عقائد الإمامية

عقائد الإمامية22%

عقائد الإمامية مؤلف:
الناشر: محمّد رضا المظفر
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 176

عقائد الإمامية
  • البداية
  • السابق
  • 176 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52899 / تحميل: 6203
الحجم الحجم الحجم
عقائد الإمامية

عقائد الإمامية

مؤلف:
الناشر: محمّد رضا المظفر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

آل البيت فيها. حاشا أولئك الذين أخلصوا لله نيّاتهم، وتجرّدوا له في عباداتهم، وبذلوا مهجهم في نصرة دينه أن يدعو الناس إلى الشرك في عبادة الله.

٨ - ومن آداب الزيارة: أن يلزم للزائر حسن الصحبة لمن يصحبه، وقلّة الكلام إلاّ بخير، وكثرة ذكر الله(١) والخشوع، وكثرة الصلاة، والصلاة على محمَّد وآل محمَّد، وأن يغضّ من بصره، وأن يعدو إلى أهل الحاجة من إخوانه إذا رأى منقطعاً، والمواساة لهم، والورع عمّا نُهي عنه، وعن الخصومة، وكثرة الاَيمان، والجدال الذي فيه الاَيمان(٢)

ثمّ أنّه ليست حقيقة الزيارة إلاّ السلام على النبي أو الامام باعتبار أنّهم( أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٣) ؛ فهم يسمعون الكلام، ويردّون الجواب، ويكفي أن يقول فيها مثلاً: (السلام عليك يا رسول الله).

غير أنّ الاَولى أن يقرأ فيها المأثور الوارد من الزيارات عن آل البيت؛ لما فيها - كما ذكرنا - من المقاصد العالية، والفوائد الدينية، مع بلاغتها وفصاحتها، ومع ما فيها من الاَدعية العالية التي يتّجه بها الانسان إلى الله تعالى وحده.

____________________

(١) ليس المراد من كثرة ذكر الله تكرار التسبيح والتكبير ونحوهما فقط، بل المراد ما ذكره الصادقعليه‌السلام في بعض الحديث في تفسير ذكر الله كثيراً أنّه قال: «أما أني لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا اله إلاّ الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية».

(٢) راجع كامل الزيارات: ١٣١ ح١.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذيِنَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحياءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران ٣: ١٦٩.

١٤١

٣٧ - عقيدتنا في معنى التشيُّع عند آل البيت

إنّ الاَئمّة من آل البيتعليهم‌السلام لم تكن لهم همّة - بعد أن انصرفوا عن أن يرجع أمر الاَمَّة إليهم - إلاّ تهذيب المسلمين، وتربيتهم تربية صالحة كما يريدها الله تعالى منهم، فكانوا مع كلِّ من يواليهم ويأتمنونه على سرّهم يبذلون قصارى جهدهم في تعليمه الاَحكام الشرعية، وتلقينه المعارف المحمدية، ويعرّفونه ماله وما عليه.

ولا يعتبرون الرجل تابعاً وشيعة لهم إلاّ إذا كان مطيعاً لاَمر الله، مجانباً لهواه، آخذاً بتعاليمهم وإرشاداتهم.

ولا يعتبرون حبّهم وحده كافياً للنجاة، كما قد يمنّي نفسه بعض من يسكن إلى الدعة والشهوات، ويلتمس عذراً في التمرّد على طاعة الله سبحانه، إنّهم لا يعتبرون حبهم وولاءهم منجاة إلاّ إذا اقترن بالاَعمال الصالحة، وتحلّى الموالي لهم بالصدق والاَمانة، والورع والتقوى.

«يا خيثمة، أبلغ موالينا(١) أنّه لا نغني عنهم من الله شيئاً إلاّ بعمل، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلاّ بالورع، وإنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره»(٢) .

بل هم يريدون من أتباعهم أن يكونوا دعاة الحق، وأدلاّه على الخير والرشاد، ويرون أنّ الدعوة بالعمل أبلغ من الدعوة باللسان: «كونوا دعاة

____________________

(١) في المصدر: «أبلغ من ترى من موالينا».

(٢) الكافي: ٢/١٤٠ ذيل الحديث ٢.

١٤٢

للناس بالخير بغير ألسنتكم؛ ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع»(١) .

ونحن نذكر لك الآن بعض المحاورات التي جرت لهم مع بعض اتباعهم؛ لتعرف مدى تشديدهم وحرصهم على تهذيب أخلاق الناس:

١ - محاورة أبي جعفر الباقرعليه‌السلام مع جابر الجعفي:

«يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيُّع أن يقول بحبنا أهل البيت؟! فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه.

وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع، والتخشُّع، والاَمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم، والصلاة، والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والاَيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكفّ الاَلسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أُمناء عشائرهم في الاَشياء.

فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عزّ وجلّ أتقاهم وأعملهم بطاعته(٢) .

يا جابر، والله ما نتقرَّب إلى الله تبارك وتعالى إلاّ بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لاَحد من حجّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلاّ بالعمل والورع»(٣) .

٢ - محاورة أبي جعفرعليه‌السلام أيضاً مع سعيد بن الحسن:

أبو جعفرعليه‌السلام : «أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟».

____________________

(١) الكافي: ٢/٦٤ ح١٢.

(٢) وبهذا المعنى قال أمير المؤمنين في خطبته القاصعة: «إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الاَرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين» نهج البلاغة: الخطبة ١٩٢.

(٣) الكافي: ٢/٦٠ ح٣.

١٤٣

سعيد: ما أعرف ذلك فينا.

أبو جعفرعليه‌السلام : «فلا شيء إذن».

سعيد: فالهلاك إذن!

أبو جعفرعليه‌السلام : «إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد»(١) .

٣ - محاورة أبي عبدالله الصادقعليه‌السلام مع أبي الصباح الكناني: الكناني لأبي عبدالله: ما نلقى من الناس فيك؟!

أبو عبدالله: «وما الذي تلقى من الناس؟»

الكناني: لا يزال يكون بيننا وبين الرجل الكلام، فيقول: جعفري خبيث.

أبو عبدالله: «يعيّركم الناس بي؟!»

الكناني: نعم!

أبو عبدالله: «ما أقل والله من يتّبع جعفراً منكم! إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه. هؤلاء أصحابي!»(٢) .

٤ - ولأبي عبداللهعليه‌السلام كلمات في هذا الباب نقتطف منها ما يلي:

أ - «ليس منّا - ولا كرامة - من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه»(٣) .

ب - «إنّا لا نعدّ الرجل مؤمناً حتّى يكون لجميع أمرنا متّبعاً ومريداً، ألا وإن من اتباع أمرنا وأرادته الورع، فتزيَّنوا به يرحمكم الله»(٤) .

____________________

(١) الكافي: ٢/١٣٩ ح١٣.

(٢) الكافي: ٢/٦٢ ح٦.

(٣) الكافي: ٢/٦٣ ح١٠.

(٤) الكافي: ٢/٦٣ ح١٣.

١٤٤

ج- - «ليس من شيعتنا من لا تتحدَّث المخدَّرات بورعه في خدورهن، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم خلق لله أورع منه»(١) .

د - «إنّما شيعة جعفر مَن عفّ بطنه وفرجه، واشتد جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه. فاذا رأيت فأولئك شيعة جعفر»(٢) .

____________________

(١) الكافي: ٢/٦٤ ح١٥.

(٢) الكافي: ٢/١٨٣ ح٩.

١٤٥

٣٨ - عقيدتنا في الجور والظلم

من أكبر ما كان يعظِّمه الاَئمةعليهم‌السلام على الانسان من الذنوب العدوان على الغير والظلم للناس، وذلك اتّباعاً لما جاء في القرآن الكريم من تهويل الظلم واستنكاره، مثل قوله تعالى:( وَلا تَحسَبَنَّ اللهَ غفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّلِمونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَوْمٍ تَشخَصُ فيه الاْبصرُ ) (١) .

وقد جاء في كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام ما يبلغ الغاية في بشاعة الظلم والتنفير منه، كقوله - وهو الصادق المصدَّق - من كلامه في نهج البلاغة برقم ٢١٩.

«واللهِ لَو أُعطِيتُ الاَقالِيمَ السَّبعةَ بما تَحتَ أَفلاكِها على أنْ أَعصِي اللهَ في نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرةٍ ما فَعَلْتُ»(٢) .

وهذا غاية ما يمكن أن يتصوَّره الانسان في التعفُّف عن الظلم، والحذر من الجور، واستنكار عمله.

إنّه لا يظلم نملة في قشرة شعيرة وإن أُعطي الاَقاليم السبعة، فكيف حال من يلغ في دماء المسلمين، وينهب أموال الناس، ويستهين في أعراضهم وكراماتهم؟! كيف يكون قياسه إلى فعل أمير المؤمنين؟! وكيف تكون منزلته من فقهه صلوات الله عليه؟

إنّ هذا هو الاَدب الاِليهي الرفيع الذي يتطلَّبه الدين من البشر.

نعم، إنّ الظلم من أعظم ما حرَّم الله تعالى، فلذا أخذ من أحاديث

____________________

(١) إبراهيم ١٤: ٤٢.

(٢) نهج البلاغة: (من كلام لهعليه‌السلام يتبرأ من الظلم).

١٤٦

آل البيت وأدعيتهم المقام الاَوّل في ذمّه وتنفير أتباعهم عنه.

وهذه سياستهمعليهم‌السلام ، وعليها سلوكهم حتّى مع من يعتدي عليهم، ويجترئ على مقامهم.

وقصّة الامام الحسنعليه‌السلام معروفة في حلمه عن الشامي الذي اجترأ عليه وشتمه، فلاطفه الامام وعطف عليه، حتّى أشعره بسوء فعلته(١) .

وقد قرأت آنفاً في دعاء سيد الساجدين من الاَدب الرفيع في العفو عن المعتدين، وطلب المغفرة لهم، وهو غاية ما يبلغه السموَّ النفسي، والانسانية الكاملة، وإن كان الاعتداء على الظالم بمثل ما اعتدى جائزاً في الشريعة(٢) وكذا الدعاء عليه جائز مباح، ولكن الجواز شيء، والعفو - الذي هو من مكارم الاَخلاق - شيء آخر، بل عند الاَئمّة أنّ المبالغة في الدعاء على الظالم قد تعدّ ظلماً، قال الصادقعليه‌السلام : «إنّ العبد ليكون مظلوماً فما يزال يدعو حتى يكون ظالماً»(٣) أي حتّى يكون ظالماً في دعائه على الظالم

____________________

(١) راجع مناقب ابن شهر آشوب: ٤/ ١٩ فقد ذكر هذه القصة عن المبرّد وابن عائشة، قال: إنّ شامياً رآه راكباً فجعل يلعنه والحسن لا يرد، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه فسلم عليه وضحك وقال: «أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك؛ لاَن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً». فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: اشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي، والآن أنت أحب خلق الله إلي. وحوّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم.

(٢) فقد قال تعالى:( فَمنِ اعْتدَى عَليْكَمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله وَاعْلَموُا أنَّ اللهَ مَعَ الْمُتّقِينَ ) البقرة ٢: ١٩٤.

(٣) الكافي: ٢/ ٢٥٠ ح١٧، عقاب الاَعمال: ٢٧٤.

١٤٧

بسبب كثرة تكراره.

يا سبحان الله! أيكون الدعاء على الظالم إذا تجاوز الحد ظلماً؟ إذن ما حال من يبتدئ بالظلم والجور، ويعتدي على الناس، أو ينهش أعراضهم، أو ينهب أموالهم، أو يشي عليهم عند الظالمين، أو يخدعهم فيورّطهم في المهلكات، أو ينبزهم ويؤذيهم، أو يتجسّس عليهم؟ ما حال أمثال هؤلاء في فقه آل البيتعليهم‌السلام .

إنّ أمثال هؤلاء أبعد الناس عن الله تعالى، وأشدّهم إثماً وعقاباً، وأقبحهم أعمالاً وأخلاقاً.

١٤٨

٣٩ - عقيدتنا في التعاون مع الظالمين

ومن عظم خطر الظلم وسوء مغبّته أن نهى الله تعالى عن معاونة الظالمين والركون إليهم( وَلاَ تَركُنوا إلى الَّذِينَ ظَلَموُا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُمْ مِن دُونِ اللهِ مِنْ أَولياءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ) (١) .

هذا هو أدب القرآن الكريم، وهو أدب آل البيتعليهم‌السلام ، وقد ورد عنهم ما يبلغ الغاية من التنفير عن الركون إلى الظالمين، والاتّصال بهم، ومشاركتهم في أي عمل كان، ومعاونتهم، ولو بشق تمرة(٢) .

ولا شك أنّ أعظم ما مُني به الاسلام والمسلمون هو التساهل مع أهل الجور، والتغاضي عن مساوئهم، والتعامل معهم، فضلاً عن ممالأتهم ومناصرتهم واعانتهم على ظلمهم.

وما جرَّ الويلات على الجامعة الاسلامية إلاّ ذلك الانحراف عن جدد الصواب والحق، حتى ضعف الدين بمرور الاَيام، فتلاشت قوّته، ووصل إلى ما عليه اليوم، فعاد غريباً، وأصبح المسلمون أو ما يسمّون أنفسهم بالمسلمين، وما لهم من دون الله أولياء ثم لا ينصرون(٣) حتى على أضعف أعدائهم، وأرذل المجترئين عليهم، كاليهود الاَذلاّء، فضلاً عن الصليبيين الاَقوياء.

لقد جاهد الاَئمةعليهم‌السلام في إبعاد من يتّصل بهم عن التعاون

____________________

(١) هود ١١: ١١٣.

(٢) انظر: وسائل الشيعة: ١٨٣/١٧ - باب تحريم معونة الظالمين -.

(٣) إشارة إلى الآية ١١٣ من سورة هود. المذكورة أعلاه.

١٤٩

مع الظالمين، وشدّدوا على أوليائهم في مسايرة اهل الظلم والجور وممالأتهم. ولا يحصى ما ورد عنهم في هذا الباب، ومن ذلك ما كتبه الامام زين العابدينعليه‌السلام إلى محمد بن مسلم الزهري بعد أن حذره عن إعانة الظلمة على ظلمهم:

«أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلَّماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم إلاّ دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمَّروا لك في جنب ما خرَّبوا عليك. فانظر لنفسك؛ فإنّه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول...»(١) .

ما أعظم كلمة «وحاسبها حساب رجل مسؤول»؛ فإنّ الانسان حينما يغلبه هواه يستهين في أغوار مكنون سرّه بكرامة نفسه، بمعنى إنّه لا يجده مسؤولاً عن أعماله، ويستحقر ما يأتي به من أفعال، ويتخيَّل أنّه ليس بذلك الذي يُحسب له الحساب على ما يرتكبه ويقترفه إنّ هذا من أسرار النفس الانسانية الاَمّارة، فأراد الامام أن ينبِّه الزهري على هذا السر النفساني في دخيلته الكامنة؛ لئلاّ يغلب عليه الوهم فيفرط في مسؤوليته عن نفسه.

وأبلغ من ذلك في تصوير حرمة معاونة الظالمين حديث صفوان الجمَّال مع الامام موسى الكاظمعليه‌السلام ، وقد كان من شيعته، ورواة حديثه الموثّقين قال - حسب رواية الكشي في رجاله بترجمة صفوان -:

____________________

(١) تحف العقول: ٢٧٥.

١٥٠

دخلت عليه فقال لي: «يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل، خلا شيئاً واحداً».

قلت: جعلت فداك! أيّ شيء؟

قال: «إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون -».

قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد، ولا للهو، ولكن أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكة - ولا أتولاّه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني.

قال: «يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟»

قلت: نعم جعلت فداك.

قال: «أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟»

قلت: نعم.

قال: «فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم فهو كان ورد النار».

قال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها(١) .

فإذا كان نفس حب حياة الظالمين وبقائهم بهذه المنزلة، فكيف بمن يستعينون به على الظلم، أو يؤيدهم في الجور، وكيف حال من يدخل في زمرتهم، أو يعمل بأعمالهم، أو يواكب قافلتهم، أو يأتمر بأمرهم؟!

____________________

(١) رجال الكشي: ٤٤٠ ح٨٢٨.

١٥١

(٢)

٤٠ - عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة

إذا كان معاونة الظالمين ولو بشق تمرة، بل حب بقائهم، من أشد ما حذَّر عنه الاَئمةعليهم‌السلام ، فما حال الاشتراك معهم في الحكم، والدخول في وظائفهم وولاياتهم؟ بل ما حال من يكون من جملة المؤسسين لدولتهم، أو من كان من أركان سلطانهم، والمنغمسين في تشييد حكمهم «وذلك أن ولاية الجائر دروس الحق كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد»(١) كما جاء في حديث «تحف العقول» عن الصادقعليه‌السلام .

غير أنّه ورد عنهمعليهم‌السلام جواز ولاية الجائر إذا كان فيها صيانة العدل، وإقامة حدود الله، والاحسان إلى المؤمنين، والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر «إن لله في أبواب الظلمة مَنْ نوَّر الله به البرهان، ومكَّن له في البلاد، فيدفع بهم عن أوليائه، ويصلح بهم اُمور المسلمين... اُولئك هم المؤمنون حقّاً، أولئك منار الله في أرضه، أولئك نور الله في رعيته...» كما جاء في الحديث عن الامام موسى بن جعفرعليه‌السلام (٢) .

وفي هذا الباب أحاديث كثيرة توضّح النهج الذي ينبغي أن يجري عليه الولاة والموظفون، مثل ما في رسالة الصادقعليه‌السلام إلى عبدالله

____________________

(١) تحف العقول: ٣٣٢.

(٢) بحار الاَنوار: ٧٥/٣٨١ ح٤٦. عن منية المريد. وفيه الحديث عن الامام الرضاعليه‌السلام .

١٥٢

النجاشي أمير الاَهواز (راجع الوسائل كتاب البيع الباب ٧٨)(١) .

____________________

(١) انظر وسائل الشيعة: ١٧/١٩٦ ح٢٢٣٣٨ وباقي أحاديث الباب ٤٦ من أبواب ما يكتسب به. كشف الريبة: ٨٦.

١٥٣

٤١ - عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الاِسلامية

عرف آل البيتعليهم‌السلام بحرصهم على بقاء مظاهر الاسلام، والدعوة إلى عزّته، ووحدة كلمة أهله، وحفظ التآخي بينهم، ورفع السخيمة من القلوب، والاَحقاد من النفوس.

ولا يُنسى موقف أمير المؤمنينعليه‌السلام مع الخلفاء الذين سبقوه، مع توجّده عليهم، واعتقاده بغصبهم لحقه، فجاراهم وسالمهم، بل حبس رأيه في انّه المنصوص عليه بالخلافة؛ حتّى أنه لم يجهر في حشد عام بالنصِّ إلا بعد أن آل الاَمر إليه، فاستشهد بمن بقي من الصحابة عن نص الغدير في يوم الرحبة المعروف(١) .

وكان لا يتأخّر عن الاشارة عليهم فيما يعود على المسلمين أو للاِسلام بالنفع والمصلحة، وكم كان يقول عن ذلك العهد: «فَخَشِيتُ إنْ لَمْ أَنصُر الاِسلامَ وَأَهلَهُ أَنْ أَرى فِيهِ ثَلْماً أو هدْماً»(٢) .

كما لم يصدر منه ما يؤثِّر على شوكة ملكهم، أو يضعف من سلطانهم، أو يقلِّل من هيبتهم، فانكمش على نفسه وجلس حلس البيت،

____________________

(١) انظر: مسند أحمد: ١/٨٤، فضائل أحمد: ٧٧/١١٥، السنة لابن أبي عاصم: ٥٩٣ ح١٣٧٢ و١٣٧٣ و١٣٧٤، مشكل الآثار: ٢/٣٠٧، خصائص النسائي ١٠٠ - ١٠١ ح٨٥ - ٨٧، المعجم الصغير للطبراني: ١/٦٥، المعجم الاوسط: ٢/٦٨، حلية الاولياء: ٥/٢٦، المناقب لابن المغازلي: ٢٠ ح٢٧، كنز العمال: ١٣/١٥٧ ح٣٦٤٨٥ و٣٦٤٨٦ و: ١٧٠ ح٣٦٥١٤ و٣٦٥١٥. اُسد الغابة: ٣/٣٢١، ٤/٢٨.

(٢) نهج البلاغة: الكتاب ٦٢ (من كتاب لهعليه‌السلام إلى أهل البصرة).

١٥٤

بالرغم ممّا كان يشهده منهم.

كل ذلك رعاية لمصلحة الاسلام العامة، ورعاية أن لا يرى في الاسلام ثلماً أو هدماً، حتى عرف ذلك منه، وكان الخليفة عمر بن الخطاب يقول ويكرّر القول: (لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)(١) أو (لولا علي لهلك عمر)(٢) .

ولا يُنسى موقف الحسن بن عليعليه‌السلام من الصلح مع معاوية(٣) بعد أن رأى أنّ الاصرار على الحرب سيديل من ثقل الله الاَكبر،

____________________

(١) انظر: طبقات ابن سعد: ٢/٣٣٩، فضائل أحمد: ١٥٥ ح٢٢٢، انساب الاشراف للبلاذري: ٢/٩٩ ح٢٩، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١/١٨، المناقب للخوارزمي: ٩٦ - ٩٧ ذيل ح٩٧ و٩٨، اُسد الغابة: ٤/٢٢، كفاية الطالب: ٢١٧، الاصابة: ٢/٥٠٩، ذخائر العقبى: ٨٢، تهذيب التهذيب: ٧/٢٩٦، تذكرة الخواص: ١٣٤ و١٣٧، الرياض النضرة: ٣/١٦١، فرائد السمطين: ١/٣٤٤ ح٢٦٧.

(٢) المناقب للخوارزمي: ٨٠ ح٦٥، تذكرة الخواص: ١٣٧، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١/١٨ و١٤١ و١٢/١٧٩ و٢٢٣، كفاية الطالب: ٢١٩، ذخائر العقبى: ٨٢، الرياض النضرة: ٣/١٦١.

(٣) يمكن النظر إلى الصلح الذي وقع بين الامام الحسنعليه‌السلام ومعاوية من نواحٍ عدّة، منها:

أولاً: كسر الطوق المعنوي الذي حاول معاوية أن يوهم به عامة المسلمين من إلحاحه المستمر لطلب الصلح واغترار الناس به، وقد أبان الامام الحسنعليه‌السلام ابتداءاً اعتذاره عن ذلك بأنّ معاوية لا يفي بشرط، ولا هو بمأمون على الدين ولا على الامّة.

ثانياً: لو حاول الامام الحسنعليه‌السلام الاصرار على موقفه من قتال معاوية لكانت في ذلك مغامرة مواجهة قوّة لا قبل بها، ولا نكشف الامر عن التضحية بنفسه وكافة الهاشميين وأوليائهم، ولعذله العاذلون وقالوا فيه.

ثالثا: اتّضح الاَمر - بعد ذلك - بفضيحة معاوية الذي لم يلتزم ببنود الصلح قيد أنملة، ثم انكشف بعد ذلك الغطاء في دور أبيّ الضيم الامام الحسينعليه‌السلام وما قدّمه من تضحيات تقف متممة لدور الامام الحسنعليه‌السلام في مواجهة الظالمين، ورد موجة

=

١٥٥

ومن دولة العدل، بل اسم الاسلام إلى آخر الدهر، فتمحى الشريعة الاِلهية، ويُقضى على البقية الباقية من آل البيت، ففضَّل المحافظة على ظواهر

____________________

الانحراف في الامة.

رابعاً: امتثل الامام الحسنعليه‌السلام ما ورد في سيرة النبي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله اُسوة به، حيث استرشد بالرسالة، وامتحن بهذه الخطة، وقد اخذها في إقدامه واحجامه من صلح الحديبية.

خامساً: كان الصلح نموذجاً فريدا صاغ به أئمة أهل البيتعليهم‌السلام سياستهم الحكيمة، حيث غرس الامام الحسنعليه‌السلام في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيرديه، وتسنّى له به أن يلغم قصر الاَموية ببارود الاَموية نفسها.

وقد نقل التاريخ بصراحة زيف معاوية بوعوده حينما انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة، فقال، وقد قام خطيباً فيهم: (يا أهل العراق! إني - والله - لم اُقاتلكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتزكّوا، ولا لتحجّوا، وإنما قاتلتكم لاَتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون!، ألا وإنّ كل شيء أعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدمي هاتين!) - كما نقله ابن عساكر في مختصر تاريخ دمشق - فلما تمت البيعة لمعاوية خطب فذكر علياً فنال منه، ونال من الحسن.. إلى آخر ما وقع من الوقائع الجسيمة...

ويذكر الامام السيد عبد الحسين شرف الدينقدس‌سره : إنّ الامامين الحسن والحسينعليهما‌السلام كانا وجهين لرسالة واحدة، كل وجه منهما في موضعه منها، وفي زمانه من مراحلها يكافئ الآخر في النهوض بأعبائها ويوازيه بالتضحية في سبيلها... وكان (يوم ساباط) أعرف بمعاني التضحية من (يوم الطف) لدى اُولي الاَلباب ممّن تعمّق... وكانت شهادة الطف حسنية أوّلاً وحسينية ثانياً؛ لاَنّ الحسن أنضج نتائجها، ومهّد أسبابها.

وقد وقف الناس بعد حادثتي ساباط والطف يمعنون في الاحداث، فيرون في الامويين عصبة جاهلية منكرة...

للتفصيل: راجع صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين، المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة، شرح نهج البلاغة: ج٤، الامام الحسينعليه‌السلام للاستاذ عبدالله العلايلي، مختصر تاريخ دمشق: ٢٥/٤٣، تاريخ الطبري: ٥/١٦٢، الكامل في التاريخ لابن الاثير: ٣/٤٠٤، تاريخ الاسلام للذهبي: ٤/٥، تاريخ الخلفاء (الامامة والسياسة) لابن قتيبة: ١/١٦٤

١٥٦

الاسلام واسم الدين، وإن سالم معاوية - العدو الاَلد للدين وأهله، والخصم الحقود له ولشيعته - مع ما يتوقّع من الظلم والذل له ولاَتباعه، وكانت سيوف بني هاشم وسيوف شيعته مشحوذة تأبى أن تغمد دون أن تأخذ بحقّها من الدفاع والكفاح، ولكن مصلحة الاسلام العليا كانت عنده فوق جميع هذه الاعتبارات.

وأمّا الحسين الشهيدعليه‌السلام فلئن نهض فلاَنّه رأى من بني أُمية إن دامت الحال لهم ولم يقف في وجههم من يكشف سوء نيّاتهم، سيمحون ذكر الاسلام، ويطيحون بمجده، فأراد أن يثبت للتاريخ جورهم وعدوانهم، ويفضح ما كانوا يبيّتونه لشريعة الرسول، وكان ما أراد. ولولا نهضته المباركة لذهب الاسلام في خبر كان يتلهّى بذكره التأريخ كأنّه دين باطل.

وحرص الشيعة على تجديد ذكراه بشتّى أساليبهم إنّما هو لاتمام رسالة نهضته في مكافحة الظلم والجور، ولاحياء أمره امتثالاً لاَوامر الاَئمة من بعده.

وينجلي لنا حرص آل البيتعليهم‌السلام على بقاء عز الاسلام - وإن كان ذو السلطة من ألد أعدائهم - في موقف الاَمام زين العابدينعليه‌السلام من ملوك بني أُمية، وهو الموتور لهم، والمنتهكة في عهدهم حرمته وحرمه، والمحزون على ما صنعوا مع أبيه وأهل بيته في واقعة كربلاء، فإنّه - مع كل ذلك - كان يدعو في سرِّه لجيوش المسلمين بالنصر، وللاسلام بالعز، وللمسلمين بالدعة والسلامة، وقد تقدَّم أنّه كان سلاحه الوحيد في نشر المعرفة هو الدعاء، فعلَّم شيعته كيف يدعون للجيوش الاِسلامية والمسلمين، كدعائه المعروف ب- (دعاء أهل الثغور)(١) الذي يقول فيه:

____________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء (٢٧): من دعائهعليه‌السلام لاَهل الثغور.

١٥٧

«اللّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّدٍ، وكثِّرْ عددَهُمْ(١) واشحَذْ أسلحَتَهمْ، واحرُسْ حوزَتَهُمْ، وامنَعْ حومَتَهُمْ، وألِّفْ جمعَهُمْ، ودبِّرْ أمرَهُمْ، وواتِرْ بينَ ميرِهِمْ، وتوحَّدْ بكفايَةِ مؤَنِهُمْ، واعضُدهُمْ بالنصرِ، وأعِنهُمْ بالصبْرِ، والطُفْ لهُمْ في المكْرِ ».

إلى أن يقول - بعد أن يدعو على الكافرين - :

«اللّهمَّ وقوِّ بذلِكَ مِحَالَ أهلِ الاِسلام، وحصِّنْ بهِ ديارَهُمْ، وثمِّرْ بهِ أموالَهُمْ، وفرِّغْهُمْ عن محاربتِهِمْ لعبادَتِكَ، وعنْ منابذَتِهمْ للخلَوةِ بكَ؛ حتّى لا يُعبَدَ في بقاعِ الاَرْضِ غيرُكَ، ولا تُعَفَّرَ لاَحدٍ منهُمْ جبهةٌ دونَكَ »(٢)

وهكذا يمضي في دعائه البليغ - وهو من أطول أدعيته - في توجيه الجيوش المسلمة إلى ما ينبغي لها من مكارم الاَخلاق، وأخذ العدّة للاَعداء، وهو يجمع إلى التعاليم الحربية للجهاد الاسلامي بيان الغاية منه وفائدته، كما ينبِّه المسلمين إلى نوع الحذر من أعدائهم، وما يجب أن يتخذوه في معاملتهم ومكافحتهم، وما يجب عليهم من الانقطاع إلى الله تعالى، والانتهاء عن محارمه، والاخلاص لوجهه الكريم في جهادهم.

وكذلك باقي الاَئمةعليهم‌السلام في مواقفهم مع ملوك عصرهم، وإن لاقوا منهم أنواع الضغط والتنكيل بكل قساوة وشدّة؛ فانّهم لما علموا أنّ دولة الحق لا تعود إليهم انصرفوا إلى تعليم الناس معالم دينهم، وتوجيه أتباعهم التوجيه الديني العالي.

وكلّ الثورات التي حدثت في عصرهم من العلويين وغيرهم لم تكن

____________________

(١) كذا، وفي المصدر: (عِدَّتهم).

(٢) ما أجمل هذا الدعاء، وأجدر بالمسلمين في هذه العصور أن يتلوا هذا الدعاء؛ ليعتبروا به، وليبتهلوا إلى الله تعالى في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم وتنوير عقولهم. (منهرحمه‌الله ).

١٥٨

عن إشارتهم ورغبتهم، بل كانت كلّها مخالفة صريحة لاَوامرهم وتشديداتهم؛ فانّهم كانوا أحرص على كيان الدولة الاسلامية من كل أحد، حتى من خلفاء بني العباس أنفسهم.

وكفى أن نقرأ وصية الامام موسى بن جعفرعليه‌السلام لشيعته:

«لا تذلُوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فإن كان عادلاً فاسألوا الله بقاءه، وإن كان جائراً فاسألوا الله اصلاحه؛ فإنّ صلاحكم في صلاح سلطانكم، وإنّ السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحبّوا له ما تحبون لاَنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون لاَنفسكم»(١) .

وهذا غاية ما يوصف في محافظة الرعية على سلامة السلطان أن يحبوا له ما يحبون لاَنفسهم، ويكرهوا له ما يكرهون لها.

وبعد هذا، فما أعظم تجنِّي بعض كتّاب العصر؛ إذ يصف الشيعة بأنّهم جميعة سرّية هدّامة، أو طائفة ثوروية ناقمة(٢) !

صحيح أنّ من خلق الرجل المسلم المتّبع لتعاليم آل البيتعليهم‌السلام يبغض الظلم والظالمين، والانكماش عن أهل الجور والفسوق، والنظرة إلى أعوانهم وأنصارهم نظرة الاشمئزاز والاستنكار، والاستيحاش والاستحقار، وما زال هذا الخلق متغلغلاً في نفوسهم يتوارثونه جيلاً بعد جيل، ولكن مع ذلك ليس من شيمتهم الغدر والختل، ولا من طريقتهم الثورة والانتفاض على السلطة الدينية السائدة باسم الاسلام؛ لا سراً ولا علناً، ولا يبيحون لاَنفسهم الاغتيال أو الوقيعة بمسلم مهما كان مذهبه

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٢٧٧ ح٢١، وسائل الشيعة: ١٦/٢٢٠ ح٢١٤٠٦.

(٢) وقدمرت الاشارة - عند موضوع (عقيدتنا في التقية) - إلى قول الكوثري في تعليقه على كتاب التبصير في الدين للاسفرائيني، في وصفه للشيعة بأنّها جمعيات سرّية.

١٥٩

وطريقته؛ أخذاً بتعاليم أئمّتهمعليهم‌السلام .

بل المسلم الذي يشهد الشهادتين مصون المال، محقون الدم، محرَّم العرض؛ «لا يحل مال امرئ مسلم إِلا بطيب نفسه»(١) .

بل المسلم أخو المسلم، عليه من حقوق الاَخوة لاَخيه ما يكشف عنه البحث الآتي.

____________________

(١) الفقيه: ٤/٦٦ ح١٩٥، عوالي اللآلي: ٣/٤٧٣ ح٣، تحف العقول: ٣٤، وسائل الشيعة: ٥/١٢٠ ح٦٠٨٩، سنن الدارقطني: ٣/٢٦ ح٩١ و٩٢، كنز العمال: ١/٩٢ ح٣٩٧.

١٦٠

٤٢ - عقيدتنا في حقِّ المسلم على المسلم

إنّ من أعظم وأجمل ما دعا إليه الدين الاسلامي هو التآخي بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ومنازلهم، كما أنّ من أوطأ وأخس ما صنعه المسلمون اليوم وقبل اليوم هو تسامحهم بالاَخذ بمقتضيات هذه الاَخوّة الاسلامية.

لاَنّ من أيسر مقتضياتها - كما سيجيء في كلمة الامام الصادقعليه‌السلام -: «أن يحب لاَخيه المسلم ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه».

أنعم النظر، وفكِّر في هذه الخصلة اليسيرة في نظر آل البيتعليهم‌السلام ، فستجد أنّها من أشق ما يفرض طلبه من المسلمين اليوم، وهم على مثل هذه الاَخلاق الموجودة عندهم البعيدة عن روحية الاسلام، فكِّر في هذه الخصلة لو قدِّر للمسلمين أن ينصفوا أنفسهم، ويعرفوا دينهم حقاً، ويأخذوا بها فقط أن يحب أحدهم لاَخيه ما يحب لنفسه، لما شاهدت من أحد ظلماً ولا اعتداء، ولا سرقة ولا كذباً، ولا غيبة ولا نميمة، ولا تهمة بسوء، ولا قدحاً بباطل، ولا إهانة ولا تجبُّراً.

بلى، إنّ المسلمين لو وقفوا لاِدراك أيسر خصال الاخوّة فيما بينهم، وعملوا بها، لارتفع الظلم والعدوان من الاَرض، ولرأيت البشر اخواناً على سرر متقابلين قد كملت لهم أعلى درجات السعادة الاجتماعية، ولتحقَّق حلم الفلاسفة الاَقدمين في المدينة الفاضلة، فما احتاجوا - حينما يتبادلون الحب والمودّة - إلى الحكومات والمحاكم، ولا إلى الشرطة والسجون، ولا إلى قانون للعقوبات، وأحكام للحدود والقصاص، ولما خضعوا لمستعمر،

١٦١

ولا خنعوا لجبّار، ولا استبدّ بهم الطغاة، ولتبدَّلت الاَرض غير الاَرض، وأصبحت جنة النعيم ودار السعادة.

أزيدك أنّ قانون المحبة لو ساد بين البشر - كما يريده الدين بتعاليم الاخوّة - لانمحت من قاموس لغاتنا كلمة العدل؛ بمعنى إنّا لم نعد نحتاج إلى العدل وقوانينه حتى نحتاج إلى استعمال كلمته، بل كفانا قانون الحب لنشر الخير والسلام، والسعادة والهناء؛ لاَنّ الانسان لا يحتاج إلى استعمال العدل ولا يطلبه القانون منه إلاّ إذا فقد الحب فيمن يجب أن يعدل معه، أمّا فيمن يبادله الحب - كالولد والاَخ - إنّما يحسن إليه، ويتنازل له عن جملة من رغباته فبدافع من الحب والرغبة عن طيب خاطر، لا بدافع العدل والمصلحة.

وسرُّ ذلك أنّ الانسان لا يحب إلاّ نفسه وما يلائم نفسه، ويستحيل أن يحب شيئاً أو شخصاً خارجاً عن ذاته إلاّ إذا ارتبط به وانطبعت في نفسه منه صورة ملائمة مرغوبة لديه.

كما يستحيل أن يضحّي بمحض اختياره له، في رغباته ومحبوباته لاَجل شخص آخر لا يحبه ولا يرغب فيه، إلاّ إذا تكوَّنت عنده عقيدة أقوى من رغباته، مثل عقيدة حسن العدل والاحسان، وحينئذ إذ يضحي باحدى رغباته إنّما يضحي لاَجل رغبة أُخرى أقوى كعقيدته بالعدل - إذا حصلت - التي تكون جزء من رغباته، بل جزء من نفسه.

وهذه العقيدة المثالية لاَجل أن تتكوَّن في نفس الانسان تتطلَّب منه أن يسمو بروحه على الاعتبارات المادية؛ ليدرك المثل الاَعلى في العدل والاحسان إلى الغير، وذلك بعد أن يعجز أن يكوِّن في نفسه شعور الاَخوّة الصادق والعطف بينه وبين أبناء نوعه.

فأوّل درجات المسلم التي يجب أن يتّصف بها أن يحصل عنده

١٦٢

الشعور بالاُخوة مع الآخرين، فإذا عجز عنها - وهو عاجز على الاَكثر؛ لغلبة رغباته الكثيرة وأنانيته - فعليه أن يكوِّن في نفسه عقيدة في العدل والاحسان اتباعاً للارشادات الاسلامية، فإذا عجز عن ذلك فلا يستحق ان يكون مسلماً إلاّ بالاسم، وخرج عن ولاية الله، ولم يكن لله فيه نصيب على حد التعبير الآتي للامام.

والانسان - على الاَكثر - تطغى عليه شهواته العارمة، فيكون من أشق ما يعانيه أن يهيّىء نفسه لقبول عقيدة العدل، فضلاً عن أن يحصل عليها عقيدة كاملة تفوق بقوّتها على شهواته.

فلذلك كان القيام بحقوق الاَخوّة من أشق تعاليم الدين إذا لم يكن عند الانسان ذلك الشعور الصادق بالاَخوّة، ومن أجل هذا أشفق الاِمام أبو عبدالله الصادقعليه‌السلام أن يوضِّح لسائله - وهو أحد أصحابه (المعلّى بن خُنيس) - عن حقوق الاخوان أكثر ممّا ينبغي أن يوضّح له خشية أن يتعلَّم ما لا يستطيع أن يعمل به.

قال المعلّى: قلت له: ما حق المسلم على المسلم؟

قال أبو عبدالله: «له سبعة حقوق واجبات، ما منهنّ حق إلاّ وهو عليه واجب؛ إِن ضيَّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته، ولم يكن لله فيه نصيب».

قلت له: جعلت فداك! وما هي؟

قال: «يا معلّى، إنّي عليك شفيق؛ أخاف أن تضيّع ولا تحفظ، وتعلم ولا تعمل».

قلت: لا قوة إلاّ بالله.

وحينئذ ذكر الاِمام الحقوق السبعة بعد أن قال عن الاَوّل منها: «أيسر حقّ منها أن تحب له كما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك».

١٦٣

يا سبحان الله! هذا هو الحق اليسير، فكيف نجد - نحن المسلمين اليوم - يسر هذا الحق علينا؟ شاهت وجوه تدّعي الاسلام ولا تعمل بأيسر ما يفرضه من حقوق.

والاَعجب أن يلصق بالاسلام هذا التأخّر الذي أصاب المسلمين، وما الذنب إِلاّ ذنب من يُسمُّون أنفسهم بالمسلمين، ولا يعملون بأيسر ما يجب أن يعملوه من دينهم.

ولاَجل التأريخ فقط، ولنعرف أنفسنا وتقصيرها، أذكر هذه الحقوق السبعة التي أوضحها الامامعليه‌السلام :

١ - أن تحب لاَخيك المسلم ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك.

٢ - أن تجتنب سخطه، وتتّبع مرضاته، وتطيع أمره.

٣ - أن تعينه بنفسك، ومالك، ولسانك، ويدك، ورجلك.

٤ - أن تكون عينه، ودليله، ومرآته.

٥ - أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى.

٦ - أن يكون لك خادم وليس لاَخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك، فتغسل ثيابه، وتصنع طعامه، وتمهِّد فراشه.

٧ - أن تبرَّ قسمه، وتجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته. وإذا علمت له حاجة تبادره إلى قضائها، ولا تلجئه الى أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرة.

ثمّ ختم كلامهعليه‌السلام بقوله:

«فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته، وولايته بولايتك»(١) .

____________________

(١) الكافي: ٢/١٣٥ ح٢، وسائل الشيعة: ١٢/٢٠٥ ح٦٠٩٧. الخصال: ٢/٣٥٠ ح٢٦، مصادقة الاخوان: ١٤٣/٤، الاَمالي للطوسي:٩٨ ح١٤٩/٣.

١٦٤

وبمضمون هذا الحديث روايات مستفيضة عن أئمتنا، جمع قسماً كبيراً منها كتاب «الوسائل» في أبواب متفرّقة.

وقد يتوهّم المتوهِّم أنّ المقصود بالاُخوّة في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام خصوص الاخوّة بين المسلمين الذين من أتباعهم «شيعتهم خاصّة»، ولكن الرجوع إلى رواياتهم كلها يطرد هذا الوهم - وإن كانوا من جهة اُخرى يشدّدون النكير على من يخالف طريقتهم ولا يأخذ بهداهم - ويكفي أن تقرأ حديث معاوية بن وهب قال:

قلت له - أي الصادقعليه‌السلام -: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممّن ليسوا على أمرنا؟

فقال: «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم، فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنّهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدّون الاَمانة إليهم»(١) .

أمّا الاَخوّة التي يريدها الاَئمةعليهم‌السلام من أتباعهم فهي أرفع من هذه الاخوّة الاسلامية، وقد سمعت بعض الاَحاديث في فصل تعريف الشيعة، ويكفي أن تقرأ هذه المحاورة بين أبان بن تغلب وبين الصادقعليه‌السلام من حديث أبان نفسه.

قال أبان: كنت أطوف مع أبي عبدالله، فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجته، فأشار إليَّ، فرآنا أبو عبدالله.

قال: «يا ابان، إِيّاك يريد هذا؟».

قلت: نعم.

قال: «هو على مثل ما أنت عليه؟».

____________________

(١) الكافي: ٢/٤٦٤ ح٤، وسائل الشيعة: ١٢/٦ ح١٥٤٩٧.

١٦٥

قلت: نعم.

قال: «فاذهب إليه واقطع الطواف»

قلت: وإن كان طواف الفريضة؟!

قال: «نعم».

قال أبان: فذهبت، ثمّ دخلت عليه بعد، فسألته عن حق المؤمن، فقال: «دعه لا ترده».

فلم أزل أردَّ عليه حتى قال: «يا أبان، تقاسمه شطر مالك».

ثم نظر اليَّ - فرأى ما داخلني - فقال: «يا أبان، أما تعلم أنّ الله قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟».

قلت: بلى.

قال: «إذا أنت قاسمته فلم تؤثره؛ إِنّما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر»(١) .

أقول: إنّ واقعنا المخجل لا يطمعنا أن نسمِّي أنفسنا بالمؤمنين حقاً؛ فنحن بوادٍ وتعاليم أئمتناعليهم‌السلام في وادٍ آخر، وما داخل نفس أبان يداخل نفس كل قارئ لهذا الحديث، فيصرف بوجهه متناسياً له كأنّ المخاطب غيره، ولا يحاسب نفسه حساب رجل مسؤول.

____________________

(١) مصادقة الاخوان: ٣٨ ح٢، وسائل الشيعة: ١٢/٢٠٩ ح١٦١٠٦.

١٦٦

الفصل الخامس

عقيدتنا في البعث والمعاد

عقيدتنا في المعاد الجسماني

١٦٧

٤٣ - عقيدتنا في البعث والمعاد

نعتقد: أنّ الله تعالى يبعث الناس بعد الموت في خلق جديد في اليوم الموعود به عباده، فيثيب المطيعين، ويعذِّب العاصين.

وهذا أمر على جملته وما عليه من البساطة في العقيدة اتّفقت عليه الشرائع السماوية والفلاسفة، ولا محيص للمسلم من الاعتراف به عقيدة قرآنية جاء بها نبينا الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم؛ فإنّ من يعتقد بالله اعتقاداً قاطعاً، ويعتقد كذلك بمحمَّد رسولاً منه أرسله بالهدى ودين الحق، لا بدَّ أن يؤمن بما أخبر به القرآن الكريم من البعث، والثواب والعقاب، والجنة والنعيم، والنار والجحيم، وقد صرَّح القرآن بذلك، ولمَّح إليه بما يقرب من ألف آية كريمة.

وإذا تطرَّق الشك في ذلك إلى شخص فليس إلاّ لشك يخالجه في صاحب الرسالة، أو وجود خالق الكائنات أو قدرته، بل ليس إلاّ لشك يعتريه في اصل الاَديان كلّها، وفي صحّة الشرائع جميعها.

١٦٨

٤٤ - عقيدتنا في المعاد الجسماني

وبعد هذا، فالمعاد الجسماني - بالخصوص - ضرورة من ضروريات الدين الاسلامي، دلَّ صريح القرآن الكريم عليها( أَيَحْسَبُ الاِنس-نُ ألَّن نَّجمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى ق-دِرينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانُه ) (١) .

( وَإن تَعجَبْ فَعَجَبٌ قَولُهُم أَإذا كُنّا تُراباً أَءِنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (٢) .

( أَفَعَيِينَا بِالخَلقِ الاَوَّلِ بَلْ هُمْ في لَبسٍ من خَلقٍ جَدِيدٍ ) (٣) .

وما المعاد الجسماني - على إجماله - إلاّ اعادة الانسان في يوم البعث والنشور ببدنه بعد الخراب، وإرجاعه إلى هيئته الاولى بعد أن يصبح رميماً.

ولا يجب الاعتقاد في تفصيلات المعاد الجسماني أكثر من هذه العقيدة على بساطتها التي نادى بها القرآن، وأكثر ممّا يتبعها من الحساب والصراط، والميزان والجنة النار، والثواب والعقاب بمقدار ما جاءت به التفصيلات القرآنية.

(ولا تجب المعرفة على التحقيق التي لا يصلها إلاّ صاحب النظر الدقيق، كالعلم بأنّ الاَبدان هل تعود بذواتها أو إنّما يعود ما يماثلها بهيئات؟ وأنّ الاَرواح هل تعدم كالاَجساد أو تبقى مستمرّة حتى تتّصل بالاَبدان عند المعاد؟ وأنّ المعاد هل يختص بالانسان أو يجري على كافّة ضروب الحيوان؟ وأنّ عودها بحكم الله دفعي أو تدريجي؟

____________________

(١) القيامة ٧٥: ٣ - ٤.

(٢) الرعد ١٣: ٥.

(٣) ق ٥٠: ١٥.

١٦٩

وإذا لزم الاعتقاد بالجنة والنار لا تلزم معرفة وجودهما الآن، ولا العلم بأنّهما في السماء أو الاَرض، أو يختلفان.

وكذا إذا وجبت معرفة الميزان لا تجب معرفة أنّها ميزان معنوية، أو لها كفّتان.

ولا تلزم معرفة أنّ الصراط جسم دقيق، أو هو الاستقامة المعنوية.

والغرض أنّه لا يشترط في تحقيق الاسلام معرفة أنّها من الاجسام...)(١) .

نعم، إنّ تلك العقيدة في البعث والمعاد على بساطتها هي التي جاء بها الدين الاسلامي، فاذا أراد الانسان أن يتجاوزها إلى تفصيلها بأكثر ممّا جاء في القرآن ليقنع نفسه دفعاً للشبه - التي يثيرها الباحثون والمشككون بالتماس البرهان العقلي أو التجربة الحسية - فانّه إنّما يجني على نفسه، ويقع في مشكلات ومنازعات لا نهاية لها.

وليس في الدين ما يدعو إلى مثل هذه التفصيلات التي حشدت بها كتب المتكلِّمين والمتفلسفين، ولا ضرورة دينية ولا اجتماعية ولا سياسية تدعو إلى أمثال هاتيك المشاحنات والمقالات المشحونة بها الكتب عبثاً، والتي استنفدت كثيراً من جهود المجادلين وأوقاتهم وتفكيرهم بلا فائدة.

والشبه والشكوك التي تُثار حول تلك التفصيلات يكفي في ردّها قناعتنا بقصور الانسان عن إدراك هذه الاُمور الغائبة عنّا، والخارجة عن أفقنا ومحيط وجودنا، والمرتفعة فوق مستوانا الاَرضي، مع علمنا بأنّ الله تعالى العالم القادر أخبرنا عن تحقيق المعاد ووقوع البعث.

وعلوم الانسان وتجريباته وأبحاثه يستحيل أن تتناول شيئاً لا يعرفه ولا

____________________

(١) مقتبس من كتاب كشف الغطاء: ٥ للشيخ الكبير كاشف الغطاء.

١٧٠

يقع تحت تجربته واختباره إلاّ بعد موته وانتقاله من هذا العالم عالم الحس والتجربة والبحث، فكيف ينتظر منه أن يحكم باستقلال تفكيره وتجربته بنفي هذا الشيء أو إثباته؟ فضلاً عن أن يتناول تفاصيله وخصوصياته، إلاّ إذا اعتمد على التكهّن والتخمين، أو على الاستبعاد والاستغراب، كما هو من طبيعة خيال الانسان أن يستغرب كل ما لم يألفه ولم يتناوله علمه وحسّه، كالقائل المندفع بجهله لاستغراب البعث والمعاد( مَن يُحيي العِظَ-مَ وَهَيَ رَميمٌ ) (١) .

ولا سند لهذا الاستغراب إلاّ إنّه لم يرَ ميتاً رميماً قد اُعيدت له الحياة من جديد، ولكنّه ينسى هذا المستغرب كيف خُلقت ذاته لاَول مرة، ولقد كان عدماً، وأجزاء بدنه رميماً تألّفت من الاَرض وما حملت، ومن الفضاء وما حوى، من هنا وهنا، حتى صار بشراً سوياً ذا عقل وبيان( أَوَ لَمْ يَرَ الاِنس-نُ أَنَّا خلقنه مِن نُطفَةٍ فَإذَا هُو خَصِيمٌ مُبينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسي خَلقَهُ ) (٢) .

يقال لمثل هذا القائل الذي نسي خلق نفسه:( يُحييِها الَّذِي أَنشَأَهَا أَوّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِ خَلقٍ عَليمٌ ) (٣) .

يقال له: إنّك بعد أن تعترف بخالق الكائنات وقدرته، وتعترف بالرسول وما أخبر به، مع قصور علمك حتى عن إدراك سرَّ خلق ذاتك وسر تكوينك، وكيف كان نموّك وانتقالك من نطفة لا شعور لها ولا إرادة ولا عقل إلى مراحل متصاعدة مؤتلفاً من ذرات متباعدة؛ لتبلغ بشراً سوياً عاقلاً مدبّراً

____________________

(١) يس ٣٦: ٧٨.

(٢) يس ٣٦: ٧٧ - ٧٨.

(٣) يس ٣٦: ٧٩.

١٧١

ذا شعور وأحساس(١)

يقال له: بعد هذا كيف تستغرب أن تعود لك الحياة من جديد بعد أن تصبح رميماً، وأنت بذلك تحاول أن تتطاول إلى معرفة ما لا قِبل لتجاربك وعلومك بكشفه؟

يقال له: لا سبيل حينئذ إلاّ أن تذعن صاغراً للاعتراف بهذه الحقيقة التي أخبر عنها مدبّر الكائنات العالم القدير، وخالقك من العدم والرميم.

وكلّ محاولة لكشف ما لا يمكن كشفه، ولا يتناوله علمك فهي محاولة باطلة، وضرب في التيه، وفتح للعيون في الظلام الحالك.

إنّ الانسان مع ما بلغ من معرفة في هذه السنين الاَخيرة، فاكتشف الكهرباء والرادار واستخدم الذرّة، إلى أمثال هذه الاكتشافات التي لو حُدِّث عنها في السنين الخوالي لعدَّها من أوّل المستحيلات، ومن مواضع التندّر والسخرية. إنّه مع كل ذلك لم يستطع كشف حقيقة الكهرباء ولا سر الذرّة، بل حتى حقيقة احدى خواصهما وأحد أوصافهما، فكيف يطمع أن يعرف سر الخلقة والتكوين، ثم يترقّى فيريد أن يعرف سرَّ المعاد والبعث.

نعم، ينبغي للانسان بعد الايمان بالاسلام أن يتجنَّب عن متابعة الهوى، وأن يشتغل فيما يصلح أمر آخرته ودنياه، وفيما يرفع قدره عند الله، وأن يتفكَّر فيما يستعين به على نفسه، وفيما يستقبله بعد الموت من شدائد القبر والحساب بعد الحضور بين يدي الملك العلاّم، وأن يتّقي( يوماً لا

____________________

(١) فقد قال تعالى:( وَلَقَدْ خَلَقْنا الاِنسَ-نَ مِنْ سُلَلَةٍ مِنْ طِينِ * ثُمَّ جَعَلْنهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكين * ثُمَّ خَلَقْنا الْنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا الْمُضْغَةَ عِظَماً فَكَسَوْنَا العِظَمَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأنهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَباركَ اللهُ أَحْسَنُ الْخلِقِينَ ) المؤمنون ٢٣: ١٢ - ١٤.

١٧٢

تَجزي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيئاً وَلا يُقبَلُ مِنها شَفعةٌ وَلا يُؤخَذُ مِنها عَدْلٌ ولا هُمْ يُنصَرون ) (١) ؟

١٧٣

الفهرس

تصدير ٦

١ - عقيدتنا في النظر والمعرفة ٩

٢ - عقيدتنا في التقليد بالفروع ١٢

٣ - عقيدتنا في الاجتهاد ١٤

٤ - عقيدتنا في المجتهد ١٧

الفصل الاَول الاِلهيات ٢٠

٥ - عقيدتنا في الله تعالى ٢١

٦ - عقيدتنا في التوحيد ٢٥

٧ - عقيدتنا في صفاته تعالى ٣١

٨ - عقيدتنا في العدل ٣٥

٩ - عقيدتنا في التكليف ٣٨

١٠ - عقيدتنا في القضاء والقدر ٤١

١١ - عقيدتنا في البداء ٤٦

١٢ - عقيدتنا في أحكام الدين ٤٩

الفصل الثاني النبوّة ٥١

١٣ - عقيدتنا في النبوّة ٥٢

١٤ - النبوّة لطف ٥٤

١٥ - عقيدتنا في معجزة الأنبياء ٥٧

١٦ - عقيدتنا في عصمة الأنبياء ٦٠

١٧ - عقيدتنا في صفات النبي ٦٣

١٧٤

١٨ - عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم ٦٤

١٩ - عقيدتنا في الاِسلام ٦٨

٢٠ - عقيدتنا في مشرِّع الاِسلام ٧٢

٢١ - عقيدتنا في القرآن الكريم ٧٣

٢٢ - طريقة إثبات الإسلام والشرائع السابقة ٧٥

الفصل الثالث الامامة ٧٩

٢٣ - عقيدتنا في الاِمامة ٨٠

٢٤ - عقيدتنا في عصمة الإمام ٨٤

٢٥ - عقيدتنا في صفات الاِمام وعلمه ٨٥

٢٦ - عقيدتنا في طاعة الاَئمّة ٨٨

٢٧ - عقيدتنا في حبّ آل البيت ٩٤

٢٨ - عقيدتنا في الاَئمّة ٩٦

٢٩ - عقيدتنا في أنّ الاِمامة بالنص ٩٨

٣٠ - عقيدتنا في عدد الاَئمّة ١٠١

٣١ - عقيدتنا في المهديّ ١٠٣

٣٢ - عقيدتنا في الرجعة ١٠٩

٣٣ - عقيدتنا في التقيّة ١١٤

الفصل الرابع ما أدّب به آل البيت شيعتهم ١١٨

تمهيد: ١١٩

٣٤ - عقيدتنا في الدعاء ١٢٠

٣٥ - أدعية الصحيفة السجّادية ١٢٧

٣٦ - عقيدتنا في زيارة القبور ١٣٦

٣٧ - عقيدتنا في معنى التشيُّع عند آل البيت ١٤٢

٣٨ - عقيدتنا في الجور والظلم ١٤٦

١٧٥

٣٩ - عقيدتنا في التعاون مع الظالمين ١٤٩

٤٠ - عقيدتنا في الوظيفة في الدولة الظالمة ١٥٢

٤١ - عقيدتنا في الدعوة إلى الوحدة الاِسلامية ١٥٤

٤٢ - عقيدتنا في حقِّ المسلم على المسلم ١٦١

الفصل الخامس ١٦٧

٤٣ - عقيدتنا في البعث والمعاد ١٦٨

٤٤ - عقيدتنا في المعاد الجسماني ١٦٩

الفهرس ١٧٤

١٧٦