بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة10%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 597

  • البداية
  • السابق
  • 597 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 45437 / تحميل: 5277
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فصل آخر في السؤال والبيان

إن سألك سائل فقال : ما أول نعمة الله تعالى عليك؟

فقل : خلقه إياي حيا لينفعني.

فإن قال : ولم زعمت أن خلقه إياكُ حياً أول النعم؟

فقل : لأنه خلقني لينفعني ، ولا طريق إلى نيل النفع إلا بالحياة التي يصح معها الإدراك.

فإن قال : ما النعمة؟

فقل : هي المنفعة إذا كان فاعلها قاصداً لها.

فإن قال : فما المنفعة؟

قل : هي اللذة الحسنة ، أو ما يؤدي إليها.

فإن قال : لم اشترطت أن تكون اللذة حسنة به(1) ؟

فقل : لأن من اللذات ما يكون قاتلاً ، فلا يكون حسنا.

فإن قال : لم قلت : أو ما يؤدي إليها؟

فقل : لأن كثيراً من المنافع لا يتوصل إليها إلاّ بالمشاق ، كشرب الدواء الكريه ، والفصد ، ونحو ذلك من الاُمور المؤدية إلى السلامة واللذات ، فتكون. هذه المشاق منافع لما تؤدي إليه في عاقبة الحال.

ولذلك قلنا : إن التكليف نعمة حسنة ، لأن به ينال مستحق النعيم الدائم واللذات.

فإن قال : فما كمال نعم اللّه تعالى؟

فقل : إن نعمه تتجدد علينا في كل حال ، ولايستطاع لها الإحصاء.

فإن قال : فما تقولون في شكر المنعم؟

فقل : هو واجب.

فإن قال : فمن أين عرفت وجوبه؟

__________________

1 ـ ليست في المصدر ، والظاهر أنها زائدة.

٤١

فقل : من العقل وشهادته ، وأوضخ(1) حجته ودلالته ، ووجوب شكر المنعم على نعمته ، مما تتفق العقول عليه ولا تختلف فيه.

فإن قال : فما الشكر اللازم على النعمة؟

فقل : هو الاعتراف بها ، مع تعظيم منعمها.

فإن قال : فهل أحد من الخلق يكافىء نعم اللّه تعالى بشكر ، أو يوفي حقها بعمل؟

فقل : لايستطيع ذلك أحد من العباد ، من قبل أن الشيء إنما يكون كفواً لغيره ، إذا سد مسده ، وناب منابه ، وقابله في قدره ، وماثله في وزنه.

وقد علمنا أنه ليس من أفعال الخلق ما يسد مسد نعم اللّه عليهم ، لاستحالة الوصف للّه تعالى بالإنتفاع ، أو تعلق الحوائج به إلى المجازاة.

وفساد مقال من زعم أن الخلق يحيطون علماً بغاية الانعام من اللّه تعالى عليهم والافضال ، فيتمكنون من مقابلتها بالشكر على الاستيفاء للواجب والاتمام.

فنعلم بهذا تقصير العباد عن مكافاة نعم اللّه تعالى عليهم ، ولو بذلوا في الشكر والطاعات غاية المستطاع ، وحصل ثوابهم في الاخرة تفضلاً من اللّه تعالى عليهم وإحساناً إليهم ، وإنما سميناه استحقاقاً في بعض الكلام ، لأنه وعد به على الطاعات ، وهو الموجب له على نفسه بصادق وعده ، وإن لم يتنأول شرط الاستحقاق على الأعمال ، وهذا خلاف ما ذهبت إليه المعتزلة ، إلاّ أبوالقاسم البلخي فإنه يوافق في هذا المقال ، وقد تناصرت به مع قيام الأدلة العقلية عليه الأخبار.

روى أبوعبيدة الحذاء عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قال الله تعالى : لايتكل العاملون على أعمالهم التي يعطونها لثوابي ، فإنهم لواجتهدوا واتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي ، كانوا مقصرين غير بالغين [ في عبادتهم كنه عبادتي ، فيما يطلبون ](2) من كرامتي ، والنعيم في جناتي ، و(3) رفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فليثقوا ، وفضلي فليرجوا ، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا فإن

__________________

1 ـ في الكنز : وواضح.

2 ـ ما بين المعقوفبن أثتناه من الكنز.

3 ـ في الأصل : من ، وما أثبتناه من الكنز.

٤٢

رحمتي عند ذلك تدركهم ، وبمنّي ابلغهم رضوان [ ومغفرتي وألبسهم عفوي ](1) » وبعفوي اُدخلهم جنتي ، فإني أنا اللّه الرحمن الرحيم ، بذلك تسميت ».

وعن عطا بن يسار ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : « يوقف العبد ، بين يدي اللّه ، فيقول لملائكته : قيسوا بين نعمي عليه وبين عمله. فتستغرق النعم العمل ، فيقول : هبوا له النعم ، وقيسوا بين الخير والشر منه ، فإن استوى العملان أذهب اللّه الشر بالخير وأدخله الجنة ، وإن كان له فضل أعطاه اللّه بفضله ، وإن كان عليه فضل ـ وهو من أهل التقوى ، ولم يشرك باللّه تعالى ـ فهو من أهل المغفرة ، يغفر اللّه له برحمته إن(2) شاء ويتفضل عليه بعفوه ».

وعن سعد(3) بن خلف ، عن أبي الحسنعليه‌السلام أنه قال له : « عليك بالجد والاجتهاد في طاعة اللّه ، ولا تخرج نفسك من حد التقصيرفي عبادة اللّه وطاعته ، فإن الله تعالى لايعبد حق عبادته ».

* * *

__________________

1 ـ أثبثناه من الكنز.

2 ـ في الاصل : لمن وما اثبتناه من الكنز.

3 ـ في الاصل : سعيد ، وما أثبتناه من الكنز ومعاجم الرجال هو الصواب ، فقد عده الشيخ فيرجاله من أصحاب الكاظمعليه‌السلام ، وقال : واقفي ، أُنظر « رجال الشيخ : 350 رقم 2 ، تنقيح المقال 2 : 12 ، معجم رجال الحديث 8 : 5025 / 58 ».

٤٣

كتاب

( البرهان على ثبوت الايمان )

لأبي الصلاح التقي بن نجم بن عبيدالله الحلبي

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين ، وصلواته على خيرة النبيين محمد وآله الطاهرين وسلم وكرم.

أول فعل مقصود يجب على العاقل ، مما لايخلو منه عنك(1) كمال عقله ، من وجوب النظر المؤدي إلى المعرفة ، لأن الحي عند كمال عقله يجد عليه آثارَ نفع ، من كونه حياً سميعاً بصيراً عاقلا مميزاً قادراً متمكناً ، مدركاً للمدركات منتفعاً بها ، ويجوز أن يكون ذلك نعمة لمنعم.

ويعلم أنها إن كانت كذلك ، فهي أعظم نعمة لانغمار كل نعمة في جنبها ، ويجد في عقله وجوب شكر المنعم ، واستحقاق المدح على فعل الواجب والذم على الإخلال به ، ويجوز أن يستحق من موجده والمنعم عليه مع المدح ثواباَ ومع الذم عقاباً ، ويجد في عقله وجوب التحرز من الضرر اليسير وتحصيل النفع العظيم.

فتجب عليه معرفة من خلقه والنفع له ، ليعلم قصده فيشكره ان كان منعماً ، ولا سبيل إلى معرفته إلا بالنظر في آثارصنعته لوقوعها بحسبها ، ولوكانت لها سبب غيره ، لجاز حصول جميعها لمن لم ينظر وانتفاؤها عن الناظر ، فوجب فعله لوجوب ما لايتم الواجب إلا به.

والواجب من المعرفة شيئان : توحيد وعدل ، وللتوحيد إثبات ونفي.

فالاثبات : اثبات صانع للعالم ـ سبحانه ـ قادر ، عالم ، حي ، قديم ، مدرك ، مريد.

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : عند.

٤٤

والنفي : نفي صفة زائدة على هذه الصفات ، ونفي التشبيه ، ونفي ألادراك عنه ـ تعالى ـ بشيء من الحواس ، ونفي الحاجة ، ونفي قديم ثان شارك في استحقاق هذهالصفات.

والعدل : تنزيه أفعاله عن القبيح ، والحكم لها بالحسن.

* * *

٤٥

فصل

« في الكلام في التوحيد »

طريق العلم باثبات الصانع ـ سبحانه ـ أن يعلم الناظر : أن هاهنا حوادث يستحيل حدوثها عن غير محدث.

وجهة ذلك : أن يعلم نفسه وغيره من الأجسام ، متحركاً ساكناً ، ثم مجتمعاً مفترقآَ ، أوضحه ذلك.

فيعلم بتغاير هذه الصفات على الأجسام ، أنها أعيان لها ، لأنها لو كانت صفات لذواتها ، لم يجز تغيرها.

ويعلم بتجددها عن عدم ، وبطلانها عن وجود ، أنها محدثة ، لاستحالة الإنتقال عليها ، من حيث لم تقم بأنفسها ، والكمون المعقول راجع به إلى الانتقال.

فإذا علم استحالة ذلك على هذه الصفات ، علم أن المتجدد منها إنما يجدد عن عدم ، وهذه حقيقة المحدث والمنتفي ، وأن ما انتفى عن الوجود والعدم يستحيل على القديم لوجوب وجوده ، وما ليس بقديم محدث.

فإذا علم حدوث هذه المعاني المغايرة للجسم ، وعلم أنه لابد في الوجود من مكان يختصه مجأوراً لغيره أو مبايناً ، وقتا واحداً أو وقتين ، لابثا فيه أو منتقلاً عنه ـ وقدتقدم له العلم : انه إنما كان كذلك لمعان غيره محدثة علم أنه محدث ، لأنه لو كان قديماً لوجب أن يكون سابقا للحوادث بما لانهاية له.

فإذا علم أنه لاينفك من الحوادث ، علم كونه محدثا ، لعلمه ضرورة بحدوث مالم يسبق المحدث ، ولأنه إذا فكرفي نفسه ـ وغيرها ـ فوجدها كانت نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظماً ، ثم جنيناً ، ثم حيا ، ثم طفلاً ، ثم يافعا ، ثم صبيا ، ثم غلاما ، ثم بالغاً ، ثمشاباً قوياً ، ثم شيخاً ضعيفاً ، ثم ميتاَ.

وأنه لم يكن كذلك إلا بتجدد معان فيه : حرارات ، وبرودات ، ورطوبات ، ويبوسات ، وطعوم ، وألوان ، وأراييح مخصوصة ، وقدر ، وعلوم ، وحياة.

وعلم بطلان كل صفة من هذه الاغيار بعد وجود ، وتجددها عن عدم ، والجواهر التي تركب منها الجسم باقية ، علم أنها صفات مغايرة لها وأنها محدثه ، لاستحالة الكون

٤٦

والانتقال عليها بما قدمناه.

وإذا علم حدوث جواهره ـ وغيره من الجواهر ـ بالاعتبار الأول ، وصفاته بهذه وصفات غيره بالاعتبار الثاني ، ولأنها لا تنفك من المحل المحدث.

وعلم أن في الشاهد حوادث ـ كالبناء والكتابة ـ وأن لها كاتباً وبانياً ، هو من وقعت منه بحسب غيرها ، وانما ذلك مختص بما يجوز حصوله وانتفاؤه ، فلا يحصل إلا بمقتض.

فأما ما وجب فمستغن بوجوبه عن مؤثر منفصل عن الذات ، كتحيز الجوهر ، وحكم السواد.

ولا يجوز خروجه تعالى عن هذه الصفات ، لوجوب الوجود له تعالى في حق كونه قديماً لنفسه ، يجب له وجوده تعالى في كل حال ، وكونها صفات نفسه يجب ثبوتها للموصوف ويستحيل خروجه عنها كل ما وجد ، لكون المقتضي ثانيا(1) وهو النفس ، واستحالة حصول المقتضي وانتفاء مقتضاه.

وبعلمه سبحانه مدركاً إذا وجدت المدركات ، لكونه تعالى يستحيل فيه الآفات والموانع ، بدليل حصول هذا الحكم لكل حي لا آفة به متى وجد المدرك ، وارتفعت الموانع.

وبعلمه سبحانه مريداً لوقوع أفعاله على وجه دون وجه وفي حال دون اخرى ، وذلك مفتقر إلى أمر زائد على كون الحي قادراً عالما ، لكونه صفة للفعل زائدة على مجرد الحدوث والاحكام ، وارادته فعله إذ كونه مريداً لنفسه ، أو معنى قديم يقتضي قدم المرادات ، أو كونه عازما ، وكلا الأمرين مستحيل فيه سبحانه.

والمحدَث لا يقدرعلى فعل الإرادة في غيره ، وقديم ثان نرد(2) برهان نفيه ، فثبت سبحانه مريداً بإرادة يفعلها إلا(3) في محل لاستحالة حلولها فيه أو في غيره ، ولا صفة له سبحانه زائدة على ما علمناه ، لأنه لاحكم لهما ولا برهان بثبوتهما ، واثبات مالا حكم له ولا برهان عليه مفض إلى الجهالات.

وبعلمه سبحانه لايشبه شيئاَ من الأجسام والاعراض ، لقدمه تعالى وحدوث

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : ثابتاً.

2 ـ كذا ، ولعل الصواب : مرّ.

3 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : لا.

٤٧

هذه الأجناس ، لتعذر هذه الأجناس على غيره.

وإذا علمه تعالى فكذلك علم استحالة ادراكه بشيء من الحواس ، لأن الادراك المعقول مختص بالمحدثات.

وعلم كذلك استحالة الاختصاص بالجهات والنقل فيها والمجاوزة والحلول وايجاب الاحكام والاحوال عليه سبحانه ، لكون ذلك من صفات الأجسام والأعراض المباينة له تعالى.

وبعلمه(1) عنها يستحيل عليه الحاجة لاختصاصها باجتلاب النفع ودفع الضرر واختصاص النفع والضر بمن يصح أن يألم ويكد(2) ، واختصاص اللذة والألم بذي شهوة ونفار ، وكونهما معنيين يفتقران إلى فعل ، وذلك لايجوز عليه لحدوث المحل وقدومه(3) سبحانه ، ولخلو الفعل من دليل على اثباته مسهيا(4) أو نافراً.

وإذا علم تخصصه تعالى بهذه الصفات من سائر الموجودات ، علمه(5) تعالى واحدا ، لانهما لوكانا اثنين لوجب اشتراكهما في جميع الصفات الواجبة والجائزة ، وذلك يوجب كون مقدورهما ومرادهما واحداً ، مع حصول العلم الضروري بصحة إرادة أحد المتحيزين ما يكره الاخر أو لا يريده ولا يكرهه ، وقيام البرهان على استحالة تعلق مقدور واحد بقادرين ، وتقديرقديم ثان يقتضي نقض هذا المعلوم.

فثبت أنه تعالى واحدا لا ثاني له ، ولانه لا دليل من جهة العقل على إثبات ثان ، وقد ورد السمع المقطوع بإضافته إليه سبحانه بنفي قديم ثان ، فوجب له القطع على كونه واحد.

* * *

__________________

1 ـ كذا ، ولعل الصواب : وبغناه.

2 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : ويلذ.

3 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : وقدمه.

4 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : مشتهياً.

5 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : علم.

٤٨

 « فصل في مسائل العدل »

ثبوت ما بيناه من كونه تعالى عالماً لايصح أن يجهل شيئاً ، غنياً لا يصح أن يحتاج إلى شيء ، يقتضي كونه سبحانه عادلاً لايخل بواجب في حكمته سبحانه ولا يفعل قبيحاً ، لقبح ذلك وتعذر وقوع القبيح من العالم به وبالغني(1) عنه ، وذلك فرع لكونه قادراً على القبيح.

وكونه تعالى قادرا لنفسه ، يقتضي كونه قادرا على الحسن ، يقتضي كونه قادرا على القييح ، اذ كان الحسن من جنس القبيح ، وذلك مانع من كونه مريدا للقبيح ، لأناقد بينا أنه لا يكون مريداً إلا بإرادة يفعلها ، وإرادة القبيح قبيحة ، لأن كل من علم مريداً للقبيح علم قبح إرادته واستحقاقه الذم ، ومقتض لكونه مريدا لما فعله ـ تعالى ـ وكلَّفه ، لاستحالة فعله مالا غرض فيه ، وتكليفه مالا يريده ، وكارهاَ للقبيح لكونه غيرمريد له (وفساد حلوما كلفه)(2) ، واحسانه من الارادة والكرامة ، لأن ذلك يلحقه بالمباح ، وموجب لكون المكلف قادراً على ما كلفه ـ فعلاً وتركاً ـ من متماثل الأجناس ومختلفها ومضادها قبل وقوع ذلك ، ومزيح لعلته بالتمكين من ذلك والعلم به واللطف فيه ، ومقتض لحسن أفعاله وتكاليفه ، لأن خلاف ذلك ينقض كونه عادلاً وقد أثبتناه.

ولا يعلم كون كل مكلم(3) قادراً لصحة الفعل منه ، ومتعلقا بالمتماثل والمختلف والمتضاد ، لصحة وقوع ذلك من كل قادر.

وفاعلاً لوجوب وقوع التأثيرات المتعلقة به من الكتابة والبناء وغيرهما بحسب أحواله ، ولتوجيه المدح إليه على حسنها والذم على قبحها ، وثبوت القادر على الفعل قبل وقوعه ، لثبوت حاجة المقدور في حال عدمه إلى حال القادر ، واستغنائه في حال وجوده عنها كحال بقائه ، ومتمكناً بالايات(4) من جميع ما يفتقر إليها ، وبكمال العقل من العلم بذوات الأشياء واحكامها ، وبالنظر من العلوم المكتسبة ، بدليل حصول الأول

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : والغني.

2 ـ كذا في الأصل.

3 ـ كذا ، ولعل الصواب : مكلف.

4 ـ كذا ، ولعل الصواب : بالآلات.

٤٩

لكل عاقل ، والثاني لكل ناظر ، ووجوب اصطلاح المريد من غيره ما يعلم أو يظن كونه مؤثراً في اختياره ، ولوجوب تمكينه.

وعلمنا بأنّه تعالى لايخل بواجب في حكمته ، وظهور الغرض الحكمي في أكثرها أوجده سبحانه على جهة التفضل ، وثبوت ذلك على الجملة فيما لايظهر لنا تفصيل المراد به كأفعال سائر الحكماء.

وحسن التكليف لكونه تعريضا لما لايوصل إليه إلا به من الثواب.

وكون التعريض للشيء في حكم ايصاله من حسن وقبح ، لأنه لا حسبة له بحسن التكليف غيره ، وعلمه سبحانه بكفر المكلف أو فسقه لا يقتضي قبح تكليفه ، لكونه تعالى مزيحاً لعلته ومحسنا إليه كإحسانه إلى من علم من حاله انه يؤمن ، اُتي من قبل نفسه فالتبعة عليه دون مكلفه سبحانه.

وحسن جميع ما فعله تعالى من الالام أو فعل بأمره أو إباحته ، لما فيه من الاعتبار المخرج له من العيب ، والعوض الزائد المخرج له عن قبيل الظلم والاساءة ، إلى حيز العدل والاحسان.

ووجوب الانتصاف للمظلوم من الظالم ، لوقوع الظلم عن تمكينه تعالى ، وانكان كارها له تعالى.

ووجوب الرئاسة ، لكون المكلف عندها أقرب من الصلاح ، وأبعد من الفساد.

ووجوب ماله هذه الصفة لكونه لطفاً ، ووقوف هذا اللطف على رئيس لا رئيس له ، لفساد القول بوجود ما لا نهاية له من الرؤساء ، ومنع الواجب في حكمته تعالى.

ولا يكون كذلك إلاّ بكونه معصوما ، كون الرئيس أفضل الرعية وأعلمها لكونه إماما لها في ذلك ، وقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه فيه.

ووجوب نصبه بالمعجزات والنص المشير.(1) إليه ، لوجوب كونه على صفات لا سبيل إليها إلاّ ببيان علام الغيوب سبحانه.

وهذه الرئاسة قد تكون نبوة ، وقد تكون إمامة ليست بنبوة.

فالنبي هو المؤدي عن اللّه سبحانه بغير واسطة من البشر ، والغرض في تعينه بيان

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : المشير.

٥٠

المصالح من المفاسد.

والدلالة على حسن البعثة لذلك قيام البرهان على وجوب بيان المصالح والمفاسد للمكلّف في حق المكلّف ، فلا بد متى علم سبحانه ماله هذه الصفة من بعثه مبيناً له ، ولابد من الموت(1) المبعوث معصوماً فيما يرد به من حيث كان الغرض في تعينه ليعلم المكلف المصالح والمفاسد من جهته ، فلو جاز عليه الخطأ فيما يؤديه لارتفعت الثقة بادائه ، وقبح العمل بأوامره واجتناب نواهيه.

ولابد من كونه معصوماً من القبائح ، لوجوب تعظيمه على الإطلاق وقبح ذمه ، والحكم بكفر المستخف خيط به مع وجوب ذم فاعل القبيح.

ولا يعلم صدقه إلا بالعجز ، ويفتقر إلى شروط ثلا ثة :

أولها : أن يكون خارقاً للعادة ، لأنه إن كان معتاداً ـ وإن تعذر جنسه ـ كخلق الولد عند الوطء ، وطلوع الشمس من المشرق ، والمطر في زمان مخصوص ، لم يقف على مدع من مدع.

وطريق العلم بكونه خارقاً للعادة ، اعتبار حكمها وما يقع فيها ويميزه من ذلك على وجه لا لبس فيه ، أو بحصول تحد وتوفر دواعي المتحدي وخلوصا(2) وتعذر معارضته.

وثانيها : أن يكون من فعله تعالى ، لأن من عداه سبحانه يصح منه ايثار القبيح فلا يؤمن منه تصديق الكذاب ، وطريق العلم بكونه من فعله تعالى ، أن يكون متعدد الجنس كالجواهر والحياة وغيرهما من الأجناس الخارجة من مقدور المحدثين ، أو يقع بعض الاجناس المختصة بالعباد على وجه لايمكن إضافته إلا إليه سبحانه.

ثالثها : أن يكون مطابقاً للدعوى ، لأنه إن كان منفصلاً عنها لم يكن مدع أولى به من مدع ، وطريق ذلك المشاهدة أو خبرالصادق.

فتمى تكاملت هذه الشروط ثبت كونه معجزا ، إذ (لاصدق من)(3) اقترن ظهوره بدعواه لأنه جار مجرى قوله تعالى : صدق هذا عليَّ فيما يؤديه عني ، وهو تعالى لايصدق الكذابين.

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : كون.

2 ـ كذا ، ولعل الصواب : وخلوصه.

3 ـ كذا ، ولعل الصواب : لا أصدَقَ ممّن.

٥١

فإذا علم صدقه بالمعجز ، وجب اتباعه فيما يدعو إليه ، والقطع على كونه مصلحة ، وينهى(1) عنه والقطع بكونه مفسدة.

ولا طريق إلى نبوة أحد من الانبياءعليهم‌السلام الان ، إلا من جهة نبينا صلوات اللّه عليه وآله ، لانسداد طريق التواتر بشيء من معجزاتهم بنقل من عدا المسلمين لفقد العلم باتصال الأزمنة مشتملة على متواترين فيها بشيءٍ من المعجزات ، وتعذر تعين الناقلين لها.

وطريق العلم بنبوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القران وما عداه من الايات ، ووجه الاستدلال به ، أنه تحداهم به على وجه لم يبق لهم صارف عن معارضته ، فتعذرت على وجه لايمكن اسناده إلى غير عجزهم ، اما لأنه في نفسه معجز ، أو لأن اللّه سبحانه صرفهم عن معارضته ، اذ كل واحد من الأمرين دال على صدقه.

وقد تضمن القران ذكر أنبياء على جهة التفصيل والجملة ، فيجب لذلك ألتدين بنبوتهم ، وكونهم على الصفات التي يجب كون النبي عليها.

وان رسول اللّه صلوات اللّه عليه أفضلهم وخاتمهم والناسخ لشرائعهم ، بشريعة يجب العلم والعمل بها إلى يوم القيامة.

والامام هو الرئيس المتقدم المقتدى بقوله وفعله والغرض في نصبه فيه من اللطف للرعية في تكاليفهم العقلية ، ويجوز أن يكون نائبا عن نبي أو إمام في تبليغ شريعة.

ومتى كان كذلك فلابد من كونه عالما بجميعها ، لقبح تكليفه الاداء وتكليف الرجوع إليه ، مع فقد العلم بما يؤديه ويرجع إليه فيه.

ويجب أن يكون معصوما في ادائه ، لكونه قدوة ، ولتسكن النفوس إليه ، لتسلم بعظمة الواجب خلوصه من الإستخفاف.

ويجب أن يكون عابدا زاهداً لكونه قدوة فيهما ، وإن كان مكلفاً [ ب ](2) جهاد أوجب كونه أشجع الرعية لكونه فئة لهم.

ويجوز من طريق العقل أن يبعث اللّه سبحانه إلى كل واحد من المكلفين نبياً وينصب له رئيساً ويكون ذلك في الأزمنة ، وإنما ارتفع هذا ألجائز في شريعتنا ، بحصول

__________________

1 ـ لعل الصواب : وفيما ينهى.

2 ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

٥٢

العلم من دين نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن لا نيي بعده ، ولا إمام في الزمان الا واحد.

ووضح البرهان على تخصيص الإمامة بعده بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين ، علي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، والحجة بن الحسن صلوات اللّه عليهم.

لا إمامة لسواهم ، بدليل وجوب العصمة للأمام فيما يؤديه ومن(1) سائر الصالح(2) ، وكونه أعلم الخلق وأعظمهم وأعدلهم وأزهدهم وأشجعهم ، وتعدى(3) من عاداهم من منتحلي الإمامة من تكامل هذه الصفات دعوى ، وتخصصهمعليهم‌السلام وشيعتهم بدعواها لهم ، في ثبوت النص من الكتاب والسنة المعلومة على إمامتهم ، وتعريهما [ عن ](4) ذلك فيمن عداهم حسب ما ذكرناه في غير موضع ، وذلك مقتض لضلال المتقدم عليهم ، وكفر الشاك في إمامة واحد منهم.

وغيبة الحجةعليه‌السلام ليست بقادحة في إمامته ، لثبوتها بالبراهين التيلا شبهة فيها على متأمل ، وامان المكلف من خطأ به في ظهور فاستتار وغيرهما لعصمته.

ويلزم العلم بجملة الشريعة فعلاً وتركاً لكون ذلك جملة الايمان ، والعلم بتفصيل ما تعين فرضه منها وايقاعه للوجه الذي شرع على جهة القربة ، لكون ذلك شرطاً في صحته ، وبراءة الذمة منه ، واستحقاق الثواب عليه.

وهي على ضروب أربعة : فرائض ، ونوافل ، ومحرمات ، وأحكام.

فجهة وجوب الفرائض كون فعلها لطفاً في فعل الواجب العقلي. وترك القبيح ، وقبح تركها لأنه ترك الواجب.

وجهة الترغيب في السنن ، كونها لطفا في المندوب العقلي ولم يقبح تركها ، وكما لا يقبح ترك ماهي لطف فيه.

وجهه قبح المحرمات ، كونها مفسدة في ترك الواجب وفعل القبيح ، ووجب تركها لأنه ترك القبيح.

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : من.

2 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : المصالح.

3 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : وتعرّي.

4 ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

٥٣

وجهة الأحكام ، ليعلم مكلفها الوجه الذي عليه يصح التصرف مما لايصبح.

فوضح ذلك علمنا ضرورة من حال فاعل العبادات الشرعية ومجتنب المحرمات كونه أقرب لنا ، للأنصاف والصدق وشكر النعمة وردّ الوديعة وسائر الواجبات ، والبعد من الظلم والكذب وسائر القبائح.

ومن حال فاعل المحرمات الشرعيات والمخل بالعبادات ، كونه أقرب [ من ](1) القبيح العقلي وابعد من الواجب.

ولا شبهة أن من بلي بالتجارة فلم يعلم أحكام البيوع ، لم يكن على يقين منصحة التملك.

وكذلك من بلي بالإرث مع جهله بأحكام المواريث ، لايكون على ثقة مما يأخذ ويترك.

وكذلك يجري الحال في سائر الأحكام ، وقد استوفينا الكلام في هذا القدح في مقدمة كتاب(2) « العمدة » و « التلخيص » في الفروع ، وفي كتابي « الكافي في التكليف » وفيما ذكرناه هاهنا بلغة ..

ولا طريق إلى اثبات الأحكام الشرعية والعمل بها إلا العلم دون الظن ، لكون التعبد بالشرائع مبنياً على المصالح التي لايوصل إليها بالظن ، ولا سبيل إلى العمل بجملتها إلا من جهة الأئمة المنصوبين لحفظها ، المعصومين في القيام بها ، المأمونين في ادائها ، لحصول العلم بذلك من دينهم لكل مخالط ، وارتفاع الخوف من كذبهم لثبوت عصمتهمعليهم‌السلام .

ولابد في هذه التكليف من داع وصارف ، وذلك مختص بالمستحق عليه من المدح والثواب والذم والعقاب والشكر.

فالمدح : هو القول المنبىء عن عظم حال الممدوح ، وهو مستحق بفعل الواجب والمندوب واجتناب القبيح.

والثواب : هوالنفع المستحق الواقع على جهة التعظيم والتبجيل ، وهو مستحق من الوجوه الثلاثة بشرط المشقة.

__________________

1 ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

2 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : كتابي.

٥٤

والذم : هوالقول المنبئ عن إيضاح حال المذموم ، وهو مستحق بفعل القبيح والإخلال بالواجب.

والعقاب : هوالضرب المستحق من الوجهين بشرط زائد.

والشكر : هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم ، وهومستحق بالإحسان خاصة.

والوجه في حسن التكليف ، كونه تعريضاً للثواب الذي من حقه ألا يحسن الابتداء به من دون العلم باستحقاق العقاب ودوامه.

وانما يعلم ان الثواب دائم والعقاب مستحق ودائم بالكفر ، ومنقطع بما دونه ، من جهة السمع.

والمستحق من الثواب ثابت لا يزيله شيء ، لأنه حق واجب في حكمته سبحانه ، لايجوز فيها منعه ، (والا سقوط بندم او زائد)(1) عقائد ، لاستحالة ذلك ، لعدم التنافي بين الثواب وبينهما لعدم الجميع ، وإحالة التنافي بين المعدومات.

وعقاب الفسق يجوز اسقاطه تفضلاً بعفو مبتدأ وعند الشفاعة لجوازه ، وعند التوبة لأنه حق له تعالى إليه قبضه واستيفاؤه ، واسقاطه إحسان إلى المعفو عنه.

وقد ورد الشرع مؤكداً لاحكام العقول ، فمن ذلك تمدحه سبحانه في غير موضع من كتابه بالعفو والغفران ، المختصين باسقاط المستحق في اللغة والشرع.

ولا وجه لهذا التمدح إلا بوجهه(2) إلى فساق أهل الصلاة ، بخروج(3) المؤمنين الذين لا ذنب لهم والكفار عنه باتفاق ، اذ لا ذنب لأولئك يغفر ، والعفو عن هؤلاء غير جائز.

ولأن ثواب المطيع دائم ، فمنع من دوام عقاب ما ليس بكفر ، لإجماع الاُمة على أنه لا يجتمع ثواب دائم وعقاب دائم لمكلف ، وفساد التخالط بين المستحقين مما(4) بيناه.

ولا أحد قال بذلك ، إلا جوز سقوط عقاب العاصي بالعفو ، أو الشفاعة المجمع

__________________

1 ـ كذا في الأصل.

2 ـ كذا ، ولعل الصواب : توجهه.

3 ـ كذا ، ولعل الصواب : لخروج.

4 ـ كذا ، والظا هر أن الصواب : بما.

٥٥

عليها ، ويخصصها بإسقاط العقاب ، ولا يقدح في ذلك خلاف المعتزلة ، لحدوثه بعد انعقاد الاجماع بخلافه.

وآيات الوعيد كلها وآيات الوعيد(1) مشترطة بالعفو ومخصصة بآيات العفو وعموم آيات الوعد ، ولثبوت ثواب المطيع وفساد التخالط ، وكون ذلك موجب التخصيصها بالكفار ان كان وعيدها دواماً أو كون عقابها منقطعا إن كان عاماً ، من حيث كان القول بعمومها للعصاة ودوام عقابها ينافي ماسلف من الأدلة.

والمؤمن : هو المصدق بجملة المعارف عن برهانها ، حسب ما خاطب به من لسان العرب ، المعلوم كون الايمان ـ فيه ـ تصديقا ، والكفر اسم لمن جحد المعارف أو شكفيها أو اعتقدها عن تقليد أو نظر لغير وجهه.

والفسق إسم لمن فعل قبيحا ، أو أخل بواجب من جهة العقل أو السمع ، لكونه خارجاً بذلك عن طاعة مكلفه سبحانه.

والفاسق في اللغة : هوالخارج ، [ و ](2) في عرف الشريعة هوالخارج عن طاعته سبحانه.

ومن جمع بين إيمان وفسق ، مؤمن على الاطلاق فاسق بما اتاه من القبيح ، لثبوت كل واحد منهما ، ومن ثبت إيمانه لا يجوزأن يكفر « لدوام ثواب الإيمان وعقاب الكفر وفساد اجتماعهما لمكلف واحد ، وثبوت المستحق منهما وعدم سقوطه بندم أوتحابط.

وقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) (3) مختص بمن أظهر الايمان أو اعتقده لغيروجهه ، دون من ثبت إيمانه ، كقوله تعالى :( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (4) يعني مظاهرة(5) للإيمان باتفاق ، ومدح المقطوع على إيمانه مطلق مقطوع بالثواب ، والمظهر مشترط بكون الباطن مطابقاً للظاهر واقعا موقعه.

وذم الكافر ولعنه مطلق ، مقطوع له بالعقاب الدائم.

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : الوعد.

2 ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

3 ـ النساء 4 : 137.

4 ـ النساء 4 : 92.

5 ـ كذا ، والظاهر انّ الصواب : مظهرة.

٥٦

وذم الفاسق مشترط الا بعفا(1) عن مستحقه ابتداءاً أو عند شفاعة ، وإذا ظهر كفر ممن كان على الإيمان ، وجب الحكم على ما مضى منه على المظاهرة (به النفاق)(2) ، أو كونه حاصلاً عن تقليد ، أو عن نظر لغير وجهه ، لما بيناه من الأدلة الموجبة لذلك.

ولابد من انقطاع التكليف ، والا انتقض الغرض المجرى به إليه من التعريض للثواب ، ولا يعلم بالعقل كيفية انقطاعه وحال(3) أيضاً أو جنسه وكيفية فعله ، وإنمايعلم ذلك بالسمع.

وقد حصل العلم من دينه صلى اللّه عليه ضرورةً ، ونطق القران بأن اللّه تعالى آخر بعد فناء كل شيء ، كما كان أولاً قبل وجود شيء ، حسب ما أخبرسبحانه من قوله :( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (4) ينشؤهم بعد ذلكُ ويحشرهم ليوم لا ريب فيه ، مستحق الثواب خالصاً والعقاب الدائم ، ليوصل كلاً منهما إلى مستحقه على الوجه الذي نص عليه تعالى ، ومن اجتمع له الاستحقاقان فإن(5) يستوفي منه سبحانه ما يستحقه من العقاب ، أو يعفو عنه ابتداءاً ، أو عند شفاعة ، ثم يوصله إلى ثواب إيمانه وطاعاته الدائم والمولم(6) به تعالى أو بغيره ، ليوصله إلى ما يستحقه من العوض عليه تعالى أوعلى غيره ، ثم يدخله الجنة إنكان من أهلها أو النار ، أو يبقيه ، أو يحرمه إن كان ممن لا يستحقها من البهائم والأطفال والمجانين ومن لا يستحق العوض ، ليتفضل عليه.

وهذا ـ اجمع ـ جائز من طريق العقل لتعلقه بمبتدئهم تعالى ، والنشأة الثانية أهون من الأولى ، وهي واجبة لما بيناه من وجوب ايصال كل مستحق إلى مستحقه من ثواب أو عقاب أو عوض.

ولا تكليف على أهل الآخرة باجماع ، ولأن العلم بحضور المستحق من الثواب والعقاب وفعله عقيب الطاعة والمعصية ملج ، والالجاء ينافي التكليف ، وأهل الآخرة

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر ان الصواب : باعفاء.

2 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : بالنفاق.

3 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : وحاله.

4 ـ الحد يد 57 : 3.

5 ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : فإنه.

6 ـ كذا.

٥٧

عالمون باللّه تعالى ضرورةً ، ليعلم المثاب والمعاقب والمعوض وصوله إلى ما يستحقه على وجهه ، ويعلم المتفضل عليه كون ذلك النفع نعمة له تعالى.

وقلنا أن هذه المعرفة ضرورية ، لأنا قد بينا سقوط تكليف أهل الآخرة ، فلم يبق مع وجوب كونهم عارفين إلا كون المعرفة ضرورية.

هذه جمل يقتضي كون العارف بها موقناً مستحقا للثواب الدائم وايصاله ، إليه ، ومرجوله العفو عما عداهما من الجوائر(1) . ويوجب كفر من جهلها ، أوشيئاً منها ، أوشك فيها ، أو اعتقدها عن غير علم ، أو شيئاً منها ، أو لغير وجهها ، قد قربناها بغاية وسعنا ، من غير اخلال بشيء يؤثر جهله في ثبوت الايمان لمحصلها ، وإلى اللّه سبحانه الرغبة في توفير حظنا ـ ومن تأملها أو عمل بها ـ من ثوابه وجزيل عفوه ، بجوده وكرمه انه قريب مجيب. تم الكتاب.

* * *

__________________

1 ـ كذا ، والظاهر ان الصواب : الجرائر.

٥٨

ومن خطبة له في التوحيد(1)

ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقتَهُ أصاب من مثّله ، ولا إياه عنى من شبّهه ، ولاصمده من أشارإليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول ، فاعل لا باضطراب آلةٍ ، مقدر لابجول فكرة ، غنيْ لا باستفادة ، لم لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء ازله ، بتشعيره المشاعر عرف ألاّ مشعرله ، وبمضادته بين الاُمور عرف ألا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف الاّقرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والوضوح بالبهيمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد ، مؤلفبين متعادياتها ، مقارن(2) بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها ، مفرق بين متدانياتها ، لا يُشمل(3) بحد ، ولايحسب بعد ، وأنما تحد الادوات أنفسها ، وتشير الآلات(4) إلى نظائرها ، منعتها (منذ) القدمية ، وحمتها (قد) الأزلية ، وجنبتها (لولا) التكملة ، [ بها ](5) تجلى صانعها للعقول ، و(6) بها امتنع عن نظر العيون ، لايجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟ ويعود فيه ما هو ابداه؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذاً لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ، ولامتنع من إلأزل معناه ، لو كان له وراء لوجد له امام ، ولا لتمس التمام اذ لزمه النقصان ، وإذاً لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحول دليلاً بعد أن كان مدلولاً [ عليه ](7) ، وخرج بسلطان إلامتناع من أن يؤثر [ فيه ما يؤثر ](8) في غيره ، الذي لايحول(9) ولا يزول ، ولا يجوزعليه الافوال ، لم يلدفيكون مولوداً ، ولم يولد فيكون(10) محدوداً ، جل عن اتخاذ الأبناء ، وطهرعن ملامسة النساء.

__________________

1 ـ رواها الشريف الرضي في نهح البلاغة 2 : 142 / 181 ، وقال : وتجمع هذه الخطبة من أصولالعلم مالا تجمعه خطبة غيرها.

2 ـ في الأصل : مقارب ، وما أثبتناه من النهج.

3 ـ في الأصل : لايشتمل ، وما أثبتناه من النهج.

4 ـ في النهج : الالة.

5 ـ أثبتناه من النهج.

6 ـ في الأصل : في ، وما أثبتناه من النهج.

7 ـ 8 ـ أثبتناه من النهج.

9 ـ في الأصل : لايحرك ، وما أثبتناه من النهج.

10 ـ في النهج : فيصير.

٥٩

لا تناله الأوهام فتقدره ، ولا تتوهمه الفطن فتصوره ، ولا تدركه الحواس فتحسه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسه ، لايتغير بحال ، ولا يتبدل بالأحوال(1) ، لاتبليه الليالي والأيام ، ولا يغيره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الاجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والابعاض.

ولا يقال له حد(2) ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا ان الأشياء تحويه فتقله أوتهويه ، أو ان شيئاً يحمله فيميله أو يعدله ، ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج ، يخبر بلا لسان ولهوات ، ويسمع بلا خروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة.

يقول لما(3) أراد كونه كن فيكون ، لابصوت يقرع ، ولانداء(4) يسمع ، وإنما كلامه(5) فعل منه أنشأه ومثله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولوكان قديما لكان إلهاً ثانيأ لايقال كان بعد أن لم يكن فتجرى عليه الصفات المحدثات ، ولا يكون بينها وبينه فصل [ ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدىء والبديع ](6) .

خلق الخلائق على غير(7) مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه.

وأنشأ الارض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غيرقرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصنها من الأود والإعوجاج ، ومنعها من التهافت والانفراج ، أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخد أوديتها ، فلميهن ما بناه ، ولا ضعف ماقواه ، هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي [ على ](8) كل شيء منها بجلاله وعزته ، لا يعجزه شيء منها يطلبه(9) ،

__________________

1 ـ في الأصل ، : من الأحوال ، وما أثبتناه من النهج.

2 ـ في الأصل : عد ، وما أثبتناه من النهج.

3 ـ في النهج : لمن.

4 ـ في النهج : ولا بنداء.

5 ـ في النهج زيادة : سبحانه.

6 ـ أثبتناه من النهج.

7 ـ في الأصل : خير ، وما أثبتناه من النهج.

8 ـ أثبتناه من النهج.

9 ـ في النهج : طلبه.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

دويهية تصفرّ منها الأنامل ١ .

و قال ابن ميثم : « بعد اللتيا و الّتي : مثل ، و أصله أنّ رجلا تزوّج امرأة قصيرة سيّئة الخلق . فقاسى منها شدائد . فطلّقها ، و تزوّج طويلة . فقاسى منها أضعاف ما قاسى من القصيرة فطلّقها ، و قال بعد اللتيا و الّتي لا أتزوّج أبدا فصار ذلك مثلا » ٢ . قلت : لم يذكر ذلك أمثال العسكري ، و لا الميداني ٣ ، و لا أدري من أين نقله .

و كما خصّت اللتيا بإبقاء فتحها كترك صلة لها كذلك بعدم ذكرها إلاّ مع الّتي كما في كلامه عليه السلام هنا ، و كما في كلام سيّدة النساء صلوات اللّه عليها في احتجاجها على أبي بكر في فدك « فأنقذكم اللّه تعالى بنبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعد اللتيا و الّتي ، و بعد أن مني ببهم الرجال » ٤ . و كما في قول شاعر :

بعد اللتيا و اللّتيا و التي

إذا علتها أنفس تردّت

أيضا :

و لقد رأيت نأى العشيرة كلّها

و كفيت جانبها اللتيا و التي

و من الأخير يعلم أنّ ذكر « بعد » قبل اللّتيّا و الّتي ليس بلازم و إن كان كثيرا .

هذا و في ( اللسان ) : « و تصغير الّتي و اللاتي و اللات اللتيّا . و اللّتيا بالفتح و التشديد . قال العجّاج :

دافع عني بنفير موتتي

بعد اللتيا و اللتيا و الّتي

ــــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب ١٥ : ٢٤٠ ، مادة ( لتا ) .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ١ : ٢٧٩ .

( ٣ ) ذكر المثل العسكري في جمهرة الامثال : ٦٠ ، و الميداني في مجمع الامثال ١ : ٩٢ ، و ذكر الميداني القصة أيضا .

( ٤ ) رواه عن سقيفة الجوهري الاربلي في كشف الغمة ٢ : ١١١ ، و غيره .

٤٢١
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الرابع الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

اذا علتها أنفس تردّت » ١ « و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه » كان عليه السلام متفردا بهذا الكلام كما بقوله « لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا » ٢ قلنا : إنّه عليه السلام متفرد بذلك لأنّ الأخبار وردت بأنّ الأنبياء من آدم الّذي وهب مقدارا من عمره لداود إلى غيره حتّى ابراهيم عليه السلام الّذي كان أشرف اولي العزم كانوا مستوحشين من الموت . ففي الخبر لمّا هبط ملك الموت لقبض روح ابراهيم عليه السلام قال له : أداع أم ناع ؟ قال : بل ناع . فقال : هل رأيت خليلا يميت خليله ؟ فقال : إلهي قد سمعت ما قال خليلك . فقال تعالى : قل له : هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه ؟ إنّ الحبيب يحبّ لقاء حبيبه ٣ .

و أمّا قصّة آدم . فروى ( الكافي ) عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السلام في خبر أنّ ابن شبرمة القاضي قال له : ما تقول في شي‏ء سألني عنه الأمير أي عيسى بن موسى العباسي فلم يكن عندي فيه شي‏ء . فقال : و ما هو ؟ قال :

سألني عن أوّل كتاب كتب في الأرض قال : نعم إنّ اللّه عزّ و جلّ عرض على آدم عليه السلام ذريّته عرض العين في صور الذرّ نبيّا فنبيّا ، و ملكا فملكا و مؤمنا فمؤمنا ، و كافرا فكافرا ، فلمّا انتهى إلى داود عليه السلام قال : من هذا الّذي نبّيته ،

و كرّمته ، و قصّرت عمره ؟ فأوحى إليه : هذا ابنك داود ، عمره أربعون سنة ،

و إنّي كتبت الآجال ، و قسمت الأرزاق ، و أنا أمحو ما أشاء ، و أثبت و عندي امّ الكتاب . فإن جعلت له شيئا من عمرك ألحقته له . قال : يا ربّ قد جعلت له من عمري ستّين سنة تمام المئة . فقال عزّ و جلّ لجبرئيل و ميكائيل ، و ملك الموت :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب ١٥ : ٤٤٦ ، مادة ( لتا ) ، و النقل بتصرف .

( ٢ ) رواه الجاحظ في مائة كلمة ، و شرحه لابن ميثم : ٥٢ ، و الخوارزمي في مناقبه : ٢٧١ ، و غيرهما .

( ٣ ) أخرجه الصدوق في علل الشرائع ١ : ٣٦ ح ٩ ، و في اماليه : ١٦٤ ح ١ ، المجلس ٣٦ ، و النقل بتخليص .

٤٢٢

اكتبوا عليه كتابا فإنّه سينسى . فكتبوا عليه كتابا و ختموه بأجنحتهم من طينة عليين . فلمّا حضرت آدم الوفاة أتاه ملك الموت . فقال له آدم : ما جاء بك ؟ قال :

لأقبض روحك . قال : قد بقي من عمري ستّون سنة . فقال : إنّك جعلتها لابنك داود ، و نزل عليه جبرئيل و أخرج له الكتاب . قال أبو عبد اللّه عليه السلام : فمن أجل ذلك إذا خرج الصك على المديون ذلّ ، فقبض روحه ١ .

و أمّا هو عليه السلام فروى نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) مسندا عن حبّة العرني قال : لمّا نزل علي عليه السلام الرقّة بمكان يقال له بليخ على جانب الفرات ، نزل راهب من صومعته . فقال لعليّ عليه السلام : إنّ عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه عيسى بن مريم عليه السلام أعرضه عليك ؟ قال : نعم فما هو ؟ قال هو : « بسم اللّه الرحمن الرحيم الّذي قضى في ما قضى ، و سطر في ما سطر أنّه باعث في الاميين رسولا منهم يعلّمهم الكتاب و الحكمة ، و يدلّهم على السبيل لا فظ و لا غليظ ، و لا صخّاب في الأسواق ، و لا يجزي بالسيّئة السيئة ، و لكن يعفو و يصفح ، امّته الحمّادون الذين يحمدون اللّه على كلّ نشز ، و في كلّ صعود و هبوط . تذلّ ألسنتهم بالتهليل و التكبير . ينصره اللّه على كلّ من ناواه . فإذا توفّاه اختلفت امّته ثم اجتمعت ، فلبثت بذلك ما شاء اللّه ، ثم اختلفت ، فيمرّ رجل من امّته بشاطئ هذا الفرات . يأمر بالمعروف ، و ينهى عن المنكر ، و يقضي بالحقّ ، و لا يرتشي في الحكم ، الدّنيا أهون عليه من الرّماد في يوم عصفت فيه الريح ، و الموت أهون عليه من شرب الماء على الظمأ » الخبر ٢ .

و مثله عليه السلام كانت سيّدة النساء صلوات اللّه عليها ففي ( طبقات كاتب الواقدي ) عن عائشة قالت : إنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم دعا ابنته فاطمة في وجعه الّذي

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الكليني في الكافي ٧ : ٣٧٨ ح ١ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) وقعة صفين : ١٤٧ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٢٣

توفّي فيه . فسارّها بشي‏ء . فبكت ، ثم دعاها فسارّها فضحكت . قالت فسألتها عن ذلك . فقالت : أخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه يقبض في وجعه هذا فبكيت . ثم أخبرني أنّي أوّل أهله لحاقا به فضحكت ١ .

و كذلك كان باقى أئمّتنا عليهم السلام و في ( اعتقادات الصدوق ) : قال الحسين عليه السلام يوم الطف لبعض أصحابه و كان تعجب من عدم مبالاته بالموت : ما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس و الضرّ ، إلى الجنان الواسعة و النعيم الدائم ٢ .

و فيه : و قال السجاد عليه السلام : الموت للمؤمن كنزع ثياب و سخة قملة . و فكّ قيود و أغلال ثقيلة ، و الاستبدال بأفخر الثياب و أطيبها روائح ، و أوطأ المراكب ،

و آنس المنازل الخبر ٣ .

هذا و قيل في مدح الموت أشعار كثيرة منها :

و ما الموت إلاّ راحة غير أنّها

من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي

أيضا :

جزى اللّه عنّا الموت خيرا فإنّه

أبرّ بنا من كلّ برّ و أرأف

يعجّل تخليص النفوس من الأذى

و يدني من الدار الّتي هي أشرف

أيضا :

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا

في الموت ألف فضيلة لا تعرف

منها أمان لقاءه بلقائه

و فراق كلّ معاشر لا ينصف

أيضا :

من كان يرجوا أن يعيش فإنّني

أصبحت أرجو أن أموت فأعتقا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) طبقات ابن سعد ٢ ق ٢ : ٣٩ .

( ٢ ) الاعتقادات للصدوق : ١٥ .

( ٣ ) الاعتقادات للصدوق : ١٥ .

٤٢٤

في الموت ألف فضيلة لو أنّها

عرفت لكان سبيله أن يعشقا

أيضا :

نحن و اللّه في زمان غشوم

لو رأيناه في المنام فزعنا

أصبح الناس فيه من سوء حال

حقّ من مات منهم أن يهنّا

« بل اندمجت » أي : انطويت .

« على مكنون علم » أي : مصونه و مستوره عن العامّة .

« لو بحت به » أي : أظهرته من باح الرجل بسرّه أظهره .

« لاضطربتم اضطراب الأرشية » الأرشية جمع الرشاء : حبل يستقى به من البئر ، و الرشوة قيل إنّها من هذا لأنّه يتوصّل بها إلى الحاجة كما يتوصل بالحبل إلى الماء ، و قيل : إنّها من رشا الفرخ إذا مدّ رأسه إلى امّه لتزقّه .

« في الطويّ البعيدة » أي : في البئر العميقة ، و بحسب ازدياد العمق يزداد اضطراب الحبل .

كان هو عليه السلام و أهل بيته ، و خواص شيعته يكتمون كثيرا ممّا يعلمون عن كثير من الناس لعدم استعدادهم لفهمه . و في كتاب سليم بن قيس : قال أمير المؤمنين عليه السلام : لو حدّثت عامّة شيعتي الذين سمّوني أمير المؤمنين و استحلوا جهاد من خالفني ببعض ما أعلم ممّا نزل به جبرئيل عليه السلام و سمعته من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم لتفرّقوا عنّي حتّى أبقى في عصابة حقّ قليلة إنّ أمرنا صعب مستصعب ، لا يعرفه و لا يقرّ به إلاّ ثلاثة : ملك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان ١ .

و عن السجاد عليه السلام كما في ( فواتح الميبدي ) ثم ( وافي الكاشاني ) ، و إن نسبها الخطيب إلى العتابي :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) كتاب سليم بن قيس : ٦٩ ، و النقل بتصرف .

٤٢٥

إنّي لأكتم من علمي جواهره

كيلا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا

و قد تقدّم في هذا أبو حسن

إلى الحسين و وصّى قبله الحسنا

و ربّ جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا

و لا ستحلّ رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا ١

و في ( الحلية ) عن أبي داود قال : كنّا يوما عند شعبة و في البيت جراب معلّق في السقف . فقال : أترون ذلك الجراب ؟ و اللّه لقد كتبت فيه عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن علي كرّم اللّه وجهه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما لو حدّثتكم به لرقصتم ، و اللّه لا حدّثتكموه ٢ .

و في ( الكافي ) : قيل لأبي جعفر الباقر عليه السلام أنّ الحسن البصري يزعم أنّ الّذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار . فقال عليه السلام : فهلك إذن مؤمن آل فرعون . ما زال العلم مكتوما منذ بعث اللّه نوحا ، فليذهب الحسن يمينا و شمالا فو اللّه ما يوجد العلم إلاّ ها هنا ٣ .

و في ( عيون القتيبي ) : قال سلمان : لو حدّثت الناس بكلّ ما أعلم لقالوا :

رحم اللّه قاتل سلمان ٤ .

و في ( رجال الكشّي ) عن الصادق عليه السلام قال سلمان في خطبته : أيّها الناس اسمعوا من حديثي ، ثم اعقلوه عنّي . قد اوتيت من العلم كثيرا ، و لو أخبرتكم بكلّ ما أعلم لقالت طائفة : إنّه لمجنون ، و قالت طائفة : اللّهمّ اغفر لقاتل سلمان . ألا إنّ لكم منايا تتبعها بلايا . فإنّ عند علي عليه السلام علم المنايا و علم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الميبدي في الفواتح ، مخطوط ، و الكاشاني في المحجة البيضاء ١ : ٦٥ ، و الشبراوي في الإتحاف : ١٣٨ ، و الآلوسي في روح المعاني ٦ : ١٩٠ ، عن السجّاد عليه السلام ، و رواه الخطيب في تاريخ بغداد ١٢ : ٤٨٩ ، عن العتابي .

( ٢ ) حلية الأولياء ٧ : ١٥٧ .

( ٣ ) الكافي ١ : ٥١ ، ١٥ .

( ٤ ) عيون الأخبار ٢ : ١٢٧ .

٤٢٦

الوصايا ، و فصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران . قال له النبي عليه السلام : أنت وصيّي و خليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى ، و لكنكم أصبتم سنّة الأوّلين ، و أخطأتم سبيلكم ، و الّذي نفس سلمان بيده لتركبنّ طبقا عن طبق ،

سنّة بني اسرائيل القذّة بالقذّة ، أما و اللّه لو ولّيتموها عليّا لأكلتم من فوقكم و من تحت أرجلكم . فأبشروا بالبلاء . و اقنطوا من الرجاء ، و أنذرتكم على سواء ، و انقطعت العصمة فيما بيني و بينكم من الولاء الخبر ١ .

و في ( استيعاب ابن عبد البر ) : سئل علي عليه السلام عن أبي ذر . فقال : ذاك رجل وعى علما عجز عنه الناس ، ثم أوكأ عليه و لم يخرج شيئا منه ٢ .

و روى المرتضى في ( شافيه ) : أنّ الشعبي كان يقول : كان عند عبد اللّه بن عباس دفائن علم يعطيها أهله ، و يصرفها عن غيرهم ، و كان حذيفة يقول : كان أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يسألونه عن الخير ، و أنا أسأله عن الشرّ مخافة أن أقع فيه ، و كان يقول : لو كنت على شاطئ نهر ، و قد مددت يدي لاغترف . فحدّثتكم بكل ما اعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتّى اقتل ٣ .

و روى الخطيب عن عيسى بن يونس قال : حدّثنا الأعمش بأربعين حديثا فيها ضرب الرقاب لم يشركني فيها غير محمّد بن إسحاق ربما قال الأعمش لمحمّد بن إسحاق : من معك ؟ فيقول : عيسى بن يونس . فيقول : أدخلا و أجيفا الباب ، و كان يسأله عن حديث الفتن ٤ .

قلت : و هل تحتمل أن يكون حديث : لو حدّثهم سلمان لقالوا : رحم اللّه قاتله ، و لو حدّثهم حذيفة ما أمهلوه حتّى يشرب ماءه الّذي اغترفه من

ــــــــــــــــــ

( ١ ) اختيار معرفة الرجال : ٢١ .

( ٢ ) الاستيعاب ٤ : ٦٤ .

( ٣ ) لم أظفر به في مظانه في الشامن .

( ٤ ) رواه الخطيب في تاريخ بغداد ١١ : ١٥٣ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٢٧

النهر ليشربه ، و لو حدّثهم الأعمش كان فيه ضرب الرقاب ، إلاّ بطلان أمر الأوّلين ؟ كيف لا و كان مالك بن نويرة قد خاطب خالد بن الوليد في التعبير عن أبي بكر بصاحبك . فقتله خالد لذلك ، و معاوية و من بعده من خلفاء بني اميّة لا يمهلون أحدا يتفوّه بإنكار خلافتهم حفظا لسلطنتهم ،

و كذلك العباسيّة ، و قد خوّف معاوية الحسن عليه السلام لمّا قال : إنّ قريشا آثروا علينا بأنّك صرّحت بتهمة أبي بكر الصدّيق ، و عمر الفاروق و أبي عبيدة الأمين .

و لقد صدق عليه السلام في أنّه اندمج على مكنون علم لو باح به لمن كان ميله إليه عمّه و غيره اضطربوا اضطراب الارشية في الطويّ البعيدة .

فكيف كانوا يخلّونه عليه السلام يتصدّى للأمر مع أنّه بعد مضيّ ثلاثة منهم ، و بعد ما قاسوا من ثالثهم حتّى اضطروا إلى قتله دفعا لشرّه بتسليطه بني اميّة على الناس ، و أخذهم مال اللّه دولا ، و عباده خولا ، و بعد بيعة العامة له عليه السلام بتلك الكيفية حتّى شقّوا من الشوق و الولع إلى بيعته عطفيه ،

و وطؤا الحسنين عليه السلام ما تركوه و الناس بل نكثت طائفة منهم ، و قسطت اخرى ، و مرقت ثالثة حتّى قتلوه و خضبوا لحيته من رأسه . و كان عليه السلام عالما بجميع ذلك كما يعلم من أخباره عليه السلام بخصوصيات ما يتّفق قبل وقوعها في الجمل و صفّين و النهروان . فقد أخبر في النهروان بأنّه لا يقتل من أصحابه عشرة ، و لا يفلت من المارقة عشرة ، و ان مصارعهم دون النطفة و كون شيطان الردهة ذي الثديّة فيهم حتّى أنّهم لمّا قالوا له لا نجده فيهم قال عليه السلام : ما كذبت و لا كذبت ، و قام بنفسه حتّى أخرجه من تحت قتلاهم ١ إلى غير ذلك .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٤٠٥ و ٤٠٦ ، و غيره .

٤٢٨

١٩

من الخطبة ( ٢٦ ) و منها :

فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَوْتِ وَ أَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى وَ شَرِبْتُ عَلَى اَلشَّجَا وَ صَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ اَلْكَظَمِ وَ عَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ اَلْعَلْقَمِ من الخطبة ( ١٧٠ ) منها :

وَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا اَلْأَمْرِ يَا ؟ اِبْنَ أَبِي طَالِبٍ ؟ لَحَرِيصٌ فَقُلْتُ بَلْ أَنْتُمْ وَ اَللَّهِ لَأَحْرَصُ وَ أَبْعَدُ وَ أَنَا أَخَصُّ وَ أَقْرَبُ وَ إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَ أَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ وَ تَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي اَلْمَلَإِ اَلْحَاضِرِينَ هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لاَ يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى ؟ قُرَيْشٍ ؟ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلاَ إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ من الخطبة ( ٢١٥ ) و من كلام له عليه السلام :

اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى ؟ قُرَيْشٍ ؟ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ أَكْفَئُوا إِنَائِي وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي وَ قَالُوا أَلاَ إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَ لاَ ذَابٌّ وَ لاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَنِيَّةِ فَأَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى

٤٢٩

وَ جَرِعْتُ رِيقِي عَلَى اَلشَّجَا وَ صَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ اَلْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ اَلْعَلْقَمِ وَ آلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ اَلشِّفَارِ و قد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة إلا أني ذكرته هاهنا لاختلاف الروايتين من الكتاب ( ٣٦ ) في كتابه عليه السلام إلى عقيل :

فَدَعْ عَنْكَ ؟ قُرَيْشاً ؟ وَ تَرْكَاضَهُمْ فِي اَلضَّلاَلِ وَ تَجْوَالَهُمْ فِي اَلشِّقَاقِ وَ جِمَاحَهُمْ فِي اَلتِّيهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ ؟ رَسُولِ اَللَّهِ ص ؟ قَبْلِي فَجَزَتْ ؟ قُرَيْشاً ؟ عَنِّي اَلْجَوَازِي فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ سَلَبُونِي سُلْطَانَ اِبْنِ أُمِّي أقول : الأصل في الثلاثة الاولى هو كتاب كتبه عليه السلام للناس ليخطب به عبيد اللّه بن أبي رافع لمّا سأله الناس عن قوله في أبي بكر و عمر و عثمان بعد فتح معاوية لمصر ، و قتله محمّد بن أبي بكر . شرح عليه السلام في كتابه ذاك الأمر من بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إلى وفاته ، و أيام أبي بكر و عمر و عثمان . ثم بيعة الناس له .

ثم قيام الناكثة والقاسطة و المارقة عليه . ثم غارات معاوية ، و خذلان الناس له .

و العناوين الثلاثة الأول كلامه عليه السلام من ذاك الكتاب في بيان حال قريش يوم الشورى ، و اتّفاقهم على صرف الأمر عنه عليه السلام إلى عثمان . ذكر ذاك الكتاب الثقفي في ( غاراته ) ، و القتيبي في ( خلفائه ) ، و الكليني في ( رسائله ) . و ابن رستم الطبري في ( مسترشده ) ١ .

قال الثقفي و القتيبي في جملة نقلهما الكتاب « فجعلني الثاني سادس ستّة . فما كانوا لولاية أحد أشد كراهية منهم لولايتي عليهم فكانوا يسمعوني

ــــــــــــــــــ

( ١ ) جاء في الغارات للثقفي ١ : ٣٠٢ ، و الإمامة و السياسة ١ : ١٥٤ ، و رسائل الكليني ، عنه كشف المحجة : ١٧٤ .

٤٣٠

عند وفاة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم احاجّ أبا بكر و أقول : يا معشر قريش إنّا أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا من يقرأ القرآن و يعرف السنّة ، و يدين دين الحق . فخشي القوم إن أنا ولّيت عليهم ألاّ يكون لهم في الأمر نصيب ما بقوا .

فأجمعوا إجماعا واحدا فصرفوا الولاية عنّي الى عثمان ، و أخرجوني منها رجاء أن ينالوها و يتداولوها ، إذ يئسوا أن ينالوها من قبلي . ثم قالوا : هلمّ فبايع و إلاّ جاهدناك . فبايعت مستكرها ، و صبرت محتسبا . فقال قائلهم : يا ابن أبي طالب إنّك على هذا الأمر لحريص . فقلت : أنتم أحرص منّي و أبعد . أأنا أحرص اذا طلبت تراثي ، و حقّي الّذي جعلني اللّه و رسوله أولى به ، أم أنتم ؟

تضربون وجهي دونه ، و تحولون بيني و بينه . فبهتوا ، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين . اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش . فإنّهم قطعوا رحمي و أصغوا إنائي ،

و صغّروا عظيم منزلتي ، و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به منهم فسلبونيه . ثم قالوا : ألاّ إنّ في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه . فاصبر كمدا متوخما . أو مت متأسفا حنقا . فنظرت فإذا ليس معي رافد و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي . فضننت بهم عن الهلاك . فأغضيت على القذى ، و تجرّعت ريقي على الشجا ، و صبرت من كظم الغيظ على امرّ من العلقم و في الأوّل آلم للقلب من حزّ الشفار و في الثاني و آلم للقلب من حزّ الحديد .

و قال محمّد بن يعقوب « و لم يكونوا لولاية أحد منهم أكره منهم لولايتي . كانوا يسمعون و أنا احاجّ أبا بكر و أقول : يا معشر قريش أنا أحقّ بهذا الأمر منكم . ما كان منّا من يقرأ القرآن و يعرف السنّة ، و يدين دين اللّه الحق ، و إنّما حجّتي أنّي وليّ هذا الأمر من دون قريش ، أنّ نبيّ اللّه قال « الولاء لمن أعتق » فجاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعتق الرقاب من النار ، و أعتقها من الرقّ . فكان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ولاء هذه الامّة ، و كان لي بعده ما كان له . فما جاز لقريش من

٤٣١

فضلها عليها بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم جاز لبني هاشم على قريش ، و جاز لي على بني هاشم بقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم غدير خم « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » إلاّ أن تدّعي قريش فضلها على العرب بغير النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم فإن شاءوا فليقولوا ذلك فخشى القوم إن أنا ولّيت عليهم أن آخذ بأنفاسهم ، و اعترض في حلوقهم ، و لا يكون لهم في الأمر نصيب . فأجمعوا علي إجماع رجل واحد منهم حتّى صرفوا الولاية عنّي إلى عثمان رجاء أن ينالوها و يتداولوها فيما بينهم .

فبيناهم كذلك إذ نادى مناد لا يدرى من هو ، و أظنّه جنيّا فأسمع أهل المدينة ليلة بايعوا عثمان . فقال :

يا ناعي الاسلام قم فانعه

قد مات عرف و بدا منكر

ما لقريش لا علا كعبها

من قدّموا اليوم و من أخّروا

إنّ عليّا هو أولى به

منه فولّوه و لا تنكروا

فكان لهم في ذلك عبرة ، و لو لا أنّ العامّة قد علمت بذلك لم أذكره فدعوني إلى بيعة عثمان ، فبايعت مستكرها ، و صبرت محستبا ، و علّمت أهل القنوت أن يقولوا : « اللّهمّ لك أخلصت القلوب ، و إليك شخصت الأبصار و أنت دعيت بالألسن ، و إليك تحوكم في الأعمال . فافتح بيننا و بين قومنا بالحق .

اللهم إنّا نشكوا اليك غيبة نبيّنا ، و كثرة عدوّنا ، و قلّة عددنا ، و هواننا على الناس ،

و شدّة الزمان ، و وقوع الفتن بنا . اللّهمّ ففرّج ذلك بعدل تظهره ، و سلطان حق تعرفه » .

فقال عبد الرحمن بن عوف : يا ابن أبي طالب إنّك على هذا الأمر لحريص .

فقلت : لست عليه حريصا . إنّما أطلب ميراث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و حقّه ، و أنّ ولاء أمّته لي من بعده ، و أنتم أحرص عليه منّي إذ تحولون بيني و بينه ، و تصرفون وجهي دونه بالسيف . اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش . فإنّهم قطعوا رحمي ،

٤٣٢

و أضاعوا أيّامي ، و دفعوا حقّي ، و صغّروا قدري ، و عظيم منزلتي ، و أجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به منهم فاستلبونيه ثم قالوا : إصبر مغموما أو مت متأسّفا . و ايم اللّه لو استطاعوا أن يدفعوا قرابتي كما قطعوا سببي فعلوا ،

و لكنّهم لا يجدون إلى ذلك سبيلا إلى أن قال :

فقال ( لي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم ) : يا ابن أبي طالب لك ولاء امّتي . فإن ولّوك في عافية و أجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم . و إن اختلفوا عليك فدعهم و ما هم فيه . فإنّ اللّه سيجعل لك مخرجا . فنظرت فإذا ليس لي رافد ، و لا معي مساعد ، إلاّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الهلاك ، و لو كان لي بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم عمّي حمزة ، و اخي جعفر ، لم ابايع كرها ، و لكنّني بليت برجلين حديثي عهد بالاسلام العباس و عقيل . فأغضيت عيني على القذى ، و تجرّعت ريقي على الشجا ، و صبرت على أمرّ من العلقم و آلم للقلب من حزّ الشفار . و مثله قال ابن رستم الطبري مع اختلاف يسير .

و أما العنوان الرابع فذكره ابن قتيبة في جواب كتاب أخيه عقيل ، و قد كان وصل إليه كتابه في الطريق لمّا شخص عليه السلام من المدينة إلى البصرة .

و في كتاب عقيل إليه عليه السلام و انّي خرجت معتمرا فلقيت عائشة معها طلحة و الزبير و ذووهما و هم متوجّهون إلى البصرة . قد أظهروا الخلاف ،

و نكثوا البيعة ، و ركّبوا عليك قتل عثمان ، و تبعهم على ذلك كثير من الناس من طغاتهم و أوباشهم . ثم مرّ عبد اللّه بن أبي سرح في نحو من أربعين راكبا من أبناء الطلقاء من بني اميّة . فقلت لهم و عرفت المنكر في وجوههم أ بمعاوية تلحقون عداوة للّه ، و اللّه إنّها منكم ظاهرة غير مستنكرة تريدون بها اطفاء نور اللّه و تغيير أمر اللّه إلى أن قال :

فكتب علي عليه السلام في جوابه : « تذكر في كتابك انّك لقيت ابن أبي سرح في

٤٣٣

أربعين من أبناء الطلقاء من بني اميّة متوجّهين إلى الغرب ، و ابن أبي سرح يا أخي طالما كاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و صدّ عن كتابه و سنته و بغاهما عوجا . فدع ابن أبي سرح و قريشا و تركاضهم في الضلال . فإنّ قريشا قد اجتمعت على حرب أخيك اجتماعها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبل اليوم ، و جهلوا حقّي ،

و جحدوا فضلي و نصبوا لي الحرب ، و جدّوا في إطفاء نور اللّه . اللّهمّ فاجز قريشا عنّي بفعالها ، فقد قطعت رحمي ، و ظاهرت علي ، و سلبتني سلطان ابن عمّي ، و سلّمت ذلك لمن ليس في قرابتي ، و حقّي فى الاسلام ، و سابقتي الّتي لا يدّعي مثلها مدّع إلاّ أن يدّعي ما لا أعرف ، و لا أظن اللّه يعرفه » ١ .

و نقله ( الأغاني ) في عنوان ذكر الخبر في مقتل ابني عبيد اللّه بن العباس راويا له باسناده عن أبي مخنف ، عن سليمان بن أبي راشد ، عن ابن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيد ٢ .

و رواه ( غارات الثقفي ) كما نقله ابن أبي الحديد عند ذكر خطبته عليه السلام « أيّها الناس المجتمعة أبدانهم » ٣ .

قوله عليه السلام في العنوان الأوّل « فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي .

فضننت بهم عن الموت » . و في العنوان الثالث « فنظرت فإذا ليس لي رافد ، و لا ذابّ و لا مساعد إلاّ أهل بيتي . فضننت بهم عن المنية » الأصل فيهما واحد و قد عرفت أنّه عليه السلام قاله لمّا اتفق قريش الطلقاء مع عبد الرحمن بن عوف حكم عمر على صرف الامر عنه عليه السلام إلى عثمان ، و أنّهم قالوا له إن لا تبايع عثمان نقاتلك ،

و قد كان عمر أيضا دعا قبل موته أبا طلحة الأنصاري ، و قال له : كن في

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الإمامة و السياسة ١ : ٥٤ ٥٦ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) الأغاني ١٦ : ٢٦٨ .

( ٣ ) الغارات ٢ : ٤٢٨ ، و شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٥٥ ، شرح الخطبة ٢٩ .

٤٣٤

خمسين رجلا من قومك فاقتل من أبى من ستّة الشورى حكمي و حكمية ابن عوف ، و قد كان علم أنّ الآبي منهم إنّما هو أمير المؤمنين عليه السلام فنظر عليه السلام فلم ير له رافدا و معينا ، و لا ذابّا و مدافعا عنه ، و لا مساعدا له و ناصرا إلاّ أهل بيته . فان أرادوا الدفاع عنه عليه السلام قتلوا كما قتل أهل بيت الحسين عليه السلام يوم الطف لمّا ساعدوه . فضنّ عليه السلام أي بخل بهم لنفاسهتم عن المنية أي الموت ، و الأصل في الضنّة البخل عن شي‏ء نفيس يقال « علق مضنّة » : أي شي‏ء نفيس علق القلب به فلا يرضى ببذله .

و نفاسة أهل بيته عليهم السلام معلومة ، و قد أخبر اللّه سبحانه عن نفاستهم في قوله عزّ اسمه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ١ .

و كذلك أخبر رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن نفاستهم في قوله « مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق » ٢ ، و في قوله « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي و لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض و إن تمسّكتم بهما لن تضلوا أبدا » ٣ .

و لأنّ بهم قوام الأرض كما بالكواكب قوام السماء ، و لو هلكوا لهلك أهل الأرض ، و لأنّهم كانوا حججه على عباده ، و لا يخلي عزّ اسمه أرضه من حجّة طرفة عين .

و قوله عليه السلام في الأوّل « و أغضيت على القذى » و أمّا ما في ( المصرية )

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) حديث السقيفة أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ : ٣٤٣ ، و ابو يعلى في مسنده ، و عنه المطالب العالية ٤ : ٧٥ ح ٤٠٠٣ و ٤٠٠٤ ، و غيرهم عن أبي ذر و علي عليه السلام و ابن عباس و أبي سعيد و غيرهم .

( ٣ ) حديث الثقلين أخرجه مسلم في صحيحه ٤ : ١٨٧٣ و ١٨٧٤ ح ٣٦ ، و ٣٧ و الترمذي في سننه ٥ : ٦٦٣ ، ح ٣٧٨٨ و الحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٨ ، و جماعة كثيرة اخرى .

٤٣٥

« عن القذى » بدل « على القذى » فتصحيف ١ .

« و شربت على الشجا ، و صبرت على أخذ الكظم ، و على أمرّ من طعم العلقم » و في ( ابن ميثم ) الّذي نسخته بخط مصنّفه « من العلقم » بدل « من طعم العلقم » ٢ و قوله عليه السلام في الثالث : « فأعضيت على القذى ، و جرعت ريقي على الشجار و صبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم ، و آلم للقلب من حزّ الشفار » أيضا الأصل فيهما واحد كما عرفت .

و الإغضاء على القذى الّذي معناه غضّ البصر على ما دخل فيه من التراب كرها ، و كان عليه السلام في إكراههم له على بيعة عثمان مصداق ما قيل « الكريم ربّما أغضى و بين جنبيه نار الغضا » « و الشرب على الشّجا » و « جرع الريق على الشجا » معناه أن يكون اعترض في حلقه شي‏ء حتى يجفّ لعابه .

فيكون شربه ، و طلب الرطوبة لحلقه حتّى يتنفّس في غاية الشدّة و كان عليه السلام في ذلك مصداق ما قيل « عليك بالكظم ، و ان شجيت بالعظم » .

و صبر عليه السلام من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم و العلقم شجر مرّ و يقال للحنظل و كلّ شي‏ء مرّ علقم . و قال في ذلك السيّد الحميري :

لم يشكروا لمحمّد إنعامه

أفيشكرون لغيره إن أنعما

اللّه منّ عليهم بمحمّد

و هداهم و كسا الجلود و أطعما

ثم انهروا لوصيّه و وليّه

بالمنكرات فجرّعوه العلقما

و صبر عليه السلام في ذلك على ما هو آلم للقلب من حزّ الشفار : أي قطع السكّين . روى الجوهري و الثقفي في ( سقيفتيهما ) و عوانة في ( شوراه ) عن الشعبي عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال : كنت جالسا بالمسجد حين

ــــــــــــــــــ

( ١ ) لفظ نهج البلاغة ١ : ٦٧ ، و شرح ابن أبي الحديد ١ : ١٢٢ ، و شرح ابن ميثم ٢ : ٢٦ ، « على القذى » .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ٢ : ٢٦ .

٤٣٦
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الرابع الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

بويع عثمان فجئت إلى المقداد . فسمعته يقول : « و اللّه ما رأيت مثل ما اتى إلى أهل هذا البيت » و كان عبد الرحمن بن عوف جالسا فقال : و ما أنت و ذاك يا مقداد . قال المقداد : « إنّي و اللّه احبّهم بحبّ رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم و إنّي لأعجب من قريش و تطاولهم بفضل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم و انتزاعهم سلطانه من أهله » قال عبد الرحمن : اما و اللّه لقد أجهدت نفسي لكم . قال المقداد : « أما و اللّه لقد تركت رجلا من الّذين يأمرون بالحقّ و به يعدلون ، أما و اللّه لو أنّ لي على قريش أعوانا لقاتلتهم قتالي ايّاهم ببدر واحد » فقال له عبد الرحمن : ثكلتك امّك لا يسمعنّ هذا الكلام الناس . فإنّي أخاف أن تكون صاحب فتنة و فرقة . و تربدّ وجهه . ثم قال : « لو أعلم أنّك إيّاي تعني لكان لي و لك شأن . قال المقداد : « إيّاي تهدّد يا ابن ام عبد الرحمن ؟ » ثم قام فانصرف . قال جندب : فاتّبعته و قلت له : يا عبد اللّه أنا من أعوانك . فقال : رحمك اللّه إنّ هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان و لا الثلاثة فدخلت من فوري ذلك على علي عليه السلام . فلمّا جلست إليه قلت : يا أبا الحسن و اللّه ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك . فقال : صبر جميل و اللّه المستعان . فقلت : و اللّه انّك لصبور قال : فإن لم أصبر فماذا أصنع . قلت : « إنّي جلست إلى المقداد و عبد الرحمن بن عوف ، فقالا كذا و كذا ، ثم قام المقداد فاتّبعته فقلت له كذا فقال لي كذا » . فقال علي عليه السلام : صدق المقداد . فما اصنع ؟

فقلت : « تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك و تخبرهم أنّك أولى بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و تسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين عليك . فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين . فإن دانوا لك فذاك و إلاّ قاتلتهم ، و كنت أولى بالعذر قتلت أو بقيت و كنت عند اللّه على حجّة » . فقال « أ ترجو يا جندب أن يبايعني من كلّ عشرة واحد » ؟ قلت : أرجو ذلك . قال « لكنّي لا أرجو ذلك لا و اللّه ، و لا من المائة واحد ، و ساخبرك أنّ الناس إنّما ينظرون إلى قريش فيقولون : هم قوم

٤٣٧

محمّد و قبيلته ، و أمّا قريش فتقول : إنّ آل محمّد يرون على الناس بنبوّته فضلا يرون أنّهم أولياء هذا الأمر دون قريش ، و دون غيرهم من الناس ، و أنّهم إن ولّوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا ، و متى كان في غيرهم تداولته قريش بينها . لا و اللّه لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبدا » . فقلت : جعلت فداك يا ابن عم رسول اللّه ، لقد صدعت قلبي بهذا القول . أفلا أرجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتك ، و أدعو الناس إليك . فقال : يا جندب ليس هذا زمان ذاك ،

فانصرفت إلى العراق فكنت أذكر فضل علي عليه السلام على الناس . فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره ، و أحسن من أسمعه قولا من يقول : دع عنك هذا و خذ في ما ينفعك فاقول : « إنّ هذا مما ينفعني و ينفعك » . فيقوم عنّي و يدعني .

و زاد الجوهري في خبره : « حتّى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة أيّام ولينا فبعث إلىّ فحبسني حتّى كلّم فيّ فخلّى سبيلي » ١ .

و في ( سقيفة الجوهري ) و ( شورى عوانة ) عن الشعبي بعد ذكر بيعة ابن عوف لعثمان و أقبل عمّار ينادي :

يا ناعي الاسلام قم فانعه

قد مات عرف و بدا نكر

أما و اللّه لو أنّ لي أعوانا لقاتلتهم ، و اللّه لئن قاتلهم واحد لأكونن له ثانيا .

فقال علي عليه السلام « يا ابا اليقظان و اللّه لا أجد عليهم أعوانا ، و لا احبّ أن أعرضكم لما لا تطيقون » و بقي عليه السلام في داره ، و عنده نفر من أهل بيته ، و ليس يدخل إليه أحد مخافة عثمان ٢ .

و روى الخليل بن أحمد أنّ أعرابيا ورد على الوليد بن يزيد بن عبد الملك

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الجوهري في السقيفة : ٨٨ ، و الثقفي ، و عنه امالي المفيد : ١٦٩ ح ٥ ، المجلس ٢١ ، و عوانة في الشورى ، و عنه شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٩١ ، شرح الخطبة ١٣٧ ، و النقل بتصرف .

( ٢ ) رواه الجوهري في السقيفة : ٨٧ ، و عوانة في الشورى ، و عنه شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٩١ ، شرح الخطبة ١٣٧ .

٤٣٨

إلى أن قال بعد ذكره لمقامات علي عليه السلام طلب منه الوليد هجاءه . فقال له : أمثل هذا يستحق الهجاء ، و عزمه الحاذق ، و قوله الصادق ، و سيفه الفالق و إنّما يستحق الهجاء من سامه عليه ، و أخذ الخلافة ، و أزالها من الوراثة ، و صاحبها ينظر إلى فيئه ، و كأنّ الشبادع تلسعه الخبر و الشبادع : العقارب .

قول المصنّف : « و قد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدّمة إلاّ أنّي كرّرته هنا لاختلاف الروايتين » أقول : لم يمض الكلام كله في موضع واحد بل صدره : « اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش إلى و في الحق أن تمنعه » مضى في ذيل العنوان الثاني ، و ذيله « فنظرت » إلخ مضى في العنوان الأوّل .

قوله عليه السلام في الثاني : « و قد قال قائل : إنّك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ما في ( ابن ميثم ) و كذا ( ابن أبي الحديد و الخطيّة ) « و قال لي قائل إنّك يا ابن أبي طالب على هذا الأمر لحريص » ١ .

قال ابن أبي الحديد : قال عليه السلام : هذا الكلام يوم الشورى ، و القائل الّذي قال له « إنّك على هذا الأمر لحريص » سعد بن أبي وقاص مع روايته فيه « أنت بمنزلة هارون من موسى » و هذا عجب ، و قالت الامامية : قال يوم السقيفة و القائل أبو عبيدة بن الجراح ٢ .

قلت : كيف نسب ما قاله إلى الامامية ، و قد روى محمّد بن يعقوب الكليني و محمّد بن جرير بن رستم الطبري و هما من قدماء الامامية : إنّه عليه السلام قاله يوم الشورى ، و قد عرفت من خبرهما أنّ القائل كان عبد الرحمن بن عوف لا أبو عبيدة الّذي قال .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٧٥ ، و شرح ابن ميثم ٣ : ٣٢٩ ، أيضا نحو المصرية .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٧٥ ، و النقل بتلخيص .

٤٣٩

ثم أيّ شي‏ء يغني عنه في كونه كلامه عليه السلام يوم الشورى في صحة أمر يوم السقيفة ، و قد تضمّن قوله عليه السلام يوم الشورى بطلان أمر السقيفة ، و أنّه الأساس فمرّ في رواياتهم عن الثقفي ، و ابن قتيبة قوله عليه السلام يوم الشورى « فما كانوا لولاية أحد منهم بأكره منهم لولايتي ، لأنّهم كانوا يسمعونني و أنا أحاجّ أبا بكر فأقول : يا معشر قريش ، إنّا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم إلى آخر ما مرّ ١ .

ثم لم ادر إلى أي شي‏ء استند في قوله : إن القائل كان سعدا ، و خبر الثقفي الوارد من طريقهم و قد نقله نفسه في شرح قوله عليه السلام « و من كلام له عليه السلام لمّا قلّد محمّد بن أبي بكر مصر » خال من اسم القائل كخبر ابن قتيبة ، و المجمل يحمل على المفصل خبر الكليني و الطبري المصرّح بعبد الرحمن ٢ .

و أيضا الجري‏ء منهم على أن يقول له هذا الكلام ، و يخاطبه بذاك الخطاب إنّما كان عبد الرحمن لكونه حكم عمر في اختيار من شاء منهم .

« فقلت : بل انتم و اللّه أحرص و أبعد ، و أنا أخص و أقرب » إنّما قال عليه السلام « بل أنتم » مع أنّ القائل له « انّك لحريص » إنما كان واحدا لقوله عليه السلام قبل « و قال لي قائل » لكون باقيهم على رأيه . فيصحّ النسبة إلى جميعهم كما في قوله تعالى :

فعقروها ٣ مع أنّ العاقر كان واحدا .

ثم الأصل في قول عبد الرحمن له عليه السلام « انّك على هذا الأمر لحريص » قول فاروقهم فقال له عليه السلام في مال قال للستّة كما قال ابن قتيبة « و ما يمنعني

ــــــــــــــــــ

( ١ ) مر في اوائل هذا العنوان .

( ٢ ) جاء في الغارات ١ : ٣١٨ ، و عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ٣٦ ، شرح الخطبة ٦٩ ، و الإمامة و السياسة ١ : ١٥٥ ، و رسائل الكليني ، عنه كشف المحجة : ١٧٩ .

( ٣ ) الشمس : ١٤ .

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597