله بن خاقان المعاصر للإمام الحسن العسكريعليه‌السلام كان يصف الإمام الهادي لرجل قائلاً له : لو رأيت أباه ـ أي الإمام الهاديعليه‌السلام ـ لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيّراً فاضلاً(٢) .

وكان للإمامعليه‌السلام نفوذ في عمق البلاط بحيث نجد أُمّ المتوكل تبعث بصرّة للإمامعليه‌السلام بعد التوسّل به لتوصيف دواء لداء المتوكل وهو كاشف عن إيمانها بمكانة هذا الإمام عند الله تعالى .

وقد شاع خبره وذاع صيته عند أصحاب البلاط فضلاً عن عامّة الناس ،

ــــــــــــــ

(١) يُراجع تاريخ الطبري : ج٧ ، أحداث السنوات ٢٤٧ ـ ٢٥٤ هـ .

(٢) كمال الدين للشيخ الصدوق : ١ / ٤٢ .

١٠٨

في الوقت الذي كان المتوكل قد أحكم الرقابة الدقيقة على تصرّفات الإمامعليه‌السلام وارتباطاته ؛ لئلاّ يتّسع نفوذه وتمتدّ زعامته ، بل كان يخطّط لسجنه واغتياله .

وتكفي نظرة سريعة على ما صدر من معاصريه من تصريحات حول مكانته وسموّ منزلته ؛ لتقف عند الموقع الاجتماعي المتميز للإمامعليه‌السلام بالرغم من كل محاولات التسقيط (١) .

٥ ـ العباسيون والإمام الهاديعليه‌السلام

تدرّجت سياسة الحكّام العباسيين في مناهضة أهل البيتعليهم‌السلام بعد أن عرفوا موقعهم الديني والاجتماعي المتميّز ، وأنّهم لا يداهنون من أجل الحكم والملك ، بل إنّهم أصحاب مبدأ وعقيدة وقيم ، فكانت سياسة السفّاح والمنصور والرشيد تتلخّص في الرقابة المشدّدة والتضييق مع فسح المجال للتحرّك المحدود ، ورافقها خلق البدائل العلمية لئلاّ ينفرد أهل البيتعليهم‌السلام بالمرجعية العلمية والدينية في الساحة الاجتماعية ، فكان الدعم المباشر من الحكّام لأئمة المذاهب وتبنّي بعضها والدعوة إليها في هذا الطريق .

ولكن كل هذه الأساليب لم تفلح في التعتيم الإعلامي وتوجيه الأنظار عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى غيرهم ، فكانت سياسة المأمون هي سياسة الاحتواء التي نفّذها مع الإمام الرضاعليه‌السلام .

غير أنّ المأمون حين أدرك عدم إمكان احتواء الإمامعليه‌السلام قضى عليه ، لكنّه بتزويجه لابنته أُمّ الفضل من الإمام الجوادعليه‌السلام قد أحكم الرقابة على

ــــــــــــــ

(١) راجع الفصل الثاني من الباب الأوّل من هذا الكتاب .

١٠٩

ولده الإمام الجوادعليه‌السلام بشكل ذكي جداً ، ولم يسمح المعتصم للإمام الجوادعليه‌السلام ـ وهو في ريعان شبابه ـ ليبقى في مدينة جدّه ، بل استدعاه وقضى عليه بالسم ؛ لأنّه قد أدرك أيضاً عدم إمكان احتوائه ، بل عدم إمكان إحكام الرقابة عليه من داخل بيته وخارجه .

وهنا جاء دور المتوكل ومَن تبعه لسجن الإمام والتضييق عليه بأنحاء شتّى ، فتمّ استدعاء الإمام الهاديعليه‌السلام وعُرِّض لأنواع الاحتقار والتسقيط والتضييق ـ كما لاحظنا ـ وأُحكمت الرقابة على كل تصرّفاته داخل البيت وخارجه ، بنحو قد تجنّبوا فيه إثارة الرأي العام حيث تظاهروا بإكرام الإمام واحترامه وإعزازهعليه‌السلام ، بينما وصلت الرقابة إلى أبعد حدّ .

وكانت قضية الإمام المهدي المنتظرعليه‌السلام من الأسباب المهمّة التي دعت السلطة لإحكام الرقابة عليه ؛ لئلاّ يولد الإمام المهديعليه‌السلام إن أمكن أو للاطلاع على وجوده إن كان قد وُلد ، ومن ثمّ القضاء عليه .

وقد بقي الإمام الهاديعليه‌السلام تحت رقابة الحكّام العباسيين مدة طويلة تزيد على العشرين عاماً(١) ، وهي فترة طويلة جداً إذا ما قسناها مع فترة ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام أو فترة بقاء الإمام الجوادعليه‌السلام في بغداد في زمن المعتصم .

وفي هذا مؤشّر واضح لتغيير العباسيين سياستهم العامة تجاه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

٦ ـ اضطهاد أتباع أهل البيتعليهم‌السلام

إذا استثنينا سياسة المنتصر التي لم تدم سوى ستة أشهر والتي تمثّلت في اللين مع العلويين وشيعة أهل البيتعليهم‌السلام فإنّا نجد السياسة العباسية العامة هي مناهضة أهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم ، وممارسة سياسة العنف معهم بالرغم من اتّساع رقعة التشيّع بعد تظاهر المأمون باحترامه الخاص للإمام الرضاعليه‌السلام .

ــــــــــــــ

(١) وقد عرفت أنّ بعض المصادر صرّحت بأنّ مدّة إقامتهعليه‌السلام في سامراء عشر سنوات وأشهر .

١١٠

إنّ حرمان أهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم من الوضع المعيشي اللائق بهم إنّما كان باعتبار قلقهم من توظيف المال للإطاحة بملكهم .

ومن هنا كانت سياسة التقشّف بالنسبة لهم سياسة عامة قد سار عليها عامة ملوك بني العباس ، وهم أعرف بالمكانة الاجتماعية لأهل البيتعليهم‌السلام في قلوب المؤمنين .

وكان الحرمان يمتدّ إلى إخراجهم من الوظائف الحكومية إن عثروا على موالٍ لأهل البيتعليهم‌السلام كان قد حظي بوظيفة حكومية ، بل تعدّى ذلك إلى تحديد أملاكهم وغلمانهم حتى بان الفقر والحرمان على كثير من العلويين في هذا العصر .

٧ ـ انتفاضات العلويين

لقد تمادى المتوكل في إيذاء العلويين ومنعهم حقوقهم التي منحهم الله إيّاها حتى أشرفوا على الهلاك من شدّة الفقر ، بل تمادى في الجور عليهم حتى قدّم دعوى غير العلوي على دعوى العلوي إذا تحاكما عند القضاة .

ولم نجد من العباسيين عامة إلاّ العداء والبغض لأهل البيتعليهم‌السلام لأسباب شتّى ، منها : تفرّد أهل البيتعليهم‌السلام بالنصّ عليهم من قِبل جدّهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتفرّدهم بالزعامة الروحية والعلمية ، وتأثيرهم على قلوب المسلمين ووجدانهم ، والاهتمام بشؤونهم ، وإيثارهم للدين على الدنيا ، والموت في سبيل الله على الحياة مع الذل والهوان في غير طاعة الله .

إنّ عواطف المسلمين وقلوبهم قد اتّجهت نحو أبناء الرسولعليهم‌السلام

وشيعتهم الذين يحذون حذوهم ، وأخذت هذه الظاهرة تنمو وتظهر على الساحة الإسلامية ، وهذا ممّا لا يرتاح له الحكّام العباسيون وعملاؤهم الذين جلسوا على موائدهم التي جسّدت أفضع أنواع التبذير في بيت مال المسلمين .

وأهل البيتعليهم‌السلام بعد ثورة الحسينعليه‌السلام وإن لم يتصدّوا للثورة المسلّحة ضدّ الطغاة لأسباب تعود إلى سياستهم المبدئية لمعالجة أنواع الانحراف في المجتمع الإسلامي ، لكنّهم قد فتحوا الطريق أمام الثوّار العلويين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف والسلاح حين لا يثمر الكلام والحجاج .

ومن هنا لم تخل الساحة الإسلامية من الثورات التي قام بها قادة علويون على طول الخط بعد ثورة الحسينعليه‌السلام .

١١١

وقد استمرّت هذه الثورات حتى عصر الغيبة وانتهت فيما بعد إلى تأسيس دويلات وإمارات يحكمها قادة علويون أو علماء يحملون ثقافة أهل البيتعليهم‌السلام ويحاولون تجسيد قيمهم وسيرتهم في الحياة الإسلامية .

ولم تكن اغتيالات الخلفاء للأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام إلاّ باعتبار دعمهم لهذه الثورات المسلّحة وتأييدهم لها من قريب أو من بعيد .

وهذا الخط الثوري في هذه الظروف الحرجة يُعدّ أحد الأسباب التي حتّمت على الإمام الثاني عشر ـ باعتباره آخر القادة المعصومين ـ أن يتستّر بستار الغيبة لئلاّ تخلو الأرض من حجج الله وبيّناته .

وقد خرج على حكّام هذا العصر من العلويين مجموعة تمثّل استمرار الخط الثوري ضدّ الظلم والظالمين وإليك قائمة بأسمائهم مع ذكر تاريخ ومنطقة تحرّكهم وخروجهم :

١ ـ محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، خرج في حكومة المعتصم واعتُقل في سنة (٢١٩ هـ) وروي

أنّه قُتل بالسمّ .

٢ ـ محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام خرج على المتوكّل في المدينة وأُسر وسُجن في سامراء .

٣ ـ يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

خرج على المستعين في الكوفة سنة (٢٥٠ هـ) ، ارتضاه أهل بغداد وليّاً للأمر كما بايعه جملة من أهل الحل والعقد في الكوفة .

وضجّ الناس لقتله وحزنوا عليه حزناً لم ير مثله .

٤ ـ الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ، خرج في طبرستان سنة (٢٥٠ هـ) واستولى على الري وآمل وامتدّ نفوذه إلى جرجان في سنة (٢٥٧ هـ) واستمرّ في الحكم حتى سنة (٢٧٠ هـ) ، ثم خلفه أخوه محمّد بن زيد وكان فقيهاً أديباً وجواداً .

٥ ـ محمد بن جعفر بن الحسن ، خرج في الري سنة (٢٥٠ هـ) ودعا أهل الري إلى حكم الحسن بن زيد الذي كان قد سيطر على طبرستان .

١١٢

٦ ـ الحسن بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالبعليهم‌السلام ثار في قزوين سنة (٢٥٠ هـ) .

٧ ـ الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ثار في الكوفة سنة (٢٥١ هـ) .

٨ ـ إسماعيل بن يونس بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ثار في مكّة سنة (٢٥١ هـ) .

٩ ـ أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن طباطبا ثار في سنة (٢٥٥هـ) بين برقة والإسكندرية .

١٠ و ١١ ـ عيسى بن جعفر العلوي ، ثار مع علي بن زيد في الكوفة سنة (٢٥٥ هـ) .

١٢ ـ علي بن زيد بن حسين بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام ثار في الكوفة سنة (٢٥٦ هـ) للمرة الثانية .

١٣ ـ إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام المعروف بابن الصوفي ثار في مصر سنة (٢٥٦ هـ)(١) .

هذه صورة موجزة عن الحركات المناهضة للحكّام الذين تربّعوا على كرسيّ الخلافة وحكموا باسم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم بعيدون كل البعد عن هديه وسننه .

وفي مثل هذه الظروف السياسية العامة والفتن الدينية التي أجّجها الخلفاء وسقتها الثقافات المستوردة ، ماذا كانت تتطلّبه الساحة الإسلامية العامة من معالجات ؟ وماذا كانت تتطلّبه الساحة الخاصة بأتباع أهل البيتعليهم‌السلام الذين أخذوا يقتربون من عصر الغيبة الذي أخبر عنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وبدأت تتكشّف علائمه وتتهيّأ أسبابه ؟ هذا ما سوف ندرسه خلال الفصول التالية إن شاء الله تعالى .

ــــــــــــــ

(١) راجع مقاتل الطالبيين : ٤٧٨ ـ ٥٣٦ ومروج الذهب : ٤/٥٠ ـ ١٨٠ ، والكامل في التاريخ ، الجزء السابع .

١١٣

الباب الرابع : وفيه فصول :

الفصل الأول : متطلّبات عصر الإمام الهاديعليه‌السلام .

الفصل الثاني : الإمام الهاديعليه‌السلام وتكامل بناء الجماعة الصالحة وتحصينها .

الفصل الثالث : الإمام الهاديعليه‌السلام في ذمّة الخلود .

الفصل الرابع : مدرسة الإمام الهاديعليه‌السلام وتراثه .

الفصل الأوّل : متطلّبات عصر الإمام الهاديعليه‌السلام

بعد أن عرفنا المهمّ من ملامح عصر الإمام الهاديعليه‌السلام نستطيع الآن أن نقف على متطلّبات عصره وسوف نبحث عنها في حقلين :

الأوّل : متطلّبات الساحة الإسلامية العامة

الثاني : متطلّبات الجماعة الصالحة بعد تمهيد عام لكلا الحقلين

وذلك أنّ الإمام علي بن محمد الهاديعليه‌السلام قد تولّى الإمامة بعد استشهاد أبيه الجوادعليه‌السلام سنة (٢٢٠ هـ) وهو لمّا يبلغ الحلم ؛ إذ لم يتعدّ عمره الثامنة ـ على أكبر الفروض ـ فهو قد شابه أباه الجوادعليه‌السلام في تولّي الإمامة في سنّ مبكّرة .

وقد كان لتولّي الإمام الجوادعليه‌السلام الإمامة في سنّ مبكّرة بعد استشهاد أبيه الرضا عليه‌السلام مغزى ديني ودلالات وآثار سياسية واجتماعية عديدة ، وإليك جملة منها :

الدلالة الأُولى :

إنّ أهل البيتعليهم‌السلام قد أضافوا دليلاً حسّياً جديداً بعد الأدلة العقائدية التي تمثّلت في النصوص النبويّة أوّلاً ، والواقع العملي الذي جسّد جدارتهم لتولّي شؤون المسلمين وقيادة العالم الإسلامي فكرياً وعمليّاً .

والأئمة بعد استشهاد الحسينعليه‌السلام قد اتّجهوا لتربية الأجيال الطليعية ليحصّنوا الأمة الإسلامية من تبعات التلاقح الفكري أو الاختراق الثقافي الذي حصل من الانفتاح على ثقافات جديدة بعد الفتوح .

١١٤

وقد عادت الهمينة الفكرية والريادة العلمية لأهل البيتعليهم‌السلام بالرغم من التخطيط الذي كان من ورائه الأمويون ومَن سار في خطّهم ؛ لإعادة الجاهلية بكل مظاهرها إلى الحياة الإسلامية الجديدة .

فالإمام زين العابدينعليه‌السلام وابنه الباقرعليه‌السلام الذي عرف بأنّه يبقر العلم بقراً ، وحفيده جعفر الصادقعليه‌السلام الذي دانت له أرباب المذاهب الأربعة ومَن سواهم بالمرجعية العلمية والروحية في أرجاء العالم الإسلامي ؛ قد أثبتوا بشكل عملي وحسّي جدارة أهل البيتعليهم‌السلام للريادة الفكرية التي هي روح الريادة الاجتماعية والسياسية إلى جانب نص الرسول على أنّهم الخلفاء الحقيقيون له .

واستمرّ هذا الخط الريادي في عصري الإمامين الكاظم والرضاعليهما‌السلام وأفرز آثاره الاجتماعية والسياسية حيث هيمن حبّ أهل البيتعليهم‌السلام على قلوب المسلمين من جديد وراحوا يشيدون بهم وبمثلهم وعلوّ منزلتهم في الحياة الإسلامية ، وانعكس هذا الأمر على الحكّام انعكاساً لا يُطاق فلم يتحمّل هارون الرشيد وجود الإمام الكاظمعليه‌السلام ؛ إذ اعتبره منافساً حقيقياً له حتى قضى عليه بعد سجنه مسموماً شهيداً .

كما لم يتحمّل ابنه المأمون الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام كذلك ، بالرغم من تغييره لسياسة أسلافه حيث حاول احتواءه وتجديد نشاطه بشكل ذكي ثم جدّ في إطفاء نوره بما أجراه من الحوارات والتحدّيات العلمية الصعبة بعد أن أيس من سلب ثقة الناس منه بفرض ولاية العهد عليه ؛ إذ كان قد خطّط لإظهاره بمظهر الإنسان الحريص على الملك وحب الدنيا الذي كان هو شأن عامة الملوك من بني أمية وبني العباس بعد اليأس من نجاح آخر محاولات التسقيط بادر إلى تصفيته جسدياً ليقضي على أكبر منافس له فإنّ الإمام الرضاعليه‌السلام كان يرى هو وكثير من المسلمين بأنّ المأمون لا يستحق الخلافة وإنّما هي رداء ألبسه الله مَن اصطفاه من عباده وهم أهل بيت الرحمة والرسالة .

١١٥

فالمأمون يفتقد الرصيد الشرعي والشعبي بينما الإمام الرضاعليه‌السلام ولا سيّما بعد فرض ولاية العهد عليه لم يسقط من القلوب ، بل قد تألّق نجمه ، فهو يحظى بالرصيدين الشرعي والشعبي أكثر من ذي قبل ولا سيّما بعد الحوارات العلمية التي أُجريت معه .

إنّ نقاط القوة التي كان يفتقدها المأمون رغم ذكائه وحنكته السياسية ، قد سوّلت له وجرّته الى اغتيال الإمام الرضاعليه‌السلام .

وهنا جاءت إمامة الجوادعليه‌السلام المبكّرة لتضفي رقماً جديداً ودليلاً واضحاً وقوياً آخر على جدارة أهل البيتعليهم‌السلام للقيادة الإسلامية يلمسه عامّة المسلمين بما فيهم الحكام .

وشكّلت هذه الإمامة تحدّياً صارخاً لا يمكن غضّ الطرف عنه ولا يمكن مواجهته بأي شكل من الأشكال ، فقد عرّض المأمون الإمام الجوادعليه‌السلام لأصناف الحوارات والتحدّيات العلمية وأيقن بعجزه عن مواجهته ، ولكنّه كان لا يملك أيّ عذر للقضاء عليه .

ولكنّ المعتصم قد دنّس يديه بهذه الجريمة البشعة التي قضت على الإمام الجواد وهو في عمر الزهور حيث لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره ولم تدم أيّام إمامته سوى سبع عشرة سنة .

والقضاء على الإمام الجوادعليه‌السلام في هذه الظروف كاشف عن مدى عمق الهيمنة الروحية والعلمية للإمام الجوادعليه‌السلام وهو عميد أهل البيت وكبيرهم روحيّاً وعلمياً وقيادياً ؛ حيث طأطأ لعظمة علماء الطائفة ، وتعلّقت به قلوب شيعته ومحبّيه ـ فضلاً عن قلوب مَن سواهم ـ ودانت له بالولاء أعداد غفيرة من المسلمين وإلاّ فلماذا هذا التسرّع في القضاء عليه وهو لم يحاول القيام بأيّة حركة أو ثورة ضدّ النظام الحاكم ؟!

وقد جاءت الإمامة المبكّرة للإمام الهاديعليه‌السلام في هذا الظرف وبعد هذه التحدّيات وإفرازاتها السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية .

١١٦

فهل نصدّق بأنّ الحكّام بعد المعتصم ، وبعد ما رأوه من هذه الهيمنة الروحية والعلمية لأهل البيتعليهم‌السلام على الساحة الإسلامية ، سوف يتركونهم أحراراً وهم المتقمّصون لرداء خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والموقع القيادي لأهل البيتعليهم‌السلام الذين قد اشتهر عنهم وعن جدّهم أنّهم المنصّبون لهذا الموقع الديني والسياسي بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

وقد أثبتوا جدارتهم العلمية والفكرية والروحية لتولّي قيادة الأمر وإدارة شؤون المسلمين وهيمنوا على قلوب الناس وعقولهم ؟

إنّ هذه النقطة تشكّل مفرق طريق واضح بين خطين خطّ الحاكمين وخط أهل البيتعليهم‌السلام .

ولم يرتدع هؤلاء الحكّام عمّا سلف عليه آباؤهم من مقارعة مَن ينافسهم وهم يرون وجود المنافس الحقيقي لهم حتى وهو لم يبادر إلى الثورة ضدّهم ، ولم يثبت لديهم أنّهم وراء الانتفاضات التي كانت تنطلق بين آونة وأُخرى .

فما هو المخرج في رأيهم وبحسب مقاييسهم ؟ وكما علمنا ـ سابقاً ـ أنّ الإمام الهاديعليه‌السلام في كل مراحل حياته التي قضاها في مدينة جدّه أو في سامراء كانت تحت رقابة شديدة ، وقد جرّعوه ما استطاعوا من الغصص التي كانت تتمثّل في محاولات الاحتواء تارة والتسقيط العلمي تارة أُخرى ثم التحجيم بشتّى أشكاله التي تمثّلت في الاستدعاء والتحقير والرقابة المكثّفة والسجن ومحاولات الاغتيال المتكرّرة خلال ثلاثة عقود ونصف تقريباً من سنيّ عمره المبارك .

فما الذي كان ينتظره الإمامعليه‌السلام من هؤلاء الحكّام في هذا الظرف ومع هذه المحاسبات ؟ وما الذي كان ينبغي له أن يقوم به والفرص التي بين يديه محدودة جدّاً وهي تمر مرّ السحاب ؟ على ضوء هذه الحقائق لابد أن نبحث عن متطلّبات المرحلة في كلا الحقلين كما سيأتي بيانه .

١١٧

الدلالة الثانية :

إنّ إمامة الجواد عليه‌السلام المبكّرة والتي تلتها إمامة ولده الهادي المبكّرة أيضاً ذات علاقة وطيدة بقضيّة الإمام المهدي المنتظر الذي سيتولّى الإمامة في ظرف عصيب جداً وعمره دون عمر هذين الإمامين عليهما‌السلام ، كما أخبر بذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام .

إنّ التمهيد الذي قام به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تبعاً للقرآن الكريم ـ بالنسبة لقضية المصلح الإسلامي العالمي والتصريح بأنّه سيولد من أبناء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فاطمة وعليعليهما‌السلام وأنّه التاسع من أبناء الحسين الشهيد ، كان ضرورة إسلامية تفرضها العقيدة ؛ لأنّها نقطة إشعاع ومركز الأمل الكبير للمسلمين في أحلك الظروف الظالمة التي سيمرّون بها ، وقد أيّدت الظروف التي حلّت بالمسلمين بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الأخبار السابقة لأوانها .

إنّ هذا التمهيد النبوي الواسع قد بلغت نصوصه ـ لدى الفريقين ـ ما يزيد على الـ (٥٠٠) نص حول حتميّة ظهور المهديعليه‌السلام وولادته وغيبته وظهوره وعلائم ظهوره وعدله وحكمه الإسلامي النموذجي .

وقد سار على درب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام خلال قرنين ـ وعملوا على تأكيد هذا الأصل وتأييده وإقراره في النفوس وجعله معلماً من معالم عقيدة المسلمين فضلاً عن الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم وقد زرع هذا المبدأ ألغاماً تهدّد الظالمين بالخطر وتنذرهم بالفناء والقضاء عليهم وعلى خطّهم المنحرف ، فهو مصدر إشعاع لعامّة المسلمين كما أنّه مصدر رعب للظالمين المتحكّمين في رقاب المسلمين .

ولو لم يصدر من أهل البيتعليهم‌السلام إلاّ التأكيد على هذا المبدأ فقط ـ وإن لم يمارسوا أي نشاط سياسي ملحوظ ـ لكان هذا كافياً في نظر الحكّام للقضاء عليهم مادام هذا المبدأ يقضّ مضاجعهم .

ولكنّ اضطرارهم لمراعاة الرأي العام الإسلامي حال بينهم وبين ما يشتهونه ويخطّطون ضد أهل البيتعليهم‌السلام فكانت إرادة الله تفوق إرادتهم غير أنّهم لم يتركوا التخطيط للقضاء على أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١١٨

فعن الحسين أشاعوا أنّه قد خرج على دين جدّه وهو الذي كان يطلب الإصلاح في أُمّة جده .

والإمام الكاظمعليه‌السلام ـ ومَن سبقه ـ قد اتّهم بأنّه يُجبى له الخراج وهو يخطّط للثورة على السلطان .

والإمام الرضا والجوادعليهما‌السلام قد قُضي عليهما بشكل ماكر وخبيث بالرغم من علم المأمون بأنّه المتهم في اغتيال الرضاعليه‌السلام ، والمعتصم قد وظّف ابنة المأمون لارتكاب جريمة الاغتيال .

إذن كان التمهيد النبوي لقضية الإمام المهدي الإسلامية يشكّل نقطة أساسية ومَعْلَماً لا يمكن تجاوزه ؛ حرصاً على مستقبل الأمة الإسلامية التي قدّر لها أن تكون أُمّة شاهدة وأُمّة وسطاً يفيء إليها الغالي ويرجع إليها التالي حتى ترفرف راية ( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ) على ربوع الأرض ويظهر دينه الحق على الدين كلّه ولو كره الكافرون .

وقد ضحّى أهل البيتعليهم‌السلام لهذا المبدأ القرآني الذي بيّنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتمده أهل البيتعليهم‌السلام كخط عام وعملوا على تثبيته في نفوس المسلمين .

ويشهد لذلك ما ألّفه العلماء من كتب الملاحم التي اهتمّت بقضية الإمام المهديعليه‌السلام في القرنين الأوّل والثاني الهجريين بشكل ملفت للنظر .

فالإمام المهديعليه‌السلام قبل ولادته بأكثر من قرنين كان قد تلألأ اسمه وتناقلت الرواة أهدافه وخصائصه ونسبه وكل ما يمتّ إلى ثورته الإسلامية بصلة .

واستمرّ التبليغ لذلك طوال قرنين ونصف قرن من الزمن والمسلمون يسمعون كل ذلك ويتناقلون نصوصه جيلاً بعد جيل بل يعكفون على ضبطه والتأليف المستقلّ بشأنه .

والمتيقّن أنّ عصر الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام ومَن تلاهما من الأئمةعليهم‌السلام قد حفل بهذا التأكيد ؛ فقد أُحصيت نصوص الإمام الصادقعليه‌السلام بشأن المهدي فناهزت الـ (٣٠٠) نصّاً واستمرّ التأكيد على ذلك خلال العقود التي تلته .

فما هي إفرازات هذا الواقع الذي ذكرناه من الناحيتين السياسية والاجتماعية ؟ وما هي النتائج المتوقّعة لمثل هذه القضية التي لابد من إقرارها في نفوس المسلمين ؟ وهنا نصّ جدير بالدراسة والتأمّل قد وصلنا من الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام في هذا الشأن بالخصوص وفيه تأييده لهذه الحقيقة الكبرى .

١١٩

( قال أبو محمد بن شاذان ـ عليه الرحمة ـ حدّثنا أبو عبد الله بن الحسين ابن سعد الكاتبرضي‌الله‌عنه قال أبو محمدعليه‌السلام : قد وضع بنو أُمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلّتين : إحداهما : أنّهم كانوا يعلمون ( أنّ ) ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادّعائنا إيّاها وتستقرّ في مركزها .

وثانيهما : أنّهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أنّ زوال ملك الجبابرة الظلمة على يد القائم منّا ، وكانوا لا يشكّون أنّهم من الجبابرة والظلمة ، فسعوا في قتل أهل بيت سول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولّد القائم عليه‌السلام أو قتله ، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون ) (١) .

ومن هنا نفهم السرّ في تسرّع الحكّام للقضاء على الثلث الأخير من أئمة أهل البيت الاثني عشرعليهم‌السلام .

كما نفهم السرّ في تشديد الرقابة على تصرّفاتهم حتى قاموا بزرع العيون في داخل بيوتهم واستعانوا بشكل مكثّف بالعنصر النسوي لتحقيق هذه المراقبة الدقيقة والشاملة .

كما أنّنا يمكن أن نكتشف السرّ في أنّ الأئمة بعد الإمام الصادقعليه‌السلام لماذا لم يولدوا من نساء هاشميات يُشار إليهنّ بالبنان ؟ بل وُلدوا من إماء طاهرات عفيفات مصطفاة ، فلم يكن هناك زواج رسمي وعلني وعليه فلا يكون الإمام المولود ملفتاً للنظر سوى للخواص والمعتمدين من أصحاب أهل البيتعليهم‌السلام .

ــــــــــــــ

(١) منتخب الأثر : ٣٥٩ ط ثانية عن أربعين الخاتون آبادي ( كشف الحق ) .

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169