التقية في الفكر الاسلامي

التقية في الفكر الاسلامي33%

التقية في الفكر الاسلامي مؤلف:
المحقق: مركز الرسالة
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 169

التقية في الفكر الاسلامي
  • البداية
  • السابق
  • 169 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33878 / تحميل: 9193
الحجم الحجم الحجم
التقية في الفكر الاسلامي

التقية في الفكر الاسلامي

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفقهية المعبرة عن يسر هذا الدين العظيم وروحه السمحة ، ومن بين تلك القواعد الفقهية المتفق عليها ، قاعدة الضرر يُزال ، وقاعدةالضرورات تبيح المحظورات ، وغيرهما من القواعد الفقهية المتفرعة عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار )(١) وقد استمدوا هاتين القاعدتين من أُصول التشريع الإسلامي : قرآناً وسُنّة.

والسؤال المهم هنا ، هو : هل أنّ الشريعة الإسلامية أباحت للمُكْرَهِ أو المضطر كل محرم مهما كان بسبب ذلك الإكراه أو الاضطرار.

وبعبارة أُخرى : هل أن حديث الرفع المشهور عند جميع المذاهب الإسلامية(٢) يجري على كل اكراه ، أو أنّ له حدوداً ثابتة لا يمكن تجاوزها بحال؟

والواقع ، إن الإجابة المفصلة على هذا التساؤل المهم جداً في بيان حكم ما يُكرَه عليه ، لا يمكن أن تتم ما لم يُعرَف قبل ذلك نوع الضرر المهدد به المكرَه ، مع معرفة الآثار السلبية الناجمة عن تنفيذ المكرَه للنطق أو الفعل الذي أُكْرِه عليه.

بمعنى ، ان تكون هناك معرفة بحجم الضرر المهدد به المُكْرَه ، مع معرفة المحرّم الذي يراد تنفيذه كرهاً؛ لكي تجري عملية موازنة بين الضررين ، حتى يرتكب أخفهما حرمة في الشريعة.

وفي المسألة صور كثيرة جداً ، إذ قد يكون الإكراه ، على قتل مسلم ، أو

__________________

(١) اُنظر : الأشباه والنظائر / السيوطي : ١٧٣ القاعدة الرابعة ، طبعة دار الكتاب العربي.

واُنظر قاعدة لا ضرر / السيد السيستاني ١ : ١٥٨.

(٢) سيأتي ذكر الحديث في أدّلة التقيّة من السُنّة النبوية.

٢١

زنا ، أو قطع بعض الأطراف ، أو شرب خمر ، أو قذف مؤمن ، أو شهادة زور ، أو سرقة مال ، ونحوها.

وقد يكون التهديد والوعيد ، بالقتل ، أو التعذيب ، أو السجن ، أو النفي ، أو الإهانة ، أو التشهير ، أو الغرامة المالية ، أو هتك العرض ، أو تهديم الدار ، أو الفصل من الوظيفة ، وغيرها.

وهذه الصور الكثيرة يمكن جمعها في ثلاث صور لا رابع لها وهي :الصورة الاُولى : ان يكون الضرر المهدد به المُكْرَه تافهاً وحقيراً ، بينما يكون المحرّم المراد ارتكابه عظيماً وجسيماً.

الصورة الثانية : عكس الاُولى.

الصورة الثالثة : يتساوى فيها الضرران.

وهذا مع قربه من الإجابة على التساؤل السابق إلاّ إنّه لا يكفي في ذلك؛ لوجود جوانب أُخر ذات صلة وثقى بتحديد الجواب ، ويأتي في مقدمتها ، اختلاف الناس وتفاوت رتبهم ودرجاتهم ، فالإمام ليس كالمأموم ، والرئيس يختلف عن المرؤوس ، والعالم ليس كالجاهل ، والفقيه ليس كالمقلد ، والنابه الذكي ليس كالخامل الغبي.

ولاشك ان هذا الاختلاف في رتب الناس ودرجاتهم يؤثر سلباً أو إيجاباً في تقدير موقف المكرَه نفسه أولاً ، مع تأثيره المباشر أيضاً في تقدير الأفعال أو الأقوال المطلوبة منه ثانياً ، وفي تقدير الاُمور المخوف بها ثالثاً.

إذ قد (يكون الشيء اكراهاً في شيء دون غيره ، وفي حق شخص دون

٢٢

آخر)(١) .

فقد يرى بعضهم في نوع الضرر المهدد به ما يبرر له ارتكاب المحرم؛ لأجل التخلص من ذلك الضرر بأية وسيلة.

ويرى الآخر في ارتكاب المحرم البسيط عند الالجاء القهري إليه خطراً جسيماً على العقيدة الإسلامية برمتها ، بناء على موقعه الديني الرفيع مثلاً ، فتراه يقدم على التضحية بكل غالٍ ونفيس ولا يتقي من أحد.

هذا زيادة على أن الاختلاف المذكور له تأثيره المباشر في مسألة التخلص من التقيّة باستخدام التورية ، فيخدع بها المُكرِه ويخلّص نفسه بها من شرّه.

دور القواعد الفقهية في بيان حكم ما يُكرَه عليه :

حاول الفقهاء ان يجدوا الإجابة العامّة الشافية للتساؤل السابق من خلال قواعدهم الفقهية المسلّمة الصحة الخاصة بالضرر وكيفية التعامل معه وازالته ، وسوف نشير إلى أهم تلك القواعد على النحو الآتي :

أوّلاً ـ قاعدة يرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما :

صلة القاعدة بالإكراه والتقيّة :

تصب هذه القاعدة في رافد الإجابة على التساؤل السابق حول حديث الرفع؛ لأنّها تفيدنا في معرفة حكم ما يكره عليه الإنسان ، وقد مرّ ورود لفظ (الإكراه) في الحديث صراحة.

__________________

(١) الأشباه والنظائر / السيوطي : ٣٧٠.

٢٣

ويتوقف هذا على بيان صلة القاعدة بالإكراه والتقيّة ، إذ قد يقع الإنسان بين ضررين وهو مضطر إلى أحدهما ، فيرتكب أخفهما لدفع أعظمهما بموجب القاعدة وحينئذ لا إكراه في المقام ولا تقية من أحد!!

ولكن القاعدة لم توضع لأجل هذا فحسب ، بل هي عامة تنطبق على موارد الضرر كافة ومن بينها الضرر الناتج بفعل الإكراه الذي لا خلاص منه إلاّ بالتقيّة شأنها بذلك شأن القواعد الفقهية الاُخرى الآتية الخاصة بالضرر.

وتوضيح ذلك يتم من خلال معرفة أقسام الضرر ، كالآتي :

أقسام الضرر تبعا لأسبابه :

يقسم الضرر تبعا للأسباب المؤدّية إلى حصوله إلى ثلاثة أقسام ، وهي :

١ ـ الضرر الناتج من نفس المتضرر ، وهو ما يعبر عنه بالضرر الحاصل من سوء الاختيار كموارد تعجيز الإنسان نفسه مثلاً.

٢ ـ الضرر الناتج بفعل العامل الطبيعي كالزلازل ونحوها.

٣ ـ الضرر الناتج من شخص آخر ، ويعبر عن الضررين الأخيرين بالضرر الحاصل من غير سوء الاختيار.

ومن الواضح ان الإكراه لا يكون إلاّ من الغير كما تقدم في أركانه ، وهذا يعني صلة الضرر الأخير بالإكراه إذا كان من ظالم؛ لأنّ الضرر الحاصل من الغير قد يكون بإكراه وقد لا يكون. على أن بعض فقهائنا الأعلام أدخل موارد التقيّة حتى في الضرر الناتج عن سوء الاختيار ، كما نجده صريحاً في تقريرات بحث السيد الخوئي الأصولية(١) ، إذ ورد فيها القول بصحة تعجيز الإنسان نفسه في موارد التقيّة. وبما ان القاعدة لم تختص بمورد ضرري معين كما هو حال القواعد الفقهية الاُخرى ، بل ناظرة إلى مطلق الضرر

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه / محمد اسحاق الفياض ٤ : ٢٤٣ ، مبحث الأجزاء ، في مسألة حكم الأضرار بسوء الاختيار.

٢٤

فتكون صلتها بالإكراه والتقيّة واضحة جداً.

وهذه القاعدة الفقهية لا خلاف في صحتها عند جميع الفقهاء ، وهي منسجمة تماماً مع روح التشريع الإسلامي ومرونته ، وجارية على وفق مقتضيات العقل السليم ، فهي على ما يقول السيد الخوئيقدس‌سره : (من القضايا التي قياساتها معها ، فلا تحتاج إلى برهان أو مؤنة الاستدلال)(١) .

وفيها يقول الندوي : (إذا اجتمع للمضطر محرّمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة ، وجب تقديم أخفهما مفسدة وأقلهما ضرراً ، لأن الزيادة لا ضرورة إليها فلا يباح)(٢) .

وقال الزيلعي : (الأصل في جنس هذه المسائل : إنّ من ابتُلِيَ ببليّتين ، وهما متساويتان يأخذ بأيهما شاء ، وإن اختلفتا يختار أهونهما؛ لأنَّ مباشرة الحرام لا تجوز إلاّ للضرورة ، ولا ضرورة في حق الزيادة)(٣) .

وفي هذا الصدد ، يقول الغزالي : (وارتكاب أهون الضررين يصير واجباً بالإضافة إلى أعظمهما ، كما يصير شرب الخمر واجباً في حق من غص بلقمة أي : ولم يجد ماءً ، وتناول طعام الغير واجباً على المضطر في المخمصة ، وإفساد مال الغير ليس حراماً لعينه ، ولذلك لو اُكْرِه عليه بالقتل وجب أو جاز)(٤) .

وقد صيغت هذه القاعدة بألفاظ أُخرى في كتب القواعد الفقهية وغيرها ، ومن تلك الصياغات ما تجده في شرح القواعد الفقهية إذ وردت

__________________

(١) اُنظر : مصباح الاُصول٢ : ٥٦٢ في التنبيه السابع من تنبيهات قاعدة لا ضرر ، المسألة الاُولى.

(٢) القواعد الفقهية / علي أحمد الندوي : ٢٢٥ ، دار القلم ، دمشق / ١٤١٢ هـ ، وأشار في هامشه إلى قواعد ابن رجب الحنبلي : ٢٤٦ القاعدة رقم ١١٢.

(٣) الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي : ٨٩.

(٤) المستصفى / الغزالي ١ : ٨٩ دار الكتب العلمية / ١٤٠٣ هـ.

٢٥

بهذه الصيغة : (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما)(١) وهي نفسها عند ابن نجيم الحنفي(٢) ونظيرها عند آخرين(٣) .

هذا ، وقد فرّع فقهاء العامّة على هذه القاعدة جملة من الفروع ، نذكر منها ما ذكره الشيخ الزرقا من فروع هذه القاعدة وهي :

أ ـ تجويز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على انكاره ضرر أعظم.

ب ـ تجوز طاعة الأمير الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شرّ أعظم(٤) .

ثانيا ـ قاعدة الضرورات تقدّر بقدرها :

صلة القاعدة بالاكراه والتقيّة :

إنّ من أوجه الاتفاق بين الضرورة والاكراه ـ كما سيأتي ـ هو ان مفهوم الضرورة العام يعني تحققها بمجرد حلول خطر لا يندفع إلاّ بمحظور ، وعليه سيكون الاكراه داخلاً بهذا المفهوم العام.

واذا اتضحت صلة الضرورة بالاكراه اتضحت صلتها بالتقيّة أيضاً على أن في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام ما يؤكد هذه الصلة أيضاً.

ففي حديث الإمام الباقرعليه‌السلام : «التقيّة في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به »(٥) .

__________________

(١) شرح القواعد الفقهية / أحمد بن محمد الزرقا : ٢٠١ القاعدة رقم ٢٨ ، ط٢ ، دار القلم ، دمشق / ١٤٠٩ هـ.

(٢) الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي : ٨٩.

(٣) كالغزالي في إحياء علوم الدين ٣ : ١٣٨ ، والقرافي المالكي في الفروق ٤ : ٢٣٦ (الفرق الرابع والستون والمائتان). والفرغاني الحنفي في فتاوى قاضيخان ٣ : ٤٨٥ ، مطبوع بهامش الفتاوى الهندية.

(٤) شرح القواعد الفقهية : ٢٠١ في شرح القاعدة رقم ٢٨.

(٥) اُصول الكافي ٢ : ٢١٩ / ١٣ باب التقيّة ، من كتاب الإيمان والكفر.

٢٦

وما تعنيه هذه القاعدة ، هو أن ما تدعو إليه الضرورة من المحظورات إنّما يرخّص منه القدر الذي تندفع به الضرورة فحسب ، فإذا اضطر الإنسان لمحظور لأي سبب مسوّغ كالاكراه ، أو المخمصة ونحوهما ، فليس له أن يتوسع في المحظور ، بل يقتصر منه على قدر ما تندفع به الضرورة فقط.

ومن ثمرات هذه القاعدة كما صرّح به الشيخ الزرقا : «إنّه من أُكْرِهَ على اليمين الكاذبة فإنّه يُباح له الإقدام على التلفظ مع وجوب التورية والتعريض فيها إنْ خطرت على باله التورية والتعريض»(١) .

وهناك قواعد أُخرى تصب في هذا الاتجاه أيضاً ، سنكتفي بذكرها دون شرحها لأجل الاختصار ، وهي :

ثالثا ـ قاعدة الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف :

وقد ذهب الشيخ الأنصاري إلى أبعد من هذه القاعدة في حال التقيّة ، إذ جوّز التقيّة للمكره في صورة إزالة الضرر عن نفسه حتى مع كون الضرر على الغير أشد ما لم يصل إلى حد القتل ، فقال في حديثه عن قاعدة لاضرر الآتية : (اتفقوا على أنه يجوز للمكره الاضرار على الغير بما دون القتل ، لأجل دفع الضرر عن نفسه ، ولو كان أقل من ضرر الغير)(٢) .

وهذا مالم يوافقه عليه جملة من كبار الفقهاء المعاصرين آخذين بهذه القاعدة(٣) .

رابعا ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار :

وفي هذه القاعدة قسّم السيد الخوئيقدس‌سره ، والسيد السيستاني الضرر إلى

__________________

(١) شرح القواعد الفقهية / أحمد بن محمد الزرقا : ١٨٨ في شرح القاعدة رقم ٢١.

(٢) رسائل الشيخ الأنصاري : ٢٩٨ ، في آخر البحث عن أصل الاشتغال.

(٣) القواعد الفقهية / ناصر مكارم الشيرازي ١ : ٨٩ في قاعدة التقيّة. واُنظر : مصباح الاُصول (تقريراً لبحث السيد الخوئي) ٢ : ٥٦٢ ، والتنبيه السابع من تنبيهات قاعدة لا ضرر.

٢٧

أنواعه المتقدمة مع بيانهما وأسبابه التي ذكرناها سابقاً ، ومن مراجعتها تعلم صلة هذه القاعدة بالتقيّة فضلاً عن اتفاقهم على ادخال الضرر الناتج عن اكراه في موجب هذه القاعدة.

خامسا ـ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات :

وهذه القاعدة متفرعة عن قاعدة لا ضرر المتقدمة كما نجده في قاعدة لا ضرر للسيد السيستاني وغيره ، ومن أوضح تطبيقاتها عندهم جواز التلفظ بكلمة الكفر في حال الاكراه عليها(١) .

ولا يخفى بان ما جوّزوه لا يكون إلاّ في حال التقيّة ، وهذا هو معنى صلة القاعدة بموضوع البحث ، وهو التقيّة ، على أن الشيخ الانصاري صرّح في بحث التقيّة بما يفيد المقام جداً وسوف نذكر نص كلامه في الحديث عن صلة حديث الرفع بالتقيّة ، فلاحظ.

وبما أنّ صلة هذه القواعد بالتقيّة صلة وثيقة جداً ، بل هي صلة الضرورة بالاكراه ، ومن هنا لا بدّ من التعرض للعلاقة القائمة بين الضرورة والاكراه ، تحت عنوان :

الفرق والاتفاق بين الضرورة والاكراه :

أولاً ـ الفرق بين الضرورة والاكراه :

ونكتفي هنا بفارقين مهمّين وهما :

الفرق الأوّل ـ اختلافهما في المسبب :

وذلك أن في الاكراه يُدفع المُكرَه إلى إتيان المحظور من قبل شخص آخر بقوة الاكراه.

وأما في الضرورة فلا يدفع المرء إلى ارتكاب المحظور أحد ، وإنما

__________________

(١) قاعدة لا ضرر / السيد السيستاني ١ : ١٥٨. والأشباه والنظائر / السيوطي : ٩٢ ٩٣.

٢٨

يكون المرء المضطر في ظرف خاص صعب يقتضي الخروج منه ارتكاب المحظور؛ لكي ينقذ نفسه أو عائلته من الهلاك المحتم ، كالاضطرار إلى أكل لحم الميتة في حالة الجوع الشديد مع عدم وجود ما يؤكل غيره.

الفرق الثاني ـ اختلافهما في الحكم :

ويتّضح هذا الفرق من خلال معرفتنا بأنّ امتناع المكرَه عن تنفيذ ما أُكرِه عليه قد يكون في بعض صور الإكراه واجباً عليه كما في الإكراه على القتل مثلاً.

وأما في حالة الاضطرار إلى ارتكاب المحرم لسد الرمق بعد الوقوع في مخمصة فالامتناع عنه حرام يعاقب عليه.

ثانياً : الاتفاق بين الضرورة والإكراه :

يمكن القول بأنّ الفرق الأخير يُعدُّ من حيثية أُخرى اتفاقاً بين الضرورة والإكراه ، لأنَّ كلاً منهما يهدف إلى صيانة النفوس من التلف.

وهذا لا يعني انعدام الصلة بينهما إلاّ في هذه الحيثية ، بل هناك جوانب اتفاق بين الضرورة والإكراه ، وهي :

١ ـ اتّفاقهما في جهة الفاعل :

لأنّ الفاعل فيهما لا يجد سبيلاً للخلاص من الشر المحدق به غير ارتكاب المحظور.

٢ ـ اتّفاقهما في من تترتّب عليه الآثار :

وهو هاهنا واحد ، وهو الفاعل سواءً كانت الآثار سلبا عليه كما في حال امتناعه عن ارتكاب المحظور عن ضرورة أو إكراه ، أو إيجابا له كما لو ارتكبه بسبب أيٍّ منهما كما هو واضح.

٢٩

٣ ـ اتّفاقهما في إباحة بعض المحظورات الشرعية :

ومن نقاط الاتفاق الواضحة بينهما هو أن الضرورة تجعل المحظور مباحاً كما مرَّ في قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) ، وكذلك الحال مع الاكراه ، إذ يبيح ارتكاب بعض المحرمات ، ومنها المساس بحقوق الآخرين.

وعلى هذا الوجه يدخل الاكراه في مفهوم الضرورة العام الذي يعني تحققها بمجرد حلول خطر لا يندفع إلاّ بمحظور(١) .

ومن هنا يتبين عدم الفرق بينهما من جهة الملاك ، لأنّ ملاكهما واحد ، وهو رفع الضرر الأهم بارتكاب ترك المهم(٢) .

ولهذا علّل بعض فقهاء القانون الوضعي انتفاء المسؤولية في حالة الضرورة بفكرة الاكراه؛ لأنَّ من يكون في حالة ضرورة هو مكره على الفعل الذي يخلصه منها ، وكثير منهم قرن أحدهما بالآخر(٣) .

وبهذا العرض الموجز عن الاكراه وصلته بالضرورة والتقيّة ، نعود إلى الحديث عن التقيّة لنتعرف أولاً على أصولها ومصادرها التشريعية عبر بيان أدلتها من القرآن الكريم والسُنّة المطهّرة ، ودليل العقل والإجماع.

__________________

(١) راجع : الضرورة في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي / الدكتور محمد محمود عبدالعزيز الزيني : ٥٩ ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، الاسكندرية / ١٩٩٣ م.

(٢) راجع القواعد الفقهية / ناصر مكارم الشيرازي ٢ : ١٩.

(٣) راجع الإحكام العامة في قانون العقوبات / الدكتور السعيد مصطفى السعيد : ٤١٧ ، وشرح قانون العقوبات القسم العام / الدكتورمحمود المصطفى : ٣٢٦ نقلاً عن الضرورة للدكتور محمد محمود الزيني : ٢٢٣.

٣٠

الفصل الثاني

أدلة التقيّة وأصولها التشريعية

المبحث الأول

أدلة التقيّة من القرآن الكريم

لا شكّ أنَّ من قال بالقرآن الكريم صدَق ، ومن حكم به عَدَل ، ومن عمل به أُجِر ، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم.

وكيف لا ، وهو يهدي للتي هي أقوم ، مع كونه بياناً للناس وهدىً وموعظة للمتقين؟

ومع هذه الحقيقة الناصعة التي طفحت بها آيات الكتاب ، وأكدتها السُنّة النبوية بأعظم التأكيد ، إلاّ إنّك قد تجد من يسيء إلى المفاهيم القرآنية الواضحة فيه أبلغ الإساءة كمفهوم التقيّة ، فيدّعي أنها من النفاق! وهذا يكشف عن كون اتخاذ القرار في التخطيط لأية مسألة فكرية تتصل بعقيدة المسلمين ، أو الأحكام الشرعية وفهمها فهماً دقيقاً لا يناط أبداً بغير المخلص الكفوء ، خشيةً من الوقوع في الانحراف الفكري عن قصد أو بدون قصد.

٣١

والعجب إنّك ترى تلك الإساءة ممن يدّعي العلم والفهم وتلاوة القرآن الكريم ، وكأنه لم يمر في تلاوته أبداً على ما سنتلوه عليك من آيات بينات وما قاله المفسرون بشأنها.

إنَّ الآيات القرآنية الدالة على اليسر ونفي الحرج وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة ، أو المشيرة إلى أنّ المُكرَه أو المضطر إلى المحرم لا جرم عليه ، غير خافية على أحد ، ولا ينكرها إلاّ الجاهل المتعسف أو المعاند الصلف ، وكلامنا ليس مع هذا الصنف ، بل مع من يعي أن نبينا الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بالحنيفية السمحة ثم يشتبه عليه أمر التقيّة.

ونحن إذ نتعرض هنا للأدلة القرآنية الدالة على مشروعية التقيّة ، نود التذكير بأن الدليل الواحد المعتبر الدال على صحة قضية يكفي لإثباتها ، فكيف لو توفّرت مع إثباتها أدلة قرآنية كثيرة ، لم يُختَلَف في تفسيرها؛ لأنّها محكمة يُنبئ ظاهرها عن حقيقتها ولا مجال لمتأوّلٍ فيها؟

ومع هذا سوف لا نكتفي بدليل قرآني واحد ، بل سنذكر أربع آيات مباركة ، من بين الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على مشروعية التقيّة.

والسبب في هذا الحصر والانتقاء ، إنّا وجدنا القرآن الكريم قد تعرض إلى بيان تقية المؤمنين في الاُمم السالفة بآيتين صريحتين ، كما وجدناه قد أمضى تلك التقيّة بتشريعاته الخالدة في أكثر من آية ، انتقينا منها آيتين فقط ، لما فيهما من وضوح تام حول امتداد ظل ذلك التشريع العظيم إلى وقت مبكر من عمر الرسالة الخاتمة.

ومن هنا قسّمنا الأدلة المذكورة على قسمين : أحدهما ، ما اتصل بالتقيّة قبل الإسلام ، والآخر : ما اتصل بها عند انطلاق دعوة الحق من البيت

٣٢

العتيق ، واليك التفصيل :

أولاً : الأدلة القرآنية الدالة على التقيّة قبل الإسلام.

الآية الاُولى : حول تقية أصحاب الكهف.

قال تعالى : «وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبثْنَا يَوماً أو بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرَقِكُمْ هذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزكى طَعَاماً فلْيأتِكُمْ بِرِزقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً * إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيكُمْ يِرْجُمُوكُمْ أوْ يُعِيدُوكُمْ في مَلَّتِهم وَلَن تُفلِحُوا إذاً أبداً »(١) .

في هاتين الآيتين المباركتين أصدق تعبير على أنّ التقيّة كانت معروفة وجائزة في شرع ما قبلنا (نحن المسلمين) وهي صريحة في تقية أصحاب الكهف رضي اللّه تعالى عنهم ، وقد أفاض المفسرون في بيان قصتهم وكيف أنّهم كانوا في ملّة كافرة وأنهم كانوا يكتمون إيمانهم قبل أن يدعوهم ملكهم إلى عبادة الأصنام ، فلجأوا إلى الكهف بدينهم(٢) .

ما يشكل به من القرآن الكريم على عدم تقيّتهم :

قد يقال بأنَّ اللّه عزَّ وجلَّ أورد من نبأهم ما يدل على عدم تقيتهم ، كقوله تعالى : «وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِم إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٩ ـ ٢٠.

(٢) راجع : تفصيل قصتهم في مجمع البيان / الطبرسي٥ : ٦٩٧ ـ ٦٩٨. وزاد المسير / ابن الجوزي ٥ : ١٠٩ ـ ١١٠. والجامع لأحكام القرآن / القرطبي١٠ : ٣٥٧ ـ ٣٥٩. وتفسير الطبري ١٥ : ٥٠. والدر المنثور / السيوطي٥ : ٣٧٣. والتفسير الكبير / الفخر الرازي٢١ : ٩٧. وتفسير أبي السعود٦ : ٢٠٩. وقد وردت قصتهم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة وغيرهم.

٣٣

لَنْ نَدْعُوا مِن دُونِهِ إلهاً لَقَدْ قُلْنَا إذاً شَطَطاً »(١) وهذا القول دالٌ على عدم تقيتهم.

وقولهم : «رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالأرضِ لَنْ نَدْعُوا مِنْ دُونِهِ إلهاً » ، هو قول من لا يرى التقيّة أصلاً ، فأين تقية أصحاب الكهف إذن؟!

جواب الإشكال :

أوّلاً ـ من القرآن الكريم :

وبيان ذلك أنَّ ما صدر عنهم من أقوال معبِّرة عن عدم تقيتهم إنّما صدر بعد انكشاف أمرهم ، إذ كانوا قبل ذلك يكتمون إيمانهم عن ملكهم كما في لسان قصتهم ، على أن في القصة ذاتها ما يعبر بوضوح عن إيصائهم لمن بعثوه بعد انتهاء رقدتهم بالتقيّة ، كما يفهم من عبارة «وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً ».

ثانيا ـ من حديث الإمام الصادقعليه‌السلام الصريح بشدّة تقيّتهم :

ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف ، إنْ كانوا ليشهدون الأعياد ، ويشدّون الزنانير ، فأعطاهم اللّه أجرهم مرتين »(٢) .

إذن ، تقية أصحاب الكهف لا مجال لانكارها في جميع الأحوال سواء قبل تصميمهم على ترك المداراة مع القوم واللجوء إلى الكهف ، أو بعد انتهاء رقدتهم ، ولكن الحق ، أن تقيتهم الاُولى كانت قاسية على نفوسهم

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٤.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٧٤ ـ ١٧٥ / ١٤ و ١٩ كتاب الإيمان والكفر باب التقيّة ، المكتبة الإسلامية ، طهران / ١٣٨٨ هـ.

٣٤

لما فيها من مجاهدة نفسية عظيمة؛ لا سيّما إذا علمنا أنهم من أعيان القوم ومن المقربين إلى الملك الكافر دقيانوس قبل أن ينكشف أمرهم.

ولا ريب بان تقية المسلم من المسلم لا تكون مثل تقية المسلم من الكافر ، بل وما يُكرَه عليه المسلم من كافر مرة واحدة أو مرات لا يُقاس بمعاناة الفتية الذين آمنوا بربهم ، لأنهم قضوا شطراً من حياتهم بين قوم عكفوا على عبادة الأصنام والأوثان.

وبهذا يتّضح الوجه في شدّة تقيّتهم كما مرّ عن الإمام الصادقعليه‌السلام ؛ إذ كيف لا يشدّون الزنّار على وسطهم وهم عاشوا في أوساطهم؟ وكيف لا يشهدون أعيادهم وهم من أعيانهم؟

ثالثا ـ من تصريح علماء العامّة بتقيّتهم :

وهو ما ذهب إليه عمدة المفسّرين من العامّة كما يظهر من :

١ ـ تصريح الرازي بتقيّتهم :

قال الفخر الرازي : (وقوله : «وَلْيَتَلَطَّفْ » أي : يكون ذلك في سر وكتمان ، يعني دخوله المدينة وشراء الطعام)(١) .

٢ ـ تصريح القرطبي بتقيّتهم :

وأوضح من هذا ما صرّح به القرطبي المالكي بشأن توكيل أصحاب الكهف لأحدهم بشراء الطعام مع إيصائه بالتقيّة من القوم الكافرين باخفاء الحقيقة عنهم بالتكتم عليها ، فقال ما هذا نصه :

(في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنّما كانت مع التقيّة خوف ان يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من خوف على أنفسهم ، وجواز توكيل

__________________

(١) التفسير الكبير / الفخر الرازي ٢١ : ١٠٣.

٣٥

ذوي العذر متفق عليه)(١) .

الآية الثانية : حول تقية مؤمن آل فرعون.

قال تعالى : «وقالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بالبَيِّناتِ مِن رَبِّكُم وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصبكُمْ بَعْضُ الّذي يَعِدُكُمْ إنَّ اللهَ لا يَهدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ »(٢) .

هذه الآية المباركة هي الاُخرى تحكي مشروعية التقيّة قبل بزوغ شمس الإسلام بقرون.

وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية على التقيّة سوف نذكر طائفة من أقوال المفسرين بشأنها؛ ليُعلم اتفاقهم على مشروعية التقيّة قبل الإسلام ، وسيأتي تصريحهم ببقائها إلى يوم القيامة ، كالآتي :

١ ـ ما قاله الماوردي بشأن تقيّة مؤمن آل فرعون :

نقل الماوردي في تفسيره عن الحسن البصري ، أنّ هذا الرجل كان مؤمناً قبل مجيء موسىعليه‌السلام ، وكذلك امرأة فرعون ، فكتم إيمانه.

وأورد عن الضحاك ، بأنّه كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ، ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه(٣) .

ولا شكّ أنَّ ما يعنيه كتمان الإيمان هو التقيّة لا غير؛ لأنه إخفاء أمر ما خشية من ضرر إفشائه ، والتقيّة كذلك.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٠ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٢٨.

(٣) النكت والعيون / الماوردي ٥ : ١٥٣ ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

٣٦

٢ ـ ما قاله ابن الجوزي :

أورد ابن الجوزي عن مقاتل بشأن مؤمن آل فرعون : (إنّه كتم إيمانه من فرعون مائة سنة)(١) .

لقد بيّن لنا القرآن الكريم قبل الآية المذكورة السبب الذي دفع مؤمن آل فرعون إلى قوله المذكور ، وهو رغبة فرعون بقتل موسىعليه‌السلام ، قال تعالى : «وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُوني أقتُل موسى وَليَدَعُ رَبَّهُ إنِّي أخَافُ أنْ يُبدِّلَ دِينَكُمْ أوْ أن يُظهِرَ في الأرضِ الفَسَادَ »(٢) .

٣ ـ ما قاله الرازي :

وهنا قد يقال كما في تفسير الرازي : (إنّه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنّه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون؟).

وقد بيّن الرازي أن في المسألة قولين :

الأول : إنّ هذا المؤمن لما سمع قول فرعون : «ذَرُوني أقْتُلْ مُوسى »لم يصرح بأنه على دين موسىعليه‌السلام بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، مبيّناً ان المصلحة تقتضي ترك قتله ، لأنه لم يرتكب ذنباً وإنما كان يدعو إلى اللّه عزَّ وجلَّ ، وهذا لا يوجب القتل.

الثاني : إنّه كان يكتم إيمانه ، ولما علم بقول فرعون المذكور أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق(٣) .

__________________

(١) زاد المسير / ابن الجوزي ٧ : ٣١٢.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٢٦.

(٣) التفسير الكبير / الرازي ٢٧ : ٦٠.

٣٧

على أن تقيته واضحة جداً حتى على القول الثاني؛ لأنّهرضي‌الله‌عنه كان قد أظهر إيمانه وشافه فرعون بالحق بعد أن كتمه بتصريح القرآن الكريم ، وكتمان الحق وإظهار خلافه هو التقيّة بعينها.

ثناء القرآن على مؤمن آل فرعون :

وهذا الرجل العظيم لم يصفه القرآن الكريم بالنفاق ، ولا بالمحتال المخادع ، بل وصفه بأشرف الصفات وأعظمها عند اللّه عزَّ وجل ، صفة الإيمان.

وكيف كان ، فقد أخرج المتقي الهندي في كنز العمال ، عن ابن النجار ، عن ابن عباس ؛ وعن أبي نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن ابن أبي ليلى مرفوعاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون الذي قال : «أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ »والثالث : علي ابن أبي طالب ، وهو أفضلهم »(١) .

وفي تفسير المحرر الوجيز : قال الجوهري : (وقد أثنى اللّه على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسرّه ، فجعله اللّه تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر)(٢) .

وفي تفسير القرطبي في تفسيره الآية المذكورة قال : (إن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه

__________________

(١) كنز العمال / المتقي الهندي ١١ : ٦٠١ / ٣٢٨٩٧ و ٣٢٨٩٨ ، ط٥ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت. وفي حاشية كشف الأستار / محمد حسين الجلال : ٩٨ ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت / ١٤٠٥ هـ ، قال : (وحسّنه السيوطي).

(٢) المحرر الوجيز / ابن عطية ١٤ : ١٣٢ ، تحقيق المجلس العلمي بفاس / ١٤٠٧ هـ.

٣٨

فلا يكون مؤمناً بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقيّة والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين اللّه تعالى ، إنما تمنعه التقيّة من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنّما يشترط سماع الغير له ؛ ليكف عن نفسه وماله)(١) .

وبالجملة ، فإنّ جميع المفسرين الذين وقفت على تفسيرهم اعترفوا بتقية مؤمن آل فرعون ، ولولا خشية الاطالة لأوردنا المزيد من أقوالهم ، ويكفي أن الخوارج الذين زعم بعضهم بأنهم ينكرون التقيّة قد صرّح أباضيتهم بالتقيّة في تفسيرهم لهذه الآية :

قال المفسر الاباضي محمد بن يوسف اطفيش عن الرجل المؤمن : (فمعنى كونه من آل فرعون أنه فيهم بالتقيّة مظهراً أنّه على دينهم ، وظاهر قوله «ياقَوم » أنّه منهم إلى أن قال واستعمل الرجل تقية على نفسه ، ما ذكر اللّه عزَّ وجلَّ عنه بقوله : «وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيهِ كَذِبُهُ »)(٢) .

ثانياً : الأدلة القرآنية الدالة على امضاء التقيّة في الإسلام :

الآية الاُولى : حول جواز الكفر باللّه تقيةً :

ويدل عليه قوله تعالى : «مَنْ كَفَرَ باللهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئنٌ بالإيمانِ وَلكِن مَنْ شَرَحَ بالكُفرِ صَدْرَاً فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مَنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ »(٣) .

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٥ : ٣٠٧.

(٢) تيسير التفسير / محمد بن يوسف بن اطفيش الأباضي ١ : ٣٤٣ ـ ٣٤٥.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١٠٦.

٣٩

نزول الآية بمكة بشأن عمار بن ياسر وأصحابه :

نزلت هذه الآية المباركة باتفاق جميع المفسرين في مكة المكرمة وفي البدايات الاُولى من عصر صدر الإسلام ، يوم كان المسلمون يعدون بعدد الأصابع ، ومن مراجعة ما ذكروه بشأن هذه الآية يُعلم أن التقيّة قد أُبيحت للمسلمين أيضاً في بدايات الإسلام الأولى ، وانها أُبقيت على ما كانت عليه في الأديان السابقة ولم تنسخ في الإسلام ، بل جاء الإسلام ليزيدها توكيداً ورسوخاً لكي يتترس بها أصحاب الدين الفتي أمام طغيان أبي سفيان وجبروت أبي جهل كما تترس بها من قبل أهل التوحيد أمام ظلم المشركين فيما اقتص خبره القرآن الكريم ، وصرّح به سائر المفسرين.

فقد أخرج ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود ما يؤكد نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين أخذهم المشركون في مكة وأذاقوهم ألوان العذاب حتى اضطروا إلى موافقة المشركين على ما أرادوا منهم.

وقد علّق الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي على هامش حديث ابن ماجة المذكور ، بقوله (أي : وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقيّة في مثل هذه الحال جائزة ، لقوله تعالى : «إلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُه مُطمئنٌ بالإيمان »(١) .

الآية أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه :

وقال الجصاص الحنفي في تفسير الآية المذكورة : (هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه ، والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ٥٣ ، ١٥٠ باب ١١ في فضل سلمان وأبي ذر والمقداد ، دار إحياء الكتب العربية ، وانظر التعليق عليه في الهامش رقم (١) من الصفحة المذكورة.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

٤ ـ( وَالنّازِعاتِ غَرْقاً * وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً * وَالسّابِحاتِ سَبْحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرجُف الراجِفَة * تَتْبَعُها الرّادِفَة ) (١)

وهانحن نبحث عن أقسام سورة الصافّات والذاريات في فصلَين مُتتالين ، ونُحيل بحث أقسام سورة المُرسَلات والنازعات إلى محلّها ، حسب ترتيب السور

وقبل الخوض في تفسير الآيات ، نُقدِّم شيئاً من التوحيد في التدبير :

إنّ من مراتب التوحيد في الربوبيّة التدبير ، بمعنى أنّه ليس للعالم مُدبِّر سواه ، يقول سبحانه :( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (٢)

فصَدر الآية يُركّز على حصر الخالق في اللّه ، كما يُركِّز على أنّه هو المُدبّر ، وأنّه لو كان هناك سبب في العالم ( شفيع ) فإنّما هو يؤثَر بإذنه سبحانه ، فاللّه هو الخالق وهو المُدبِّر ، قال سبحانه :( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجرِي لأجَلٍ مُسمّى يُدبِّرُ الأمْرَ يُفصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون ) (٣)

ويظهر من الآيات الكريمة أنّ العرب في العصر الجاهلي كانوا موحّدين في الخالقيّة ، ولكن مشركين في الربوبيَّة والتدبير ، وكانوا ينسبون التدبير إلى الآلهة المكذوبة ، ولذلك قرَّر سبحانه في الآيتين كلتا المرتبتين من التوحيد ، وأنّه خالق ، وأنّه مُدبِّر ، غير أنّ معنى التدبير في التوحيد ليس عزل العِلل والأسباب المادِّية والمجرَّدة في تحقّق العالم وتدبيره ، بل المراد أنّ للكون مُدبِّراً قائماً بالذات ، مُتصرفاً كذلك ، لا يشاركه في التدبير شيء ، ولو كان هناك مُدبِّر وحافظ ، فإنّما هو يُدبِّر بأمره وإذنه

ــــــــــــــــ

(١) النازعات : ١ـ٧

(٢) يونس : ٣

(٣) الرعد : ٢

٨١

فعندما يُحصر القرآن الكريم التدبير في اللّه ، يريد التدبير على وجه الاستقلال ، أي : مَن يُدبِّر بنفسه غير مُعتمِد على شيء ، وأمّا المُثبّت لتدبير غيره ، فالمراد منه أنّه يُدبِّر بأمره وإذنه ، وحوله وقوَّته ، على النحو التَبَعِي ، فكلّ مُدبِّر في الكون فهو مَظْهرُ أمره ومُنفِّذ إرادته ، وقد أوضحنا ذلك في الجزء الأوّل من مفاهيم القرآن

ويظهر من غير واحد من الآيات ، أنّ الملائكة من جنوده سبحانه ، وأنّها وسائط بين الخالق والعالَم ، وأنّهم يقومون ببعض الأعمال في الكون بأمر من اللّه سبحانه ، وستتَّضح لك أعمالهم في إدارة الكون في تفسير هذه الآية

إنّ للعلاّمة الطباطبائي كلاماً في كون الملائكة وسائط بينه سبحانه و بين الأشياء ، حيث يقول : الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بِدءاً وعَوداً ، على ما يعطيه القرآن الكريم ، بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق المادِّية في العالم المشهود ، قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده

أمّا في العود ، أعني : حال ظهور آيات الموت ، وقبض الروح ، وإجراء السؤال ، وثواب القبر وعذابه ، وإماتة الكلّ بنَفْخِ الصور وإحيائهم بذلك ، والحشر وإعطاء الكتاب ، ووضع الموازين والحساب ، والسَوْق إلى الجنَّة والنار ، فوساطتهم فيها غنيّة عن البيان ، والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ، والأخبار المأثورة فيها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فوق حدِّ الإحصاء

وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ، ودفع الشياطين عن المُداخلة فيه ، وتسديد النبي وتأييد المؤمنين ، وتطهيرهم بالاستغفار

٨٢

وأمّا وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة ، فيدلّ عليها ما في مُفتَتح هذه السورة ، من إطلاق قوله :( والنازِعاتِ غَرقاً * وَالناشِطاتِ نَشطاً * وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدبِّراتِ أَمْراً ) (١)

الصافّات والقَسَم بالملائكة :

لقد حلف سبحانه بوصف من أوصاف الملائكة وقال :

أ ـ( وَالصّافّاتِ صَفّاً )

ب ـ( فَالزّاجِراتِ زَجْراً )

ج ـ( فالتّاليات ذِكراً * إِنَّ إلهَكُم لواحِد ) (٢)

وكلّ هذه الثلاثة مُقسَم به ، والمُقسَم عليه هو قوله :( إِنَّ إلهكم لواحد )

وإليك تفسير المُقسَم به فيها :

فالصافّات : جمع صافَّة ، وهي من الصفِّ بمعنى جعل الشيء على خطٍّ مستوٍ ، يقول سبحانه :( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً ) (٣)

والزاجرات : من الزَجْرِ ، بمعنى الصرفِ عن الشيء بالتخفيف والنهي

والتاليات : من التلاوة ، وهي جمع تالٍ أو تالية

غير أنّ المهمّ بيان ما هو المقصود من هذه العناوين ، ولعلّ الرجوع إلى القرآن الكريم يُزيح الغموض عن كثير منها

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ٢٠/١٨٢ـ ١٨٣

(٢) الصافّات : ١ـ٤

(٣) الصف : ٤

٨٣

يقول سبحانه حاكياً عن الملائكة :( وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم * وَإِنّا لَنَحْنُ الصّافُّون * وَإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُون ) (١)

فينطبق على الملائكة أنّهم الصافّون حول العرش ، ينتظرون الأمر والنهي من قبل اللّه تعالى

نعم ، وصفَ سبحانه الطير بالصافّات وقال :( وَالطَّيرَ صافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسبِيحَهُ ) (٢) ، وقال :( أَوَ لَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ صافّاتٍ وَيَقْبضْنَ ) (٣) ، كما أمر سبحانه على أن تُنحر البُدن وهي صوافّ ، قال سبحانه :( وَالبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيرٌ فاذْكُرُوا اسمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ ) (٤)

والمعنى : أن تُعقَل إحدى يديها وتقوم على ثلاث ، فتُنحَر كذلك ، فيُسوّى بين أظلفتها لئلاّ يتقدَّم بعضها على بعض

وعلى كلّ تقدير ، فمن المحتمَل أن يكون المحلوف به هو الملائكة صافّات ، ويمكن أن يكون المحلوف به كلّ ما أطلق عليه القرآن ذلك الاسم ، وإن كان الوجه الأوّل هو الأقرب

وأمّا الثانية ، أي الزاجرات : فليس في القرآن ما يدلّ على المقصود به ، فلا محيص من القول بأنّ المراد : الجماعة الّذين يزجرون عن معاصي اللّه ، ويحتمل أن ينطبق على الملائكة ، حيث يزجرون العباد عن المعاصي بالإلهام إلى قلوب الناس

قال سبحانه : ( وَما أُنْزِلَ عَلى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) (٥) ، كما أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم بالدعوة إلى المعاصي

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ١٦٤ـ ١٦٦

(٢) النور : ٤١

(٣) المُلك : ١٩

(٤) الحجّ : ٣٦

(٥) البقرة : ١٠٢

٨٤

قال سبحانه :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) (١)

والتاليات : هنّ اللواتي يتلون الوحي على النبي المُوحى إليه

فالمرادُ من الجميع الملائكة

وثَمَّة احتمال آخر ، وهو أنّ المراد من الصفات الثلاث هم العلماء ، فإنّهم هم الجماعة الصافّة أقدامها بالتهجّد وسائر الصلوات ، وهم الجماعة الزاجرة بالمواعظ والنصائح ، كما أنّهم الجماعة التالية لآيات اللّه والدارِسة شرائعه

كما أنّ ثَمّة احتمالاً ثالثاً ، وهو أنّ المراد هم الغزاة في سبيل اللّه ، الّذين يصفّون أقدامهم ، ويزجرون الخيل إلى الجهاد ، ويتلون الذكر ، ومع ذلك لا يشغلهم تلك الشواغل عن الجهاد

وأمّا المُقسَم عليه : فهو قوله سبحانه :( إِنَّ إِلهكم لَواحد )

والصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه : هي أنّ الملائكة أو العلماء أو المجاهدين الّذين وصفوا بصفات ثلاث ، هم دعاة التوحيد وروّاده ، وأبرز مصاديق من دعا إلى التوحيد على وجه الإطلاق ، وفي العبادة خاصّة

ــــــــــــــــ

(١) الأنعام : ١١٢

٨٥

الفصل الثاني : القَسَم في سورة الذاريات

لقد حلف سبحانه بأُمور أربعة مُتتابعة وقال :

( وَالذّارِياتِ ذَرْواً )

( فَالحامِلاتِ وِقْراً )

( فَالجارِياتِ يُسْراً )

( فَالمُقسِّمات أمراً * إِنّما تُوعدونَ لصادِقٌ * وإنَّ الدِّينَ لَواقِع ) (١)

ثُمّ حلف بخامس فرداً ، أي قوله :( وَالسَّماءِ ذاتِ الحُبُك )

أمّا الأوّل ، أعني :( والذارِيات ذَرواً ) : فهي جمع ذارية ، ومعناها الريح الّتي تنشر شيئاً في الفضاء ، يقول سبحانه :( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) (٢) ، ولعلّ هذه قرينة على أنّ المراد من الذاريات هي الرياح

وأمّا الحاملات : فهي من الحِمل ، والوِقرـ على زنة الفِكْر ـ ذو الوزن الثقيل

والمراد منه : السحب ، يقول سبحانه :( هُوَ الَّذي يُريكُمُ البَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً وَيُنشىَُ السَّحابَ الثِّقال ) (٣) ، وقال سبحانه :( حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ١ـ٦

(٢) الكهف : ٤٥

(٣) الرعد : ١٢ .

٨٦

مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الماء ) (١)

وأمّا الجاريات ، فهي جمعُ جارية ، والمراد بها السُفن ، بشهادة قوله سبحانه :( حَتّى إِذا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة ) (٢) ، وقال :( وَالفُلْكِ الّتي تَجْري فِي البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاس ) (٣) ، وقال سبحانه :( إِنّا لَمّا طَغا الماءُ حَمَلْناكُمْ في الجارِيَة ) (٤)

وأمّا المُقسِّمات ، فالمراد الملائكة الّتي تُقسَّم الأرزاق بواسطتها ، الّتي ينتهي إليه التقسيم

يقول العلاّمة الطباطبائي : وإقسام بالملائكة الّذين يعملون بأمره ، فيقسِّمونه باختلاف مقاماتهم ، فانّ أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد ، فإذا حمله طائفة من الملائكة ، على اختلاف أعمالهم ، انشعب الأمر وتقسَّم بتقسيمهم ، ثُمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الأُولى تَقسَّم ثانياً بتقسيمهم وهكذا ، حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونيّة الجزئية ، فيَنقسم بانقسامها ويتكثّر بتكثُّرها

والآيات الأربع تُشير إلى عامّة التدبير ، حيث ذكرت أنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في البرِّ ، وهو الذاريات ذرواً ، وأنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في البحر ، وهو الجاريات يسراً ، وأنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في الجوّ ، وهو الحاملات وقراً ، وتمَّم الجميع بالملائكة الّذين هم وسائط التدبير ، وهم المقسِّمات أمراً

فالآيات في معنى أن يقال : أُقسم بعامَّة الأسباب الّتي يتمَّم بها أمر التدبير في العالم ، أن كذا كذا.

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ٥٧

(٢) يونس : ٢٢

(٣) البقرة : ١٦٤

(٤) الحاقّة : ١١

٨٧

وقد ورد من طرق الخاصّة والعامّة عن عليعليه‌السلام تفسير الآيات الأربع(١)

وبذلك يُعلَم قيمة ما روي عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير الآية ، عندما سأله ابن الكوا عن هذه الأقسام الأربعة ـ وهو يخطب على المنبر ـ ، فقال :

قال : ما الذاريات ذرواً ؟

قال عليه‌السلام : الرياح . قال : فالحاملات وقراً ؟

قال عليه‌السلام : السَحاب قال : فالجاريات يسراً ؟

قال عليه‌السلام : السُفن قال : فالمقسِّمات أمراً ؟

قال عليه‌السلام : الملائكة .

ثُمّ إنّه سبحانه حلفَ بالذاريات بواو القَسَم ، وحلف بالثلاثة بعطفها على الذاريات بالفاء ، فيحمل المعطوف معنى القَسَمِ أيضاً

هذا كلّه حول المُقسَم به

وأمّا المُقسَم عليه : هو قوله :( إِنّما تُوعَدُونَ لَصادِق * وَإِنَّ الدِّين لواقِع ) ، أي إنّما توعدون من الثواب و العقاب والجنّة والنار لصادق ، أي : صِدقٌ لابدّ من كونه ، فهو اسم الفاعل موضع المصدر ، وإنّ الدِّين أي : الجزاء لواقع ، والحساب لكائن يوم القيامة

وعلى ذلك ،( إِنَّما تُوعَدونَ لَصادق ) جواب القَسَم ، وقوله :( إنّ الدِّين لواقِع ) معطوف عليه بمنزلة التفسير ، والمعنى : أُقسِم بكذا وكذا ، إنّ الّذي توعدونه من يوم البعث ، وإنّ اللّه سيجزيهم فيه بأعمالهم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ ، لَصادِق وإنّ الجزاء لواقِع(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ١٨/٣٦٥

(٢) الميزان : ١٨/٣٦٦

٨٨

وأمّا وجه الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه هو ، أنّه سبحانه أقسمَ بعامّة الأسباب الّتي يتمّ بها أمر التدبير في العالم ، لغايةِ أنّ هذا التدبير ليس سُدى وبلا غاية ، والغاية هي يوم الدِّين والجزاء ، وعود الإنسان إلى المعاد ، إذ لولا الغاية ، لأصبح تدبير الأمر في البرّ والبحر والجوّ وتدبير الملائكة ، شيئاً عبثاً بلا غاية ، فهو سبحانه يحاول أن يُبيِّن أنّما يقوم به من أمر التدبير لغاية البعث ، وانتقال الإنسان من هذه الدار إلى دار أُخرى هي أكمل

وفي ختام البحث نودّ أن ننقل شيئاً عن عظمة الرياح والسحاب ، والّتي كشف عنها العلم الحديث فالرياح هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجوِّ ، إذا سارت متوازية مع سطح الأرض ، وتختلف سرعة الرياح حتى تصل إلى مئة كيلومترٍ في الساعة ، فتُسمَّى زوبعة ، وإذا زادت على مئة ، سُمّيَت إعصاراً ، وقد تصل سرعة الإعصار إلى ٢٤٠ كيلومتراً في الساعة

والرياح هي العامل المهمّ في نقل بخار الماء وتوزيعه ، وتكاثف هذا البخار في الهواء بالتبريد ، بعد أن تصل حالته إلى ما فوق التشبُّع تتكوّن السُحب ويختلف ارتفاع السُحب على حسب نوعها ، فمنها ما يكون على سطح الأرض كالضباب ، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيداً إلى أكثر من ١٢ كيلومترا كسَحاب السيرس الرقيق وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً في الساعة ، لا يمكن نزول قطرات المَطر المتكوِّن ؛ وذلك بالنسبة لمقاومة هذا الريح لها ، ورفعها معه إلى أعلى ، حيث ينمو حجمها ، ويزداد قطرها ومتى بلغت أقطار النقط نصف سنتيمتر ، تتناثر إلى نقط صغيرة ، لا تلبث أن تكبر بدورها ، ثُمّ تتجزّأ بالطريقة السابقة وهكذا

وكلمّا تناثرت هذه النقط ، تُشحَن بالكهرباء الموجبة وتنفصل الكهرباء السالبة الّتي تحمل الرياح.

وبعد مُدَّة تصير السُحب مشحونة شحناً وافراً بالكهرباء ، فعندما تقترب الشُحنتان بعضهما من بعض ـ بواسطة الرياح كذلك ـ يتمّ التفريغ الكهربائي ، وذلك بمرور شرارة بينهما ، ويستغرق وَميض البرق لحظة قصيرة ، وبعده يُسمَع الرَعد ، وهو عبارة عن : الموجات الصوتيَّة الّتي يُحدِثها الهواء ، وما هي إلاّ بُرهة حتى تُخيِّم على السماء سحابة المطر القاتمة اللون ، ثُمّ تظهر نقط كبيرة من الماء تسقط على الأرض ، وفجأة يشتدّ المطر ويستمرّ حتى تأخذ الأرض ما قدَّر اللّه لها من الماء(١)

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ١٣٥ـ ١٣٦

٨٩

الفصل الثالث : القَسَم في سورة الطُور

حلف سبحانه في سورة الطور بأُمور ستّة وقال :

( وَالطُّور * وَكِتابٍ مَسْطُور * في رقٍّ مَنْشُور * وَالْبَيتِ المَعْمُور * وَالسَّقْفِ المَرْفُوع * وَالْبَحْرِ المَسْجُور * إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ) (١)

تفسير الآيات :

الطُور : اسم جبل خاصّ ، بل اسم لكلِّ جبل ، ولو قلنا بصحّة الإطلاق الثاني ، فالمراد الجبل المخصوص بهذه التسمية ، لا كلّ جبل ؛ بشهادة كونه مقروناً بالألف واللام

ومَسطور : من السَطر ، وهو الصفّ من الكتابة ، يُقال : سطَّر فلان كذا ، أي : كتب سطراً سطراً

والظاهر أنّ المراد من ( مَسطور ) هنا هو المُثبّت بالكتابة ، قال سبحانه :( كانَ ذلِكَ في الكِتابِ مَسْطُوراً ) ( أي : مُثبَّتاً ومحفوظاً )

و رَقّ : ما يُكتَب فيه ، ( شبه الكاغَد )

ــــــــــــــــ

(١) الطور : ١ـ ٨

٩٠

ومنشور : من النَشْرِ ، وهو البَسط والتفريق ، يقال : نشر الثوب والصحيفة وبسطَهما ، قال سبحانه :( وَإِذا الصُّحُف نُشرَت ) ، وقال :( وَإِلَيْهِ النُّشور )

والمَسجُور : من السَجر وهو : تَهييج النار ، يقال : سَجرتُ التنّور ، ومنه البحر المَسجور ، وقوله :( وإِذَا البِحارُ سُجِّرت ) ، وربّما يُفسَّر المسجور بالمملوء

والمراد من الطُور ـ كما تشهد به القرائن ـ : هو الجبل المعروف الّذي كلّم اللّه فيه موسىعليه‌السلام ، ولعلّه هو جبل طور سينين ، قال سبحانه :( وَطُورِ سِينِين ) (١) ، وقال سبحانه :( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ ) (٢) ، وقال في خطابه لموسىعليه‌السلام :( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالواد المُقدَّس طُوىً ) (٣)

وقال سبحانه :( نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ) (٤)

وهذه الآيات تُثبِت أنّ المُقسَم به جبل مُعيَّن ، ومع الوصف يحتمل أن يُراد مطلَق الجبل ؛ لما أُودع فيه من أنواع نعمه ، قال تعالى :( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوقِها وَبارَك فِيها ) (٥)

والمراد من كتاب مَسطور : هو القرآن الكريم ، الّذي كان يُكتَب في الورق المأخوذ من الجِلد

وأمّا وصفه بكونه منشوراً ، مع أنّ عظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطِّه ووَرَقه ، هو الإشارة إلى الوضوح ؛ لاَنّ الكتاب المَطوي لا يُعلَم ما فيه ، فقال هو فيرَقٍّ منشور ، وليس كالكتب المَطويَّة ،

ــــــــــــــــ

(١) التين : ٢

(٢) مريم : ٥٢

(٣) طه : ١٢

(٤) القَصص : ٣٠

(٥) فُصّلت : ١٠

٩١

ومع ذلك ، يُحتمَل أن يُراد منه صحائف الأعمال ، وقد وصفه سبحانه بكونه منشوراً وقال : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتاباً يَلقاهُ مَنْشُوراً ) (١) ، كما يُحتمَل أن يراد منه اللوح المحفوظ ، الّذي كتب اللّه فيه ما كان وما يكون وما هو كائن ، تقرأه ملائكة السماء

وهناك احتمال رابع ، وهو أنّ المراد هو التوراة ، وكانت تُكتَب بالرَقِّ وتُنشَر للقراءة ، ويُؤيّده اقترانه بالحلفِ بالطُور

وأمّا البيت المعمور : فيحتمل أن يراد منه الكعبة المُشرَّفة ، فإنّها أوّل بيت وُضع للناس ، ولم يزل معموراً منذ أن وضع إلى يومنا هذا ، قال تعالى :( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكَّة مُباركاً وَهُدى لِلْعالَمين ) (٢)

ولعلّ وصفه بالعمارة لكونه معموراً بالحجّاج الطائفين به والعاكفين حوله

وقد فُسِّر في الروايات ببيتٍ في السماء إزاء الكعبة ، تزوره الملائكة ، فوصفه بالعمارة لكَثرةِ الطائفين به

والسَقف المرفوع : والمراد منه هو السماء ، قال سبحانه :( والسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعََ الْمِيزان ) (٣)

وقال :( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَونَها ) (٤)

قال سبحانه :( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعرِضُون ) .(٥)

ولعلّ المراد هو البحر المحيط بالأرض ، الّذي سيلتهب قبل يوم القيامة ثُمّ ينفجر

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ١٣

(٢) آل عمران : ٩٦

(٣) الرحمن : ٧

(٤) الرعد : ٢

(٥) الأنبياء : ٣٢

٩٢

قال سبحانه :( وَإِذَا البِحارُ سُجِّرَت ) (١) ، وقال تعالى :( وَإِذَا البِحارُ فُجِّرَت ) (٢)

ثُمّ إنّ هذه الأقسام الثلاثة الأُولى يجمعها شيء واحد ، وهو صِلتها بالوحي وخصوصيّاته ، حيث أنّ الطور هو محلّ نزول الوحي ، والكتاب المسطور هو القرآن أو التوراة ، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الّذي يطوف به الملائكة ، الّذين هم رُسل اللّه

وأمّا الاثنان الآخران ، أعني : السَقف المرفوع والبحر المَسجور ، فهما من الآيات الكونيّة ، ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته

لكنّ الرازي ذهب إلى أنّ الأقسام الثلاثة الّتي بينها صِلة خاصّة ، هي : ( الطُور والبيت المعمور والبحر المسجور ) ، وإنّما جمعها في الحلف بها ؛ لأنّها أماكن لثلاثة أنبياء ، ينفردون بها للخلوة بربِّهم ، والخلاص من الخلق ، والخطاب مع اللّه

أمّا الطُور فانتقل إليه موسى ، والبيت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والبحر المَسجور يونسعليه‌السلام ، وكلٌّ خاطب اللّه هناك ، فقال موسى :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاء ) (٣) ، وقال أيضاً :( أرِني أنظر إليك ) ، وأمّا نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :( السلامُ علينا وعلى عبادِ اللّه الصالحين ، لا أُحصي ثناء عليك كما أثنيتَ على نفسك ) ، وأمّا يونس فقال :( لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمين ) (٤)

فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب ، وحلف اللّه تعالى بها

وأمّا ذكر الكتاب ؛ فانّ الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع اللّه تعالى كلام ، والكلام في الكتاب واقترانه بالطُور أدلّ دليل على ذلك ؛ لاَنّ موسىعليه‌السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بطُور

ــــــــــــــــ

(١) التكوير : ٦

(٢) الانفطار : ٣

(٣) الأعراف : ١٥٥

(٤) الأنبياء : ٨٧

٩٣

وأمّا ذكر السَقف المرفوع ومعه البيت المعمور ؛ ليُعلَم عظمة شأن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١)

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله :( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ) (٢)

وأمّا وجه الصِلة بين المُقسَم به ـ على تعدّده ـ والمُقسَم عليه ، هو أنّ المُقسَم عليه عبارة عن وقوع العذاب لا محالة ، وعدم القدرة على دفعه

فإذن ، ناسب أن يقسم بالكتاب ـ أي : القرآن ـ والتوراة اللَذين جاء فيهما أخبار القيامة وحتميَّتها

كما ناسب أن يحلف بمظاهر القدرة وآيات العظمة ، كالسقف المرفوع والبحر المسجور ، حتى يُعلَم أنّ صاحب هذه القدرة لقادر على تحقيق هذا الخبر ، وهو عبارة عن أنّ عذابه لواقِع ، وليس له دافع

ويكفيك في بيان عظمة البحار أنّها تشغل حيّزاً كبيراً من سطح الأرض ، يبلغ نحو ثلاثة أرباعه ، وتختلف صفات الماء عن الأرض بسهولة تدفّقه من جهة إلى أُخرى ، حاملاً الدفء أو البرودة ، وله قوّة انعكاس جيّدة لشعاع الشمس ، ولذا فإنّ درجة حرارة البحار لا ترتفع كثيراً أثناء النهار ، ولا تنخفض بسرعةٍ أثناء الليل ، فلا تختلف درجة الحرارة أثناء الليل عن النهار بأكثر من درجتين فقط

ويقول أحد العلماء : إنّ البحر يُباري الزمان في دوامه ، ويُطاول الخلود في بقائه ، تمرّ آلاف الأعوام ، بل وعشرات الأُلوف والملايين ، وهو في يومه هو أمْسه وغَده ، تنقلب الجبال أوديَة ، والأوديَة جبالاً ، ويتحوّل التراب شجراً ،والشجر تراباً ، والبحر بحرٌ ، لا يتحوّل ولا يتغيَّر

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٤٠

(٢) الطور : ٧ـ ٨

٩٤

وقد دلَّت الأبحاث العلميّة أنّ أقصى أعماق البحار تُعادل أقصى علوّ الجبال(١)

كما ناسب أن يحلف بالطور ؛ لاَنّ بعض المجرمين كانوا يتصوّرون أنّ الجبال الشاهقة ستدفع عنهم عذاب اللّه ، كما قال ابن نوحعليه‌السلام ( سَآوي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الماء ) ، قال :( لا عاصِمَ اليَوم مِنْ أَمْرِ اللّه إِلاّ مَنْ رَحِمَ ) (٢)

فحلف بالطُور إيذاناً إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الجبال أقلّ من أن تدفع العذاب ، أو تَحوْل بين اللّه ووقوع المعاد

كما يمكن أن يكون الحلف بالطُور لأجل كونه آية من آيات اللّه الدالّة على قدرته ، الّتي لا يحوْل بينه و بين عذابه شيء

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ٧٥

(٢) هود : ٤٣

٩٥

الفصل الرابع : القَسَم في سورة القَلَم

حلف سبحانه بالقلم وما يسطرون معاً ، مرّة واحدة ، وقال :( ن والقَلَمِ وَما يَسْطُرُون * ما أَنْتَ بِنعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُون * وَإِنَّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظيم ) (١)

وقبل تفسير الآيات ، نُقدّم شيئاً وهو : أنّ لفظة ( ن ) من الحروف المُقطّعة ، وقد تقدَّم تفسيرها

وهناك وجوه أُخرى نذكرها تباعاً :

أ ـ ( ن ) هو السمكة الّتي جاء ذكرها في قصّة يونسعليه‌السلام ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) (٢)

ب ـ إنّ المراد به هو الدواة ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما الشَوقُ يَرجِع بي إليهِم

ألقتُ النُون بالدَمْعِ السُجُوْم

ج ـ إنّ ( ن ) هو المداد الّذي تكتب به الملائكة

ولكنّ هذه الوجوه ضعيفة ؛ لاَنّ الظاهر منها أنّها مُقسَم به ، وعندئذٍ يجب أن يُجَرّ لا أن يُسَكَّن

يقول الزمخشري : وأمّا قولهم هو الدواة ، فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ؟!

ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة ، من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً ، فأين الإعراب والتنوين ؟! وإن كان علماً فأين الإعراب ؟!

ــــــــــــــــ

(١) القلم : ١ـ ٤

(٢) الأنبياء : ٨٧

٩٦

وأيّهما كان ، فلابُدّ له من موقع في تأليف الكلام(١)

وبذلك يُعلَم وجه تجريد ( ن ) عن اللاّم ، واقتران القَلمِ بها

تفسير الآيات :

١ ـ حلف سبحانه بالقلم وقال :( والقَلَمِ وما يسطُرون ) ، وهل المراد منه جنس القلمِ الّذي يَكتب به مَن في السماء ومَن في الأرض ؟!

قال تعالى :( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (٢)

فمنَّ سبحانه وتعالى بتيسير الكتابة بالقلم ، كما منَّ بالنُطق ، وقال :( خَلَقَ الإنسانَ * عَلَّمَهُ البَيان ) (٣)

فالقلم والبيان نعمتان كبيرتان ، فبالبيان يخاطب الحاضرين ، كما أنّه بالقلم يخاطب الغائبين ، فتمكّن بهما تعريف القريب والبعيد بما في قرارة ذهنه

وربّما قيل : إنّ المراد هو القلم المعهود الّذي جاء في الخبر :( إنّ أوّل ما خلق اللّه هو القلم ) ، ولكنّه تفسير بعيد عن أذهان المخاطبين في صدر الإسلام ، الّذين لم يكونوا عارفين بأوّل ما خلق اللّه ولا بآخره

ثُمّ إنّه سبحانه حلف بـ( ما يسطُرون ) ، فلو كانت ( ما ) مصدريّة ، يكون المراد ( وسَطْرهم ) ، فيكون القَسَم بنفس الكتابة

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٤/١٢٦ ، تفسير سورة القلم

(٢) العلق : ٣ ـ ٥

(٣) الرحمن : ٣ ـ ٤

٩٧

كما يحتمل أن يكون المراد المَسطور والمكتوب ، وعلى ذلك حلف سبحانه بجنس القلم وبجنس الكتابة ، أو بجنس المكتوب ، كأنّه قيل : ( أحلفُ بالقلم وسَطرهم ، أو مسطوراتِهم )

ثُمّ أنّ في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعاً إلى مكانة القلم والكتابة في الإسلام ، كما أنّ في قوله سبحانه :( علّمَ بالْقَلم ) إشارة إلى ذلك

والعجب أنّ القرآن الكريم نزل وَسطِ مجتمع سادَه التخلّف والجهل والأُميَّة ، وكان مَن يجيد القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عدد الأصابع !

وقد سردَ البلاذري في كتابه ( فتوح البلدان ) أسماء سبعة عشر رجلاً في مكَّة ، وأحد عشر من يثرب(١)

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدِّمته : أنّ عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيداً ، بل كان حديثاً وقريباً بعهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢)

ومع ذلك ، يعود القرآن ليؤكّد بالحلف بالقلم على مكانة القلم والكتابة في الحضارة الإسلاميّة ، وجعل في ظلّ هذا التعليم أُمّة متحضّرة ، احتلّت مكانتها بين الحضارات

وليس هذه الآية وحيدٌ نَسْجها في الدعوة إلى القلم والكتابة ، بل ثَمَّة آية أُخرى هي أكبر آية في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ) (٣)

كما أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حثّ على كتابة حديثه ، الّذي هو المصدر الثاني بعد القرآن الكريم :

ــــــــــــــــ

(١) فتوح البلدان : ٤٥٧

(٢) مقدّمة ابن خلدون : ٤١٨

(٣) البقرة : ٢٨٢ .

٩٨

١ ـ أخرج أبو داود في سُننه ، عن عبد اللّه بن عمرو ، قال : كنتُ أكتب كلّشيء أسمعه من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : أتكتُب كلّ شيء تسمعه ورسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشر يتكلَّم في الغضب والرضا ؟! فأمسكتُ عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأومأ بإصبعه إلى فِيه وقال : ( اكتبْ ، فوالّذي نفسي بيدِه ، ما يخرج منه إلاّ حقّاً ) (١)

٢ ـ أخرج الترمذي في سُنَنه عن أبي هريرة ، قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول اللّه ، إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( استَعن بيمينِك ) وأومأ بيده للخطِّ(٢)

٣ ـ أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج ، قال : مرّ علينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً ، ونحن نتحدّث ، فقال :( ما تحدّثون ؟ )

فقلنا : نتحدّث عنك يا رسول اللّه

قال : ( تحدَّثوا ، وليَتبوّأ مَن كذّبَ عليّ مقعداً من جهنّم ) .

ومضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجته ، ونكس القوم رؤوسهم فقال : ( ما شأنكم ، ألا تحدّثون ؟! ) .

قالوا : الّذي سمعنا منك يا رسول اللّه

قال : ( إنّي لم أُرد ذلك ، إنّما أردتُ مَن تعمَّد ذلك ) .

قال : فتحدَّثنا

قال : قلتُ : يا رسول اللّه ، إنّا نسمعُ منك أشياء فنكتبها

ــــــــــــــــ

(١) سُنن أبي داود : ٣/٣١٨ ، برقم : ٣٦٤٦ ، باب في كتابة العلم مسند أحمد : ٢/١٦٢. سُنَن الدارمي : ١/١٢٥ ، باب من رخص في كتابة العلم

(٢) سُنَن الترمذي : ٥/٣٩ ، برقم : ٢٦٦٦

٩٩

قال : ( اكتبوا ولا حرج ) .(١)

وبعد هذه الأهمّيّة البالغة الّتي أولاها الكتاب العزيز والنبي للكتابة ، أفهل من المعقول أن يُنسَب إليه أنّه منع من كتابة الحديث ؟! مع أنّها أحاديث آحاد ، تضادّ الكتاب العزيز والسُنّة والسيرة المتواترة

ونجلُّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الحيلولة دون كتابة السُنّة

هذا والكلام ذو شجون ، وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب ( الحديث النبوي بين الرواية والدراية )(٢)

هذا كلّه حول المُقسَم به

وأمّا المُقسَم عليه ، فقد جاء في قوله سبحانه :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون )

والمراد من النعمة : النبوّة والإيمان ، والباء للسَببيَّة ، أي : لستَ أنتَ بسبب هذه النعمة بمجنون ؛ ردّاً على مَن جعل نبوّته ونزول القرآن عليه دليلاً على جنونه ، قال سبحانه :( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (٣)

ويُحتمل أن يكون المراد من النعمة كلّ ما تفضَّل عليه سبحانه من النِعَم وراء الإيمان والنبوّة ، كفصاحته ، وبلاغته ، وعقله الكامل ، وخُلقه الممتاز ، فإنّ هذه الصفات تُنافي حصول الجنون

واحتمل الرازي أن يكون جملة ( بِنعْمة رَبّك ) مقطوعة عمّا قبلها و ما بعدها ، وانّ وِزانها وزِان ( بحمد اللّه ) في الجمل التالية :

أنتَ ـ بحمدِ اللّه ـ عاقل

ــــــــــــــــ

(١) تقييد العلم : ٧٢و٧٣

(٢) انظر : صفحة ١٢ـ ٣٢ من نفس الكتاب

(٣) القلم : ٥١ـ ٥٢

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169