بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة13%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597

  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45434 / تحميل: 5277
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

منكما ١ . قلت و رواه الطبري و روى ما بعده ٢ .

قال : و روى المحدثون أيضا أنّ المسلمين سمعوا ذلك اليوم صائحا من جهة السماء ينادي : « لا سيف إلاّ ذو الفقار ، و لا فتى إلاّ علي » فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمن حضره : ألا تسمعون ؟ هذا صوت جبريل .

قال : و أما يوم حنين . فثبت معه في نفر يسير من بني هاشم بعد أن ولّى المسلمون الأدبار ، و حامى عنه ، و قتل قوما من هوازن بين يديه ، حتى ثابت إليه الأنصار ، و انهزمت هوازن ، و غنمت أموالها ، و أما يوم خيبر فقصّته مشهورة ، الخ ٣ .

قلت : لم خصّ تلك المواطن باحد و حنين و خيبر ؟ و لم لم يذكر يوم الأحزاب ، يوم عمرو بن عبد ود ، و قد كان الفتح في جميع غزوات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على يده ، و تقدم الكلام فيها في الأوّل عند قوله عليه السلام : « أما و اللّه إن كنت لفي ساقتها حتّى ولّت بحذافيرها ما ضعفت و لا جبنت » ٤ و لم تكن مواساته عليه السلام مختصة بغزواته . لم لم يذكر ليلة المبيت ، و قد ذكر الثعلبي منهم في قوله تعالى : و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه ٥ أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا أراد الهجرة خلّف عليا عليه السلام بمكّة لقضاء ديونه و ردّ الودايع الّتي كانت عنده ، و أمره ليلة خرج إلى الغار ، و قد أحاط المشركون بالدار ، أن ينام على فراشه . ففعل فأوحى عزّ و جلّ إلى جبرئيل و ميكائيل : إنّي قد آخيت بينكما ،

و جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر . فأيّكم يؤثر صاحبه بالحياة ،

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤٢ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٢ : ١٩٧ سنة ٣ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

( ٤ ) مر في عنوان ٢ من هذا الفصل .

( ٥ ) البقرة : ٢٠٧ .

١٠١

فاختار كلاهما الحياة ، فأوحى إليهما : ألاّ كنتما مثل علي آخيت بينه و بين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ، و يؤثره بالحياة ، فاهبطا إلى الارض .

فاحفظاه من عدوه ، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه ، و ميكائيل عند رجليه ، فقال جبرئيل : بخ بخ . من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي اللّه بك الملائكة . فأنزل اللّه تعالى على رسوله ، و هو متوجّه إلى المدينة في شأن علي عليه السلام و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه ١ و لم لم يذكر يوم البراءة .

« نجدة أكرمني اللّه بها » أي : شجاعة . جعله ( ابن أبي الحديد ) مفعولا مطلقا حذف عامله ٢ ، و جعله « خو » مفعولا له لقوله « و لقد واسيته » ٣ ، و الصواب :

كونه خبرا ، أي : تلك المواساة نجدة أكرمني اللّه بها .

رووا أنّه قيل لخلف الأحمر : أيّهما أشجع عنبسة و بسطام أم علي ؟ فقال :

إنّما يذكران مع البشر لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة . فقيل له : فعلى كل حال .

فقال : و اللّه لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما ٤ .

« و لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّ رأسه لعلى صدري » قال الطبري : ان عليا عليه السلام كان يغسّله ، قد أسنده إلى صدره ، و عليه قميصه يدلكه من ورائه ٥ .

و في ( الإرشاد ) : و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا قرب خروج نفسه قال له : ضع يا علي رأسي في حجرك ، فقد جاء أمر اللّه تعالى . فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك ،

و امسح بها وجهك ثم وجّهني ، و تولّ امري ، و صلّ علي أوّل الناس ، و لا تفارقني حتّى تواريني في رمسي ، و استعن باللّه تعالى . فأخذ علي عليه السلام رأسه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عن الثعلبي ابن طاووس في الطرائف ١ : ٣٧ ، ح ٢٧ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤٢ .

( ٣ ) شرح الخوئي ٦ : ٤٤ .

( ٤ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ٥٥ ، شرح الكتاب ٣٥ .

( ٥ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٥١ سنة ١١ .

١٠٢

في حجره فاغمي عليه فأكبّت فاطمة عليها السلام تنظر في وجهه و تندبه و تبكي و تقول :

و أبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ففتح النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عينه و قال بصوت ضئيل : يا بنية هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه ، و لكن قولي : و ما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ١ فبكت طويلا فأومأ إليها بالدنو منه ،

فدنت منه فأسرّ إليها شيئا تهلّل وجهها له ٢ .

و روى أحمد بن حنبل في ( فضائله ) عن ام سلمة قالت : و الّذي أحلف به إن كان علي لأقرب الناس عهدا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعثه في حاجة غداة قبض فكان يقول : أجاء علي ثلاث مرّات فجاء علي قبل طلوع الشمس فخرجنا من البيت لمّا عرفنا أنّ له إليه حاجة . فأكبّ عليه علي عليه السلام فكان آخر الناس به عهدا و جعل يسارّه و يناجيه ٣ .

و عن الطبري في ( الولاية ) و الدار قطني في ( الصحيح ) ، و السمعاني في ( فضائله ) عن عائشة قالت : قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو في بيتها : ادعوا لي حبيبي .

فدعوت له أبا بكر فنظر إليه ثم وضع رأسه . ثم قال : ادعوا لي حبيبي . فدعوا له عمر . فلمّا نظر إليه قال : ادعوا لي حبيبي . فقلت : ويلكم ادعوا له عليّا . فو اللّه ما يريد غيره . فلمّا رآه أفرج الثوب الّذي كان عليه ثم أدخله فيه ، و لم يزل يحتضنه حتّى قبض و يده عليه ٤ .

و روى أحمد بن حنبل في ( مسنده ) عن ابن عباس قال : لمّا مرض

ــــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ١٤٤ .

( ٢ ) الارشاد : ١٠٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) أخرجه أحمد في مسنده ٦ : ٣٠٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٤ ) رواه عنهم السروي في مناقبه ١ : ٢٣٦ .

١٠٣

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مرضه الّذي مات فيه قال : ادعوا عليّا . قالت عائشة : ندعو لك أبا بكر و قالت حفصة : ندعو لك عمر . و قالت امّ الفضل ، ندعو لك العبّاس . فلمّا اجتمعوا رفع رأسه فلم ير عليّا صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، فسكت فقال عمر : قوموا عن رسول اللّه ١ .

و روى كاتب الواقدي في ( طبقاته ) عن أبي غطفان قال : سألت ابن عباس أرأيت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم توفّي و رأسه في حجر أحد ؟ قال : توفّي و هو لمستند إلى صدر علي عليه السلام . قلت : فإنّ عروة حدّثني عن عايشة أنّها قالت توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بين سحري و نحري . فقال ابن عباس : أتعقل ؟ و اللّه لتوفي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أنّه لمستند إلى صدر علي عليه السلام و هو الّذي غسّله ، و أخي الفضل ،

و أبى أبي أن يحضر ، و قال : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم كان يأمرنا أن نستتر فكان عند الستر ٢ .

و من المضحك أنّ عائشة خطبت يوم الجمل كما في ( بلاغات أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) فقالت : قبض النبي بين سحري و نحري ، و أنا إحدى نسائه في الجنّة له ادّخرنى ربي ، و حصتى من كل بضع ، و بي ميّز مؤمنكم من منافقكم ٣ فقولها : « قبض النبي بين سحري و نحري » كقولها : « بي ميّز مؤمنكم من منافقكم » و على قولها يكون اللّه منافقا حيث لم يرض خروجها و قال لها و قرن في بيوتكن و لا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاولى ٤ فضلا عن جبرئيل و أمير المؤمنين عليهما السلام حيث قال تعالى أيضا و لصاحبتها : و ان

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنهم السروي في مناقبه ١ : ٢٣٦ .

( ٢ ) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ : ٥١ .

( ٣ ) بلاغات النساء : ١٢ .

( ٤ ) الاحزاب : ٣٣ .

١٠٤

تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين ١ و لزم أن يكون مروان بن الحكم مؤمنا حيث ساعدها في الجمل .

قال ابن أبي الحديد : قالت الشيعة : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم توفي لليلتين بقيتا من صفر و الأكثرون أنّه في شهر ربيع الأوّل بعد مضي أيّام منه ٢ .

قلت : ما نسبه إلى الشيعة إنّما هو قول بعضهم ، المفيد و الطوسي و ذهب الكليني في ( كافيه ) : إلى كونه في الثاني عشر من ربيع الأول ، و في ( إثبات الوصيّة ) أيضا : انّه في ربيع الأول ٣ .

« و لقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي » روى ابن المغازلي في ( مناقبه ) : أنّ عائشة سئلت : من كان أحبّ الناس إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ فقالت :

فاطمة . فقيل لها : من الرجال ؟ قالت : زوجها و ما يمنعه منه ، و اللّه إنّه كان صوّاما قوّاما ، و لقد سالت نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في يده فردّها إلى فيه ٤ .

و اختلاف قولها هذا مع قولها يوم الجمل المتقدم محمول على اختلاف المقامات في سخطها و رضاها ، و أيضا قد يجري اللّه الحق على لسان أهل الباطل فيقرّون بها إتماما للحجّة . و مر خبر كاتب الواقدي في تكذيب ابن عباس لها في قولها الأوّل .

ثم اختلف في المراد من سيلان نفسه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فالمفهوم من ابن أبي الحديد و ابن ميثم كون المراد به سيلان الدم من قولهم « ذو نفس سائلة » فقالا : « يقال انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قاء دما يسيرا وقت موته ، و أنّ عليا عليه السلام مسح بذلك الدم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) التحريم : ٤ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤٣ .

( ٣ ) قاله المفيد في الارشاد : ١٠١ ، و في تاريخه : ٦٣ ، و الطوسي في التهذيب ٦ : ٢ ، و أيضا الراوندي في قصص الأنبياء ، و عنه : البحار ٢٢ : ٥١٤ و قال القول الثاني : الكليني في الكافي ١ : ٤٣٩ ، و المسعودي في إثبات الوصية : ١٠٦ .

( ٤ ) رواه عن مناقب ابن المغازلي ابن طاووس في الطرائف ١ : ١٥٧ ح ٢٤٤ ، لكن لم يوجد في النسخة المطبوعة .

١٠٥

وجهه » ١ و المفهوم من المفيد كون المراد به خروج روحه . ففي ( إرشاده ) :

قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و يد امير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها فرفعها الى وجهه فمسحه بها ، فعبر بفيضان نفسه ٢ .

و في ( الصحاح ) : « فاضت نفسه » أي : خرجت روحه . قال أبو عبيدة و الفراء : هي لغة في تميم ، و نقل عن الأصعمي عن أبي عمرو بن العلاء انّه قال بدل « فاضت نفسه » « فاظت نفسه » ٣ .

فإن قيل : فما المراد ؟ قلت : يمكن أن يكون المراد إمرار الكف الّتي تأثرت من خروج الروح فيها على الوجه .

« و لقد ولّيت غسله و الملائكة أعواني » روى كاتب الواقدي في ( طبقاته ) مسندا عن يزيد بن بلال قال : قال علي عليه السلام : أوصى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن لا يغسّله أحد غيري ، فإنّه لا يرى أحد عورتي إلاّ طمست عيناه . قال علي عليه السلام : فكان الفضل و اسامة يناولاني الماء من وراء الستر و هما معصوبا العين . قال علي عليه السلام : فما تناولت عضوا إلاّ كانّما يقلّبه معي ثلاثون رجلا حتّى فرغت من غسله ٤ .

قال ابن أبي الحديد : الغسل تولاّه علي عليه السلام بيده ، و كان الفضل بن العباس يصبّ عليه الماء ، و يروي الشيعة أنّ عليّا عليه السلام عصب عيني الفضل حين صبّ عليه الماء ، و أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أوصاه بذلك ، و قال له : إنّه لا يبصر عورتي أحد غيرك إلاّ عمي ٥ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤٢ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٤٤١ .

( ٢ ) الارشاد : ١٠٠ .

( ٣ ) صحاح اللغة ٣ : ١٠٩٩ و ١١٧٧ ، مادة ( فيض و فيظ ) .

( ٤ ) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ : ٦١ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤٣ ، و النقل بتلخيص .

١٠٦
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الرابع الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

قلت : لم يختص بذلك الشيعة . فقد عرفت رواية كاتب الواقدي له ، و هو من نصّاب العامة ، و نقل عن ابن بطة و ابن المغازلي و هما أيضا من العامة روايتهما لذلك ١ و قال الحميري مشيرا إلى ذلك :

هذا الّذي ولّيته عورتي و لو

رأى عورتي سواه عمي

و مرّ خبر ابن عباس خوف أبيه من حضور غسله صلّى اللّه عليه و آله و سلم لذلك .

و في ( تاريخ اليعقوبي ) : كان بعض نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أتين فاطمة عليها السلام في مرضها فقلن : يا بنت رسول اللّه صيّري لنا في حضور غسلك حظّا . قالت :

أتردن تقلن فيّ كما قلتن في أبي ؟ لا حاجة لي في حضوركن ٢ .

« فضجت الدار و الأفنية » جمع الفناء ، و فناء الدار ما امتد من جوانبها .

« ملأ يهبط و ملأ يعرج » قال الخوئي : روى ( البحار ) من ( البصائر ) عن أحمد بن محمّد عن القاسم بن يحيى ، عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام :

لمّا قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم هبط جبرئيل عليه السلام و معه الملائكة و الروح الّذين كانوا يهبطون في ليلة القدر . ففتح لأمير المؤمنين عليه السلام بصره . فرآهم في منتهى السماوات إلى الأرض يغسّلون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم معه ، و يصلّون عليه معه و يحفرون له ، و اللّه ما حفر له غيرهم حتّى إذا وضع في قبره نزلوا مع من نزل فوضعوه ٣ .

قلت : الخبر ليس بالسند الّذي ذكر . ففي « باب ما يلقى إليهم عليهم السلام في ليلة القدر » من ( البصائر ) روى أوّلا خبرا بذلك السند . ثم روى خبرا عن أحمد بن

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه ابن المغازلي في مناقبه : ٩٣ ح ١٣٧ ، و أيضا الديلمي في الفردوس و عنه كنوز الحقائق ٢ : ١٧٥ ، و أما ابن بطة فلم يروه بل نقل السروي في مناقبه ١ : ٢٣٩ حديثا آخر عن أبانة ابن بطة ثم قال « و روي » فذكر هذا الحديث و الظاهر أن قوله « روي » بلفظ المجهول .

( ٢ ) رواه اليعقوبي في تاريخه ٢ : ١١٥ و النقل بتلخيص و فيه « كما قلتن في امّي » .

( ٣ ) شرح الخوئي ٦ : ٥٨ .

١٠٧

الحسن ، عن أحمد بن محمّد ، عن العباس بن حريش عن الجواد عليه السلام ثم قال « و بهذا الاسناد » و روى هذا الخبر ١ ، و هو كما ترى إشارة إلى الخبر الأخير لا الأوّل .

« و ما فارقت سمعي هينمة » أي : صوت خفي .

« منهم يصلّون عليه » روى ( الكافي ) عن أمير المؤمنين عليه السلام سمعت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في صحته و سلامته يقول : إنما انزلت آية : إنّ اللّه و ملائكته يصلّون على النبي ، يا أيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما ٢ في الصلاة علي بعد قبض اللّه تعالى لي ٣ .

و في ( كامل الجزري ) : قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : ضعوني على سريري على شفير قبري . ثم اخرجوا عنّي ساعة ليصلّي علي جبرئيل و إسرافيل و ميكائيل و ملك الموت مع الملائكة ٤ .

و رواه الطبري عن ابن مسعود و زاد « قال : قلنا فمن يدخلك في قبرك يا نبيّ اللّه ؟ قال : أهلي مع ملائكة كثيرين يرونكم من حيث لا ترونهم » ٥ .

و قال ابن أبي الحديد : و صلّوا عليه إرسالا لا يؤمّهم أحد ، و قيل : إنّ عليّا عليه السلام أشار بذلك فقبلوه . و أنا أعجب من ذلك لأنّ الصلاة عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلم كانت بعد بيعة أبي بكر فما الّذي منع من أن يتقدّم أبو بكر فيصلّي عليه إماما ٦ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) يوجد الحديث بهذا السند في البصائر : ٢٤٥ ح ١٧ ، كما رواه المجلسي و الخوئي و أمّا الحديث الثاني فهو قبل الحديث الاول في البصائر : ٢٦٢ و ٢٦٣ ح ١٢ و ١٤ ، بمتنين ، سند أحدهما أحمد بن محمّد عن الحسن بن العباس بن حريش ، و الآخر الحسن بن أحمد بن محمّد عن أبيه عن الحسن بن العباس بن حريش .

( ٢ ) الاحزاب : ٥٦ .

( ٣ ) الكافي ١ : ٤٥١ ح ٣٨ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٤ ) رواه ابن الاثير في الكامل ٢ : ٣٢٠ ، سنة ١١ ، و ايضا الطبري في تاريخه ٢ : ٤٣٥ ، سنة ١١ .

( ٥ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٣٦ ، سنة ١١ .

( ٦ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤٣ .

١٠٨

قلت : كيف يصلّي عليه إماما ، و قد أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بصلاتهم عليه إرسالا قد رووا أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم سئل عمّن يصّلى عليه . فقال : « إذا غسّلتموني ،

و كفّنتموني ، فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري . ثم اخرجوا عنّي ساعة . فإنّ أوّل من يصلّي علي جليسي و حبيبي و خليلي جبرائيل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة . ثم ادخلوا علي فوجا فوجا فصلّوا علي و سلّموا إلى أن قال و ليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم بعد » و قد نقل الخبر ابن أبي الحديد نفسه في موضع آخر ١ .

و مع ذلك فعجبه في محله فحيث تخلف أبو بكر عن جيش اسامة و لم يقنع بذلك و تقدم إلى الصلاة في مكان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتّى يجعل ذلك وسيلة لتصديه الأمر حتّى خرج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مع شدّة مرضه و عدم قدرته على المشي مستقلا و أخّره ، كيف لم يصلّ عليه بعد بيعتهم له ؟ إلاّ أنّه يرفع العجب أنّه كان نال غرضه حينئذ ، و لم يبال بالصلاة عليه بعد ، و لئلاّ يطعن بمخالفته في ذلك أيضا .

و روى ( الكافي ) في باب مولد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن الباقر عليه السلام قال : لمّا قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بات آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم بأطول ليلة حتّى ظنّوا أن لا سماء تظلّهم ،

و لا أرض تقلّهم لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و تر الأقربين و الأبعدين في اللّه . فبينما هم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه و يسمعون كلامه . فقال : « السلام عليكم أهل البيت و رحمة اللّه و بركاته . إنّ في اللّه عزاء من كلّ مصيبة ، و نجاة من كلّ هلكة ،

و دركا لما فات كلّ نفس ذائقة الموت ، و إنّما توفّون اجوركم يوم القيامة ،

فمن زحزح عن النار ، و ادخل الجنّة فقد فاز ، و ما الحياة الدنيا إلاّ متاع

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٩٠ ، شرح الخطبة ٢٣٣ .

١٠٩

الغرور ١ انّ اللّه اختاركم و فضّلكم و طهّركم ، و جعلكم أهل بيت نبيّه ،

و استودعكم علمه ، و اورثكم كتابه ، و جعلكم تابوت علمه ، و عصا عزّة ،

و ضرب لكم مثلا من نوره ، و عصمكم من الزلل ، و آمنكم من الفتن ، فتعزّوا بعزاء اللّه فإنّ اللّه لم ينزع منكم رحمته ، و لن يزيل عنكم نعمته ، فأنتم أهل اللّه عزّ و جلّ الّذين بهم تمّت النعمة إلى أن قال :

و قد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أكمل لكم الدين ، و بيّن لكم سبيل المخرج .

فلم يترك لجاهل حجّة ، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسى فعلى اللّه حسابه ، و اللّه من وراء حوائجكم ، و أستودعكم اللّه ، و السلام عليكم » .

و سئل أبو جعفر عليه السلام ممّن أتاهم التعزية فقال : من اللّه تبارك و تعالى ٢ .

« حتى واريناه في ضريحه » في مسند أحمد بن حنبل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : لقد أعطيت في علي خمس خصال هي أحبّ إلىّ من الدنيا و ما فيها إلى أن قال :

و أمّا الرابعة : فساتر عورتي ، و مسلّمي إلى ربي ٣ .

و في ( الإرشاد ) : دخل أمير المؤمنين عليه السلام و العبّاس ، و ابنه الفضل ،

و اسامة بن زيد ليتولّوا دفن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فنادت الأنصار من وراء البيت : يا علي انّا نذكرك اللّه ، و حقنا اليوم من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن يذهب ، أدخل منّا رجلا يكون لنا به حظّ من مواراة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال عليه السلام : ليدخل أوس بن خولي و كان بدريا فاضلا من بني عوف من الخزرج فلمّا دخل قال عليه السلام له : إنزل القبر . فنزل ، و وضع عليه السلام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم على يديه ، و ولاّه في حفرته ، فلمّا حصل

ــــــــــــــــــ

( ١ ) آل عمران : ١٨٥ .

( ٢ ) اخرجه الكليني في الكافي ١ : ٤٤٥ ح ١٩ .

( ٣ ) رواه عن مسند أحمد ، ابن طاووس في الطرائف ١ : ١٥٧ ح ٢٤٦ ، و عن فضائل أحمد ، ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ٤٣١ ، شرح الخطبة ١٥٢ ، لكن لم يوجد في نسختنا من مسند أحمد .

١١٠

في الأرض قال عليه السلام له : اخرج فخرج ، و نزل عليه السلام القبر فكشف عن وجه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و وضع خده على الأرض موجّها إلى القبلة على يمينه . ثم وضع عليه اللبن ، و أهال عليه التراب ١ .

و روى ابن أبي الحديد عند عنوان و من كلام له عليه السلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عنهم قريبا منه و قال : من تأمل هذه الأخبار علم ان عليا عليه السلام كان الاصل و الجملة و التفصيل في أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و جهازه . ألا ترى أنّ أوس بن خولي لا يخاطب أحدا من الجماعة غيره ، و لا يسأل غيره في حضور الغسل و النزول في القبر . قال : ثم انظر إلى كرم علي عليه السلام و سجاحة أخلاقه ،

و طهارة شيمته كيف لم يضنّ بمثل هذه المقامات الشريفة عن أوس ، و هو رجل غريب من الأنصار . فعرف له حقه ، و اطلبه بما طلبه فكم بين هذه السجيّة الشريفة و قول من قال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلاّ نساؤه ، و لو كان في ذلك المقام غيره من اولي الطباع الخشنة ،

و أرباب الفظاظة و الغلظة و قد سأل أوس ذلك ، لزجر و انتهر ، و رجع خائبا ٢ .

قلت : هل تستوي الظلمات و النور .

و قال ابن أبي الحديد أيضا : ثمّه نقلا عن الطبري روايته عن ابن مسعود في خبر بعد ذكر الغسل و الصلاة « قلنا فمن يدخلك قبرك يا رسول اللّه ؟ قال :

أهلي مع ملائكة كثيرة يرونكم و لا ترونهم » .

و قال ابن أبي الحديد : العجب لهم كيف لم يقولوا له في تلك الساعة « فمن يلي امورنا بعدك » لأنّ ولاية الأمر أهمّ من السؤال عن الدفن و عن كيفية الصلاة عليه ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الارشاد ١٠١ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٩٣ ، شرح الخطبة ٢٣٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٩٠ ، شرح الخطبة ٢٣٣ ، و ما نقله عن تاريخ الطبري فهو فيه ٢ : ٤٣٦ ، سنة ١١ .

١١١

قلت : بل عيّن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبل من يلي امورهم في حجّة وداعه في صحته ، و أراد تجديده و تأكيده ذاك الوقت في مرضه فمنعه فاروقهم ، و قد نقل ابن أبي الحديد نفسه عن الطبري عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عباس يقول : يوم الخميس و ما يوم الخميس ثم يبكي حتى تبل دموعه الحصباء .

فقلنا له و ما يوم الخميس ؟ قال : يوم اشتدّ بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم وجعه فقال : إئتوني باللوح و الدواة أو قال بالكتف و الدواة أكتب لكم ما لا تضلّون بعدي ،

فتنازعوا . فقال : « اخرجوا عنّي ، و لا ينبغي عند نبي ان يتنازع » قالوا : ما شأنه ؟

اهجر ؟ استفهموه ؟ فذهبوا يعيدون عليه . فقال : « دعوني فما أنا فيه خير مما يدعوني إليه » ١ .

و الطبري و ان أجمل القائل « أهجر » إلاّ انّ كاتب الواقدي و غيره صرّحوا في رواياتهم أنّ القائل « أهجر » عمر ، و رووا عنه إقراره بأنّه منع النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من الوصيّة ٢ لأنّه علم أنّه يريد أن يعيّن عليا و لم يكن صلاحا لإباء قريش عنه .

و قال ابن أبي الحديد : ثمه أيضا روت عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة قالت : ما علمنا بدفن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حتّى سمعنا صوت المساحي في جوف الليل ليلة الأربعاء . و قال : فمن العجب كون عائشة و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلم في بيتها لا تعلم بدفنه حتّى سمعت صوت المساحي ،

أتراها أين كانت ؟ قال : و قد سألت عن هذا جماعة . فقالوا : لعلّها كانت في بيت يجاور بيتها عندها نساء كما جرت عادة أهل الميت و تكون قد اعتزلت

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٩٠ ، شرح الخطبة ٢٣٣ ، و ما نقله عن تاريخ الطبري فهو فيه ٢ : ٤٣٦ ، سنة ١١ .

( ٢ ) اخرجه بلا تصريح باسم عمر الطبري في تاريخه ٢ : ٤٣٦ ، سنة ١٠ ، و جماعة اخرى ، و أخرجه مع تصريح البخاري في صحيحه ١ : ٣٢ ، و ٤ : ٧ و ٢٧١ ، و مسلم في صحيحه ٣ : ١٢٥٩ ح ٢٢ ، و جمع آخر و روى اعتراف عمر بمنعه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ٩٧ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .

١١٢

بيتها و سكنت ذلك البيت ١ .

قلت : بل الظاهر أنّها كأبيها و صاحبه أشفقت من بقاء الامّة بلا و ال فخلّت جنازته و كانت في تدبير ذلك معهما ، و كيف تصبر على أن لا تشاهد إلى ما يصير أمر أبيها ، و قد كانت في مرض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعثت إلى أبيها في صلاته بالناس عوض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم .

« فمن ذا أحق به مني حيّا و ميّتا » من أحق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من أمير المؤمنين عليه السلام حيا و ميتا ، و قد قال عزّ و جلّ في محكم كتابه فيه خصوصا إنّما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون ٢ و قال عزّ و جلّ و أنفسنا و أنفسكم ٣ و فيه و في أهل بيته المعصومين عموما إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا ٤ و قال تبارك اسمه قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودّة في القربى ٥ و قال رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم في المتواتر عنه بعد تقرير الناس بكونه أولى بهم من أنفسهم « أيّها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم و ال من والاه و عاد من عاداه » ٦ .

و من أحق به صلّى اللّه عليه و آله و سلم حيّا و ميّتا و قد قال سلمان و نقله ابن أبي الحديد في موضع آخر دخلت عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلم صبيحة يوم قبل اليوم الذي مات فيه فقال

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٩٣ ، شرح الخطبة ٢٣٣ .

( ٢ ) المائدة : ٥٥ .

( ٣ ) آل عمران : ٦١ .

( ٤ ) الاحزاب : ٣٣ .

( ٥ ) الشورى : ٢٣ .

( ٦ ) حديث الغدير المتواتر أخرجه جمع كثير من أهل الحديث ، منها ما أخرجه ابن عساكر بطرق كثيرة في ترجمة علي عليه السلام ٢ : ٥ ٩٠ ح ٥٠٣ ٥٩٣ .

١١٣

لي : يا سلمان لا تسألني عمّا كابدته الليلة من الألم و السهر أنا و علي . فقلت : يا رسول اللّه ألاّ أسهر الليلة معك بدله . فقال : لا هو أحق بذلك منك ١ .

و قالت ام سلمة كما رواه أحمد بن حنبل في ( مسنده ) : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول : أجاء علي ؟ مرارا أظنّه كان بعثه في حاجة ، فجاء بعد ذلك فظننت أنّ له إليه حاجة . فخرجنا من البيت . فقعدنا عند الباب فكنت أدنى إلى الباب . فأكبّ عليه علي عليه السلام فجعل يسارّه و يناجيه ، ثم قبض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في يومه ذلك ٢ .

و عن ( أربعين الخطيب ) في خبر طويل قال حذيفة : دخل علي عليه السلام على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و هو مريض ، فإذا رأسه في حجر رجل أحسن الخلق ،

و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم نائم . فقال الرجل : ادن إلى ابن عمّك . فأنت أحق به منّي ، فوضع رأسه في حجره . فلمّا استيقظ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم سأله عن الرجل قال علي : كان كذا و كذا . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : ذاك جبرئيل كان يحدّثني حتّى خفّ عنّي و جعي ٣ .

و في ( الطبري ) مسندا عن أبي رافع قال : لما قتل علي عليه السلام ( يوم احد ) أصحاب الألوية . أبصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم جماعة من مشركي قريش . فقال لعليّ :

إحمل عليهم فحمل عليهم ، ففرّق جمعهم و قتل عمرو بن عبد اللّه الجمحي ،

ثم أبصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : إحمل عليهم ،

فحمل عليهم ففرّق جماعتهم و قتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي .

فقال جبرئيل : يا رسول اللّه إنّ هذه للمواساة . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله : إنّه منّي و أنا منه ، فقال جبرئيل : و أنا منكما . قال : فسمعوا صوتا : « لا سيف إلاّ ذو الفقار

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٧١ ، شرح الخطبة ٢٠٠ .

( ٢ ) اخرجه أحمد في مسنده ٦ : ٣٠٠ ، و النقل بتصرف في اللفظ .

( ٣ ) رواه عن اربعين الخوارزمي السروي في مناقبه ٢ : ٢٣٧ ، و اخرجه ايضا الخوارزمي في مناقبه : ٨٣ .

١١٤

و لا فتى إلاّ علي » ١ .

و روى المرزباني : أنّ خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين ( و قيل عبد اللّه بن سفيان الحرث بن عبد المطلب ) قال :

ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا

عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أ ليس أوّل من صلّى بقبلتهم

و أعرف الناس بالآثار و السنن

و آخر الناس عهدا بالنبيّ و من

جبريل عون له بالغسل و الكفن

من فيه ما فيهم لا يمترون به

و ليس في القوم ما فيه من الحسن

فما الّذي ردّكم عنه فنعلمه

ها إنّ بيعتكم من اغبن الغبن

و في لفظ : « ها إنّ بيعتكم في أوّل الفتن » ٢ .

و قال الحميري :

و كفاه تغسيله وحده أحمد

ميتا و وضعه في اللحد

و قال :

و من ذا تشاغل بالنبيّ و غسله

و رأى عن الدنيا بذاك عزاء

و قال العبدي :

من كان صنو النبي غير علي

من غسّل الطهر ثم واراه

و قال العوفي :

من غسّل المرسل و من أنزله

في لحده و عنه الدين قضى

و روى ابن سعد و هو من نصّابهم في ( طبقاته ) عن جابر ، أنّ كعب الأحبار قام زمن عمر فقال و نحن جلوس عند عمر : ما كان آخر ما تكلم به

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ١٩٧ ، سنة ٣ .

( ٢ ) رواه عن المرزباني المفيد في الارشاد : ٢٢ ، و رواه ايضا المرتضى في الفصول المختارة ٢ : ٢١٦ ، و السروي في مناقبه ٣ : ١٩٦ ، بفرق .

١١٥

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ فقال عمر : سل عليّا . قال : أين هو ؟ قال : هو هنا . فسأله . فقال علي عليه السلام : أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي . فقال : الصلاة الصلاة ، فقال كعب كذلك آخر عهد الأنبياء و به امروا و عليه يبعثون . قال : فمن غسّله ؟ قال : سل عليّا . قال فسأله . فقال : كنت أنا اغسّله ، و كان عباس جالسا ،

و كان اسامة و شقران يختلفان إليّ بالماء ١ .

و روى أيضا عن عمر بن علي قال : قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في مرضه : ادعوا لي أخي . قال : فدعي له علي . فقال : ادن منّي . قال : فدنوت منه . فاستند اليّ . فلم يزل مستندا إليّ و إنه ليكلّمني حتّى إنّ بعض ريق النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليصيبني الخبر ٢ .

و من أحق به صلّى اللّه عليه و آله و سلم منه عليه السلام حيّا و ميّتا ، و قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم في المستفيض : « أنا مدينة العلم و علي بابها . فمن أراد المدينة . فليأت من بابها » ٣ ،

و قد قال تعالى محيلا إلى بداهة العقول هل يستوي الّذين يعلمون و الّذين لا يعلمون إنّما يتذكر اولو الألباب ٤ .

ثم الغريب روايتهم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر أبا بكر بالصلاة ، و جعلوا ذلك دليل إمامته ، فاستند إليه عمر في نصب أبي بكر جاعلا له فوق الإمامة خلافة الرسول ، فقال لأبي بكر : إنّ النبي اختارك لديننا بصلاتك بالناس . فكيف لا نرضاك لدنيانا بالإمامة لنا ، و هذا مع روايتهم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر أبا بكر بخروجه في جيش اسامة ، و لعن المتخلّف ، فكيف أمره بالصلاة بالناس مع

ــــــــــــــــــ

( ١ ) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ : ٥١ .

( ٢ ) المصدر نفسه .

( ٣ ) اخرجه الحاكم في المستدرك ٣ : ١٢٦ و ١٢٧ ، و الكلابي في مسنده ، منتخبه : ٤٢٦ ح ٢ ، و البزّار في مسنده ، و الديلمي في الفردوس ، و عنهما ينابيع المودة : ٧٢ و ٢٨٢ ، و غيرهم .

( ٤ ) الزمر : ٩ .

١١٦

روايتهم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال : ادعوا لي عليا فدعت عائشة و حفصة بأبويهما ،

فأعرض عنهما ١ و مع روايتهم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله خرج بتلك الحال متّكئا على رجلين و صلّى بهم قاعدا ٢ .

و رووا في صلاة أبي بكر بالناس ما يبطل صدره ذيله ، و يكذّب آخره أوّله ، قال ابن أبي الحديد في عنوان « و من كلام له عليه السلام و هو يلي غسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم » : روى الأرقم ابن شرحبيل قال : سألت ابن عباس هل أوصى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال : لا . قلت : فكيف كان فقال : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال في مرضه ،

ابعثوا إلى علي فادعوه . فقالت عائشة : لو بعثت إلى أبي بكر ، و قالت حفصة : لو بعثت إلى عمر ، فاجتمعوا عنده هكذا لفظ الخبر على ما أورده الطبري في التاريخ و لم يقل : فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إليهما .

قال ابن عباس فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم : انصرفوا فإن تكن لي حاجة ابعث اليكم فانصرفوا ، و قيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم الصلاة ، فقال : مروا أبا بكر أن يصلّي بالناس . فقالت عائشة : ان أبا بكر رجل رقيق فمر عمر . فقال : مروا عمر . فقال :

عمر ما كنت لأتقدم و أبو بكر شاهد ، فتقدم أبو بكر ، فوجد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم خفّة فخرج . فلمّا سمع أبو بكر حركته تأخّر فجذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فأقامه مكانه و قعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقرأ حيث انتهى أبو بكر .

ثم قال ابن أبي الحديد : عندي في هذه الواقعة كلام و يعترضني فيها شكوك و اشتباه إذ كان قد أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن يبعث إلى علي ليوصي إليه فنفست عائشة . فسألت أن يحضر أبوها ، و نفست حفصة عليه ، فسألت أن

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه السروي في مناقبه ١ : ٢٣٦ ، عن الطبري في الولاية و الدار قطني في سنته و السمعاني في الفضائل و أحمد في مسنده .

( ٢ ) اخرجه البخاري في صحيحه ١ : ١٢٢ و ١٢٦ ، و مسلم في صحيحه ١ : ٣١١ ح ٩٠ ، و غيرهما .

١١٧

يحضر أبوها ، ثم حضرا و لم يطلبا ، فلا شبهة أنّ ابنتيهما طلبتاهما ، هذا هو الظاهر و قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و قد اجتمعوا عنده « إنصرفوا فإن تكن لي حاجة بعثت إليكم » قول من عنده ضجر و غضب باطن بحضورهما ، و تهمة للنساء في استدعائهما . فكيف يطابق هذا الفعل و هذا القول ما روي من انّ عائشة قالت : لمّا عيّن أبوها في الصلاة « إنّ أبي رجل رقيق فمروا عمر » ؟ و أين ذلك الحرص من هذا الاستعفاء و الاستقالة ؟ و هذا يوهم صحّة ما تقوله الشيعة من أنّ صلاة أبي بكر كانت عن أمر عائشة ، و ان كنت لا أقول بذلك ، و لا أذهب إليه إلاّ من تأمّل هذا الخبر ، و لمح مضمونه يوهم ذلك فلعل هذا الخبر غير صحيح .

قال ابن أبي الحديد : فإن قلت : لم قلت في صدر كلامك هذا : إنّه أراد أن يبعث إلى علي ليوصى إليه ، و لم لا يجوز أن يكون بعث إليه لحاجة له . قلت : لأنّ مخرج كلام ابن عباس هذا المخرج ، ألا ترى أنّ أرقم بن شرحبيل الرواي لهذا الخبر قال : سألت ابن عباس هل أوصى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ؟ فقال : لا . فقلت : فكيف كان ؟ فقال : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال في مرضه : إبعثوا إلى علي فادعوه . فسألته المرأة أن يبعث إلى أبيها ، و سألته الاخرى أن يبعث إلى أبيها . فلو لا أنّ ابن عباس فهم من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم « ابعثوا إلى علي فادعوه » أنّه يريد الوصية لما كان لأخبار الأرقم بذاك متّصلا بسؤاله عن الوصية معنى ١ .

قلت : لقد أجاد في كلامه ، ثم أيّ معنى لقراءة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم من حيث انتهى أبو بكر بعد عدم اقتداء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم به كما تضمّنه خبرهم ؟ ثم أي استبعاد لصلاته بغير اذنه في مرضه مع صلاته بغير اذنه في صحته . روى مسلم و البخاري في ( صحيحيهما ) عن سهل الساعدي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم . فجاءت الصلاة . فجاء المؤذن إلى

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٩١ ، شرح الخطبة ٢٣٣ ، و النقل بتصرف يسير .

١١٨

أبي بكر . فقال : تصلي بالناس فاقيم فقال : نعم . قال : فصلّى أبو بكر . فجاء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فخرق الصفّ حتى قام عند الصف المقدم فرجع أبو بكر القهقرى ١ ، و من أين ان مبادرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى المسجد ، و تأخير أبي بكر في الموضعين لا سيما في الأوّل الّذي كان في شدّة المرض للدلالة على عدم جواز الاقتداء به .

و من الغريب أنّ الجزري قال : و لمّا اشتد مرضه اذّنه بلال بالصلاة .

فقال : مروا أبا بكر يصلي بالناس ، قالت عائشة : فقلت : إنّه رجل رقيق ، و انّه متى يقوم مقامك لا يطيق ذلك ، فقال : مروا ابا بكر فيصلي بالناس فقلت مثل ذلك ،

فغضب و قال : إنكنّ صواحب يوسف ، مروا أبا بكر يصلي بالناس . فتقدم أبو بكر . فلمّا دخل في الصلاة وجد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم خفّة فخرج بين رجلين . فلمّا دنا من أبي بكر تأخّر أبو بكر فأشار إليه أن قم مقامك . فقعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يصلّي إلى جنب أبي بكر جالسا ، فكان أبو بكر يصلّي بصلاة النبي ، و الناس يصلّون بصلاة أبي بكر و صلّى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة و قيل : ثلاثة أيّام ثمّ انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم خرج في اليوم الّذي توفّي فيه إلى الناس في صلاة الصبح . فكاد الناس يفتتنون في صلاتهم فرحا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و تبسّم النبي فرحا لما رأى من هيئتهم في الصلاة ثم رجع ٢ .

فإن فيه مضافا إلى ما تقدم انّه أيّ ربط لقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم « انّكن صواحبات يوسف » مع قول عائشة « إنّ أبا بكر رجل رقيق » و إنّما يناسب قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذاك مع ما في الخبر الأوّل أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر بإحضار

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه بطرق البخاري في صحيحه ١ : ١٢٥ و ٢٠٨ و ٢١١ و ٢١٤ ، و ٢ : ١١١ ، و ٤ : ٢٤٢ ، و مسلم في صحيحه ١ : ٣١٦ و ٣١٧ ح ١٠٢ ١٠٤ .

( ٢ ) رواه ابن الاثير في الكامل ٢ : ٣٢٢ ، سنة ١١ .

١١٩

أمير المؤمنين عليه السلام فبعثتا إلى أبويهما و أحضرتاهما .

و أيّ ربط بين قوله : « فوجد خفة » و قوله : « فخرج بين رجلين » بل بينهما تضاد ، ثم كيف أمر كرارا بأن يصلّي أبو بكر بالناس ثم لم يدعه بأن يتمّ صلاة واحدة بل يخرج بدخوله في الصلاة حتّى يتفرق خياله في الصلاة . إلى غير ذلك من المناقضات الّتي يفهمها كل من لم يكن ذا عصبيّة .

و إنّما الصحيح الّذي يشهد به أخبارهم بعد إسقاط متناقضاتها في تفصيل صلاة أبي بكر في مرض النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما ذكره محمّد بن محمّد بن النعمان في ( إرشاده ) فقال : و كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذ ذاك في بيت امّ سلمة .

فأقام به يوما أو يومين . فجاءت عائشة إليها تسألها أن تنقله إلى بيتها لتتولّى تعليله ، و سألت أزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ذلك ، فأذنّ لها . فانتقل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى البيت الّذي أسكنه عائشة ، و استمر به المرض فيه أيّاما ،

و ثقل فجاء بلال عند صلاة الصبح ، و النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم مغمور بالمرض . فنادى :

« الصلاة رحمكم اللّه » فاوذن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم بندائه . فقال : يصلّى بالناس بعضهم فإنّي مشغول بنفسي . فقالت عائشة ، مروا أبا بكر ، و قالت حفصة : مروا عمر .

فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين سمع كلامهما و رأى حرص كل واحدة منهما على التنويه بأبيها و افتتنانهما بذلك ، و النبي حي : « اكففن فانّكن صويحبات يوسف » ثم قام صلّى اللّه عليه و آله و سلم مبادرا خوفا من تقدم أحد الرجلين و قد كان أمرهما بالخروج مع اسامة ، و لم بكن عنده أنّهما قد تخلّفا فلمّا سمع من عائشة و حفصة ما سمع ، علم أنّهما متأخران عن أمره . فبدر لكفّ الفتنة و إزالة الشبهة ، فقام صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّه لا يستقلّ على الأرض من الضعف ، فأخذ بيده علي بن أبي طالب صلّى اللّه عليه و آله و سلم و الفضل بن العباس فاعتمد عليهما و رجلاه تخطّان الأرض من الضعف ، فلمّا خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

يُشاهَد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها ويستلذّه طبعها، فإنّ ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق والشهوة واستزادة اللّذة، وأمّا نحو الاستيلاء والاستعلاء المذكور، فإنّه عائد إلى قوّة الفحولة وإجراء ما تأمر به الطبيعة.

وهذا المعنى - أعني لزوم الشدّة والبأس لقَبيل الذكور واللين والانفعال لقَبيل الإناث - ممّا يوجب الاعتقاد به قليلاً أو كثيراً عند جميع الأُمم، حتى سرى إلى مختلف اللغات، فسُمِّي كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر، وكل ليِّن سهل الانفعال بالأُنثى، يقال: حديد ذكر وسيف ذكر ونبت ذكر ومكان ذكر، وهكذا.

وهذا الأمر جارٍ في نوع الإنسان، دائر بين المجتمعات المختلفة والأمم المتنوّعة في الجملة، وإن كان ربّما لم يخلُُ من الاختلاف زيادة ونقيصة.

وقد اعتبره الإسلام في تشريعه قال تعالى: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ... ) (1) .

فشرّع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

- 3 -

تعدُّد الزوجات

وأمر الوحدة والتعدُّد فيما نُشاهده من أقسام الحيوان غير واضح، ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحّد الإناث وتختصُّ بالذكور، لما أنّ الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل وحضانة الأفراخ وتربيتها، وربّما تغيَّر الوضع الجاري بينها بالصناعة والتدبير والكفالة، أعني بالتأهُّل والتربية

____________________

(1) سورة النساء، الآية: 34.

١٤١

كما يُشاهد من أمر الديك والدجاج والحمام ونحوها.

وأمّا الإنسان، فاتّخاذ الزوجات المتعدّدة كانت سنّة جارية في غالب الأُمم القديمة، كمصر والهند، والصين والفرس، بل الروم واليونان، فإنّهم كانوا ربَّما يُضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يُصاحبونها، بل وكان ذلك عند بعض الأُمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه، كاليهود والعرب، فكان الرجل منهم ربّما تزوّج العشرة والعشرين وأزيد، وقد ذكروا أنّ سليمان الملك تزوّج مئات من النساء.

وأغلب ما كان يقع تعدُّد الزوجات إنّما هو في القبائل ومَن يحذو حذوهم، من سكّان القُرى والجبال، فإنّ لربّ البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع وكثرة الأعضاء، فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد؛ ليهون لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم، وليكون ذلك وسيلة يتوسّلون بها إلى الترؤس والسؤدد في قومهم، على ما في كثرة الازدواج من تكثُّر الأقرباء بالمُصاهرة.

وما ذكره بعض العلماء، أنّ العامل في تعدُّد الزوجات في القبائل وأهل القرى إنّما هو كثرة المشاغل والأعمال فيهم، كأعمال الحمل والنقل، والرعي والزراعة، والسقاية والصيد، والطبخ والنسج وغير ذلك، فهو وإن كان حقّاً في الجملة، إلاّ أنّ التأمّل في صفاتهم الروحية يُعطي أنّ هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهمّية عندهم، وما ذكرناه هو الذي يتعلّق به قصد الإنسان البدوي أولاً وبالذات، كما أن شيوع الادّعاء والتبنّي أيضاً بينهم سابقاً كان من فروع هذا الغرض.

على أنّه كان في هذه الأُمم عامل أساسي آخر لتداول تعدُّد الزوجات بينهم، وهو زيادة عدد النساء على الرجال بما لا يُتسامح فيه، فإنّ هذه الأُمم

١٤٢

السائرة بسيرة القبائل، كانت تدوم فيهم الحروب والغزوات، وقتل الفتك والغيلة، فكان القتل يُفني الرجال، ويزيد عدد النساء على الرجال زيادة، لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلاّ بتعدّد الزوجات. هذا.

والإسلام شرّع الازدواج بواحدة، وأنفذ التكثير إلى أربع، بشرط التمكُّن من القسط بينهن، مع إصلاح جميع المحاذير المتوجّهة إلى التعدُّد، على ما سنُشير إليها، قال تعالى: ( ... وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ... ) (1) .

وقد استشكلوا على حكم تعدُّد الزوجات:

أولاً: إنّه يضع آثاراً سيئة في المجتمع؛ فإنّه يقرع قلوب النساء في عواطفهن، ويُخيِّب آمالهن ويُسكِّن فورة الحبِّ في قلوبهن؛ فينعكس حسُّ الحبِّ إلى حسِّ الانتقام؛ فيُهملن أمر البيت ويتثاقلن في تربية الأولاد، ويُقابلن الرجل بمثل ما أساؤوا إليهنّ؛ فيشيع الزنا والسفاح، والخيانة في المال والعرض، فلا يلبث المجتمع دون أن ينحطَّ في أقرب وقت.

وثانياً: إنّ التعدّد في الزوجات يُخالف ما هو المشهود المُتراءى من عمل الطبيعة؛ فإنَّ الإحصاء في الأُمم والأجيال يُفيد أنّ قبيلَي الذكورة والإناث متساويان عدداً تقريباً، فالذي هيّأته الطبيعة هو واحدة لواحد، وخلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

وثالثاً: إنّ في تشريع تعدُّد الزوجات ترغيباً للرجال إلى الشره والشهوة، وتقوية لهذه القدرة في المجتمع.

ورابعاً: إنّ في ذلك حطّاً لوزن النساء في المجتمع، بمعادلة الأربع منهنّ بواحد من الرجال، وهو تقويم جائر، حتى بالنظر إلى مذاق الإسلام الذي سُوِّيَ فيه بين امرأتين ورجل، كما في الإرث والشهادة وغيرهما، ولازمه

____________________

(1) سورة البقرة، الآية: 228.

١٤٣

تجويز التزوج باثنتين منهنّ لا أزيد، ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أيِّ حال من غير وجه.

وهذه الإشكالات ممّا اعترض بها النصارى على الإسلام، أو مَن يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال والنساء في المجتمع.

والجواب عن الأول - ما تقدّم غير مرّة في المباحث المتقدِّمة -: أنّ الإسلام وضع بُنية المجتمع الإنساني على أساس الحياة التعقُّلية دون الحياة الإحساسية، فالمتَّبع عنده هو الصلاح العقلي في السُنن الاجتماعية، دون ما تهواه الإحساسات وتنجذب إليه العواطف.

وليس في ذلك إماتة العواطف والإحساسات الرقيقة، وإبطال حكم المواهب الإلهية والغرائز الطبيعية؛ فإنَّ من المُسلَّم في الأبحاث النفسية، أنّ الصفات الروحية والعواطف والإحساسات الباطنة، تختلف - كمَّاً وكيفاً - باختلاف التربية والعادة، كما أنّ كثيراً من الآداب والرسوم الممدوحة عند الشرقيين مذمومة عند الغربيين، وبالعكس، وكل أُمّة تختلف مع غيرها في بعض الأمور.

والتربية الدينية في الإسلام تُقيم المرأة الإسلامية مقاماً لا تتألّم بأمثال ذلك عواطفها.

نعم، المرأة الغربية، حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة ولُقِّنت بذلك جيلاً بعد جيل؛ استحكم في روحها عاطفة نفسانية تُضادُّ التعدُّد؛ ومن الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع، الذي شاعت بين الرجال والنساء في الأُمم المتمدِّنة اليوم.

أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل مَن هووها وهوتهم من نسائهم، من محارم وغيرها، ومن بكر أو ثيِّب، ومن ذات بعل أو غيرها، حتى إنّ الإنسان لا يقدر أن يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا، سواء

١٤٤

في ذلك الرجال والنساء، ولم يقنعوا بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعاً قلَّ ما يسلم منه فرد، حتى بلغ الأمر مبلغاً رفعوا قُبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العُظمى أن يُبيح لهم اللواط (سنّة قانونية)، وذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسمية؟!

وأمّا النساء - وخاصة الأبكار وغير ذوات البعل من الفتيات - فالأمر فيهنّ أغرب وأفظع.

فليت شعري! كيف لا تأسف النساء هناك ولا يتحرّجن ولا تنكسر قلوبهنّ ولا تتألّم عواطفهن حين يُشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن؟! وكيف لا تتألّم عواطف الرجال وإحساساته حين يبني بفتاة ثمّ يجدها ثيِّباً فقدت بكارتها وافترشت لا للواحد والاثنين من الرجال ثمّ لا يلبث حتى يتباهى بين الأقران أنّ سيّدته ممّن جذبت الرجال إلى نفسها وتنافس عليها العشرات والمئات؟!!.

إنّ هذه السيّئات تكرّرت بينهم، ونزعة الحرّية تمكّنت من أنفسهم، حتى صارت عادة عريقة مألوفة، لا تمتنع منها العواطف والإحساسات، ولا تستنكرها النفوس! فليس إلاّ أنّ السنن الجارية تميل العواطف الإحساسات إلى ما يوافقها ولا يخالفها.

وأمّا ما ذكروه، من استلزام ذلك إهمالهنّ في تدبير البيت، وتثاقلهن في تربية الأولاد، وشيوع الزنا والخيانة، فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك، فإنّ هذا الحكم جرى في صدر الإسلام، وليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدّعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته، بل كان الأمر بالعكس.

على أنّ هذه النساء اللاتي يُتزوّج بهنّ على الزوجة الأُولى، في المجتمع الإسلامي وسائر المجتمعات التي ترى ذلك - أعني الزوجة الثانية والثالثة والرابعة - إنّما يتزوّج بهنّ عن رضاء ورغبة منهنّ، وهنّ من نساء هذه المجتمعات، ولم يسترققهنّ الرجال من مجتمعات أُخرى، ولا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا، وإنّما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعية،

١٤٥

فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدُّد الزوجات، ولا قلوبهنَّ تتألّم منها، بل لو كان شيء من ذلك، فهو من لوازم وعوارض الزوجية الأُولى، أعني أنّ المرأة إذا توحّدت للرجل لا تحبُّ أن ترد عليها وعلى بيتها أُخرى؛ لخوفها أن تُميل عنها بعلها أو تترأَّس عليها غيرها أو يختلف الأولاد ونحو ذلك، فعدم الرضى والتألُّم فيما كان، إنّما منشأه حالة عرضية (التوحُّد بالبعل) لا غريزة طبيعية.

والجواب عن الثاني: إنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال والنساء في العدد مُختلٌّ من وجوه.

منها: أنّ أمر الازدواج لا يتّكي على هذا الذي ذكروه فحسب، بل هناك عوامل وشرائط أُخرى لهذا الأمر، فأولاً الرشد الفكري والتهيُّؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال، فالنساء وخاصة في المناطق الحارّة إذا جُزن التسع صلحن للنكاح، والرجال لا يتهيَّؤون لذلك غالباً قبل الستِّ عشرة من السنين (وهو الذي اعتبره الإسلام للنكاح).

ومن الدليل على ذلك؛ السنّة الجارية في فتيات الأُمم المتمدّنة، فمن الشاذِّ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سنِّ البلوغ القانوني، فليس إلاّ أنّ الطبيعة هيّأتها للنكاح قبل تهيُّئتها الرجال لذلك.

ولازم هذه الخاصة؛ أن لو اعتبرنا مواليد ستّ عشرة سنة من قوم (والفرض تساوي عدد الذكورة والإناث فيهم)، كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال وهي سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة، وهم مواليد السنة الأُولى المفروضة، والصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين، وهي مواليد السنة الأُولى إلى السابعة، ولو اعتبرنا مواليد خمسة وعشرين سنة، وهي سن بلوغ الأشدِّ من الرجال؛ حصل في السنة الخامسة

١٤٦

والعشرين على الصلوح في الرجال مواليد عشرة سنين، ومن النساء مواليد خمس عشرة سنة، وإذا أخذنا بالنسبة الوسطى، حصل لكل واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

وثانياً: أنّ الإحصاء - كما ذكروه - يُبيِّن أنّ النساء أطول عمراً من الرجال، ولازمه أن تهيِّئ سنة الوفاة والموت عدداً من النساء ليس بحذائهن رجال.

وممّا يؤيّد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيّام (جريدة الاطِّلاعات المنتشرة في طهران المؤرّخة بالثلاثاء 11 دي ماه سنة 1335 هـ ش) حكاية عن دائرة الإحصاء في فرنسا ما حاصله: قد تحصّل بحسب الإحصاء أنّه يولَد في فرنسا حذاء كل (100) مولودة من البنات (105) من البنين، ومع ذلك، فإنّ الإناث يربو عدّتهن على عدّة الذكور بما يُعادل (1765000) نسمة، ونفوس المملكة (40 مليوناً)؛ والسبب فيه أنّ البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض، ويهلك بها (5%) الزائد منهم إلى سنة (19) من الولادة.

ثمّ يأخذ عدَّة الذكور في النقص ما بين 25 - 30 من السنين، حتى إذا بلغوا سنيِّ 60 - 65 لم يبقَ تِجاه (1500000) من الإناث إلاّ (750000) من الذكور.

وثالثاً: أنّ خاصّة النسل والتوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء، فالأغلب على النساء أن يئسن من الحمل في سنّ الخمسين، ويمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك، وربّما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي - وهي مائة سنة - فيكون عمر صلاحية الرجل للتوليد وهو ثمانون سنة تقريباً ضعفه في المرأة وهو أربعون تقريباً، وإذا ضُمَّ هذا الوجه إلى الوجه السابق؛ أنتج أنّ الطبيعة والخلقة أباح للرجال التعدِّي من الزوجة

١٤٧

الواحدة إلى غيرها، فلا معنى لتهيئة قوّة التوليد والمنع عن الاستيلاد من محلٍّ شأنه ذلك؛ فإنّ ذلك ممّا تأباه سنّة العلل والأسباب الجارية.

ورابعاً: أنّ الحوادث المُبيدة لأفراد المجتمع - من الحروب والمقاتل وغيرهما - تحلُّ بالرجال وتفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يُقاس، كما تقدم أنّه كان أقوى العوامل لشيوع تعدّد الزوجات في القبائل، فهذه الأرامل والنساء العزّل لا محيص لهنّ عن قبول التعدُّد أو الزنا، أو خيبة القوّة المودعة في طبائعهنّ وبطلانها.

وممّا يتأيّد به هذه الحقيقة، ما وقع في ألمانيا الغربية قبل عدّة شهور، من كتابة هذه الأوراق: أظهرت جمعية النساء العزّل تحرُّجها من فقدان البعولة، وسألت الحكومة أن يسمح لهنّ بسنّ تشريع تعدُّد الزوجات الإسلامية، حتى يتزوّج مَن شاء من الرجال بأزيد من واحدة، ويرتفع بذلك غائلة الحرمان، غير أنّ الحكومة لم تُجبهنّ في ذلك، وامتنعت الكنيسة من قبوله، ورضيت بفشو الزنا وشيوعه وفساد النسل به.

ومنها: أنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال والنساء في العدد - مع الغضِّ عمَّا تقدَّم - إنّما يستقيم فيما لو فُرض أن يتزوَّج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء، لكنّ الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك، ولا يسع ذلك بالطبع إلاّ لبعضهم دون جميعهم، والإسلام لم يشرِّع تعدُّد الزوجات بنحو الفرض والوجوب على الرجال، بل إنّما أباح ذلك لمَن استطاع أن يُقيم القسط منهم، ومن أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجاً ولا فساداً أنّ سير هذه السنّة بين المسلمين - وكذا بين سائر الأُمم الذين يرون ذلك - لم يستلزم حرجاً من قحط النساء وإعوازهن على الرجال، بل بالعكس من ذلك أعدَّ تحريم التعدُّد في البلاد التي فيها ذلك ألوفاً من النساء حُرمن الأزواج والاجتماع المنزلي (الأُسرة)

١٤٨

واكتفين بالزنا.

ومنها: أنَّ الاستدلال المذكور - مع الإغماض عن ما سبق - إنّما يستقيم لو لم يُصلح هذا الحكم ولم يُعدَّل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهِّمة، فقد شرط الإسلام على مَن يُريد من الرجال التعدُّد، أن يُقيم العدل في معاشرتهنّ بالمعروف، وفي القسم، والفراش، وفرض عليهم نفقتهنَّ، ثمّ نفقة أولادهن، ولا يتيسر الإنفاق على أربع نسوة مثلاً ومَن يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة وغير ذلك، إلاّ لبعض أُولي الطول والسعة من الناس لا لجميعهم.

على أنَّ هناك طُرقاً دينية شرعيّة، يمكن أن تستريح إليها المرأة، فتُلزم الزوج على الاقتصار عليها والإغماض عن التكثير.

والجواب عن الثالث: أنَّه مبنيٌّ على عدم التدبُّر في نحو التربية الإسلامية، ومقاصد هذه الشريعة؛ فإنّ التربية الدينية للنساء في المجتمع الإسلامي، الذي يرتضيه الدين بالستر والعفاف، والحياء وعدم الخرق، تُنمِّي المرأة وشهوة النكاح فيها أقل منها في الرجال (على الرغم ممَّا شاع أنّ شهوة النكاح فيها أزيد وأكثر واستدلَّ عليه بتولِّعها المُفرط بالزينة والجمال طبعاً) وهذا أمر لا يكاد يَشكُّ فيه رجال المسلمين ممَّن تزوج بالنساء الناشئات على التربية الدينية، فشهوة النكاح في المتوسِّط من الرجال تُعادل ما في أكثر من امرأة واحدة، بل والمرأتين والثلاث.

ومن جهة أُخرى، من عناية هذا الدين، أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع ومشتهيات النفس، فاعتبر أن لا تُختزن الشهوة في الرجل ولا يُحرم منها، فيدعوه ذلك إلى التعدِّي إلى الفجور والفحشاء، والمرأة الواحدة ربّما اعتذرت فيما يقرب من ثُلث أوقات المعاشرة والمصاحبة، كأيام العادة

١٤٩

وبعض أيّام الحمل والوضع والرضاع ونحو ذلك، والإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم - ما تكرَّر منّا في المباحث السابقة من هذا الكتاب - أنّ الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقُّلية دون الحياة الإحساسية، فبقاء الإنسان على حالة الإحساس، الداعية إلى الاسترسال في الأهواء والخواطر السوء، كحال التعزُّب ونحوه، من أعظم المخاطر في نظر الإسلام.

ومن جهة أُخرى، من أهمِّ المقاصد عند الشارع الإسلام تكثُّر نسل المسلمين، وعمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك والفساد.

فهذه الجهات وأمثالها، هي التي اهتمَّ بها الإسلام في تشريع تعدُّد الزوجات، دون ترويج أمر الشهوة وترغيب الناس إلى الانكباب عليها، ولو أنصف هؤلاء المستشكلون، كان هذه السنن الاجتماعية، المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتُّع المادي، أولى بالرمي بترويج الفحشاء والترغيب إلى الشره من الإسلام، الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينية.

على أنّ في تجويز تعدُّد الزوجات تسكيناً لثورة الحرص، التي هي من لوازم الحرمان، فكل محروم حريص، ولا همّ للممنوع المحبوس إلاّ أن يهتك حجاب المنع والحبس، فالمسلم وإن كان ذا زوجة واحدة، فإنّه على سكن وطيّب نفس من أنّه ليس بممنوع عن التوسُّع في قضاء شهوته لو تحرّجت نفسه يوماً إليه، وهذا نوع تسكين لطيش النفس، وإحصان لها عن الميل إلى الفحشاء وهتك الأعراض المحرَّمة.

وقد أنصف بعض الباحثين من الغربيين؛ حيث قال: لم يعمل في إشاعة الزنا والفحشاء بين الملل المسيحية عامل، أقوى من تحريم الكنيسة تعدُّد

١٥٠

الزوجات.

والجواب عن الرابع: أنّه ممنوع؛ فقد بيّنا في بعض المباحث السابقة - عند الكلام في حقوق المرأة في الإسلام - أنّه لم يحترم النساء ولم يُراعِ حقوقهنّ كل المراعاة أيُّ سنَّة من السنن الدينية أو الدنيوية، من قديمها وحديثها بمثل ما احترمهن الإسلام، وسنزيد في ذلك وضوحاً.

وأمّا تجويز تعدُّد الزوجات للرجل، فليس بمبني على ما ذكر، من إبطال الوزن الاجتماعي، وإماتة حقوقهنَّ، والاستخفاف بموقفهنّ في الحياة، وإنّما هو مبنيٌّ على جهات من المصالح تقدَّم بيان بعضها.

وقد اعترف بحُسن هذا التشريع الإسلامي، وما في منعه من الفاسد الاجتماعية والمحاذير الحيوية، جمع من باحثي الغرب، من الرجال والنساء، مَن أراده فليُراجع إلى مظانِّه.

وأقوى ما تشبَّث به مخالفو سنّة التعدُّد من علماء الغرب، وزوقوه في أعين الناظرين، ما هو مشهود في بيوت المسلمين، تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة:

ضرّتان أو ضرائر؛ فإنّ هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة ولا عيشة هنيئة، لا تلبث الضرَّتان من أول يوم حلّتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد، حتى إنَّهم سموا الحسد بداء الضرائر، وعندئذ تنقلب جميع العواطف والإحساسات الرقيقة التي جُبلت عليها النساء من الحبِّ ولين الجانب، والرقّة والرأفة، والشفقة والنصح، وحفظ الغيب والوفاء، والمودة والرحمة والإخلاص بالنسبة إلى الزوج وأولاده من غير الزوجة، وبيته وجميع ما يتعلّق به إلى أضدادها، فينقلب البيت - الذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي وتألُّم الروح والجسم من مشاقِّ الأعمال

١٥١

والجُهد في المكسب - معركة قتال يُستباح فيها النفس والعرض والمال والجاه، لا يؤمن فيه من شيء لشيء، ويتكدّر فيه صفو العيش، وترتحل لذّة الحياة، ويحلُّ محلُّها الضرب والشتم، والسبُّ واللعن، والسعاية والنميمة، والرقابة والمكر والمكيدة، واختلاف الأولاد وتشاجرهم، وربَّما انجرَّ الأمر إلى همِّ الزوجة بإهلاك الزوج وقتل بعض الأولاد بعضاً أو آبائهم، وتتبدّل القرابة بينهم إلى الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء وهلاك النسل وفساد البيت، أضف إلى ذلك، ما يسري من ذلك إلى المجتمع، من الشقاء وفساد الأخلاق، والقسوة والظلم، والبغي والفحشاء، وانسلاب الأمن والوثوق، وخاصة إذا أُضيف إلى ذلك جواز الطلاق؛ فإباحة تعدُّد الزوجات والطلاق يُنشئان في المجتمع رجالاً ذوّاقين مُترفين، لا همَّ لهم إلاّ اتِّباع الشهوات والحرص والتولُّع على أخذ هذه وترك تلك، ورفع واحدة ووضع أُخرى، وليس فيه إلاَّ تضييع نصف المجتمع وإشقاؤه، وهو قبيل النساء، وبذلك يفسد النصف الآخر.

هذا محصَّل ما ذكروه، وهو حقٌّ، غير أنّه إنّما يرد على المسلمين لا على الإسلام وتعاليمه، ومتى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام، حتى يؤخذ الإسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم؟! وقد فقدوا منذُ قرون الحكومة الصالحة، التي تُربِّي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة، بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار، التي أسدلها الدين ونقض قوانينه وإبطال حدوده، هي طبقة الحكَّام والولاة على المسلمين، والناس على دين ملوكهم، ولو اشتغلنا بقصِّ بعض السير الجارية في بيوت الملوك، والفضائح التي كان يأتي بها ملوك الإسلام وولاته، منذ أن تبدّلت الحكومة الدينية بالمُلك والسلطنة المستبدّة لجاء بحياله تأليفاً مستقلاً.

وبالجملة؛ لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين؛ في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمّن سعادة

١٥٢

عيشتهم، ونحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها، بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط.

والذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء والأولاد، وإن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم؛ وذلك أنّ سيرة هؤلاء الرجال وتفدِّيتهم سعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم، وصفاء جوِّ مجتمعهم في سبيل شرههم وجهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد، والمنبت لكل هذه الشقوة المُبيدة.

أمّا الإسلام، فلم يُشرِّع تعدُّد الزوجات على نحو الإيجاب والفرض على كل رجل، وإنّما نظر في طبيعة الأفراد، وما ربّما يعرضهم من العوارض الحادثة، واعتبر الصلاح القاطع في ذلك (كما مرّ تفصيله)، ثمّ استقصى مفاسد التكثير ومحاذيره وأحصاها، فأباح عند ذلك التعدُّد؛ حفظاً لمصلحة المجتمع الإنساني، وقيّده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة، وهو وثوق الرجل بأنّه سيقسط بينهنّ ويعدل، فمَن وثق من نفسه بذلك ووُفِّق له فهو الذي أباح له الدين تعدُّد الزوجات، وأمّا هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم وأهليهم وأولادهم، ولا كرامة عندهم إلاَّ ترضية بطونهم وفروجهم، ولا مفهوم للمرأة عندهم إلاّ أنّها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل ولذّته، فلا شأن للإسلام فيهم، ولا يجوز لهم إلاّ الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك والحال هذه.

على أنّ في أصل الإشكال خلطاً بين جهتين مفرقتين في الإسلام، وهما جهتا التشريع والولاية.

توضيح ذلك: أنَّ المدار في القضاء بالصلاح والفساد، في القوانين الموضوعة والسنن الجارية عند الباحثين اليوم، هو الآثار والنتائج المرضيّة أو غير المرضية، الحاصلة من جريانها في الجوامع وقبول الجوامع لها بفعليّتها

١٥٣

الموجودة وعدم قبولها، وما أظنُّ أنّهم على غفلة، من أنَّ المجتمع ربّما اشتمل على بعض سنن وعادات عوارض لا تُلائم الحكم بالمبحوث عنه، وأنّه يجب تجهيز المجتمع بما لا يُنافي الحكم أو السنَّة المذكورة، حتى يرى إلى ما يصير أمره، وماذا يبقى من الأثر خيراً أو شرّاً أو نفعاً أو ضراً! إلاّ أنّهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يُريده ويستدعيه المجتمع، بحاضر إرادته وظاهر فكرته كيفما كان، فما وافق إرادتهم ومستدعياتهم فهو القانون الصالح، وما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح.

ولذلك؛ لمّا رأوا المسلمين تائهين في أودية الغيّ، فاسدين في معاشهم ومعادهم، نسبوا ما يشاهدونه منه من الكذب والخيانة، والخنى وهضم الحقوق، وفشوّ البغي وفساد البيوت، واختلال الاجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم؛ زعماً منهم أنّ السنّة الإسلامية - في جريانها بين الناس وتأثيرها أثرها - كسائر السنن الاجتماعية، التي تُحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم؛ ويستنتجون من ذلك أنّ الإسلام هو المولد لهذه المفاسد الاجتماعية، ومنه ينشأ هذا البغي والفساد (وفيهم أبغى البغي وأخنى الخنى، وكل الصيد في جوف الفراء) ولو كان ديناً واقعياً، وكانت القوانين الموضوعة فيه جيّدة متضمّنة لصلاح الناس وسعادتهم لأثّرت فيهم الآثار المُسعدة الجميلة، ولم ينقلب وبالاً عليهم.

ولكنّهم خلطوا بين طبيعة الحُكم الصالحة المُصلِحة، وبين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة، والإسلام مجموع معارف أصلية وأخلاقية، وقوانين عملية متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء، إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع وانحرافها في التأثير، كالأدوية والمعاجين المركّبة، التي تحتاج في تأثيرها الصحّي إلى سلامة أجزائها وإلى محلٍّ مُعدٍّ مهيّأ لورودها وعملها، ولو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الإنسان المستعمل لها شرائط

١٥٤

الاستعمال بطل عنها وصف التأثير، وربّما أثّرت ما يُضادُّ أثرها المترقَّب منها.

هب أنّ السنّة الإسلامية لم تقوَ على إصلاح الناس ومحق الذمائم والرذائل العامة؛ لضعف مبانيها التقنينية، فما بال السنّة الديمقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في البلاد الأوروبية؟! وما بالنا كلّما أمعنّا في السير والكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقري؟! ولا يشكّ شاكٌّ أنّ الذمائم والرذائل اليوم أشدّ تصلُّباً وتعرُّقاً فينا، ونحن مدنيون متنوِّرون منها قبل نصف قرن، ونحن همجيُّون، وليس لنا حظٌّ في العدل الاجتماعي وحياة الحقوق البشرية، والمعارف العامة العالية وكل سعادة اجتماعية، إلاّ أسماء نُسمِّيها وألفاظاً نسمعها.

فهل يمكن لمعتذر عن ذلك، إلاّ بأنّ هذه السنن المرضية إنّما لم تؤثِّر أثرها؛ لأنّكم لا تعملون بها، ولاتهتمُّون بإجرائها؟! فما بال هذا العذر يجري فيها وينجع ولا يجري في الإسلام ولا ينجع؟!

وهب أنّ الإسلام لوهن أساسها (والعياذ بالله) عجز عن التمكُّن في قلوب الناس، والنفوذ الكامل في أعماق المجتمع، فلم تدم حكومته ولم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الإسلامي، فلم يلبث دون أن عاد مهجوراً، فما بال السنّة الديمقراطية وكانت سنّة مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الأُولى عن روسيا، وانمحت آثارها وخلقتها السنّة الشيوعية؟! وما بالها انقلبت إلى السنّة الشيوعية بعد الحرب العالمية الكبرى الثانية في ممالك الصين ولتوني واستوني وليتواني ورومانيا والمجر ويوغسلافيا وغيرها، وهي تهدِّد سائر الممالك، وقد نفذت فيها نفوذاً؟!

وما بال السنّة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة،

١٥٥

وانبسطت وحكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الإنساني، ولم يزل دعاتها وأولياؤها يتباهون في فضيلتها أنّها المشرَّعة الصافية الوحيدة التي لا يشوبها تحكُّم الاستبداد ولا استثمار الديمقراطية، وأنّ البلاد التي تعرّقت فيها هي الجنّة الوعودة، ثمّ لم يلبث هؤلاء الدعاة والأولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدهم الوحيد (ستالين) الذي كان يتولَّى إمامتها وقيادتها منذ ثلاثين سنة، وأوضحوا أنّ حكومته كانت حكومة تحكُّم واستبداد واستعباد في صورة الشيوعية، ولا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة وإجرائها وسائر ما يتعلّق بذلك، فلم ينتش شيء من ذلك إلاَّ عن إرادة مستبدّة مستعبدة وحكومة فردية تُحيي ألوفاً وتُميت ألوفاً وتُسعد أقواماً وتُشقي آخرين؟! والله يعلم مَن الذي يأتي بعد هؤلاء ويقضي عليهم بمثل ما قضوا به على مَن كان قبلهم.

والسنن والآداب والرسوم الدائرة في المجتمعات (أعمّ من الصحيحة والفاسدة)، ثمّ المرتحلة عنها لعوامل متفرِّقة، أقواها خيانة أولياؤها وضعف إرادة الأفراد المستنِّين بها كثيرة، يعثر عليها مَن راجع كُتب التواريخ.

فليت شعري! ما الفرق بين الإسلام من حيث إنّها سنّة اجتماعية وبين هذه السنن المتقلّبة المتبدّلة؛ حيث يُقبل العذر فيها ولا يُقبل في الإسلام؟! نعم كلمة الحق اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربية وجهالة تقليد شرقية، فلا سماء تُظلُّها ولا أرض تُقلُّها.

وعلى أيّ حال، يجب أن يتنبّه ممّا فصّلناه، أنّ تأثير سنّة من السنن أثرها في الناس وعدمه، وكذا بقاؤها بين الناس وارتحالها لا يرتبط - كل الارتباط - بصحّتها وفسادها، حتى يُستدلّ عليه بذلك، بل لسائر العلل والأسباب تأثير في ذلك، فما من سنّة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الأطوار والعهود إلاّ وهي تنتج يوماً وتُعقم آخر، وتُقيم بين الناس بُرهة من الزمان وترتحل عنهم في أُخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها، وتلك الأيام

١٥٦

نُداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتّخذ منكم شهداء.

وبالجملة؛ القوانين الإسلامية والأحكام التي فيها، تُخالف بحسب المبنى والمشرب سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس، فإنّ القوانين الاجتماعية التي لهم تختلف باختلاف الأعصار وتتبدّل بتبدُّل المصالح، لكنّ القوانين الإسلامية لا تحتمل الاختلاف والتبدُّل من واجب أو حرام، أو مستحب أو مكروه أو مباح، غير أنّ الأفعال التي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها، وكل تصرُّف له أن يتصرَّف به أو يدعه، فلوليِّ الأمر أن يأمر الناس بها أو يناهم عنها، ويتصرّف في ذلك كأنّ المجتمع فرد والوالي نفسه المتفكّرة المريدة.

فلو كان للإسلام والٍ أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التي يرتكبونها باسم تعدُّد الزوجات وغير ذلك، من غير أن يتغيّر الحكم الإلهي بإباحته، وإنّما هو عزيمة إجرائية عامة لمصلحة، نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدُّد الزوجات، لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم، بل لأنّه حكم إباحي له أن يعزم على تركه.

١٥٧

تعدُّد أزواج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم):

وممّا اعترضوا عليه تعدّد زوجات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قالوا: إنّ تعدّد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره والانقياد لداعي الشهوة، وهو (صلّى الله عليه وآله وسلم) لم يقنع بما شرّعه لأُمّته من الأربع حتى تعدّى إلى التسع من النسوة.

والمسألة ترتبط بآيات متفرّقة كثيرة في القرآن، والبحث من كل جهة من جهاتها يجب أن يُستوفى عند الكلام على الآية المربوطة بها؛ ولذلك أخّرنا تفصيل القول إلى محالّه المناسبة له، وإنّما نُشير ههنا إلى ذلك إشارة إجمالية.

فنقول: من الواجب أن يُلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أنّ قصّة تعدّد زوجات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ليست على هذه السذاجة (أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالغ في حبِّ النساء حتى أنهى عدّة أزواجه إلى تسع نسوة) بل كان اختياره لمَن اختارها منهنّ على نهج خاص في مدى حياته، فهو (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان تزوّج - أول ما تزوّج - بخديجة رضي الله عنها، وعاش معها مقتصراً عليها نيِّفاً وعشرين سنة (وهي ثُلثا عمره الشريف بعد الازدواج) منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل

١٥٨

الهجرة من مكّة، ثمّ هاجر إلى المدينة وشرع في نشر الدعوة وإعلاء كلمة الدين، وتزوّج بعدها من النساء منهنّ البكر، ومنهنّ الثيّب، ومنهنّ الشابّة، ومنهنّ العجوز، والمكتهلة، وكان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين، ثمّ حُرِّم عليه النساء بعد ذلك إلاّ من هي في حبالة نكاحه، ومن المعلوم أنّ هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرّد حبّ النساء والولوع بهنّ، والوله بالقرب منهنّ، فأوّل هذه السيرة وآخرها يُناقضان ذلك.

على أنّا لا نشكُّ - بحسب ما نُشاهده من العادة الجارية - أنّ المتولّع بالنساء، المغرم بحبهنّ والخلاء بهنّ والصبوة إليهنّ، مجذوب إلى الزينة، عشيق للجمال، مفتون بالغنج والدلال، حنين إلى الشباب ونضارة السنِّ وطراوة الخلقة، وهذه الخواص أيضاً لا تنطبق على سيرته (صلّى الله عليه وآله وسلم) فإنّه بنى بالثيّب بعد البكر، وبالعجوز بعد الفتاة الشابّة، فقد بنى بأمّ سلمة وهي مسنّة، وبنى بزينب بنت جحش وسنّها يومئذٍ يربو على الخمسين بعدها تزوّج بمثل عائشة وأُمّ حبيبة، وهكذا.

وقد خيّر نساءه بين التمتيع والسراح الجميل، وهو الطلاق إن كنّ يُردن الدنيا وزينتها، وبين الزهد في الدنيا وترك التزيين والتجمُّل إن كنّ يُردن الله ورسوله والدار الآخرة، على ما يشهد به قوله تعالى في القصة:

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

وهذا المعنى أيضاً - كما ترى - لا ينطبق على حال رجل مُغرم بجمال النساء، صابٍ إلى وصالهنّ.

____________________

(1) سورة الأحزاب، الآيتان: 28 - 29.

١٥٩

فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمِّق - إذا أنصف - إلاّ أن يوجّه كثرة ازدواجه (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيما بين أول أمره وآخر أمره بعوامل أُخَر، غير عامل الشره والشبق والتلهِّي.

فقد تزوّج (صلّى الله عليه وآله وسلم) ببعض هؤلاء الأزواج اكتساباً للقوّة وازدياداً للعضد والعشيرة، وببعض هؤلاء استمالة للقلوب وتوقّياً من بعض الشرور، وببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق وإدارة المعاش؛ وليكون سنّة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل والعجائز من المسكنة والضيعة، وببعضها لتثبيت حكم مشروع وإجرائه؛ عملاً لكسر السنن المنحطّة والبدع الباطلة الجارية بين الناس، كما في تزوجه بزينب بنت جحش، وقد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثمّ طلّقها زيد، وقد كان زيد هذا يُدعى ابن رسول الله على نحو التبنّي، وكانت زوجة المدعوّ ابناً عندهم كزوجة الابن الصُلبي، لا يتزوّج بها الأب، فتزوّج بها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ونزل فيها الآيات.

وكان (صلّى الله عليه وآله وسلم) تزوّج لأول مرّة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة، وقد توفِّي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، وكانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة، ولو رجعت إلى أهلها وهم يومئذ كفّار لفتنوها، كما فتنوا غيرها من المؤمنين والمؤمنات بالزجر والقتل، والإكراه على الكفر.

وتزوّج بزينب بنت خزيمة، بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أُحد، وكانت من السيدات الفُضليات في الجاهلية، تُدعى أمَّ المساكين؛ لكثرة برِّها للفقراء والمساكين وعطوفتها بهم، فصان بازدواجها ماء وجهها.

وتزوّج بأمّ سلمة واسمها هند، وكانت من قبل زوجة عبد الله أبي سلمة ابن عمّة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأخيه من الرضاعة، أول مَن هاجر إلى الحبشة، وكانت زاهدة فاضلة، ذات دين ورأي، فلمّا توفِّي عنها زوجها كانت مسنّة ذات أيتام

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597