التقية في الفكر الاسلامي

التقية في الفكر الاسلامي33%

التقية في الفكر الاسلامي مؤلف:
المحقق: مركز الرسالة
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 169

التقية في الفكر الاسلامي
  • البداية
  • السابق
  • 169 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33873 / تحميل: 9190
الحجم الحجم الحجم
التقية في الفكر الاسلامي

التقية في الفكر الاسلامي

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفقهية المعبرة عن يسر هذا الدين العظيم وروحه السمحة ، ومن بين تلك القواعد الفقهية المتفق عليها ، قاعدة الضرر يُزال ، وقاعدةالضرورات تبيح المحظورات ، وغيرهما من القواعد الفقهية المتفرعة عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار )(١) وقد استمدوا هاتين القاعدتين من أُصول التشريع الإسلامي : قرآناً وسُنّة.

والسؤال المهم هنا ، هو : هل أنّ الشريعة الإسلامية أباحت للمُكْرَهِ أو المضطر كل محرم مهما كان بسبب ذلك الإكراه أو الاضطرار.

وبعبارة أُخرى : هل أن حديث الرفع المشهور عند جميع المذاهب الإسلامية(٢) يجري على كل اكراه ، أو أنّ له حدوداً ثابتة لا يمكن تجاوزها بحال؟

والواقع ، إن الإجابة المفصلة على هذا التساؤل المهم جداً في بيان حكم ما يُكرَه عليه ، لا يمكن أن تتم ما لم يُعرَف قبل ذلك نوع الضرر المهدد به المكرَه ، مع معرفة الآثار السلبية الناجمة عن تنفيذ المكرَه للنطق أو الفعل الذي أُكْرِه عليه.

بمعنى ، ان تكون هناك معرفة بحجم الضرر المهدد به المُكْرَه ، مع معرفة المحرّم الذي يراد تنفيذه كرهاً؛ لكي تجري عملية موازنة بين الضررين ، حتى يرتكب أخفهما حرمة في الشريعة.

وفي المسألة صور كثيرة جداً ، إذ قد يكون الإكراه ، على قتل مسلم ، أو

__________________

(١) اُنظر : الأشباه والنظائر / السيوطي : ١٧٣ القاعدة الرابعة ، طبعة دار الكتاب العربي.

واُنظر قاعدة لا ضرر / السيد السيستاني ١ : ١٥٨.

(٢) سيأتي ذكر الحديث في أدّلة التقيّة من السُنّة النبوية.

٢١

زنا ، أو قطع بعض الأطراف ، أو شرب خمر ، أو قذف مؤمن ، أو شهادة زور ، أو سرقة مال ، ونحوها.

وقد يكون التهديد والوعيد ، بالقتل ، أو التعذيب ، أو السجن ، أو النفي ، أو الإهانة ، أو التشهير ، أو الغرامة المالية ، أو هتك العرض ، أو تهديم الدار ، أو الفصل من الوظيفة ، وغيرها.

وهذه الصور الكثيرة يمكن جمعها في ثلاث صور لا رابع لها وهي :الصورة الاُولى : ان يكون الضرر المهدد به المُكْرَه تافهاً وحقيراً ، بينما يكون المحرّم المراد ارتكابه عظيماً وجسيماً.

الصورة الثانية : عكس الاُولى.

الصورة الثالثة : يتساوى فيها الضرران.

وهذا مع قربه من الإجابة على التساؤل السابق إلاّ إنّه لا يكفي في ذلك؛ لوجود جوانب أُخر ذات صلة وثقى بتحديد الجواب ، ويأتي في مقدمتها ، اختلاف الناس وتفاوت رتبهم ودرجاتهم ، فالإمام ليس كالمأموم ، والرئيس يختلف عن المرؤوس ، والعالم ليس كالجاهل ، والفقيه ليس كالمقلد ، والنابه الذكي ليس كالخامل الغبي.

ولاشك ان هذا الاختلاف في رتب الناس ودرجاتهم يؤثر سلباً أو إيجاباً في تقدير موقف المكرَه نفسه أولاً ، مع تأثيره المباشر أيضاً في تقدير الأفعال أو الأقوال المطلوبة منه ثانياً ، وفي تقدير الاُمور المخوف بها ثالثاً.

إذ قد (يكون الشيء اكراهاً في شيء دون غيره ، وفي حق شخص دون

٢٢

آخر)(١) .

فقد يرى بعضهم في نوع الضرر المهدد به ما يبرر له ارتكاب المحرم؛ لأجل التخلص من ذلك الضرر بأية وسيلة.

ويرى الآخر في ارتكاب المحرم البسيط عند الالجاء القهري إليه خطراً جسيماً على العقيدة الإسلامية برمتها ، بناء على موقعه الديني الرفيع مثلاً ، فتراه يقدم على التضحية بكل غالٍ ونفيس ولا يتقي من أحد.

هذا زيادة على أن الاختلاف المذكور له تأثيره المباشر في مسألة التخلص من التقيّة باستخدام التورية ، فيخدع بها المُكرِه ويخلّص نفسه بها من شرّه.

دور القواعد الفقهية في بيان حكم ما يُكرَه عليه :

حاول الفقهاء ان يجدوا الإجابة العامّة الشافية للتساؤل السابق من خلال قواعدهم الفقهية المسلّمة الصحة الخاصة بالضرر وكيفية التعامل معه وازالته ، وسوف نشير إلى أهم تلك القواعد على النحو الآتي :

أوّلاً ـ قاعدة يرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما :

صلة القاعدة بالإكراه والتقيّة :

تصب هذه القاعدة في رافد الإجابة على التساؤل السابق حول حديث الرفع؛ لأنّها تفيدنا في معرفة حكم ما يكره عليه الإنسان ، وقد مرّ ورود لفظ (الإكراه) في الحديث صراحة.

__________________

(١) الأشباه والنظائر / السيوطي : ٣٧٠.

٢٣

ويتوقف هذا على بيان صلة القاعدة بالإكراه والتقيّة ، إذ قد يقع الإنسان بين ضررين وهو مضطر إلى أحدهما ، فيرتكب أخفهما لدفع أعظمهما بموجب القاعدة وحينئذ لا إكراه في المقام ولا تقية من أحد!!

ولكن القاعدة لم توضع لأجل هذا فحسب ، بل هي عامة تنطبق على موارد الضرر كافة ومن بينها الضرر الناتج بفعل الإكراه الذي لا خلاص منه إلاّ بالتقيّة شأنها بذلك شأن القواعد الفقهية الاُخرى الآتية الخاصة بالضرر.

وتوضيح ذلك يتم من خلال معرفة أقسام الضرر ، كالآتي :

أقسام الضرر تبعا لأسبابه :

يقسم الضرر تبعا للأسباب المؤدّية إلى حصوله إلى ثلاثة أقسام ، وهي :

١ ـ الضرر الناتج من نفس المتضرر ، وهو ما يعبر عنه بالضرر الحاصل من سوء الاختيار كموارد تعجيز الإنسان نفسه مثلاً.

٢ ـ الضرر الناتج بفعل العامل الطبيعي كالزلازل ونحوها.

٣ ـ الضرر الناتج من شخص آخر ، ويعبر عن الضررين الأخيرين بالضرر الحاصل من غير سوء الاختيار.

ومن الواضح ان الإكراه لا يكون إلاّ من الغير كما تقدم في أركانه ، وهذا يعني صلة الضرر الأخير بالإكراه إذا كان من ظالم؛ لأنّ الضرر الحاصل من الغير قد يكون بإكراه وقد لا يكون. على أن بعض فقهائنا الأعلام أدخل موارد التقيّة حتى في الضرر الناتج عن سوء الاختيار ، كما نجده صريحاً في تقريرات بحث السيد الخوئي الأصولية(١) ، إذ ورد فيها القول بصحة تعجيز الإنسان نفسه في موارد التقيّة. وبما ان القاعدة لم تختص بمورد ضرري معين كما هو حال القواعد الفقهية الاُخرى ، بل ناظرة إلى مطلق الضرر

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه / محمد اسحاق الفياض ٤ : ٢٤٣ ، مبحث الأجزاء ، في مسألة حكم الأضرار بسوء الاختيار.

٢٤

فتكون صلتها بالإكراه والتقيّة واضحة جداً.

وهذه القاعدة الفقهية لا خلاف في صحتها عند جميع الفقهاء ، وهي منسجمة تماماً مع روح التشريع الإسلامي ومرونته ، وجارية على وفق مقتضيات العقل السليم ، فهي على ما يقول السيد الخوئيقدس‌سره : (من القضايا التي قياساتها معها ، فلا تحتاج إلى برهان أو مؤنة الاستدلال)(١) .

وفيها يقول الندوي : (إذا اجتمع للمضطر محرّمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة ، وجب تقديم أخفهما مفسدة وأقلهما ضرراً ، لأن الزيادة لا ضرورة إليها فلا يباح)(٢) .

وقال الزيلعي : (الأصل في جنس هذه المسائل : إنّ من ابتُلِيَ ببليّتين ، وهما متساويتان يأخذ بأيهما شاء ، وإن اختلفتا يختار أهونهما؛ لأنَّ مباشرة الحرام لا تجوز إلاّ للضرورة ، ولا ضرورة في حق الزيادة)(٣) .

وفي هذا الصدد ، يقول الغزالي : (وارتكاب أهون الضررين يصير واجباً بالإضافة إلى أعظمهما ، كما يصير شرب الخمر واجباً في حق من غص بلقمة أي : ولم يجد ماءً ، وتناول طعام الغير واجباً على المضطر في المخمصة ، وإفساد مال الغير ليس حراماً لعينه ، ولذلك لو اُكْرِه عليه بالقتل وجب أو جاز)(٤) .

وقد صيغت هذه القاعدة بألفاظ أُخرى في كتب القواعد الفقهية وغيرها ، ومن تلك الصياغات ما تجده في شرح القواعد الفقهية إذ وردت

__________________

(١) اُنظر : مصباح الاُصول٢ : ٥٦٢ في التنبيه السابع من تنبيهات قاعدة لا ضرر ، المسألة الاُولى.

(٢) القواعد الفقهية / علي أحمد الندوي : ٢٢٥ ، دار القلم ، دمشق / ١٤١٢ هـ ، وأشار في هامشه إلى قواعد ابن رجب الحنبلي : ٢٤٦ القاعدة رقم ١١٢.

(٣) الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي : ٨٩.

(٤) المستصفى / الغزالي ١ : ٨٩ دار الكتب العلمية / ١٤٠٣ هـ.

٢٥

بهذه الصيغة : (إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما)(١) وهي نفسها عند ابن نجيم الحنفي(٢) ونظيرها عند آخرين(٣) .

هذا ، وقد فرّع فقهاء العامّة على هذه القاعدة جملة من الفروع ، نذكر منها ما ذكره الشيخ الزرقا من فروع هذه القاعدة وهي :

أ ـ تجويز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على انكاره ضرر أعظم.

ب ـ تجوز طاعة الأمير الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شرّ أعظم(٤) .

ثانيا ـ قاعدة الضرورات تقدّر بقدرها :

صلة القاعدة بالاكراه والتقيّة :

إنّ من أوجه الاتفاق بين الضرورة والاكراه ـ كما سيأتي ـ هو ان مفهوم الضرورة العام يعني تحققها بمجرد حلول خطر لا يندفع إلاّ بمحظور ، وعليه سيكون الاكراه داخلاً بهذا المفهوم العام.

واذا اتضحت صلة الضرورة بالاكراه اتضحت صلتها بالتقيّة أيضاً على أن في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام ما يؤكد هذه الصلة أيضاً.

ففي حديث الإمام الباقرعليه‌السلام : «التقيّة في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به »(٥) .

__________________

(١) شرح القواعد الفقهية / أحمد بن محمد الزرقا : ٢٠١ القاعدة رقم ٢٨ ، ط٢ ، دار القلم ، دمشق / ١٤٠٩ هـ.

(٢) الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي : ٨٩.

(٣) كالغزالي في إحياء علوم الدين ٣ : ١٣٨ ، والقرافي المالكي في الفروق ٤ : ٢٣٦ (الفرق الرابع والستون والمائتان). والفرغاني الحنفي في فتاوى قاضيخان ٣ : ٤٨٥ ، مطبوع بهامش الفتاوى الهندية.

(٤) شرح القواعد الفقهية : ٢٠١ في شرح القاعدة رقم ٢٨.

(٥) اُصول الكافي ٢ : ٢١٩ / ١٣ باب التقيّة ، من كتاب الإيمان والكفر.

٢٦

وما تعنيه هذه القاعدة ، هو أن ما تدعو إليه الضرورة من المحظورات إنّما يرخّص منه القدر الذي تندفع به الضرورة فحسب ، فإذا اضطر الإنسان لمحظور لأي سبب مسوّغ كالاكراه ، أو المخمصة ونحوهما ، فليس له أن يتوسع في المحظور ، بل يقتصر منه على قدر ما تندفع به الضرورة فقط.

ومن ثمرات هذه القاعدة كما صرّح به الشيخ الزرقا : «إنّه من أُكْرِهَ على اليمين الكاذبة فإنّه يُباح له الإقدام على التلفظ مع وجوب التورية والتعريض فيها إنْ خطرت على باله التورية والتعريض»(١) .

وهناك قواعد أُخرى تصب في هذا الاتجاه أيضاً ، سنكتفي بذكرها دون شرحها لأجل الاختصار ، وهي :

ثالثا ـ قاعدة الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف :

وقد ذهب الشيخ الأنصاري إلى أبعد من هذه القاعدة في حال التقيّة ، إذ جوّز التقيّة للمكره في صورة إزالة الضرر عن نفسه حتى مع كون الضرر على الغير أشد ما لم يصل إلى حد القتل ، فقال في حديثه عن قاعدة لاضرر الآتية : (اتفقوا على أنه يجوز للمكره الاضرار على الغير بما دون القتل ، لأجل دفع الضرر عن نفسه ، ولو كان أقل من ضرر الغير)(٢) .

وهذا مالم يوافقه عليه جملة من كبار الفقهاء المعاصرين آخذين بهذه القاعدة(٣) .

رابعا ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار :

وفي هذه القاعدة قسّم السيد الخوئيقدس‌سره ، والسيد السيستاني الضرر إلى

__________________

(١) شرح القواعد الفقهية / أحمد بن محمد الزرقا : ١٨٨ في شرح القاعدة رقم ٢١.

(٢) رسائل الشيخ الأنصاري : ٢٩٨ ، في آخر البحث عن أصل الاشتغال.

(٣) القواعد الفقهية / ناصر مكارم الشيرازي ١ : ٨٩ في قاعدة التقيّة. واُنظر : مصباح الاُصول (تقريراً لبحث السيد الخوئي) ٢ : ٥٦٢ ، والتنبيه السابع من تنبيهات قاعدة لا ضرر.

٢٧

أنواعه المتقدمة مع بيانهما وأسبابه التي ذكرناها سابقاً ، ومن مراجعتها تعلم صلة هذه القاعدة بالتقيّة فضلاً عن اتفاقهم على ادخال الضرر الناتج عن اكراه في موجب هذه القاعدة.

خامسا ـ قاعدة الضرورات تبيح المحظورات :

وهذه القاعدة متفرعة عن قاعدة لا ضرر المتقدمة كما نجده في قاعدة لا ضرر للسيد السيستاني وغيره ، ومن أوضح تطبيقاتها عندهم جواز التلفظ بكلمة الكفر في حال الاكراه عليها(١) .

ولا يخفى بان ما جوّزوه لا يكون إلاّ في حال التقيّة ، وهذا هو معنى صلة القاعدة بموضوع البحث ، وهو التقيّة ، على أن الشيخ الانصاري صرّح في بحث التقيّة بما يفيد المقام جداً وسوف نذكر نص كلامه في الحديث عن صلة حديث الرفع بالتقيّة ، فلاحظ.

وبما أنّ صلة هذه القواعد بالتقيّة صلة وثيقة جداً ، بل هي صلة الضرورة بالاكراه ، ومن هنا لا بدّ من التعرض للعلاقة القائمة بين الضرورة والاكراه ، تحت عنوان :

الفرق والاتفاق بين الضرورة والاكراه :

أولاً ـ الفرق بين الضرورة والاكراه :

ونكتفي هنا بفارقين مهمّين وهما :

الفرق الأوّل ـ اختلافهما في المسبب :

وذلك أن في الاكراه يُدفع المُكرَه إلى إتيان المحظور من قبل شخص آخر بقوة الاكراه.

وأما في الضرورة فلا يدفع المرء إلى ارتكاب المحظور أحد ، وإنما

__________________

(١) قاعدة لا ضرر / السيد السيستاني ١ : ١٥٨. والأشباه والنظائر / السيوطي : ٩٢ ٩٣.

٢٨

يكون المرء المضطر في ظرف خاص صعب يقتضي الخروج منه ارتكاب المحظور؛ لكي ينقذ نفسه أو عائلته من الهلاك المحتم ، كالاضطرار إلى أكل لحم الميتة في حالة الجوع الشديد مع عدم وجود ما يؤكل غيره.

الفرق الثاني ـ اختلافهما في الحكم :

ويتّضح هذا الفرق من خلال معرفتنا بأنّ امتناع المكرَه عن تنفيذ ما أُكرِه عليه قد يكون في بعض صور الإكراه واجباً عليه كما في الإكراه على القتل مثلاً.

وأما في حالة الاضطرار إلى ارتكاب المحرم لسد الرمق بعد الوقوع في مخمصة فالامتناع عنه حرام يعاقب عليه.

ثانياً : الاتفاق بين الضرورة والإكراه :

يمكن القول بأنّ الفرق الأخير يُعدُّ من حيثية أُخرى اتفاقاً بين الضرورة والإكراه ، لأنَّ كلاً منهما يهدف إلى صيانة النفوس من التلف.

وهذا لا يعني انعدام الصلة بينهما إلاّ في هذه الحيثية ، بل هناك جوانب اتفاق بين الضرورة والإكراه ، وهي :

١ ـ اتّفاقهما في جهة الفاعل :

لأنّ الفاعل فيهما لا يجد سبيلاً للخلاص من الشر المحدق به غير ارتكاب المحظور.

٢ ـ اتّفاقهما في من تترتّب عليه الآثار :

وهو هاهنا واحد ، وهو الفاعل سواءً كانت الآثار سلبا عليه كما في حال امتناعه عن ارتكاب المحظور عن ضرورة أو إكراه ، أو إيجابا له كما لو ارتكبه بسبب أيٍّ منهما كما هو واضح.

٢٩

٣ ـ اتّفاقهما في إباحة بعض المحظورات الشرعية :

ومن نقاط الاتفاق الواضحة بينهما هو أن الضرورة تجعل المحظور مباحاً كما مرَّ في قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) ، وكذلك الحال مع الاكراه ، إذ يبيح ارتكاب بعض المحرمات ، ومنها المساس بحقوق الآخرين.

وعلى هذا الوجه يدخل الاكراه في مفهوم الضرورة العام الذي يعني تحققها بمجرد حلول خطر لا يندفع إلاّ بمحظور(١) .

ومن هنا يتبين عدم الفرق بينهما من جهة الملاك ، لأنّ ملاكهما واحد ، وهو رفع الضرر الأهم بارتكاب ترك المهم(٢) .

ولهذا علّل بعض فقهاء القانون الوضعي انتفاء المسؤولية في حالة الضرورة بفكرة الاكراه؛ لأنَّ من يكون في حالة ضرورة هو مكره على الفعل الذي يخلصه منها ، وكثير منهم قرن أحدهما بالآخر(٣) .

وبهذا العرض الموجز عن الاكراه وصلته بالضرورة والتقيّة ، نعود إلى الحديث عن التقيّة لنتعرف أولاً على أصولها ومصادرها التشريعية عبر بيان أدلتها من القرآن الكريم والسُنّة المطهّرة ، ودليل العقل والإجماع.

__________________

(١) راجع : الضرورة في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي / الدكتور محمد محمود عبدالعزيز الزيني : ٥٩ ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، الاسكندرية / ١٩٩٣ م.

(٢) راجع القواعد الفقهية / ناصر مكارم الشيرازي ٢ : ١٩.

(٣) راجع الإحكام العامة في قانون العقوبات / الدكتور السعيد مصطفى السعيد : ٤١٧ ، وشرح قانون العقوبات القسم العام / الدكتورمحمود المصطفى : ٣٢٦ نقلاً عن الضرورة للدكتور محمد محمود الزيني : ٢٢٣.

٣٠

الفصل الثاني

أدلة التقيّة وأصولها التشريعية

المبحث الأول

أدلة التقيّة من القرآن الكريم

لا شكّ أنَّ من قال بالقرآن الكريم صدَق ، ومن حكم به عَدَل ، ومن عمل به أُجِر ، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم.

وكيف لا ، وهو يهدي للتي هي أقوم ، مع كونه بياناً للناس وهدىً وموعظة للمتقين؟

ومع هذه الحقيقة الناصعة التي طفحت بها آيات الكتاب ، وأكدتها السُنّة النبوية بأعظم التأكيد ، إلاّ إنّك قد تجد من يسيء إلى المفاهيم القرآنية الواضحة فيه أبلغ الإساءة كمفهوم التقيّة ، فيدّعي أنها من النفاق! وهذا يكشف عن كون اتخاذ القرار في التخطيط لأية مسألة فكرية تتصل بعقيدة المسلمين ، أو الأحكام الشرعية وفهمها فهماً دقيقاً لا يناط أبداً بغير المخلص الكفوء ، خشيةً من الوقوع في الانحراف الفكري عن قصد أو بدون قصد.

٣١

والعجب إنّك ترى تلك الإساءة ممن يدّعي العلم والفهم وتلاوة القرآن الكريم ، وكأنه لم يمر في تلاوته أبداً على ما سنتلوه عليك من آيات بينات وما قاله المفسرون بشأنها.

إنَّ الآيات القرآنية الدالة على اليسر ونفي الحرج وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة ، أو المشيرة إلى أنّ المُكرَه أو المضطر إلى المحرم لا جرم عليه ، غير خافية على أحد ، ولا ينكرها إلاّ الجاهل المتعسف أو المعاند الصلف ، وكلامنا ليس مع هذا الصنف ، بل مع من يعي أن نبينا الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بالحنيفية السمحة ثم يشتبه عليه أمر التقيّة.

ونحن إذ نتعرض هنا للأدلة القرآنية الدالة على مشروعية التقيّة ، نود التذكير بأن الدليل الواحد المعتبر الدال على صحة قضية يكفي لإثباتها ، فكيف لو توفّرت مع إثباتها أدلة قرآنية كثيرة ، لم يُختَلَف في تفسيرها؛ لأنّها محكمة يُنبئ ظاهرها عن حقيقتها ولا مجال لمتأوّلٍ فيها؟

ومع هذا سوف لا نكتفي بدليل قرآني واحد ، بل سنذكر أربع آيات مباركة ، من بين الآيات القرآنية الكثيرة الدالة على مشروعية التقيّة.

والسبب في هذا الحصر والانتقاء ، إنّا وجدنا القرآن الكريم قد تعرض إلى بيان تقية المؤمنين في الاُمم السالفة بآيتين صريحتين ، كما وجدناه قد أمضى تلك التقيّة بتشريعاته الخالدة في أكثر من آية ، انتقينا منها آيتين فقط ، لما فيهما من وضوح تام حول امتداد ظل ذلك التشريع العظيم إلى وقت مبكر من عمر الرسالة الخاتمة.

ومن هنا قسّمنا الأدلة المذكورة على قسمين : أحدهما ، ما اتصل بالتقيّة قبل الإسلام ، والآخر : ما اتصل بها عند انطلاق دعوة الحق من البيت

٣٢

العتيق ، واليك التفصيل :

أولاً : الأدلة القرآنية الدالة على التقيّة قبل الإسلام.

الآية الاُولى : حول تقية أصحاب الكهف.

قال تعالى : «وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبثْنَا يَوماً أو بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرَقِكُمْ هذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزكى طَعَاماً فلْيأتِكُمْ بِرِزقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً * إنَّهُمْ إنْ يَظْهَرُوا عَلَيكُمْ يِرْجُمُوكُمْ أوْ يُعِيدُوكُمْ في مَلَّتِهم وَلَن تُفلِحُوا إذاً أبداً »(١) .

في هاتين الآيتين المباركتين أصدق تعبير على أنّ التقيّة كانت معروفة وجائزة في شرع ما قبلنا (نحن المسلمين) وهي صريحة في تقية أصحاب الكهف رضي اللّه تعالى عنهم ، وقد أفاض المفسرون في بيان قصتهم وكيف أنّهم كانوا في ملّة كافرة وأنهم كانوا يكتمون إيمانهم قبل أن يدعوهم ملكهم إلى عبادة الأصنام ، فلجأوا إلى الكهف بدينهم(٢) .

ما يشكل به من القرآن الكريم على عدم تقيّتهم :

قد يقال بأنَّ اللّه عزَّ وجلَّ أورد من نبأهم ما يدل على عدم تقيتهم ، كقوله تعالى : «وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِم إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٩ ـ ٢٠.

(٢) راجع : تفصيل قصتهم في مجمع البيان / الطبرسي٥ : ٦٩٧ ـ ٦٩٨. وزاد المسير / ابن الجوزي ٥ : ١٠٩ ـ ١١٠. والجامع لأحكام القرآن / القرطبي١٠ : ٣٥٧ ـ ٣٥٩. وتفسير الطبري ١٥ : ٥٠. والدر المنثور / السيوطي٥ : ٣٧٣. والتفسير الكبير / الفخر الرازي٢١ : ٩٧. وتفسير أبي السعود٦ : ٢٠٩. وقد وردت قصتهم عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة وغيرهم.

٣٣

لَنْ نَدْعُوا مِن دُونِهِ إلهاً لَقَدْ قُلْنَا إذاً شَطَطاً »(١) وهذا القول دالٌ على عدم تقيتهم.

وقولهم : «رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالأرضِ لَنْ نَدْعُوا مِنْ دُونِهِ إلهاً » ، هو قول من لا يرى التقيّة أصلاً ، فأين تقية أصحاب الكهف إذن؟!

جواب الإشكال :

أوّلاً ـ من القرآن الكريم :

وبيان ذلك أنَّ ما صدر عنهم من أقوال معبِّرة عن عدم تقيتهم إنّما صدر بعد انكشاف أمرهم ، إذ كانوا قبل ذلك يكتمون إيمانهم عن ملكهم كما في لسان قصتهم ، على أن في القصة ذاتها ما يعبر بوضوح عن إيصائهم لمن بعثوه بعد انتهاء رقدتهم بالتقيّة ، كما يفهم من عبارة «وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أحَداً ».

ثانيا ـ من حديث الإمام الصادقعليه‌السلام الصريح بشدّة تقيّتهم :

ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف ، إنْ كانوا ليشهدون الأعياد ، ويشدّون الزنانير ، فأعطاهم اللّه أجرهم مرتين »(٢) .

إذن ، تقية أصحاب الكهف لا مجال لانكارها في جميع الأحوال سواء قبل تصميمهم على ترك المداراة مع القوم واللجوء إلى الكهف ، أو بعد انتهاء رقدتهم ، ولكن الحق ، أن تقيتهم الاُولى كانت قاسية على نفوسهم

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١٤.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٧٤ ـ ١٧٥ / ١٤ و ١٩ كتاب الإيمان والكفر باب التقيّة ، المكتبة الإسلامية ، طهران / ١٣٨٨ هـ.

٣٤

لما فيها من مجاهدة نفسية عظيمة؛ لا سيّما إذا علمنا أنهم من أعيان القوم ومن المقربين إلى الملك الكافر دقيانوس قبل أن ينكشف أمرهم.

ولا ريب بان تقية المسلم من المسلم لا تكون مثل تقية المسلم من الكافر ، بل وما يُكرَه عليه المسلم من كافر مرة واحدة أو مرات لا يُقاس بمعاناة الفتية الذين آمنوا بربهم ، لأنهم قضوا شطراً من حياتهم بين قوم عكفوا على عبادة الأصنام والأوثان.

وبهذا يتّضح الوجه في شدّة تقيّتهم كما مرّ عن الإمام الصادقعليه‌السلام ؛ إذ كيف لا يشدّون الزنّار على وسطهم وهم عاشوا في أوساطهم؟ وكيف لا يشهدون أعيادهم وهم من أعيانهم؟

ثالثا ـ من تصريح علماء العامّة بتقيّتهم :

وهو ما ذهب إليه عمدة المفسّرين من العامّة كما يظهر من :

١ ـ تصريح الرازي بتقيّتهم :

قال الفخر الرازي : (وقوله : «وَلْيَتَلَطَّفْ » أي : يكون ذلك في سر وكتمان ، يعني دخوله المدينة وشراء الطعام)(١) .

٢ ـ تصريح القرطبي بتقيّتهم :

وأوضح من هذا ما صرّح به القرطبي المالكي بشأن توكيل أصحاب الكهف لأحدهم بشراء الطعام مع إيصائه بالتقيّة من القوم الكافرين باخفاء الحقيقة عنهم بالتكتم عليها ، فقال ما هذا نصه :

(في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنّما كانت مع التقيّة خوف ان يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من خوف على أنفسهم ، وجواز توكيل

__________________

(١) التفسير الكبير / الفخر الرازي ٢١ : ١٠٣.

٣٥

ذوي العذر متفق عليه)(١) .

الآية الثانية : حول تقية مؤمن آل فرعون.

قال تعالى : «وقالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُم بالبَيِّناتِ مِن رَبِّكُم وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصبكُمْ بَعْضُ الّذي يَعِدُكُمْ إنَّ اللهَ لا يَهدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ »(٢) .

هذه الآية المباركة هي الاُخرى تحكي مشروعية التقيّة قبل بزوغ شمس الإسلام بقرون.

وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية على التقيّة سوف نذكر طائفة من أقوال المفسرين بشأنها؛ ليُعلم اتفاقهم على مشروعية التقيّة قبل الإسلام ، وسيأتي تصريحهم ببقائها إلى يوم القيامة ، كالآتي :

١ ـ ما قاله الماوردي بشأن تقيّة مؤمن آل فرعون :

نقل الماوردي في تفسيره عن الحسن البصري ، أنّ هذا الرجل كان مؤمناً قبل مجيء موسىعليه‌السلام ، وكذلك امرأة فرعون ، فكتم إيمانه.

وأورد عن الضحاك ، بأنّه كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ، ثم أظهره فقال ذلك في حال كتمه(٣) .

ولا شكّ أنَّ ما يعنيه كتمان الإيمان هو التقيّة لا غير؛ لأنه إخفاء أمر ما خشية من ضرر إفشائه ، والتقيّة كذلك.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٠ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٢٨.

(٣) النكت والعيون / الماوردي ٥ : ١٥٣ ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

٣٦

٢ ـ ما قاله ابن الجوزي :

أورد ابن الجوزي عن مقاتل بشأن مؤمن آل فرعون : (إنّه كتم إيمانه من فرعون مائة سنة)(١) .

لقد بيّن لنا القرآن الكريم قبل الآية المذكورة السبب الذي دفع مؤمن آل فرعون إلى قوله المذكور ، وهو رغبة فرعون بقتل موسىعليه‌السلام ، قال تعالى : «وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُوني أقتُل موسى وَليَدَعُ رَبَّهُ إنِّي أخَافُ أنْ يُبدِّلَ دِينَكُمْ أوْ أن يُظهِرَ في الأرضِ الفَسَادَ »(٢) .

٣ ـ ما قاله الرازي :

وهنا قد يقال كما في تفسير الرازي : (إنّه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنّه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون؟).

وقد بيّن الرازي أن في المسألة قولين :

الأول : إنّ هذا المؤمن لما سمع قول فرعون : «ذَرُوني أقْتُلْ مُوسى »لم يصرح بأنه على دين موسىعليه‌السلام بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه ، مبيّناً ان المصلحة تقتضي ترك قتله ، لأنه لم يرتكب ذنباً وإنما كان يدعو إلى اللّه عزَّ وجلَّ ، وهذا لا يوجب القتل.

الثاني : إنّه كان يكتم إيمانه ، ولما علم بقول فرعون المذكور أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى وشافه فرعون بالحق(٣) .

__________________

(١) زاد المسير / ابن الجوزي ٧ : ٣١٢.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ٢٦.

(٣) التفسير الكبير / الرازي ٢٧ : ٦٠.

٣٧

على أن تقيته واضحة جداً حتى على القول الثاني؛ لأنّهرضي‌الله‌عنه كان قد أظهر إيمانه وشافه فرعون بالحق بعد أن كتمه بتصريح القرآن الكريم ، وكتمان الحق وإظهار خلافه هو التقيّة بعينها.

ثناء القرآن على مؤمن آل فرعون :

وهذا الرجل العظيم لم يصفه القرآن الكريم بالنفاق ، ولا بالمحتال المخادع ، بل وصفه بأشرف الصفات وأعظمها عند اللّه عزَّ وجل ، صفة الإيمان.

وكيف كان ، فقد أخرج المتقي الهندي في كنز العمال ، عن ابن النجار ، عن ابن عباس ؛ وعن أبي نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن ابن أبي ليلى مرفوعاً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون الذي قال : «أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ »والثالث : علي ابن أبي طالب ، وهو أفضلهم »(١) .

وفي تفسير المحرر الوجيز : قال الجوهري : (وقد أثنى اللّه على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسرّه ، فجعله اللّه تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر)(٢) .

وفي تفسير القرطبي في تفسيره الآية المذكورة قال : (إن المكلف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه

__________________

(١) كنز العمال / المتقي الهندي ١١ : ٦٠١ / ٣٢٨٩٧ و ٣٢٨٩٨ ، ط٥ ، مؤسسة الرسالة ، بيروت. وفي حاشية كشف الأستار / محمد حسين الجلال : ٩٨ ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت / ١٤٠٥ هـ ، قال : (وحسّنه السيوطي).

(٢) المحرر الوجيز / ابن عطية ١٤ : ١٣٢ ، تحقيق المجلس العلمي بفاس / ١٤٠٧ هـ.

٣٨

فلا يكون مؤمناً بحال حتى يتلفظ بلسانه ، ولا تمنعه التقيّة والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين اللّه تعالى ، إنما تمنعه التقيّة من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنّما يشترط سماع الغير له ؛ ليكف عن نفسه وماله)(١) .

وبالجملة ، فإنّ جميع المفسرين الذين وقفت على تفسيرهم اعترفوا بتقية مؤمن آل فرعون ، ولولا خشية الاطالة لأوردنا المزيد من أقوالهم ، ويكفي أن الخوارج الذين زعم بعضهم بأنهم ينكرون التقيّة قد صرّح أباضيتهم بالتقيّة في تفسيرهم لهذه الآية :

قال المفسر الاباضي محمد بن يوسف اطفيش عن الرجل المؤمن : (فمعنى كونه من آل فرعون أنه فيهم بالتقيّة مظهراً أنّه على دينهم ، وظاهر قوله «ياقَوم » أنّه منهم إلى أن قال واستعمل الرجل تقية على نفسه ، ما ذكر اللّه عزَّ وجلَّ عنه بقوله : «وإنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيهِ كَذِبُهُ »)(٢) .

ثانياً : الأدلة القرآنية الدالة على امضاء التقيّة في الإسلام :

الآية الاُولى : حول جواز الكفر باللّه تقيةً :

ويدل عليه قوله تعالى : «مَنْ كَفَرَ باللهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلبُهُ مُطْمَئنٌ بالإيمانِ وَلكِن مَنْ شَرَحَ بالكُفرِ صَدْرَاً فَعَلَيهِمْ غَضَبٌ مَنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ »(٣) .

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٥ : ٣٠٧.

(٢) تيسير التفسير / محمد بن يوسف بن اطفيش الأباضي ١ : ٣٤٣ ـ ٣٤٥.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١٠٦.

٣٩

نزول الآية بمكة بشأن عمار بن ياسر وأصحابه :

نزلت هذه الآية المباركة باتفاق جميع المفسرين في مكة المكرمة وفي البدايات الاُولى من عصر صدر الإسلام ، يوم كان المسلمون يعدون بعدد الأصابع ، ومن مراجعة ما ذكروه بشأن هذه الآية يُعلم أن التقيّة قد أُبيحت للمسلمين أيضاً في بدايات الإسلام الأولى ، وانها أُبقيت على ما كانت عليه في الأديان السابقة ولم تنسخ في الإسلام ، بل جاء الإسلام ليزيدها توكيداً ورسوخاً لكي يتترس بها أصحاب الدين الفتي أمام طغيان أبي سفيان وجبروت أبي جهل كما تترس بها من قبل أهل التوحيد أمام ظلم المشركين فيما اقتص خبره القرآن الكريم ، وصرّح به سائر المفسرين.

فقد أخرج ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود ما يؤكد نزول الآية بشأن عمار بن ياسر وأصحابه الذين أخذهم المشركون في مكة وأذاقوهم ألوان العذاب حتى اضطروا إلى موافقة المشركين على ما أرادوا منهم.

وقد علّق الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي على هامش حديث ابن ماجة المذكور ، بقوله (أي : وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقيّة في مثل هذه الحال جائزة ، لقوله تعالى : «إلاَّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلبُه مُطمئنٌ بالإيمان »(١) .

الآية أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه :

وقال الجصاص الحنفي في تفسير الآية المذكورة : (هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه ، والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ٥٣ ، ١٥٠ باب ١١ في فضل سلمان وأبي ذر والمقداد ، دار إحياء الكتب العربية ، وانظر التعليق عليه في الهامش رقم (١) من الصفحة المذكورة.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وقال الفضل(١) :

نعوذ بالله من نسبة الظلم والعدوان إلى الله المنّان ، وخلق المعصية في العاصي لم يستوجب الظلم ، والظلم تصرّف في حقّ الغير ، والله تعالى لا يظلم الناس في كلّ تصرّف يفعل فيهم.

وقد روي أنّ عمرو بن العاص سأل أبا موسى ، فقال : يخلق فيّ المعصية ثمّ يعاديني بها؟! فقال أبو موسى : لأنّه لا يظلمك(٢) .

وتوضيح هذا المبحث : إنّ النظام الكلّي في خلق العالم يقتضي أن يكون فيه عاص ومطيع ، كالبيت الذي يبنيه حكيم مهندس ، فإنّه يقتضي أن يكون فيه بيت الراحة ومحلّ الصلاة ، وإن لم يكن مشتملا على المستراح كان ناقصا ، وكذلك إن لم يكن في الوجود عاص لم يكمل النظام الكلّي ، ولم يملأ النار من العصاة

وكما إنّه لا يحسن أن يعترض على المهندس : إنّك لم عملت المستراح ولم تجعل البيت كلّه محلّ العبادة ومجلس الأنس؟! كذلك لم يحسن أن يقال لخالق النظام الكلّي : لم خلقت العصيان؟! ولم لم تجعل العباد كلّهم مطيعين؟! لأنّ النظام الكلّي كان يقتضي وجود الفريقين ، فإنّ التصرّف الذي يفعله صاحب البيت في جعل بعضه مسجدا وبعضه مستراحا هل يقال : هو ظلم؟! فكذلك تصرّف الحقّ سبحانه في الموجود

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٥ ـ ٢٧.

(٢) انظر : الملل والنحل ١ / ٨١ وفيه : « يقدر عليّ شيئا ثمّ يعذّبني عليه ، قال : نعم ، قال عمرو : ولم؟! قال : لأنّه لا يظلمك ».

١٤١

بأيّ وجه يتّفق لا يقال : إنّه ظلم.

ولكنّ المعتزلي الأعمى يحسب أنّ الخلق منحصر فيه ، وهو مالك لنفسه والله ملك عليه ، لا يعلم أنّه مالك مطلق!!

ألا ترى أنّ الرجل الذي يعمل عملا ، ويستأجر على العمل رجالا ، ويستعمل معهم بعض عبيده الأرقّاء ، فإذا تمّ العمل أعطى الأجراء أجرتهم ، ولم يعط العبيد شيئا ، هل يقال : إنّه ظلم العبيد؟! لا شكّ أنّه لا يقول عاقل : إنّه ظلم العبيد ؛ وذلك لأنّه تصرّف في حقّه بما شاء.

ثمّ إنّ هذا الرجل لو حمّل العبد فوق طاقته أو قطع عنه القوت واللباس يقال : إنّه ظالم ؛ وذلك لأنّه تجاوز عن حدّ ما يملكه من العبد ، وهو التصرّف حسبما أذن الله تعالى فيه ، فإذا تجاوز من ذلك الحدّ فقد ظلم وذلك لأنّه ليس بالمالك المطلق ، ولو كان هو المالك المطلق ، وكان له التصرّف حيثما شاء وكيفما أراد ، لكان كلّ تصرّفاته عدلا ، لا جورا ولا ظلما.

وكذلك الحقّ سبحانه هو المالك المطلق ، وله التصرّف كيفما شاء وحيثما أراد ، فلا يتصوّر منه ظلم بأيّ وجه تصرّف.

هذا هو التحقيق ولا تعد عن هذا!

* * *

١٤٢

وأقول :

من المضحك استدلاله بما عن أبي موسى عن دعوى عدم الظلم ، ردّا على ما يدركه كلّ ذي وجدان ، من أنّ خلق المعصية والمعاداة عليها سفه وظلم ، فكأنّه لم يرض أن يختصّ شيخهم الأشعري بهذه الخرافة حتّى أشرك معه جدّه ، ولا يخفى أنّ تنظيره بالبيت مخالف لما نحن فيه من وجهين :

الأوّل : إنّ حسن وجود المستراح في البيت ومدخليّته فيه ظاهر لكلّ أحد ، إذ لولاه لتلوّث البيت وتكدّرت حياة أهله ، بخلاف محلّ النزاع من أفعال العباد ، كالجور والنميمة والقتل والسرقة وقطع السبيل ونحوها ، فإنّها شرور في العالم توجب الفساد فيه والنقصان في نظامه لا الكمال.

الثاني : إنّ جعل المستراح محلّا للقذر لا ظلم فيه له لعدم شعوره ، بخلاف جعل العاصي محلّا للأفعال الذميمة ثمّ عقابه عليها.

ومن أغرب الغريب قوله : « ولم يملأ النار من العصاة »

فإنّه كلام من يرى أنّ لله سبحانه حاجة وفائدة في أن يملأها من عباده.

على أنّه إذا كان له التصرّف كيفما شاء لم يحتج إلى خلق المعصية ، بل له أن يملأها منهم ابتداء.

وليت شعري أمن الرحمة بعدما كمّل بهم نظامه ووسمهم بالسوء أن يعاقبهم؟! بل هم أولى بالثواب.

١٤٣

ثمّ إنّ التمثيل بالبيت إنّما يناسب القول بالأصلح الذي لا يراه الأشاعرة ، وقد ذكره بعض المحقّقين(١) لتقريبه ، فأخذه الخصم من غير تدبّر ، ووضعه في غير موضعه ، على غير موافقة لمذهبه!

وما أدري ما فائدة ذكر استعمال العبيد بلا أجرة وهو لا يقرّب مطلوبه ولا يخالف قولنا؟!

وأمّا ما ذكره من حمل العبد فوق طاقته ، وقطع القوت واللباس عنه ، وأنّه ظلم وجور ، فهو أقرب إلى مطلوبنا ؛ لأنّ الظلم إنّما يكون فيه من حيث هو ، لا من حيث عدم إذن الشارع فيه ، بل لو أذن فيه عدّ آذنا في الجور ، وعدّ إذنه جورا آخر ، وأعظم منه في ظلم خلق الفعل في العبد وتعذيبه عليه بأنواع العذاب.

ودعوى أنّ لله سبحانه ذلك ، لأنّه المالك المطلق ، ممنوعة ؛ لأنّ الملك المطلق : عبارة عن سلطنة مطلقة غير مقيّدة بوجه ، ولا نسلّم أنّ من أحكامها وآثارها جواز الإضرار بالعبد بلا منفعة له ولا ذنب منه ، بل أحكامها وشؤونها رعاية العبد ورحمته وإنصافه ، وأيّ عاقل لا يعدّ ذلك الإضرار من التصرّف القبيح والظلم الصريح؟!

* * *

__________________

(١) ذكره العلّامة الدواني في بعض رسائله لبيان القول بالأصلح بنظام الكلّ ، كما في إحقاق الحقّ ٢ / ٢٨.

١٤٤

قال المصنّف ـ زاد الله في علوّ درجاته ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم منه تجويز انتفاء ما علم بالضرورة ثبوته

بيانه : إنّا نعلم بالضرورة أنّ أفعالنا إنّما تقع بحسب قصودنا ودواعينا ، وتنتفي بحسب انتفاء الدواعي وثبوت الصوارف ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّا متى أردنا الفعل ، وخلص الداعي إلى إيجاده ، وانتفى الصارف ، فإنّه يقع ، ومتى كرهناه لم يقع.

فإنّ الإنسان متى اشتدّ به الجوع وكان تناول الطعام ممكنا ، فإنّه يصدر منه تناول الطعام ، ومتى اعتقد أنّ في الطعام سمّا انصرف عنه ، وكذا يعلم من حال غيره ذلك ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ شخصا لو اشتدّ به العطش ولا مانع له من شرب الماء ، فإنّه يشربه بالضرورة ، ومتى علم مضرّة دخول النار لم يدخلها.

ولو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى ، جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه وانتفى الداعي إليه ، ويمتنع صدوره عنّا وإن أردناه وخلص الداعي إلى إيجاده على تقدير أن لا يفعله الله تعالى ، وذلك معلوم البطلان.

فكيف يرتضي العاقل لنفسه مذهبا يقوده إلى بطلان ما علم بالضرورة ثبوته؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٤.

١٤٥

وقال الفضل(١) :

قد سبق في تحرير المذهب : إنّ الأفعال تقع بقدرة الله تعالى عقيب إرادة العبد على سبيل العادة ، فإذا حصلت الدواعي وانتفت الصوارف يقع فعل العبد ، وإن جاز عدم الوقوع عقلا ، كما في سائر العاديّات التي يجوز عدم وقوعها عقلا ويستحيل عادة(٢) .

فكذا كلّ ما ذكره من تناول الطعام وشرب الماء ، فإنّه يجوز أن لا يقع عقيب إرادة الطعام ، ولكن العادة جرت بوقوعها.

وأمّا قوله : « ولو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه »

فهذا أمر صحيح ؛ فإنّ كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها ، وهذا الجواز ممّا لا ريب فيه ، وليس في إنكار هذا الجواز نفي ما علم بالضرورة.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٩.

(٢) تقدّم في الصفحة ١١٣ من هذا الجزء.

١٤٦

وأقول :

نتيجة كلامه الإصرار على مكابرة الضرورة فلا يلتفت إليه.

وأعجب منه قوله : « فإنّ كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها »

إذ أيّ عاقل يفعل ما يكره مع انتفاء الدواعي أو وجود الصوارف كما هو مفروض الكلام؟!

نعم ، ربّما نفعل ما نكره لداع أقوى من الصارف ، وهو أمر آخر ، بل لا تبقى الكراهة الحقيقية حينئذ.

* * *

١٤٧

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : تجويز ما قضت الضرورة بنفيه ؛ وذلك لأنّ أفعالنا إنّما تقع على الوجه الذي نريده ونقصده ، ولا تقع منّا على الوجه الذي نكره.

فإنّا نعلم بالضرورة أنّا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة ، ولو أردنا الحركة يسرة لم تقع يمنة ، والحكم بذلك ضروري.

فلو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن تقع الحركة يمنة ونحن نريد الحركة يسرة ، وبالعكس ، وذلك ضروريّ البطلان.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٥.

١٤٨

وقال الفضل(١) :

جواب هذا ما سبق في الفصل السابق : « إنّ هذه الأفعال إنّما تقع عقيب إرادة العبد عادة من الله تعالى ، وإنّ الله تعالى يخلق هذه الحركات عقيب إرادة العبد ، وهو يخلق الإرادة ، والضرورة إنّما تقضي على وقوع هذه الأفعال عقيب القصد والإرادة ، لا أنّها تقضي بأنّ هذه الإرادة مؤثّرة خالقة للفعل »(٢) .

والعجب أنّ هؤلاء لا يفرّقون بين هذين المعنيين!

ثمّ من العجب كلّ العجب أنّهم لا يرجعون إلى أنفسهم ولا يتأمّلون أنّ هذه الإرادة من يخلقها؟!! أهم يخلقونها أم الله تعالى يخلقها؟!

فالذي خلق الإرادة وإن لم يرد العبد تلك الإرادة ، وهو مضطرّ في صيرورته محلّا لتلك الإرادة ، خالق الفعل.

فإذا بلغ أمر الخلق إلى الفعل رقدوا كالحمار في الوحل ، ونسبوا إلى أنفسهم الأفعال ، وفيه خطر الشرك.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٣١.

(٢) تقدّم قريبا في الصفحة ١٤٦.

١٤٩

وأقول :

سبق في أوّل المبحث أنّ القول بعدم تأثير قدرة العبد واختياره خلاف الضرورة ، وأنّ من أنكر تأثير قدرته ليس له طريق إلى إثبات وجودها(١) .

كما سبق هناك أنّ الإرادة ومقدّماتها ، من تصوّر المراد ، والتصديق بمصلحته ، والرضا به ، أفعال للعباد وآثار لقدرتهم ، وأنّه ربّما تقع المقدّمات من الله تعالى ، وقد أوضحناه فراجع(٢) ، فلا محلّ لعجبه كلّ العجب.

ومن خلوّ وطاب(٣) الأشاعرة من النقد على مذهب العدليّة التجأوا إلى التهويل بالألفاظ ، فعبّروا عن فعل العبد بالخلق والشرك ، اللذين ينصرف أوّلهما إلى فعل كامل القدرة ، وثانيهما : إلى الشرك في الإلهيّة

وهم أحقّ بالشرك ؛ لإثباتهم الصفات الزائدة المغايرة لله تعالى في وجوده ، ولا تقوم الإلهيّة إلّا بها ، مع أنّهم ـ أيضا ـ أثبتوا هذه الصفات لأنفسهم(٤) !

__________________

(١) راجع الصفحة ١٢٠.

(٢) راجع الصفحة ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٣) الوطاب ، جمع وطب : وهو سقاء اللبن ؛ انظر : لسان العرب ١٥ / ٣٣٤ ، تاج العروس ٢ / ٤٦٩ ، مادّة « وطب ».

وهو هنا كناية عن خلوّ جعبتهم من الحجّة والبرهان.

(٤) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ١٣٨ ، المواقف : ٢٦٩ ؛ وقد تقدّم هذا البحث في ج ٢ / ١٧٣ وما بعدها ، فراجع.

١٥٠

ولا ريب أنّ دعوى المشاركة في الصفات الذاتية أعظم خطرا من دعوى المشاركة في الأفعال ، لا سيّما مع كونها بأقدار الله تعالى.

* * *

١٥١

مخالفة الجبريّة لنصوص القرآن

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزمهم مخالفة الكتاب العزيز ، ونصوصه ، والآيات المتضافرة فيه ، الدالّة على إسناد الأفعال إلينا.

وقد بيّنت في كتاب « الإيضاح » مخالفة أهل السنّة لنصّ الكتاب والسنّة(٢) ، بالوجوه التي خالفوا فيها آيات الكتاب العزيز ، حتّى إنّه لا تمضي آية من الآيات إلّا وقد خالفوا فيها من عدّة أوجه ، فبعضها يزيد على العشرين ، ولا ينقص شيء منها عن أربعة.

ولنقتصر في هذا المختصر على وجوه قليلة دالّة على أنّهم خالفوا صريح القرآن ، ذكرها أفضل متأخّريهم ، وأكبر علمائهم فخر الدين الرازي(٣) ، وهي عشرة :

الأوّل : الآيات الدالّة على إضافة الفعل إلى العبد :

( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) (٤)

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٥.

(٢) كتاب « إيضاح مخالفة السنّة لنصّ الكتاب والسنّة » للعلّامة الحلّي ، فرغ منه سنة ٧٢٣ ه‍ ، منه عدّة نسخ مخطوطة في مكتبات إيران ، ولم يطبع لحدّ يومنا هذا.

انظر : أمل الآمل ٢ / ٨٥ رقم ٢٢٤ ، الذريعة ٢ / ٤٩٨ رقم ١٩٥٤ ، مكتبة العلّامة الحلّي : ٦٢ رقم ٢١.

(٣) انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٣ ـ ٢٨٦.

(٤) سورة مريم ١٩ : ٣٧ ، سورة الذاريات ٥١ : ٦٠. ولم ترد هذه الآية في المصدر.

١٥٢

( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (١)

( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَ ) (٢)

( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (٣)

( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) (٤)

( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ) (٥)

( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) (٦)

( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) (٧)

( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (٨) (٩) .

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٧٩.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١١٦.

(٣) سورة الأنفال ٨ : ٥٣.

(٤) سورة يوسف ١٢ : ١٨ و ٨٣.

(٥) سورة المائدة ٥ : ٣٠.

(٦) سورة النساء ٤ : ١٢٣.

(٧) سورة الطور ٥٢ : ٢١.

(٨) سورة إبراهيم ١٤ : ٢٢.

(٩) انظر : محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٣.

١٥٣

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ النصّ ما لا يحتمل خلاف المقصود(٢) ، فكلّ ما كان كذلك من كتاب الله وخالفه المكلّف عالما به يكون كافرا ، نعوذ بالله من هذا ، وكلّ ما يحتمل الوجوه ، ولا يكون بحيث لا يحتمل خلاف المقصود ، فالمخالفة له لا تكون كفرا ، بل هو محتمل للاجتهاد والترجيح لما هو الأنسب والأقرب إلى مدلول الكتاب.

والعجب من هذا الرجل أنّه جمع الآيات التي أوردها الإمام الرازي ليدفع عنها احتمال ما يخالف مذهب أهل السنّة ، ثمّ أتى على الآيات كلّها ، ووافق مذهب السنّة لها ، ودفع عنها ما احتمل تطبيقه على مذهب المعتزلة وهذا الرجل ذكر الآيات كلّها ، وجعلها نصوصا مؤيّدة لمذهبه ، ولم يذكر ما ذكر الإمام في تأويل الآيات وتطبيقها على مذهب أهل السنّة والجماعة.

وهذا يدلّ على غاية حمق الرجل وحيلته وتعصّبه وعدم فهمه ، أما كان يستحي من ناظر في كتابه؟!

ومثله في هذا العمل كمثل من جمع السهام في وقعة حرب ، وكانت تلك السهام قتلت طائفة من أهل عسكره ، فأخذ السهام من بطون أصحابه ومن صدورهم وأفخاذهم ، ثمّ يفتخر أنّ لنا سهاما قاتلة للرجال ، ولم يعلم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٣٣.

(٢) انظر : شرح المصطلحات الكلامية : ٣٦٦ رقم ١٣٢٤ مادّة « النصّ ».

١٥٤

أنّ هذه السهام قتلت أحبّاءه وأعوانه ، نعوذ بالله من الجهل والتعصّب.

ثمّ جعل هذه الآيات دليلا على مذهبه الباطل ، من باب إقامة الدليل في غير محلّ النزاع.

فإنّا لا ننكر أنّ للفعل نسبة إلى الفاعل ، ونسبة وإضافة إلى الخالق ، كالسواد ، فإنّ له إضافة إلى الأسود ، لأنّه محلّه ، وإلى الخالق الذي خلقه في الأسود حتّى صار به أسود.

فقوله تعالى :( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) (١) فيه إضافة الكفر إلى العبد ، ولا شكّ أنّه كذلك ، وليس لنا فيه نزاع أصلا ، والكلام في الخلق لا في الكسب والمباشرة.

وقوله تعالى :( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (٢) لا شكّ أنّ الكتابة تصدر من يد الكاتب ، وهذا محسوس لا يحتاج إلى الاستدلال ، والكلام في الخلق والتأثير ، فنقول : الكتابة كسب العبد وخلق الحقّ.

ألم يقرأ هذا الرجل آخر هذه الآية :( ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) (٣) صرّح بالكسب وأنّ كتابتهم كسب لهم ، لا أنّه خلق لهم؟!

وقس عليه باقي الآيات المذكورة.

* * *

__________________

(١) سورة مريم ١٩ : ٣٧ ، سورة الذاريات ٥١ : ٦٠.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٧٩.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٧٩.

١٥٥

وأقول :

النصّ كما ذكره ، هو ما لا يحتمل الخلاف ، لكن لا بحسب الاحتمالات السفسطائية والأوهام ، وإلّا لم يكن نصّ أصلا ، بل بحسب طريقة الاستعمال وأفهام أهل اللسان كما هو ثابت في هذه الآيات الكريمة ؛ لأنّ نسبة الفعل الاختياري إلى فاعله إنّما يفهم منها تأثير الفاعل في الفعل وإحداثه إيّاه.

ولا يتصوّر عاقل أنّ نسبة الفعل الاختياري إلى الفاعل ذي القدرة والاختيار عبارة عن كون الفاعل محلّا فقط ، فلا يقاس ما نحن فيه بالأسود ، فإنّ السواد ليس باختياري لمن لا قدرة ولا اختيار له فيه.

ولكنّ الأشاعرة اصطلحوا وأثبتوا للفعل الاختياري نسبة إلى الفاعل بمعنى المحلّيّة ، لا يعرفها العرب ، وسمّوها الكسب ، ونسبة إلى الخالق ، وحملوا الكتاب العزيز على اصطلاحهم المتأخّر(١) .

ولأجل ما ذكرنا لم يتعرّض المصنّف لتأويل الرازي لو وقع منه ؛ لأنّ أجوبتهم تدور مدار الكسب الخرافي ، ولو كان له جواب ذو بال لما تركه الخصم وتعرّض للكسب!

فالحقّ أنّ تأويل الآيات بمثل ذلك يعدّ من تحريف الكلم عن مواضعه ، ويوجب إسقاط الكتاب العزيز عن الحجّيّة ، إذ لا نصّ في

__________________

(١) بل لم يستطع الأشاعرة أنفسهم من توضيح معنى الكسب! حتّى إنّ التفتازاني قال بعد تعريفه للكسب : « وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن » انظر : شرح العقائد النسفية : ١٤٤.

١٥٦

الكتاب إلّا ويمكن فيه مثل ذلك التأويل.

وأمّا استشهاده بتتمّة الآية فمن العجائب ؛ لأنّ المراد بالكسب فيها هو طلبهم لذلك الثمن القليل ، ولذا جعل تعالى الويل على كلّ من الكتابة والكسب منفردا.

ومن الجهالات المثل الذي ضربه ، مشيرا به إلى أنّ الآيات من أدلّة الأشاعرة ، وكانت سهاما لهم على خصومهم!

ولم ينكر ذو فهم أنّها من أدلّة العدليّة ، وغاية ما عند الأشاعرة تأويلها بالكسب الساقط.

فـ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) (١) .

* * *

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ٤٨.

١٥٧

قال المصنّف ـ نوّر الله ضريحه ـ(١) :

الثاني : ما ورد في القرآن من مدح المؤمن على إيمانه ، وذمّ الكافر على كفره ، ووعده بالثواب على الطاعة ، وتوعّده بالعقاب على المعصية

كقوله تعالى :( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) (٢)

( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣)

( وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) (٤)

( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (٥)

( لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (٦)

( هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ ) (٧)

( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٨)

( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (٩)

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٦.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ١٧.

(٣) سورة الجاثية ٤٥ : ٢٨.

(٤) سورة النجم ٥٣ : ٣٧.

(٥) سورة الأنعام ٦ : ١٦٤ ، سورة الإسراء ١٧ : ١٥ ، سورة فاطر ٣٥ : ١٨ ، سورة الزمر ٣٩ : ٧.

(٦) سورة طه ٢٠ : ١٥.

(٧) سورة الرحمن ٥٥ : ٦٠.

(٨) سورة النمل ٢٧ : ٩٠.

(٩) سورة الأنعام ٦ : ١٦٠.

١٥٨

( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) (١)

( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا ) (٢)

و( الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ) (٣) (٤) .

* * *

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ١٢٤.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٨٦.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٩٠.

(٤) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

١٥٩

وقال الفضل(١) :

مدح المؤمن وذمّ الكافر بكونهما محلّا للكفر والإيمان ، كما يمدح الرجل بحسنه وجماله ، وتمدح اللؤلؤة بصفائها.

والوعد والوعيد لكونهما محلّا للأعمال الحسنة والسيّئة ، كما يؤثر ويختار المسك ، ويحرق الحطب والحشيش.

والآيات المذكورة إنّما تدلّ على المدح للمؤمن ، والذمّ للكافر ، وبيان ترتّب الجزاء ، وليس النزاع في هذا ؛ لأنّ هذا مسلّم.

والكلام في أنّ الأفعال المجزية ، هل هي مخلوقة لله تعالى أو للعبد؟

وأمّا المباشرة للعمل والكسب الذي يترتّب عليه الوعد والوعيد والجزاء ، فلا كلام في أنّهما من العبد.

ولهذا يترتّب عليهما الجزاء ، فعلم أنّ ما في الآيات ليس دليلا لمذهبه.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٣٩.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169