تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم60%

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 83

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
  • البداية
  • السابق
  • 83 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32841 / تحميل: 5642
الحجم الحجم الحجم
تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

تاريخ السنّة النبويّة ثلاثون عاماً بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

٣

بسم الله الرحمن الرحيم

٤

تقديم

السنة النبوية ثاني مصادر التشريع في الإسلام بعد القرآن الكريم، وحجيتها من أكبر ضروريات الدين بلا أدني نزاع في ذلك بين المسلمين.

ينطلق المولف من هذه البديهية فيبحث في هذا الكتاب ما آلت إليه السنة النبوية الشريفة بعد ثلاثين عاماً على وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فيثبت أن تدوينها في عهده (صلى الله عليه وآله) كان أمراً مألوفاً يزاوله من قدر عليه من الصحابة، ثم يتتبع مسارها في الحقبة موضوع البحث فيري أنه عرف مرحلتين، ومتّلت ثانيهما مدة تولّي الإمام علي (عليه‌السلام ) الخلافة والقيادة السياسية والاجتماعية والدينية في الأمة (٣٥ هـ - ٤٠ هـ)، ويتبيّن من خلال التتبع التاريخي أن هاتين المرحلتين مختلفتين كلّياً في منهج التعامل مه السنة، ففي أولاهما تمّ، من نحو أول، منع رواية السنة الشريفة وتدوينها بحجة اختلاطها بالقرآن الكريم، ومن نحو ثان كان يجتهد في قبالها في أمور كثيرة.

وفي ثانيتهما كان للإمام علي علاقة أخرى بالسنة يميّزها بعدان، أولها: أولهما: علمه بها علماً شمولياً وتفصيلياً وثانيهما: منهجه

٥

في التعامل معها رواية وتدويناً ما يحلّها في الموقع الذي وصفها الله ورسوله فيه. تودي دورها حاكمة للمصلحة لا محكومة لها.

ويسر مركز الغدير للدراسات الإسلامية أن يقدم هذه الدراسة لقرائة من منطلق الإسهام في خدمة السنة النبوية الشريفة لتأخذ موقعها الصحيح في حياتنا.

ومن الله نستمد العون وبه وحده التوفيق

مركز الغدير للدراسات الإسلامية

بيروت

٦

مدخل في حجّيّة السُنّة

السُنّة النبوية الشريفة - قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وفعله، وتقريره - ثاني مصادر التشريع في الإسلام، بعد القرآن الكريم.

والسُنّة النبويّة بعد ثبوت صدورها عنه صلى الله عليه وآله وسلم، حجّة، وحجّيّتها ضرورية، من ضروريّات الدين، من جحدها فقد كذّب بالدين، وأنكر القرآن الكريم، إذ إنّا لم نعرف أنّ القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى، إلاّ من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا لم يكن قوله حجّة، فلا أثر للقرآن إذن!!

وإنْ لم تكن السُنّة النبويّة حجّة، فلا معنىً لجميع العبادات والأحكام التي جاء تفصيلها من طريق السُنّة فقط؛ كصورة الصلاة، وأحكام الزكاة والصوم وحدودهما، ومناسك الحجّ، وغيرها من الأحكام التي أمر بها القرآن الكريم، ثمّ جاءت السُنّة بتفصيلها ووضع حدودها وشرائطها!!

فحجّيّة السُنّة النبوية إذن من أكبر ضروريّات الدين، بلا أدنى نزاع في ذلك بين المسلمين(١) ، بل هي بديهيّة لا تخفى على غير المسلمين أيضاً.

____________________

(١) راجع: د. عبد الغني عبد الخالق/ حجّيّة السُنّة: ٢٤٥ - ٣٨٢.

٧

القرآن الكريم يثبت حجّيّة السُنّة، ويُلزِم حفظها واتّباعها:

* قال تعالى:( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ وَيَغْفِرْ‌ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ‌ رَّ‌حِيمٌ ) (آل عمران ٣/٣١).

* وقال تعالى:( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ‌سُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ‌ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُ‌دُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّ‌سُولِ ) (النساء ٤/٥٩).

* وقال تعالى:( مَّن يُطِعِ الرَّ‌سُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ ) (النساء ٤/٨٠).

فاتّباع الرسول وإطاعته تشمل اتّباع سُنّته قطعاً، مع اتّباع ما جاء به من القرآن المنزَل عليه من ربّه، واتّباع سُنّته متوقّف على حفظها بداهةً، والردّ إلى الرسول ردٌّ إلى سُنّته، وهو متوقّف بالكامل على حفظها بداهةً.

* وقال تعالى:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّ‌سُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (الحشر ٥٩/٧)

* وقال تعالى:( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَ‌سُولُهُ أَمْرً‌ا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَ‌ةُ مِنْ أَمْرِ‌هِمْ ) (الأحزاب: ٣٣/٣٦).

٨

* وقال تعالى:( فَلَا وَرَ‌بِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ‌ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَ‌جًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (النساء ٤/٦٥)

وإنّما يكون حكم الله تعالى بيننا من خلال كتابه الكريم وما أنزله فيه من أحكام، وما يحكم به الكتاب فهو قضاء الله تعالى بيننا، وإلى هذا الأمر الواضح يرجع قبول الإمام عليّعليه‌السلام بتحكيم كتاب الله بينه وبين البغاة..

والأمر هكذا مع السُنّة النبويّة، وقد أُمرنا أن نردّ إليها نزاعاتنا وخلافاتنا، فما حكمت به فهو قضاء رسول الله، وإلى هذا الفهم يرجع أمر الإمام عليّعليه‌السلام لعبد الله بن عبّاس حين بعثه للاحتجاج على الخوارج، حيث أمره أن يحاكمهم إلى سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ..، وكلّ ذلك، صغيره وكبيره، ماضيه وحاضره، رهن بحفظ السُنّة النبويّة المطهّرة الشريفة.

أمر النبيّ بحفظ السُنّة:

* قال صلى الله عليه وآله وسلم: «نضّر اللهُ امرَأً سمع منّا حديثاً فحفظه حتّى يبلّغه غيره، فرُبّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُبّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه»(٢)

* وكان صلى الله عليه وآله وسلم في بعض خطبه التي شحنها بالأحكام، من أمر ونهي وبيان، يكرّر مراراً قوله: «ألا فليبلّغ الشاهدُ الغائبَ» كما هو ظاهرٌ في خطبته في حجّة الوداع، وفي خطبته بغدير خُمّ.

____________________

(١) سورة النساء ٤: ٦٥.

(٢) جامع بيان العلم: ح ١٦٠ - ١٧٥.

٩

وغير هذا كثير في منزلة السُنّة ولزوم حفظها، وهو بديهيّ أيضاً في شأن ثاني مصادر التشريع، المصدر الذي كانت مهمّته الأُولى التبيين عن المصدر الأوّل - القرآن - وتفصيله، وترجمة أحكامه وتعاليمه في الواقع المُعاش، الأمر الذي لا يمكن إيكاله إلى مصدر آخر غير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسُنّته، فحفظ السُنّة شرط حفظ الدين كلّه إذن.

ثمّ عزّز النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بلزوم صيانتها من أيّ دخيل في قول أو عمل، فقال:

* «إنّ كذباً علَيَّ ليس ككذبٍ على غيري، مَن يكذب علَيَّ بُني له بيتٌ في النار»(١) .

* «من كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار»(٢) .

* «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ»(٣) .

* «كلُّ محدَث بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار»(٤) .

حصيلة واحدة:

من قراءة لتلك المقدّمات، أيِّ قراءة، وبأيِّ اتّجاه، سوف نتوقّع حصيلة واحدة، وهي أنّ تدوين السُنّة في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان أمراً مألوفاً، يزاوله بعض من قدر عليه من الصحابة، وليس أمراً محتملاً وحسب.

____________________

(١) تذكرة الحفّاظ ١/٣.

(٢) متّفق عليه.

(٣) سنن ابن ماجة ١/ ح ١٤.

(٤) متّفق عليه.

١٠

فهل لهذه الحصيلة ما يؤيّدها من الواقع في ذلك العهد، فتكون حقيقةً ثابتة، تستوي عندها قراءتنا لتلك المقدّمات الصحيحة على قوائمها؟!

أم الواقع خلاف ذلك؟! فتبقى تلك المقدّمات الصحيحة نظريّات عائمة ليس لها قرار!

هذا ما نقرأه في بحثنا الأساس الآتي، حيث تداخُلُ الأرقام، وتعانق الأدلّة، ورجوع إلى العهد النبويّ، الأصل، بين فقرة وأُخرى.

تقسيم البحث:

في لحاظ العناصر المشتركة وعوامل التمايز التي تفصل بين الأدوار التاريخية، فقد مرّت السُنّة النبوية في هذه الحقبة المنتخبة في مرحلتين تختلفان كلّياً في منهج التعامل مع السُنّة، وعلى أساس هذا الاختلاف والتمايز المنهجي وقع تقسيم البحث على مرحلتين: مثّلت المرحلة الأُولى خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فامتدّت ربع قرن بعد الرسول مباشرةً، فيما انحصرت المرحلة الثانية في خمس سنين هي مدّة تولّي الإمام عليّعليه‌السلام الخلافة والزعامة السياسية والاجتماعية والدينية في الأُمّة.

ودراسة كلّ مرحلة تقع في مباحث تؤلّف مجتمعة الصورة الكاملة لتاريخ السُنّة في تلك المرحلة.

١١

المرحلة الأُولى

السُنّة في ربع قرن

نتابعها في مبحثين رئيسين، الأوّل: في التدوين والرواية، والثاني: في الموقع التشريعي.

المبحث الأوّل: التدوين والرواية.

هنا ثلاث علامات فارقة، أجملَها الذهبي، ونفصّلها في نقاط مع مزيد من التوثيق:

الفارقة الأولى: الاحتياط في قبول الأخبار.

قال الذهبي: كان - أبو بكر - أوّل من احتاط في قبول الأخبار.. إنّ (الجدّة) جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: ما أجد لكِ في كتاب الله شيئاً، وما علمتُ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر لكِ شيئاً! ثمّ سأل الناس، فقام المغيرة فقال: حضرتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيها - أي الجدّة - السدس.

فقال له أبو بكر: هل معك أحد؟

فشهد محمّد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر(١) .

هذا الخبر تضمّن فوائد جليلة، كان (الاحتياط في قبول الأخبار)

____________________

(١) تذكرة الحفّاظ ١/٢.

١٢

أوّلها، وثَمَّ فائدتان لم يذكرهما الذهبي، هما:

أ - في عدالة الصحابي:

إنّ هذا الاحتياط كان إزاء رواية الصحابي عن رسول الله مباشرةً، فالمغيرة، الصحابي، كان يروي عن مشاهدة قد يصحبها سماع أيضاً، يقول: «حضرتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيها السدس» ومع ذلك كان أبو بكر يحتاط في قبول روايته، حتّى وجد لها شاهداً حضر ذلك أو سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

وهذا مبدأ متين، منسجم مع ما قرّره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حفظ السُنّة وصيانتها، وهو مخالف تماماً لمبدأ (عدالة الصحابي) وقبول روايته مطلقاً، وإعفائه من قواعد الجرح والتعديل.

وسوف نجد أنّ موقف أبي بكر هذا قد سلكه عمر، وسلكه عثمان وسلكه عليّعليه‌السلام ، سلكوه جميعاً إزاء رواية الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرةً، ليتّضح من هذا كلّه بما لا شكّ فيه: أنّ مبدأ (عدالة الصحابي) قد وُلد متأخّراً، ولم يكن له أثر حتّى نهاية خلافة عليّعليه‌السلام ، بل وبعدها أيضاً بزمن غير قليل!

قال الخطيب البغدادي في الردّ على من زعم أنّ العدالة هي إظهار الإسلام وعدم الفسق الظاهر: يدلّ على صحّة ما ذكرناه أنّ عمر بن الخطّاب ردّ خبر فاطمة بنت قيس، وقال: «ما كنّا لندع كتاب ربّنا وسُنّة نبيّنا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم لا!».

قال: وهكذا اشتهر الحديث عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال: «ما

١٣

حدّثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ استحلفته» ومعلوم أنّه كان يحدّثه المسلمون(١) . ويستحلفهم مع ظهور إسلامهم، وأنّه لم يكن يستحلف فاسقاً ويقبل خبره، بل لعلّه ما كان يقبل خبر كثير ممّن يستحلفهم مع ظهور إسلامهم وبذلهم له اليمين.

وكذلك غيره من الصحابة، روي عنهم أنّهم ردّوا أخباراً رويت لهم ورواتها ظاهرهم الإسلام، فلم يطعن عليهم في ذلك الفعل، ولا خولفوا فيه، فدلّ على أنّه مذهب لجميعهم، إذ لو كان فيهم من يذهب إلى خلافه لوجب بمستقرّ العادة نقل قوله إلينا(٢) .

إذن فمبدأ (عدالة الصحابة) ليس له عين ولا أثر في عهد الصحابة، وسوف يأتي في الفقرات اللاحقة مزيد من الشواهد الحيّة على ذلك.

ب - في علم الصحابي:

تحدّث المغيرة هنا عن قضاء النبيّ في سهم الجدّة، وكان قد شهده بنفسه، وتحدّث محمّد بن مسلمة عن شهوده ذلك القضاء أيضاً، في حين ما زال ذلك غائباً عن أبي بكر، ونحو هذا قد حصل مع عمر أيضاً، فربّما غابت عنه سُنّة مشهورة، كما في قصّته مع أبي موسى الأشعري حين حدّثه بحديث: «إذا سلّم أحدكم ثلاثاً فلم يُجَب فَلْيَرجِع» فقال له عمر: لتأتينّي على ذلك ببيّنة أو لأفعلنّ بك!!

فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد إلاّ أصاغرنا! فقام

____________________

(١) أي من الصحابة، فالذي يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينبغي أن تكون له صحبة.

(٢) الكفاية في علم الرواية: ٨١، ٨٣ مختصراً.

١٤

أبو سعيد الخدري فشهد له عند عمر، فقال عمر: خَفِيَ علَيَّ هذا من أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ألهاني الصفق بالأسواق!(١) .

فهذه سُنّة مشهورة كان يتعلّمها أصاغر القوم، وقد خفيت عليه..

وكذا غاب عنه حكم السَقط، حتّى أخبره المغيرة ومحمّد بن مسلمة بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(٢) ، وغير ذلك أيضاً.

فهذه نافذة مطلّة على حقيقة واقعة، وهي أنّ الصحابي ليس بوسعه أن يحيط بجميع السُنّة، أقوال النبيّ وأفعاله وتقريراته، فمنها ما يغيب عنه، فلا يشهده، ولا يسمع به بعد ذلك إلاّ في نازلة كهذه.

وأيضاً فهُم في ما يشهدونه على تفاوت كبير في الحفظ والوعي:

قال البراء بن عازب: ما كلّ الحديث سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يحدّثنا أصحابنا، وكنّا مشتغلين في رعاية الإبل(٣) .

وقال مسروق - التابعي -: جالستُ أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا كالإخاذ(٤) ، الإخاذة تروي الراكب، والإخاذة تروي الراكبين، والإخاذة لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم، وإنّ عبدالله - يعني ابن مسعود - من تلك الإخاذ(٥) …..

ومسروق أيضاً قال: شاممتُ أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فوجدتُ

____________________

(١) صحيح البخاري - الاعتصام بالكتاب والسُنّة - باب ٢٢ ح ٦٩٢٠، تذكرة الحفّاظ ١/٦.

(٢) صحيح البخاري - الاعتصام بالكتاب والسُنّة - باب ١٣ ح ٦٨٨٧، تذكرة الحفّاظ ١/٧ - ٨.

(٣) المستدرك، وتلخيصه ١/٣٢٦.

(٤) الإخاذ: واحدها إخاذة، وهي الغدير.

(٥) الطبقات الكبرى ٢/٣٤٣.

١٥

علمهم انتهى إلى ستّة: عليّ، وعمر، وعبدالله، وزيد، وأبي الدرداء، وأُبَيّ.. ثمّ شاممتُ الستّة فوجدت علمهم انتهى إلى عليٍ وعبدالله!(١) .

وأنهى غيره علم الصحابة إلى ستّة أيضاً، هم المتقدّمون بأعيانهم إلاّ أبا الدرداء فقد أبدله بأبي موسى الأشعري، ثمّ أنهى علم الستّة إلى عليٍ وعمر(٢) .

وخلاصة القول عند ابن خلدون: إنّ الصحابة كلّهم لم يكونوا أهل فُتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنّما كان ذلك مختصّاً بالحاملين للقرآن، العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالاته، بما تلقّوه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أو ممّن سمعه منهم وعن عليتهم، وكانوا يسمّون لذلك: (القرّاء) لأنّ العرب كانوا أُمّة أُمّيّة(٣) .

الفارقة الثانية: المنع من التحديث:

قال الذهبي: إنّ الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه!(٤) .

فهنا أكثر من مشكلة ظاهرة، منها:

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٢/٣٥١، سير أعلام النبلاء ١/٤٩٣ - ٤٩٤، تدريب الراوي ٢/١٩٣.

(٢) الطبقات الكبرى ٢/٣٥١.

(٣) مقدّمة ابن خلدون: ٥٦٣ - الفصل السابع من الباب الرابع.

(٤) تذكرة الحفّاظ ١/٢ - ٣.

١٦

أ - ما يعود إلى (عدالة الصحابي) فيعزّز ما ذكرناه آنفاً.

ب - ظهور الاختلاف بين الصحابة في نقل السُنّة، إلى القدر الذي دعا أبا بكر إلى منعهم من ذِكر شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

لكن هناك من الاختلاف ما لا ضير فيه، كاختلاف اللفظ مع حفظ المعنى تامّاً، كحديث «من كذب علَيَّ فليتبوّأ مقعده من النار» ويُروى «من قال علَيّ ما لم أقل فقد تبوّأ مقعده من النار» فهما شيء واحد وإن اختلف اللفظ، وليس في هذا محذور بلا خلاف، والحديث كلّه قد يكون عرضة لهذا، إذ الغالب أنّ الصحابي إنّما يسمع الحديث من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرّةً، فإذا نقله من حفظه بعد زمن غير يسير، فهو عرضة لاختلاف اللفظ.

وليس هذا مطّرداً في كلّ الأحوال، فرُبّ لفظ إذا تبدّل بآخَر فقدَ بعضَ دلالاته، أو جاء اللفظ بدلالة زائدة لم تكن من الحديث!

وهناك اختلافات أُخرى خطيرة، مصدرها وهمُ الصحابي أو نسيانه، أو سماعه طرفاً من الحديث فقط، ونحو ذلك، ولقد ردّ كثير من الصحابة اختلافات ظهرت من هذا النوع، فمن ذلك:

* حديث عمر وابن عمر: «إنّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه» فردّته عائشة، فقالت: إنّكم تحدّثون عن النبيّ غير كاذبين، ولكنّ السمع يخطىَ، والله ما حدّث رسول الله أنّ الله يعذِّب المؤمن ببكاء أهله عليه! حسبكم القرآن( وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَی ) إنّما قال: «إنّه ليعذّب، بخطيئته وذنبه، وإنّ أهله ليبكون عليه».

وقد استدركت عائشة كثيراً على أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأنس ابن مالك وغيرهم، جمعها الزركشي في كتاب أسماه «الإجابة لإيراد ما

١٧

استدركته عائشة على الصحابة».

* وردّ الزبير رجلاً كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: أنت سمعتَ هذا من رسول الله؟! قال الرجل: نعم.

قال الزبير: هذا وأشباهه ممّا يمنعاني أن أتحدّث عن النبيّ! قد لعمري سمعتَ هذا من رسول الله، وأنا يومئذٍ حاضر، ولكن رسول الله ابتدأ بهذا الحديث فحدّثناه عن رجل من أهل الكتاب، فجئتَ أنتَ بعد انقضاء صدر الحديث، فظننتَ أنّه حديث رسول الله!(١) .

* ومن هذا الصنف ما ذُكر في اختلاط أحاديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأحاديثه عن كعب الأحبار!(٢) .

* ومنه قول عمران بن حصين: «والله إنْ كنت لأرى أنّي لو شئت لحدّثتُ عن رسول الله يومين متتابعين، ولكن بطّأني عن ذلك أنّ رجالاً من أصحاب رسول الله سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدّثون أحاديث ما هي كما يقولون! وأخاف أن يُشَبَّه لي كما شُبِّه لهم، فأُعلمك أنّهم كانوا يغلطون - وفي رواية: يُخطِئون - لا أنّهم كانوا يتعمّدون»(٣) .

هذه نبذة عن اختلاف الصحابة في الحديث، الذي سيكون سبباً في اختلافات أكبر حين ينتقل إلى المواضيع المستفادة من الحديث، في العقيدة والفقه والتفسير، وغيرها من نواحي المعرفة، وهذه كلّها سوف تكون بلا شكّ محاور نزاع الأجيال اللاحقة، وهذا ما رآه أبو بكر، فلجأ إلى

____________________

(١) محمود أبو ريّة/ أضواء على السُنّة المحمّدية: ١١٦ - ١١٧ عن ابن الجوزي.

(٢) سير أعلام النبلاء ٢/٦٠٦، البداية والنهاية ٨/١١٧، إرشاد الساري ٢/٦٩٠.

(٣) ابن قتيبة/ تأويل مختلف الحديث: ٤٩ - ٥٠.

١٨

قراره الأخير في المنع من الحديث والاكتفاء بالقرآن.

لكن هل كان المنع من رواية الحديث النبوي والرجوع إليه في الفتيا هو الحلّ الأمثل لهذه المشكلة؟!

هذا على فرض كونه من صلاحيّات الخليفة، وأنّ الخليفة مخوّل أن يوقف السُنّة النبوية متى شاء، روايةً وفتيا، وتدويناً أيضاً كما سيأتي!

أمّا إذا كان هذا كلّه فوق الخليفة وصلاحيّاته، فثمّة ما ينبغي التوقّف عنده طويلاً إذن!

ج - والمشكلة الثالثة التي يثيرها حديث أبي بكر، هي: ما سيعقب قرار المنع من ضياع لبعض السنن، كثيراً كان أو قليلاً! خصوصاً حين يمضي الأمر هكذا لعدّة سنين.

* في عهد عمر:

استمرّ هذا المنع من الحديث زمن عمر كلّه، ولم يقتصر حكمه على أبي هريرة وكعب الأحبار اللذين اتّهمهما في الحديث، وتوعّدهما بالطرد إلى ديارهما الأُولى إنْ هما لم يكفّا عن الحديث..

بل سرى إلى رجال من كبار الصحابة، منهم: عبدالله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو مسعود الأنصاري، فقال لهم: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله! فحبسهم في المدينة(١) .

وسرى أيضاً إلى أُمرائه، فقد كان يأخذ عليهم العهد باجتناب الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وربّما بالغ في هذا فمشى مع عمّاله بعض الطريق

____________________

(١) تذكرة الحفّاظ ١/٧.

١٩

يودّعهم، ثمّ يذكر لهم أنّه إنّما خرج معهم لأجل هذه الوصيّة: «إنّكم تأتون أهل قرية لهم دويٌّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله، وأنا شريككم»!

فلمّا قدم بعضهم العراق، قالوا له: حدّثنا. قال: نهانا عمر(١) .

حتّى توفّي عمر على هذه السيرة سنة ٢٤ هـ.

وهذه السيرة أيضاً جاءت على خلاف الحديث الذي رواه أبو موسى الغافقي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «عليكم بكتاب الله، وسترجعون إلى قومٍ يحبّون الحديث عنّي - أو كلمة تشبهها - فمن حفظ شيئاً فليُحدّث به، ومن قال علَيَّ ما لم أقل فليتبوّأ مقعده من النار» وقال أبو موسى: هذا آخر ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !(٢) .

* وفي عهد عثمان:

خطب الناس، فقال: «لا يحلّ لأحد يروي حديثاً لم يُسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر، فإنّه لم يمنعني أن أُحدّث عن رسول الله أن لا أكون من أوعى أصحابه، إلاّ أنّي سمعته يقول: من قال علَيَّ ما لم أقل فقد تبوّأ مقعده من النار»(٣) .

لكنّ عثمان لم يتّبع شدّة عمر وسيرته في هذا الأمر، فأطلق الصحابة الّذين حبسهم عمر في المدينة، وقد ذكر فيهم مع ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي مسعود الأنصاري، ثلاثة آخرون، هم: صادق اللهجة أبو ذرّ،

____________________

(١) تذكرة الحفّاظ ١/٧، المستدرك ١ ح ٣٤٧ وصحّحه الحاكم والذهبي.

(٢) المستدرك وتلخيصه ١/١٩٦ ح ٣٨٥.

(٣) منتخب كنز العمّال ٤/١٧٢.

٢٠

( قالَ لَهُمْ مُوسى ) بعد ما لقالوا له:( إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ) (١) ( أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) لم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة، توسّلا به إلى إظهار الحقّ.

( فَأَلْقَوْا ) فطرحوا( حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ ) بعلوّ منزلته وفرط قوّته( إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ) أقسموا بعزّته على أنّ الغلبة لهم، لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.

هذا من أقسام الجاهليّة. وفي الإسلام لا يصحّ الحلف إلّا بالله تعالى، أو ببعض أسمائه وصفاته. وفي الحديث: «لا تحلفوا إلّا بالله، ولا تحلفوا بالله إلّا وأنتم صادقون».

( فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ) تبتلع. وقرأ حفص: تلقف بالتخفيف.

( ما يَأْفِكُونَ ) ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بتمويههم وتزويرهم، فيخيّلون حبالهم وعصيّهم أنّها حيّات تسعى. أو إفكهم، تسمية للمأفوك به مبالغة.

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ) لـما بهرهم ما أظهره موسىعليه‌السلام ، من قلب العصا حيّة، وتلقّفها جميع ما أتعبوا به نفوسهم فيه، وعلموا أنّ مثله لا يتأتّى بالسحر، ولا يقدر عليه أحد من البشر، بل من عند الله الخالق للقوى والقدر.

وفيه دليل على أنّ منتهى السحر تمويه وتزوير، يخيّل شيئا لا حقيقة له. وأن التبحّر في كلّ فنّ نافع.

وإنّما بدّل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله، ويدلّ على أنّهم لـمّا رأوا ما رأوا، لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، بل كأنّهم أخذوا فطرحوا على وجوههم. وفاعل الإلقاء هو اللهعزوجل بما خوّلهم من التوفيق، أو معاينة المعجزة الباهرة.

__________________

(١) الأعراف: ١١٥.

٢١

روي: أنّهم قالوا قبل إلقاء الحبال والعصيّ: إن يك ما جاء به موسى سحرا فلن يغلب، وإن كان من عند الله فلن يخفى علينا. فلمّا قذف عصاه، فتلقّفت ما أتوا به، علموا أنّه من الله.

( قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) بدل من «ألقي» بدل الاشتمال. أو حال بإضمار «قد».( رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ) عطف بيان لـ «ربّ العالمين». وإتيانهم به لدفع توهّم أنّ غرضهم بربّ العالمين فرعون، لأنّه لعنه الله كان يدّعي الربوبيّة، فأرادوا أن يعزلوه. وللإشعار على أنّ الموجب لإيمانهم ما أجراه على أيديهما. عن عكرمة: أصبحوا كفرة سحرة، وأمسوا مؤمنين شهداء.

( قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) في تصديقه( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ) أستادكم( الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) فعلّمكم شيئا دون شيء، فلذلك غلبكم. أو فواعدكم على ذلك، وتواطأتم عليه. أراد به التلبيس على قومه، كي لا يعتقدوا أنّهم آمنوا عن بصيرة وظهور حقّ. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وروح: أآمنتم بهمزتين.

( فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) وبال ما فعلتم. ثمّ فسّر ذلك التهديد بقوله:( لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ) قطع اليد من جانب والرجل من الجانب الآخر، كقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ) مع ذلك على الجذوع، ولا أترك أحدا منكم لا تناله هذه العقوبة. قيل: إنّ أوّل من قطع الأيدي والأرجل فرعون.

( قالُوا ) في جوابه( لا ضَيْرَ ) أي: لا ضرر، فإنّ الضير والضور والضرّ والضرر واحد. أرادوا: لا ضرر علينا فيما تتوعّدنا به من القتل.( إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ) بالقتل، فإنّ الصبر عليه محّاء للذنوب، موجب للثواب والقرب من الله، أو بسبب من أسباب الموت، وقتلك أهونها وأرجاها، فإنّ ألمه ساعة عن قريب ينقضي، فنصل إلى جنّات النعيم مؤبّدين فيها. وعن الحسن: لم يصل فرعون إلى

٢٢

قتل واحد منهم ولا قطعه.

( إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا ) من السحر وغيره( أَنْ كُنَّا ) لأن كنّا( أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ) من أتباع فرعون، لأنّ بني إسرائيل كانوا آمنوا به. أو أوّل من آمن من أهل هذا المشهد عند تلك المعجزة.

( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) )

( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ) وذلك بعد سنين أقام بين أظهرهم، يدعوهم إلى الحقّ، ويظهر لهم الآيات، فلم يزيدوا إلّا عتوّا وفسادا. وقرأ ابن كثير ونافع: أن أسر، بكسر النون ووصل الألف، من: سرى.( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) يتّبعكم فرعون وجنوده. وهو علّة الأمر بالإسراء، أي: أسر بهم حتّى إذا اتّبعوكم مصبحين كنتم متقدّمين عليهم، بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على أثركم حتّى تلجون في البحر، فيدخلون مدخلكم من طريق البحر، فأطبقه عليهم فأغرقهم.

روي: أنّه مات في تلك الليلة في كلّ بيت من بيوتهم ولد، فاشتغلوا بموتاهم، فأوحى الله تعالى إلى موسى: أن اجمع بني إسرائيل، كلّ أربعة أبيات في بيت، ثمّ اذبحوا الجداء(١) واضربوا بدمائها على أبوابكم، فإنّي سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار القبط. واخبزوا خبزا فطيرا، فإنّه

__________________

(١) الجداء جمع الجدي، وهو ولد المعز في السنة الأولى.

٢٣

أسرع لكم. ثمّ أسر عبادي حتّى تنتهي إلى البحر، فيأتيك أمري.

( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ ) حين أخبر بسراهم( فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ) العساكر ليتبعوهم. فاجتمع حين خرج من مصر في أثر بني إسرائيل ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر(١) . مع كلّ ملك ألف. وكانت مقدّمته سبعمائة ألف، كلّ رجل على حصان، وعلى رأسه بيضة.

وعن ابن عبّاس: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث. فلذلك استقلّ قوم موسى وقال:( إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ) عددا. روي أنّهم كانوا ستّمائة وسبعين ألفا. وقلّتهم بالإضافة إلى جنود فرعون. والشرذمة: الطائفة القليلة.

ومنها: ثوب شراذم، لـما بلي وتقطّع قطعا. ذكرهم بالاسم الدالّ على القلّة، ثمّ جعلهم قليلا بالوصف، ثمّ جمع القليل، فجعل كلّ سبط منهم قليلا، واختار جمع السلامة الّذي هو للقلّة. ويجوز أن يريد بالقلّة الذلّة، ولا يريد قلّة العدد. والمعنى: أنّهم لا يبالى بهم، ولا يتوقّع غلبتهم وعلوّهم.

( وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ ) لفاعلون ما يغيظنا ويغضبنا، لمخالفتهم إيّانا في الدين، وخروجهم من أرضنا على كره منّا، وذهابهم بالحليّ الّذي استعاروها، وخلوصهم من استعبادنا( وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ ) نحن قوم مجتمعون من عادتنا الحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده. وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلّا يظنّ به ما يكسر من قهره وسلطانه.

وقرأ ابن عامر والكوفيّون: حاذرون. والأوّل(٢) للثبات، والثّاني للتجدّد.

وقيل: الحاذر: الكامل في السلاح. وهو أيضا من الحذر، لأنّ ذلك إنّما يفعل

__________________

(١) ملك مسوّر: مسوّد قدير.

(٢) أي: قراءة: حذرون.

٢٤

حذرا.

( فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) )

ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة إهلاكهم وإخراجهم من مساكنهم النفيسة بقوله:( فَأَخْرَجْناهُمْ ) بأن ألهمنا في قلوبهم داعية الخروج بهذا السبب، فحملتهم عليه( مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ) يعني: المنازل الحسنة والمجالس السنيّة.

وقيل: مجالس الأمراء. وعن الضحاك المنابر. وقيل: السرّ في الحجال(١) .

( كَذلِكَ ) نصب على المصدر، أي: أخرجناهم خروجا مثل ذلك الإخراج الّذي وصفنا. أو صفة «مقام» أي: مثل ذلك المقام الّذي كان لهم. أو الأمر كذلك، على أنّه خبر المحذوف.( وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ ) وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى ردّ بني إسرائيل إلى مصر، بعد ما أغرق فرعون وقومه، وأعطاهم جميع ما كان

__________________

(١) السرّ: الجماع. والحجال جمع حجلة، وهي بيت يزيّن للعروس.

٢٥

لفرعون وقومه من الأموال والعقار والمساكن والديار.

( فَأَتْبَعُوهُمْ ) يعني: قوم فرعون أدركوا موسى وأصحابه ولحقوهم( مُشْرِقِينَ ) داخلين وقت شروق الشمس. من: شرقت الشمس شروقا إذا طلعت.

( فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ ) تقاربا بحيث يرى كلّ منهما الآخر( قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) لملحقون. يعني: سيدركنا جمع فرعون، ولا طاقة لنا بهم.

( قالَ ) موسى: ثقة بنصر الله تعالى( كَلَّا ) لن يدركونا، ولا يكون ما تظنّون، فانتهوا عن هذا القول، فإنّ الله وعدكم الخلاص منهم( إِنَّ مَعِي رَبِّي ) بنصره وحفظه( سَيَهْدِينِ ) سيرشدني إلى طريق النجاة. وعن السدّي: سيكفيني.

روي: أنّ مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى، فقال: أين أمرت؟ فهذا البحر أمامك، وقد غشيك آل فرعون! فقال: أمرت بالبحر، ولعلّي أؤمر بما أصنع.

( فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ ) وهو نهر النيل ما بين أيلة ومصر. وقيل: هو بحر قلزم ما بين اليمن ومكّة إلى مصر. فضربه موسى بعصاه.

( فَانْفَلَقَ ) فانشقّ البحر، وظهر فيه اثنا عشر فرقا، بأن قام الماء عن يمين الطريق ويساره كالجبل العظيم. وذلك قوله:( فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) كالجبل المنيف الثابت في مقرّه. فدخلوا في شعابها، كلّ سبط في شعب. والفرق: الجزء المتفرّق. والفرق المصدر.

روي: أنّ موسىعليه‌السلام قال عند ذلك: يا من كان قبل كلّ شيء، والمكوّن لكلّ شيء، والكائن بعد كلّ شيء.

( وَأَزْلَفْنا ) وقرّبنا( ثَمَّ الْآخَرِينَ ) فرعون وقومه، حتّى دخلوا على أثرهم مداخلهم( وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ) بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ) بإطباقه عليهم.

( إِنَّ فِي ذلِكَ ) في فرق البحر، وإنجاء موسى وقومه، وإغراق فرعون

٢٦

وجنوده( لَآيَةً ) وأيّة آية( وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) وما تنبّه عليها أكثرهم، إذ لم يؤمن بها أحد ممّن بقي في مصر من القبط. وبنو إسرائيل ـ إلّا حبيب النجّار وآسية امرأة فرعون ـ بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها، واتّخذوا العجل وقالوا: لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة. فلا تستوحش يا محمّد من قعود قومك عن الحقّ الّذي تأتيهم به وتدلّهم عليه، فقد جروا على عادة أسلافهم في إنكار الحقّ وقبول الباطل.

( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ) المنتقم من أعدائه( الرَّحِيمُ ) بأوليائه.

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) )

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ ) على مشركي قريش( نَبَأَ إِبْراهِيمَ ) خبره، فإنّه شجرة الأنبياء، وبه افتخار العرب. وفيه تسلية لك، وعظة لقومك.

( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ ) لعمّه الّذي بمنزلة أبيه في تربيته، أو جدّ أمّه( وَقَوْمِهِ ) على وجه الإنكار عليهم( ما تَعْبُدُونَ ) كان إبراهيم يعلم أنّهم عبدة أصنام، ولكنّه سألهم

٢٧

ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحقّ العبادة في شيء، كما تقول للتاجر: ما مالك؟ وأنت تعلم أنّ ماله الرقيق، ثمّ تقول: الرقيق جمال وليس بمال.

( قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ ) مقيمين على عبادتها. وحقّ الجواب أن يقتصروا على قولهم: «أصناما» فحسب، لأنّ «ما تعبدون» سؤال عن المعبود فقط، لكن أطالوا الجواب بشرح أحوالهم معه، إظهارا لـما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار. وإنّما قالوا: نظلّ، لأنّهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. وقيل: «نظلّ» بمعنى: ندوم.

( قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ ) يسمعون دعاءكم؟ فحذف ذلك لدلالة قوله:( إِذْ تَدْعُونَ ) عليه. ومعناه: هل يستجيبون دعاءكم إذا دعوتموهم؟ ومجيئه مضارعا مع «إذ» على حكاية الحال الماضية استحضارا لها. ومعناه: استحضروا الأحوال الماضية الّتي كنتم تدعونها فيها، وقولوا: هل سمعوا؟ وهو أبلغ في التبكيت.

( أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ ) إذا عبدتموهم( أَوْ يَضُرُّونَ ) إن تركتم عبادتهم. وفي هذا بيان أنّ الدّين إنّما يثبت بالحجّة، ولو لا ذلك لم يحاجّهم إبراهيمعليه‌السلام هذا الحجاج.

( قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) أضربوا عن أن يكون لهم سمع، أو يتوقّع منهم ضرّ أو نفع، والتجؤا إلى التقليد.

( قالَ ) إبراهيم منكرا عليهم التقليد( أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ ) الّذي كنتم( تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ) فإنّ التقدّم والأوّليّة لا يكون برهانا على الصحّة، ولا ينقلب به الباطل حقّا. وإنّما دخل لفظ «كان» لأنّه جمع بين الحال والماضي.

( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ) يريد أنّهم أعداء لعابديهم، من حيث إنّهم يتضرّرون من جهتهم فوق ما يتضرّر الرجل من جهة عدوّه. أو أنّ المغري بعبادتهم أعدى أعدائهم، وهو الشيطان. لكنّه صوّر الأمر في نفسه، على معنى: أنّي فكّرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ الّذي هو الشيطان، فاجتنبتها وآثرت عبادة

٢٨

من الخير كلّه منه. وأراهم بهذا القول أنّه نصيحة نصح بها نفسه، تعريضا لهم، فإنّه أنفع في النصح من التصريح، وإشعارا بأنّها نصيحة بدأ بها نفسه، فيكون أدعى إلى القبول.

وإنّما جمع الأصنام جمع العقلاء، لـما وصفها بالعداوة التي لا تكون إلّا من العقلاء. أو المراد عبّاد الأصنام مع الأصنام عدوّ لي، لأنّه غلّب ما يعقل. وإفراد العدوّ لأنّه في الأصل مصدر.

( إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ) استثناء منقطع، كأنّه قال: لكن ربّ العالمين. أو متّصل على أنّ الضمير لكلّ معبود عبدوه، وكان من آبائهم من عبد الله.

( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) لأنّه يهدي كلّ مخلوق لـما خلق له من امور المعاش والمعاد، كما قال:( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ) (١) هداية مدرّجة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله، يتمكّن بها من جلب المنافع ودفع المضارّ. مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم، وبعد الخروج إلى معرفة الثدي عند الولادة، وإلى كيفيّة الارتضاع، وغير ذلك من هدايات المعاش. ثمّ هداه بتوفيق في المعرفة والطاعة إلى طريق الجنّة والتنعّم بلذائذها.

والفاء للسببيّة إن جعل الموصول مبتدأ، وللعطف إن جعل صفة «ربّ العالمين». فيكون اختلاف النظم لتقدّم الخلق واستمرار الهداية.

وقوله:( وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) على الأوّل مبتدأ محذوف الخبر، لدلالة ما قبله عليه. وكذا اللّذان بعده. وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أنّ كلّ واحدة من الصلات مستقلّة باقتضاء أنّه هو المعبود دون ما سواه. والمعنى: هو يرزقني بما أتغذّى به.

( وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) عطف على( يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) لأنّه من

__________________

(١) الأعلى: ٣.

٢٩

روادفهما، من حيث إنّ الصحّة والمرض في الأغلب يتبعان المأكول والمشروب.

وإنّما لم ينسب المرض إليه، بأن قال: أمرضني، لأنّ مقصوده تعديد النعم. ولا ينتقض بإسناد الإماتة إليه بعده، لأنّ الموت من حيث إنّه لا يحسّ به لا ضرر فيه، وإنّما الضرر في مقدّماته، وهي المرض. ثمّ إنّه لأهل الكمال وصلة إلى نيل الحياة الأبديّة والسعادة السرمديّة، الّتي تستحقر دونها الحياة الدنيويّة، وخلاص من أنواع المحن والبليّات. ولأنّ المرض في غالب الأمر إنّما يحدث بإفراط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه، ومن ثمّ قال الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم(١) . وعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحمية(٢) رأس كلّ دواء، والبطنة رأس كلّ داء».

أو لـما بين الأركان والأخلاط من التنافي والتنافر، والصحّة إنّما تحصل باستحفاظ اجتماعها والاعتدال المخصوص عليها قهرا، وذلك بقدرة العزيز الحكيم. والمعنى: فهو يفعل بي ما يصحّ عنده بدني.

( وَالَّذِي يُمِيتُنِي ) بعد أن كنت حيّا( ثُمَّ يُحْيِينِ ) يوم القيامة بعد أن أكون ميّتا.

( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) ذكر ذلك انقطاعا إلى الله، وهضما لنفسه، وتواضعا منه، وتعليما للامّة أن يجتنبوا المعاصي، ويكونوا على حذر منها، ويطلبوا المغفرة ممّا يفرط منهم، فإنّ الأنبياء صلّى الله عليهم معصومون منزّهون من الخطايا والآثام، لـما برهن في علم الكلام، وانعقد إجماع الطائفة الحقّة ـ وهم الإماميّة ـ عليه، ونقل عن أئمّتناعليهم‌السلام . فاستغفارهم إنّما هو محمول على تواضعهم لربّهم، وهضمهم لأنفسهم، وتعليمهم لأمّتهم. وعلّق المغفرة بيوم الدين ،

__________________

(١) التخم جمع التخمة. وهي: الداء يصيب الإنسان من الطعام الوخيم.

(٢) الحمية: الاسم من: حمى المريض إذا منعه عمّا يضرّه. والبطنة: الامتلاء المفرط من الأكل.

٣٠

لأنّ أثرها يتبيّن يومئذ، والآن خفيّ لا يعلم.

وقيل: أراد إبراهيمعليه‌السلام أن يغفر الله لأجله خطيئة من يشفّعه فيه، فأضافه إلى نفسه، كقوله سبحانه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ) (١) .

وإنّما حذف الياءات لأنّها رؤوس الآيات.

وهذا الكلام من إبراهيمعليه‌السلام إنّما صدر على وجه الاحتجاج على قومه، والإخبار بأنّه لا يصلح للإلهيّة إلّا من فعل هذه الأفعال.

( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) )

ثمّ حكى الله سبحانه عن نبيّه أنّه سأله وقال:( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً ) كمالا في العلم والعمل أستعدّ به لخلافة الحقّ ورئاسة الخلق. وقيل: نبوّة، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله.( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) أي: وفّقني للكمال في العمل، لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح، الّذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب ولا صغيره. أو اجمع بيني وبينهم في الجنّة. وفي هذا دلالة على عظم شأن الصلاح، وهو الاستقامة على ما أمر الله به ودعاه إليه.

( وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) أي: ثناء حسنا في آخر الأمم، وذكرا

__________________

(١) الفتح: ٢.

٣١

جميلا، وحسن صيت، وقبولا عامّا في الّذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. فأجاب الله تعالى دعاءه، فما من أمّة من الأمم إلّا ويثنون عليه، ومحبّون له. والعرب تضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأنّ القول يكون بها، وكذلك يسمّون اللغة لسانا.

وقيل: معناه: واجعل لي ولد صدق في آخر الأمم من ذرّيّتي، يجدّد أصل ديني، ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد، وهو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

( وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) من الّذين يرثون الفردوس في الآخرة. وقد مرّ(١) معنى الوراثة فيها.

( وَاغْفِرْ لِأَبِي ) لوليّ نعمتي وتربيتي بالهداية( إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) الذاهبين عن الصواب في اعتقاده. ووصفه بأنّه ضالّ يدلّ على أنّه كان كافرا كفر جهل لا كفر عناد. وقد ذكرنا الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه في سورة التوبة(٢) .

( وَلا تُخْزِنِي ) ولا تفضحني ولا تعيّرني بتقصيري في أوامرك. واشتقاقه إمّا من الخزي، وهو الهوان. أو من الخزاية، وهي الحياء.( يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) الضمير للعباد، لأنّهم معلومون، أي: يوم يحشر الخلائق كلّهم. وهذا الدعاء كان منه أيضا على وجه الانقطاع إلى الله، لـما بيّنّا أنّ القبيح لا يجوز وقوعه من الأنبياء.

ثمّ فسّر ذلك اليوم بقوله:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ) أي: لا ينفعان أحدا، إذ لا يتهيّأ لذي مال أن يفتدي من شدائد ذلك اليوم بماله، ولا يتحمّل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه.

( إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) أي: لا ينفعان أحدا إلّا مخلصا سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي. أو لا ينفعان إلّا مال من هذا شأنه وبنوه، حيث أنفق ماله في

__________________

(١) راجع ج ٤ ص ١٩٤، ذيل الآية ٦٣ من سورة مريم.

(٢) راجع ج ٤ ص ١٤٤ و ١٧٣، ذيل الآية ٨٠ و ١١٣.

٣٢

سبيل الخير، وأرشد بنيه إلى الحقّ، وحثّهم على البرّ، وقصد بهم أن يكونوا عبادا لله مطيعين، شفعاء له يوم الدين.

وقيل: الاستثناء من قبيل قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع(١) . وبيانه أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول: ماله وبنوه سلامة قلبه. تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك.

وإن شئت حملت الكلام على المعنى، وجعلت المال والبنين في معنى الغنى.

كأنّه قيل: يوم لا ينفع غنى إلّا غنى من أتى الله بقلب سليم، لأنّ غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أنّ غناه في دنياه بماله وبنيه.

ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا. والمعنى: أنّ المال والبنين لا ينفعان، ولكن سلامة القلب عن الكفر والمعاصي وسائر آفاته ينفع صاحبه.

وقيل: معناه: إلّا من أتى الله بقلب سليم من فتنة المال والبنين.

وقيل: القلب السليم الّذي سلم وسلّم وأسلم وسالم واستسلم.

وعن الصادقعليه‌السلام : «هو القلب الّذي سلم من حبّ الدنيا».

وإنّما خصّ القلب بالسلامة، لأنّه إذا سلم سلمت سائر الجوارح من الفساد، من حيث إنّ الفساد بالجارحة لا يكون إلّا عن قصد بالقلب الفاسد.

وما أحسن ما رتّب إبراهيمعليه‌السلام كلامه مع المشركين، حين سألهم أوّلا عمّا يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم. ثمّ أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها، بأنّها لا تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، على تقليدهم آباءهم الأقدمين. فأخرجه من أن يكون شبهة، فضلا عن أن يكون حجّة.

ثمّ صوّر المسألة في نفسه دونهم، حتّى تخلّص منها إلى ذكر اللهعزوجل ، فعظّم شأنه، وعدّد نعمته من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة

__________________

(١) لعمرو بن معد يكرب. وصدره: وخيل قد دلفت لها بخيل.

٣٣

من رحمته.

ثمّ أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين. ثمّ وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الحسرة والندامة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمنّي الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.

( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) )

( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) قرّبت من موقعهم بحيث يرونها من الموقف ،

٣٤

فيغتبطون بمكانهم، ويتبجّحون(١) بأنّهم المحشورون إليها.

( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) أظهرت وكشفت للأشقياء، فيرونها مكشوفة، ويتحسّرون على أنّهم المسوقون إليها، فيجمع عليهم الغموم كلّها والحسرات. وفي اختلاف الفعلين ترجيح لجانب الوعد.

( وَقِيلَ لَهُمْ ) في ذلك اليوم على وجه التوبيخ على إشراكهم( أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ ) أين آلهتكم الّذين تزعمون أنّهم شفعاؤكم؟( هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ ) بدفع العذاب عنكم( أَوْ يَنْتَصِرُونَ ) بدفعه عن أنفسهم، لأنّهم وآلهتهم يدخلون النار، كما قال:( فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ) أي: طرحت فيها الآلهة وعبدتهم. والكبكبة: تكرير الكبّ لتكرير معناه، كأنّ من ألقي في النار يكبّ مرّة بعد اخرى حتّى يستقرّ في قعرها.

( وَجُنُودُ إِبْلِيسَ ) وكبكب معهم متّبعوه من عصاة الثقلين أو شياطينه( أَجْمَعُونَ ) تأكيد للجنود، أو للضمير وما عطف عليه.

( قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ * تَاللهِ إِنْ كُنَّا ) مخفّفة عن الثقيلة، أي: إنّا كنّا( لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) على أنّ الله ينطق الأصنام فتخاصم العبدة. ويؤيّده الخطاب في قوله تعالى:( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) أي: في استحقاق العبادة.

ويجوز أن تكون الضمائر للعبدة كما في «قالوا». والخطاب للمبالغة في التحسّر والندامة. والمعنى: أنّهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم، معترفون بانهماكهم في الضلالة، متحسّرون عليها.

( وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ) وهم رؤساؤهم وكبراؤهم الّذين اقتدوا بهم.

( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ ) كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيّين. يعني: ما لنا شفيع من الأباعد.

__________________

(١) أي: يتفاخرون.

٣٥

( وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) ذي قرابة يهمّه أمرنا. كما نرى للمؤمنين أصدقاء من النبيّين والأوصياء، لأنّه لا يتصادق في الآخرة إلّا المؤمنون، وأمّا أهل النار فبينهم التعادي والتباغض. قال الله تعالى:( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) (١) . أو فما لنا من شافعين ولا صديق من الّذين كنّا نعدّهم شفعاء وأصدقاء. أو وقعنا في مهلكة لا يخلّصنا منها شافع ولا صديق.

وجمع الشافع ووحدة الصديق لكثرة الشفعاء وقلّة الصديق. أو لإطلاق الصديق على الجمع، لأنّه في الأصل مصدر، كالحنين والصهيل. والحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام. وهو الّذي يهمّه ما يهمّك. أو من الحامّة بمعنى الخاصّة. وهو الصديق الخاصّ.

وعن الصادقعليه‌السلام : «والله لنشفعنّ لشيعتنا ـ قالها ثلاثا ـ حتّى يقول عدوّنا: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ».

وعن جابر بن عبد الله، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الرجل يقول في الجنّة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله سبحانه: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة. فيقول من بقي في النار:( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) .

وعن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول: «إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته، فيشفع فيهم حتّى يبقى خادمه، فيقول ويرفع سبّابتيه: يا ربّ خويدمي كان يقيني الحرّ والبرد، فيشفع فيه».

وفي خبر آخر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: «إنّ المؤمن ليشفع لجاره وماله حسنة، فيقول: يا ربّ جاري، كان يكفّ عنّي الأذى، فيشفع فيه. وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة يشفع لثلاثين إنسانا».

( فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً ) تمنّ للرجعة إلى الدنيا. وأقيم فيه «لو» مقام

__________________

(١) الزخرف: ٦٧.

٣٦

«ليت» لتلاقيهما في معنى التقدير. أو شرط حذف جوابه.( فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) جواب التمنّي. أو عطف على «كرّة» أي: لو أنّ لنا أن نكرّ فنكون من المؤمنين لفعلنا كذا وكذا.

( إِنَّ فِي ذلِكَ ) فيما ذكر من قصّة إبراهيمعليه‌السلام ( لَآيَةً ) لحجّة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنّها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير، يتفطّن المتأمّل فيها لغزارة علمه، لـما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينيّة، والتنبيه على دلائلها، وحسن دعوته للقوم، وحسن مخالقته معهم، وكمال إشفاقه عليهم.

وتصوّر الأمر في نفسه، وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضا وإيقاظا لهم، ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقبول.

( وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ ) أكثر قومه( مُؤْمِنِينَ ) به.

( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ) القادر على تعجيل الانتقام( الرَّحِيمُ ) بالإمهال، لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذرّيّتهم.

( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا

٣٧

نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) )

( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ) لأنّ من كذّب رسولا واحدا من رسل الله فقد كذّب الجماعة، لأنّ كلّ رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. وقال أبو جعفرعليه‌السلام : «يعني بالمرسلين نوحا والأنبياء الّذين كانوا بينه وبين آدمعليه‌السلام ». والقوم: مؤنّثة، ولذلك تصغّر على قويمة.

( إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ ) لأنّه كان منهم. من قول العرب: يا أخا بني تميم، يريدون: يا واحدا منهم.( أَلا تَتَّقُونَ ) عذاب الله، فتتركوا عبادة غيره.

( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) مشهور بالأمانة فيكم( فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله.

( وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ ) على ما أنا عليه من الدعاء والنصح( مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ ) كرّره ليؤكّده عليهم، ويقدّره في نفوسهم، وينبّه على دلالة كلّ واحد من أمانته وحسم طمعه على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه، فكيف إذا اجتمعا؟!( قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ) الأقلّون مالا وجاها. جمع الأرذل على

٣٨

الصحّة، وعلى التكسير في قوله:( الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا ) (١) . والرذالة: الخسّة والدّناءة.

وقرأ يعقوب: وأتباعك. وهو جمع تابع، كشاهد وأشهاد. أو تبع، كبطل وأبطال. والواو للحال.

وإنّما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم، وقلّة نصيبهم من الدنيا. وقيل: كانوا من أهل الصناعات الدنيئة، كالحياكة والحجامة. وهكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتّى صارت من سماتهم وأماراتهم. ألا ترى إلى هرقل ملك الروم حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول الله، فلمّا قال: ضعفاء الناس وأراذلهم، قال: ما زالت أتباع الأنبياء كذلك.

وكان من سخافة عقل الكفرة، وقصور رأيهم على الحطام الدنيويّة، أن جعلوا اتّباع المقلّين فيها مانعا عن اتّباعهم وإيمانهم بما يدعوهم إليه، ودليلا على بطلانه.

وأشاروا بذلك إلى أنّ اتّباعهم ليس عن نظر وبصيرة، وإنّما هو لتوقّع مال ورفعة.

فلذلك( قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أنّهم عملوه خالصا، أو طمعا في طعمة.

وما عليّ إلّا اعتبار الظاهر، دون التفتيش عن أسرارهم، والشقّ عن قلوبهم.

( إِنْ حِسابُهُمْ ) ما حسابهم على بواطنهم( إِلَّا عَلى رَبِّي ) فإنّه المطّلع عليها.

وما أنا إلّا منذر، لا محاسب ولا مجاز.( لَوْ تَشْعُرُونَ ) لعلمتم ذلك. ولكنّكم تجهلون، فتقولون ما لا تعلمون. قصد بذلك ردّ اعتقادهم، وإنكار أن يسمّى المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا، فإنّ الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى.

( وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ) جواب لـما أوهم قولهم من استدعاء طردهم.

والمعنى: ليس من شأني أن أتّبع شهواتكم، وأطيب نفوسكم، بطرد المؤمنين الّذين صحّ إيمانهم طمعا في إيمانكم.

__________________

(١) هود: ٢٧.

٣٩

وقوله تعالى:( إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) كالعلّة له، أي: ما أنا إلّا رجل مبعوث لإنذار المكلّفين عن الكفر والمعاصي، سواء كانوا أعزّاء أو أذلّاء، فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟ أو ما عليّ إلّا إنذاركم إنذارا بيّنا بالبرهان الواضح، الّذي يتميّز به الحقّ من الباطل، فلا عليّ أن أطردهم لاسترضائكم.

( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ) لئن لم ترجع عمّا تقول( يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) من المضروبين بالحجارة، أو من المشتومين.

( قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ) في وحيك ورسالتك. وهذا إظهار لـما يدعو عليهم لأجله، وهو تكذيب الحقّ، لا تخويفهم له واستخفافهم عليه.

( فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً ) من الفتاحة، وهي الحكومة. والفتّاح: الحاكم، لأنّه يفتح المستغلق. كما سمّي فيصل، لأنّه يفصل بين الخصومات.( وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) من العذاب النازل على الكفرة، ومن شؤم عملهم.

( فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) في السفينة( الْمَشْحُونِ ) المملوء. يقال: شحنت السفينة ملأتها. وشحنت البلد بالخيل ملأته. والفلك هنا واحد. وجمع في قوله تعالى:( وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ) (١) . فالواحد على وزن قفل، والجمع على وزن اسد.

( ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ ) إنجائه حينئذ ومن معه( الْباقِينَ ) الخارجين عن السفينة، الكافرين به.

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) شاعت وتواترت( وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ) في إهلاك قوم نوح بالغرق( الرَّحِيمُ ) في إنجائه نوحا ومن معه في الفلك.

__________________

(١) النحل: ١٤.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83