زبدة البيان في براهين أحكام القرآن

زبدة البيان في براهين أحكام القرآن8%

زبدة البيان في براهين أحكام القرآن مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 702

  • البداية
  • السابق
  • 702 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28183 / تحميل: 7075
الحجم الحجم الحجم
زبدة البيان في براهين أحكام القرآن

زبدة البيان في براهين أحكام القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

قالعليه‌السلام : «من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان منهم كان ورد النّار».(1)

وفي الآية اللاحقة ينقل القرآن الكريم جواب قادة الضلال والانحراف بأنّه ليس بيننا وبينكم أي تفاوت ، فإذا قلنا فقد أيدتم ، وإذا خطونا فقد ساعدتم ، وإذا ظلمنا فقد عاونتم ، وإذن فذوقوا بإزاء أعمالكم عذاب الله الأليم ،( وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) .

والمقصود من «الأولى» الطائفة الأولى أي القادة (قادة الضلال الانحراف) والمقصود من «الأخرى» الأتباع ، والأنصار.

* * *

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 182 ، 17

٤١

الآيتان

( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) )

التفسير

مرّة أخرى يتناول القرآن بالحديث مصير المتكبرين والمعاندين ، يعني أولئك الذين لا يخضعون لآيات الله ولا يستسلمون للحق ، فيقول :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ) .

وقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى سجّين».(1)

وقد رويت بهذا المضمون أحاديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير الطبري وسائر التفاسير ، في ذيل الآية المبحوثة.

__________________

(1) مجمع البيان في ذيل الآية المبحوثة.

٤٢

من الممكن أن يكون المقصود من السماء هنا معناه الظاهر ، وكذا يمكن أن تكون كناية عن مقام القرب الإلهي ، كما نقرأ في الآية (9) من سورة فاطر :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

ثمّ أضاف قائلا :( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) ، أي حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة.

إنّ هذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا الأمر ، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسّي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنّة ، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الإبرة ، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنّة مطلقا.

و «الجمل» في اللغة يعني البعير الذي خرجت أسنانه حديثا ، ولكن أحد معاني الجمل هو الحبل القوي والمتين الذي تربط به السفن أيضا(1) .

وحيث إنّ بين الحبل والإبرة تناسبا أقوى وأكثر ، لهذا ذهب بعضهم إلى هذا المعنى عند تفسير الآية ، ولكن أكثر المفسّرين الإسلاميين رجّح المعنى الأوّل ، وهم على حق في هذا الاتجاه لأمور :

أوّلا : إنّ في أحاديث أئمّة الإسلام كذلك تعابير تناسب التّفسير الأوّل.

ثانيا : إنّه يلاحظ نظير هذا التّفسير حول الأثرياء (المتكبرين الأنانيين) في الإنجيل أيضا ، ففي إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 24 و 25 نقرأ هكذا : إنّ عيسى قال : «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله».

ولا أقل يستفاد من هذه العبارة أنّ هذه الكناية كانت متداولة بين الشعوب

__________________

(1) راجع «تاج العروس» ، و «القاموس» مادة الجمل.

٤٣

منذ قديم الزمان.

وقد نستعمل هذا المثل أيضا ، في محاوراتنا اليومية الآن ، فيقال عن الأشخاص المتشدّدين جدّا أحيانا ، والمتساهلين جدّا أحيانا أخرى : (إنّ فلانا تارة لا يدخل من باب المدينة ، وتارة يدخل من ثقب إبرة).

ثالثا : بالنظر إلى أنّ استعمال لفظة الجمل في المعنى الأوّل (أي البعير) أكثر ، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جدا ، لهذا يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وفي خاتمة الآية يضيف تعالى للمزيد من التأكيد والتوضيح قائلا :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) .

وفي الآية اللاحقة يشير إلى قسم آخر من عقوبتهم المؤلفة إذ يقول :( لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ) (1) .

ثمّ يضيف للتأكيد( وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) .

والملفت للنظر والطريف : أنّه يعبّر عنهم مرّة بـ «المجرم» ومرّة بـ «الظالم» وثالثة بـ «المكذبين» لآيات الله ، ورابعة بـ «المستكبرين» ، وترجع جميعها إلى حقيقة واحدة في الواقع.

* * *

__________________

(1) المهاد جمع مهد وزان عهد أي الفرش ، والغواش في الأصل غواشي جمع غاشية بمعنى كل نوع من أنواع الغطاء ، كما أنّه يطلق على الخيمة أيضا ، وفي الآية الحاضرة يمكن أن يكون بمعنى الخيمة أو بمعنى الغطاء.

٤٤

الآيتان

( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) )

التّفسير

الطّمأنينة الكاملة والسّعادة الخالدة :

إنّ أسلوب القرآن ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ هو عرض الطوائف المختلفة وبيان مصائرها جنبا إلى جنب لتأكيد الموضوع ، وشرح أوضاعها عن طريق المقارنة والمقايسة بينها.

ولقد كان البحث في الآيات السابقة حول المكذبين لآيات الله ، والمستكبرين والظالمين ، وهنا يشرح ويبيّن المستقبل المشرق للمؤمنين إذ يقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

٤٥

وقد أتى بين المبتدأ والخبر بجملة معترضة(1) . توضّح الكثير من الإبهامات إذ يقول :( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) .

وهذه الجملة تؤكّد بأنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور بأن الايمان بالله ، والإتيان بالعمل الصالح وسلوك سبيل المؤمنين ، أمر متعسر غير مقدور إلّا لأفراد معدودين ، لأنّ التكاليف الإلهية في حدود الطاقة البشرية وليست أكثر منها ، وبهذا فتح الطريق في وجه كل أحد عالما كان أو جاهلا ، صغيرا كان أو كبيرا ، ودعا الجميع إلى اللحاق بهذا الصف ، فالمطلوب من كل أحد العمل بمقدار قابليته الفكرية والبدنية وإمكانياته.

إنّ هذه الآية ـ مثل سائر الآيات القرآنية ـ تحصر وسيلة النجاة والسعادة الأبدية في الإيمان والعمل الصالح ، وهكذا تفنّد العقيدة النّصرانية المحرفة الذين يعتبرون صلب المسيح في مقابل ذنوب البشر وسيلة للنجاة ، ويقولون : إنّه قربان لخطايا الإنسانية.

إنّ إصرار القرآن الكريم على مسألة الإيمان والعمل الصالح ، في الآيات المختلفة لتفنيد هذه المقولة وأمثالها.

وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها الله سبحانه لأهل الجنّة ، والتي تكون سببا لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية ، إذ قال( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ ) .

و (الغل) في الأصل بمعنى نفوذ الشيء خفية وسرّا ، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة ، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل) ، وإنّما يطلق «الغلول» على الرشوة بهذه المناسبة لأنّها تؤخذ خفيّة وسرّا لارتكاب

__________________

(1) ينبغي أن لا يتصور أحد بأنّ معنى الجملة المعترضة هو أنّ مفادها أجنبي وغريب من الموضوع المعترض ، بل لا بدّ أنّ هناك ارتباطا ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها ، وإن كانت من حيث التركيب توسطت كلاما متصلا ، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة المعترضة معترضة من حيث التركيب اللفظي ، لا من حيث المعنى.

٤٦

خيانة.(1)

وفي الحقيقة إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة ، ومصدر الكثير من الصراعات الإجماعية الواسعة التي تؤدي ـ مضافا إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس ـ الى زعزعة الاستقرار الروحي ، هو الحسد والحقد.

فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة ، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين ، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها ، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم ، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية.

إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية ، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة ، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم ، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة. إنّهم يعيشون معا في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة.

إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه ، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون من فوقهم أبدا ، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض طريق التعايش السلمي.

ولقد نقل بعض المفسّرين حديثا في المقام عن السدّي قال : «إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ ، فهو الشراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا»(2) .

إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهما‌السلام وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو «السّدي» ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

__________________

(1) للمزيد من التوضيح راجع الآية (161) من سورة آل عمران.

(2) تفسير المنار ، المجلد 8 ، الصفحة 421.

٤٧

الأصل ، لأنّ هذه الأمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الاطلاع عليها.

وعلى كل فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية ، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطنا وظاهرا ، جسما وروحا ، فهم يتحلون بالجمال الجسماني ، والجمال الروحاني معا ، ولهذا فهم لا يعانون ، ـ مطلقا ـ من الحسد والحقد.

فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أخرى ، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة.

وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية ، يشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية ، فيقول :( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) .

ثمّ بعكس رضى أهل الجنّة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر لله وحده على ما هداهم إليه من النعم( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ) .

وهنا يأتيهم النداء بأن ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

ومرّة أخرى نصل إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح ، وليسن بالأماني والظنون الخاوية.

و «الإرث» في الأصل بمعنى انتقال مال أو ثروة من شخص إلى آخر من دون أن يكون بينهما عقد (أي الانتقال عبر مسير طبيعي تلقائي ، لا عن طريق البيع والشراء) ولهذا يطلق الإرث على انتقال أموال الميت إلى خلفه.

لماذا عبّر بالإرث؟

وهنا ينقدح سؤال وهو : كيف يقال لأهل الجنّة : هذه النعم أورثتموها لقاء أعمالكم؟

٤٨

والجواب أوضحه حديث روي بطرق الشيعة والسنّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ، ومنزل في النّار ، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة ، فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون»(1) .

فهذا الحديث يشير إلى أنّ أبواب السعادة والشقاء مفتوحة أمام جميع الناس قاطبة ، وإنّه لم يخلق أحد يوم خلق وهو من أهل الجنّة ، أو من أهل النّار ، بل يمتلك الجميع قابلية الوصول إلى كلا هذين المنزلين ، وإنّما إرادتهم هي التي تحدد وتقرّر مصيرهم.

ومن البديهي أنّه عند ما يستقر المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة في الجنّة ، ويستقر الكفار والأشرار في النّار ينتقل مكان ومنزل كل واحد منهما الى الآخر بصورة طبيعية.

وعلى كل حال ، فإن هذه الآية وهذا الحديث هما من البراهين والدلائل الواضحة على نفي الجبر ، وثبوت الإختيار وحرية الإرادة في الإنسان.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 31 ، وتفسير القرطبي ، المجلد الرّابع ، الصفحة 2645 ، وتفاسير أخرى.

٤٩

الآيتان

( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) )

التّفسير

بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار ، أشار هنا إلى حوار هذين الفريقين في ذلك العالم ، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار.

فيقول أوّلا :( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ) .

فيجيبهم أهل النّار قائلين : نعم وجدنا كل ذلك. عين الحقيقة( قالُوا : نَعَمْ ) .

ويجب الالتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضيا ، إلّا أنّه هنا يعطي معنى المضارع ، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم ، حيث يذكر الحوادث التي تقع في المستقبل حتما بصيغة الفعل الماضي ، وهذا يعدّ نوعا من التأكيد ، يعني أنّ

٥٠

المستقبل واضح جدّا ، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق.

على أنّ التعبير بـ «نادى» الذي يكون عادة للمسافة البعيدة ، يصوّر بعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو : وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟

وجواب هذا السؤال معلوم ، لأنّ السؤال ليس دائما للحصول على المزيد من المعلومات ، بل قد يتّخذ أحيانا صفة العتاب والتوبيخ والملامة ، وهو هنا من هذا القبيل. وهذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عند ما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا ، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة ، والملامات المزعجة ، فلا بدّ ـ في الآخرة ـ أن ينالوا عقابا من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم ، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة ، منها ما في آخر سورة المطففين.

ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع : أن لعنة الله على الظالمين( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) .

ثمّ يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله :( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ ) (1) .

ومن الآية الحاضرة يستفاد مرّة أخرى أنّ جميع الانحرافات والمفاسد قد اجتمعت في مفهوم «الظلم» وللظالم مفهوم واسع يشمل جميع مرتكبي الذنوب ، والآثام ، وخصوصا الضالون المضلّون.

__________________

(1) يبغونها عوجا بمعنى يطلبونها عوجا ، أي أنّهم يرغبون ويجتهدون في أن يضلوا الناس بإلقاء الشبهات والدعايات المسمومة عن الطريق المستقيم. كما أنّ الراغب قال في «المفردات» عوج (بفتح العين) يعني الاعوجاج الحسي ، وعوج بكسر العين يطلق على الاعوجاجات التي تدرك بالفكر والعقل ، ولكن هذا التفصيل لا ينسجم مع ظاهر طائفة من الآيات القرآنية مثل الآية (107) من سورة طه (فتأمل بدقّة).

٥١

من هو المؤذّن! والمنادي؟

من هو هذا المؤذن الذي يسمعه الجميع؟ وفي الحقيقة له سيطرة وتفوق على جميع الفرقاء والطوائف؟

لا يستفاد من الآية شيء في هذا المجال ، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسّرة والموضّحة لهذه الآية ، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين عليعليه‌السلام .

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني ـ الذي هو من علماء أهل السنّة بسنده عن «محمّد بن الحنفية» عن عليعليه‌السلام أنّه قال : «أنا ذلك المؤذّن».

وهكذا روى بسنده عن «ابن عباس» أنّ لعلّيعليه‌السلام أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس ، منها «المؤذّن» في قول الله تعالى :( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ ) فهو الذي ينادي بين الفريقين أهل الجنّة وأهل النّار ، ويقول : «ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي»(1) .

ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة ، منها ما رواه الصّدوقرحمه‌الله بسنده عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب بالكوفة منصرفه في نهروان ، وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه ، فقام خطيبا (إلى أن قال) : «وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة ، قال اللهعزوجل ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) أنا ذلك المؤذن ، وقال :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أنا ذلك الأذان»(2) .

ونحن نرى أنّ السبب في انتخاب أمير المؤمنين عليعليه‌السلام مؤذنا ومناديا في ذلك الوقت هو : أوّلا : لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا أيضا ، فهو بعد فتح مكّة كلّف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأولى من سورة البراءة

__________________

(1) مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.

(2) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 17.

٥٢

على مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج ، تلك الآيات التي تبدأ بقوله :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (1) .

ثانيا : إنّ موقف الإمام عليعليه‌السلام طوال حياته الشريفة كان موقف المكافحة للظلم ، والنضال ضد الظالمين ، حتى أنّ دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصّة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تأريخه.

أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟ وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة.

فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق ، لم يبق أي مجال لاستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم ، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنّة والنّار ، بأمر من الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو علىعليه‌السلام .

من هذا يتّضح الجواب والردّ على ما كتبه كاتب «المنار» الذي شكك في كون هذا المقام لعليعليه‌السلام فضيلة ، إذ يقول : ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعدّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرّواية بما دون السند الصحيح(2) .

إذ يجب أن نقول له : كما أنّ النيابة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائلهعليه‌السلام ، وكما أنّ مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله ، يكون حمله لهذه المهمّة في القيامة والذي يعد استمرارا لنفس ذلك البرنامج فضيلة طاهرة له أيضا.

كما يتّضح ممّا قلناه ـ أيضا ـ الردّ على ما كتبه «الآلوسي» كاتب تفسير «روح المعاني» الذي قال : ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنّه علي كرم

__________________

(1) التوبة ، 3.

(2) تفسير المنار ، ج 8 ، ص 426.

٥٣

الله تعالى وجهه ما لم يثبت من طريق أهل السنّة(1) .

لأن هذا الحديث ـ كما أسلفنا ـ نقله علماء الفريقين السنة والشيعة كلاهما في كتبهم ومصنفاتهم ، فلا مجال للتشكيك في صدوره.

* * *

__________________

(1) روح المعاني ، ج 8 ، ص 123.

٥٤

الآيات

( وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) )

التّفسير

الأعراف معبر مهم إلى الجنّة :

عقيب الآيات السابقة التي بيّنت جانبا من قصّة أهل الجنّة وأهل النّار ، تحدث في هذه الآيات حول «الأعراف» التي هي منطقة في الحد الفاصل بين الجنّة والنّار مع خصوصياتها.

٥٥

وفي البداية يشير إلى الحجاب الذي أقيم بين أهل الجنّة وأهل النّار ، إذ يقول :( وَبَيْنَهُما حِجابٌ ) .

ويستفاد من الآيات اللاحقة أنّ الحجاب المذكور هو «الأعراف» وهو مكان مرتفع بين الفريقين يمنع من رؤية كل فريق الفريق الآخر ، ولكن وجود مثل هذا الحجاب لا يمنع من أن يسمع كل منهما صوت الآخر ونداءه ، كما مرّ في الآيات السابقة.

فلطالما رأينا جيرة يتحادثون من وراء الجدار ، ويستجلي أحدهما حال الآخر دون أن يراه ، على أنّ الذين يقفون على الأعراف ، أي على الأقسام المرتفعة من هذا المكان المرتفع ، يرون كلا الفريقين (تأملوا جيدا).

ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم ، مثل الآية (55) من سورة الصافات ، أن أهل الجنّة ربّما تطّلعوا من أماكنهم وشاهدوا أهل النّار ، ولكن مثل هذه الموارد الاستثنائية لا تنافي ما عليه وضع الجنّة والنّار أساسا ، وأنّ ما قلناه آنفا يعكس ويصور الكيفية لهذين المكانين ، وإن كان لهذا القانون ـ أيضا ـ بعض الاستثناءات ، فيمكن أن يشاهد بعض أهل الجنّة أهل النّار في شرائط خاصّة.

إنّ ما يجب أن نذكر به مؤكدين قبل الخوض في بيان كيفية الأعراف هو أن التعابير الواردة حول القيامة والحياة الأخرى لا تستطيع ـ بحال ـ أن تكشف القناع عن جميع خصوصيات تلكم الحياة ، بل للتعابير ـ أحيانا ـ صفة التشبيه والتمثيل.

وأحيانا تكشف بعض تلك التعابير عن مجرّد شبح في هذا المجال ، لأنّ الحياة في ذلك العالم تكون في آفاق أعلى ، وهي أوسع بمراتب كثيرة من الحياة في هذا العالم ، تماما مثل سعة الحياة الدنيا هذه بالقياس إلى عالم الرحم والجنين.

وعلى هذا فلا عجب إذا كانت الألفاظ والمفاهيم المتداولة في هذا العالم لا تستطيع أن تعكس بصورة كاملة ومعبّرة تلك المفاهيم.

٥٦

ثمّ إنّ القرآن الكريم يقول :( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) يرون كلّا من أهل الجنّة وأهل النّار ويعرفونهم بملامح وجوههم.

و «الأعراف» في اللغة جمع «عرف» بمعنى المحل والموضع المرتفع ، ولهذا يطلق على شعر ناصية الفرس ، والريش الموجود على عنق الديك لفظ العرف ، فيقال «عرف الفرس» أو «عرف الديك» ، ومن هذا المنطلق يطلق على المكان المرتفع من البدن لفظ العرف أيضا (وسوف نتحدث بتفصيل حول خصوصيات منطقة الأعراف التي جاء ذكرها في هذه الآية بعد الفراغ من تفسير الآيات).

ثمّ يقول : أنّ هؤلاء الرجال ينادون أهل الجنّة ويسلّمون عليهم ، ولكنّهم لا يدخلون الجنّة وإن كانوا يرغبون في ذلك( وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) .

ولكن عند ما ينظرون إلى الطرف الآخر ويشاهدون أهل النّار يصطلون فيها ، يتضرعون إلى الله طالبين أن لا يجعلهم مع الظالمين( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (1) .

والجدير بالذكر أنّه استخدم في رؤية أهل النّار في الآية لفظة( وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ ) يعني عند ما تعطف أبصارهم نحو جهنم لمشاهدة أهلها ، وهذه أشارة إلى أنّهم يكرهون مشاهدة أهل النّار ، وكأنّ نظرهم إليهم مقرون بالإكراه والإجبار.

وفي الآية اللاحقة يضيف : إنّ أصحاب الأعراف ينادون فريقا من الجهنميين الذين يعرفونهم بملامح وجوههم ويلومونهم قائلين : أمّا ترون أنّ جمعكم للأموال والأفراد والتجبّر والتكبّر عن قبول الحق لم ينفعكم شيئا ، فأين تلك الأموال وأولئك الأعوان؟ وماذا حصدتم من تلك المواقف والصفات السيّئة؟!

__________________

(1) «تلقاء» في الأصل ـ حسب قول بعض المفسّرين وأهل الأدب ـ مصدر ، وهو بمعنى المقابلة ، ولكن استعمل فيما بعد في معنى ظرف المكان ، أي في المكان المقابل والمحاذي.

٥٧

( وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ) .

ومرّة أخرى يقولون موبخين ومعاتبين ، وهم يشيرون إلى جمع من ضعفاء المؤمنين المستقرين فوق الأعراف :( أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ) .

وفي المآل تشمل الرحمة الإلهية هذه الطائفة من ضعفاء المؤمنين ، ويقال لهم( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) .

من كل ما قلنا اتضح أنّ المراد من ضعفاء المؤمنين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولكنّهم بسبب تورطهم في بعض الذنوب كانوا موضع ازدراء من قبل أعداء الحق في الدنيا ، وكانوا يركزون على هؤلاء ويقولون : كيف يمكن لمثل هؤلاء أن تشملهم الرحمة الإلهية؟ وكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يسعدوا؟ ولكن روح الإيمان والحسنات التي كانت عندهم فعلت فعلتها ـ في المآل ـ وفي ظلّ اللطف الرّباني والرحمة الإلهية ، فسعدوا ودخلوا الجنّة.

من هم أصحاب الأعراب :

«الأعراف» في الأصل ـ وكما أسلفنا ـ منطقة مرتفعة ، ويتّضح في ضوء القرائن التي وردت في آيات القرآن وأحاديث أئمّة الإسلام ، أنّه مكان خاص بين قطبي السعادة والشقاء ، أي الجنّة والنّار. وهو كحجاب حائل بين هذين ، أو كأرض مرتفعة فصلت بين هذين الموضعين بحيث يشرف من يقف عليها على الجنّة والنّار ، ويشاهد كلا الفريقين ، ويعرفهم بوجوههم المبيضة أو المسودة ، المشرقة أو المظلمة المكفهرة.

والآن لنرى من هم الواقفون على الأعراف؟ ومن هم أصحاب الأعراف؟

إنّ دراسة الآيات الأربع المبحوثة هنا تفيد أنّه ذكر لهؤلاء الأشخاص نوعين متناقضين مختلفين من الصفات.

٥٨

ففي الآية الأولى والثّانية وصف الواقفون على الأعراف بأنّهم يتمنون أن يدخلوا الجنّة ، ولكنّ ثمّة موانع تحول دون ذلك ، وعند ما ينظرون إلى أهل الجنّة يحيونهم ويسلمون عليهم ويودون لو يكونون معهم ، ولكنّهم لا يستطيعون فعلا أن يكونوا معهم ، وعند ما ينظرون إلى أهل النّار يستوحشون ممّا آلوا إليه من المصير ، ويتعوذون بأنّه من ذلك المصير ، ومن أن يكونوا منهم.

ولكن يستفاد من الآية الثّالثة والرّابعة بأنّهم أفراد ذوو نفوذ وقدرة ، يوبخون أهل النّار ويعاتبونهم ، ويساعدون الضعفاء في الأعراف على العبور إلى منزل السعادة.

وقد قسمت الرّوايات الواردة في هذا المجال أهل الأعراف الى هذين الفريقين المختلفين أيضا.

ففي بعض الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام نقرأ : «نحن الأعراف»(1) أو عبارة : «آل محمّد هم الأعراف»(2) وما شابه هذه التعابير.

ونقرأ في طائفة أخرى عبارة : «هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى»(3) أو «هم الشهداء على الناس والنّبيون شهداؤهم»(4) وروايات أخرى تحكي أنّهم الأنبياء والأئمّة والصلحاء والأولياء.

ولكن طائفة أخرى مثلما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام تقول : «هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فإن أدخلهم النّار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته»(5) .

وثمّة روايات متعددة أخرى في تفاسير أهل السنة قد رويت عن «حذيفة» و

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد الثاني ، الصفحة 17 و 18 و 19.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) نور الثقلين ، المجلد الثّاني ، الصفحة 33 و 34.

(5) تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 17.

٥٩

«عبد الله بن عباس» و «سعيد بن جبير» وأمثالهم بهذا المضمون(1) .

ونرى في هذه التفاسير أيضا مصادر تفيد أنّ أهل الأعراف هم الصلحاء والفقهاء والعلماء أو الملائكة.

وبالرغم من أنّ ظاهر الآيات وظاهر هذه الرّوايات تبدو متناقضة في بدون النظر ، ولعله لهذا السبب أبدى المفسّرون في هذا المجال آراء مختلفة ، ولكن مع التدقيق والإمعان يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ومنافاة ، لا بين الآيات ولا بين الأحاديث ، بل جميعها تشير إلى حقيقة واحدة.

وتوضيح ذلك : أنّه يستفاد من مجموع الآيات والرّوايات ـ كما أسلفنا ـ الأعراف معبر صعب العبور على طريق الجنّة والسعادة الأبدية.

ومن الطبيعي أنّ الأقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة ، أمّا الضعفاء الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فيعجزون عن العبور.

كما أنّه من الطبيعي أيضا أن تقف قيادات المجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين يمشون في مثل هذه الحالات في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع. يقفون هناك ليساعدوا ضعفاء الإيمان ، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم.

وعلى هذا الأساس ، فأصحاب الأعراف فريقان : ضعفاء الإيمان والمتورطون في الذنوب الذين هم بحاجة إلى الرحمة ، والأئمّة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع الأحوال.

وعلى هذا فإن الطائفة الأولى من الآيات والأحاديث تشير إلى الفريق الأوّل من الواقفين على الأعراف ، وهم الضعفاء ، والطائفة الثّانية منها تشير إلى الفريق

__________________

(1) تفسير الطبري ، المجلد 7 ، الصفحة 137 و 138 عند تفسير الآية.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

بإعراب مبدلها وهي في المفرد بل الاسم كما هو مذكور في كتب العربيّة المشهورة.

والظاهر أنّ حكم التوابع غير مخصوص بالاسم وإن خصّه في الكافية به لأنّه يجري في الفعل أيضا وهو كثير في القرآن وغيره في العطف، نعم لا يكون ذلك في الجمل إلّا مع وقوعها في محلّ الاعراب وهو ظاهر فيحتمل أن يكون الجزم آخرا لحكم الوقف في الوصل أيضا قاله في الكشاف والقاضي أيضا أو لمناسبة( وَلا تَمْنُنْ ) وهو بعيد.

( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) أي لوجه الله والتقرّب به، وامتثال إرادته لا غير، اصبر على جميع المشاقّ من التكاليف بفعل الطاعات وترك المعاصي خصوصا على ما يحصل لك من الأذى في التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحيث لا يظهر منك شكاية، وشيء يوجب الحرمان من الثواب، فإنّ أجر الصبر كثير( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (١) فيدلّ على وجوب الصبر على المحن على أمّته كذلك، فيمكن عدم سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لحصول أذى قليل فتأمّل.

ثمّ ذكر الله في آخر هذه السورة ما يدلّ على وجوب الصلاة، ووجوب إطعام المسكين، وتحريم الخوض في الباطل على الكفّار أيضا وأنّ خلافها موجب لدخول النار بقوله تعالى( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ ) (٢) أي يسأل أهل الجنّة الّذين هم أصحاب اليمين الّذين تعطى كتبهم بأيمانهم يوم القيمة، روى في مجمع البيان أنه قال الباقرعليه‌السلام : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين( عَنِ الْمُجْرِمِينَ ) عن ذنوبهم الّتي استحقّوا بها السلوك والوقوع في النار بقولهم لهم( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ؟قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) تركناها( وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) تركنا إطعامهم( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) قالوا المراد ترك الصلاة الواجبة وترك الزكاة والخوض والشروع في الباطل، مع من يفعل ذلك، ويحتمل التعميم إلّا أنّ العقاب إنّما يترتّب على ترك الواجب وفعل المحرّم، ويمكن في الإطعام كونه شاملا للكفّارات والإطعام حال الضرورة.

__________________

(١) الزمر: ١.

(٢) المدثر: ٤٠ - ٤٥.

٤٢١

وبالجملة ينبغي العمل بالعمومات غير ما استثني بدليل ويؤيّده التأكيد في حال الإطعام في قوله تعالى( وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) (١) فانّ ترك الترغيب والتحريص والحضّ على إطعامهم جعل قرين عدم الايمان بالله، والموجب لدخول الجحيم، والكون في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا، وعدم صديق وحميم له، وعدم طعام إلّا من غسلين، الّذي لا يأكله إلّا الخاطئون المذنبون، فكيف تارك فعله فلا ينبغي ترك إطعام مسكين إن قدر خصوصا إذا سأل والله الموفّق.

ومن أعظم المرغّبات في الإطعام ما فعله أمير المؤمنينعليه‌السلام ونزل بذلك سورة هل أنى قال في الكشّاف وروي عن ابن عبّاس أنّ الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر عليّ وفاطمة وفضّة جارية لهما إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض عليّعليه‌السلام من شمعون اليهوديّ الخيبريّ ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا وأخبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّا الماء وأصبحوا صياما، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك فلمّا أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن والحسينرضي‌الله‌عنهما فأقبلوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال: خذها يا محمّد هنّاك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

وهذه صريحة مع الشهرة العظيمة بين الخاصّة والعامّة في كونها مدنيّة، ومع ذلك كتب مكّية في بعض المواضع، حتّى عنوان السورة في الكشّاف والقاضي ونقل الشيخ أبو على الطبرسيّ قدّس الله روحه الشريفة الروايات عن ابن عبّاس

__________________

(١) الحاقة: ٣٤،

٤٢٢

بإسناده في الطريقين وعن الحسن تفصيل كون السور بالترتيب مكيّة ومدنيّة وذكر هل أتى في المدنيّة، ونقل عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال أخبرني رسول الله ثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء وذكر أيضا تفصيل السور بترتيب النزول في مكّة والمدينة وذكر السورة في المدنيّة وتفصيل عددها وآيها وحروفها، وقال: جميع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة، وجميع آيات القرآن ستّة آلاف آية ومائتا آية وستّ وثلاثون آية، وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائتان وخمسون حرفا الحديث. فيجب أن يغيّر مكّية بمدنيّة، وترك العناد والعصبيّة والبغض لأهل بيت النبوّة عليهم من الله أفضل الصلاة والتحيّة، وعلى من يبغضهم ألف ألف لعنة.

ثمّ اعلم أنّ فيها دلالة على كون النذر موجبا لرفع المحن خصوصا المرض فيستحبّ النذر لدفع البليّة والمشقّة خصوصا المرض، ويجب الوفاء، بها وبغيرها من الآيات والأخبار والإجماع، وأنّها صريحة في كونهم أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، وأنّ لهم عند الله شأنا عظيما ومقاما كريما وأنّ مجرّد حصول أذى لهم ولو بجوع في سبيل الله يسوء رسول الله أشدّ سوء ويؤذيه وذلك يدلّ على حصول كمال الأذى له بأذاهم بأخذ حقوقهم، ومنعهم عنها، وتكذيبهم وخذلانهم، فكيف ببغضهم وقتلهم، فلا شكّ أنّ ذلك موجب لغضب الله والكفر به، كما ذكره صاحب الكشّاف في تفسير( لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (١) .

ثمّ أعلم أنّها أيضا تدلّ على حسن الإطعام واستحبابه والإيثار، ولو كان ما يطعم به قرضا، وإن بقي بلا طعام مع أهله وأولاده ومملوكه مع كونهم صائمين بل مع عدم احتياج المطعم إلى أكل جميع ما اطعم به مثل احتياجهم، إذ قد يندفع جوعه ويحصل حاجته ببعض الأقراص فلا سرف ولا تبذير في القربات كما هو مشهور ويدلّ عليه الآيات والأخبار مثل صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللهعليه‌السلام

__________________

(١) الشورى: ٢٣.

٤٢٣

في وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنينعليه‌السلام يا عليّ أوصيك بوصيّة فاحفظها، وقال اللهمّ أعنه، ومنها وأمّا الصدقة فجهدك حتّى تقول قد أسرفت ولم تسرف، فلعلّ قوله تعالى( وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) محمول على ما ذكرناه فتأمّل.

والظّاهر أنّه غير مختصّ بهمعليهم‌السلام ، بل كلّ من فعل ذلك لله فقط لا غير له مثل ذلك الأجر للتأسّي، قال في مجمع البيان: وهي جارية في كلّ مؤمن فعل ذلك للهعزوجل ، فما قال في التذكرة من أنّ التّاجر لو صرف جميع ماله في القربات فهو تبذير بالنسبة إليه للآية محلّ التأمّل، وهو أعرفقدس‌سره وأيضا يدلّ على حسن الصبر بل على وجوب الإيفاء بالنذر، حيث يفهم من سوق الآية أنّ تركه موجب للعقاب.

( إِنَّ الْأَبْرارَ ) جمع برّ أو بارّ، قيل هم الّذين لا يؤذون الذّرّ، وقد ظهر ممّا سبق أنّهم أهل البيتعليهم‌السلام ( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ) الزجاجة إذا كانت فيها خمر وتسمّى الخمر أيضا به( كانَ مِزاجُها كافُوراً ) يمزج به ماء كافور، وهو اسم عين في الجنّة ماؤها مثل الكافور في البياض والريح والبرد( عَيْناً ) بدل من «كافورا»( يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) يجرونها حيث شاؤا من منازلهم [وقد ظهر أنّهم أهل البيتعليهم‌السلام ]( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) قال في الكشاف والقاضي: جواب من عسى يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفّر على أداء الواجبات، لأنّ من وفى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى( وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) منتشرا( وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ) قال فيهما: الضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونحوه «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ » «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ »(١) ويحتمل الإطعام والله: أي على حبّ الله أي خالصا، ويدلّ على المبالغة( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً ) قال في الكشاف: على إرادة القول أي حال كونهم قائلين، ويجوز

__________________

(١) البقرة: ١٧٢، آل عمران: ٨٧.

٤٢٤

أن يكون قولا باللّسان منعا لهم على المجازات بمثله أو بالشكر، وقال القاضي: على إرادة القول بلسان الحال والمقال، إزاحة لتوهّم المنّ وتوقّع المكافاة المنقّصة للأجر.

قيل: لمّا علم الله كونه خالصا لوجهه لا يشوبه شيء من الأغراض، وما ينقّص الثواب، قال( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ ) بيانا لحالهم، وهو المراد بإرادة القول ولسان الحال للإشارة إلى أنّه هكذا ينبغي أن يفعل الطّاعات بأن لا يفعل إلّا لله، كما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام «ما عبدتك طمعا للجنّة ولا خوفا من النار، بل وجدتك أهلا لها فعبدتك.»

( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا ) أي نخاف بقصد غير ربّنا من العذاب( يَوْماً عَبُوساً ) أي يعبس فيه وجوه من يريد بطاعة الله غير الله، وغيرهم من الظالمين، ويحتمل أنّ سبب الإطعام هو الخوف ورجاء الخلاص منه( فَوَقاهُمُ اللهُ ) فحفظهم الله بسبب خوفهم عن ذلك اليوم ويحفظهم عنه بالطاعات وترك المعاصي عن( شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ) والعقاب فيه( وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ) أعط هم بدل عبوس الفجّار وحزنهم نضرة أي بشاشة وبياضا وحمرة في الوجوه، وسرورا في القلوب( وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ) قال في الكشاف: جزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدّى إليه من الجوع والعرى( جَنَّةً ) بستانا فيه مآكل هنيّ( وَحَرِيراً ) فيه ملبس بهيّ، وقال القاضي: بصبرهم على أداء الواجبات واجتناب المحرّمات، وإيثار الأموال( جَنَّةً ) بستانا يأكلون منه( وَحَرِيراً ) يلبسونه، ثمّ نقل إيثارهمعليهم‌السلام باختصار ما في الكشّاف [في الجملة] وباقي الآيات إلى قوله( شُكُوراً ) وصف لجزاء عملهمعليهم‌السلام ، والظاهر أنّ ذلك مخصوص بهمعليهم‌السلام ، وما وقع إلى الآن من غيرهم، بل لم يقع إلّا عن مثلهم كما في التصدّق بالخاتم في الصلاة والتصدّق للنجوى وغيرها، فانّ ذلك لا يستحقّه إلّا هم.

ثمّ أشار في آخر السورة إلى وجوب الصبر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أذى المشركين له

٤٢٥

أو لمطلق النّاس في ترك المعاصي وفعل الطاعات وفي البليّات بقوله( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) ونهى عن متابعة الكفّار والفجّار بقوله( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) ثمّ أمر بذكر اسم الله تعالى بقوله( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً ) أي أوّل النّهار( وَأَصِيلاً ) أي العشيّ ويحتمل وقت العصر، فيحتمل كونها إشارة إلى صلاة الصبح والعصر قاله في الكشاف أو العشاء مع المغرب أو مطلق الذكر كما هو الظاهر في هذين الوقتين لشرفهما ثمّ إلى السجود في مطلق اللّيل بقوله( وَمِنَ اللَّيْلِ ) أي في بعضه( فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) لعلّ المراد بالطويل في الجملة، أي ليس زمان قليل إشارة إلى أنّه لا ينبغي صرف هذا كلّه في النوم والفراغ، ويحتمل أن يكون مطلق السجود والتسبيح في اللّيل، لأنّه محلّ راحة النفس، وجمع الخاطر والتسبيح فيه والسجود آكد، وإلى القبول أقرب، وأن يكون المراد صلاة المغرب والعشاء قاله في الكشّاف، والصلاة النافلة في اللّيل، قال في مجمع البيان: يريد التطوّع بعد المكتوبة، وروي عن الرضاعليه‌السلام أنّه سأله أحمد بن محمّد عن هذه الآية وقال: ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة اللّيل(١) فتدلّ على ترغيب الصلاة في اللّيل وشرعيّتها مطلقا من غير اختصاص بوقت وصلاة خاصّة، ويحتمل التهجّد المخصوص قاله في الكشّاف فتأمّل.

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٤١٣.

٤٢٦

(كتاب البيع)

وفيه آيات:

الاولى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) (١) .

أي لا يتصرّف بعضكم في أموال البعض بغير وجه شرعيّ مثل الربا والغصب والقمار، ولكن تصرّفوا فيها بطريق شرعيّ، وهو التجارة عن تراض من الطرفين ونحو ذلك، أي التصرّف بالباطل منهيّ عنه، ولكن التصرّف بالتجارة عن تراض غير منهيّ عنه، فالاستثناء منقطع لعدم الدخول، وأيضا لو كان الاستثناء متّصلا لزم التأويل لعدم حصر التصرّف المباح في التجارة عن تراض، وهي إمّا منصوبة على أنّه خبر تكون واسمه ضمير التجارة أو الأكل والتصرّف وشبهه، وإمّا مرفوعة على أنّ تكون تامّة والظاهر أنّ المراد بالتجارة هي المعاملة على وجه التعويض مطلقا أو البيع والشراء من غير قصد الربا وبالتراضي الّذي هو صفة التجارة صدور التجارة والمعاملة عند العقد عن تراض وإذن ورضا من صاحبي المال لا إكراها ومن غير رضاهما، قال في الكشّاف: والتراضي رضا المتعاقدين بما تعاقدا عليه في حال البيع وقت الإيجاب والقبول، وهو مذهب أبي حنيفة، لعلّ مراده صاحبا المال أو وكيلاهما، وقال في مجمع البيان: ثمّ وصف التجارة وقال( عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) أي يرضى كلّ واحد منكما بذلك إلخ، فالآية تدلّ على عدم جواز التصرّف في مال الغير بغير إذن صاحبه ما لم يرد من الشرع أذن، ففي الآية إجمال، وعلى تقدير إرادة القمار والربا والنجش والظلم من الباطل فالآية واضحة وأيضا تدلّ على إباحة التجارة وأكل المال الحاصل بها، وأنّه لا بدّ في التجارة من إذن صاحب المال حين العقد

__________________

(١) النساء: ٣٤.

٤٢٧

فالبيع الفضوليّ لا يكفي على تقدير كون الاذن سببا لا كاشفا بل كاشفا أيضا وهو ظاهر على أنّه لا معنى للكشف وهو ظاهر، وقد بيّنته في تعليقات القواعد والإرشاد، وأيضا تدلّ على حصول الملك وجواز التصرف بمحض العقد قبل التفرّق ومضيّ زمان الخيار، إذ الظاهر من التراضي ما ذكرناه، وقال في مجمع البيان: قيل: للتراضي معنيان أحدهما أنّه إمضاء البيع بالتفرّق أو التخاير إلى قوله ومذهب الشافعيّة والإماميّة بعد العقد، والثاني أنّه البيع بالعقد فقطّ، والعبارة لا تخلو عن مسامحة، ولعلّ مراده بالأوّل بقاء الرضا إلى أن يلزم البيع مع خيار المجلس بالفرقة، ومع غيره باختيار العقد والتزامه، وبالثاني العقد بالرضا حال العقد فقطّ كما قلناه ونقلناه عن الكشّاف ومجمع البيان أيضا وهو الظاهر المتبادر من الآية ولا ينافيه عدم اللّزوم بدليل في زمان الخيار، فلا يقتضي مذهب الشافعيّة والإماميّة المعنى الأوّل.

( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) يدلّ على تحريم قتل الإنسان نفسه، وقيل المراد إيقاعها في التهلكة أو في العذاب بأكل مال الناس ظلما، أو قتل البعض بعضا، ويحتمل إرادة الجرح والضرب، فانّ القتل بمعنى الجرح والضرب غير بعيد، وقالوا بتحريم جرح الإنسان نفسه( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ) أي قتل النفس أو ما سبق من المحرّمات( عُدْواناً وَظُلْماً ) أي إفراطا في التجاوز عن الحقّ وإتيانا بما لا يستحقّ، وقيل أراد بالعدوان التعدّي على الغير، وبالظلم على نفسه.( فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) فتدلّ على كون القتل كبيرة، ولو كان راجعا إلى أكل المال بالباطل أيضا يكون هو أيضا كذلك.

الثانية: ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي

٤٢٨

الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) (١) .

«الّذين» مع صلته مبتدأ خبره «لا يقومون»، و «إلّا» للاستثناء، وما بعده مستثنى، والمستثنى منه محذوف والتقدير لا يقومون قياما إلّا قياما كائنا نحو قيام المصروع، فالجارّ والمجرور متعلّق بمقدّر صفة للمستثنى المحذوف، وأقيم مقامه و «ما» مصدريّة و «من المسّ» متعلّق إمّا بلا يقومون، أو يقوم أو يتخبّطه، و «ذلك» مبتدأ و «بأنّهم قالوا» خبره و( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ) جملة من مبتدأ وخبر مقول قالوا( وَأَحَلَّ ) إلخ جملة مستأنفة لإنكار قولهم، وفاء «فمن» للتعقيب و «من» مع صلته مبتدأ وهي «جاء» مع مفعوله وفاعله، وهو «موعظة» وتذكيره للفصل وكون تأنيثها غير حقيقيّ وكونها بمعنى الوعظ، ولهذا قال في موضع آخر: «جاءته موعظة» و «من ربّه» متعلّق بمقدّر صفة الموعظة أي كائنة من ربّه و «فانتهى» عطف على جاءه «فله» خبر «ما سلف» والجملة خبر «من» ولتضمّنها معنى الشرط صحّ دخول الفاء في خبره و «أمره إلى الله» عطف على «له ما سلف» و «هم فيها خالدون» جملة حاليّة، و «فيها» يتعلّق بخالدون.

ومعناها: الّذين يأخذون الربا ويتصرّفون فيه - فعبّر بالأكل مجازا لأنّه الغرض غالبا من الأخذ، كما يقال في العرف للظلمة كالسلطان الجائر وآخذ العشور والقضاة بالباطل آكلوا الحرام أو اكتفى به لأنّه العمدة ويمكن لكون عقابه أكثر ويكون تحريم غيره بالعلّة المشار إليها، وبالإجماع وبالأخبار وبقوله «وحرّم الله الرّبا».

لا يقومون إذا بعثوا من القبور يوم القيامة إلّا قياما مثل قيام الشخص الّذي يتخبّطه الشيطان أي جعله مصروعا من الجنون، وهذا بناء على زعم العرب أنّ الشيطان يخبّط الإنسان فيصرع، والخبط ذهاب في الأرض على غير اتّساق مثل العشوى لا تبصر ليلا، والمسّ: الجنون وهذا أيضا بناء على زعمهم أنّ الجنّ

__________________

(١) البقرة: ٢٧٥.

٤٢٩

إذا مسّ الإنسان يختلط عقله فيصرع، والحاصل أنّهم لا يقومون من قبورهم إلى المحشر بسبب الربا ووزره وثقله عليهم قياما مثل قيام صحيح العقل، بل مثل قيام المجانين فيسقطون تارة ويمشون على غير الاستقامة أخرى ولا يقدرون على القيام اخرى، فكان ما أكلوا من الربا أربى في بطونهم، وصار شيئا ثقيلا على ظهورهم فلا يقدرون على ما كانوا قادرين عليه من القيام والمشي على الاستقامة.

وقيل: يكون ذلك علامة لهم يوم القيامة يعرفون بها، كما أنّ لبعض المعاصي علامة يعرف صاحبه بها، وكذا الطّاعات، وذلك بسبب أنّهم جعلوا الرّبا حلالا مثل البيع، وقالوا إنّه مثل الربا، يعني كما أنّ في البيع الّذي لا ربا فيه يحصل الربح وهو حلال وليس له سبب للتحليل إلّا ذلك، كذلك في البيع الّذي فيه الربا يحصل ذلك أيضا، قيل كان ينبغي العكس ولكنّهم اختاروا هذا للمبالغة، فكأنّهم جعلوا الربا أصلا في الحلّ وقاسوا عليه البيع، وردّ الله قياسهم وأنكره بقوله( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) أي وإن كانا متماثلين، ولكن أحدهما حلال والآخر حرام، لحكمة يعلمها الله، لجواز اختلاف الحكم مع التساوي في بعض الأمور، إذا لم يثبت كونه علّة له، ففيها دلالة على عدم صحّة مطلق القياس، وأنّ القائل به مذموم عند الله حيث ذمّهم.

فمن بلغه وعظ من الله بأمر أو نهي وقبض وتصرّف فاتّعظ وقبل النهي أو ارتكب المأمور به( فَلَهُ ما سَلَفَ ) أي فملك ما أخذه سالفا وقبض وتصرّف، وجاز له التصرف فيما فعل من المنهيّ الآن، وكذا فيما يترتّب على ترك ما هو المأمور به الآن، ولا مؤاخذة على ما سبق الأمر والنّهي( وَأَمْرُهُ ) بعدهما( إِلَى اللهِ ) فيجازيه بعمله، فان اتّعظ لله، وقبل الأمر والنهي، لأنّهما من الله فيثيبه، وإلّا فيعاقبه بقدر العمل، أو أنّ الله يحكم في شأنه وليس عليكم الاعتراض، وقيل: معناه بعد الموعظة والتحريم فأمره إلى الله تعالى فان شاء عصمه عن أكله، وإن شاء خذله، وقيل أمره في حكم الآخرة، إن لم يتب إلى الله فان شاء عذّب وإن شاء غفر له.

٤٣٠

والحاصل: ليس جواز ما سبق له مشروطا بالانتهاء ولا برجوع أمره إلى الله بل عدم العقاب فيما يأتي مشروط به، فكأنّه قال: الّذي اتّعظ فما عليه فيما سبق شيء، وأمره فيما سيأتي إلى الله، فان اتّعظ فما عليه شيء، وإلّا فعليه وزر الترك ولعلّه لدفع توهّم من يتوهّم أنّه إذا حرّم الربا لا يكون للعامل أخذه، سيّما إذا كان العين باقية بل يردّه إلى أهله، وتوهّم أنّ المتّعظ ليس أمره بعد الاتّعاظ إليه، أو يكون المراد: فله ما سلف من غير عقاب، فيكون للتقييد، إذ لو لم ينته ليس له ما سلف سالما، بل هو مع العقاب، فكأنّه ليس له ذلك لأنّه لا خير مع كون الإنسان معاقبا، وبالجملة إن ثبت عدم هذا المفهوم بالإجماع ونحوه، فليس بمعتبر لأنّه إنّما يعتبر مع عدم ما هو أقوى منه، وإلّا فنقول به.

( وَمَنْ عادَ ) أي إلى أكل الربا إذ الكلام فيه، والظاهر أنّه ليس في مقابل قوله( فَانْتَهى ) إذ حاصله حينئذ أنّ الّذي جاءه النهي فانتهى أي قبل النهي واعتقد تحريمه، فله كذا وإن لم يقبل فكذا، ولا يناسب لفظ العود حينئذ بل هو جملة عطفت على جملة فمن جاءه إلخ، فكأنّه قال: الّذين يأكلون الربا ويقولون إنّه حلال ثمّ يعودون إلخ ويمكن أن يكون المراد بالعود الرجوع إلى أكل الربا، وعدم قبول تحريمه، وحينئذ لا مسامحة في الحصر الإضافيّ وخلودهم، لأنّ الّذي يعتقد تحليل ما حرّم الله بعد علمه بأنّه [حرام] من الله كافر ومخلّد، فلا دلالة فيه على أنّ الفسّاق مخلّدون كما ذهب إليه المعتزلة، وقال صاحب الكشّاف: هذا دليل بيّن عليه، نعم إن كان المراد العود إلى فعل الربا بعد الترك، فحينئذ تكون ظاهرة فيما قاله الكشّاف في الجملة، ويمكن التأويل بالحمل على المبالغة والمكث الطويل كما قالوا في( مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ) وغيره، لما ثبت من عدم خلود المؤمن في النار بالعقل والنقل.

ثمّ أعلم أنّها تدلّ على تحريم فعل الربا، وتحريم أكل ما أخذ به بل مطلق التصرّف فيه، وكون العود إلى الربا كبيرة أو إلى أكل الربا مع قوله بالتحليل، كما كان قبل، فإنّه كان يقول( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ) وعلى تحليل

٤٣١

جميع البيوع إذ المتبادر منه العموم عرفا كما قالوا. والبيع ظاهر معروف في الكتب الفقهيّة وغيرها وأمّا الربا فنقل أنّه في اللّغة بمعنى الزيادة، ومعلوم أنّه ليس بمراد هنا، فقيل المراد به الزيادة في البيع، بل البيع المشتمل عليها، ولهذا قيل في التفاسير أنّ معنى قوله( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ) أنّ البيع الحالي من الربا مثل المشتمل عليه، فعلى هذا يكون تحريم الربا مخصوصا بالبيع، ولا يكون في سائر المعاملات، مثل الصلح على تقدير كونه عقدا برأسه كما هو مذهب بعض الأصحاب ويدلّ عليه أيضا الأصل وعموم الإيفاء بالعقود، مع عدم ثبوت دليل عليه في سائر المعاملات ووجود الإجماع في البيع دون غيره.

وقيل هي الزيادة في مطلق المعاملات، وهو مذهب الأكثر، فالظاهر عدم جواز الزيادة حينئذ في الهبة المعوّضة أيضا فتأمّل، ودليله أنّه الزيادة مطلقا، وخرج منها ما يجوز إجماعا وبقي غيره تحتها، والظاهر أنّه لا شكّ أنّه ليس في الآية بالمعنى اللّغويّ، والشرعيّ غير ثابت، ولكنّ الاحتياط واحتمال الآية كون المراد به الزيادة في المعاملة مطلقا بل المعاملة المشتملة عليها، يقتضي مذهب الأكثر، وتخصيصها بالبيع خلاف مذهب الأكثر وأيضا علّة التحريم المومى إليها في الأخبار وهي عدم تفويت اصطناع المعروف بالقرض الحسن ورفد المؤمنين يشمل جميع المعاملات فلا يؤخذ الربا لتحريمه في كلّها، بخلاف ما إذا خصّص بالبيع، ويؤخذ بوجه آخر، مثل الصلح، وإن كان باب الحيلة على ذلك التقدير أيضا مفتوحا، على ما ذكروه، ولكنّه حيلة لا تخلو عن شبهة.

ثمّ عمّموا الزيادة من العينيّ والحكميّ مثل الزيادة في الأجل وعمل صنعة وغيرها، وأيضا حصروه في أشياء مخصوصة بإجماع ونحوه حتّى قالوا: إنّ الّذي يجري فيه الربا إجماعا هو ستّة أشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والملح، والذهب، والفضّة، والأصحاب قالوا يشترط أن يكونا متجانسين ممّا يكال أو يوزن وفي المعدود خلاف، وكذا في غير المكيل والموزون إذا بيع نسيئة خلاف، وكذا في غير المتجانسين نسيئة.

٤٣٢

وبالجملة المسئلة وتحقيقها وشرائطها وتفصيلها يحتاج إلى تطويل كثير وهو يخلّ بمقصودنا هنا، مع وجودها في غير هذا المحلّ إلّا أنه ينبغي أن يعلم أنّ ظاهر الآية خالية من الشرائط فبعد ثبوت معنى الربا فكلّ دليل يصلح لتقييدها يقيّد به، ومالا فلا، على ما مرّ مرارا، وتحريم القياس وأنّه ليس بحجّة شرعيّة إذ لو كان كذلك لمّا ساغ الذمّ عليه، وإن أخطأ المستعمل كما هو الثابت في الأصول، إلّا أن تحمل الآية على أنّهم قالوا ذلك مع ثبوت تحريمه، وهو خلاف الظاهر، وخلاف ما قيل في سبب النزول، وهو أنّهم كانوا يفعلون الربا ولا يمتنعون منه، ويقولون بالقياس المذكور، فنزلت وخطّاهم الله تعالى في ذلك وقال( أَحَلَّ اللهُ ) كما في التفاسير، وخلاف الظاهر من قوله( فَمَنْ جاءَهُ ) إلخ فحينئذ يبطل قول الكشّاف والقاضي أنّ قوله( وَأَحَلَّ اللهُ ) ردّ لقولهم، وإنكار لقياسهم وأنّ قياسهم باطل لمعارضة النصّ وأنّ القياس يهدمه النصّ لأنّ الله جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه، إلّا أن يقال: يريدان ما قلناه، وهو بعيد لما مرّ.

وتدلّ على تحليل الربا في بعض الأوقات في الجملة، وأنّه كان يملك ذلك بعد الأخذ والقبض، بل الظاهر بعد العقد إلّا أنه سيجيء في الثالثة ما يدلّ على نفيه حينئذ ويفهم منها وممّا سبق أيضا أنّ الربا لا يملك مع كون فعله حراما، وأمّا كون البيع المشتمل عليه باطلا كما يقوله الأصحاب والشافعيّة وغيرهم - إلّا ما نقل عن أبي حنيفة من صحّة البيع في أصله، وبطلانه في الزيادة، ووجوب ردّها إلى صاحبها - فلعلّ دليل الأصحاب إجماعهم وأخبارهم، وأنّ الّذي وقع عليه التراضي ما انعقد، إجماعا منّا ومن أبي حنيفة، وما وقع التراضي على غيره وهو شرط في التجارة، وأيضا إنّ الّذي علم جوازه وكونه مملّكا وصحيحا هو البيع الخالي من الربا، وغيره غير ظاهر، والأصل عدم حصول الملك إلّا بدليل، إذ الظاهر أنّه ما أراد الله من الأمر بالعقود والإيفاء بها إلّا ما أجازها ورضي بها منها لا غير، ومنه علم ما تخيّله دليلا.

٤٣٣

فاعلم أنّ في الآية الّتي بعدها تأكيدا لأمر تحريم الربا بأنّه يمحقه الله أي ينقصه ويذهب بركته في العاجل، ويعاقب عليه في الآجل، وأنّه يكثر الصدقة ويعطيها البركة وينميها ويزيدها، بأن يثمر المال في العاجل، روي أنّه ما نقصت الزكاة عن مال قطّ أي ما نقص شيء من مال أخرجت عنه قطّ إلّا أعطاه الله البركة فيه ويثيب فاعلها في الآجل حتّى أنّه عبّر عن فاعل الربا بالكفّار الأثيم أي المصرّ على تحريم ما حرّمه الله والمنهمك في ارتكابه، وفي الّتي بعدها دلالة على كون الصلاة والزكاة وسائر الأعمال الصالحة موجبة للأجر العظيم وعدم الخوف والحزن على فاعلهما.

وبالجملة تحريم الربا معلوم من الدين ضرورة، وقد يعلم من بعض الآيات الآخر.

الثالثة: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (١) .

أي اتركوا البقايا الّتي شرطتم على الناس وهي الربا - فمن بيانيّة أو متعلّق ببقي، فتكون ابتدائيّة أو تبعيضيّة، والأوّل أولى - إن صدّقتم تحريمه فإنّ العلم يمنع من العمل المحرّم إذا كان يقينا كما هو مقتضى العقل فإنّ من يفعل المحرّم فكأنّه جاهل غير مصدّق، إذا العلم الّذي لا يعمل بمقتضاه هو والجهل سواء وهذه مبالغة مشهورة في إفادة منع العالم عن خلاف ما يقتضي علمه، فتقييد الترك بالايمان يكون لذلك، أو يكون على ظاهره، أي يجب عليكم ترك ما بقي من الربا بعد علمكم بالتحريم فالّذي فعلتم وأخذتم قبل العلم لا يجب ردّه إلى صاحبه كما فهم من قوله( فَلَهُ ما سَلَفَ ) .

قيل: روي أنّه كان لثقيف مال على بعض قريش فطالبوه عند المحلّ بالمال

__________________

(١) البقرة: ٢٧٨ و ٢٧٩.

٤٣٤

والربا، فنزلت( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ) أي إن لم تتركوا ذلك( فَأْذَنُوا ) أي فاعلموا( بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) من أذن بالشيء إذا علم به وقرئ «فآذنوا» أي فأعلموا بها غيركم من الأذن وهو الاستماع فإنّه من طرق العلم، قيل التنوين للتعظيم، كأنّه أبلغ من حرب الله ورسوله لأنّ المعنى بنوع عظيم من الحرب من عند الله ورسوله ويحتمل أن يكون حربهما واحدا، وهو قتال المسلمين معهم حتّى يرجعوا، وكون حرب الله في الآخرة بإدخالهم في النار وحرب الرسول في الدنيا بالسيف والأوّل أظهر.

فدلّت على جواز قتال المسلم على ترك الربا حتّى يرجع مثل قتال مانع الزكاة وغيره، وعلى تحريم أخذ ما بقي من الربا الّذي شرطه قبل التحريم، ولا يدلّ على كفر الآخذ، روي أنّه لمّا نزلت قال ثقيف لا يدي لنا بحرب الله ورسوله، أي لا طاقة لنا.

( وَإِنْ تُبْتُمْ ) أي رجعتم عن اعتقاد حلّ الربا كما يفهم من البيضاويّ، أو عمل الربا كما هو ظاهر الكشّاف وظاهر الآية أيضا( فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) فقط لا الزيادة الّتي شرطتم( لا تَظْلِمُونَ ) معامليكم بأخذ الزيادة والربا( وَلا تُظْلَمُونَ ) أنتم بأخذ الناقص عن رأس مالكم، ولا يخفى أنّ مفهوم الشرط المعتبر عند أكثر الأصوليّين يفيد عدم جواز أخذ رأس مالهم، مع عدم الرجوع، وهو محلّ التأمّل وقال القاضي، وهو سديد على ما قلناه، إذ المصرّ على التحليل مرتدّ وماله فيء، وقال في الكشّاف: قالوا يكون مالهم فيئا للمسلمين.

قال في كنز العرفان: قال الزمخشريّ والقاضي، وإن لم يتب يكون مصرّا على التحليل، فيكون مرتدّا وماله فيء، وليس بشيء لأنّا نمنع أنّه إذا لم يتب يكون مرتدّا، لجواز أن يفعله ويعتقد تحريمه(١) وفيه تأمّل لأنّ الزمخشريّ ما قاله بل نقله عن قوم، وقد يكون ذلك القائل يقول ذلك بناء على أنّ معنى قوله( إِنْ تُبْتُمْ ) رجعتم عن تحليل الربا، كما يقوله القاضي، فلا يرد عليه ما أورده، مع

__________________

(١) كنز العرفان ج ٢ ص ٣٩.

٤٣٥

أنّه ما صرّح بارتداده، بل قد يكون له وجه في ذلك، وأمّا القاضي فإنّه صرّح بأنّ معنى «تبتم» رجعتم عن تحليل الربا فيكون تاركه مرتدّا من غير شكّ، فلا معنى لأن يقال عليه، إنّه يفعل مع اعتقاده التحريم.

نعم يمكن أن يقال: ما قالوه ليس بشيء، لأنّ دليل أنّ مال المرتدّ فيء للمسلمين غير واضح لأنّه إن كان ملّيا فماله باق على ملكه إلّا أنّه محجور عليه وإن كان فطريّا فماله ينتقل إلى وارثه، فإنّه بمنزلة الموت كذا قاله الأصحاب، ولعلّ أدلّتهم إجماعهم، والروايات، فإن كان مذهبهم أيضا كذلك، يرد عليهم ذلك وإلّا يقال الأصل عدم خروج ملك الشخص عنه، ويستبعد خروج ملك شخص عن ملكه، ولا يتملّكه وارثه بمجرّد الردّة خصوصا مع احتمال الرجعة، وقبول التوبة إلّا بدليل ظاهر، وهو غير ظاهر، وأيضا المفهوم معتبر مع عدم ظهور وجه التخصيص، وما هو أقوى منه، فإذا عارضه أقوى منه أوله وجه تخصيص فلا يعتبر وهنا قد يكون كذلك فتأمّل أو يقال إنّ المنطوق حصول رأس المال فقط ومفهومه عدمه، وهو كذلك لحصول العقاب معه، وهو ظاهر.

ويمكن أن يقال أيضا أنّ منطوق الآية أنّ التائبين عن فعل الربا أو تحليله لهم تمام رأس مالهم حال كونهم غير ظالمين لأنفسهم بترك التوبة وارتكاب المحرّم ولا لغيرهم بطلب ما لا يستحقّونه عليه، ولا مظلومين بنقص مالهم، ولا بحصول عقاب من عند أنفسهم، فجملة( لا تَظْلِمُونَ ) حال ومفهومها أنّ غير التائبين ليسوا بهذه الحالة، للزوم عدم المشروط عند عدم الشرط، وهو كذلك لأنّه ليس لهم رأس مالهم مع الحال المذكورة، بل مع نقيضها، فإنّه لو كان لهم رأس مالهم يكون حال - كونهم ظالمين لأنفسهم بل لغيرهم أيضا ومظلومين أيضا لظلمهم أنفسهم، وهذا المقدار يكفي لاعتبار المفهوم، ولا يلزم رفع جميع ما ذكر للمذكور، وهو ظاهر بيّن، فعلم أنّ ما قالاه ليس بشيء لوجوه قلناها لا لما قيل فافهم.

الرابعة: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) (١) .

__________________

(١) آل عمران ١٣٠.

٤٣٦

قد مرّ مضمونها وهو تحريم الربا ولعلّ التكرار للتأكيد، والمبالغة في التحريم، وأيضا لتصريح النهي فإنّ الّذي مضى كان بحسب الظاهر خبرا أو لعظم ذنب هذا الفرد، وهو الأكل أضعافا مضاعفة وكانّ الواقع كان كذلك، ولكثرة ضرره على الناس، وكأنّ الأكل كناية عن أخذ الربا وهو متعارف يقال فلان يأكل الربا يعنون به أنّه يستعمله ويأخذه ولا يجتنبه، لا أنّه يأكله حقيقة فيحتاج إلى قياس غيره عليه، ومعنى( أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) قيل أن يضاعف بتأخير أجل بعد أجل كلّما حلّ أجل أجّل إلى غيره، وزيد زيادة على المال، أو تضاعفوا أموالكم فيدخل فيه كلّ زيادة محرّمة في المعاملة، ويمكن أن يكون المراد يضاعف الزيادة أضعاف الأصل أو أضعاف ما يتعارف في ربح مثله.

وقال في المجمع: في تحريم الربا مصالح منها أنّه يدعو إلى مكارم الأخلاق بالإقراض، وإنظار المعسر من غير زيادة، وهو المرويّ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في الكافي في الحسن عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إنّما حرّم اللهعزوجل الربا لكيلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف، وعن سماعة قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام إنّي رأيت الله قد ذكر الربا في غير آية وكرّره فقال أو تدري لم ذلك قلت لا، قال لئلّا يمتنع الناس من اصطناع المعروف(١) وأنت تعلم أنّها تنعدم بفتح باب الحيلة، كما هو المتعارف، فإنّهم يأخذون بها ما يؤخذ بالربا.

الخامسة: ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) (٢) .

الويل قيل: اسم واد في جهنّم أو كناية عن عذاب وسخط من الله، على من يطفّفون الميزان والكيل، ويباشرونهما، الّذين إذا اكتالوا من النّاس حقّهم أو اتّزنوه منهم يأخذونه وافيا تامّا كاملا، حذف واكتفي بالأوّل وفي الكشّاف للإشعار

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٤٦.

(٢) المطففين: ١ - ٣.

٤٣٧

بأنّهم ما يأخذون لأنفسهم من الناس إلّا بالكيل لأنّه أكمل وأمكن وأتمّ للاستيفاء والسرقة فتأمّل، وإذا كالوا أو وزنوا هم من أنفسهم للناس يخسرون ينقصون ذلك ولا يستوفون فتدلّ على أنّ إعطاء الناقص حرام، ويدلّ عليه العقل والنقل، وغيرها أيضا من عدم جواز أخذ أموال الناس إلّا برضاهم.

ويدلّ أيضا على المنع من نقص الكيل والوزن بخصوصه بعض الآيات والأخبار أيضا مثل( أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) (١) وتحريم ذلك ظاهر لا يحتاج إلى الدليل «ويل» مبتدأ و «للمطفّفين» خبره و «إذا» ظرف يتضمّن معنى الشرط وما بعده شرطه، و «يستوفون» جزاؤه والجملة صلة الّذين وهو صفة للمطفّفين، وذكر الاستيفاء هنا لزيادة قبح النقص حينئذ يعني يأخذ لنفسه تامّا ويعطي الغير ناقصا لا أنّه أيضا حرام، وإن كان مرجوحا فان عدم الاستقصاء والاستيفاء وإعطاء الزائد وأخذ الناقص مطلوب شرعا لأنّه إحسان عقلا ونقلا ومرغوب ومستحبّ ذكر ذلك مع دليله في محلّه، ويحتمل أن يكون المراد الاستيفاء مع أخذ الزائد كما يشعر به كلمة «على» الدالّة على الضرر، فيكون هو أيضا حراما بخصوصه.

«وإذا كالوا» إلخ عطف على «اكتالوا» عطف جملة على جملة، قيل اكتالوا وكالوا بمعنى واحد، وكانّ زيادة الحرف في الأوّل تدلّ على زيادة الحرص والسعي فيه، و «هم» في الموضعين منصوب إمّا لأنّه يقال كالهم، كما يقال كال لهم، كما يفهم ذلك من مجمع البيان أو على الحذف والإيصال، أو على حذف مضاف أي مكيلهم، وقال في الكشّاف: لا يحسن كونه تأكيدا لضمير كالوا لفوات المقابلة لما قبله ولا كونه فصلا لأنّه إنّما يكون بين المبتدأ والخبر ونحوه، مثل مفعولي فعل. قال في مجمع البيان: قيل ذلك والصحيح أنّه منصوب كأنّه إشارة إلى ما ذكر من ضعف التأكيد والفصل، ووجه صحّة النصب وهو ظاهر لا يحتاج إلى البيان.

__________________

(١) الرحمن: ٨ و ٩.

٤٣٨

السادسة: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) (١) .

قال في الكشّاف: العفو ضدّ الجهد كأنّه هو المشقّة، فالعفو هو السهولة أي خذ يا محمّد ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما أتى منهم، وتسهّل من غير كلفة ولا تداقّهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشقّ عليهم، حتّى لا ينفروا كقولهعليه‌السلام يسّروا ولا تعسّروا، والعرف المعروف والجميل من الأفعال وأعرض عن الجاهلين. ولا تكافؤ السفهاء مثل سفههم، ولا تمارهم وأحلم عنهم، وأغض عمّا يسوؤك منهم، وقيل لمّا نزلت الآية سأل جبرئيلعليه‌السلام فقال: لا أدري حتّى أسأل ثمّ رجع فقال: يا محمّد إنّ ربّك أمرك أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عمّن ظلمك. وعن جعفر الصادقرضي‌الله‌عنه : أمر الله نبيّه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

فهذه دالّة على رجحان حسن الخلق من العفو ممّا يستحقّه الإنسان في ذمّة الغير من الحقوق وغيره، واستعمال اللّين والملاءمة في المعاملات، والأمر بالمعروف والاعراض عن الجهّال، وعدم مؤاخذتهم بما فعلوا بالنسبة إلى الإنسان ويؤيّده( وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) (٢) وعلى عدم المماكسة وإعطاء الزائد وأخذ الناقص، وعدم الربح على الموعود بالإحسان بل مطلق المؤمن ونحو ذلك من الإحسان.

السابعة: ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٣) .

قال في مجمع البيان قيل: فيه أقوال: المراد لن يجعل الله لليهود على المؤمنين نصرا ولا ظهورا، قيل: بالحجّة، وإن جاز أن يغلبهم بالقوّة، ولو حملناه على الغلبة لكان صحيحا لأنّ غلبة الكفّار على المؤمنين ليس من الله تعالى، وقال القاضي: حينئذ أي في الآخرة أو في الدنيا والمراد بالسبيل الحجّة، واحتجّ به أصحابنا على فساد شراء الكافر المسلم والحنفيّة على حصول البينونة(٤) بنفس الارتداد، وهو

__________________

(١) الأعراف: ١٩٨.

(٢) الفرقان: ٦٣.

(٣) النساء: ١٤٠.

(٤) أى بين الزوج والزوجة، منه.

٤٣٩

ضعيف لأنّه لا ينفي أن يكون إذا عاد إلى الايمان قبل مضيّ العدّة. وفي الاستدلال على عدم جواز الشراء بعد قوله والمراد بالسبيل الحجّة تأمّل، نعم إن حملت على العموم كما هو الظاهر، فالاستدلال صحيح.

وقد استدلّ بعض أصحابنا أيضا بها على عدم التملّك، وقال البعض بجواز التملّك مثل أن أسلم عنده ولكن لا يتمكّن من التصرّف للآية بل يباع عليه، ويمكن الاستدلال بها على عدم تسلّط الكافر على المسلم بوجه تملّك وإجارة ورهن وغيرها لأنّه نكرة في سياق النفي يفيد العموم فلا شيء من السبيل له على المسلم، ويصحّ استدلال الحنفيّة أيضا لأنّ الزوجيّة تسلّط وسبيل واضح، والفرض كونه منفيّا بالآية، والعجب من القاضي أنّه ضعّفه بعد القول باستدلال أصحابه به، بأنّه لا ينفي أن يكون إذا عاد لأنّه إذا انتفى السبيل فما بقي نكاح فكيف تعود الزوجيّة بغير عقد، ولأنّه قد سلّم زواله لأنّه سبيل منفيّ فعوده يحتاج إلى دليل، ومجرّد رفع المزيل والمانع لم يكف بل يحتاج إلى المقتضي.

نعم يرد عليه أن ليس للزوجة سلطنة على الزوج عرفا بل شرعا أيضا، فلا تدل على بطلان العقد بارتدادها وإلّا يلزم انفكاك الرقّ وخروج الملك عن ملك المولى بردّته لو قيل إنّ مثل وجوب النفقة سلطنة، وأيضا قد يقال يكفي في رفع السلطنة عدم ثبوت أحكام النكاح من الدخول وغيره حتّى يرجع إلى الإسلام فيكون الردّة مانعة، فيرجع بعد زوالها كما يقوله أصحابنا على التفصيل الّذي ذكروه فتأمّل.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702