بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة13%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 446

  • البداية
  • السابق
  • 446 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45786 / تحميل: 5509
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

يَكُن لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ) (١) عن مقاتل قوله: الشفاعة إلى الله انّما هي دعوة المسلم(٢) .

وقال الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (٣) انّ هذه الآية تدل على حصول الشفاعة للمذنبين، والاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة لا تذكر إلّا في إسقاط العقاب، أمّا طلب النفع الزائد فانّه لا يسمّى استغفاراً، وقال: قوله تعالى:( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) يدل على أنّهم يستغفرون لكل أهل الإيمان، فإذا دللنا على أنّ صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة(٤) .

وهذه الجمل تفيد أنّ الإمام الرازي جعل قول الملائكة في حق المؤمنين والتائبين من أقسام الشفاعة، وفسر قوله:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا ) بالشفاعة وهذا دليل واضح على أنّ الدعاء في حق المؤمن، شفاعة في حقه، وطلبه منه طلب الشفاعة منه، ويوضح ذلك ويؤيده ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي: « ما من ميت يصلّي عليه أُمّة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلّا شفّعوا فيه »(٥) .

وفسّر الشارح قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يشفعون له » بقوله: أي يدعون له، كما فسّر قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إلّا شفّعوا فيه » بقوله: أي قبلت شفاعتهم.

__________________

(١) النساء: ٨٥.

(٢) تفسير النيسابوري: ١ والمطبوع في إيران غير مرقم.

(٣) غافر: ٧.

(٤) مفاتيح الغيب: ٧ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦، طبعة مصر في ثمانية أجزاء.

(٥) صحيح مسلم: ٣ / ٥٣، طبعة مصر، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده.

٢٨١

وروي أيضاً عن عبد الله بن عباس أنّه قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلّا شفّعهم الله فيه »(١) أي قبلت شفاعتهم في حق ذلك الميت فيغفر له.

وعلى ذلك فلا وجه لمنع الاستشفاع من الصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء، ولو كان للشفاعة معنى آخر من التصرف التكويني في قلوب المذنبين، وتصفيتهم في البرزخ، ومواقف القيامة فهو أمر عقلي لا يتوجه إليه إلّا الأوحدي من الناس، فكل من يطلب من النبي الشفاعة لا يقصد منه إلّا المعنى الرائج.

الثاني: انّ الأحاديث الإسلامية وسيرة المسلمين تكشفان عن جواز هذا الطلب، ووجوده في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد روى الترمذي في صحيحه عن أنس قوله: سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: « أنا فاعل »، قال: قلت: يا رسول الله فأين أطلبك ؟ فقال: « اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط »(٢) .

فإنّ السائل يطلب بصفاء ذهنه، وسلامة فطرته من النبي الأعظم، الشفاعة من دون أن يخطر بباله أنّ في هذا الطلب نوع عبادة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما زعمه الوهابيون.

وهذا سواد بن قارب، أحد أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول مخاطباً إياه :

فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب(٣)

وروى أصحاب السير والتاريخ، انّ رجلاً من قبيلة حمير عرف أنه سيولد في أرض مكة نبي الإسلام الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولـمّا خاف أن لا يدركه، كتب رسالة وسلّمها لأحد أقاربه حتى يسلّمها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما يبعث، وممّا جاء في تلك

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) صحيح الترمذي: ٤ / ٦٢١، كتاب صفة القيامة، الباب ٩.

(٣) نقله « زيني دحلان » عن الطبراني في الكبير كما في التوصل إلى حقيقة التوسل: ٢٩٨.

٢٨٢

الرسالة قوله: « وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني »(١) . ولـمّا وصلت الرسالة إلى يد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « مرحباً بتبّع الأخ الصالح » فإنّ توصيف طالب الشفاعة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالأخ الصالح، أوضح دليل على أنّه أمر لا يصادم أُصول التوحيد.

وروي أنّ أعرابياً قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنّا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فسبح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: « ويحك أنّ الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك »(٢) . وأنت إذا تدبرت في الرواية ترى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرّه على شيء وأنكر عليه شيئاً آخر، أقرّه على قوله: إنّا نستشفع بك على الله، وأنكر عليه: نستشفع بالله عليك، لأنّ الشافع يسأل المشفوع إليه، والعبد يسأل ربه، ويستشفع إليه، والرب تعالى لا يسأل العبد، ولا يستشفع به.

وروى المفيد عن ابن عباس أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما غسّل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكفّنه، كشف عن وجهه وقال: « بأبي أنت وأُمي طبت حياً وطبت ميتاً اذكرنا عند ربك »(٣) .

وروي أنّه لـمّا توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه، ثمّ أكبّ عليه فقبّله، وقال: بأبي أنت وأُمّي طبت حياً وميتاً، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك(٤) .

وهذا استشفاع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في دار الدنيا بعد موته.

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب: ١ / ١٢، السيرة الحلبية: ٢ / ٨٨.

(٢) كشف الارتياب: ٢٦٤، نقلاً عن زيارة القبور: ١٠٠.

(٣) مجالس المفيد: ١٠٣، المجلس الثاني عشر.

(٤) كشف الارتياب: ٢٦٥ نقلاً عن خلاصة الكلام.

٢٨٣

ونقل عن شرح المواهب للزرقاني انّ الداعي إذا قال: أللّهمّ إنّي استشفع إليك بنبيك يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك، استجيب له(١) .

وقد روى الجمهور في أدب الزائر إنّه إذا جاء لزيارة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: جئناك لقضاء حقّك، والاستشفاع بك، فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك، فاستغفر لنا واشفع لنا(٢) .

كل هذه النصوص تدل على أنّ طلب الشفاعة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أمراً جائزاً ورائجاً، وذلك لأنّهم يرونه مثل طلب الدعاء منه، ولا فرق بينها وبينه إلّا في اللفظ، وقد عرفت صحة إطلاق لفظ الشفاعة على الدعاء والاستشفاع على طلب الدعاء حتى أنّ صحيح البخاري عقد بابين بهذين العنوانين :

إذا استشفعوا ليستسقى لهم لم يردهم.

إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط.

فنرى أنّ البخاري يطلق لفظ الشفاعة والاستشفاع على الدعاء وطلبه من الإمام في العام المجدب من دون أن يخطر بباله أنّ هذا التعبير غير صحيح.

وعلى الجملة انّ طلب الشفاعة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله داخل فيما ورد من الآيات التالية :

( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيمًا ) (٣) .

( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ *قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) (٤) .

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) الغدير: ٥ / ١٢٤ ـ ١٢٧، وقد نقله عن جمع لا يستهان بعدتهم.

(٣) النساء: ٦٤.

(٤) يوسف: ٩٧ ـ ٩٨.

٢٨٤

وقوله سبحانه:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) (١) .

فكلّما يدل على جواز طلب الدعاء من المؤمن الصالح يمكن الاستدلال به على صحة ذلك.

وقد عقد الكاتب محمد نسيب الرفاعي مؤسس الدعوة السلفية والمدافع القوي عن الوهابية باباً تحت عنوان: « توسل المؤمن إلى الله تعالى بدعاء أخيه المؤمن له ». واستدل بالقرآن والسنّة الصحيحة، فإذا كان ذلك جائزاً فلم لا يجوز طلب الشفاعة من النبي وآله بعد كون الجميع مصداقاً لطلب الدعاء.

وليعلم أنّ البحث هنا مركّز على طلب الشفاعة من الأخيار، وأمّا التوسل بذواتهم أو بمقامهم أو غير ذلك فخارج عن موضوع بحثنا، وقد أفردنا لجواز تلك التوسلات رسالة مفردة أشبعنا الكلام فيها قرآناً وحديثاً، وقد طبعت وانتشرت.

وإذا وقفت على ذلك فهلمّ معي إلى ما لفّقه القوم وزعموه دلائل قاطعة على حرمة طلب الشفاعة من الأولياء، ونحن ننقلها واحداً بعد واحد على سبيل الإجمال، وقد أتينا ببعض الكلام في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة(٢) .

ما استدل به على حرمة طلب الشفاعة

استدل القائلون بحرمة طلب الشفاعة بوجوه :

١. انّ طلب الشفاعة من الشفعاء عبادة لهم وهي موجبة للشرك، أي الشرك في العبادة، فإنّك إذا قلت يا محمد اشفع لنا عند الله، فقد عبدته بدعائك ،

__________________

(١) المنافقون: ٥.

(٢) راجع معالم التوحيد: ٤٩١ ـ ٥٠١.

٢٨٥

والدعاء مخ العبادة، فيجب عليك أن تقول: أللّهمّ اجعلنا ممن تناله شفاعة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والجواب عن هذا الاستدلال واضح كل الوضوح بعد الوقوف على ما أوردناه في الجزء الأوّل من هذه الحلقات، حيث قلنا: إنّ حقيقة العبادة ليست مطلق الدعاء، ولا مطلق الخضوع، ولا مطلق طلب الحاجة، بل هو عبارة عن الدعاء أو الخضوع أمام من يعتقد بإلوهيته وربوبيته وانّه الفاعل المختار والمتصرف بلا منازع في الأمور التي ترجع إلى الله سبحانه.

وإن شئت قلت: العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المسؤول وربوبيته واستقلاله في ذاته أو في فعله.

وبعبارة ثالثة: العبادة هي الخضوع اللفظي أو العملي أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شؤون وجوده وحياته وعاجله وآجله.

إلى غير ذلك من التعابير التي توضح لنا مفهوم العبادة وحقيقتها.

فمن الغريب أن نفسّر العبادة بمطلق الخضوع أو الخضوع النهائي وإن كان غير صادر عن الاعتقاد بإلوهية المدعو وربوبيته وإلاّ يلزم أن يكون خضوع الملائكة أمام آدم، وخضوع الإنسان أمام والديه من الشرك الواضح.

وما ورد في الحديث من أنّ الدعاء مخ العبادة، فليس المراد منه مطلق الدعاء، بل المراد دعاء الله مخ العبادة، وما ورد في الروايات من أنّه: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله، وان كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله(١) . فليس المراد من العبادة هنا: العبادة المصطلحة، بل استعيرت في المقام لمن يجعل نفسه تحت اختيار الناطق.

__________________

(١) الكافي: ٦ / ٤٣٤، الحديث ٤، وعيون أخبار الرضا: ١ / ٣٠٣، الحديث ٦٣، الوسائل: ١٨ الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٩ و ١٣.

٢٨٦

وعلى ذلك فطلب الشفاعة إنّما يعد عبادة للشفيع إذا كان مقروناً بالاعتقاد بإلوهيته وربوبيته وانّه مالك لمقام الشفاعة. أو مفوض إليه، يتصرف فيها كيف يشاء، وأما إذا كان الطلب مقروناً باعتقاد أنّه عبد من عباد الله الصالحين يتصرف بإذنه سبحانه للشفاعة، وارتضائه للمشفوع له، فلا يعد عبادة للمدعو، بل يكون وزانه وزان سائر الطلبات من المخلوقين، فلا تعد عبادة بل طلباً محضاً غاية الأمر لو كان المدعو قادراً على المطلوب يكون الدعاء أمراً صحيحاً عقلاً، وإلاّ فيكون أمراً لغواً فلو تردّى الإنسان وسقط في قعر البئر وطلب العون من الواقف عند البئر القادر على نجدته وإنقاذه، يعد الطلب أمراً صحيحاً ولو طلبه من الأحجار المنضودة حول البئر يكون الدعاء والطلب منها لغواً مع كون الدعاء والطلب هذا غير مقترن بشيء من الإلوهية والربوبية في حق الواقف عند البئر، ولا الأحجار المنضودة حوله.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه حثّ على ابتغاء الوسيلة وقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (١) ومن المعلوم انّ المراد من الوسيلة ليست الأسباب الدنيوية الموصلة للإنسان إلى غاياته المادية، إذ ليس هذا أمراً خفياً على الإنسان حتى يحثّه عليه القرآن كما أنّه ليس من الأمور التي يكسل عنها الإنسان حتى يحض عليه، بل المراد: التوسل بالأسباب الموصلة إلى الأمور المعنوية ومن المعلوم إنّ أحد الأسباب هو التوسل بدعاء الأخ المؤمن، والولي الصالح، وعلى ذلك فيرجع طلب الشفاعة إلى طلب الدعاء، الذي اتفق المسلمون قاطبة على جوازه.

وإن شئت قلت إنّه سبحانه يقول:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢) .

__________________

(١) المائدة: ٣٥.

(٢) الزخرف: ٨٦.

٢٨٧

ومن الواضح إنّ جملة( إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ ) تدل على أنّ الطائفة الموحدة لله تملك الشفاعة بإذنه سبحانه، وعندئذ فلماذا لا يصح طلبها ممن يملك الشفاعة بإذنه ؟ غاية الأمر إنّ الطالب لو كان في عداد من ارتضاه سبحانه نفعه الاستشفاع وإلاّ فلا، ومن العجب قول محمد بن عبد الوهاب: « إنّ الله أعطى النبي الشفاعة ونهاك عن هذا وقال:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) وأيضاً الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة والأولياء يشفعون فإن قلت: الله أعطاهم الشفاعة، وأطلبها منهم، رجعت [ عندئذ ] إلى عبادة الصالحين، التي ذكرها الله تعالى في كتابه »(١) إذ هذه الكلمة من العجائب فإنّه إذا أعطاه الله سبحانه الشفاعة فكيف يمنع طلبها منه ؟! وهذا بمنزلة من ملّك أحداً شيئاً ليستفيد منه الآخرون ولكن منع الآخرين عن طلبه منه، فهذا لو كان صحيحاً عقلاً فهو غير متعارف عرفاً.

أضف إليه انّه في أي آية وأي حديث منع طلب الشفاعة عنهم. وتصور انّ طلبها عبادة قد عرفت الإجابة عنها، وانّ العبادة عبارة عن الطلب اللفظي أو الخضوع العملي عمن يعتقد بنحو من الأنحاء بإلوهيته وربوبيته، وذلك الاعتقاد لا ينفك عن الاعتقاد في استقلال المطلوب منه ذاتاً وفعلاً، وكونه متصرفاً في الأمور الإلهية تصرفاً بلا منازع، وليس هذا الاعتقاد موجوداً في الاستشفاعات المتعارفة بين المسلمين.

٢. انّ طلب الشفاعة يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة وقد حكى القرآن ذلك العمل منهم، قال سبحانه:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ) (٢) وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.

__________________

(١) كشف الشبهات: ٦ / ٩.

(٢) يونس: ١٨.

٢٨٨

والجواب عن هذا بيّن أيضاً، فانّك إذا أمعنت النظر في مفاد الآية لا تجد فيها أيّة دلالة على أنّ شركهم كان لأجل الاستشفاع بالأصنام وكان هذا هو المحقق لشركهم وجعلهم في عداد المشركين، وإليك توضيح ذلك فنقول :

إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين: ( العبادة ) ويدل عليه( وَيَعْبُدُونَ ) و ( طلب الشفاعة ) ويدل عليه:( وَيَقُولُونَ ) وكان علة اتصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني، ولو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها بالحقيقة، لما كان هناك مبرر للإتيان بجملة أُخرى، أعني قوله:( وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا ) بعد قوله:( وَيَعْبُدُونَ ) إذ لا فائدة لهذا التكرار، وتوهم انّ الجملة الثانية توضيح للأولى خلاف الظاهر، فإنّ عطف الجملة الثانية على الأولى يدل على المغايرة بينهما إذ لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة فضلاً عن كون الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم.

نعم ثبت بأدلّة أُخرى ( لا من الآية ) بأنّ طلب الاستشفاع بالأصنام يعد عبادة لهم وذلك لما قلنا من أنّ المشركين كانوا يعتقدون بإلوهيتها وربوبيتها واستقلالها في الأفعال(١) .

٣. طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام، فإنّ ذلك دعاء لغير الله وهو حرام قال سبحانه:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) (٢) وإذا كانت الشفاعة ثابتة لأوليائه وكان طلب الحاجة من غيره حراماً فالجمع بين الأمرين يتحقق بانحصار جواز طلبها عن الله سبحانه خاصة، ويوضح ذلك قوله سبحانه:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (٣) ، فقد عبر عن

__________________

(١) وان أردت المزيد من التوضيح، فلاحظ الجزء الأوّل من هذه الحلقات: معالم التوحيد في القرآن: ٤٩٣ ـ ٥٠١.

(٢) الجن: ١٨.

(٣) غافر: ٦٠.

٢٨٩

العبادة في الآية بلفظ الدعوة في صدرها وبلفظ العبادة في ذيلها، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى، وقد مر قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الدعاء مخ العبادة ».

والجواب بوجوه: أوّلاً: أنّ المراد من الدعاء في قوله تعالى:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) ليس مطلق دعوة الغير بل الدعوة الخاصة المحدودة المرادفة للعبادة، ويدل عليه قوله سبحانه في نفس هذه الآية( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ ) .

وعلى ذلك فيكون المراد من النهي عن دعوة الغير هو الدعوة الخاصة المقترنة بالاعتقاد بكون المدعو ذا اختيار تام في التصرف في الكون وفي شأن من شؤونه سبحانه.

فإذا كان طلب الشفاعة مقترناً بهذه العقيدة يعد عبادة للمشفوع إليه. وإلاّ فيكون طلب الحاجة كسائر الطلبات من غيره سبحانه الذي لا يشك ذو مسكة في عدم كونها عبادة.

وثانياً: أنّ المنهي عنه هو دعوة الغير بجعله في رتبته سبحانه كما يفصح عنه قوله:( مَعَ اللهِ ) وعلى ذلك فالمنهي هو دعوة الغير، وجعله مع الله، لا ما إذا دعا الغير معتقداً بأنّه عبد من عباده لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا بعثاً ولا نشوراً إلّا بما يملكه من الله سبحانه ويتفضّل عليه بإذنه ويقدر عليه بمشيئته، فعند ذاك فالطلب منه بهذا الوصف يرجع إلى الله سبحانه، وبذلك يظهر أنّ ما تدل عليه الآيات القرآنية من أنّ طلب الحاجة من الأصنام كان شركاً في العبادة، فلأجل انّ المدعو عند الداعي كان إلهاً أو رباً مستقلاً في شأن من شؤون وجوده أو فعله قال سبحانه:( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) (١) وقال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ

__________________

(١) الأعراف: ١٩٧.

٢٩٠

عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (١) . ترى أنّه سبحانه يستنكر دعاءهم بقوله:( لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ) وقوله:( عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) مذكّر بأنّ عقيدتهم في حق هؤلاء عقيدة كاذبة وباطلة، فإنّ الأصنام لا تستطيع نصر أحد، وهذا يكشف عن أنّ الداعين كانوا من جانب النقيض من تلك العقيدة، وكانوا يعتقدون بتملّك الأصنام لنصرهم وقضاء حوائجهم من عند أنفسهم.

وثالثاً: أنّ الدعاء ليس مرادفاً للعبادة وما ورد في الآية والحديث من تفسير الدعاء بالعبادة في ذيلهما لا يدل على ما يرتئيه المستدل، فإنّ المراد من الدعاء فيهما قسم خاص منه، وهو الدعاء المقترن باعتقاد الإلوهية في المدعو والربوبية في المطلوب منه كما عرفت.

٤. الشفاعة حق مختص بالله سبحانه لا يملكه غيره وعلى ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح، قال سبحانه:( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ *قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (٢) .

والجواب: انّ المراد من قوله سبحانه:( قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) ليس انّه سبحانه هو الشفيع دون غيره، إذ من الواضح انّه سبحانه لا يشفع عند غيره، بل المراد انّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه وانّه لا يشفع أحد في حق أحد إلّا بإذنه للشفيع وارتضائه للمشفوع له، ولكن هذا المقام ثابت لله سبحانه بالأصالة والاستقلال ولغيره بالاكتساب والإجازة، قال سبحانه:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٣) فالآية صريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة ولكن تمليكاً منه سبحانه وفي طول ملكه. وعلى ذلك

__________________

(١) الأعراف: ١٩٤.

(٢) الزمر: ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) الزخرف: ٨٦.

٢٩١

فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الأولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق وملكوا الشفاعة، وأُجيزوا في أمرها في حق من ارتضاهم لها.

هذا وكما أنّ الشفاعة التشريعية مختصة بالله سبحانه وانّه المالك لها بالأصالة وانّما يملكها الغير بإذن منه، هكذا الشفاعة في عالم التكوين وعالم العلل والمعاليل والأسباب والمسببات، قال سبحانه:( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (١) والمراد من الشفيع في الآية هو الشفيع في عالم التكوين بقرينة انّ البحث يدور حول خلق السماوات والأرض ثم الاستواء على العرش ويعود معنى الآية إلى أنّ الأسباب والمسببات الخارجية إذا كان بعضها شفيعاً لبعض في تتميم الأثر ( كالسحاب والمطر والشمس والقمر وغيرها شفعاء للنبات ) فموجد الأسباب وأجزائها هو الشفيع بالحقيقة التي يتم نقصها ويقيم صلبها فانّه سبحانه هو الشفيع بالحقيقة لا شفيع غيره(٢) .

وإن شئت قلت: إنّ الآية بصدد نقد عقيدة المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ الأصنام والأوثان تملك الشفاعة، فأراد سبحانه أن يوقظ شعورهم بأنّ مالكية الأصنام لها فرع كونها ذا عقل وشعور حتى يمكن أن تستفيد من هذا الحق في شأن الشفعاء، وتلك الآلهة لا تعقل ولا تشعر شيئاً، كما يدل عليه قوله سبحانه:( قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ *قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) .

٥. طلب الشفاعة من الميت أمر باطل، ولعل هذا آخر سهم في كنانتهم فجعلوا طلب الشفاعة من أوليائه الصالحين أمراً لغواً، لأنّهم أموات غير أحياء لا يسمعون ولا يعقلون.

__________________

(١) السجدة: ٤.

(٢) الميزان: ١٦ / ٢٥٨.

٢٩٢

والاستدلال باطل من وجوه :

أمّا أوّلاً: فلأنّ البراهين الفلسفية قد أثبتت تجرد النفس الإنسانية وبقاءها بعد مفارقة الروح البدن، وقد أثبت الفلاسفة ذلك بأدلة كثيرة لا مجال لذكرها في هذه الصفحات، وقد جئنا ببعضها في ما حرّرناه حول الروح في رسالة خاصة، ولعلّنا نقوم ببيانها عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.

وثانياً: أنّ الآيات صريحة في أنّ المقتولين في سبيل الله أحياء يرزقون قال سبحانه:( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ إلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) وهل يجد الوهابي مبرراً لتأويل الآية مع هذه الصراحة التي لا تتصور فوقها صراحة حيث أخبرت الآية عن حياتهم ورزقهم عند ربّهم وما يحل بهم من الأفراح وما يقدمون عليه من الاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم، وما يتفوّهون به في حقهم بقولهم كما يحكيه سبحانه:( إلّاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

وعلى ذلك فلو كان الشفيع أحد الشهداء في سبيل الله تعالى، فهل يكون هذا الطلب لغواً ؟!

وثالثاً: أنّ القرآن يعد النبي شهيداً على الأمم جمعاء، ويقول سبحانه:( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلاءِ شَهِيداً ) (٢) فالآية تصرّح بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم، فإذا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شاهداً على الأمم جمعاء أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون

__________________

(١) آل عمران: ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٢) النساء: ٤١.

٢٩٣

الحياة، أو بدون الاطّلاع على ما تجري بينهم من الأمور من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان ؟!

ولا يصح لك أن تفسّر شهادة النبي بشهادته على معاصريه ومن زامنوه، وذلك لأنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشراً ونذيراً، وهل يتصوّر أحد أن يختص الوصفان الأخيران بمن كان يعاصره النبي ؟! كلا لا، فإذن لا وجه لتخصيص كونه شاهداً بالأمّة المعاصرة للنبي.

فعند ذلك يكون طلب الشفاعة من النبي الأكرم الذي هو حي بنص القرآن أمراً صحيحاً معقولاً، وأنت إذا لاحظت الآيات القرآنية تقف على أنّها تصرح بامتداد حياة الإنسان إلى ما بعد موته، يقول سبحانه في حق الكافرين:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (١) . فهذه الآية تصرح بامتداد الحياة الإنسانية إلى عالم البرزخ، وانّ هذا وعاء للإنسان يعذّب فيها من يعذّب وينعّم فيها من ينعّم، أما التنعّم فقد عرفت التصريح به في الآية الواردة في حق الشهداء، وأمّا العقوبة فيقول سبحانه:( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ ) (٢) .

وهناك آيات أُخر تدل على امتداد الحياة إلى ما بعد الموت نرجئ نقلها إلى مكانها الخاص بل هناك آيات تدل بصراحة على ارتباطهم بنا، وارتباط بعضنا من ذوي النفوس القوية بهم.

وأمّا الأحاديث الواردة في هذا المورد فحدث عنها ولا حرج، وقد روى المحدّثون قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من أحد يسلّم عليّ إلّا رد الله روحي حتى أرد عليه

__________________

(١) المؤمنون: ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) غافر: ٤٦.

٢٩٤

السلام »(١) . كما نقلوا قوله: « إنّ لله ملائكة سياحين في الأرض يبلّغوني من أُمّتي السلام »(٢) .

وفي الختام نرى أنّه سبحانه يسلم على أنبيائه في آيات كثيرة، ويقول:( سَلامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي العَالَمِينَ ) ( سَلامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ) ( سَلامٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ) ( سَلامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ) و( سَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ ) (٣) .

كما يأمرنا بالتسليم على نبيه والصلوات عليه ويقول بصريح القول:( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٤) ، فلو كان الأنبياء والأولياء أمواتاً غير شاعرين بهذه التسليمات والصلوات، فأي فائدة في التسليم عليهم، وفي أمر المؤمنين بالصلوات والسلام على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ والمسلمون أجمع يسلمون على النبي في صلواتهم بلفظ الخطاب، ويقولون: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وحمل ذلك على الشعار الأجوف والتحية الجوفاء، أمر لا يجترئ عليه من له إلمام بالقرآن والحديث.

٦. انّ القرآن يصرح بوضوح انّ الموتى لا يسمعون ولا يبصرون قال سبحانه:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (٥) فالآية تعرّف المشركين بأنّهم أموات ويشبههم بها، ومن المعلوم أنّ صحة التشبيه تتوقف على وجود وجه الشبه في المشبه به بوجه أقوى وليس وجه الشبه إلّا أنّهم لا يسمعون، فعند ذلك تصبح النتيجة: انّ الأموات مطلقاً غير قابلين للإفهام ويدل

__________________

(١) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: ٤ / ١٣٤٩، نقله عن أئمّة الحديث مثل أبي داود والبيهقي قال: وقد صدر به البيهقي باب زيارة قبر النبي.

(٢) المصدر السابق: ١٣٥٠ نقلاً عن النسائي وغيره.

(٣) الصافات: ٧٩، ١٠٩، ١٢٠، ١٣٠، ١٨١.

(٤) الأحزاب: ٥٦.

(٥) النمل: ٨٠.

٢٩٥

على ذلك أيضاً قوله سبحانه:( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي القُبُورِ ) (١) ، والاستدلال بالآيتين على نسق واحد.

والجواب أوّلاً: أنّ الآية تنفي السماع والإفهام عن الأموات المدفونين في القبور، فإنّهم أصبحوا بعد الموت كالجماد لا يفهمون ولا يسمعون، وهذا غير القول بأنّ الأرواح المفارقة عن هذه الأبدان غير قابلة للإفهام ولا للإسماع والآيتان دالتان على عدم إمكان إسماع الأموات والمدفونين في القبور، ولا تدلان على عدم إمكان تفهيم الأرواح المفارقة عن الأبدان، العائشة في البرزخ عند ربهم كما دلت عليه الآيات السابقة.

ومن المعلوم أنّ خطاب الزائر النبي بقوله: يا محمد اشفع لنا عند الله، لا يشير إلى جسده المطهر، بل إلى روحه الزكية الحية العائشة عند ربّها، إلى غير ذلك من الصفات التي يضفيها عليه القرآن الكريم وعلى سائر الشهداء.

والشاهد على ذلك انّا نرى: انّ المسلمين مع وقوفهم على هذه الآيات وتلاوتهم لها كانوا يتوجهون إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته حيث روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف انّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان، في حاجة له، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له ابن حنيف: ائت الميضاة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: أللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربك أن تقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان فجاءه البواب حتى أخذ بيده، فأُدخل على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال: حاجتك ؟ فذكر حاجته وقضى له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثم إنّ الرجل خرج من

__________________

(١) فاطر: ٢٢.

٢٩٦

عنده، فلقي ابن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمته فيّ، فقال ابن حنيف: والله ما كلّمته، ولكن شهدت رسول الله، وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إن شئت دعوت أو تصبر »، فقال: يا رسول الله، انّه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي: « ائت الميضاة، فتوضأ، ثمّ صلّ ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات »، قال ابن حنيف: فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل، كأنّه لم يكن به ضر(١) .

وثانياً: أنّ الاستدلال بالآيتين على ما يرتئيه المستدل غفلة عمّا تهدف إليه الآيتان، فإنّ الآيتين في مقام بيان أمر آخر، وهو انّ المراد من الإسماع هنا هو الهداية، وهي تتصور على قسمين: هداية مستقلة، وهداية معتمدة على إذنه سبحانه، والآيتان بصدد بيان انّ النبي غير قادر على القسم الأوّل من الهدايتين، بل هي من خصائصه سبحانه وإنّما المقدور له هو الهداية المعتمدة على إذنه تعالى، ويدل على ذلك نفس الآية الواردة في سورة فاطر حيث يقول:( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَىٰ وَالبَصِيرُ *وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ *وَلَا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ *وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ *إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ ) (٢) .

والمستدل أخذ بالجملة الوسطى، أعني قوله:( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ) وغفل أو تغافل عن الجملتين الحافّتين بها، فإنّك إذا لاحظت قوله:( إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ) تقف على أنّ المراد من قوله:( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ ) هو نفي الإسماع أو الهداية المستقلة من دون مشيئته سبحانه، فكأنّه يقول: لست أيّها النبي بقادر على الهداية بل الهادي هو الله سبحانه، ولأجل ذلك

__________________

(١) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: ٤ / ١٣٧٣، ورواه البيهقي من طريقين.

(٢) فاطر: ١٩ ـ ٢٣.

٢٩٧

يعود فيصف النبي في الجملة الأخيرة بأنّه « ليس إلّا نذير » لا المتصرف في عالم الوجود مستقلاً ومعتمداً على إرادته.

والحاصل: انّ كون الآية بصدد بيان أنّ النبي ليس بقادر على إسماع الموتى وهدايتهم، شيء، وكونها بصدد أنّ النبي لا يقدر على الهداية والإسماع مستقلاً ومعتمداً على إرادة نفسه، شيء آخر، والآية بصدد الأمر الثاني لا الأوّل، والذي يفيد المستدل هو الأوّل، ويدل على ذلك قوله سبحانه:( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (١) وقال سبحانه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٢) وقال سبحانه:( وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) (٣) فهذه الآيات قرينة على أنّ الغاية التي تهدف إليها تلك الآية هو سلب استقلال النبي بأمر الهداية وإسماعهم وان كان يقدر على ذلك بإذنه، بقرينة قوله سبحانه:( إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (٤) ، وقال سبحانه:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (٥) بل يصفه سبحانه بقوله:( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٦) وبذلك تحصل انّ استدلال المستدل غفلة عن هدف الآية.

وإن شئت قلت: إنّ الظاهر من الآيات انّ النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله كان حريصاً على هداية الناس وكان راغباً في إسعادهم كما يحكي عنه قوله تعالى:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٧) ، وقال تعالى:( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ

__________________

(١) البقرة: ٢٧٢.

(٢) القصص: ٥٦.

(٣) الأحزاب: ٤.

(٤) النمل: ٨١، والروم: ٥٣.

(٥) السجدة: ٢٤.

(٦) الشورى: ٥٢.

(٧) القصص: ٥٦.

٢٩٨

وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (١) وقال سبحانه:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ) (٢) وقال سبحانه:( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (٣) ، كل هذه الآيات تشهد على إصرار النبي وعلاقته بهداية أُمّته، وعلى ذلك فيكون المراد من الآيات الناظرة إلى ما يطلبه النبي في أمر الأمّة، هو نفي كون النبي قائماً بذلك الأمر على وجه الاستقلال، وعلى نحو الإطلاق، سواء أشاء الله أم لم يشأ، بل انّما تنفذ إرادته وعلاقته بهدايتهم إذا وقعت في إطار إرادته سبحانه ومشيئته من غير فرق في ذلك بين الموتى والأحياء، بإسماع الموتى وهداية الأحياء.

وبذلك يظهر ما تهدف إليه آية سورة النمل، فإنّ المقصود من قوله:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (٤) هو انّك لا تقوم بإسماع الميت الواقعي، أو ميت الأحياء كالمشركين والمنافقين مستقلاً، وإنّما المقدور لك هو ما تعلّقت مشيئته سبحانه بهدايتهم، ولأجل ذلك يقول:( وَمَا أَنتَ بِهَادِي العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُسْلِمُونَ ) (٥) .

وقد وقفت في هذا الفصل الذي أفردناه عن الفصول السابقة على الإشكالات التي نسجتها الأوهام حول الشفاعة وعرفت ضآلتها بوجه واضح، وفي ختام هذا الفصل نعطف نظر القارئ الكريم إلى نكتة، وهي انّ الشفاعة وما يرجع إليها من الأبحاث من الأمور المسلّمة بين المسلمين، ولو كان هناك خلاف فإنّما هو في أثر الشفاعة، وإنّه هل هو رفع العقاب أو ترفيع الدرجة كما أنّه لو كان

__________________

(١) يوسف: ١٠٣.

(٢) آل عمران: ١٢٨.

(٣) الشعراء: ٣.

(٤) النمل: ٨٠.

(٥) النمل: ٨١.

٢٩٩

هناك خلاف آخر فإنّما هو في الإشكال العاشر، فإنّ الوهابيين يمنعون طلب الشفاعة ممن أُعطي الشفاعة، والناظر في أبحاثهم وكلماتهم وتحليلاتهم يقف على أنّهم أعداء الإنسان الكامل، ولأجل ذلك يصرفون هممهم للحط من شخصيته، ومكانته، ويتصورون أنّ التوحيد لا يتم إلّا بتنقيصهم، وكأنّ التوحيد لا يتم إلّا بحط مكانتهم أو شخصيتهم ومنازلهم المعنوية.

بقي هنا بحثان يتم بهما بحث الشفاعة :

الأوّل: الشفاعة في الأدب العربي.

الثاني: الشفاعة في الأحاديث الإسلامية.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و الآية الخامسة : قوله تعالى : و آت ذا القربى حقّه . . . ١ فلمّا نزلت هذه الآية على النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال : ادعوا لي فاطمة . فدعيت . فقال : يا فاطمة هذه فدك ،

و هي ممّا لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب ، و هي لي خاصّة دون المسلمين ، و قد جعلتها لك لما أمرني اللَّه به ، فخذيها لك و لولديك .

و الآية السادسة : قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودة في القربى . . . ٢ .

و هذه خصوصيّة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله إلى يوم القيامة ، و خصوصية للآل دون غيرهم ،

و ذلك أنّه تعالى حكى عن نوح أنّه قال : و يا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلاّ على اللَّه و ما أنا بطارد الّذين آمنوا إنّهم ملاقوا ربّهم و لكنّي أراكم قوما تجهلون ٣ ، و حكى عن هود أنّه قال : لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلاّ على الذي فطرني أفلا تعقلون ٤ ، و قال تعالى لنبيّه محمّد صلّى اللَّه عليه و آله قل يا محمّد : . . . لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودّة في القربى . . . ٥ . و لم يفترض اللَّه مودّتهم إلاّ و قد علم أنّهم لا يرتدّون عن الدّين أبدا ، و لا يرجعون إلى ضلال أبدا ، و أحرى أن يكون الرّجل و ادّا للرجل ، فيكون بعض أهل بيته عدوّا له ، فلا يسلم له قلب الرّجل ، فأحبّ تعالى أن لا يكون في قلب النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله على المؤمنين شي‏ء ،

ففرض اللَّه عليهم مودّة ذوي القربى ، فمن أخذ بها و أحبّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و أحب أهل بيته لم يستطع النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أن يبغضه ، و من تركها ، و لم يأخذ بها ، و أبغض أهل بيته فعلى النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أن يبغضه ، لأنّه قد ترك فريضة من فرائض اللَّه عزّ و جلّ ، فأيّ فضيلة ، و أيّ شرف يتقدّم هذا أو يدانيه ؟ و لمّا أنزل تعالى هذه

ــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ٦١ .

( ٢ ) الشورى : ٢٣ .

( ٣ ) هود : ٢٩ .

( ٤ ) هود : ٥١ .

( ٥ ) الشورى : ٢٣ .

٣٨١

الآية على نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله قام في أصحابه ، فحمد اللَّه تعالى ، و أثنى عليه ، و قال : أيّها النّاس إنّ اللَّه قد فرض لي عليكم فرضا ، فهل أنتم مؤدوه ؟ فلم يجبه أحد ، فقال :

أيّها الناس إنّه ليس بذهب و لا فضّة ، و لا مأكول ، و لا مشروب . فقالوا : هات إذن .

فتلا عليهم : . . . قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودّة في القربى . . . ١ ، فقالوا : أما هذه فنعم . فما وفى بها أكثرهم ، و ما بعث اللَّه تعالى نبيّا إلاّ و أوحى إليه : أن لا يسأل قومه أجرا ، لأنّه تعالى يوفي أجر الأنبياء ، و أمّا محمّد صلّى اللَّه عليه و آله ففرض اللَّه طاعته و مودّة قرابته على امّته ، و أمره أن يجعل أجره فيهم ، ليؤدوه في قرابته بمعرفة فضلهم الّذي أوجب تعالى لهم ، فإنّ المودّة إنّما تكون على قدر معرفة الفضل ، فلمّا أوجب اللَّه تعالى ذلك لثقل وجوب الطاعة ، فتمسّك بها قوم ، أخذ اللَّه تعالى ميثاقهم على الوفاء ، و عاند فيه أهل الشقاق و النفاق ، و ألحدوا في ذلك ، فصرفوه عن حدّه الّذي حدّه عزّ و جلّ فقالوا : القرابة هي العرب كلّها ،

و أهل دعوته . فعلى أيّ الحالتين كان ، فقد علمنا أنّ المودّة في القرابة ، فأقربهم من النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أولاهم بالمودّة ، و كلّما قربت القرابة كانت المودّة للقرابة على قدرها . و ما أنصفوا نبيّ اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في حيطته و رأفته ، و ما منّ اللَّه به على امّته ممّا تعجز الألسن عن وصف الشكر عليه ألاّ يؤدّوه في ذريّته و أهل بيته ، و أن لا يجعلوهم فيهم بمنزلة العين من الرّأس ، حفظا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله فيهم و حبّا لهم ، فكيف ، و القرآن ينطق به و يدعو إليه ، و الأخبار ثابتة بأنّهم أهل المودّة ،

و الّذين فرض اللَّه مودّتهم ، و وعد الجزاء عليها ؟ فما وفى أحد بها مؤمنا مخلصا إلاّ استوجب الجنّة ، لقوله عزّ و جلّ في هذه الآية : . . . و الذين آمنوا و عملوا الصالحات في روضات الجنّات لهم ما يشاؤون عند ربّهم ذلك هو الفضل الكبير . ذلك الذي يبشّر اللَّه عباده الّذين آمنوا و عملوا الصالحات قل

ــــــــــــــــ

( ١ ) الشورى : ٢٣ .

٣٨٢

لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودّة في القربى . . . ١ مفسرا و مبيّنا .

و أمّا الآية السابعة : فقوله تعالى : إنّ اللَّه و ملائكته يصلّون على النّبيّ يا أيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما ٢ ، و قد علم المعاندون منهم أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل : يا رسول اللَّه قد عرفنا التسليم عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : تقولون : « اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد » . فهل بينكم في هذا خلاف ؟ قالوا : لا ،

و قال المأمون هذا ممّا لا خلاف فيه أصلا ، و عليه إجماع الامّة .

قال المأمون : فهل عندك في الآل شي‏ء أوضح من هذا في القرآن ؟ قال :

نعم . أخبروني عن قوله عزّ و جلّ : يس . و القرآن الحكيم . إنّك لمن المرسلين . على صراط مستقيم ٣ فمن عنى بقوله : يس ؟ قالوا :

يس : محمّد لم يشكّ فيه أحد . قال عليه السّلام : فإن اللَّه عزّ و جلّ أعطى محمّدا و آل محمّد عليهم السّلام من ذلك فضلا لا يبلغ أحد كنه وصفه ، و ذلك أنّه عزّ و جلّ لم يسلّم على أحد إلاّ على الأنبياء ، فقال تعالى : سلام على نوح في العالمين ٤ .

سلام على إبراهيم ٥ ، سلام على موسى و هارون ٦ و لم يقل : سلام على آل نوح . سلام على آل إبراهيم . سلام على آل موسى و هارون . و قال :

سلام على آل ياسين ٧ يعني : آل محمّد صلوات اللَّه عليهم فقال المأمون :

ــــــــــــــــ

( ١ ) الشورى : ٢٢ ٢٣ .

( ٢ ) الأحزاب : ٥٦ .

( ٣ ) يس : ١ ٤ .

( ٤ ) الصافات : ٧٩ .

( ٥ ) الصافات : ١٠٩ .

( ٦ ) الصافات : ١٢٠ .

( ٧ ) الصافات : ١٣٠ هذه قراءة نافع و ابن عامر و يعقوب من القرّاء العشرة ، كما نقل عنهم الداني في التيسير : ١٨٧ و ابن الجزري في النشر ٢ : ٣٦٠ ، و روى عن علي عليه السّلام و ابن عباس و ابي مالك و عمر .

٣٨٣

إنّ في معدن النبوّة شرح هذا و بيانه .

و أمّا الآية الثامنة : فقوله عزّ و جل : و اعلموا أنّما غنمتم من شي‏ء فأنّ للَّه خمسه و للرّسول و لذي القربى . . . ١ . فقرن سهم ذي القربى بسهمه و بسهم رسوله صلّى اللَّه عليه و آله . فهذا أيضا فصل بين الآل و الامّة ، لأنّه عزّ و جل جعلهم في حيّز ،

و جعل النّاس في حيّز دون ، و رضي لهم ما رضي لنفسه و اصطفاهم فيه ، فبدأ بنفسه ثمّ ثنّى برسوله ثمّ بذي القربى ، فكلّ ما كان من الفي‏ء و الغنيمة ، و غير ذلك ممّا رضيه عزّ و جلّ ، لنفسه ، رضيه لهم ، فقال و قوله الحقّ : و اعلموا أنّما غنمتم من شي‏ء فأنّ للَّه خمسه و للرّسول و لذي القربى . . . ٢ فهذا تأكيد مؤكّد ،

و أثر قائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب اللَّه الناطق الّذي : لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ٣ .

و أمّا قوله : و اليتامى و المساكين ٤ فإنّ اليتيم إذا انقطع يتمه خرج من الغنائم ، و لم يكن له فيها نصيب ، و كذلك المسكين إذا انقطع مسكنته لم يكن له نصيب من المغنم ، و لا يحل له أخذه ، و سهم ذي القربى قائم إلى يوم القيامة فيهم ، للغنيّ و الفقير منهم ، لأنّه لا أحد أغنى من اللَّه عزّ و جلّ و لا من رسوله ، فجعل منها لنفسه سهما و لرسوله سهما ، و ما رضيه لنفسه و لرسوله صلّى اللَّه عليه و آله رضيه لهم ، و كذلك الفي‏ء ، ما رضيه منه لنفسه و لنبيّه رضيه لذي القربى ، كما أجراهم في الغنيمة ، فبدأ بنفسه جلّ جلاله ، ثمّ برسوله ، ثمّ بهم ، و قرن سهمهم بسهمه و سهم رسوله ، و كذلك في الطاعة ، قال : يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللَّه و أطيعوا الرّسول و اولي الأمر منكم . . . ٥ فبدأ بنفسه

ــــــــــــــــ

( ١ و ٢ ) الأنفال : ٤١ .

( ٣ ) فصّلت : ٤٢ .

( ٤ ) الأنفال : ٤١ .

( ٥ ) النساء : ٥٩ .

٣٨٤

ثمّ برسوله ثمّ بأهل بيته ، و كذلك ولايتهم مع ولاية الرّسول مقرونة بولايته ،

كما جعل سهمهم مع سهم الرسول صلّى اللَّه عليه و آله مقرونا بسهمه من الغنيمة و الفي‏ء ،

فتبارك اللَّه و تعالى ما أعظم نعمته على أهل هذا البيت ، فلمّا جاءت قصة الصدقة نزّه نفسه و رسوله و أهل بيته ، فقال : إنّما الصدقات للفقراء و المساكين و العالمين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل اللَّه و ابن السبيل فريضة من اللَّه . . . ١ . فهل تجد في شي‏ء من ذلك أنّه عزّ و جلّ سمّى لنفسه أو لرسوله أو لذي القربى ؟ لأنّه لمّا نزّه نفسه عن الصدقة و نزّه رسوله نزّه أهل بيته ، لا بل حرّم عليهم ، لأنّ الصدقة محرّمة على محمّد و آل محمّد ، و هي أوساخ أيدي النّاس لا تحلّ لهم ، لأنّهم طهّروا من كلّ دنس و وسخ ، فلمّا طهّرهم اللَّه و اصطفاهم رضي لهم ما رضي لنفسه ، و كره لهم ما كره لنفسه عزّ و جلّ .

و أمّا التاسعة : . . . فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ٢ . فنحن أهل الذكر ، فاسألوا إن كنتم لا تعلمون . فقالوا : إنّما عنى اللَّه بذلك اليهود و النصارى .

فقال : سبحان اللَّه و هل يجوز ذلك ، إذن يدعوننا إلى دينهم ، و يقولون : إنّه أفضل من دين الإسلام ؟ فقال المأمون : فهل عندك شرح بخلاف ما قالوا ؟

فقال عليه السّلام : نعم . الذكر : رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ، و نحن أهله ، و ذلك بيّن في كتاب اللَّه عزّ و جلّ حيث يقول في سورة الطلاق : . . . فاتّقوا اللَّه يا اولي الألباب الّذين آمنوا قد أنزل اللَّه إليكم ذكرا . رسولا يتلو عليكم آيات اللَّه مبيّنات . . . ٣ .

فالذّكر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و نحن أهله .

ــــــــــــــــ

( ١ ) التوبة : ٦٠ .

( ٢ ) النحل : ٤٣ ، و الأنبياء : ٧ .

( ٣ ) الطلاق : ١٠ ١١ .

٣٨٥

و أمّا العاشرة : فقوله عزّ و جلّ : حرّمت عليكم امّهاتكم و بناتكم . . . ١ .

فأخبروني هل تصلح ابنتي ، و ابنة ابني ، و ما تناسل من صلبي للنّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أنّ يتزوّجها لو كان حيّا ؟ قالوا : لا . قال : فأخبروني هل كانت ابنة أحدكم تصلح له أن يتزوّجها لو كان حيّا ؟ قالوا : نعم . قال عليه السّلام : ففي هذا بيان ، لأنّي من آله و لستم أنتم من آله ، و لو كنتم من آله لحرمت عليه بناتكم ، كما حرم عليه بناتي .

و أمّا الحادية عشرة : فقوله عزّ و جلّ حكاية عن قول رجل مؤمن من آل فرعون : و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربّي اللَّه . . . ٢ . كان ابن خال فرعون فنسبه إلى فرعون بنسبه ، و لم يضفه إليه بدينه ، و كذلك خصصنا نحن إذ كنّا من آل النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله بولادتنا منه ، و عممنا النّاس بالدّين .

و أمّا الثانية عشرة : فقوله عزّ و جلّ : و أمر أهلك بالصّلاة و اصطبر عليها . . . ٣ . فخصّنا اللَّه تعالى بهذه الخصوصية ، إذ أمرنا مع الامّة بإقامة الصلاة ، ثم خصّنا من دون الامّة ، فكان النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يجي‏ء إلى باب علي و فاطمة عليهما السّلام . بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر ، كلّ يوم عند حضور كلّ صلاة خمس مرّات ، فيقول : « الصّلاة رحمكم اللَّه » . و ما أكرم اللَّه أحدا من ذراري الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا بها ، و خصّنا من دون جميع أهل ملّتهم . فقال المأمون و العلماء : جزاكم اللَّه أهل بيت نبيّكم عن هذه الامّة خيرا ،

فما نجد الشّرح و البيان في ما اشتبه علينا إلاّ عندكم ٤ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) النساء : ٢٣ .

( ٢ ) غافر : ٢٨ .

( ٣ ) طه : ١٣٢ .

( ٤ ) عيون الاخبار للصدوق ١ : ١٧٩ ح ١ .

٣٨٦

و في ( تاريخ اليعقوبي ) : قال إسماعيل بن عليّ بن عبد اللَّه بن العبّاس :

دخلت على أبي جعفر المنصور يوما ، و قد اخضلت لحيته بالدموع ، فقال لي : ما علمت ما نزل بأهلك ؟ فقلت : و ما ذاك ؟ قال : فإنّ سيّدهم و عالمهم ، و بقيّة الأخيار منهم توفّي . فقلت : و من هو ؟ قال : جعفر بن محمّد . فقلت : أعظم اللَّه أجرك . فقال لي : إنّ جعفرا كان ممّن قال اللَّه فيه : ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا . . . ١ . و كان ممّن اصطفى اللَّه و كان من السابقين بالخيرات ٢ .

و فيه أيضا : أنّ آخر ما نزل على النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : . . . اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا . . . ٣ . و هي الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة ، و كان نزولها يوم النص على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بغدير خم .

« و ردوهم ورود الهيم العطاش » الأصل في الهيم : العطش ، يقال : قوم هيم .

أي : عطاش ، ثم غلب على الإبل العطاش ، قال تعالى : فشاربون شرب اليهم ٤ . و حينئذ فذكره عليه السّلام ( العطاش ) بعد ( الهيم ) تأكيد .

روى المالكي في ( فصوله ) : أنّ أبا ذر أخذ بحلقة باب الكعبة و قال :

سمعت النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله يقول : اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرّأس ، فإنّ الجسد لا يهتدي إلاّ بالرّأس ، و لا يهتدي الرأس إلاّ بالعينين ٥ .

و روى أبو بصير كما في ( الارشاد ) قال : دخلت المدينة و كانت معي

ــــــــــــــــ

( ١ ) فاطر : ٣٢ .

( ٢ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٣ .

( ٣ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٢ ، و النقل بتلخيص ، و الآية ٣ من سورة المائدة .

( ٤ ) الواقعة : ٥٥ .

( ٥ ) الفصول المهمة لابن الصباغ : ٢٦ ، و النقل بتقطيع .

٣٨٧

جويرية لي فأصبت منها ، ثمّ خرجت إلى الحمام ، فلقيت أصحابنا الشيعة و هم متوجهون إلى جعفر بن محمّد عليهما السّلام ، فخفت أن يسبقوني و يفوتني الدخول إليه ، فمشيت معهم حتّى دخلت الدّار ، فلمّا مثلت بين يدي أبي عبد اللَّه عليه السّلام نظر إليّ ، ثمّ قال : يا أبا بصير أما علمت أنّ بيوت الأنبياء و أولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب ؟ فاستحييت و قلت له : يابن رسول اللَّه إنّي لقيت أصحابنا فخشيت أن يفوتني الدّخول معهم ، و لن أعود إلى مثلها . و خرجت ١ .

« أيّها الناس خذوها » أي : الجملة التي أقولها .

« من » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( عن ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) ٢.

« خاتم النبيين صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم » لا عنّي .

« إنّه يموت من مات منّا و ليس بميّت » روى الصفار و ابن قولويه عن الصادق عليه السّلام قال : ما من نبيّ و لا وصيّ يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيّام ،

حتى يرفع بروحه و عظمه و لحمه إلى السماء ، و إنّما يؤتى موضع آثارهم ،

و يبلغ بهم من بعيد السّلام ، و يسمعونهم على آثارهم من قريب ٣ .

و قال شيخنا المفيد في ( مقالاته ) : الأنبياء و الأئمّة عليهم السّلام يحلّ بهم الموت ،

و خالفنا فيه المنتمون إلى التفويض ، و طبقات الغلاة ، و ينقلون من تحت التراب ، فيسكنون بأجسامهم و أرواحهم جنّة اللَّه تعالى ، فيكونون فيها أحياء يتنعمون إلى يوم القيامة ، يستبشرون بمن يلحق بهم من صالحي اممهم و شيعتهم ، و يلقونه بالكرامات ، و ينتظرون من يرد عليهم من أمثال السابقين

ــــــــــــــــ

( ١ ) الارشاد للمفيد : ٢٧٣ .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ١٣٠ ، لكن لفظ شرح ابن ميثم ٢ : ٢٩٩ « من » أيضا .

( ٣ ) البصائر للصفار : ٤٦٥ ح ٩ ، و كامل الزيارات لابن قولويه : ٣٢٩ ح ٣ .

٣٨٨

في الديانات ، و أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و الأئمّة عليهم السّلام لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم في دار الدّنيا ، بإعلام اللَّه تعالى لهم ذلك حالا بعد حال ، و يسمعون كلام المناجي لهم في مشاهدهم المكرّمة العظام ، بلطيفة من لطائف اللَّه أبانهم بها من جمهور العباد ، و تبلغهم المناجاة من بعيد كما جاءت به الرواية ، و هذا مذهب فقهاء الامامية كافّة و حملة الآثار منهم ، و لست أعرف فيه لمتكلّميهم من قبل مقالات ، و بلغني عن بني نوبخت خلاف فيه ، و لقيت جماعة من المقصّرين عن المعرفة ممّن ينتمي إلى الإمامية أيضا يأبونه ، و قد قال تعالى :

و لا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون .

فرحين بما آتاهم اللَّه من فضله و يستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم و لا هم يحزنون ١ . و ما يتلو هذا من كلام ، و قال في قصّة مؤمن آل يس : قيل ادخل الجنّة قال يا ليت قومي يعلمون . بما غفر لي ربي و جعلني من المكرمين ٢ . و قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : « من سلّم عليّ عند قبري سمعته ، و من سلّم عليّ من بعيد بلّغته » ٣ . ثمّ الأخبار في تفصيل ما ذكرناه من الجملة عن أئمة آل محمّد عليهم السّلام بما وصفناه نصّا و لفظا كثيرة ، و ليس هذا الكتاب موضع ذكرها ٤ .

« و يبلى من بلي منّا و ليس ببال » من : بلي الثوب و أبلاه : جعله باليا ، قال العجاج :

و المرء يبليه بلاء السّربال

كرّ الليالي و اختلاف الأحوال

ــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ١٦٩ ١٧٠ .

( ٢ ) يس : ٢٦ ٢٧ .

( ٣ ) رواه المفيد مجردا في أوائل المقالات : ٨٥ ، و العيون و المحاسن عنه الفصول المخبّارة : ٩٥ ، و يفرق يسير مسندا البيهقي في شعب الإيمان عنه الجامع الصغير ٢ : ١٧٥ ، و أبو علي الطوسي في أماليه ١ : ١٦٩ المجلس ٦ .

( ٤ ) أوائل المقالات للمفيد : ٨٤ ، و النقل بتلخيص .

٣٨٩

و عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في خبر عرض الأعمال عليه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ، قالوا : و قد رممت يا رسول اللَّه ؟ فقال : إنّ اللَّه تعالى حرّم لحومنا على الأرض أن تطعم منها شيئا ١ .

و في ( الفقيه ) عن الصادق عليه السّلام : أنّ اللَّه عزّ و جلّ حرّم عظامنا على الأرض ، و حرّم لحومنا على الدّود أن يطعم منها شيئا ٢ .

فيمكن حمل كلامه عليه السّلام : « و يبلى من بلي منّا » على أنّه جرى على الظاهر ،

و أنّه لو فرض كونه باليا في الظّاهر كباقي النّاس لم يكن ببال في الحقيقة ، كما قال النّمري :

فإن يك أفنته الليالي فأوشكت

فإنّ له ذكرا سيفني اللياليا

و قال آخر :

ردّت صنايعه عليه حياته

فكأنّه من نشرها منشور

« فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإنّ أكثر الحقّ في ما تنكرون » في ( صفين نصر ) تكلّم أصحابه عليه السّلام بعد رفع المصاحف ، فقال الحضين بن المنذر و كان أحدثهم سنّا : إنّما بني هذا الدّين على التسليم فلا تدفعوه بالقياس ، و لا تهدموه بالشبهة فإنّا و اللَّه لو لا أنّا لا نقبل إلاّ ما نعرف لأصبح الحقّ في أيدينا قليلا ، و لو تركنا ما نهوى لكان الباطل في أيدينا كثيرا ، و أنّ لنا رداعيا قد حمدنا ورده و صدره ، و هو المأمون على ما قال ، المأمون على ما فعل ، فإن قال : لا .

قلنا : و إن قال : نعم . قلنا : نعم ٣ .

و كيف لا يكون أكثر الحقّ في ما ينكر النّاس ، و قد أنكر مثل موسى عليه السّلام

ــــــــــــــــ

( ١ ) سنن النسائي ٣ : ٩١ ، و سنن ابن ماجه ١ : ٣٤٥ ح ١٠٨٥ ، و غيرهما ، و النقل بتصرف .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ١ : ١٢١ ح ٢٣ .

( ٣ ) وقعة صفين لابن مزاحم : ٤٨٥ .

٣٩٠

أفعال العبد الصالح : من خرق السفينة ، و إقامة الجدار ، و قتل الغلام ١ ؟

« و اعذروا » أي : اجعلوا معذورا .

« من لا حجّة لكم عليه و أنا هو » فإنّه عليه السّلام كان مؤيّدا من عند اللَّه تعالى في كلّ فعل و قول ، معلّما من النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في كلّ أمر ، و هم كانوا أهل جهالة و بطالة .

و روى سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) : أنّ اللَّه تعالى قال لنبيّه صلّى اللَّه عليه و آله :

و انصب أهل بيتك علما للهداية ، و أودع أسرارهم من سرّي بحيث لا يشكل عليهم دقيق ، و لا يغيب عنهم خفي ، و اجعلهم حجّتي على بريّتي ، و المنبّهين على قدري ، و المطلعين على أسرار خزائني ٢ .

و روى أيضا عنه عليه السّلام : أنّه ذكر نور النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، ثمّ قال : ثمّ لم يزل ذلك النّور ينتقل فينا ، و يتشعشع في غرائزنا ، فنحن أنوار السماوات و الأرض ،

و سفن النجاة ، و فينا مكنون العلم ، و إلينا مصير الامور ، و بمهدينا تقطع الحجج ، فهو خاتم الأئمة ، و منقذ الامّة ، و منتهى النّور ، و غامض السرّ ، فليهن من استمسك بعروتنا ، و حشر على محبّتنا ٣ .

٢٩

من الخطبة ( ١٤٨ ) حَتَّى إِذَا قَبَضَ اَللَّهُ رَسُولَهُ ص رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى اَلْأَعْقَابِ وَ غَالَتْهُمُ اَلسُّبُلُ وَ اِتَّكَلُوا عَلَى اَلْوَلاَئِجِ وَ وَصَلُوا غَيْرَ اَلرَّحِمِ وَ هَجَرُوا اَلسَّبَبَ اَلَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ وَ نَقَلُوا اَلْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَ أَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ قَدْ مَارُوا فِي اَلْحَيْرَةِ وَ ذَهَلُوا فِي اَلسَّكْرَةِ عَلَى سُنَّةٍ مِنْ ؟ آلِ فِرْعَوْنَ ؟ مِنْ مُنْقَطِعٍ

ــــــــــــــــ

( ١ ) جاءت قصّة موسى عليه السّلام و العبد الصالح في الآيات ٦٠ ٨٢ من سورة الكهف .

( ٢ و ٣ ) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي : ١٢٩ ، ١٣٠ ضمن خطبة .

٣٩١

إِلَى اَلدُّنْيَا رَاكِنٍ أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ « حتّى إذا قبض اللَّه رسوله صلّى اللَّه عليه و آله » فيه تصريح بما تقوله الإمامية ، من ارتداد الناس بعد وفاة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ارتدادا معنويا ، إلاّ من عصم اللَّه من شيعته المخلصين .

« رجع قوم على الأعقاب » . . . أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم . . . ١ .

قال أبو المقدام للباقر عليه السّلام : إنّ العامّة يزعمون أنّ بيعة أبي بكر حيث اجتمع النّاس كانت رضى للَّه ، و إنّ اللَّه ما كان ليضلّ امّة محمّد من بعده .

فقال عليه السّلام : أو ما تقرؤون كتاب أللَّه ؟ أو ليس اللَّه يقول : و ما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللَّه شيئا و سيجزي الشاكرين ٢ ؟ فقلت له : إنّهم يفسّرونه على وجه آخر ، و يقولون : كيف يمكن كفرهم بعد ايمانهم ؟ فقال : أو ليس اللَّه عزّ و جلّ قد أخبر عن الّذين من قبلهم من الامم : أنّهم قد اختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات ، حيث قال : . . . و آتينا عيسى بن مريم البيّنات و أيّدناه بروح القدس و لو شاء اللَّه ما اقتتل الّذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البيّنات و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر و لو شاء اللَّه ما اقتتلوا و لكنّ اللَّه يفعل ما يريد ٣ ؟ و في هذا ما يستدلّ به على أنّ أصحاب محمّد صلّى اللَّه عليه و آله قد اختلفوا من بعده : فمنهم من آمن ، و منهم من كفر .

و في ( استيعاب ابن عبد البر ) في عنوان بسر بن أرطاة : روى شعبة و سفيان الثوري عن المغيرة بن النّعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ،

قال : قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : إنّكم محشورون إلى اللَّه عزّ و جلّ عراة عزّلا فذكر

ــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ١٤٤ .

( ٢ ) آل عمران : ١٤٤ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٨ : ٢٧٠ ح ٣٩٨ ، و الآية ٢٥٣ من سورة البقرة .

٣٩٢

الحديث و فيه : فأقول : يا رب أصحابي فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ،

إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ١ .

و روى مسندا عن أبي حازم عن سهل بن سعد ، قال : قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : إنّي فرطكم على الحوض ، من مرّ عليّ يشرب ، و من شرب لم يظمأ أبدا ، و ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم و يعرفوني ، ثم يحال بيني و بينهم . قال أبو حازم : فسمعني النّعمان بن أبي عيّاش ، فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ قلت : نعم . قال : فإنّي أشهد على أبي سعيد الخدري ، سمعته و هو يزيد فيها : فأقول : إنّهم منّي . فيقال :

إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك . فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي ٢ .

« و غالتهم السّبل » يقال : غاله : إذا أخذه من حيث لم يدر ، قال حارثة في ابنه زيد بن حارثة لمّا ذهبت به بنو القين :

فو اللَّه ما أدري و إن كنت سائلا

أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل

و كلامه عليه السّلام إشارة إلى قوله تعالى : . . . و لا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله . . . ٣ .

« و اتّكلوا » أي : اعتمدوا .

« على الولائج » هكذا في النسخ ٤ ، و الظاهر وقوع سقط ، و أنّ الأصل :

« على غير الولائج » . فوليجة الرّجل خاصته و بطانته ، فيكون إشارة إلى قوله تعالى : أم حسبتم أن تتركوا و لمّا يعلم اللَّه الّذين جاهدوا منكم و لم يتّخذوا من دون اللَّه و لا رسوله و لا المؤمنين و ليجة و اللَّه خبير بما تعملون ٥ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاستيعاب لابن عبد البر ١ : ١٦٠ .

( ٢ ) الاستيعاب لابن عبد البر ١ : ١٥٩ .

( ٣ ) الأنعام : ١٥٣ .

( ٤ ) كذا في نهج البلاغة ٢ : ٣٦ ، و شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤١٧ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٢١٦ .

( ٥ ) التوبة : ١٦ .

٣٩٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الثالث الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و يحتمل أن يكون الأصل : « و اتّكلوا على الولائج من دون اللَّه » .

« و وصلوا غير الرّحم » أي : غير رحم النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، حيث تركوا أهل بيته و قطعوا رحمه التي امروا بوصلها ، و قد قال تعالى : الّذين ينقضون عهد اللَّه من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر اللَّه به أن يوصل و يفسدون في الأرض اولئك هم الخاسرون ١ .

« و هجروا » أي : تركوا .

« السّبب » هكذا في النسخ ٢ ، و لا يبعد أن يكون محرّف ( النّسب ) بشهادة قوله :

« الّذي امروا بمودّته » قال تعالى : . . . قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودّة في القربى . . . ٣ .

و قال ابن أبي الحديد : قوله عليه السّلام : « و هجروا السّبب . . . » ، إشارة إلى قول النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : « خلّفت فيكم الثقلين : كتاب اللَّه ، و عترتي أهل بيتي ، حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض ، لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض » . فعبّر أمير المؤمنين عن أهل البيت بلفظ السّبب ، لمّا كان النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال : « حبلان » .

و السّبب في اللغة : الحبل . . . ٤ « و نقلوا البناء عن رصّ أساسه » من إضافة الصفة مع كون المصدر بمعنى المفعول ، أي : أساسه المرصوص ، كما قال تعالى : . . . بنيان مرصوص ٥ . أي : ملصق بعضه ببعض .

ــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ٢٧ .

( ٢ ) كذا في نهج البلاغة ٢ : ٣٦ ، و شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤١٧ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٢١٦ .

( ٣ ) الشورى : ٢٣ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤١٧ .

( ٥ ) الصف : ٤ .

٣٩٤

« فبنوه في غير موضعه » و قال تعالى : ذريّة بعضها من بعض . . . ١ .

و قد سأل السّلطان سنجر بن ملكشاه السلجوقي الحكيم سنائي الشاعر عن مذهبه ، فأجابه بقصيدة ، و هي بالفارسية ، و منها هذه الأبيات :

از پى سلطان ملك شه چون نميدارى روا

تخت و تاج سلطنت جز آنكه سنجر داشتن

از پى سلطان دين از چه همى دارى روا

جز عليّ و عترتش محراب و منبر داشتن ٢

و روى ( أمالي الشيخ ) في مجلسه العشرين عن عليّ بن الحسين عليه السّلام في صلح عمّه عليه السّلام قال : قال الحسن عليه السّلام : إنّ معاوية بن صخر زعم أنّي رأيته للخلافة أهلا ، و لم أر نفسي لها أهلا ، كذب معاوية ايم اللَّه ، لأنّا أولى النّاس بالنّاس ، في كتاب اللَّه و على لسان رسوله ، غير أنّا أهل البيت لم نزل مخوّفين ،

مظلومين ، مضطهدين منذ قبض اللَّه النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، فاللَّه بيننا و بين من ظلمنا حقّنا و نزل على رقابنا ، و حمل النّاس على أكتافنا ، و منعنا سهمنا في كتاب اللَّه ، و منع امّنا فاطمة إرثها . إنّا لا نسمّي أحدا ، و لكن أقسم باللَّه ، لو أنّ الناس سمعوا قول اللَّه و قول رسوله ، لأعطتهم السماء قطرها ، و الأرض بركتها ، و لما اختلف في هذه الامّة سيفان ، و لأكلوها خضراء إلى يوم القيامة ، و ما طمعت فيها يا معاوية . و لكن لمّا أخرجت سالفا من معدنها ، و زحزحت عن قواعدها ،

تنازعتها قريش بينها ، و ترامتها كترامي الكرة حتّى طمعت فيها أنت يا معاوية و أصحابك من بعدك . و قد قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : ما ولّت امّة أمرها رجلا قط

ــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ٣٤ .

( ٢ ) ترجمة البيتين : إن كنت تأبى أن يخلف ملكشاه ( أحد ملوك الدولة السلجوقية ) في العرش و التاج سوى سنجر ( خليفة ملكشاه ) فكيف تصبر على أن يخلف سلطان الدين ( النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ) في المحراب و المنبر سوى علي و عترته عليهم السّلام .

٣٩٥

و فيهم من هو أعلم منه ، لم يزل أمرهم سفالا حتّى يرجعوا إلى ما تركوا ، و قد تركت بنو إسرائيل و كانوا أصحاب موسى هارون أخاه و خليفته و وزيره ،

و عكفوا على العجل ، و أطاعوا فيه سامريّهم و هم يعلمون أنّه خليفة موسى .

و قد سمعت هذه الامّة قول النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله لأبي : « إنّه منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » ، و قد رأوا النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم حين نصّبه لهم بغدير خم ،

و نادى له بالولاية ثم أمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب و قد خرج النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله حذارا من قومه إلى الغار ، لمّا أجمعوا أن يمكروا به ، لمّا لم يجد عليهم أعوانا ، و لو وجد عليهم أعوانا لجاهدهم . و قد كفّ أبي و ناشدهم ، و استغاث أصحابه ، فلم يغث ، و لو وجد عليهم أعوانا ما أجابهم ، و قد جعل في سعة كما جعل النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله في سعة ، و قد خذلتني الامّة فبايعتك يابن حرب ، و لو وجدت عليك أعوانا ما بايعتك ، و قد جعل اللَّه هارون في سعة إذ استضعفه قومه ، و كذلك أنا و أبي في سعة حين تركتنا الامّة . . . ١ .

و روى الجوهري في ( سقيفته ) عن جرير عن المغيرة : أنّه لمّا بويع أبو بكر ، قال سلمان : أصبتم الخير ، و لكن أخطأتم المعدن ٢ .

و روى عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : قال سلمان يومئذ : أصبتم ذا السنّ منكم ، و لكنكم أخطأتم أهل بيت نبيّكم ، أما لو جعلتموها فيهم ما اختلف منكم اثنان ، و لأكلتموها رغدا ٣ .

و رووا أيضا عن سلمان ، قال يومئذ : أصبتم و أخطأتم ، أصبتم سنّة الأوّلين ، و أخطأتم أهل بيت نبيّكم . و قال : ما أدري أنسيتم أم تناسيتم ؟

أجهلتم أم تجاهلتم ؟ و قال : و اللَّه ، لو أعلم أنّي أعزّ للَّه دينا ، أو أمنع للَّه ضيما

ــــــــــــــــ

( ١ ) الامالي للطوسي ٢ : ١٧٨ المجلس ٣ ضمن حديث طويل .

( ٢ ) أخرجهما الجوهري في السقيفة : ٦٧ ، و لم يصرّح بكون الثاني رواية حبيب بن أبي ثابت .

( ٣ ) أخرجهما الجوهري في السقيفة : ٦٧ ، و لم يصرّح بكون الثاني رواية حبيب بن أبي ثابت .

٣٩٦

لضربت بسيفي قدما قدما ١ .

و روى إبراهيم الثقفي عن يحيى الحماني عن عمرو بن حريث عن حبيب بن أبي ثابت عن ثعلبة بن يزيد الحماني عن عليّ عليه السّلام ، قال : في ما عهد إلى النّبيّ الامّي صلّى اللَّه عليه و آله : أنّ الامّة ستغدر بك ٢ .

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : لمّا جاؤوا بعليّ إلى بيعة أبي بكر قال : « اللَّه اللَّه يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره و قعر بيته إلى دوركم و قعور بيوتكم ، و لا تدفعوا أهله عن مقامه في النّاس و حقّه ، فو اللَّه يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ النّاس به ، لأنّا أهل البيت ، و نحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارى‏ء لكتاب اللَّه ، الفقيه في دين اللَّه ، العالم بسنن رسول اللَّه ،

المضطلع بأمر الرّعيّة ، المدافع عنهم الامور السّيئة ، القاسم بينهم بالسّوية ،

و اللَّه إنّه لفينا . فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل اللَّه ، فتزدادوا من الحقّ بعدا » .

قال : فقال بشير بن سعد الأنصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا عليّ قبل بيعتها لأبي بكر ، ما اختلف عليك اثنان ٣ .

و فيه : و خرج عليّ كرّم اللَّه وجهه يحمل فاطمة بنت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله على دابة ليلا في مجالس الأنصار ، تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول اللَّه قد مضت بيعتنا لهذا الرّجل ، و لو أنّ زوجك و ابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ، ما عدلنا به . فيقول عليّ كرّم اللَّه وجهه : أفكنت أدع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في بيته لم أدفنه ، و أخرج انازع الناس سلطانه ؟ فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، و لقد صنعوا ما اللَّه حسيبهم و طالبهم ٤ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) السقيفة لسليم بن قيس : ٩٠ بفرق يسير .

( ٢ ) تاريخ الثقفي عنه تلخيص الثاني ٣ : ٥٠ ، و الجوهري في السقيفة : ٦٩ .

( ٣ ) رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة ١ : ١٢ .

( ٤ ) رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة ١ : ١٢ .

٣٩٧

و روى الطبراني عن الدّبري عن عبد الرّزاق عن أبيه عن مينا عن ابن مسعود قال : كنت مع النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ليلة و فد الجنّ ، فلمّا انصرف تنفس ، قلت : ما شأنك يا رسول اللَّه ؟ قال : نعيت إليّ نفسي . قلت : فاستخلف . قال : من ؟ قلت : أبو بكر . فسكت ، ثمّ مضى ساعة ثمّ تنفّس . قلت : ما شأنك ؟ قال : نعيت إليّ نفسي .

قلت : فاستخلف . قال : من ؟ قلت : عمر . فسكت ، ثمّ مضى ساعة ثمّ تنفس ، فقلت :

ما شأنك ؟ قال : نعيت إليّ نفسي . قلت : فاستخلف . قال : من ؟ قلت : عليّ بن أبي طالب . قال : أما و الّذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلنّ الجنّة أجمعين ١ .

و روى أيضا عن محمّد بن عبد اللَّه الحضرمي ، عن عليّ بن الحسين بن بردة العجلي الذّهبي ، عن يحيى بن يعلى الأسلمي ، عن حرب بن صبيح ، عن سعيد بن مسلم ، عن أبي مرّة الصنعاني ، عن أبي عبد اللَّه الحذلي ، عن ابن مسعود قال : استتبعني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله ليلة الجنّ إلى أن قال قال : و ما أظن أجلي إلاّ قد اقترب . قلت : يا رسول اللَّه ألا تستخلف أبا بكر ؟ فأعرض عنّي ،

فرأيت أنّه لم يوافقه ، فقلت : يا رسول اللَّه ألا تستخلف عمر ؟ فأعرض عنّي ،

فرأيت أنّه لم يوافقه ، فقلت : يا رسول اللَّه ألا تستخلف عليّا ؟ قال : ذاك و الذي لا إله غيره لو بايعتموه ، و أطعتموه أدخلكم الجنّة أكتعين ٢ .

و إنّما طعن ابن الجوزي لنصبه في الخبر الأوّل بكون مينا في طريقه شيعيا ، و أمّا الخبر الثاني فلم يطعن فيه كما صرّح به السيوطي ٣ .

« معادن كلّ خطيئة ، و أبواب كلّ ضارب في غمرة » أي : شدّة ، و غمرات الموت : شدائده ، و لقد أقرّ معاوية و يزيد في جوابيهما لكتابي محمّد بن أبي بكر ، و عبد اللَّه بن عمر لما طعنا فيهما بقتال أمير المؤمنين عليه السّلام ، و قتل سيّد

ــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الطبراني في معجمه عنه اللآلى‏ء المصنوعة ١ : ١٦٨ .

( ٢ ) أخرجه الطبراني في معجمه عنه اللآلى‏ء المصنوعة ١ : ١٦٨ .

( ٣ ) اللآلى‏ء المصنوعة ١ : ١٦٨ .

٣٩٨

شباب أهل الجنّة بأنّ أبويهما هما اللّذان أسسّا لهما الأمر ، و هما تابعان لهما في أعمالهما ، كما رواه نصر بن مزاحم ، و أبو الفرج و المسعودي و البلاذري و غيرهم ١ .

و روى ( أغاني أبي الفرج ) عن محمّد بن سهل صاحب الكميت : أنّه أنشد أبا عبد اللَّه جعفر بن محمّد ، فكثر البكاء حين أتى على هذا البيت :

يصيب به الرّامون عن قوس غيرهم

فيا آخرا أسدى له الغيّ أوّل

و رفع أبو عبد اللَّه يديه ، و قال : اللهمّ اغفر للكميت ما قدّم و ما أخّر ، و ما أسرّ و ما أعلن ، و أعطه حتّى يرضى ٢ .

« قد ماروا » قال الجوهري : مار : أي تحرّك و جاء و ذهب ٣ .

« في الحيرة » أي : في التّحير .

« و ذهلوا » أي : غفلوا .

« في السّكرة » فيكون مورهم أشدّ مور ، و ذهولهم أشدّ ذهول .

« على سنّة من آل فرعون » على سيرتهم و طريقتهم ، فكما أنّ فرعون استخفّ قومه ، و قال لهم : . . . أنا ربّكم الأعلى ٤ فأطاعوه ، قال لهم الثّاني : إنّ الأول صاحب نبيّكم في الغار ، و رضيه في صلاته بكم لدينكم ، فكيف لا ترضونه لدنياكم ، و لا تبايعونه ؟ فجعل أمر الخلافة أدون من إمام الجماعة ،

ــــــــــــــــ

( ١ ) جواب معاوية لمحمد بن أبي بكر رواه نصر بن مزاحم في وقعة صفين : ١١٩ ، و المسعودي في مروج الذهب ٣ : ١٢ ، و البلاذري في أنساب الاشراف ٢ : ٣٩٦ ، و لم أجده عن أبي الفرج ، لا في الأغاني و لا في المقاتل ، و جواب يزيد لابن عمر رواه عن أنساب الأشراف ابن طاووس في الطرائف ١ : ٢٤٧ ح ٣٤٨ ، لكن لم يوجد في ترجمة الامام الحسين عليه السّلام ، و لا ترجمة يزيد من أنساب الأشراف .

( ٢ ) الأغاني ١٧ : ٢٤ ، و النقل بتصرف .

( ٣ ) صحاح اللغة للجوهري ٢ : ٨٢٠ مادة ( مور ) .

( ٤ ) النازعات : ٢٤ .

٣٩٩

مع أنّهم يجوّزون الصلاة خلف كلّ فاسق ، مضافا إلى ما في كونه صاحب الغار من العوار ، و ما في تقديمه للصّلاة من الشّنار ، فهل حيرة فوق هذا ، و هل سكرة أشدّ من هذا ؟

« من منقطع إلى الدّنيا راكن » إليها ككثير من المهاجرين و الأنصار الّذين أسلموا زمن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله طوعا ، لكن بعده اتّبعوا الأوّل طمعا أن ينالوا ثروة أو إمرة ، و لم يبق مع أمير المؤمنين عليه السّلام بعد النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله إلاّ ثلاثة أو أربعة ، و بعد شهرين صاروا سبعة ، و هم الّذين صلّوا معه عليه السّلام على سيّدة النساء صلوات اللَّه عليها . و ليس ذئبان ضاريان في غنم بأكثر فسادا من حبّ جاه الدّنيا و مالها للمرء المسلم في دينه .

« أو مفارق للدّين مبائن » أي : منفصل عن الدّين ، كعمرو بن العاص ،

و المغيرة بن شعبة ، و خالد بن الوليد ، و عكرمة بن أبي جهل ، و سهيل بن عمرو ، و أبي سفيان ، و إبنيه يزيد و معاوية ، و نظرائهم من المنافقين و المؤلّفة الذين أسلموا بعد غلبة الإسلام كرها ، بأنّهم شدّوا أمر أبي بكر ، فضلا عن أن بايعوه و تابعوه ، قال الجاحظ في ( بيانه : ) قال الحسن بن عليّ لحبيب بن مسلمة : ربّ مسير لك في غير طاعة اللَّه . فقال : أمّا مسيري إلى أبيك فلا . قال :

بلى و لكنّك أطعت معاوية على دنيا قليلة ، فلعمري لئن كان قام بك في دنياك لقد قعد بك في دينك ، و لو أنّك إذ فعلت شرّا قلت خيرا ، كنت كما قال اللَّه تعالى :

خلطوا عملا صالحا و آخر سيّئا . . . ١ . و لكنّك كما قال تعالى : كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ٢ .

هذا ، و قال ابن أبي الحديد بعد العنوان : فإن قلت : أليس الفصل صريحا

ــــــــــــــــ

( ١ ) التوبة : ١٠٢ .

( ٢ ) البيان و التبيين للجاحظ ٢ : ٩٩ ، و الآية ١٤ من سورة المطففين .

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446