بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة13%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 446

  • البداية
  • السابق
  • 446 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45678 / تحميل: 5490
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وفي هذا الصدد يكتب العلامة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ عامّة الآيات المتضمنّة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجّه خطاباتها إلى عامّة المؤمنين دون النبيّ خاصّةً كقوله تعالى:( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) ( البقرة: ١٩٥ )

وقوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران: ١٠٤ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) ( المائدة: ٣٥ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) ( الحج: ٧٨ )

وقوله:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ( البقرة: ١٧٩ )

وقوله:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) ( الطلاق: ٢ )

وقوله:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) ( آل عمران: ١٠٣ )

وقوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى: ١٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها أنّ الدين ذو صبغة اجتماعية الشكل وقد حملها الله تعالى على الناس بصفتهم الاجتماعيّة ( كما حمل بعض الاُمور على الافراد بوصفهم الفرديّة ) ولم يرد إقامة الدين إلّا منهم أجمعهم، فالمجتمع المتكون منهم هو الذي أمره الله وندبه إلى ذلك من غير مزيّة في ذلك لبعضهم )(١) .

إنّ توجيه الخطاب بهذه التكاليف إلى المجتمع، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المجتمع بما هو مجتمع عليه أن يقوم بها كما يقوم الفرد بواجبه الدينيّ، وهي على نحو الواجب الكفائّي الذي يجب على الجميع القيام بها أوّلاً وبالذات، فإن قام بها أحد سقطت عن الآخرين، وأمّا إذا لم يقم بها أحد كان الجميع عصاةً مسؤولين.

وحيث أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن

__________________

(١) الميزان ٤: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠١

القيام بها وأدائها دون جماعة متفرّغة لذلك، ودون جهاز حكم يتولّى تنفيذها، توجّب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل دولة يعهد إليها مسؤولية القيام بهذه التكاليف، وتطبيق النظم الاجتماعيّة الإسلاميّة، والوظائف المتوجهة إلى المجتمع أساساً، وذلك صيانةً للمجتمع من الإنهيار، وحفظاً لمصالحه وشؤونه، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلّا الهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.

من هذا البيان المقتضب، يمكن لنا أن نستنبط كون الاُمّة والمجتمع هو مصدر السلطات الحكوميّة، ولكن ليس مصدراً مطلقاً بل مصدراً في إطار الحاكميّة الإلهيّة والقوانين الإسلاميّة، فالناس في الدين الإسلاميّ هم المكلفون بتشكيل الحكومة والدولة وتعيين الحاكم وانتخابه ـ إن لم يكن هناك حاكم منصوص عليه من جانب الله ـ لقيادة الاُمّة، وإدارة شؤونها، وتطبيق الشريعة الإلهيّة في المجالات الاجتماعيّة، لأنّهم هم المخاطبون بالخطابات المذكورة ولـمّا لم يكن في مقدورهم جميعاً القيام بذلك بأشخاصهم، لزم أن يبادروا إلى استنابة من يقوم بها.

أليس المجتمع ـ حسب منطق القرآن ـ هو الذي توجه إليه الأمر بقطع السارق وحدّ الزاني وردّ المعتدي وحفظ الثغور، وإقامة النظام الدينيّ ؟؟.

أفلا يدلّ ذلك ضمناً على أن الإسلام سمح للمجتمع الإسلاميّ بأن يشكّل الدولة التي تتولّى القيام بهذه الواجبات الاجتماعيّة، لأنّ الإسلام جعل هذه التكاليف في عهدة المجتمع، وطلب منه أداءها ؟ وهل يمكن للمجتمع الذي يقوم كلّ صنف من أصنافه بتكفُّل جانب ضروريّ من الجوانب المعيشيّة، بكلّ تلك الواجبات الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة، دون جهاز حكوميّ متفرّغ ينّفذ ويراقب ويضمن إجراء القوانين الإلهيّة في المجالات المذكورة ؟

وهل يمكن أن يريد الإسلام إقامة الاُمور الاجتماعيّة والنظم الاجتماعيّ ولا يريد مقدّمة ذلك وهي تشكيل دولة تقوم وتتعهّد بتوزيع المسؤوليات وحفظ الحقوق.

٢٠٢

وحراسة العلاقات ؟

وهكذا تكون الاُمّة ـ في نظر الإسلام ـ مصدر السلطة الذي له أن يختار وينتخب حكّامه، وتكون الحكومة نابعةً من إرادته.

* * *

٥. العقلُ وتشكيل الدولة

يعتبر ( العقل ) أحد الأدلّة الشرعيّة التي يستند إليها الفقهاء في استنباط الأحكام جنباً إلى جنب مع القرآن والسّنة والاجماع.

وقد أشبع العلماء البحث في حجّية العقل في الموارد التي له الحكم فيها.

لقد دلّ العقل هذا على وجوب تشكيل الدولة من جانب الاُمّة، وذلك لما في إقامة الدولة من حفظ النظام الإنسانيّ ومن المعلوم أنّ حفظ النظام الإنسانيّ من الواجبات العقليّة التي يحتِّمها العقل على البشر.

فإنّه يتوجب على البشر ـ بحكم العقل ـ أن يبذل غاية جهده في إقرار النظام وحفظه والدفاع عنه وصيانته، إذ في ظلّ النظام يمكن أن يحصل الإنسان على سعادته وسلامته ويضمن مصالحه ومستقبله.

ولأجل هذا، نجد الشعوب تقرّر أنظمةً وقوانين لحفظ هذا النظام رغم أنّ بعضها لا يتديّن بدين ولا يتمسّك بشريعة إلهيّة.

وهذا إنّما يدلّ على أنّ موضوع إقامة النظام الاجتماعيّ، ممّا يقرُّ به الناس ويذعنون له عقلاً وبديهةً، قبل أن يأتي لهم في ذلك شرع ودين.

فهذه إذن حقيقة لا نقاش فيها.

ولكن ترى، هل يمكن للمجتمع أن يقوم بنفسه ـ ورغم عدم تخصُّصه في شؤون الإدارة، وعدم تفرغه لها ـ بحفظ النظام وإقراره ؟ أو هل يمكن التوصل إلى ذلك بمجرد أن يؤمن الناس بهذه الحقيقة إيماناً مجرّداً من أي رادع، ومن دون أنّ يكون ثمة جهاز يتولّى

٢٠٣

مسؤولية الحفاط على النظام الاجتماعيّ الذي يدعو إليه العقل ويطلبه العقلاء، وينادون به.

والحقّ أنّ مجرّد الاعتقاد بضرورة حفظ النظام الاجتماعيّ وبحجّة أنّه يكفل سعادة الفرد والمجتمع، من دون إقامة ( دولة )، لا يمنع من وقوع الاختلال في هذا النظام، ولذلك فإنّ العقل نفسه يحتِّم على البشر أن يقيم جهازاً يعهد إليه حفظ النظام، ولأجل ذلك لم يخل ـ كما قلنا ـ أي مجتمع بشريّ من دولة أو دويلة وزعيم كبير أو صغير يتكفّل إقرار النظام الاجتماعيّ المطلوب.

وهذا خير دليل على، أنّ للشعوب بل عليها أن تقوم بتشكيل السلطات فهي إذن مصدرها، وهذا هو بالضبط ما يؤكّده الإسلام ويؤيّده، إذ الشرع كما يقولون يعضد العقل ويؤيّده فيما تكون فيه مصلحة الناس ومنفعتهم وخيرهم.

* * *

٦. سيرة المسلمين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ الصحابة ـ بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أحسّوا بضرورة إقامة دولة وتشكيل جهاز حكوميّ يخلف القيادة النبويّة، يلمّون به شعثهم ويحفظون به اجتماعهم، فأقدموا على انتخاب رئيس من بينهم لزعامة الاُمّة وقيادة البلاد، وإن كان ذلك لا يخلو من علّة وعلاّت، كما أوضحناه.

إنّ الصحابة ـ وإن تناسوا وجود إمام منصوص عليه من جانب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عيّن عليّاًعليه‌السلام إماماً للمسلمين من بعده، كما تدلّ الأخبار القطعيّة والأحاديث المتواترة(١) على ذلك ـ إلّا أنّ فعلهم كان يدلّ في حدّ نفسه على أنّ الطريق الطبيعيّ لتأسيس الحكومة وإقامتها، هو انتخاب الاُمّة للحاكم والقائد، لولا النصّ.

* * *

__________________

(١) لقد أشرنا إلى بعض مصادر هذه النصوص في الصفحة ١٠٤ ـ ١٨١ من هذا الكتاب وتركنا الكثير.

٢٠٤

٧. سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم

إنّ من أبرز مسلّمات الفقه الإسلاميّ هو قاعدة ( سلطة الإنسان على ماله ) التي هي مفاد قول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس مسلطون على أموالهم »(١) .

فإذا كان الناس مسلّطين على أموالهم بحيث لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلّا بإذن أصحابها، فهم ـ بطريق أولى ـ مسلّطون على أنفسهم، فلا يجوز لأحد أن يحدّد حرياتهم، ويحمل نفسه عليهم أو يتصرّف في مقدّراتهم وشؤونهم دون إذنهم.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر نرى ؛ أنّ إقرار النظام يستلزم بالضرورة تصرّفاً في أموال الناس ونفوسهم وتحديداً لحرياتهم المشروعة بالذات، فإنّ الجمع بين هذين الأمرين ( سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم، واستلزام أقرار النظام، التصرّف في تلك الأموال والنفوس )، هو بأن تكون الدولة التي تقيم النظام نابعةً من انتخاب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ.

وبعبارة أوضح: إنّ سيادة أي نظام على الناس لا تخلو من السلطة على أموالهم وأرواحهم والتصرّف فيها بالضرورة لأنّ من النظام أخذ الضرائب، وتنظيم الصادرات والواردات وتحديدها، وذلك بوضع القيود اللازمة عليها، وتنظيم الحريات والعلاقات

__________________

(١) مبدأ البرهان في هذا الدليل هو القاعدة المسلّمة بين الفقهاء وهي ( الناس مسلّطون على أموالهم ) وقلنا: إذا كان الناس مسلّطين على أموالهم فبالأولى أن يكونوا مسلّطين على نفوسهم.

غير أنّه يجب التنبيه على نكتة وهي أنّ الأولوية في الجانب السلبيّ لا الجانب الإيجابيّ.

والمقصود من الجانب السلبيّ أنّه إذا كان للأنسان أن يردّ الغير عن التصرّف في ماله فبالأولى يكون له ردُّ الغير عن التصرّف في نفسه، إذ جواز الردّ في جانب الأموال يستلزم جوازه في جانب النفس بطريق أولى.

وأمّا الجانب الإيجابيّ فليست هناك أيّة ملازمة والمراد منه هو أنّه إذا جاز للرجل أن يتصرّف في ماله فبالأولى له أن يتصرّف في نفسه، ومن المعلوم بطلان هذه الملازمة.

٢٠٥

وإرسال الجيوش إلى ميادين القتال، واستحضار الأفراد للخدمة العسكريّة، وما شابه ذلك ممّا يكون به حفظ النظام وصيانته وإقراره، ولـمّا كان حفظ النظام واجباً مفروضاً عقلاً وشرعاً وكان ممّا لا يتحقّق إلّا بإقامة دولة قويّة ذات سلطة واقتدار، يتراءى ـ في بادئ النظر ـ أنّه يصطدم مع ما أقرّه الإسلام للإنسان من سلطة وسلطان على أمواله ونفسه فكان الحلّ، هو أن تكون الدولة المتصرفة واقعةً موقع رضاهم، حتّى يكون التصرّف بإذنهم ورضاهم حفظاً للقاعدة المسلّمة ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى أنفسهم.

* * *

٨. الحكومة أمانةٌ عند الحاكم

إنّ تشكيل الدولة وانتخاب الحاكم الأعلى، حقّ اجتماعيّ للاُمّة ولها أن تستوفي هذا الحق متى شاءت وأرادت وهذا يعني أنّ الحكومة ( أمانة ) عند الحاكم تعطيها الاُمّة له، وعليه أن يحرص على الأمانة غاية الحرص، ويواظب على أدائها أشدّ المواظبة.

أقول: إنّ هذه الحقيقة تستفاد من بعض الآيات والأحاديث العديدة التي تصف الحكم بأنّه أمانة، ومنها قول الله سبحانه:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء: ٥٨ ـ ٥٩ ).

إنّ الخطاب في قوله سبحانه( يَأْمُرُكُمْ ) موجّه إلى الحكام بقرينة قوله( وَإِذَا حَكَمْتُم ) وهذه قرينة على أنّ الأمانة المذكورة هي: الحكومة.

ويؤيّد كون المراد من الأمانة هو ( الحكومة ) ما جاء في الآية الثانية من الحثّ على إطاعة الله وإطاعة الرسول واولي الأمر، فمجيء هذه الآية عقيب الآية المتضمنة لكلمة الأمانة، يؤيّد أنّ المراد بالأمانة المذكورة هو ( الحكومة ) وأنّ الكلام في الآيتين إنمّا هو

٢٠٦

حول ( الحكومة ) وما لها وما عليها من الحقوق والواجبات.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على كون المراد من أهل الأمانة هو « الناس » فعندئذ تدل الآية على، أنّ الحكومة نابعة من جانب الاُمّة، وإن كانت نابعةً من جانب الله بالأصالة، وهي أمانة بيد الحاكم، ووديعة في عنقه، يطلب منه أداؤها. غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود من أهل الأمانة هو ( الله ) سبحانه وتعالى، فإن الحكومة له لا غير كما قال في كتابه الكريم:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ ) فعندئذ لا يتمّ الاستدلال بالآية على المطلوب، ولكنّ الإجابة عن هذا الاحتمال واضحة، فإنّ الحكومة كما قلنا في الجزء الأوّل، حقّ ذاتيّ لله تعالى، ولا يعني من كونه حقّاً للناس أنّه حقّ أصيل لهم في قبال كونه حقّاً لله سبحانه، بل المراد أنّه حقّ أعطاه الله سبحانه له.

وبعبارة أخرى: ليس المقصود أنّ للشعب سيادةً وحاكميّةً في عرض السيادة والحاكميّة الإلهيّة، بل هما حقّان من نوعين، أحدهما حقّ مستقل وذاتيّ، والآخر حقّ تبعيّ موهوب، وهما لذلك يجتمعان دونما تضادّ وتباين، ولا منافاة بين أن يكون أهل الأمانة هو الاُمّة أو الله سبحانه.

وممّا يؤيّد القول بأنّ المراد من ( اهلها ) هو الناس، ما ورد في هذا الصدد من الاحاديث التي يستفاد منها كون ( الحكومة ) أمانة في عنق الحاكم، أو أنّ الحكّام خزّان الرعيّة ومؤتمنون على الحكومة، ومسؤولون عنها، إلى غير ذلك من النصوص التالية :

يقول الإمام عليّعليه‌السلام لأحد ولاته: « إنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعىً لما فوقك ليس لك أن تفتات في رعيّة »(١) .

ويقولعليه‌السلام أيضاً: « أيّها الناس إنّ أمركم هذا ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمرتم، وإنّه ليس لي دونكم إلّا مفاتيح مالكم معي »(٢) .

ويقول الإمامعليه‌السلام أيضاً: « انصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥).

(٢) الكامل لابن الأثير ٣: ١٩٣.

٢٠٧

فإنّكم خزّان الرّعيّة ووكلاء الاُمّة »(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً ما روي حول الآية عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوه، وأن يجيبوه إذا دعوا »(٢) .

فهذه العبارات صريحة في كون الاُمّة هي صاحبة الأمانة، التي هي الحكومة والسيادة، لأنّ الحكام حسب هذه النصوص ليسوا إلّا حفظةً للسلطة وحراسها وخزاناً لها لا أصحابها. ويؤيّد ذلك أيضاً، أنّ الروايات والأحاديث تضافرت من أهل البيت: حول الآية، وهي تفسرها بالإمامة التي يجب على كلّ إمام أن يؤدّيها إلى الإمام الذي بعده.

ففي تفسير البرهان في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى آخر قوله تعالى) عن زرارة عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا ) فقالعليه‌السلام : « أمر الله الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده ليس له أن يزويها عنه، ألا تسمع قوله:( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ) هي الحكّام يا زرارة، إنّه خاطب بها الحكّام »(٣) .

نعم، إنّ الجمع بين المعنى ( وهو كون المقصود من الأمانة هو الحكومة التي تسلمّها الاُمّة إلى الحاكم ) والمعنى الثاني ( الذي روي عن أهل البيت من أنّ المقصود هو أداء كلّ إمام الإمامة إلى من بعده ) يحتاج إلى تأمّل ودقة تفكير.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه، أنّ المفسر الإسلاميّ الكبير الطبرسيّ فسّر ( الأمانة ) في الآية بأنّ المراد هو ( الفيء وغير الفيء ) الذي يجب إيصاله إلى الاُمّة، أصحابها

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥١٥).

(٢) الأموال لأبي عبيد: ١٢، ٣٨٨.

(٣) تفسير الميزان ٥: ٣٨٥ نقلاً عن البرهان قال العلاّمة الطباطبائيّ: وصدر هذا الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهمعليهم‌السلام .

٢٠٨

الحقيقيين وهو داخل في موضوع الحكومة، وأعمالها وصلاحياتها ومسؤوليّاتها ويقول: ( ومن جملتها ( أي من جملة الأمانات ) الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة )(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام قال في ذيل هاتين الآيتين: « آيتان إحداهما لنا، والأخرى لكم »(٢) .

وعنى الإمام بالاولى قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) وبالثانية قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ) .

٩. كتب الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام إلى معاوية قبل نشوب الحرب بينهما: « إنّ عليّاً لـمّا مضى لسبيله ( رحمة الله عليه يوم قبض ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّا ) ولاّني المسلمون الأمر من بعده فادخل فيما دخل فيه النّاس »(٣) .

وهذه العبارات صريحة في أنّ القاعدة المركوزة في أذهان المسلمين ( لولا التنصيص من الله سبحانه على شخص معيّن ) هي انتخاب المسلمين لحاكمهم، بحيث يجب ـ بعد انتخابه ـ دخول المخالف والمعارض فيما دخل في جمهرة الناس، ولذلك مضى الإمام الحسنعليه‌السلام يلفت نظر معاوية إليها.

١٠. ذمّ الإمام الصادقعليه‌السلام من يجبر الناس على حكمه بالسوط والسيف: ممّا يعني أنّ الشارع المقدس لا يرضى بالحاكم الذي يحمل نفسه على رقاب الناس قهراً ويحكمهم دون رضاهم، وذلك عندما قال له رجل: إنّه ربّما تكون بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا ؟ [ أي هل فيه بأس ] فقال الإمامعليه‌السلام : « هذا ليس من ذاك إنّما ذاك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسّوط »(٤) .

__________________

(١ و ٢) مجمع البيان ٢: ٦٣.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤: ١٢.

(٤) المستدرك ٣: ١٨٧ نقلا عن دعائم الإسلام.

٢٠٩

١١. قال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

« الواجب في حكم الله والإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدّم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم، عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم، ويقيم حجّتهم ويجبي صدقاتهم »(١) .

وهو صريح في أنّ على الاُمّة أن تبادر إلى انتخاب حاكمها ( لولا النصّ على أحد طبعاً ).

١٢. وممّا يؤيّد ما ذكرناه من أنّ القاعدة المركوزة في أذهان الناس في مجال الحاكم كانت هي أن يكون الحاكم منتخب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ هو ما كتبه رجال من أهل الحكومة إلى الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام :

« بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليك فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتآمر عليها بغير رضا منها ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ».

ولأجل ذلك كتب الإمام الحسينعليه‌السلام إليهم قائلاً: « أن بلغني أنّه قد اجتمع رأي ملئكم ذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم »(٢) .

فهذه الوجوه الاثنا عشر ـ عند التدبّر ـ تعطي للاُمّة، الحريّة الكاملة في انتخاب حكامّها تحت الضوابط الشرعيّة أو تدلّ ـ على الأقلّ ـ على لزوم كون الحكومة مورد رضاها.

__________________

(١) أصل سليم بن قيس: ١٨٢، وبحار الأنوار ٨: ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٢) الكامل للجزري ٣: ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٢١٠

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

قد اتضح من البحث المتقدّم، أنّ رضا الاُمّة وانتخابها يعدّ منبعاً للسلطة، وعندئذ ينطرح السؤال التالي :

إذا كانت إرادة الاُمّة منبعاً للسلطة في الحكومة الإسلاميّة وهي بنفسها مصدر للسلطة في الديمقراطيّة الغربيّة أيضاً فما الفرق بين الحكومتين ؟

الجواب :

إنّ المراد بكون الاُمّة ذات سيادة وحقّ في الحكومة الإسلاميّة يختلف عن السيادة الشعبيّة التي تقول بها الأنظمة الديمقراطيّة.

فالاُمّة في ظل الإسلام يجب أن تختار حاكماً متّصفاً بالشروط والصفات المعتبرة في الحاكم الإسلاميّ، من الفقه والعدل والدراية السياسيّة والمقدرة الإدارية، وغيرها من الشروط والمواصفات التي سيأتي ذكرها مفصّلاً في صفات الحاكم بينما يختلف الأمر عمّا هو عليه في الديمقراطيّة إذ في ظل هذا النظام يحقُّ للشعب أن يختار من يريد سواء أكان صالحاً أم لا، وسواء أكان متحلّياً بالمؤهّلات والشروط المذكورة أم لا.

كما أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى أن يمشي ويسير وفق النظام الإسلاميّ وليس له أن يحيد عن ذلك قيد شعرة، بينما يكون الأمر في النظام الديمقراطيّ على غير هذا

٢١١

النحو ؛ حيث يجب على الحاكم المنتخب أن يسير وفق ما يريده الشعب ويرتضيه ويرتئيه صالحاً كان أو فاسداً، وحقّاً كان أو باطلاً.

وبذلك يظهر، أنّه لا جامع ولا تشابه بين النظامين حتّى يرد على الاسلوب الإسلاميّ في ( انتخاب الحاكم من جانب الشعب ) ما يرد على الاسلوب الديمقراطيّ ولأجل ذلك، نجد أنفسنا في غنىً عن الإجابة على تلكم الإشكالات والاعتراضات والمؤاخذات. نعم لا بأس مع ذلك بالإشارة إلى ما أورد على الديمقراطيّة من اعتراضات ومؤاخذات تتميماً للفائدة.

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة

إنّ الديمقراطيّة التي يعنى منها حكومة الشعب على الشعب عن طريق انتخاب النوّاب والحكام وذلك على النمط الغربيّ الذي يعتمد على تغليب الأكثريّة وترجيح آرائها، ينطوي على ثلاثة معايب رئيسيّة :

أوّلاً: إنّ الحاكم المنتخب يكون تابعاً للناس، وليس تابعاً للمصالح والحقائق، فإنّ الحاكم الذي يعتمد على آراء الناس وأصواتهم ( لا الضوابط والمؤهّلات والمعايير ) سيحاول دائماً أن يفعل ما يرضيهم، ويخطب ودّهم ويحقّق ما يشاؤون حقّاً كان أو باطلاً، وسيحاول مثل هذا الحاكم والنائب أن يكيِّف نفسه وفق أهواء ناخبيه، لا أن يهديهم ويرشدهم إلى مصالحهم الحقيقيّة، ويعمل بما يقتضيه الواقع في شأنهم، فما أكثر النوّاب الذين تجاهلوا نداءات الضمير إرضاءً للناس وإبقاءً على تأييدهم وكسباً لآرائهم وأصواتهم في المراحل التالية والدورات الاخرى. وما أكثر الأشخاص الصالحين الذين أرادوا أن يتّبعوا الحقّ والمصلحة الحقيقيّة لإرضاء الناس فخسروا تأييد الناس، وخسروا أصواتهم.

ثانياً: إنّ الشرط الأساسيّ لصحّة الانتخاب الشعبيّ، هو أن يكون الناخبون على درجة من الرشد الفكريّ والوعي والبصيرة حتّى لا يقعوا فريسة العواطف الرخيصة

٢١٢

والحادّة عند اختيار النوّاب أو الحكّام.

فلو توفر مثل هذا الشرط كان الانتخاب انتخاباً صحيحاً، ومفيداً.

ولكنّ المشكلة هي أنّ الأكثريّة الساحقة والتي هي الملاك في النظام الديمقراطيّ تفقد مثل هذه البصيرة والوعي والرشد الفكريّ، فإنّ الوعي والتفكير يختصان بطبقة خاصّة دون جمهرة الناس وسوادهم، فهي وحدها تفعل على بصيرة وبوعي، وأمّا الأكثرية الساحقة، فتتّبع في فعلها وتركها الأهواء الشخصيّة والتوجيهات التي يقوم بها اللاعبون خلف الستار من السياسيين ومحترفي السياسة.

فهل يمكن أن ننسى ما يعمله المرشّحون للنيابة أو الرئاسة لكسب هذه الأكثريّة من التوسل بجميع الوسائل الإغرائيّة، والأجهزة الدعائيّة والإعلاميّة ؟ فهم يستخدمون كل وسيلة رخيصة حتّى الفتيات والراقصات والأفلام الخليعة وإعطاء الوعود الخلاّبة، لاكتساب المزيد من أصوات الناس، إذ بهذه الاُمور يمكن الاستحواذ على عواطف أكثرية الجماهير، واستمالتهم، تلك الأكثريّة التي تتألف ـ في الأغلب ـ من السذّج، والبسطاء وغير المثقفين، فكيف يمكن أن تكون هذه الأكثرية ملاكاً لصحّة الانتخاب ومشروعيّته ؟

ثالثاً: إنّ تغليب الأكثريّة ولو بصوت واحد لا يكون ( عدلاً ) مضافاً إلى أنّه لا يجعل ما اختارته الأكثريّة ( حقاً ) لا نقاش فيه.

وإنّما لا يكون عدلاً، لأنّ تغليب هذه الأكثريّة ـ حتّى لو حصلت باسلوب صحيح بعيد عن المؤثّرات والإغراءات والاحتيالات ـ تجاهل لحقّ ما يقارب نصف المجتمع ومصالحه وإجحاف بحقّهم وهو إجحاف أدركه الغرب نفسه وتفطّن له كبار مفكّريه، وحقوقيّيه، واجتماعيّيه، ولكنّه لم يجد مفرّاً منه لأنّه لايعرف نهجاً بديلاً عنه، ولأجل ذلك لا يكون حقاً أيضاً.

هذه بعض معايب الديمقراطيّة وانتخاب الشعب لحكّامه ونوّابه على النهج الشائع في الأنظمة الديمقراطيّة وهو قليل من كثير.

٢١٣

وهي معايب واُمور يعاني الغرب من تبعاتها وآلامها أشدّ العناء، ويتحمّل بسببها أشدّ الأذى. ولذلك يبدو ؛ أنّ الانتخاب الشعبيّ للحاكم لا يكون مثالياً ولا صالحاً.

غير أنّ ما يقرّره النظام الإسلاميّ عار عن هذه المعايب ؛ وخال عن هذه المؤاخذات وذلك لوجوه هي :

أوّلاً: أنّه لا شكّ في أنّ أفضل أنواع الحكومات هو ( الحكومة التنصيصيّة الإلهيّة ) وإنّما الكلام هو فيما إذا لم يمكن التوصّل إلى هذا النوع فإنّه لن يكون سوى طريق واحد هو، قيام الاُمّة بانتخاب حكامها، بدلاً من أن يتسلّط على مصيرها ومقدّراتها بالقوّة، من يستبدّ برأيه، ويستأثر بفيئها، ولا يكون للناس في الأمر أي إرادة وكلمة.

ثانياً: انّ هذه الاعتراضات والمؤاخذات إنّما ترد على الانتخاب على النمط الغربيّ، والذي يجري في المجتمعات والبيئات الغربيّة التي لا تتمتّع بتربية أخلاقيّة ودينيّة رفيعة، والتي لا تخضع لأيّ شروط أو مواصفات موضوعيّة ومنطقيّة لا في الناخب ولا في المنتخب، ولا يعتبر سوى المزيد من الآراء والأصوات التي تباع وتشترى، وتكتسب بالأبواق وأجهزة الإعلام، وتحت تأثير الدعايات البرّاقة والوعود المنمّقة، لا ما يجري في البيئة الإسلاميّة وعلى النمط الإسلاميّ، الذي يشترط فيه للحاكم شروط ومواصفات تجعله رجلاً مثالياً في الأخلاق، نموذجيّاً في الإدراة، ويشترط على المنتخب، أن لا يختار إلّا من تتوفّر فيه الشرائط المعتبرة في الحاكم المثاليّ(١) ، إذ لولا ذلك لكان عمله من باب الركون إلى الظالم الذي أوعد الله عليه بالعذاب الأليم وبالنار إذ قال:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود: ١١٣ ).

فيكون الانتخاب ـ في ظل النظام الإسلاميّ على العكس من النظام الديمقراطيّ ـ مسؤوليّةً للناخب والمنتخب، وليس لعبةً سياسيّة.

ثالثاً: إنّ الأدلّة الإسلاميّة تدلّ على أنّه يجب على الفقيه العادل، بل على كلّ

__________________

(١) ففي الحديث: « إنّما الإمام هو الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات الله إلى آخره » وسوف توافيك تلك الشروط في محلّها في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

٢١٤

مسلم ملتزم إذا رأى بدعةً شائعةً، وحكومةً منكرةً القيام ضدّها، ورفض شرعيّتها، وشجب عملها بل والإعلان عن إلغائها، بحكم ماله من الولاية التي له من جانب الله سبحانه كما يقول الإمام الحسينعليه‌السلام : « أيُّها الناس إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقُّ من غيّر »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها »(٢) .

وبهذا يأمن المجتمع الإسلاميّ من مخاطر الانتخاب الشعبيّ، ويسلم من تبعاته وسيئاته.

إنّ افتقاد الانتخاب الشعبيّ على النهج الديمقراطيّ الغربيّ، الضمانات التي أقامها الإسلام في الانتخاب، هو الفارق الكبير بين الانتخابين ( الإسلاميّ والغربي ) وهو بالتالي يكون سبباً لفشل الديمقراطيّة الغربيّة بخلاف الإسلام.

إنّ المجتمع الإسلاميّ الذي يرسم القرآن ملامحه في آيات عديدة ويلخِّصها في قوله:( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

إنّ مجتمعاً كهذا، من الجدير أن لا ينتخب لإدارة شؤونه إلّا ( حكومةً ) رشيدةً أمينةً رساليّةً مؤمنةً، وفيّةً للدين، ملتزمةً بالإسلام، ومخلصةً لمصالح الاُمّة وذلك على العكس من النظام الديمقراطيّ.

إنّ الأخذ بالضوابط والمقاييس التي ذكرها واشترطها الإسلام للقادة والزعماء ،

__________________

(١) الطبري ٤: ٣٠٤.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

٢١٥

كفيل أيضاً بأن يزيل جميع الاعتراضات الواردة على الانتخاب الشعبيّ ويحقّق أفضل حكومة من نوعها بين الحكومات.

* * *

السؤال الثاني :

إذا كان انتخاب الحاكم الأعلى غير مختص بفريق معيّن من أفراد الاُمّة، فلماذا يقول الإمام عليّعليه‌السلام في بعض رسائله: « وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً »(١)

الجواب :

إنّ السبب في حصر الإمام عليّعليه‌السلام حقّ انتخاب الإمام في المهاجرين والأنصار ـ بغضِّ النظر عن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في هذه الرسالة ـ هو تعذّّر إجراء الاستفتاء العامّ الشامل، وعدم إمكان استعلام آراء المسلمين كلّهم في ذلك العهد، الذي كان يفقد الوسائل الكافية للاتصال بجميع أفراد الاُمّة. وحيث أنّ تأخير الانتخاب للحاكم الأعلى ريثما يتمّ الوقوف على كلّ آراء المسلمين جميعاً، كان ينطوي على تعريض الاُمّة الإسلاميّة لأخطار جديّة حقيقيّة لا تخفى على كلّ من يعرف الأوضاع في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام، نجد الإمامعليه‌السلام يختار هذا الاُسلوب ويعلّل ذلك بقوله: « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار »(٢) .

كيف لا وقد مر عليك أيّها القارئ الكريم أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام صرّح في بعض خطبه بوضوح لا يقبل جدلاً، أن إرادة الاُمّة الإسلاميّة، هي مصدر السلطات، وأنّ الحكومة يجب أن تكون موضع رضا الناس(٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٦).

(٢) نهج البلاغة: الرسالة (١٧٣) طبعة عبده.

(٣) راجع الصفحة ٢٠٧ ـ ٢٠٨ من هذا الجزء.

٢١٦

لقد كان المهاجرون والأنصار ـ في ذلك العهد ـ بحكم سبقهم إلى الإيمان بالإسلام بمنزلة وكلاء الاُمّة الإسلاميّة، فكان ما يختارونه يقرّه الآخرون. ولأجل ذلك، اعتبر الإمام عليّعليه‌السلام ما يختاره شورى المهاجرين والأنصار ومن يتّفقون عليه للحكم، حجّةً نافذةً على الآخرين.

ولا بأس بأن نذكر في خاتمة هذا الجواب، أنّ انتخاب الحاكم الأعلى للدولة كما يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب الاُمّة مباشرةً، كذلك يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب نوّابها للحاكم الأعلى، ويكون مآل ذلك إلى رأي الاُمّة أيضاً.

ولعلّ ما ذكره الإمام عليّعليه‌السلام كان إشارةً إلى هذا الاُسلوب وكأنّ المسلمين في ذلك العصر كانوا ـ لاعتمادهم على المهاجرين والأنصار ـ يعدّونهم نوّاباً لهم، وإن لم يصرّحوا بذلك لفظاً.

يقول صاحب المنار في شأن هؤلاء المهاجرين والأنصار: ( وقد كانوا ( أي المهاجرين والأنصار ) في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يكونون معه حيث كان، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات ثمّ تفرّقوا وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام ( الخليفة ) وفي الشورى وفي السياسة والإدارة والقضاء فأمّا المبايعة، فكانوا يرسلون إلى البعيد من اُمراء الأجناد، ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم )(١) .

ثمّ إنّ استدلال الإمام بشورى المهاجرين والأنصار مع كون إمامته وخلافته منصوصاً عليها من جانب الله سبحانه، إنّما هو من باب الجدل وإفحام الخصم، وسيأتيك تفصيل ذلك عند البحث عن نظرية « الشورى أساس الحكم ».

السؤال الثالث :

لمّا كان الاتفاق على شخص واحد أمراً مستحيلاً عادةً، فعندئذ كيف ينتخب الحاكم الأعلى ؟ هل بتغليب الأكثريّة على الأقليّة، وذلك مناف لأصالة الحريّة الإنسانيّة

__________________

(١) المنار ٥: ١٩٥.

٢١٧

الفرديّة وقاعدة سلطة الإنسان على ماله ونفسه، ومستلزماً لبخس حقوق الأقليّة.

الجواب :

إذا نظرنا إلى الحياة الإنسانيّة من الزاوية الفرديّة، وأخذنا الإنسان بمعزل عن المجتمع، جاز لنا أن نستنكر هذا الترجيح، ونعتبره نقضاً صريحاً لحريّته الفرديّة وحقّه في الأخذ برأيه وانتخابه واختياره إذ لا مبرّر لذلك، ولا مسوّغ فلكلّ إنسان حقّ في إبداء رأيه وتنفيذه، ولا سلطة لأحد على أحد كما أسلفناه.

ولكنّنا لو نظرنا إلى ( الحياة الإنسانيّة ) من الزاوية الاجتماعيّة ودرسنا الإنسان والفرد وهو ضمن مجتمع متكوّن من أفراد آخرين، ذوي حقوق ومصالح مماثلة، فإنّ الحياة والعيش بالكيفيّة الاجتماعيّة حينئذ تقتضي القبول بكلّ لوازمها، ففي الحياة الاجتماعيّة تضمن المصالح، والحريّات الفرديّة في إطار المصلحة الاجتماعيّة، إذ بذلك وحده يمكن التوصّل إلى الاستقرار الاجتماعيّ وتحقيق السعادة الاجتماعيّة العامّة التي يتوقف عليها الاستقرار الفرديّ، وتتحقق في ظلّها السعادة الفرديّة ولـمّا كان الطريق الوحيد إلى حفظ النظام الاجتماعيّ وصيانة مصالح الاُمّة متوقّفة ـ بعد التشاور والمداولة ـ على ترجيح إحدى الطائفتين المختلفتين في الرأي على الاُخرى، فلا مناص من تغليب الأكثريّة على الأقليّة، لأنّ تغليب الأقليّة على الأكثريّة عند العقلاء ترجيح للمرجوح على الراجح.

من هنا يلزم على الأقليّة القبول برأي الأكثريّة وانتخابها، والتنازل عن حقّها ورأيها.

وبعبارة اُخرى: إنّ الحياة الاجتماعيّة تشبه شركة مساهمة، يشترك فيها الأفراد المتعددون بالأسهم، فكما أنّ على مشتري السهم أن يتّبع في شرائه للسهم، ومشاركته في تلك الشركة برنامج الشركة المدوّن، ويكون شراؤه بمثابة الموافقة الضمنيّة على ذلك البرنامج، فإنّ العيش ضمن الحياة الاجتماعيّة يعتبر إمضاءً لشروط الحياة الاجتماعيّة، وقبولاً بمستلزماتها وأحكامها إذ لا بقاء للحياة الاجتماعيّة، ولا قيام لأمرها إلا بهذا

٢١٨

الطريق، كما لابقاء للشركة المساهمة إلّا بموافقة أصحاب الأسهم على برنامج الشركة وأهدافها، والقبول بمتطلباتها فهو باختصار، أشبه شيء بالشرط في ضمن العقد كما هو المصطلح في الفقه، والاعتراف بالملزوم اعتراف بلازمه.

* * *

الفرق الواضح بين الترجيحين

يمكن أن ينطرح في ذهن القارئ الكريم، أنّ ما أخذنا به على الديمقراطيّة الغربيّة جار في المقام، إذ قلنا هناك بأنّ ترجيح الأكثريّة ولو بصوت واحد بخس وتجاهل لحقّ الأقليّة، وعندئذ فما الفرق بين الترجيحين الحاكمين في الديمقراطيّة الغربيّة والحكومة الإسلاميّة ؟

غير أنّ القارئ الكريم الذي لمس حقيقة الحكومة الإسلاميّة يقف على الفرق الجوهريّ بين الترجيحين، فإنّ الأكثريّة في النظام الديمقراطيّ الغربيّ تأخذ بزمام الحكم وتتصرف في مصير المجتمع بأيّ نحو شاءت، وليس هناك ضابطة غالباً تحدد تصرّفاتها في مقابل الأقليّة، سواء أكانت في مجال التقنين والتشريع أم في مجال التطبيق والتخطيط، إذ لا يشترط في المتصرِّف شيء من الشرائط سوى تصويت الأكثريّة له. ولذلك لا رادع هناك من أي بخس وتجاوز لحقوق الأقليّة من جانب الأكثريّة الحاكمة.

أمّا الحكومة الإسلاميّة، فالأقليّة والأكثريّة كلاهما يتّبعان حكماً وقانوناً واحداً لا يختلفان في ذلك أبداً، فليس لهما إلّا الاتّباع لما شرعه الإسلام وجاء به الكتاب والسنة، وإنمّا الاختلاف في اُسلوب التطبيق والتخطيط، فليس للحاكم الأخذ بزمام الحكم أن يتجاهل حقوق الأقليّة، كما أنّه ليس للطرف الآخر الخروج عن دائرة الحقّ والعدل المتمثّلين في الشريعة المقدسة فتبقى هناك مسألة التصدّي لمقام الحكم ولا مناص من ترجيح الأكثريّة على الأقليّة حفظاً لنظام المجتمع وإبقاءً على وحدته وكيانه، ويتضح ما ذكرناه إذا لاحظنا مواصفات الحاكم وشرائطه في الحكومة الإسلاميّة كما ستوافيك في الفصل القادم.

٢١٩

السؤال الرابع :

ولاية الفقيه ومكانتها

في

الحكومة الإسلاميّة

ربّما يتصور البعض، أنّ القول بولاية الفقيه التي اتّفق على أصلها في الجملة جميع الفقهاء في فقه الإماميّة، يتنافى مع ما مر تقريره من إثبات السيادة للاُمّة وحقّها في انتخاب حكّامها ونوّابها.

الجواب :

إنّ البحث في ولاية الفقيه، وتوضيح حقيقتها ودلالتها، وبيان ما حولها من حقائق، يحتاج إلى تأليف رسالة، وقد أغنانا عن ذلك ما كتبه قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخمينيّقدس‌سره فنقول باختصار :

إنّ ما ذكرناه في « صيغة الحكومة الإسلاميّة » وتركيبتها هو ما يمكن لكلّ مطالع في الإسلام، استنباطه من الكتاب والسنّة بجلاء، غير أنّ هناك في فقه الشيعة الإماميّة « عنصراً خاصّاً » في الحكومة الإسلاميّة هو عنصر « ولاية الفقيه » الذي لا نجد مثيله في سائر المذاهب، وينبغي للقارئ الكريم أن يتعرّف على هذا العنصر استكمالاً لمعرفته بجميع عناصر الحكومة الإسلاميّة في عامّة المذاهب الفقهيّة.

إنّ الحديث عن ولاية الفقيه يقع في أمرين :

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

أسفا ، و حينئذ فلا بد أنّ مراده عليه السّلام : أن لبثه فيهم أيّام خلافته قليل ، فلم تكمل السّنة الرابعة من قيامه عليه السّلام .

« فلبثتم بعده ما شاء اللَّه » و لا يعلم مدّة لبثهم غير اللَّه .

« حتّى يطلع اللَّه لكم من يجمعكم و يضم نشركم » بظهور قائم آل محمّد عليهم السّلام ، و قال ابن ميثم : قيل هو الإمام المنتظر ، و قيل : هو قائم بني العبّاس بعد انقضاء دولة بني امّية ١ .

قلت : كيف يحتمل إرادته عليه السّلام قائم بني العبّاس ، و كلامه عليه السّلام في دليل راية الحقّ بعده عليه السّلام ؟ فمن يجمع النّاس ، و يضمّ نشرهم على راية الحقّ غير قائم أهل البيت عليهم السّلام ؟ و إذا لم يكن المراد دليل راية الحقّ ، فأيّ فرق بين قائم العباسية و قائم الاموية ، في جمع أمر النّاس على السلطنة الدنيوية ؟

و قال ابن أبي الحديد : كلامه عليه السّلام إشارة إلى المهدي الّذي يظهر في آخر الوقت ، إلاّ أنّه عند أصحابنا غير موجود الآن و سيوجد و عند الإمامية أنّه موجود ٢ .

قلت : فما يفعل بقوله عليه السّلام هنا : « مثل آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم طلع نجم » ٣ ، و بقوله عليه السّلام في خطبة مرّت في أوّل الفصل : « لا تخلو الأرض من قائم للَّه حجّة إمّا ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا » ٤ ؟

« فلا تطمعوا في غير مقبل » قال أيوب بن نوح للرّضا عليه السّلام : نرجو أن تكون صاحب هذا الأمر ، و أن يردّه اللَّه إليك من غير سيف ، فقد بويع لك ، و ضربت الدّراهم باسمك . فقال عليه السّلام : ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب ، و سئل عن المسائل ،

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٣ : ٨ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٩٢ .

( ٣ ) رواهما الشريف الرضي في نهج البلاغة ١ : ١٩٤ ضمن الخطبة ٩٨ و ٤ : ٣٧ ضمن الحكمة ١٤٧ .

( ٤ ) المصدر نفسه .

٣٢١

و أشارت إليه إلاّ اعتلّ و مات على فراشه ، حتّى يبعث اللَّه عزّ و جلّ لهذا الأمر رجلا خفي المولد و المنشأ ، حتّى خفي في نسبه ١ .

و قال عبد اللَّه بن عطا للباقر عليه السّلام : إنّ شيعتك بالعراق كثيرون ، فو اللَّه ما في أهل بيتك مثلك ، فكيف لا تخرج ؟ فقال : يا عبد اللَّه بن عطا قد أمكنت الحشو من اذنيك و اللَّه ما أنا بصاحبكم ٢ .

« و لا تيأسوا من مدبر » قال الهادي عليه السّلام : إذا رفع عليكم من بين أظهركم ،

فتوقعوا الفرج من تحت أقدامكم ٣ .

و قال الباقر عليه السّلام : إذا دار الفلك و قال النّاس : مات القائم أو هلك ، بأيّ واد سلك ، و قال الطالب أنى يكون ذلك ، و قد بليت عظامه ؟ فعند ذلك فارجوه ، فإذا سمعتم به فأتوه ، و لو حبوا على الثّلج ٤ .

و عن الأصبغ : ذكر عند أمير المؤمنين عليه السّلام القائم عليه السّلام فقال : أما ليغيبنّ حتّى يقول الجاهل : ما للَّه في آل محمّد حاجة ٥ .

« فإن المدبر » و المراد به القائم الّذي نهى عن اليأس عنه .

« عسى أن تزل » و زاد ابن أبي الحديد « به » ٦ .

« إحدى قائمتيه و تثبت الاخرى » فلا يسقط .

« و ترجعا » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( فترجعا ) كما في

ــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي للكليني ١ : ٣٤١ ح ٢٥ و الغيبة للنعماني : ١١٢ .

( ٢ ) أخرجه الصدوق بطريقين في كمال الدين : ٣٢٥ ح ٢ و الكليني في الكافي ١ : ٣٤٢ ح ٢٦ ، و النعماني بطريقين في الغيبه : ١١١ في صدر حديث .

( ٣ ) الكافي للكليني ١ : ٣٤١ ح ٢٤ عن الهادي عليه السّلام ، و الغيبة للنعماني : ١٢٤ عن الرضا عليه السّلام .

( ٤ ) كمال الدين للصدوق : ٣٢٦ ح ٥ .

( ٥ ) أخرجه الصدوق بطريقين كمال الدين : ٣٠٢ ح ٩ ، و : ٣٠٣ ح ١٥ ، و النعماني في الغيبة : ١٠١ .

( ٦ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٩ .

٣٢٢

( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) ١ .

« حتّى تثبتا جميعا » و لعلّ الإتيان بضمير التثنية في ( ترجعا ، و تثبتا ) إن صحّ النقل ، لعدم تعيّن الزّالّة ، فيحتمل كونها كلا منهما .

و كيف كان ، فعن الصادق عليه السّلام قال : المنتظر الثاني عشر هو المفرّج للكرب عن شيعته بعد ضنك شديد ، و بلاء طويل ، و جزع و خوف ، فطوبى لمن أدرك ذلك الزمان ٢ .

« ألا إنّ مثل آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله كمثل نجوم السّماء إذا خوى نجم » في ( الصحاح ) :

خوت النجوم : إذا سقطت ، و لم تمطر في نوئها ٣ .

« طلع نجم » مكانه قال لقيط بن زرارة :

و إنّي من القوم الّذين علمتهم

إذا مات منهم سيّد قام صاحبه

نجوم سماء كلّما غاب كوكب

بدا كوكب تأوي إليه كواكبه

لمّا مات السّجاد عليه السّلام قال محمّد بن المنكدر : ما كنت أظنّ أنّه يدع ولدا أفضل منه ، حتّى رأيت ابنه محمّد بن عليّ ، أردت أن أعظه فوعظني ٤ .

و لمّا مات الباقر عليه السّلام دخل سالم بن أبي حفصة على الصادق عليه السّلام معزّيا له ، فقال له : ذهب و اللَّه من كان يقول : قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله . فلا يسأل عمّن بينه و بين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ، و اللَّه لا يرى مثله أبدا . فقال له الصادق عليه السّلام : قال اللَّه تبارك و تعالى : إنّ من عبادي من يتصدّق بشق تمرة ، فاربيها كما يربي أحدكم فلوه ، حتى يجعلها مثل جبل احد . فخرج سالم إلى أصحابه ، فقال : ما رأيت أعجب من هذا كنّا نستعظم قول الباقر عليه السّلام : « قال رسول اللَّه » بلا واسطة . فقال

ــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٨٩ ، لكن لفظ شرح ابن ميثم ٣ : ٦ مثل المصرية .

( ٢ ) كمال الدين للصدوق : ٣٣٤ ح ٥ ، و الغيبة للنعماني : ٥٧ ، و النقل بتقطيع .

( ٣ ) صحاح اللغة ٦ : ٢٣٣٢ مادة ( خوى ) ، و النقل بتقطيع .

( ٤ ) الارشاد للمفيد : ٢٦٣ ، و النقل بتصرف ، و قد مرّ الحديث بتمامه في العنوان ١٩ من هذا الفصل .

٣٢٣

ابنه « قال اللَّه » بلا واسطة ١ .

و قال زيدي لإمامي من أصحاب الصادق عليه السّلام : قد مات إسماعيل الّذي كنتم تمدّون أعناقكم إليه ، و جعفر شيخ كبير يموت غدا أو بعد غد ، فتبقون بلا إمام . فلم يدر ما يقول له ، فأخبر الصادق عليه السّلام بمقالته ، فقال عليه السّلام : هيهات هيهات ، أبى اللَّه و اللَّه أن ينقطع هذا الأمر حتّى ينقطع الليل و النهار ، فإذا رأيته فقل له : هذا موسى بن جعفر يكبر و يزوّجه ، فيولد له ولد ، فيكون خلفا إن شاء اللَّه ٢ .

و كتب ابن قياما الواقفي إلى الرضا عليه السّلام : كيف تكون إماما و ليس لك ولد ؟ فأجابه عليه السّلام : و ما علمك أنّه لا يكون لي ولد ؟ و اللَّه لا تمضي الأيّام و الليالي حتّى يرزقني اللَّه ولدا ذكرا ، يفرّق به بين الحقّ و الباطل ٣ .

و قال أحمد بن محمّد : خرج عن أبي محمّد العسكري عليه السّلام حين قتل الزّبيري : هذا جزاء من اجترأ على اللَّه و أوليائه ، يزعم أنّه يقتلني و ليس لي عقب ، فكيف رأى قدرة اللَّه فيه ؟ قال : و ولد له ولد سمّاه « م ح م د » في سنة ستّ و خمسين و مائتين ٤ .

و روى الشيخ في ( غيبته ) توقيعا عن الحجّة عليه السّلام إلى جماعة قالوا : إنّ أبا محمّد عليه السّلام مضى و لا خلف له : أو ما رأيتم كيف جعل اللَّه لكم معاقل تأوون إليها ، و أعلاما تهتدون بها من لدن آدم عليه السّلام إلى أن ظهر الماضي عليه السّلام ، كلّما غاب علم بدا علم ، و إذا أفل نجم طلع نجم ؟ فلمّا قبضه اللَّه إليه ظننتم أنّ اللَّه

ــــــــــــــــ

( ١ ) أمالي الطوسي ١ : ١٢٥ المجلس ٥ ، و النقل بتصرف في اللفظ .

( ٢ ) كمال الدين للصدوق : ٦٥٧ ح ٢ .

( ٣ ) الكافي للكليني ١ : ٣٢٠ ح ٤ ، و أخرجه بعنوان المشافهة لا المكاتبة الكشي في معرفة الرجال ( اختياره ) ٥٥٣ ح ١٠٤٤ .

( ٤ ) الكافي للكليني ١ : ٣٢٩ ح ٥ .

٣٢٤

تعالى أبطل دينه ، و قطع السّبب بينه و بين خلقه ؟ كلا ما كان ذلك و لا يكون حتّى تقوم السّاعة ١ .

« فكأنّكم قد تكاملت من اللَّه فيكم الصّنائع » أي : نعمه الخاصّة .

« و أراكم ما تأملون » من ظهور القائم عليه السّلام ، في خبر جابر الجعفي ، عن الباقر عليه السّلام : كأنّي بأصحاب القائم عليه السّلام و قد أحاطوا بما بين الخافقين ، فليس من شي‏ء إلاّ و هو مطيع لهم ، حتّى سباع الأرض و سباع الطير ٢ .

و في خبر آخر عنه عليه السّلام : إذا قام قائمنا عليه السّلام وضع يده على رؤوس العباد ، فجمع بها عقولهم ، و كملت بها أحلامهم ٣ .

و عن الصّادق عليه السّلام : و إنّ الرّجل منهم ليعطى قوّة أربعين رجلا ، و إنّ قلبه لأشدّ من زبر الحديد ، و لو مرّوا بجبال الحديد لقلعوها . . . ٤ .

و قال ابن ميثم : وجدت له عليه السّلام في أثناء بعض خطبه في اقتصاص ما يكون بعده فصلا يجري مجرى الشّرح لهذا الوعد ، و هو أن قال : « يا قوم اعلموا علما يقينا إنّ الّذي يستقبل قائمنا من أمر جاهليتكم ليس بدون ما استقبل الرّسول من أمر جاهليتكم و ذلك أنّ الامّة كلّها يومئذ جاهلية إلاّ من رحم اللَّه . فلا تعجلوا فيعجل الخرق بكم ، و اعلموا أنّ الرفق يمن ، و في الأناة بقاء و راحة ، و الإمام أعلم بما ينكر ، و لعمري لينزعنّ عنكم قضاء السوء ، و ليقبضنّ عنكم المرائين ، و ليعزلنّ عنكم امراء الجور ، و ليطهّرنّ الأرض من كلّ غاش ،

و ليعملنّ فيكم بالعدل ، و ليقومنّ فيكم بالقسطاس المستقيم ، ليتمنين أحياؤكم لأمواتكم رجعة الكرّة عمّا قليل فيعيشوا إذن ، فإنّ ذلك كائن للَّه ، أنتم بأحلامكم

ــــــــــــــــ

( ١ ) الغيبة للطوسي : ١٧٣ ، و النقل بتقطيع .

( ٢ ) كمال الدين للصدوق : ٦٧٣ ح ٢٥ في صدر حديث .

( ٣ ) كمال الدين للصدوق : ٦٧٥ ح ٣٠ ، و الكافي للكليني ١ : ٢٥ ح ٢١ .

( ٤ ) كمال الدين للصدوق : ٦٧٣ ح ٢٦ .

٣٢٥

كفّوا ألسنتكم ، و كونوا من وراء معايشكم ، فإنّ الحرمان سيصل إليكم ، و إن صبرتم و احتسبتم و ائتلفتم ، إنّه طالب و تركم ، و مدرك لثأركم ، و آخذ بحقّكم ،

و اقسم باللَّه قسما حقّا : إنّ اللَّه مع الّذين اتّقوا ، و الّذين هم محسنون ١ .

و روى الطبري في إسلام عدي بن حاتم : أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال له : يا عدي بن حاتم إنّما يمنعك من الدخول في هذا الدين لما ترى من حاجتهم ، فو اللَّه ليوشكنّ المال يفيض فيهم حتّى لا يوجد من يأخذه إلى أن قال قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ، و رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف شيئا حتّى تحجّ هذا البيت ، و ايم اللَّه لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه ٢ .

قلت : و لا بد أنّ فيضان المال حتّى لا يوجد من يأخذه إنّما في عصر ظهوره عليه السّلام ، فروي : أنّ أصحاب الزكاة يجيئون بزكاتهم إلى المحاويج من شيعته ، فلا يقبلونها فيصّرونها و يدورون في دورهم ، فيخرجون إليهم فيقولون : لا حاجة لنا إلى دراهمكم إلى أن قال و يجتمع إليه أموال أهل الدّنيا كلّها من بطن الأرض و ظهرها ، فيقول النّاس : تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام و سفكتم فيه الدّم الحرام ، و ركبتم فيه المحارم ، فيعطي عطاء لم يعط أحد قبله ٣ .

٢٣

من الخطبة ( ١٠٣ ) فَمَا اِحْلَوْلَتْ لَكُمُ اَلدُّنْيَا فِي لَذَّتِهَا وَ لاَ تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلاَفِهَا إِلاَّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٣ : ٩ ، و الآية ١٢٨ من سورة النمل .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٢ : ٣٧٧ سنة ٩ .

( ٣ ) رواه علي بن عبد الحميد في الغيبة عنه البحار ٥٢ : ٣٩٠ ح ٢١٢ ، و النقل بتصرف يسير .

٣٢٦

مِنْ بَعْدِ مَا صَادَفْتُمُوهَا جَائِلاً خِطَامُهَا قَلِقاً وَضِينُهَا قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ بِمَنْزِلَةِ اَلسِّدْرِ اَلْمَخْضُودِ وَ حَلاَلُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُودٍ وَ صَادَفْتُمُوهَا وَ اَللَّهِ ظِلاًّ مَمْدُوداً إِلَى أَجْلٍ مَعْدُودٍ فَالْأَرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ وَ أَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ وَ أَيْدِي اَلْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ وَ سُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ وَ سُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ أَلاَ إِنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً وَ لِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً وَ إِنَّ اَلثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَ هُوَ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ وَ لاَ يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ أقول : و رواه ( الإرشاد ) هكذا : « الحمد للَّه ، و السّلام على رسول اللَّه . أمّا بعد ، فإنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله رضيني لنفسه أخا ، و اختصّني له وزيرا . أيّها النّاس أنا أنف الهدى و عيناه ، فلا تستوحشوا من طريق الهدى لقلّة من يغشاه ، من زعم أنّ قاتلي مؤمن فقد قتلني . ألا و إنّ لكل دم ثائرا يوما ما ، و إنّ الثائر في دمائنا ، و الحاكم في حقّ نفسه ، و حقّ ذوي القربى و اليتامى و المساكين ، و ابن السّبيل الّذي لا يعجزه ما طلب لا يفوته من هرب ، و سيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ١ و اقسم باللَّه الّذي فلق الحبّة و برأ النسمة لتنتحرنّ عليها يا بني امية و لتعرفنّها في أيدي غيركم ، و دار عدوكم عمّا قليل و ستعلمنّ نبأه بعد حين ٢ .

و رواه القمي في ( تفسيره ) مسندا عن الصّادق عليه السّلام هكذا : « قال : خطب أمير المؤمنين عليه السّلام بعد ما بويع بخمسة أيّام ، فقال فيها : و اعلموا أنّ لكلّ حقّ طالبا ، و لكلّ دم ثائرا ، و الطالب بحقّنا كقيام الثائر بدمائنا ، و الحاكم في حقّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) الشعراء : ٢٢٧ .

( ٢ ) الارشاد للمفيد : ١٤٧ .

٣٢٧

نفسه هو العادل الّذي لا يحيف ، و الحاكم الذي لا يجور ، و هو اللَّه الواحد القهّار .

و اعلموا أنّ على كلّ شارع بدعة و زره و وزر كلّ مقتد به من بعده ، من غير أن ينتقص من أوزار العاملين شي‏ء . . . » ١ .

« فما احلولت » أي : ما صار حلوا ، قال الجوهري : حلا الشي‏ء يحلو حلاوة ،

و احلولى مثله ٢ .

« لكم الدّنيا في لذّتها » و مذاقها .

« و لا تمكنتم من رضاع » مصدر رضع الصّبي امّه ، و قولهم : لئيم راضع .

أصله رجل كان يرضع إبله أو غنمه ، و لا يحلبها لئلاّ يسمع صوت حلبه فيطلب منه .

« أخلافها » الأخلاف : جمع الخلف بالكسر ، و في ( الصحاح ) : الخلف : حلمة ضرع النّاقة ، القادمان و الآخران ٣ .

قال ابن أبي الحديد : الخطاب لمن في عصره من الصحابة و التابعين ٤ .

و قال ابن ميثم : لبني امية و نحوهم ٥ .

و الأوّل أصح لأنّ صيرورة الدّنيا حلوا لهم ، و تمكنهم من رضاع ثديها إنّما كان من زمن الأوّلين ، و إنّما نال بنو اميّة ما نالوا بواسطتهم .

« إلاّ من بعد ما » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( إلاّ من بعده ) ، أي : بعد النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٦ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) تفسير القمي ١ : ٣٨٤ .

( ٢ ) صحاح اللغة للجوهري ٦ : ٢٣١٧ مادة ( حلو ) .

( ٣ ) صحاح اللغة ٤ : ١٣٥٣ مادة ( خلف ) .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٠١ .

( ٥ ) شرح ابن ميثم ٣ : ٢٥ .

( ٦ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٠٠ و شرح ابن ميثم ٣ : ٢٣ مثل المصرية أيضا .

٣٢٨

قال ابن أبي الحديد : فصانه اللَّه تعالى في أيّام حياته عن أن يفتح عليه الدّنيا ، و أكرمه عن ذلك ، فلم يفتح عليكم البلاد ، و لا درّت عليكم الأموال ، و لا أقبلت الدّنيا نحوكم ، و ما دالت الدولة لكم ، إلاّ من بعده ١ .

خطب عتبة بن غزوان في إمارته البصرة من قبل عمر و هو الّذي اختطّ البصرة فقال : و لقد رأيتني سابع سبعة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و قد تسلقت أفواههم من أكل الشجر ، و لقد رأيتنا أنا و سعد استبقنا بردة فاشتققناها ،

فأخذت أنا نصفها و سعد نصفها ، و اليوم ما منّا رجل إلاّ و قد أصبح أميرا على مصر ، و لقد بلغني أنّه لم تكن نبوّة إلاّ و سننسخ ملكا .

و لمّا هزم خالد بن الوليد عجم البسط ، و كانوا بسطوا البسط ، و صفّوا الأطعمة فلم يمهلهم ، و وقف على طعامهم فقعدوا عليه ، و جعل من لم ير الأرياف ، و لا يعرف الرّقاق يقول : ما هذه الرّقاق البيض ؟ و جعل من قد عرفها يجيبهم ، و يقول لهم مازحا : هل سمعتم برقيق العيش ؟ فيقولون : نعم . فيقول :

هو هذا . فسمّي الرّقاق ، قال الطبري : و كانت العرب تسمّيه القرى ٢ .

« صادفتموها » أي : وجدتموها .

« جائلا » من الجولان .

« خطامها » أي : زمامها .

« قلقا » أي : مضطربا .

« وضينها » قال الجوهري : الوضين للهودج بمنزلة البطان للقتب ،

و التصدير للرحل ، و الحزام للسّرج ٣ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٠١ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٢ : ٥٦٢ سنة ١٢ .

( ٣ ) صحاح اللغة للجوهري ٦ : ٢٢١٤ مادة ( وضن ) .

٣٢٩

« قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر المخضود » من : خضدت الشجر :

قطعت شوكه ، فهو خضيد و مخضود . فيسهل عليه تناول ثمره .

« و حلالها بعيدا غير موجود » لعدم ورع في النّاس يتّقون من الحرام .

قال ابن أبي الحديد و في شرح قوله عليه السّلام : « صادفتموها » إلى هنا :

ذكر عليه السّلام أنّهم صادفوها يعني الدّنيا و قد صعبت على من يليها ولاية حقّ ،

كما تستصعب النّاقة على راكبها إذا كانت جائلة الخطام ، ليس زمامها يمكّن راكبها من نفسه ، قلقة الوضين لا يثبت هودجها تحت الراكب . حرامها سهل التناول على من يريده ، كالسدر الذي خضد عنه شوكه فصار ناعما أملس ،

و حلالها غير موجود لغلبة الحرام عليه ، و كونه صار مغمورا مستهلكا بالنسبة ، و هذا إشارة إلى ما كان يقوله دائما من استبداد الخلفاء قبله دونه بالأمر ، و أنّه كان الأولى و الأحقّ ١ .

قلت : ما قاله من أنّه عليه السّلام كان دائما يقول باستبدادهم حقّ ، و تأويل أصحابه له باطل ، لكن الظاهر أنّ كلامه عليه السّلام ليس في هذا المقام ، بل في مقام أنّ الدّنيا إنّما فتحت على المتقدّمين عليه بفتح فارس و الرّوم ، حيث إنّ الدّنيا صارت متزلزلة باولئك و زال اقتدارهم ، و كانوا مشغولين بالنهب و السلب ،

و لم يتمكّن امراؤهم من ردعهم ، و إنّما كان من دولتهم مجرّد اسم و محض صورة ، كما لا يخفى على من راجع السير .

« و صادفتموها و اللَّه ظلا ممدودا إلى أجل معدود » قال ابن أبي الحديد :

ذكر عليه السّلام أنّ الدّنيا فانية ، و أنّها ظل ممدود إلى أجل معدود ٢ .

و قال ابن ميثم : كنّى بذلك عن زوالها بعد حين تهديدا لهم به ٣ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٠١ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٠١ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٣ : ٢٦ .

٣٣٠

قلت : و في ما قالاه : أوّلا : إنّه لو كان المعنى ما ذكراه ، لم يكن الكلام محتاجا إلى قوله : « و صادفتموها » ، و كان يقول : و إنّها و اللَّه ظل ممدود إلى أجل معدود .

و ثانيا : إنّه لا يناسب الظّل الممدود الفناء و الزّوال ، بل الظلّ الزّائل كما قالوا :

إنّما الدّنيا كظلّ زائل

كيف و الظّل الممدود ورد في وصف نعيم الجنّة ؟ قال تعالى : و ظل ممدود ١ .

و ثالثا : إنّه لا يناسب سياق الكلام سابقه و لاحقه ، و الظاهر بشهادة السّوق أنّ المراد : أنّهم صادفوا الدّنيا بعد النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله مصفّى العيش مدّة مديدة .

« فالأرض لكم شاغرة » يقال : شغر الرّجل المرأة . أي : رفع رجلها للنكاح ،

و الظّاهر أنّ المراد أنّ الأرض كانت لكم شاغرة كشغر رجل المرأة للرجل .

قالوا : لمّا فتح موسى بن نصير الأندلس غنموا من الذهب و الفضة حتى نعلوا دوابهم بمسامير الذهب و الفضة . و لما ضربوا الأوتاد لخيولهم في جدار كنيسة من كنايسها لم تلج ، فنظروا فإذا بصفايح الذهب و الفضّة خلف بلاط الرّخام . و لمّا فتح طليطلة ، وجد فيها بيتا كان فيه أربعة و عشرون تاجا من ملوك الأندلس ، كلّما هلك ملك جعل تاجه في ذلك البيت ، و كتب على التّاج اسم صاحبه و ابن كم هو ، و يوم ولي و يوم مات . و وجدوا أيضا مائدة عليها اسم سليمان بن داود ، و ليس لها أرجل قاعدتها منها ، و كانت من ذهب و فضّة خليطين ، فهي تتلوّن صفرة و بياضا ، مطوّقة بثلاثة أطواق : طوق لؤلؤ ، و طوق

ــــــــــــــــ

( ١ ) الواقعة : ٣٠ .

٣٣١

ياقوت ، و طوق زمرد . و دلّهم رجل على كنز فنزلوا فيه ، فسال عليهم من الزّبرجد و الياقوت ما لم يروا مثله قط ، و أمّا الذّهب و الفضّة و المتاع فلم يكن يحصيه أحد ١ .

« و أيديكم فيها مبسوطة » تفعلون ما تشاؤون .

« و أيدي القادة » من اللَّه .

« عنكم مكفوفة » أي : مشدودة .

« و سيوفكم عليهم مسلّطة » فتقتلونهم .

« و سيوفهم عنكم مقبوضة » فلا يستطيعون القصاص منكم ، روى ( الروضة ) : عن الصادق عليه السّلام قال : إنّ اللَّه عزّ و جلّ أعفى نبيّكم أن يلقى من امته ما لقيت الأنبياء من اممها ، و جعل ذلك علينا ٢ .

و في ( تاريخ اليعقوبي ) : أنّه لما قتل يوسف بن عمر زيد بن عليّ بن الحسين أحرق جسده ، و ذرى نصفه في الفرات ، و نصفه في الزّرع ، و قال : و اللَّه يا أهل الكوفة لأدعنّكم تأكلونه في طعامكم ، و تشربونه في مائكم ٣ .

و في ( عيون ابن بابويه ) : دخل دعبل الخزاعي على الرّضا عليه السّلام بمرو ،

فقال له : يابن رسول اللَّه إنّي قد قلت فيك قصيدة ، و آليت على نفسي ألاّ انشدها أحدا قبلك . فقال : هاتها . فأنشده :

مدارس آيات خلت من تلاوة

و منزل وحي مقفر العرصات

إلى أن قال :

إذا وتروا مدّوا إلى واتريهم

أكفّا عن الأوتار منقبضات

ــــــــــــــــ

( ١ ) الكامل لابن الأثير ٤ : ٥٦٤ ٥٦٦ سنة ٩٢ ، و النقل بالمعنى .

( ٢ ) الكافي للكليني ٨ : ٢٥٢ ح ٣٥٢ كتاب الروضة .

( ٣ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٦ .

٣٣٢

جعل ابو الحسن عليه السّلام يقلّب كفّيه و يقول : أجل و اللَّه منقبضات ١ .

و قال ابن أبي الحديد : أعاد الشكوى و التألّم فقال : « و أيديكم في الدّنيا مبسوطة إلى و سيوفهم مقبوضة » ، و كأنّه كان يرمز إلى ما سيقع من قتل الحسين عليه السّلام و أهله ، كأنّه يشاهد ذلك عيانا ٢ .

قلت : بل أشار إلى إرادة قتلهم له يوم السّقيفة ، و يوم الشّورى لو لم يبايع ، قال ابن قتيبة في قصّة السقيفة : و بقي عمر و معه قوم ، فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع . فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذن و اللَّه الّذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك . قال : إذن تقتلون عبد اللَّه ، و أخا رسوله . قال عمر : أمّا عبد اللَّه فنعم ، و أمّا أخو رسوله فلا ٣ .

و قال في يوم الشورى : خرج عبد الرّحمن ( ابن عوف ) إلى المسجد ،

فجمع النّاس ، فحمد اللَّه و أثنى عليه ، ثمّ قال : إنّي نظرت في أمر النّاس ، فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعل يا عليّ سبيلا إلى نفسك فإنّه السّيف لا غير . ثمّ أخذ بيد عثمان فبايعه ٤ .

و كان حقّ الكلام أن يقول : أشار إلى إرادة قتل الأوّلين له لو لم يبايعهم ،

و إرادة قتل طلحة و الزّبير و عايشة له عليه السّلام و لابنيه الحسن و الحسين عليهما السّلام لو ظفروا بذلك يوم الجمل ، و إلى قتل معاوية للحسن عليه السّلام ، و ابنه للحسين عليه السّلام ،

و قتل باقي بني امية و العبّاسية لباقي أهل بيته و شيعتهم .

قال الباقر عليه السّلام و قد نقله ابن أبي الحديد في عنوان اختلاف الخبر لبعض أصحابه : يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيّانا ، و تظاهرهم علينا ، و ما

ــــــــــــــــ

( ١ ) عيون اخبار الرضا ٢ : ٢٦٧ ح ٣٤ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٢٠١ .

( ٣ ) الإمامة و السياسة لابن قتيبة ١ : ١٣ .

( ٤ ) الإمامة و السياسة لابن قتيبة ١ : ٢٧ .

٣٣٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثالث الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

لقي شيعتنا و محبّونا من الناس إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله قبض ، و قد أخبر أنّا أولى النّاس بالنّاس ، فتمالأت علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه ، و احتجّت على الأنصار بحقّنا و حجّتنا إلى أن قال ثمّ لم نزل أهل البيت نستذل ،

و نستضام ، و نقصى ، و نمتهن ، و نحرم ، و نقتل ، و نخاف ، و لا نأمن على دمائنا و دماء أوليائنا ، و وجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم و جحودهم موضعا يتقرّبون به إلى أوليائهم ، و قضاة السوء و عمّال السوء في كلّ بلدة ، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، و رووا عنّا ما لم نقله ، و ما لم نفعله ليبغّضونا إلى الناس ، و كان عظم ذلك و كبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه السّلام ، فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، و قطعت الأيدي و الأرجل على الظّنة ،

و كان من يذكر بحبّنا و الانقطاع إلينا سجن ، أو نهب ماله ، أو هدمت داره . . . ١ .

و في زيارة لهم عليهم السّلام رواها عليّ بن طاووس : يا مواليّ فلو عاينكم المصطفى ، و سهام الامّة مغرقة في أكبادكم ، و رماحهم مشرعة في نحوركم ، و سيوفها مولغة في دمائكم ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم ، و غيظ الكفر من إيمانكم ، و أنتم بين صريع في المحراب قد فلق السّيف هامته ، و شهيد فوق الجنازة قد شكّت أكفانه بالسّهام ، و قتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه ، و مكبّل في السجن قد رضّت بالحديد أعضاؤه ،

و مسموم قد قطعت بجرع السّم أمعاؤه ، و شملكم عباديد تفنيهم العبيد ، و أبناء العبيد ٢ .

ثمّ أيّ شي‏ء يفيده تخصيصه كلامه عليه السّلام بقتل الحسين عليه السّلام ، مع أنّ المؤسّس ليزيد لم يكن إلاّ صدّيقهم و فاروقهم ، كما كان لأبيه ؟

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٥ ، شرح الخطبة ٢٠٨ .

( ٢ ) نقله ابن طاووس في مصباح الزائر و صاحب المزار الكبير فيه عنهما البحار ١٠٢ : ١٦٩ ضمن زيارة جامعة .

٣٣٤

فروى ( مروج المسعودي ) ، و ( صفين نصر ) ، و غيرهما : أنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية : كيف تقاتل عليّا عليه السّلام و هو وليّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و أنت عدوّه ؟ فأجابه بأنّه اقتدى في ذلك بأبيه الصدّيق و صديقه الفاروق ١ .

و روى ( أنساب البلاذري : أنّ ابن عمر كتب إلى يزيد يطعن فيه لما قتل الحسين عليه السّلام فأجبه بأنّه أسس له ذلك أبوه الفاروق ٢ .

و في ( بلاغات نساء البغدادي ) قالت زينب : و سيعلم من بوّأك و مكّنك من رقاب المؤمنين ٣ .

نعم قتل الحسين عليه السّلام كان أظهر مصاديق كلامه ، و أشهر شنائع قريش أعداء أهل البيت . و في ( معجم الحموي ) : قال دعبل فيه عليه السّلام :

رأس ابن بنت محمّد و وصيّه

يا للرّجال على قناة ترفع

و المسلمون بمنظر و بمسمع

لا جازع من ذا و لا متخشّع ٤

و في ( الأغاني ) : قال دعبل :

و ليس حيّ من الأحياء نعلمه

من ذي يمان و من بكر و من مضر

إلاّ و هم شركاء في دمائهم

كما تشارك ايسار على جزر

قتل و أسر و تحريق و منهبة

فعل الغزاة بأرض الرّوم و الخزر ٥

و في ( معجم الحموي ) : قال نصر اللَّه بن مجلى : رأيت في المنام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فقلت له : يا أمير المؤمنين تفتحون مكّة فتقولون : من دخل دار

ــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ١٢ ، و وقعة صفين لابن مزاحم : ١١٩ و أنساب الأشراف للبلاذري ٢ : ٣٩٦ .

( ٢ ) رواه عن أنساب الأشراف ابن طاووس في الطرائف ١ : ٢٤٧ ح ٣٤٨ ، لكن لم يوجد في ترجمة الإمام الحسين عليه السّلام ، و لا في ترجمة يزيد في أنساب الأشراف .

( ٣ ) بلاغات النساء للبغدادي : ٣٦ .

( ٤ ) معجم الادباء للحموي ١١ : ١١٠ .

( ٥ ) الأغاني لأبي الفرج ٢٠ : ١٨٠ .

٣٣٥

أبي سفيان فهو آمن . ثمّ يتمّ على ولدك الحسين يوم الطّف ما تم ؟ فقال : أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا ؟ فقلت : لا . فقال : اسمعها منه . فلمّا استيقظت ،

بادرت إلى دار الحيص بيص ، فخرج إليّ ، فذكرت له الرؤيا فأجهش بالبكاء ،

و حلف باللَّه أنّه ما سمعها منه أحد ، و أنّه نظمها في ليلته هذه ، ثمّ أنشدني :

ملكنا فكان العفو منّا سجية

فلمّا ملكتم سال بالدّم أبطح

و حلّلتم قتل الاسارى و طالما

غدونا عن الأسرى نعفّ و نصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا

و كلّ إناء بالّذي فيه ينضح ١

و في ( المعجم ) أيضا : قال ابن وصيف الناشي :

بني أحمد قلبي لكم يتقطّع

بمثل مصابي فيكم ليس يسمع

إلى أن قال :

عجبت لكم تفنون قتلا بسيفكم

و يسطو عليكم من لكم كان يخضع

كأنّ رسول اللَّه أوصى بقتلكم

و أجسامكم في كلّ أرض توزّع ٢

و في ( معجم الحموي ) أيضا : كان الخالع في المسجد الذي بين الوراقين و الصّاغة في بغداد ، و المسجد غاصّ بالنّاس ، و إذا رجل قد وافى و عليه مرقعة ،

و في يده سطيحة و ركوة ، و معه عكاز ، و هو شعث ، فسلّم على الجماعة بصوت يرفعه ، ثمّ قال : أنا رسول فاطمة الزّهراء عليها السّلام . فقالوا : مرحبا بك و أهلا ،

و رفعوه . فقال : أتعرّفون لي أحمد المزّوق النّائح ؟ فقالوا : ها هو جالس . فقال :

رأيت مولاتنا في النوم . فقالت لي : امض إلى بغداد و اطلبه ، و قل له : نح على ابني بشعر النّاشي الّذي يقول فيه :

بني أحمد قلبي لكم يتقطّع

بمثل مصابي فيكم ليس يسمع

ــــــــــــــــ

( ١ ) معجم الادباء للحموي ١١ : ٢٠٦ .

( ٢ ) معجم الادباء للحموي ١٣ : ٢٩٢ .

٣٣٦

و كان النّاشي حاضرا فلطم لطما عظيما على وجهه ، و تبعه أحمد المزّوق ، و النّاس كلّهم ، و كان أشد النّاس في ذلك النّاشي المزوق ، ثمّ ناحوا بتلك القصيدة في ذلك اليوم إلى أن صلّى النّاس الظهر و تقوّض المجلس ،

و جهدوا بالرّجل أن يقبل شيئا منهم ، فقال : و اللَّه لو اعطيت الدّنيا ما أخذتها ،

أكون رسول مولاتي ثمّ آخذ عوضا ؟ ١ .

و في ( الطبري ) : لمّا أتي المختار بعبد اللَّه بن أسيد الجهني ، و مالك بن النّسير البديّ ، و حمل بن مالك المحاربي ، قال لهم : يا أعداء اللَّه قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه في الصلاة ؟ فأمر بقطع يدي البديّ و رجليه ، و ترك في نزف دمه حتّى يموت ، لكونه صاحب برنس الحسين عليه السّلام ، و قتل الآخرين بالسيف ٢ .

و في ( فواتح الميبدي ) ينسب إلى أبي حنيفة هذه الأبيات :

حبّ اليهود لآل موسى ظاهر

و ولاؤهم لبني أخيه باد

و إمامهم من نسل هارون الالى

بهم اقتدوا و لكلّ قوم هاد

و كذا النّصارى يكرمون محبة

لمسيحهم نجرا من الأعواد

و متى توالى آل أحمد مسلم

قتلوه أو سمّوه بالإلحاد

هذا هو الدّاء العياء لمثله

ضلّت حلوم حواضر و بواد

لم يحفظوا حقّ النّبيّ محمّد

في آله و اللَّه بالمرصاد ٣

قلت : يقال لقائل الأبيات : هذا الداء العياء من أئمتكم ، أليس فاروقكم دبّر الأمر لعثمان رئيس بني امية أعداء النّبيّ ، و أعداء أهل بيته ، و أعداء دينه حتّى يفعلوا ما فعلوا ؟

ــــــــــــــــ

( ١ ) معجم الادباء للحموي ١٣ : ٢٩٢ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٥٢٩ سنة ٦٦ ، و النقل بالمعنى .

( ٣ ) فواتح الميبدي : ١٩٨ .

٣٣٧

و ضلال حلوم حاضريهم و باديهم في محلّه ، لأنّ دينهم دين متناقض و متضاد ، و مثله محال في العقول .

« ألا إنّ لكلّ دم ثائرا ، و لكلّ حقّ طالبا ، و إنّ الثائر في دمائنا » في ( الصحاح ) :

الثائر : الّذي لا يبقي على شي‏ء حتّى يدرك ثاره ، و يقال أيضا : هو ثاره : أي قاتل حميمه ، قال جرير :

قتلوا أباك و ثاره لم يقتل

و قولهم : يا ثارات فلان . أي : يا قتلة فلان ١ .

و في ( الأساس ) : ثأرت حميمي و بحميمي ، إذا قتلت قاتله ، فعدوّك مثؤور ، و حميمك مثؤر به ، قال قيس بن الخطيم :

و ثارت عديّا و الخطيم فلم أضع

وصية أشياخ جعلت إزاءها

و ثاري عند فلان : أي : ذحلي . و جمع الثار الّذي هو معنى فقيل : « يا لثارات الحسين » اريد : تعالين يا ثاراته ، أي : يا ذحوله ، فهو أو ان طلبكنّ ٢ .

« كالحاكم في حقّ نفسه ، و هو اللَّه الذي لا يعجزه من طلب » كائنا من كان .

« و لا يفوته من هرب » في أي مكان كان .

و في رواية الحسين بن ثوير : عن الصادق عليه السّلام في زيارة الحسين عليه السّلام :

السّلام عليك يا قتيل اللَّه و ابن قتيله ، السّلام عليك يا ثار اللَّه و ابن ثاره ٣ .

و روى ( العقد الفريد ) مسندا عن الزّهري قال : خرجت مع قتيبة اريد المصيصة ، فقدمنا على عبد الملك ، فإذا هو قاعد في إيوان له و إذا سماطان من الناس على باب الإيوان ، فإذا أراد حاجة قالها للّذي يليه حتّى تبلغ المسألة باب

ــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة ٢ : ٦٠٣ مادة ( ثأر ) .

( ٢ ) أساس البلاغة للزمخشري : ٤٢ مادة ( ثأر ) ، و النقل بتقطيع .

( ٣ ) الكافي للكليني ٤ : ٥٧٦ ح ٢ و كامل الزيارات لابن قولويه : ١٩٩ ح ٢ ضمن زيارة طويلة .

٣٣٨

الايوان ، و لا يمشي أحد بين السّماطين . قال الزهري فجئنا فقمنا على باب الايوان ، فقال عبد الملك للّذي عن يمينه : هل بلغكم أيّ شي‏ء أصبح في بيت المقدس ليلة قتل الحسين بن عليّ عليه السّلام ؟ إلى أن قال قال الزهري : فدعيت فمشيت بين السّماطين و انتسبت له ، و قلت : حدّثني فلان : أنّه لم يرفع تلك الليلة التي صبيحتها قتل الحسين بن علي بن أبي طالب حجر في بيت المقدس إلاّ وجد تحته دم عبيط . قال عبد الملك : صدقت حدّثني الّذي حدّثك ، و إنّي و إيّاك في هذا الحديث لغريبان ١ .

و في باب نقش خواتيم ( الكافي ) عن أبي الحسن عليه السّلام : كان على خاتم عليّ بن الحسين عليه السّلام : خزي و شقي قاتل الحسين بن عليّ عليه السّلام ٢ .

و روى ( مجالس ثعلب ) في أوائل ثانيه مسندا عن السّدي قال : أتيت كربلا أبيع البز بها ، فعمل لنا شيخ من طيّ طعاما فتعشينا عنده ، فذكرنا قتل الحسين عليه السّلام ، فقلت : ما شرك في قتله أحد إلاّ مات بأسوء ميتة . فقال : ما أكذبكم يا أهل العراق فأنا في من شرك في ذلك . فلم نبرح حتّى دنا من المصباح و هو يتّقد بنفط ، فذهب يخرج الفتيلة بإصبعه ، فأخذت النّار فيها ،

فأخذ يطفئها بريقه ، فأخذت النّار في لحيته ، فعدا فألقى نفسه في الماء فرأيته كأنّه حممة ٣ .

و روى الطبري في ( ذيله ) عن شيخ من النّخع قال : قال الحجاج :

من كان له بلاء فليقم . فقام قوم ، فذكروا ، و قام سنان بن أنس ، فقال :

أنا قاتل الحسين . فقال : بلاء حسن ، و رجع إلى منزله . فاعتقل لسانه ، و ذهب

ــــــــــــــــ

( ١ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٥ : ١٢٦ ، و النقل بتقطيع .

( ٢ ) الكافي للكليني ٦ : ٤٧٣ ح ٦ .

( ٣ ) مجالس ثعلب ٢ : ٤٠٧ .

٣٣٩

عقله . فكان يأكل و يحدث مكانه ١ .

و من العجب أنّهم وثّقوا عمر بن سعد قاتل سيّد شباب أهل الجنّة ، و من شهد اللَّه بطهارته ، و بكونه ابن الرّسول ، و من باهل به النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله نقل توثيقه تهذيب المزّي عن أحمد بن عبدون العجلي ٢ .

و أغرب أنّهم جعلوا قتله حقّا فعن ابن حجر في شرح القصيدة الهمزية :

قال ابن المالكي : ما قتل الحسين إلاّ بسيف جدّه ٣ .

و من العجب أنّهم يرون شيعتهم شرّا من الكفّار ففي ( الطبري ) : أنّ معاوية بن قرة المزني قاضي البصرة أدخل سنان رمحه في عين رجل من عسكر المختار بعد هزيمتهم ، و أخذ يخضخض عينه بسنان رمحه ، و يقول :

هم أحل دما من الترك و الديلم ٤ .

و لا غرو في ذلك بعد معاملتهم مع حجج اللَّه ما عاملوا .

و روى أبو الفرج في ( مقاتله ) : أنّ عيسى بن موسى ولي عهد المنصور الّذي قتل محمّدا و إبراهيم لمّا قدم ، قال جعفر بن محمّد عليه السّلام : أهو هو ؟ قيل : من تعني يا أبا عبد اللَّه ؟ قال : المتلعب بدمائنا و اللَّه لا يحلأ منها بشي‏ء ٥ .

قلت : أشار عليه السّلام إلى خلعه .

و في ( مروج المسعودي ) في يحيى بن عمر الطالبي الّذي قتل في سنة ( ٢٥٠ ) أيّام المستعين ، و حمل رأسه إلى بغداد ، و دخل النّاس إلى ابن طاهر يهنّئونه بالفتح ، قال أبو هاشم الجعفري :

ــــــــــــــــ

( ١ ) منتخب ذيل المذيل للطبري : ٢٥ .

( ٢ ) تهذيب التهذيب لابن حجر ٧ : ٤٥٠ ، لكن تهذيب الكمال للمزّي لم أظفر على نسخته .

( ٣ ) لم أظفر بمصدر نقله .

( ٤ ) تاريخ الطبري ٤ : ٥٦١ سنة ٦٧ ، و النقل بالمعنى .

( ٥ ) المقاتل لأبي الفرج : ١٨٤ ، ٤٢٣ .

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446