• البداية
  • السابق
  • 605 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106355 / تحميل: 5043
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء 2

مؤلف:
العربية

هتكه ، ثمّ قال : إنّ اللّه لم يأمرنا في ما رزقنا أن نكسو الحجارة و اللبن . فقطعته ، و جعلته و سادتين و حشوتهما ليفا ، فلم ينكر ذلك عليّ ١ .

« فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا و زخارفها » قال تعالى له : و لا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدّنيا لنفتنهم و رزق ربّك خير و أبقى ٢ .

« فأعرض عن الدّنيا بقلبه ، و أمات ذكرها عن نفسه » عنه عليه السّلام : كان فراش النبيّ صلى اللّه عليه و آله عباءة ، و كانت مرفقته أدم حشوها ليف ، فثنيت له ذات ليلة ، فلمّا أصبح قال : لقد منعني الفراش الليلة من الصلاة فأمر أن يجعل بطاق واحد ٣ .

« و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه لكيلا يتّخذ منها رياشا » أي : زينة و تجمّلا ،

و الأصل فيه ريش الطائر ، قال جرير :

فريشي منكم و هواي معكم

و إن كانت زيارتكم لماما

٤ « و لا يعتقدها قرارا » قال مؤمن آل فرعون : يا قوم إنّما هذه الحياة الدّنيا متاع و إنّ الاخرة هي دار القرار ٥ .

« و لا يرجو فيها مقاما » روى ( الكافي ) عنه صلى اللّه عليه و آله قال : ما لي و للدنيا ، إنّما مثلي و مثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف فقال تحتها ثمّ راح و تركها ٦ .

قوله صلى اللّه عليه و آله « فقال » أي : أتى بالقيلولة من : قال يقيل .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) سنن أبي داود ٤ : ٧٣ ح ٤١٥٣ ، و صحيح مسلم ٣ : ١٦٦٦ ح ٨٧ ، و روي معناه كثيرا .

( ٢ ) طه : ١٣١ .

( ٣ ) أخرج هذا المعنى بطرق كثيرة ابن سعد في الطبقات ١ ق ٢ : ١٥٧ .

( ٤ ) أساس البلاغة : ١٨٦ مادة ( ريش ) .

( ٥ ) غافر : ٣٩ .

( ٦ ) الكافي للكليني ٢ : ١٣٤ ح ١٩ ، و الروضة للفتال ٢ : ٤٤٠ ، و رواه الطبرسي بطريقين في مشكاة الأنوار : ٢٦٤ ، ٢٦٥ .

٤٤١

« فأخرجها من النفس و أشخصها » أي : أذهبها .

« عن القلب » اللام في القلب بدل عن المضاف إليه . أي : قلبه كالنفس و البصر في ما مضى ، و يأتي .

« و غيّبها عن البصر » و المراد إعراضه عنها ظاهرا و باطنا ، فبعض يمكن ألاّ تكون الدّنيا متمكّنة من قلوبهم ، لكن أوضاع الدنيا لهم منبسطة ، و هو غير مذموم ، و بعض بالعكس و هو مذموم ، و الأوّل كالغنيّ الزاهد ، و الثاني كالفقير الحريص . و الممدوح إذهابها عن القلب و البصر ، كما فعل صلى اللّه عليه و آله ، و قد قال تعالى له : فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا و لم يرد إلاّ الحياة الدّنيا ١ .

« و كذا من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه و أن يذكر عنده » قالوا : اجتمعت عدّة من الفقهاء و الزهاد عند رابعة العدوية فذمّوا الدّنيا و هي ساكتة ، فلمّا فرغوا قالت : من أحبّ شيئا أكثر من ذكره إمّا بحمد ، و إمّا بذمّ . فانّ كانت الدّنيا في قلوبكم لا شي‏ء فلم تذكرونها ؟

« و لقد كان في رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ما يدلّك على مساوي الدّنيا و عيوبها » كما أنّ في عمل الدّنيا مع المنقطعين عن اللّه أيضا ما يدلّ على نقائصها ، إذ يكونون فيها مرفّهين .

« إذ جاع فيها مع خاصّته » و يطعمون الطعام على حبّه مسكينا و يتيما و أسيرا ٢ .

« و زويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته » أي : قربته إلى اللّه تعالى و درجته عنده .

« فلينظر ناظر بعقله » الّذي يحكم بالحقّ ، و لا ينظر بهواه الّذي

ـــــــــــــــــ

( ١ ) النجم : ٢٩ .

( ٢ ) الانسان : ٨ .

٤٤٢

يحبّ الباطل .

« أكرم اللّه محمّدا صلى اللّه عليه و آله بذلك أم أهانه » ناظر إلى قوله تعالى : فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربّه فأكرمه و نعّمه فيقول ربّي أكرمن . و أمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربّي أهانن ١ .

« فإن قال : أهانه » بأخذ الدّنيا عنه .

« فقد كذب » في قوله .

« و أتى بالإفك العظيم ، و إن قال : أكرمه » بذلك .

« فليعلم أنّ اللّه أهان غيره حيث بسط الدّنيا له و زواها » أي : عدل بها .

« عن أقرب الناس منه » في الخبر : استسقى النبيّ صلى اللّه عليه و آله اللبن من راع فمنعه ،

و من راع آخر ، فبعث إليه بموجوده من اللبن ، و ما قدر عليه من الحلب مع شاة .

فدعا للأوّل بكثرة ماله و ولده ، و للثاني بالكفاف ، فعجب النّاس ، و قالوا : دعوت للّذي ردّك بدعاء تحبّه عامّتنا ، و دعوت للّذي أسعفك بحاجتك بدعاء جميعنا نكرهه ؟ فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : إنّ ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و ألهى ، اللهمّ ارزق محمّدا و آل محمّد الكفاف ٢ .

و في ( تاريخ الجزرى ) : لمّا فرغ عبد الرحمن الناصر الأموي صاحب الأندلس من بناء [ الزهراء ] و قصورها و قد قعد في قبّة مزخرفة بالذهب و البناء البديع الّذي لم يسبق إليه ، فقال لمن معه من الأعيان : هل بلغكم أنّ أحدا بنى مثل هذا البناء ؟ فأثنى الجميع بأنّهم لم يروا ، و لم يسمعوا بمثله إلاّ القاضي منذر بن سعيد فإنّه سكت . فقال له الناصر : لم لا تنطق أنت ؟ فبكى و قال : ما كنت أظنّ أنّ الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ حتّى أنزلك منازل الكافرين ، قال

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الفجر : ١٥ ١٦ .

( ٢ ) الكافي للكليني ٢ : ١٤٠ ح ٤ عن السجاد عليه السّلام و النقل بتلخيص .

٤٤٣

تعالى : و لو لا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضّة و معارج عليها يظهرون . و لبيوتهم أبوابا و سررا عليها يتّكئون . و زخرفا و إن كلّ ذلك لمّا متاع الحياة الدّنيا و الآخرة عند ربّك للمتّقين ١ .

« فتأسّى متأسّ بنبيّه » أمر بصورة الخبر ، أي : ليقتد مقتد بنبيّه ، قال مصعب بن الزبير :

و إنّ الالى بالطف من آل هاشم

تأسّوا فسنّوا للكرام التآسيا

٢ « و اقتصّ » أي : اتّبع .

« أثره » في ترجيح الآخرة .

« و ولج مولجه » أي : دخل مدخله .

« و إلاّ فلا يأمن الهلكة » لانحصار النجاة باتّباعه .

« فإنّ اللّه جعل محمّدا علما للساعة » مأخوذ من قوله تعالى : و إنّه لعلم للساعة . . . ٣ و إن قالوا : إنّ المراد بالآية نزول عيسى عليه السّلام من السماء .

« و مبشّرا بالجنّة ، و منذرا بالعقوبة » نبّى‏ء عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم .

و أنّ عذابي هو العذاب الأليم ٤ .

« خرج من الدنيا خميصا » ضامر البطن .

« و ورد الآخر سليما » كما قال تعالى : يوم لا ينفع مال و لا بنون . إلاّ من أتى اللّه بقلب سليم ٥ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكامل لابن الأثير الجزري ٨ : ٦٧٤ سنة ٣٦٦ و النقل بتلخيص ، و الآيات ٣٣ ٣٥ من سورة الزخرف .

( ٢ ) لسان العرب ١٤ : ٣٥ مادة ( أسا ) .

( ٣ ) الزخرف : ٦١ .

( ٤ ) الحجر : ٤٩ ٥٠ .

( ٥ ) الشعراء : ٨٨ ٨٩ .

٤٤٤

« لم يضع حجرا على حجر حتّى مضى لسبيله ، و أجاب داعي ربّه » بارتحاله ،

روى كاتب الواقدي عن عطاء الخراساني قال : أدركت حجر أزواج النبيّ صلى اللّه عليه و آله من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود . فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ ، يأمر بإدخال حجر أزواج النبيّ صلى اللّه عليه و آله في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ، فما رأيت أكثر باكيا من ذلك اليوم . قال عطاء : فسمعت سعيد بن المسيّب يقول يومئذ : و اللّه لوددت أنّهم تركوها على حالها ينشأ ناشى‏ء من أهل المدينة و يقدم القادم من الأفق ، فيرى ما اكتفى به النبيّ صلى اللّه عليه و آله في حياته ، فيكون ذلك مما يزهّد الناس في التكاثر و التفاخر . فلمّا فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمر بن أبي أنس : كان منها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد ،

و كانت خمسة أبيات من جريد مطيّنة لا حجر لها ، على أبوابها مسوح الشعر ذرعت الستر ، فوجدته ثلاث أذرع في ذراع ١ .

« فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم به » أي : بالنبيّ صلى اللّه عليه و آله .

« علينا سلفا نتّبعه و قائدا نطأ عقبه » لقد منّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكّيهم و يعلّمهم الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ٢ .

٤٠

من الخطبة ( ١٠٧ ) و منها في ذكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله :

قَدْ حَقَّرَ اَلدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا وَ أَهْوَنَهَا وَ هَوَّنَهَا وَ عَلِمَ أَنَّ اَللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اِخْتِيَاراً وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ اِحْتِقَاراً فَأَعْرَضَ عَنْهَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الطبقات لابن سعد ١ ق ٢ : ١٨١ .

( ٢ ) آل عمران : ١٦٤ .

٤٤٥

نَفْسِهِ وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً وَ دَعَا إِلَى اَلْجَنَّةِ مُبَشِّراً قول المصنّف « و منها في ذكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( منها في ذكر النبيّ صلى اللّه عليه و آله ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) ١ .

« قوله عليه السّلام : قد حقّر الدّنيا و صغّرها » أي : عدّها حقيرة صغيرة .

« و أهونها » لم يقل عليه السّلام و أهانها للازدواج بينه و بين قوله عليه السّلام :

« و هوّنها » كما في ( ما زورات ) مع ( ماجورات ) و إلاّ فالواجب ( موزورات ) أي : عدّها هونا ، و جمعه عليه السّلام بينهما للمبالغة ، قال ابن قتيبة في ( أدب كاتبه ) :

و تدخل فعّلت على أفعلت إذا أردت تكثير العمل و المبالغة تقول : أجدت و جوّدت ، و أغلقت الأبواب و غلّقت ، و أقفلت و قفّلت ٢ ، و في مثل : [ هان على الأملس ما لاقى الدبر ] ٣ و في آخر : [ أهون من قعيس عمّته ] ٤ .

هذا ، و قال ابن أبي الحديد في قوله عليه السّلام : و صغّرها : المراد عند غيره ليكون قوله [ و أهون بها و هوّنها ] مطابقا له ، أي : أهون هو بها و هوّنها عند غيره ٥ ، و هو كما ترى ، فلم يعلم صحّة ما نقل أوّلا و صحّة استعمال ( أهون بها ) ثانيا ، و كون المراد ما ذكر ثالثا ، فإنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله و إن صغّر الدّنيا عند غيره ، إلاّ أنّ المراد هنا تصغيره لها عند نفسه كتحقيره لها ، لأنّه عليه السّلام في مقام

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٣٥ لكن في شرح ابن ميثم ٣ : ٧١ مثل المصرية .

( ٢ ) أدب الكاتب لابن قتيبة : ٣٥٤ .

( ٣ ) المستقصى للزمخشري ٢ : ٣٨٩ .

( ٤ ) مجمع الأمثال للميداني ٢ : ٤٠٧ ، و المستقصى للزمخشري ١ : ٤٤٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٣٥ .

٤٤٦

بيان صفة زهده صلى اللّه عليه و آله في الدنيا ، كما يشهد به قوله عليه السّلام هنا : « و علم أنّ اللّه زواها عنه اختيارا و بسطها لغيره احتقارا » و قوله عليه السّلام الّذي سبق شرحه :

« و علم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه ، و حقّر شيئا فحقّره ، و صغّر شيئا فصغّره » ١ .

« و علم أنّ اللّه زواها » أي : عدل بها .

« عنه اختيارا » مفعول له لقوله « زوى » أي : زواها عنه باختياره تعالى له الأصلح ، لا منصوب بنزع الخافض لقوله « و علم » ، كما يفهم من ابن أبي الحديد حيث قال : « اختيارا » ، أي : باختيار من النبيّ صلى اللّه عليه و آله ٢ .

« و بسطها لغيره احتقارا » قال تعالى : فلا تعجبك أموالهم و لا أولادهم إنّما يريد اللّه ليعذّبهم بها في الحياة الدّنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون ٣ ،

و قال جلّ و علا و لا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدّنيا لنفتنهم فيه و رزق ربّك خير و أبقى ٤ ، و قال عزّ اسمه : و لو لا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضّة و معارج عليها يظهرون . و لبيوتهم أبوابا و سررا عليها يتّكئون . و زخرفا و إن كلّ ذلك لمّا متاع الحياة الدّنيا ٥ .

« فأعرض عنها » هكذا في ( المصريّة ) و الصواب : فأعرض عن الدّنيا ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّيّة ) ٦ ، و إعادة الاسلام الظاهر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٣٥ .

( ٢ ) مرّ في العنوان ٣٩ من هذا الفصل .

( ٣ ) التوبة : ٥٥ .

( ٤ ) طه : ١٣١ .

( ٥ ) الزخرف : ٣٣ ٣٥ .

( ٦ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٣٥ لكن في شرح ابن ميثم ٣ : ٧١ مثل المصرية أيضا .

٤٤٧

لبيان الأهميّة .

« بقلبه و أمات ذكرها عن نفسه ، و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه » الفقرات الثلاث من قوله : « فأعرض إلى عن عينه » مرّت في سابقه ، بل و الفقرتان بعدها أيضا كما يأتي ١ ، و كيف كان ، عن السجّاد عليه السّلام : ما من عمل بعد معرفة اللّه تعالى ، و معرفة رسوله أفضل من بغض الدّنيا ، فإنّ لذلك شعبا كثيرة ،

و للمعاصي شعبا . . . فاجتمعن كلهنّ في حبّ الدّنيا ، فقال الأنبياء و العلماء بعد ذلك : حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة ٢ .

و عن الصادق عليه السّلام : قال تعالى لموسى عليه السّلام : إنّ الدّنيا دار عقوبة عاقبت فيها آدم عليه السّلام عند خطيئته ، و جعلتها ملعونة ، ملعون ما فيها إلاّ ما كان فيها لي يا موسى إنّ عبادي الصالحين زهدوا في الدّنيا بقدر علمهم و سائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم ٣ .

« لكيلا يتّخذ منها رياشا أو يرجو فيها مقاما » مرّ في سابقه : « لكيلا يتّخذ منها رياشا ، و لا يعتقدها قرارا ، و لا يرجو فيها مقاما » ٤ .

« بلّغ عن ربّه معذرا » حتّى لم يبق لأحد عذر في المخالفة .

« و نصح لأمته منذرا » لهم من عذاب اللّه بالمعصية .

« و دعا إلى الجنّة مبشّرا » بنعمه العالية بالإطاعة ، قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام خطب النبيّ صلى اللّه عليه و آله في حجّة الوداع ، فقال : أيّها الناس و اللّه ما من شي‏ء يقرّبكم

ـــــــــــــــــ

( ١ ) مرّ في العنوان ٣٩ من هذا الفصل إلاّ أنّ فيه « فاعرض عن الدنيا » .

( ٢ ) مشكاة الأنوار للطبرسي : ٢٦٦ و امّا حديث « حب الدّنيا رأس كلّ خطيئة » فروي عن النبي صلى اللّه عليه و آله و الصادق عليه السّلام . مرّ تخريجه في العنوان ٣٩ من هذا الفصل .

( ٣ ) الكافي للكليني ٢ : ٣١٧ ح ٩ ، و عقاب الأعمال للصدوق : ٢٦٣ ح ١ و أمالي الصدوق : ٥٣١ ح ٢ المجلس ( ٩٥ ) ، و مشكاة الأنوار للطبرسي : ٢٧٠ .

( ٤ ) مرّ في العنوان ٣٩ من هذا الفصل .

٤٤٨

من الجنّة و يباعدكم من النار إلاّ و قد أمرتكم به ، و ما من شي‏ء بقرّبكم من النار و يباعدكم من الجنّة إلاّ و قد نهيتكم عنه ، ألا و إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها فاتّقوا اللّه و أجملوا في الطلب ، و لا يحمل أحدكم استبطاء شي‏ء من الرزق أن يطلبه بغير حلّه فانّه لا يدرك ما عند اللّه إلاّ بطاعته ١ .

و قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام : وقف النبيّ صلى اللّه عليه و آله بمعنى حين قضى مناسكه في حجّة الوداع ، فقال : أيّها الناس اسمعوا ما أقول لكم ، و اعقلوه عنّي ،

لا أدري لعلّي لا ألقاكم في هذا الموقف بعد عامنا هذا . ثمّ قال : أيّ يوم أعظم حرمة ؟ قالوا : هذا اليوم . فقال : أيّ شهر أعظم حرمة ؟ قالوا : هذا الشهر . قال : أيّ بلد أعظم حرمة ؟ قالوا : هذا البلد . قال : إنّ دماءكم و أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه ، فيسألكم عن أعمالكم ، ألا هل بلّغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللّهم اشهد ، ألا و من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها فإنّه لا يحلّ دم امرى‏ء مسلم ، و لا ماله إلاّ بطيبة نفسه ، و لا ترجعوا بعدي كفّارا ٢ .

و في الخبر : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله حضر يوم وفاته مع شدّة مرضه المسجد ،

و قال : و اتّقوا يوما ترجعون فيه الى اللّه ثمّ توفّى كلّ نفس ما كسبت و هم لا يظلمون ٣ أيّها الناس لا يدعّ مدّع و لا يتمنّى متمنّ أنّه ينجو إلاّ بعمل ، و رحمة

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الكليني في الكافي ٢ : ٧٤ ح ٢ ، و عاصم بن حميد في أصله : ٢٣ ، و رواه الديلمي في أعلام الدين عنه البحار ٧٧ : ١٨٥ ح ٣١ ، و أبو القاسم الكوفي في الأخلاق عنه المستدرك ٢ : ٤١٩ ح ١٣ .

( ٢ ) أخرجه ابن هشام في السيرة ٤ : ١٨٥ ، و الواقدي في المغازي ٢ : ١١١١ ، و ابن سعد في الطبقات ٢ ق ١ : ١٣٣ ، و الصدوق في الخصال : ٤٨٦ ح ٦٣ و النقل بتصرف .

( ٣ ) البقرة : ٢٨١ .

٤٤٩

من اللّه . و قال : لو عصيت لهويت . و قال : اللّهمّ هل بلّغت ١ ؟

٤١

من الخطبة ( ١٩٠ ) وَ لَقَدْ قَرَنَ اَللَّهُ بِهِ ص مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ اَلْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلاَقِ اَلْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ . أقول : ما نقله المصنّف جزء الخطبة القاصعة ٢ ، و روى ابن طاووس في ( طرائفه ) عن صدر الأئمة موفّق بن أحمد باسناده عن أبي ذر كونه جزء مناشداته يوم الشورى ٣ .

« و لقد قرن اللّه به صلى اللّه عليه و آله من لدن أن كان فطيما » أي : منقطعا عن الرضاع .

« أعظم ملك من ملائكته » قال ابن أبي الحديد : روي أنّ بعض أصحاب أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر سأله عن قوله تعالى : إلاّ من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ٤ ، فقال : يوكّل اللّه بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم و يؤدّون إليه تبليغهم الرسالة ، و وكّل بمحمّد صلى اللّه عليه و آله ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات ، و مكارم الأخلاق ، و يصدّه عن الشرّ ، و مساوي الأخلاق ، و هو الّذي كان يناديه : السّلام عليك يا محمّد يا رسول اللّه ، و هو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد ، فيظنّ أنّ ذلك من الحجر و الأرض ، فيتأمل و لا يرى شيئا ٥ .

قلت : و روى الكليني عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليهما السّلام : أنّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الإرشاد للمفيد : ٩٧ بفرق يسير ، و اعلام الورى للطبرسي : ١٣٤ و قد مرّ في العنوان ٢٥ من هذا الفصل .

( ٢ ) نهج البلاغة ٢ : ١٥٧ الخطبة ١٩٠ .

( ٣ ) رواه عنه ابن طاووس في الطرائف ٢ : ٤١٥ .

( ٤ ) الجن : ٢٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٥٣ .

٤٥٠

عبد المطلب كان يفرش له بفناء الكعبة ، لا يفرش لأحد غيره ، و كان له ولد يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه ، فجاء النبيّ صلى اللّه عليه و آله و هو طفل يدرج حتّى جلس على فخذيه ، فأهوى بعضهم إليه لينحّيه عنه ، فقال له عبد المطلب :

دع ابني ، فانّ الملك قد أتاه ١ .

و ورد في تفسير قوله تعالى : و كذلك أو حينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان . . . ٢ ، عنهم عليهم السّلام أنّ ذاك الروح الّذي قال تعالى كان خلقا للّه أعظم من جبرئيل و ميكائيل و كان مع النبيّ صلى اللّه عليه و آله يخبره و يسدّده ، و هو مع الأئمّة من بعده ٣ .

« يسلك به طريق المكارم » قال الصادق عليه السّلام : خصّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله بمكارم الأخلاق ، فامتحنوا أنفسكم ، فإن كانت فيكم فاحمدوه تعالى و ارغبوا إليه في الزيادة منها . فذكرها عشرة : اليقين ، و القناعة ، و الصبر ، و الشكر ، و الحلم ،

و حسن الخلق ، و السخاء ، و الغيرة و الشجاعة ، و المروّة ٤ .

و في ( المناقب ) : كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله قبل المبعث موصوفا بعشرين خصلة من خصال الأنبياء ، لو انفرد واحد بأحدها لدلّ على جلاله ، فكيف من اجتمعت فيه ؟ كان أمينا صادقا حاذقا أصيلا نبيلا مكينا فصيحا عاقلا فاضلا عابدا زاهدا سخيّا كميّا قانعا متواضعا حليما رحيما غيورا صبورا موافقا مرافقا ٥ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ١ : ٤٤٨ ح ٢٦ ، و السيرة لابن هشام ١ : ١٥٦ ، و الطبقات لابن سعد ١ ق ١ : ٧٤ ، و غيرهم .

( ٢ ) الشورى : ٥٢ .

( ٣ ) أخرج هذا المعنى الكليني في الكافي ١ : ٢٧٣ ح ١ ، و الصفار بخمس طرق في البصائر : ٤٧٥ ، ٤٧٦ ح ١ ، ٢ ، ٦ ، ٨ ، ٩ و القمي في تفسيره ٢ : ٢٧٩ و جاء نحو ذلك في تفسير آية و يسألونك عن الروح . . . ( الاسراء : ٨٥ ) و بصورة مستقلة أيضا .

( ٤ ) الكافي للكليني ١ : ٥٦ ح ٢ ، و غيره ، و النقل بتصرف .

( ٥ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٢٣ .

٤٥١

قلت : و من بعث لتتميم مكارم الأخلاق كما قال صلى اللّه عليه و آله لا بدّ أن يكون شخصه في المكارم وحيد الآفاق ، قال المسعودي : روى جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال : إنّ اللّه تعالى أدّب محمّدا صلى اللّه عليه و آله فأحسن تأديبه ، فقال :

خذ العفو و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين ١ ، فلمّا كان كذلك قال اللّه تعالى و إنّك لعلى خلق عظيم ٢ فلمّا قبل من اللّه فوّض إليه ، فقال : . . . و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا . . . ٣ و كان يضمن على اللّه الجنّة فأجيز له ذلك ٤ .

و لو لم يكن في شريعته سوى ما ورد عنه صلى اللّه عليه و آله و عن أوصيائه عليهم السّلام من الترغيب على التحلية بالمكارم ، و التخلية عن الذمائم لكفى في حقّية طريقته .

فلو اجتمع أهل العالم على أن يبيّنوا محاسن الأخلاق كما بيّنها عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام من أوصيائه في دعائه في طلب المكارم لما استطاعوا ٥ .

كما أنّه لو لم يكن له معجزة سوى ما كان صلى اللّه عليه و آله متصفا به من الصفات الحسنة ، و الأخلاق المستحسنة لو في بصادقية بنوّته ، قال السروي : كان يتيما فقيرا ضعيفا وحيدا غريبا بلا حصار و لا شوكة ، كثير الأعداء ، و مع جميع ذلك تعالى مكانه ، و ارتفع شأنه . ثمّ قال : و كان ثابتا في الشدائد ، و هو مطلوب ، و صابرا على البأساء و الضراء ، و هو مكروب محروب ، و كان زاهدا

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الأعراف : ١٩٩ .

( ٢ ) القلم : ٤ .

( ٣ ) الحشر : ٧ .

( ٤ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٢٨٣ .

( ٥ ) الصحيفة السجادية : ٩٩ الدعاء ٢٠ .

٤٥٢

في الدنيا ، راغبا في الآخرة فثبت له الملك ١ .

« و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره » روى الجزري في ( أسده ) عن عبد اللّه بن أبي الحمساء قال : بايعت النبيّ صلى اللّه عليه و آله ببيع قبل أن يبعث ، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك ، فنسيت يومي هذا و الغد ، فأتيته في اليوم الثالث ، و هو في مكانه فقال لي : يا فتى لقد شققت عليّ ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك ٢ .

و كانت أعداؤه معترفين بكماله في محاسن الأخلاق و في أمانته ، فكانوا يسمّونه الأمين قبل نزول الوحي عليه ، و رضيت مشائخ قريش بحكميته في وضع الحجر لأمانته و صادقيته .

و لمّا قال تعالى : فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين ٣ صعد على الصفا و هتف : يا صباحاه فاجتمعوا ، فقال لهم : أرأيتكم أنّ خيلا تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدّقي ؟ قالوا : نعم ، ما جربّنا عليك كذبا . قال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد ٤ .

و كان صلى اللّه عليه و آله يوم فتح مكّة أهدر دم عبد اللّه بن أبي سرح أخي عثمان من الرضاعة فأتى عثمان به إليه صلى اللّه عليه و آله مستشفعا ، و جعل يكلّمه فيه و هو ساكت ،

حتّى اضطرّه إلحاحه إلى العفو عنه ، فذهب به ، فقال صلى اللّه عليه و آله لأصحابه : هلاّ قتلتموه إذ سكتّ ، و قد كنت أمرتكم قبل بقتله ، و لو كان متعلّقا بأستار الكعبة ؟

فقالوا : انتظرنا أن تومي بمؤخر عينك . فقال : إنّ الأنبياء لا يقتلون بالإيماء ٥ .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) أسد الغابة لابن الأثير الجزري ٣ : ١٤٦ .

( ٢ ) المناقب لابن شهر آشوب ١ : ١٢٣ .

( ٣ ) الحجر : ٩٤ .

( ٤ ) الطبقات لابن سعد ١ ق ١ : ١٣٣ و غيره ، مرّ الحديث و تخريجه في العنوان ٦ و ١٥ من هذا الفصل ، و الآية ٤٦ من سوره سبأ .

( ٥ ) السيرة لابن هشام ٤ : ٣٩ و المغازي للواقدي ٢ : ٨٥٥ ، و تاريخ الطبري ٢ : ٣٣٥ سنة ٨ و غيرهم .

٤٥٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثاني الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و لمّا انهزمت قريش يوم الأحزاب ، و دخل حيّ بن أخطب حصن بني قريظة ، و جاء أمير المؤمنين عليه السّلام فأحاط بالحصن أشرف عليهم كعب بن أشرف يشتمهم و يشتم النبيّ صلى اللّه عليه و آله ، فأقبل صلى اللّه عليه و آله فاستقبله عليه السّلام و قال له : بأبي أنت و أمي لا تدن من الحصن . فقال صلى اللّه عليه و آله : لعلّهم شتموني ؟ ثمّ دنا منهم ، و قال :

يا إخوان القردة و الخنازير ، و عبيد الطاغوت أتشتموني ؟ إنّا إذا نزلنا بساحة قوم ساء صباحهم . فأشرف كعب ، و قال : يا أبا القاسم ما كنت و اللّه جهولا .

فاستحيى النبيّ صلى اللّه عليه و آله حتّى سقط الرداء من ظهره حياء ، و رجع وراءه ١ .

و كان صلى اللّه عليه و آله يقول في تعليماته : أن يجعل الإنسان نفسه ميزانا بينه و بين غيره ، فيحبّ لغيره ما يحبّ لنفسه و يكره لغيره ما يكره لنفسه ، و أنّه يجب على المسلم أن يجعل الأكبر بمنزلة والده ، و الأصغر بمنزلة ولده ، و تربه بمنزلة أخيه .

٤٢

من الخطبة ( ١٩٠ ) وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ص لَمَّا أَتَاهُ اَلْمَلَأُ مِنْ ؟ قُرَيْشٍ ؟ فَقَالُوا لَهُ يَا ؟ مُحَمَّدُ ؟

إِنَّكَ قَدِ اِدَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لاَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَا عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ فَقَالَ ص وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ اَلشَّجَرَةَ حَتَّى تَقْلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ص إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ٢ : ٢٠ فَإِنْ فَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ أَنَّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) السيرة لابن هشام ٣ : ١٤١ ، و المغازي للواقدي ١ : ٤٤٩ ، و تاريخ الطبري ٢ : ٢٤٥ سنة ٥ .

٤٥٤

فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي اَلْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ اَلْأَحْزَابَ ثُمَّ قَالَ ص يَا أَيَّتُهَا اَلشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اَللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ وَ اَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ اَلطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ ؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص ؟ مُرَفْرِفَةً وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا اَلْأَعْلَى عَلَى ؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص ؟ وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ص فَلَمَّا نَظَرَ اَلْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اِسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ ؟ بِرَسُولِ اَللَّهِ ص ؟

فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا اَلنِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ص فَرَجَعَ فَقُلْتُ أَنَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ فَإِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ ؟ يَا رَسُولَ اَللَّهِ ؟ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ اَلشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اَللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلاَلاً لِكَلِمَتِكَ فَقَالَ اَلْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ ٣٨ : ٤ عَجِيبُ اَلسِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلاَّ مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي . أقول : هذا العنوان راجع إلى معجزاته ، و قد تضمّن أربعا منها ، أحدها :

مجي‏ء الشجرة إليه ، و الثانية : إخباره عليه السّلام بعدم تصديقهم له بعد رؤية الآية ،

و الثالثة : من يقتل منهم في بدر ، و يطرح في بئره ، و الرابعة : أنّ فيهم من يحزّب الأحزاب عليه .

و قال السروي في ( مناقبه ) : إنّه ذكر للنبيّ صلى اللّه عليه و آله أربعة آلاف و أربعمائة و أربعين معجزة ، ذكرت منها ثلاثة آلاف ، تتنوع أربعة أنواع : نوع قبل ميلاده ،

٤٥٥

و نوع قبل بعثته ، و نوع بعدها ، و نوع بعد وفاته ١ .

و قال الجزري : و قد صنّف العلماء في معجزات النبيّ صلى اللّه عليه و آله كتبا كثيرة ذكروا فيها كلّ عجيبة ٢ .

قلت : و آحادها و إن كان مستند بعضها أخبارا آحادا إلاّ أنّ بعضها سنده متواتر كما يأتي مع أنّه في ذاك البعض الّذي مستنده آحاد تواتر إجمالي ،

و هو كالتفصيلي يأتي في ثبوت نبوّته .

« و لقد كنت معه لمّا أتاه الملأ من قريش فقالوا له : يا محمّد إنّك قد ادّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك و لا أحد من بيتك » نظيره ما رواه الطبرسي في ( احتجاجه ) عن أبي محمّد العسكري عليه السّلام ، قال : قلت لأبي : هل كان النبيّ صلى اللّه عليه و آله يناظر اليهود و النصارى و المشركين إذا عانتوه ؟ قال : بلى ، مرارا كثيرة ، منها ما حكى اللّه تعالى من قولهم : و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك . . رجلا مسحورا ٣ ، و قولهم : و قالوا لو لا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ٤ ، و قولهم : و قالوا لن نؤمن لك حتّى تفجّر لنا من الأرض ينبوعا . . . كتابا نقرؤه . . . ٥ ، ثمّ قيل له في آخر ذلك : لو كنت نبيّا كموسى لنزّلت علينا الصاعقة في مسألتنا إيّاك ، لأنّ مسألتنا أشدّ من مسألة قوم موسى ؟ قال : و ذلك أنّ النبيّ صلى اللّه عليه و آله كان ذات يوم بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش ، منهم الوليد بن المغيرة المخزومي ، و أبو البختري بن هشام ، و أبو جهل بن هشام ، و العاص بن وائل السهمي ، و عبد اللّه

ـــــــــــــــــ

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب السروي ١ : ١٤٤ و النقل بالمعنى .

( ٢ ) الكامل لابن الأثير الجزري ٢ : ٤٧ .

( ٣ ) الفرقان : ٧ ٨ .

( ٤ ) الزخرف : ٣١ .

( ٥ ) الإسراء : ٩٠ ٩٣ .

٤٥٦

ابن أبي أمية المخزومي ، و كان معهم جمع ممّن يليهم كثير ، و النبيّ صلى اللّه عليه و آله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب اللّه ، و يؤدّي إليهم عن اللّه أمره و نهيه ، فقال المشركون بعضهم لبعض : لقد استفحل أمر محمّد و عظم خطبه ، فتعالوا نبدأ بتقريعه و تبكيته و توبيخه ، و الاحتجاج عليه ، و إبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه ، و يصغر قدره ، فلعلّه ينزع عمّا هو فيه من غيّه . فإن انتهى ، و إلاّ عاملناه بالسيف الباتر .

قال أبو جهل : فمن الّذي يلي كلامه و مجادلته ؟ قال عبد اللّه بن أبي أميّة المخزومي : أنا . فأتوه فابتدأهم عبد اللّه ، فقال : لقد ادّعيت دعوى عظيمة ، و قلت مقالا هائلا ، زعمت أنّك رسول ربّ العالمين ، و ما ينبغي لربّ العالمين و خالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله ، بشر مثلنا يأكل كما نأكل ، و يمشي في الأسواق كما نمشي ، فهذا ملك الروم ، و هذا ملك فارس لا يبعثان إلاّ رسولا كثير المال عظيم الحال له قصور و خيام و عبيد و خدّام ، و ربّ العالمين فوق هؤلاء كلّهم فهم عبيده ، و لو كانت نبيّا لكان معك ملك يصدّقك نشاهده ، بل لو أراد أن يبعث نبيّا إنّما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا ، ما أنت يا محمّد إلاّ مسحور ، و ما أنت بنبيّ .

فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله : هل بقي من كلامك شي‏ء ؟ فقال : بلى ، لو أراد اللّه أن يبعث نبيّا إلينا لبعث إلينا أجل في ما بيننا ، و أحسننا حالا ، فهلاّ أنزل هذا القرآن الّذي تزعم أنّه أنزله عليك على رجل من القريتين عظيم ١ ، إمّا الوليد بن المغيرة بمكّة ، و إمّا عروة بن مسعود الثقفي بالطائف .

فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : هل بقي من كلامك شي‏ء ؟ فقال : بلى لن نؤمن لك

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الزخرف : ٣١ .

٤٥٧

حتّى تفجّر لنا من الأرض ينبوعا ١ بمكّة هذه . فإنّها ذات أحجار وعرة ،

و جبال تكسح أرضها و تحفرها ، و تجري فيها العيون ، فإنّا محتاجون إلى ذلك ،

أو تكون لك جنّة من نخيل و عنب ٢ ، فتأكل منها و تطعمنا ، و تفجّر الأنهار خلال تلك النخيل و الأعناب تفجيرا ، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ٣ ، فإنّك قلت : و إن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ٤ فلعلّنا نقول ذلك . ثمّ قال : أو تأتي باللّه و الملائكة قبيلا ٥ تأتي به و بهم ، و هم لنا مقابلون ، أو يكون لك بيت من زخرف ٦ تعطينا منه و تغنينا به ، فلعلّنا نطغى ، فإنّك قلت لنا : . . . إنّ الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى ٧ ، أو ترقى ( أي : تصعد في السماء و لن نؤمن لرقيّك حتّى تنزل علينا كتابا نقرؤه ٨ من اللّه العزيز الحكيم ٩ إلى عبد اللّه بن أبي أمية المخزومي ، و من معه آمنوا بمحمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب فانّه رسولي ،

و صدّقوه في مقاله ، فإنّه من عندي . ثمّ لا أدري يا محمّد إذا فعلت ذلك كلّه أو من بك أو لا ، بل لو رفعتنا إلى السماء ، و فتحت أبوابها ، و أدخلتنا فيها لقلنا : إنّما سكّرت أبصارنا و سحرنا .

فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : أبقي من كلامك شي‏ء ؟ قال : أوليس في ما أوردته عليك كفاية و بلاغ ؟ فقل ما بدا لك .

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الإسراء : ٩٠ ٩١ .

( ٢ ) الإسراء : ٩٠ ٩١ .

( ٣ ) الإسراء : ٩٢ .

( ٤ ) الطور : ٤٤ .

( ٥ ) الإسراء : ٩٢ .

( ٦ ) الإسراء : ٩٣ .

( ٧ ) العلق : ٦ ٧ .

( ٨ ) الإسراء : ٩٣ .

( ٩ ) الزمر : ١ .

٤٥٨

فقال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : اللّهمّ أنت السامع لكلّ صوت ، و العالم بكلّ شي‏ء ، تعلم ما قاله عبادك ، فأنزل تعالى عليه : و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق . . . رجلا مسحورا ١ ، ثمّ قال تعالى : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا ٢ ، ثم قال : تبارك الّذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنّات تجري من تحتها الأنهار و يجعل لك قصورا ٣ ،

و أنزل عليه : فلعلّك تارك بعض ما يوحى إليك و ضائق به صدرك . . . ٤ ،

و أنزل : و قالوا لو لا أنزل عليه ملك و لو أنزلنا ملكا لقضي الأمر . . . و للبسنا عليهم ما يلبسون ٥ .

فقال له النبيّ صلى اللّه عليه و آله : أمّا ما ذكرت من أنّي آكل كما تأكلون و زعمت أنّه لا يجوز لرجل هكذا أن يكون للّه رسولا ، فإنّما الأمر للّه يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و هو محمود ، و ليس لك و لا لأحد الاعتراض عليه بلم و كيف ، فإنّ اللّه أفقر بعضا ، و أغنى بعضا ، و أعزّ بعضا ، و أذلّ بعضا ، و أصحّ بعضا ، و أسقم بعضا ،

و شرّف بعضا ، و وضع بعضا ، و كلّهم ممّن يأكل الطعام . ثمّ ليس للفقراء أن يقولوا : لم أفقرتنا ، و أغنيتهم ، و لا للوضعاء أن يقولوا : لم وضعتنا و شرّفتهم ،

و لا للزمنى و الضعفاء أن يقولوا : لم أزمنتنا و أضعفتنا و صحّحتهم ، و لا للأذلاّء أن يقولوا : لم أذللتنا ، و أعززتهم ، و لا لقباح الصور أن يقولوا : لم قبّحتنا و جمّلتهم ، بل إن قالوا ذلك كانوا على ربّهم رادّين ، و له في أحكامه منازعين ،

و به كافرين ، و لكان جوابه لهم : أنا الملك الخافض الرافع المغني المفقر المعزّ

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الفرقان : ٧ ٨ .

( ٢ ) الاسراء : ٤٨ .

( ٣ ) الفرقان : ١٠ .

( ٤ ) هود : ١٢ .

( ٥ ) الأنعام : ٨ ٩ .

٤٥٩

المذلّ المصحّح المسقم ، و أنتم العبيد لي ليس لكم إلاّ التسليم ، و الانقياد لحكمي ، فإن سلّمتم كنتم عبادا مؤمنين ، و إن أبيتم كنتم بي كافرين ،

و بعقوباتي من الهالكين . ثمّ أنزل عليه : قل إنّما أنا بشر مثلكم يعني آكل الطعام يوحي إليّ أنّما إلهكم إله واحد ١ ، يعني قل لهم : أنا في البشرية مثلكم ، و لكن ربّي خصّني بالنبوّة دونكم كما يختص بعض البشر بالغني و الصحّة و الجمال دون بعض من البشر ، فلا تنكروا أيضا أن يختصّني بالنّبوّة .

ثمّ قال : و أمّا قولك : هذا ملك الروم . . . فإنّ اللّه له التدبير و الحكم لا يفعل على ظنّك و حسبانك و لا باقتراحك ، بل يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و هو محمود ، إنّما بعث نبيّه ليعلّم الناس دينهم ، و يدعوهم إلى ربّهم ، و يكدّ نفسه في ذلك آناء الليل و النهار ، فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها و عبيده يسترونه عن الناس أليس كانت الرسالة تضيع ، و الأمور تتباطى‏ء ، أو ما ترى الملوك إذا احتجبوا كيف يجري الفساد و القبايح من حيث لا يعلمون و لا يشعرون ؟ إنّما بعثني اللّه ، و لا مال لي ليعرفكم قدرته و قوّته ، و أنّه هو الناصر لرسوله ، و لا تقدرون على قتله ، و لا منعه من رسالته ، فهذا أبين في قدرته و في عجزكم ،

و سوف يظفرني اللّه بكم و أوسعكم قتلا و أسرا ، ثمّ يظفرني اللّه ببلادكم ،

و يستولي عليها المؤمنون دونكم .

و أمّا قولك لي : لو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدّقك و نشاهده ، بل لو أراد اللّه أن يبعث إلينا لكان يبعث ملكا لا بشرا مثلنا ، فالملك لا تشاهده حواسّكم لأنّه من جنس هذا الهواء لا عيان منه ، و لو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم : ليس هذا ملكا بل هذا بشر لأنّه إنّما كان يظهر بصورة البشر

ـــــــــــــــــ

( ١ ) الكهف : ١١٠ و فصّلت : ٦ .

٤٦٠