الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

الطفل بين الوراثة والتربية4%

الطفل بين الوراثة والتربية مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الأسرة والطفل
الصفحات: 404

  • البداية
  • السابق
  • 404 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 71659 / تحميل: 8698
الحجم الحجم الحجم
الطفل بين الوراثة والتربية

الطفل بين الوراثة والتربية الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

٤ - وكذلك يقول ( ع): (مَن عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم ) (١) .

٥ - وقد ورد عنه: (مَن لم يعرف نفسه، بَعُد عن سبيل النجاة وخبط في الضلال والجهالات ) (٢) .

وهكذا نرى في هذه الروايات أن أساس السعادة قائم على معرفة النفس. فمَن لم يعرف نفسه ولم يدرك قيمتها الواقعية لا يصل إلى الكمال الإنساني اللائق به أبداً. والذين يجهلون كل شيء عن الثروات الفطرية المودعة في نفوسهم، لا يتمكّنون من العمل على إحيائها واستثمار المواهب الكامنة عندهم.

روي عن كميل بن زياد، قال: سألت مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، قلت: يا أمير المؤمنين: أريد أن تعرّفني نفسي، فقال: (يا كميل، أي النفس تريد أن أعرِّفك؟)، قلت: يا مولاي، هل هي إلاّ نفس واحدة؟ فقال: (يا كميل، إنما هي أربعة: النامية النباتية والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والملكية الإلهية... ) (٣) .

إحياء الميول المعنوية:

إن الإنسان يملك غير الطبع النباتي، والشهوة الحيوانية، ثروة عقلية بشرية وروحاً ملكوتية إلهية، فالسعيد من اعتنى بجميع ذخائره وثرواته المادية والمعنوية، وحاول استغلالها والاستجابة لها حسب قياس صحيح. وهكذا فالإنسان في الوقت الذي يهتم بجلب اللذائذ الجسمانية ويستجيب للميول الحيوانية يجب أن يهتم بصفاء باطنه. وإحياء الميول المعنوية التي تعد جزءاً من

____________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم ص ٢٩٣. طبعة دار الثقافة - النجف الأشرف.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٩٦.

(٣) آداب النفس للسيد محمد العيثاني ج ١|١١ ط. طهران. وللحديث تفصيل طويل مذكور في ( مجمع البحرين للطريحي، مادة نفس ).

١٦١

فطرته، ويحاول استخدام مواهبه كلها في سبيل الوصول إلى التكامل، منقاداً في ذلك للفطرة بإخلاص تام، لكي لا يلقى عقابه على يد الطبيعة التي لا تخلُّف عن قوانينها.

الانحراف عن طريق الفطرة:

إن من المؤسف أن الحياة العصرية قد انحرفت بالبشر عن طريق الفطرة، وقصرت اهتمامها على الجوانب المادية فقط. إن أكثر الأفراد اليوم يرون البشرية من خلف منظار اللذائذ والشهوات، فيتناسون أهمية الجوانب المعنوية. وعلى هذا الأسلوب من التفكير يربّون أبناءهم أيضاً، فيعطفون جُلَّ اهتمامهم على العيش الرغيد والالتذاذ أكثر، في حين أن اهتمامهم بتربية الإيمان الفطري والسجايا الخلقية والواجبات الروحية... لا يبلغ الواحد في المائة من العناية بالجوانب المادية، ولا شك في أن الانحراف عن طريق الفطرة لا يبقى بلا عقاب.

إن المدنية الحديثة تسيطر على العالم منذ مدة، والعلماء يقفون كل يوم على حل رمز جديد من كتاب الكون، ويخطون خطوة جديدة في طريق العلم، ويحرزون انتصارات عظيمة في هذا السبيل. ولذلك فإن أسلوب المعيشة قد تغيّر والحياة ملئت جمالاً، وخضع البر والبحر والجو لسيطرة البشر، فالأكواخ المرطوبة المظلمة قد استبدلت بالقصور الضخمة الفاخرة المجهَّزة بجميع وسائل الراحة. وهكذا حلت النفّاثات الجميلة القوية محل الفرس والجمل، حيث توصل المسافر في أتم الراحة وأسرع الوقت إلى مقصده. ولا غرابة إذا رأينا أن المغازل اليدوية للعجائز وأدوات الحياكة اليدوية للشيوخ تخلي مكانها لمعامل الغزل والنسيج الأوتوماتيكية. وهكذا خرجت الزراعة عن شكلها القديم، وبدأ المزارعون العمل في الحقول بأحدث المكائن الزراعية وفقاً لأحدث النظريات العلمية.

وبصورة موجزة: نرى أن العلم قد أخذ طريقه إلى جميع مظاهر الحياة، مضيئاً - كالشمس - كل مكان، ومنظّماً وسائل الراحة المادية والرفاه في العيش.

١٦٢

المدنية والأمراض الروحية:

ولكن هذه الانتصارات التي أحرزها الإنسان في مختلف الميادين لم تقدر على إيجاد التضامن الفكري والارتياح الروحي للبشر، بل نجد الأمر على عكس ذلك، فبنفس النسبة التي تتقدّم فيها المدنية وتهيِّئ وسائل جلب اللذة والشهوات للبشر، نجد أن اضطرابه وانزجاره، شقاءه وبؤسه يزداد. إن الأمراض الروحية والعصبية والاختلالات العقلية والجنون أضحت مثل سحب سوداء وخطيرة قد سيطرت على أفق الدول المتمدّنة بصورة فظيعة مخيفة.

(لقد كتبت الجرائد الرسمية الأمريكية، في مطلع هذا العام أن في العام الماضي بلغ مصرف الأقراص المنوّمة والمهدّئة للأعصاب، والخاصة للأمراض الروحية المستعملة في أمريكا مئتي مليون دولار. هذا الرقم الهائل إنما هو للأدوية المستعملة في حالات ضعف الأعصاب والقلق الفكري. أما الأقراص المسكنة للأوجاع أمثال الأسبرين، فإنها تشمل مبالغ طائلة أخرى من ميزانية الدولة ) (١) .

إن الدول العظمى في العالم تعمل على استئصال جذور الأمراض المختلفة بمختلف الوسائل العلمية والتطبيقية، لتخلّص شعوبها من شر التيفوئيد والحصبة والملاريا ونحوها، ولكنها بدلاً عن ذلك قد ملأت المستشفيات بالمصابين بالأمراض الروحية والعقلية، وتزيد من عددهم الهائل يوماً بعد يوم.

(ومن العجيب أن الأمراض العقلية أكثر عدداً من جميع الأمراض الأخرى مجتمعة. ولهذا فإن مستشفيات المجاذيب تعج بنزلائها وتعجز عن استقبال جميع الذين يجب حجزهم. ويقول س. و. بيرسي: إن شخصاً من كل ٢٢ شخصاً من سكان نيويورك يجب إدخاله أحد مستشفيات الأمراض العقلية بين حين وحين، وفي الولايات المتحدة تبدي المستشفيات عنايتها لعدد من ضعاف العقول يعادل أكثر من

____________________

(١) جريدة ( اطلاعات) الإيرانية العدد ١٠١٦٣.

١٦٣

ثمانية أمثال عدد المصدومين. ففي كل عام يدخل مصحات الأمراض العقلية وما يماثلها من المؤسسات نحو ٨٦٠٠٠ حالة جديدة).

(إن أمراض العقل خطر داهم. إنها أكثر خطورة من السل والسرطان وأمراض القلب والكلى، بل التيفوس والطاعون والكوليرا. ولا شك في أن كثرة عدد مرضى الأعصاب والنفوس دليل حاسم على النقص الخطير الذي تعاني منه المدنية العصرية، وعلى أن عادات الحياة الجديدة لم تؤدِّ مطلقاً إلى تحسين صحتنا العقلية ) (١) .

هذه النصوص ترينا أن حالات الجنون والأمراض الروحية تأخذ بالازدياد بسرعة هائلة في الدول العظمى والمتمدّنة، فالدكتور كارل إنما يكتب هذه الفقرات عن الوضع الروحي في أمريكا قبل ٣٠ سنة تقريباً، ولكن النشرة الإحصائية الرسمية في أمريكا لعالم ١٩٦٠ ميلادية، تشير إلى أرقام أعلى من الأرقام السابقة. فمثلاً بينما نجد أن النشرة المذكورة تذكر عدد المصابين روحياً في المستشفيات العقلية الأمريكية ٣٤٠٠٠٠ سنة ١٩٣٢ ميلادية، نجد أن هذا الرقم يرتفع إلى الضعف سنة ١٩٥٩.

ازدياد الجرائم والجنايات:

تلك النشرة نفسها تذكر ( ص ٣١١) أرقام الجرائم المختلفة التي تلقتها من محاضر محاكمات القضاة، وتكتب أرقام ثلاث سنوات بهذه الصورة:

٢٢٦٢٤٥٠ جريمة

عام ١٩٥٥

٢٥٦٣١٥٠ جريمة

عام ١٩٥٦

٢٧٩٦٤٠٠ جريمة...

عام ١٩٥٧

____________________

(١) الإنسان ذلك المجهول ص ١٢٣.

١٦٤

وهكذا تلاحظون أن الجرائم أيضاً في طريقها إلى الازدياد يوماً بعد يوم.

والآن لنذكر بعض الإحصائيات الطريفة حول الموضوع:

(الجناية في فرنسا، اسم كتاب ألّفه رجلان من علماء الاجتماع في فرنسا، أحدهما هو: ( بول شولو)، والآخر: ( جان سوزنين)، بعد أن استفادا من الإحصائيات والملفّات الجنائية بمعونة البوليس. لقد ورد في إحدى تلك الإحصائيات ما يلي: تقع في فرنسا سرقة واحدة في كل دقيقتين، وعملية اختطاف واحدة في كل عشر دقائق، وسرقة سيارة في كل ثلاثين دقيقة واتصال جنسي غير مشروع في كل ثلاث ساعات، وجناية واحدة في كل أربع ساعات...) (١) .

(لندن - أعلنت مؤسسة التحقيقات في الصحة النفسية: أن خمسة آلاف رجل وامرأة بريطانيين ينتحرون كل عام. وهذا العدد يساوي حالات الموت الناشئة من اصطدام السيارات في هذه البلاد. وفي مدينة لندن التي لا تزيد سكانها على التسع ملايين، يكون معدل الانتحارات في كل يوم ٣ انتحارات) (٢) .

إن ما لا شك فيه هو أن هذه المصائب هي وليدة التخلّف عن قوانين الخلقة، فالتمدن الحديث قد صرف كل جهوده في سبيل توسعة اللذائذ المادية وإيجاد الرفاه المعيشي للبشر، وغفل - تمام الغفلة - عن الجوانب الروحية في النفس الإنسانية.

الإفراط في الشهوة:

والمدنية الحديثة قد سدّت على الناس أبصارهم ومسامعهم وصورت لهم

____________________

(١) جريدة ( اطلاعات) الإيرانية العدد ١٠٢٢٣.

(٢) جريدة ( كيهان) الإيرانية العدد ٥٦٤٥.

١٦٥

أن معنى (الإنسانية) ليس إلاّ العمل على إيجاد حياة أفضل، والانتفاع من اللذة أكثر، وكأن ليس للإنسان هدف غير ذلك. فالكل يفكّرون في كيفية الحصول على مسكن أحسن، ومركب أجمل، ومقام أرفع، ويجدّون في أن يعرفوا أي السبل تدر عليهم ثروة أكثر كي يتمكّنوا من ممارسة شهواتهم بصورة أوسع.

وتسعى شركات الأفلام السينمائية دوماً في سبيل إخراج أفلام أكثر تهييجاً، ورقصات أشد إثارة، لتتمكن من إرضاء شهوات الناس إلى أبعد مدى ممكن وبذلك لتحصل على أرباح أكثر.

واجتماعات المساجد والكنائس آخذة في الضعف والتأخر. أما حانات الخمور ودور السينما والمراقص والملاهي، فأنها مليئة بالحاضرين ومكتضة بالشباب.

الرجل الثري يحترم ويعتنى به عناية بالغة لثروته. أما الفرد المؤمن التقي الذي يعتبر ثروته الإيمان والفضيلة، فلا يملك واحداً بالمئة من احترام ذلك الرجل.

إن نجمة سينمائية تمكّنت بخروجها بجسد نصف عريان وإتيانها حركات مهيجة من إرضاء ميول المتفرّجين، وعندما دخلت بلدة أخذ الآلاف من الناس يتنافسون في الخروج لاستقبالها معتبرين النظر إليها فوزاً عظيماً وسعادة كبرى. ولكن إذا دخل عالم في الأخلاق والتربية أو رجل مؤمن ورع يكون كلامه وأفعاله قدوة للعفة والصلاح إلى تلك البلدة، فلا يخرج لاستقباله سوى أفراد قليلين يعدون بالأصابع.

ومحنة الكتب أشد، فالكتب التربوية المفيدة والعلمية الصالحة لا تلقى إقبالاً من القرّاء، في حين نجد أن القصص المهيّجة والأشعار المغرية تنفد في فترة قصيرة ويعاد طبعها عدة مرات.

اختلال التوازن:

هذه الشواهد - وعشرات من أمثالها - ترينا أن التوازن بين الروح والبدن

١٦٦

قد اختل في المدنية الحديثة. فالميول المادية والشهوانية تراعى ويدافع عنها ولذلك فقد اتسعت دائرتها، وفي قبال ذلك نجد أن العواطف الإنسانية والميول الروحية مفقودة ولا يبحث عنها أصلاً. هذا العمل إنما هو حرب صريح مع الفطرة، ومخالفة مباشرة لقانون خلقة البشر... ومن البديهي أن الخروج على قوانين الكون لا يبقى خالياً من عقاب.

(إننا فقدنا جميع مقرّراتنا الداخلية كما فقدنا تعاليمنا الدينية، والأجيال الحاضرة تجهل حتى وجود مثل هذه القيم في الماضي. وهكذا فالعدالة، الشرف، الاستقامة، المسئولية، الطهارة، العطف على الناس، الشهامة... قد أضحت عبارات فارغة لا معنى لها، وكلمات تقابل بالسخرية من قبل الشباب. وإذا اتفق وأن رأينا منهم شوقاً نحو العقائد الدينية، فذلك كاحترامهم للأشياء النادرة في المتاحف. إن الإنسان الحديث لا يعرف لغير اللذة أساساً آخر لحياته وسلوكه) (١) .

إن الإنسان لا يستطيع الاستمرار في حياته من دون أن يؤمن وسائل الحياة المادية، فهو محتاج إلى الطعام واللباس والمأوى، وإرضاء الميول الجسدية بحكم القضاء القطعي الإلهي، وعليه أن يسعى في سبيلها. ولكن يجب أن لا ينسى أن المطاليب الفطرية للبشر ليست منحصرة في ميوله المادية فقط، فإن ما يسبب الفضيلة والكمال للإنسان، ويفصله عن سائر الحيوانات، هو ثرواته المعنوية وفضائله الروحية، فمن أهمل الذخائر الروحية المودعة لديه فهو (حيوان) في لباس (إنسان ).

(لا يستطيع أحد أن ينكر أن البشرية تخضع لقوى منبثقة من الفكر والعقائد. وكانت نتائج بعض الفكر المجردة أن غيرة محيطنا وقلبته رأساً على عقب (وهي العلوم التجريبية والميكانيكية)، وتركت أثراً كبيراً في حياتنا الفردية والاجتماعية، ولكن يجب البحث عن العواطف الباطنية والإلهامات الفطرية في ضمن الفكر التي يمكن تسميتها

____________________

(١) راه ورسم زندكى ص ٦.

١٦٧

بـ (الفكر العتلية) (١) ، كالعقائد الأولية للطموح وحب الكمال والعقائد الدينية. وكل نظرية تغفل النظر إلى هذه الفكر، وتسعى في سبيل إيجاد الراحة المادية للبشر كما تفعل بقطيع من الأغنام، فإن تلك النظرية تكون ناقصة ومنحرفة) (٢) .

حيوان في لباس إنسان:

ومن هنا يتضح أن المبادئ التي تبشر بها المدنية الحديثة لا ترمي إلاّ إلى خلق قطيع من الأغنام المتلبسة بلباس الآدميين. والإمام علي (ع) يشير إلى هذه النكتة في ضمن حديث له مع كميل بن زياد حول بعض الناس المنحرفين، فيقول: (... أو منهوماً باللذة سلس القياد للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار... ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب شيء شبهاً بهما: الأنعام السائمة) (٣) .

فنرى كيف يشبّه الإمام هاتين الطائفتين (المطيعون للشهوات - والمفتونون بجمع المال) بالحيوانات والبهائم، حيث لا تظهر لهم عواطف دينية والتزامات عقيدية.

(إن الرقي الحقيقي للإنسان الذي يوصل إلى الكمال ينحصر

____________________

(١) هكذا ورد في تعبير المؤلف. ولعل ذلك يرجع إلى العتلة. والمراد بالعتلات في بحوث الميكانيك من علم الفيزياء، هو الآلات التي تستعمل لرفع وتحريك أجسام عظيمة بصرف جهود بسيطة. كما لو رفعنا صخرة كبيرة بواسطة وضع قضيب حديدي تحت ركن من أركانها وأسندنا ذراع القضيب إلى صخرة صغيرة مثلاً. ويجري قانون العتلات في البكرات المتسلسلة التي تحفص ثقل الأجسام إلى النصف بعدد البكرات، وكثيراً ما نشاهد أمثلة ذلك في الرافعات (السلينكات)التي ترفع أجساماً ثقالاً بصرف جهود بسيطة. وعلى أي حال فالمراد من (الفكر العتلية) هنا هو الفكر التي يستعان بها في تيسير الحياة الهانئة السعيدة والصفاء الفكري بمجهود بسيط.

(٢) سرنوشت بشر ص ١٤٧.

(٣) شرح نهج البلاغة للملا فتح الله ص ٥٥٠.

١٦٨

في العمل على تكميل النفس الإنسانية وصقلها وتهذيبها، لا في تطوير الوسائل والأدوات التي يستخدها في ضمان راحته المادية. هذا المذهب الأخير هو مذهب الماديين الذي يجلب الخزي والعار للإنسانية، لأنه يبعد عن نظره أشرف الصفات في الإنسان. وهذه الصفات فقط بإمكانها أن تضمن سعادته التي هو أرقى من سعادة الأبقار المجترة...) (١)

إحياء الإنسانية:

إن هدف الرسول الأعظم (ص) من تعاليمه الدينية العالية هو إحياء الإنسانية. إن الإسلام يريد أن يحرك المواهب الباطنية والميول الفطرية في البشر، وفي الوقت الذي يضمن له اللذائذ الجسدية يرشده إلى الكمالات الروحية والإيمانية. فالإنسانية لا تكمن في رغد العيش وضمان اللذائذ الدنيوية، والإنسان الذي ينسى نفسه، ويغفل عن امتيازاته المعنوية، ويحاول أن يحصر نفسه بين جدران الشهوات الحيوانية. لا شك في أنه آخذ طريقة نحو التسافل مهما كانت حياته رغيدة وعيشته مطمئنة. والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة في ضمن الآية التي افتتحنا بها البحث، فيقول: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) .

ديوان الفطرة:

إن الإنسان خلق بحسب هذه الآية على أحسن صورة من الكمال الطبيعي، فمَن اتبع كتاب الخلقة وديوان الفطرة وعاش بثروة الإيمان وطهارة العمل، فعاقبته أنه يصل إلى أعلى درجات الإنسانية، ومن حاد عن طريق الفطره السليمة يتردّى إلى أسفل سافلين.

____________________

(١) سرنوشت بشر ص ١٧٣.

١٦٩

وما أكثر أولئك الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً، يعيشون في بيوت حقيرة، ومع ذلك فإن حب الله القدير يعمّر قلوبهم وتحيي فيهم السجايا الخلقية، ويعيشون مثل ملائكة الجنة في غاية الطمأنينة والرفاه والاستقرار الروحي... هؤلاء هم البشر الواقعيون الذين لا يفكرون في شيء غير الطهارة والفضيلة.

وعلى العكس فما أكثر أولئك الذين يعيشون في القصور الضخمة لكن فقدانهم لعنصر الإيمان وانشغالهم بالرذائل يجعل قصورهم تلك جحيماً لا يطاق، حيث نار الحسد والحقد والتشاؤم والأنانية تحرق أرواحهم، والحرص والطمع والخيانة والجناية ترديهم إلى هوة سحيقة من الفساد والشقاء والبؤس.

ملجأ البشرية:

في مد الحياة وجزرها، وفي اضطراباتها الروحية... يعتبر الاتجاه إلى الله والإيمان بالتعاليم الدينية أحسن ملجأ للبشرية. ومما يؤسف له أن المدنية الحديثة لا تقيم وزناً لهذه القيم والمثل، وكثير من الشبان والشابات يلجئون إلى الخمرة في يوم اندحارهم ورسوبهم، أو ينتحرون.

« عزلت المادة نهائياً عن الروح. وحينئذ اتخذت التركيبات العضوية والآليات الفسيولوجية حقيقة أكبر كثيراً من التفكير والسرور والحزن والجمال. ولقد دفعت هذه الغلطة الحضارة إلى سلوك طريق أدى إلى فوز العلم وانحلال الإنسان).

(فإذا كان على الحضارة العلمية أن تتخلّى عن الطريق الذي سارت فيه منذ عصر النهضة، وتعود إلى ملاحظة المادة الجامدة ببساطة، فسوف تقع أحداث عجيبة على الفور ستفقد المادة سيادتها، ويصبح النشاط العقلي مهماً كالنشاط الفسيولوجي، وسيبدو أن لا مفر من دراسة الوظائف الأدبية والجمالية والدينية كدراسة الرياضيات والطبيعة والكيمياء. وسوف تبدو وسائل التعليم الراهنة سخيفة. وسيسأل علماء الصحة عن

١٧٠

السبب الذي يحدوهم إلى الاهتمام فقط بمنع الأمراض العضوية دون الأمراض العقلية والاضطرابات العصبية، كما سيسألون عما يجعلهم لا يبذلون اهتماماً بالصحة الروحية. ولماذا يعزلون المرضى بالأمراض المعدية، ولا يعزلون أولئك الذين ينشرون الأمراض العقلية والأدبية، ولماذا يعتبرون العادات المتولدة عن الأمراض العضوية عادات ضارة دون العادات التي قد تؤدّي إلى الفساد والإجرام والجنون) (١) .

جسد الطفل وروحه:

إن الإنسان عبارة عن الجسد والروح، المادة والمعنى. فالتربية الصحيحة والتامة عبارة عن إحياء جميع الميول المادية والمعنوية، والمربي القدير هو الذي يلاحظ التوازن بين مطاليب الجسد ومطاليب الروح. فكما يعتني بسلامة جسد الطفل، يجب أن يعتني بسلامة نفسه أيضاً. فيحاول أن يبذر في نفسه بذور الفضيلة والإيمان من أولى أدوار حياته ليتربى تربية طاهرة صحيحة.

فكثير من العوارض النفسية والمآسي التي تؤدي إلى الأمراض الروحية والعقلية، وقد تجر إلى الجنون أو الانتحار أحياناً... إنما هي معلومة للانحطاط الخلفي والانحراف عن السجايا الإنسانية. ومن المؤمل أن نبحث - بتوفيق من الله - في قسم منها في المحاضرات القادمة.

قلنا: إن الأساس الثاني لبحثنا في هذه المحاضرة هو أن المربي القدير يجب أن يسعى لدحر الميول المنحرفة والصفات البذيئة التي ورثها الطفل من أبوية (كتربة مساعدة)، فيعمل على قمعها وإخفاء آثارها. ويزرع مكانها البذور الصالحة للسلوك المفضّل. فبعض الأطفال قد ورثوا الجبن، البخل، الكسل، الخسة ونحوها من الصفات من أبويهم، وهذه الصفات ليست من قبيل القضاء الحتمي والمصير القطعي الذي لا يقبل التغيير كما سبق أن بيَّنا ذلك آنفاً، بل

____________________

(١) الإنسان ذلك المجهول ص ٢١٤ - ٢١٦.

١٧١

بإمكان التربية الناجحة والبيئة الصالحة أن تبعد الطفل عن المفاسد، وترشده إلى طريق الفضيلة والطهارة.

كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام مصابة بأنواع الانحرافات الروحية والخلقية طيلة قرون متمادية، حيث الرذائل متأصلة في جذور ذلك المجتمع كالخيانة والسرقة، والعصبية والإفساد، والجبن والحمق، وما أشبه ذلك. ومن البديهي أن أطفالهم يتولدون مع استعدادات للسلوك غير المرضي، مضافاً إلى أن البيئة الفاسدة كانت تساعد على نمو تلك الصفات الرذيلة وظهور الاستعدادات الفاسدة إلى عالم التنفيذ.

أعظم مربي للبشر:

ومع ذلك فإن الرسول الأعظم (ص) عمل بفضل أساليبه التربوية الصالحة وتعاليمه الدينية العظيمة على قمع الصفات الرذيلة في نفوس أولئك الذين خضعوا لتربية، وزرع مكانها الصفات الحميدة والملكات الفاضلة.

يروي لنا التاريخ قصة الجيش البسيط الذي قدم به أبرهة من الحبشة إلى مكة لهدم بيت الله الحرام. ورأينا كيف أن أهالي مكة الجبناء خرجوا منها من فرط خوفهم ووحشتهم ولجأوا إلى سفوح الجبال، ولم يجرأوا على المقاومة يوماً واحداً. ولكن الأساليب التربوية الدقيقة للنبي (ص) غيرت أسلوب حياتهم تماماً... فنفس أولئك الناس الذين كانوا ضعفاء قبل مجيء الإسلام، أظهروا من الشجاعة والإقدام والشهامة في ظل إرشادات النبي، وفي كنف مدرسته التربوية العظيمة، حيث صمدوا لأقوى دول العالم آنذاك، واستطاعوا من أن يخوضوا أعظم الحروب ويفتحوا البلدان العظيمة ويرجعوا إلى أوطانهم فاتحين غانمين.

وهكذا شأن جميع الصفات الرذيلة، فقد اختفت من نفوسهم بفضل تعاليم الإسلام، وحلت محلها الصفات الحميدة والسجايا الخلقية الفاضلة. أجل! فالمربي القدير يستطيع - بفضل الأساليب الدقيقة - من قمع الصفات الشريرة وإحلال الصفات الخيرة محلها.

١٧٢

ولا يخفى أن الطفل كالنبتة الصغيرة، حيث يمكن تصحيح سلوكه حسب البرامج الصالحة، ولكن الذين اعتادوا على السلوك الفاسد طيلة سنوات عديدة، إصلاحهم صعب جداً، ويجب أن يتحمّل المربي في سبيل ذلك أساليب متقنة وجهوداً عظيمة. يقول الإمام الحسن العسكري (ع): (رد المعتاد عن عادته كالمعجز) (١) .

فالذي اعتاد الكذب طيلة أربعين سنة مثلاً يكون إصلاحه أصعب بكثير من الطفل الذي لا يزيد عمره على ثلاث سنوات. وإذ استطاع النبي الكريم (ص) من إصلاح كبار العرب وهدايتهم إلى الطريق الصحيح، فإن مقدرته (ومقدرة تعاليمه الرصينة) على تربية الأطفال الذين يملكون عوامل مساعدة للفساد، قد ورثوها من أبويهم تكون أسهل، ونجاح تلك الأساليب أضمن.

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ١٧ ص ١٧. ط طهران.

١٧٣

١٧٤

المحاضرة السابعة

العقل والحرية - تنمية المشاعر

قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) (١) .

لقد تعرّضنا في المحاضرة السابقة إلى بيان أن جميع الموجودات الحية في العالم تسير في طريقها المرسوم لها على أكمل وجه، وذلك بفضل الهداية الفطرية الغريزية التي أودعها الله تعالى فيها، حتى أن الخلية الصغيرة قد شملها هذا الفيض الالهي العظيم. والحيوانات لا تحتاج في وصولها إلى الكمال اللائق بها إلى معلم مرب، فهي في غنى عن التعليم والتربية.

والانسان، وإن كان شطر مهم من نشاطاته المختلفة ثابتاً على أساس الهداية الفطرية ويسلك طريقة في ظلها... لكنه في شطر آخر منها محروم من هذه الهداية، بل يجب عليه اكتساب المعرفة. فلو سئلنا عما يقوم مقام الهداية الغريزية بالنسبة إلى الشطر الثاني من نشاطات الانسان وجهوده، فيجب أن نقول في الجواب: (العقل).

العقل بدل الغريزة:

فالانسان وإن كان أقل نصيباً من الحيوانات بالنسبة إلى الهداية الفطرية لكنه بدلاً عن ذلك يملك عقلاً يرشده إلى سبل السعادة ويوصله إلى الكمال اللائق به.

____________________

(١) سورة الأنفال |٢٤.

١٧٥

١ - يقول الامام علي ( ع ): (كفاك من عقلك ما أضوح لك سبل غيك من رشدك ) (١) .

أي أنه يكفي في قيمة العقل وعظمته أنه يميز للانسان طريق الضلال والشقاء عن طريق النجاة والسعادة. فبينما نجد في عالم الحيوانات أن المرشد لها إلى طريق سعادتها وكمالها هو الغريزة، يكون المرشد عند الانسان هو العقل.

٢ - قيل له ( ع ): (صف لنا العاقل )قال: (هو الذي يضع الشيء مواضعه ) (٢) . إن الحيوانات تضع كل شيء يرتبط بحياتها في موضعه دون أن تخطىء. ولكنها تقوم بذلك بدافع الهاية الفطرية، أما الانسان فيقوم بهذ العمل بهداية العقل.

٣ - عن النبي ( ص ): (لكل شيء مطية، ومطية المرء: العقل ) (٣) . والمراد من المطية هو المركب الذي يصل به الراكب إلى اهدافه. فالحيوانات تطوي طريق سعادته بمركب القدرة الغريزية وتصل إلى غايتها أي كمالها اللائق بها، أما الانسان فانه يطوي طريق سعادته بواسطة مركب العقل.

٤ - قال النبي ( ص ): (قوام المرء عقله ». إن نظام حياة الانسان قائم على العقل. بينما نجد نظام الحيوانات قائما على الغرائز.

المقارنة بين العقل والغريزة:

يختلف العقل والغريزة من جهات عديدة. ولكننا سنقارن بين هاتين القوتين العظيمتين الالهيتين من جوانب أربعة فقط: (١) المناهج العملية والاساليب الغريزية في كل من الحيوانات تكون على نمط واحد ولا يوجد بينها اختلاف في ذلك. أما الانسان فانه يملك اساليب مختلفة ومناحي متعددة في أفكاره ونشاطاته. فمثلا نجد النحلة تعيش في مناطق عديدة من الكرة

____________________

(١) نهج البلاغة ص ٦٠٦.

(٢) المصدر السابق ص ٥٦٥.

(٣) بحار الأنوار للمجلسي ج ١|٣٢.

١٧٦

الارضية، وتعتبر الخلية بمنزلة دولة مستقلة لها، فيوجد في دولة منظمة من تنظيمات وقوانين. ولكنها متشابهة من حيث أن الأساس في تلك التنظيمات قائم على الهداية الفطرية والغرائز التي أودعها الله تعالى فيها. تتعين الملكة في جميع المناطق حسب شروط معينة متساوية والواجبات المقررة لكل طائفة من النحل معينة حسب قانون الغريزة، وكذلك الغرف فانها تبنى في جميع الخلايا على شكل سداسي. أما الحكومات البشرية فانها تدار حسب أنظمة مختلفة، ولها منظمة خاصة وقد وضعت كل حكومة قانونا معينا لها، والسر في ذلك هو أن الانسان لا يستند إلى الغريزة في نشاطاته، بل يعتمد على العقل والتفكير. ومعلوم أن لكل شخص أو أمة أسلوبها الخاص في التفكير.

الغريزة وإدراكها للواقع:

لما كانت الغريزة عبارة عن الهداية الفطرية التي أودعها الله العالم الحكيم في الأحياء فانها لا تخطىء أبداً، بل تعمل بعين البصيرة النافذة. أما العقل فانه يجب أن يستعين بالمقدمات لاستخراج النتائج، فقد يخطئ في المقدمات وقد يخطئ في كيفية الاستنتاج منها. وهناك العشرات من المؤثرات التي تترك أثارها على العقل، مثل: الغضب والشهوة والعادات الاجتماعية التقاليد العائلية... وهذه تنحرف بالعقل عن طريقه المستقيم فيحرم من إدراك الواقع والحقيقة في النهاية.

فما أكثر السيئات الحقيقية التي تضر بالسعادة الانسانية ومع ذلك فهي محبذة ومحبوبة لدى بعض الأمم. وعلى العكس فما أكثر الحسنات التي تعين الانسان في وصوله إلى السعادة والكمال ومع ذلك فهي مذمومة ومهجورة عند بعض الأمم. وإذا كان العقل وحده كافياً في معرفة الحقائق واراءة طريق السعادة والشقاء لما كانت هناك حاجة لارسال الأنبياء لهداية البشر وتكليف الناس بإطاعتهم (١) .

____________________

(١) للتفصيل في هذا الموضوع يراجع فصل ( ما حاجتنا إلى الأنبياء مع وجود العقل؟! ) من كتاب ( دفاع عن العقيدة ) للمترجم.

١٧٧

يقول الامام موسى بن جعفر ( ع ) لهشام بن الحكم ضمن حديث طويل: (يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول... ) (١) .

إختلاف البشر:

إن عدم نضح العقل البشري طوال القرون المتمادية هو الذي سبب اختلاف الناس في كيفية تعيين مناهج حياتهم ومعرفة طريق سعادتهم. وقد تؤدي هذه الاختلافات إلى مطاحنات ومشاحنات عظيمة، ومفاسد لا تجبر.

والعالم المتحضر - بالرغم من النجاحات العلمية والعملية الباهرة التي أحرزها - لم يكن بعيداً عن هذا البؤس، فهو لا يزال يحترق في نار الاختلافات العقيدية وبذلك يعرض السلام العالمي والأمن العام إلى أعظم الأخطار في كل آن. ومن أبسط الأمثلة على ذلك أننا نرى اليوم أن الشيوعية قد صارت سبباً في أعظم وأخطر الانشقاقات الفكرية، فهناك الملايين من العقلاء والمثقفين والجامعيين يعتقدون بأن طريق السعادة الانسانية منحصر في تطبيق النظام الشيوعي، وأنه إذا قدر لهذا النظام أن يسود العالم يوماً وتطبقه جميع الأمم والقوميات في العالم فان البشرية ستصل إلى أوج عظمتها، وستضمن لها سعادتها وكمالها اللائق بها. وللوصول إلى هذا الهدف يجب السعي بكل جهد لازالة الموانع - الواحدة بعد الأخرى - وكذلك يجب العمل لبث الفكرة بمختلف وسائل الدعاية والاعلان، فلربما يشمل هذا الفيض العظيم العالم كله، وتكون النتيجة تطبيق السعادة على الناس كلهم في أرجاء المعمورة!!.

... وفي قبال هؤلاء يوجد ملايين العقلاء والعلماء والمثقفين والجامعيين يعتقدون بأن الشقاء والبؤس والانحطاط يتمثل في النظام الشيوعي، والنسبة طردية بين انتشار هذا النظام في العالم وفقدان الراحة والسعادة من الانسانية، فالشيوعية تعني دمار الانسانية كلها، والنظام الشيوعي معناه خنق الحرية وكبتها، والمذهب الشيوعي يعني قتل الأخلاق والفضيلة...

____________________

(١) الكافي لثقة الاسلام الكليني ج ١|١٦، ط طهران.

١٧٨

ويجب العمل بكل الجهود لاحباط مساعي الشيوعيين ولمحاربة هذا النظام الخبيث، وقلع جذوره التي تعمل على هدم الانسانية وخنق الحرية وقتل الأخلاق. ويجب استخدام جميع أجهزة الدعاية والاعلان لمحو هذا المبدأ الهدام، والداء الوبيل الذي يكمن الخطر فيه أكثر مما هو في الطاعون والهيضة، وبذلك ينجو البشر من هذه الفكرة الفاسدة القذرة... وفي ذلك اليوم فقط يمكن الاطمئنان إلى سعادة البشرية!!!.

قصور العقل:

لامجال للشك في وجود هذا الاختلاف الفكري بين عقلاء البشر كما واضح لأدنى متتبع... ومرد ذلك كله إلى قصور العقل عن إدراك الواقع. فإذا كان العقل في الانسان ينفذ إلى الحقائق ويدرك الواقعيات كما هو الحال بالنسبة إلى الغريزة في الحيوانات، كان يستحيل وقوع البشرية في أمثال هذه الاختلافات والمطاحنات... وهذا هو السر في إرسال الأنبياء من قبل الله تعالى، فإنهم جاؤوا لجبران قصور العقل، ليقولوا الكلمة الحقة في موارد الاختلاف، ويثبتوا الحقيقة الساطعة في المنازعات وبذلك ليخلصوا البشرية من ورطة الجهل وحيرة الضلال:

(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه... ) (١) .

لقد رأينا كيف أن الحيوانات تدرك الواقعيات المرتبطة بها عن طريق الغرائز التي تمثل الهداية الفطرية لله تعالى إياها، لكن الانسان لا يستطيع أن يدرك الواقعيات التي توصله إلى السعادة عن طريق العقل دائماً، بل عليه أن يعتمد على الهداية التشريعية - التي تتمثل في تعاليم الأنبياء - ليتمكن من إدراك الطريق المستقيم والمنهج الحقيقي للسعادة...

هذا هو أول أوجه الفرق بين العقل والغريزة!

____________________

(١) سورة البقرة |٢١٣.

١٧٩

حرية العقل:

٢ - أما النقطة الثانية التي يختلف فيها العقل عن الغريزة فهي أن الغريزة تعمل بصورة جبرية ولا يملك صاحب الغريزة في الأفعال الغريزية أية إرادة أو اختيار. فالنحلة مجبرة على أن تبني بيتها بشكل سداسي، مستخدمة في ذلك الشمع كمادة إنشائية. ولا يحق لها أن تحدث أي تغيير في هذا العمل كما نجد أن الانسان - بحكم غريزته - يبلغ في وقت معين وتبدو الرغبة الجنسية فيه من دون ارادته واختياره... لكن الأحكام العلية تجري بإرادة الانسان واختياره، وهو حر في تنفيذ أوامر العقل أو عصيانها. وهذه الحرية هي أعظم مائز للبشر بالنسبة إلى جميع الموجودات في عالم الأحياء.

إن القرآن الكريم يشير إلى حرية الانسان في مواضع عديدة ويعتبرها من الودائع الفطرية في بناء الانسان. وهنا لا بأس من الاستشهاد ببعض تلك الآيات في ضمن الفقرات التالية:

الحرية الفطرية:

يقول تعالى: ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ) (١) .

أي أننا خلقنا الإنسان من نطفة خليطة من الرجل والمرأة، ثم نمتحنه.

وإذا نظرنا إلى الحيوانات، وجدنا أنها هي أيضاً تتكون من خليط من نطفة الذكر والأنثى. فالخلية الأولى للخروف أو الأرنب إنما هي خليطة ( أمشاج )، وبذلك تشبه الإنسان. إلاّ أنه ألحق كلمة ( نبتليه ) بعد كلمة ( أمشاج ) بالنسبة إلى الإنسان، وهذه عبارة عن فصل مميِّز بين الإنسان وسائر الحيوانات؛ وذلك لأنّ الاختبار إنما يصح عندما يكون الشخص المختبر مالكاً للحرية والاختيار، فمثلاً لا يمكن أن يقال بالنسبة إلى الشخص المسجون في سجن لوحده والمراقبة مشدّدة عليه: أنه يُمتحن ليُرى هل يسرق أم لا!! لأنه

____________________

(١) سورة الدهر |٢.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404