• البداية
  • السابق
  • 357 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21799 / تحميل: 5453
الحجم الحجم الحجم
العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت

العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وعلى رأس هؤلاء الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبد الملك كما سبق، ومروان بن محمد بن الحكم آخر خلفاء بني مروان والملقب بالجعدي نسبة للجعد بن درهم مؤدبه.

ومن هؤلاء أيضاً - بعد هذا التأريخ - يحيى بن زياد الحارثي من بني الحارث بن كعب من مذجح ابن خال الخليفة السفّاح أول خلفاء بني العباس.

ومن هؤلاء معن بن زائدة القائد الأمير المعروف، وهو من سادات بني شيبان وخاله عبد الكريم بن أبي العوجاء الزنديق المعروف من بني سدوس من بكر بن وائل.

ومن هؤلاء روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب.

ومنهم واليه بن الحباب الأسدي ومطيع بن إياس الكناني.

ومنهم يعقوب بن الفضل الهاشمي، من أحفاد الحارث بن عبد المطلب بن هاشم وابن لداود بن علي بن عبد الله بن عباس وآدم بن عبد العزيز بن عمر بن العزيز.

ومن متأخّريهم أبو العلاء المعرّي أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي.

وما أظن بين هؤلاء وكثيرين آخرين لم أذكرهم، وكلهم عرب صرحاء ومن صفوة الأُسر العربية مَن يمكن أن يتهم بالشعوبية إلاّ في أضعف جوانبها أي جانبها الإنساني الذي يقوم على المساواة، وعدم تفضيل جنس على جنس أو أُمّة على أُمّة. وحتى هذا الجانب الضعيف ما أحسبك ستصادفه عند غير أبي العلاء، وربّما والبة ومطيع ويحيى الذين شغلهم الركض وراء اللهو واللذّة، عن العرب والفرس والمقارنة بينهم، وعن التفكير في غير هذه الحياة العابثة الماجنة لا يبغون لها بديلاً. وقد تكون هذه الحياة أو هذا الأسلوب فيها وراء غمز بعض المؤرّخين في نسب والبة العربي.

ويقابل هؤلاء بعض الذين عرفوا بالشعوبية، ولم يعرفوا بالزندقة: كآل طاهر بن الحسين، وآل سهل، وربّما أضيف إليهم البرامكة أحياناً.

١٠١

وكيحيى بن علي المنجم المسلم المعتزلي الشعوبي، وسهل بن هارون، وأبي عبيدة، وعلان الشعوبي، وسعيد بن حميد بن البختكان، والخريمي الشاعر: اسحاق بن حسان، الذين أبغضوا العرب وتعصّبوا ضدّهم، وحاولوا تجريدهم من كل مفاخرهم وتفضيل الفرس عليهم (1) .

وبغض العرب والمغالاة فيه قد يسوق أحياناً إلى ما هو أبعد من مجرّد بغض للعرب، الذي هو في ذاته مرفوض، ليتناول الإسلام نفسه باعتباره إرثاً عربياً نبت وأزهر في صحراء العرب. وربّما كان هذا من بين الأسباب التي أدّت إلى الخلط بين الزندقة والشعوبية.

ولا أريد أن أسير أكثر في هذا الحديث، وليس معي من الوقائع والأسماء والأدلة غير الظن، الذي لا يغني في حديث أردناه خالصاً للعلم، مجرّداً عن الهوى، بعيداً عن التعّصب.

وفي الطرف الأقصى من هؤلاء الشعوبيين، تجد من ضمّ الزندقة إلى شعوبيته: كيونس ابن أبي فروة، وحماد الراوية، الذي لي فيه وفيما نحله وأضافته إلى شعراء الجاهلية، رأي يختلف عمّا يذهب إليه الآخرون، فأنا لا أرى فيه شعوبية وما أحسبه كان يقصد إفساد الشعر الجاهلي كوجه من وجوه الشعوبية، بقدر ما أرى فيه ممارسة لتجربة شخصية، وإظهاراً لبراعة ومقدرة على فهم الشعر والإحاطة بظروف الشعراء ومعرفة البيئة العربية؛ فهو لم يخرج على قواعد الشعر العربي ولا على أغراضه التي نظم فيها الجاهليون، وليس في عدد من الأبيات التي قالها محتذياً حذو الشعراء العرب، وسالكاً طريقهم عن معرفة وعلم، ما يفسد الشعر العربي ويعيبه بالكذب والتزوير، خصوصاً مع اتفاق النقّاد العرب السابقين في أنّه كان يعرف مذاهب الشعراء فيضع البيت أو الأبيات ولا يستطيع إلاّ الناقد البصير أن يميّزها.

فأيّة شعوبية في عدد من الأبيات يسير فيها على طريقة الجاهليين لا يتخطّاهم، يصف ما يصفون ويمدح ما يمدحون ويذم ما يذمّون. ولو تخطّاهم أو خرج على مناهجهم لسهل تمييز شعره وفرزه عمّا أضيف إليه، ولفضح نفسه قبل أن يفضحه النقّاد.

____________________

(1) وألاحظ أنّ ابن الرومي قد أفلت من الاتهام بالشعوبية، مع أنّه لم يكن أقل وضوحاً من غيره في الفخر بآبائه الروم والغمز من العرب، استمع إليه وهو يقول:

آبائِيَ الرومُ توفيلٌ وتُوفَلِسٌ

ولم يلدنيَ رِبعيٌّ ولا شَبَثُ

إنّ حماداً لم يكذب ولم يزوّر فيما تناول من نواحي الحياة الجاهلية، ولكنّه كذب فيمن أضاف إليهم ذلك عندما كان يضيف. ثم إنّه حتى في هذا الذي أضافه، لم يطعن في العرب ولم يسلبهم مزاياهم، ولم يعبهم أو يذمّهم أو ينسب إليهم ما يمكن اعتباره كذلك، ليقال إنّه استخدم قدرته وحذقه في معرفة الشعر العربي لخدمة أغراض شعوبية.

١٠٢

وما أظن ما أضاف، مهما بلغ أو بولغ فيه، يمكن أن يؤثر على صورة الشعر الجاهلي أو يغير في الحكم عليه أو في صدقه. وكل الصعوبة في تمييز شعر حماد متأتية من شدة مشابهته للشعر العربي الجاهلي شكلاً ومضمون.

ثم كم من الأبيات يستطيع هذا الـ (حماد) أن ينظم وينحل ويضيف، حتى لو تجرد لذلك وحده. والشعر الجاهلي شعر أمة كاملة تمتد من اليمن إلى العراق وخلال فترة تبلغ المئات من السنين.

قد يكون حماد شعوبياً يكره العرب ويطعن فيهم ويغض منهم، شأن الشعوبيين الآخرين، ولكن في غير هذا فأنا لا أرى شعوبية فيما ينسب إليه من إضافة شعر إلى بعض شعراء الجاهلية ولم يكن هو الوحيد فيه. فهذا يزيد ابن ضبة. يقول أبو الفرج نقلاً عن جماعة من مشايخ الطائفيين وعلمائهم أنه قال ألف قصيدة فاقتسمتها شعراء العرب وانتحلتها فدخلت في أشعاره (1) .

وهذا خلف الأحمر يقول عنه ابن النديم (وكان - يعني خلفاً - من أمرس الناس لبيت شعر وكان شاعراً بعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم) فلم يتهمه أحد (2) .

وأبو عمرو بن العلاء. ينقل عنه النقاد شيئاً مما يأخذونه على حماد وإن لم يكن بنفس الكثرة، ولم يتهم بشيء مما اتهم به حماد ولا ببعضه. وابن داود بن متمم بن نويرة كان ينظم الشعر وينحله جده متمماً لينفق بعد ما استنفد ما قاله جده (3) .

ومن هذه الملاحظات أيضاً - وأظنني بعدت كثيراً عما بدأت - أن عدداً من الشعراء عرباً وغير عرب قد فتنتهم الحياة الجديدة بما تزخر به من فنون اللهو وضروب اللذة وسهولة الاستمتاع بهما وبما تفيض من سحر وجمال وهم المولعون بالسحر والجمال يتصيدونهما ويلهثون وراءهما وقد أتاحتهما هذه الحياة ويسرتها لهم.

____________________

(1) الأغاني ج7 ترجمة يزيد بن ضبة ص103.

(2) الفهرست لابن النديم - الفن الأوّل من المقالة الثانية.

(3) بل إنّ أبا الطيب اللغوي ي ذ كر أنّ أكثر ما يرويه أهل الكوفة من الشعر (مصنوع ومنسوب إلى مَن لم يقله).

١٠٣

فهل سنتهم أهل الكوفة بالشعوبية لنفس السبب الذي اتهمنا من أجله حماداً بها؟!

وقد يكون أبلغ في الدلالة من هذا، ما يرويه ابن سلام في طبقاته قائلاً: (فلمّا راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم. وكان قوم قلّت وقائعهم وأشعارهم فأرادوا أن يلحقوا بمَن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسنة شعرائهم...) طبقات ابن سلام ج1 ص46.

وكانت الحياة الجديدة بكل فنون لهوها ولذّتها وسحرها وجمالها بعيدة عن حياة العرب قريبة من حياة الفرس، أو هي حياة الفرس قد انتقلت إليهم أو انتقلوا إليها. لم يكن الحاضرون في مجالس اللهو عتبة بن الحارث ولا بسطام بن قيس. ولم يكن الحديث عن داحس والغبراء وشعب جبلة.

ولم يكن المكان حمى ضرية ولازرود. ولم يكن الورد شيحاً ولا قيصوماً. ولم تكن الجارية ابنة لربيعة بن مكدم ولا عقيل بن علفة. فماذا تريد أن يقول هؤلاء الشعراء عرباً وغير عرب، وما ذا يصفون وهم يجتمعون على شرب وجَوارٍ ورقص وغناء وورد وريحان.

هل يسوؤك أن يكونوا صادقين مع أنفسهم يصفون ما يجدون، ويحسون دون كذب ولا تزوير، ودون رحلة كاذبة مزوّرة عبر الزمان والمكان إلى برقة تهمه والدخول وحوقل، وهم لم يروها ولم يعرفوها، ولا تثير لديهم ما كانت تثيره لدى الجاهليين حين يقفون مطيّهم عندها، ويستنطقونها ويذرفون الدمع على مَن فارقوا فيها، وهم في ذلك صادقون يصفون أيضاً ما يجدون ويحسّون دون كذب أو تزوير. إنّهم لو فعلوا ذلك لسخروا من أنفسهم ولسخر الناس منهم، ولما كان لشعرهم هذا الخلود الذي يحظى به حتى اليوم ولما زاد على شعر بعض هؤلاء المعاصرين من المدرسة القديمة، وهم يتغزّلون بسعدى ودعد في شعرٍ غث ميت لا يثير عاطفة عند السامع؛ لأنّه لم يصدر عن عاطفة عند القائل.

قد يكون بين هؤلاء شعوبيون وقد يكون بينهم زنادقة، لكنّ الذي جمع بينهم ليس الشعوبية ولا الزندقة، فلم يكونوا يجتمعون ليسبّوا العرب ويصرفوا شعرهم إلى الطعن عليهم وإظهار معايبهم، ولم يكونوا يجتمعون لتأليف الكتب في إنكار وجود الله أو قول الشعر في التشكيك بنبوّة محمد.

ما جمعهم ليس هذا ولا ذاك بل المجون واللهو وطلب اللذّة بكل أشكالها، وهو مذهب في الحياة سبقوا إليه حتى من بعض عرب الجاهلية. ماذا كان يفعل امرؤ القيس والأعشى وطرفة، مع اختلاف الزمن والبيئة، غير ما كان يفعله والبة وأبو نواس ومطيع مع اختلاف الزمن والبيئة أيضاً؟

وما عليك إلاّ أن تبدل الأسماء هنا وهناك، والأماكن هنا وهناك، والملابس والمطاعم هنا وهناك؛ لتعرف إن كان سيبقى من فرق بين الاثنين.

١٠٤

ثم لماذا هؤلاء الشعراء والأمراء وحدهم. لقد كانت مجالس اللهو والخمر والجواري والغلمان منتشرة في كل مكان في ذلك العهد، يشارك فيها مَن نعرف ومَن لا نعرف، وليست حكراً على عصبة المجّان، وكان الأسبق إليها والأقدر عليها هم الخلفاء أُمراء المؤمنين، فهم الذين بدؤوا هذا اللون من الحياة، وهم الذين شجّعوا عليه وأشركوا الشعراء فيه وأغروا به مَن لم يكن يعرفه، وكان أفضل الخمر وأجمل الجواري وأبرع المغنّين من نصيبهم فخزائنهم - بيوت أموال المسلمين - لا تنضب إن كانت خزائن غيرهم معرّضة للنضوب.

لماذا لا نجد بين زنادقة اللهو والمجون اسماً لواحد من هؤلاء الخلفاء، وهم أولى بالزندقة من كل الذين ذكرت أسماؤهم فيها؟ إلاّ إذا كانوا محصنين لا يجري عليهم ما يجري على مَن دونهم ممّن ليسوا خلفاء ولا أمراء للمؤمنين.

لقد ظلموا كثيراً؛ ظلمهم معاصروهم باتهامهم بالزندقة مرةً، وبالشعوبية مرةً، وبالاثنتين مرّات.

وظلمهم الذين كتبوا عنهم بعد قرون، وكانوا أحرى أن ينصفوهم فلم يفعلوا وربّما زاد بعضهم على معاصريهم.

ظلموهم حين جعلوا منهم زنادقة وهو وصف إن صدق على واحد أو اثنين منهم فإنّه لا يصدق عليهم كلهم.

أين هي كتب الزندقة التي ألّفوهّ.

لقد ذكر المؤرّخون ما وضعه الشعوبيون من كتب في مثالب العرب والطعن فيهم وفي مناقب الفرس وتفضيلهم.

فأين هي كتب الزندقة التي ألّفها: والبة، أو مطيع، أو يحيى، أو حماد، أو عمارة بن حمزة، أو حتى زعيم هذه العصبة وأشهر أفرادها أبو نواس؟ ولو ألّفوا، فما أظنهم كانوا سيؤلّفون في المانوية المحرّمة للذات التي أولعوا بها وعاشوا لها، والتي كانت تمثّل أحد أبرز وجوه الزندقة آنذاك.

أهناك أكثر من أبيات هجاء قالها بعضهم في بعض، أو اتهم بها بعضهم بعضاً بالزندقة والمانوية هزلاً وعبثاً يعكسان حياتهم ويمثّلانها خير تمثيل. ولو صدقناهم لصدقنا ما قاله الشعراء العرب في هجاء بعضهم، ولأعطينا الشعوبية الحق في بعض ما يتهمون به العرب.

والآن لا أدري إن كنت قد استطعت ولو إلى حد ما بيان بعض أسباب الخلط في تأريخنا بين الزندقة أو بشكل أدق صورة من صورها وبين الشعوبية.

لعلّي قد فعلت وإلاّ فلن يضير أولئك (الزنادقة) زيادة واحد من الذين لم يحسنوا النظر إليهم ولا الدفاع عن قضيتهم.

١٠٥

تقييم لحركَتَي: الـزندقة والشعوبية

وأخيراً فقد آن لنا أن نضع الزندقة والشعوبية كمصطلحين كان لهما شأن، في إطارهما الصحيح بين الحركات الفكرية والسياسية في تأريخنا دون تعصّب لهما أو عليهما بعد أكثر من ألف عام على اختفائهم.

ولقد رأيت الذين كتبوا عنهما قلّما كتبوا بعمق وحياد. وإذا استثنيت بعضاً منهم: المرحوم أحمد أمين، فأنا لم أجد بين الذين كتبوا من يملك عمق المؤرّخ ولا فهم الأديب ولا حياد العالم وإنّما وضعوا أمامهم الطبري والأغاني، ولا بأس بالنقل عن الجاحظ وابن عبد ربّه، ثم ضمّوا إليهم فان فلوتن فهو اسم غريب قد يوحي للسامع ما لا توحي به أسماء قرأها وسمع عنها.

ومضوا يكتبون، وكان خيراً لهم ألاّ يكتبوا فقد شوهوا تأريخنا - على كثرة ما شوه - وكانوا - لو عرفوا - شعوبيين أكثر من الشعوبيين الذين يهاجمونهم، حين جعلوا من العرب مجموعة من عديمي الإدراك والتمييز، يساقون إلى حيث يراد بهم ويفعلون ما يُخطّط لهم، دون أن يكون لهم من فكرهم ووعيهم ما يمنعهم من إلحاق الأذى بأنفسهم ويحصنهم ضد أعدائهم الذين يتربّصون بهم.

وهم في كل ذلك يكثرون الحديث عن خبث عدوّهم وشدّة كيده، وكأنّهم يحاولون الاعتذار عن العرب.

لقد أرادوا أن تكون لهم كتب في المكتبات يقرؤها القرّاء فكان لهم غباء في المكتبات يواجه القراء، ولو أنصفوا أنفسهم وأنصفونا لاكتفوا بإحالتنا على مَن نقلوا عنهم، فلم يضيفوا إلى أخطاء وقع فيها المؤلّفون قبل ألف عام، أخطاء جديدة بعد ألف عام.

ولقد تحدثت بالتفصيل عن الظروف التي نشأت فيها الزندقة والشعوبية وعن العلاقة بينهما فلا حاجة للعودة إليها.

ولكن أريد أن أقرّر هنا: أنّ الشعوبية كانت ستظهر يوماً ما ولم يكن ممكناً منعها، وهي قانون من قوانين التأريخ وسنّة الأمم قبل وبعد.

لقد كانت هناك أُمّة غالبة معها الإسلام وأمم مغلوبة دخلت فيه كرهاً أو طوعاً، حرباً أو اقتناعاً ورغبة، وكان الفرس أكثر هذه الأمم وأعلاها شأناً في الجاهلية، وهم إحدى إمبراطوريتين كانت لهما السيادة قبل ظهور الإسلام.

١٠٦

ولم يكن الإسلام يفرض على الداخلين فيه أن ينسلخوا عن أجناسهم ويصبحوا أُمّة واحدة بالمفهوم القومي للأُمة كشرط لقبول الإسلام منهم، والقرآن يقول ( وجعلناكم شعوباً وقبائل... ) ويقول: ( ولو شاء الله لجعلكم أُمّة واحدة ) ( ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمّة واحدة ) .

وكان التعامل مع هؤلاء المسلمين الجدد يجري في كثير من الرفق خلال عهد الراشدين، ووجود الكثير من ذوي الدين والفضل والسابقة من الصحابة الذين رافقوا النبي وعاشوا معه وتعلّموا منه.

وكان هذا التعامل الرفيق الذي لقيه هؤلاء المسلمون، قد ساعدهم على الاندماج في البيئة الإسلامية العربية والابتعاد عن ماضيهم، إذ لم يكن هناك ما يثيرهم ويدفعهم إلى العودة إليه والتفكير فيه.

شاركوا في فتوح المسلمين وكان لبعضهم دور مذكور فيه، ونافسوا العرب المسلمين في الدين حتى كان بينهم مَن يرجع إليه في أُموره.

وانتهى عهد الراشدين باغتيال الإمام علي عام 40 للهجرة.

وقام حكم جديد انحسر فيه الإسلام وقويت العصبية، وقد ساهمت السياسة الأموية في إذكاء العصبية القبلية بين قبائل العرب، والعصبية القومية بين العرب وبين الأُمم الأخرى. والعرب فخورون بطبعهم يتباهون بأنسابهم وقبائلهم وأسرهم حتى على بعضهم. أي عربي يقبل أن يساوي بين تميم وبكر ومذحج وبين باهلة وغني وسلول.

ولأترك الحديث عن العصبية بين القبائل العربية، على خطورة هذا الموضوع، وأحصره بالعصبية القومية بين العرب وبين الموالي، السبب المباشر لظهور الشعوبية.

كان جيل جديد قد نشأ بين العرب، وجيل آخر جديد قد نشأ من الموالي، وكان الإسلام - الدين والسلوك والجامع للعرب والموالي - قد ضعف لدى أولئك وهؤلاء.

وبدأ المتعصّبون من العرب في تحقير الموالي الذين ازداد عددهم، خصوصاً في العراق، وإشعارهم بالاستعلاء عليهم والاستهانة بهم كما سبق أن ذكرنا.

وسكت الموالي الفرس وتجرّعوا الإهانة ولم يستطيعوا الرد؛ إذ كان الحكم عربياً مستبدّاً طاغياً لا يرحم العرب إذ أحس منهم ما يخشى فكيف بالموالي.

لكن سكوتهم كان سكوت الخوف لا سكوت الرضا، فعادوا إلى ماضيهم وهو غير بعيد يتسلّحون به في رد الهجوم عندما يستطيعون، وإلى ماضي العرب يتسلّحون به في الهجوم عندما يستطيعون، وليس هناك ماض أو تأريخ يخلو من مطاعن لمَن يبحث عنها ويتطلّبها.

وكان هجاء العرب لبعضهم أوّل أسلحتهم، ثم جاءت كتب المثالب التي ألّفها العرب ضد العرب وبدأها زياد بن أبيه سلاحاً ماضياً آخر.

١٠٧

وهكذا وجد الفرس بأيديهم سلاحاً عربياً جاهزاً لمهاجمة العرب والنيل منهم، وطعنهم في أكثر ما يعتزّون به من مناقب، وكان العرب كما ترى هم الشعوبيون الأول عن عمد أو غير عمد.

وضعف سلطان الدولة الأموية في بداية القرن الثاني، ثم سقطت في الثلث الأوّل منه لتقوم الدولة العباسية بمساعدة الفرس ودعمهم وتأييدهم.

وزال الخوف الذي كان يمنع الفرس من الرد أو إعلانه، فبدأ شعراؤهم وكتّابهم في نظم مفاخرهم والكتابة عنها وكانوا قبلاً لا يتناولونها إلاّ نادراً، ولم أجد المؤلّفين يذكرون غير إسماعيل بن يسار مثلاً للشعوبي المجاهر بشعوبيته، الفخور بها في العصر الأموي، وقد دفع ثمنها غالياً فكان ما يزال محروماً مطروداً كما يصفه أبو الفرج.

وكان الصدر الأول من الحكم العباسي ساحة صراع لا سياسي فقط بين العرب والفرس، وإنّما كانت الثقافة والأدب شعراً ونثراً ساحة أخرى للصراع بينهم.

لكن الصراع كان مكشوفاً هذه المرّة لا يستره خوف كما هي الحال في العصر الأموي.

وبدأ الشعراء وبدأ الكتّاب الفرس ينظمون ويؤلّفون، ولو وقفوا عند ذكر مآثر الفرس وماضيهم وما كان لهم من سلطان وفكر وفن لما أنكر عليهم أحد. ولقيل قوم ظلموا فثأروا لأنفسهم ودفعوا الظلم وردوا الاتهام، ولكنّهم أفادوا من تلك الفترة التي كانت فيها السلطة الجديدة تراعي الفرس وتترضّاهم وتتجنب سخطهم، فجاوزوا الدفاع إلى الهجوم. ونظم بشّار وكتب أبو عبيدة وكتب علان وكتب غيرهم، لا في مآثر الفرس ولكن في مثالب العرب. حاولوا أن يجرّدوهم من كل فضائلهم بل أن يقلبوا فضائلهم عيوباً. وكان من هؤلاء مَن يجد الدعم والحماية في أسر فارسية ذات سلطة ونفوذ آنذاك كآل طاهر وغيرهم.

وألاحظ أنّ هذه الزندقة والشعوبية الأدبية القائمة على الشعراء والكتّاب والمفاخر والمثالب لم تتجاوز كثيراً حدود العراق، حيث الاحتكاك في ذلك الوقت بين العرب وبين الفرس، وحيث تواجهت لأوّل مرة حضارتان بكل ما تحملان من قيم وعادات وأسلوب في الحياة جديد.

على أنّ من الأمانة أن أضيف: أنّ هاتين الظاهرتين قد ضعفتا كثيراً مع منتصف القرن الثالث الهجري، بعد أن هدأت النفوس وتراجعت حدة العواطف، وأصبح هذا الأسلوب الجديد في الحياة أسلوباً عراقياً قبله العرب وقبله الفرس، ولم يعد سبباً للنزاع بينهما ولم تعد تسمع للزندقة الأدبية ولا للشعوبية الأدبية صوت.

ثم حصل تطوّر خطير آخر غيّر من اتجاه الصراع وشغل العرب عن الفرس، وشغل الفرس عن العرب. فقد دخلت الساحة أمم وأقوام أخرى كالترك والديلم والمغاربة، وتحوّل الصراع إلى صراع بين هذه الأمم والأقوام نفسها ومن بينها الفرس. والى صراع بين زعمائها والبارزين فيها، لكنّه صراع على السلطة والنفوذ في ظل حكم ضعيف.

وتخلّت الشعوبية الأدبية عن مكانها إلى شعوبية سياسية لم يعد العرب والفرس طرفيها، ولا أبو معاذ وأبو عبيدة من قادتها بل شارك فيه، وكان من أطرافها الأمم والأقوام الأخرى، واستبدل فيها ببشّار ومعمر أوزون ونازوك ومؤنس.

وخلال ذلك شهد العراق، وفي القسم الأوسط والجنوبي منه، حركات قوية لها طبيعة اجتماعية واقتصادية بعيدة عن الشعر والأدب والمفاخر والمثالب: كثورة الزنج، وحركات القرامطة.

١٠٨

هذا في العراق الذي حاولت أن أحصر حديثي عن الزندقة والشعوبية فيه، كما هي في جانبهما الأدبي الذي عرفتا به.

أمّا في أطراف الدولة العربية الإسلامية فقد قامت في الجانب الشرقي منها دويلات غير عربية: فارسية أو تركية. احتفظت مع فارسيتها أو تركيتها بدينها الإسلامي، فهي فارسية مسلمة أو تركية مسلمة لم تعرف حركة اسمها الشعوبية، كما عرفها العراق في العصر الذي تحدثت عنه؛ لأسباب منها: أنّ تلك الدويلات قامت على أراضيها بعيداً عن مركز الدولة العربية الإسلامية في العراق، وكان بعدها هذا مانعاً للاحتكاك الذي رأيناه بين العرب والفرس في العراق وما ولّده من كره وكره مقابل. ومنها: أنّ تلك الدويلات لم يكن لها ماض يوازي، أو يقارب ما كان للفرس من ماض، عندما كانت الإمبراطورية الفارسية إحدى أقوى إمبراطوريتين في العالم، فهي لا تستطيع أن تقابل العرب بما يستطيع الفرس أن يقابلوا به العرب. ومنها أنّ الدولة العربية الإسلامية كانت قد بلغت درجة من الضعف لا تسمح لها بمواجهة ما يجري في العراق نفسه إلاّ بجهد وصعوبة، ناهيك عن مواجهة دويلات منظمة لها جيوش تستطيع القتال وهي في أراضيها على ألوف الكيلو مترات من بغداد. وإذا كانت ثورتا المقنع وبابك الشعوبيتان قد فشلتا؛ فذلك لأنّهما قامتا والدولة المركزية ما تزال قوية بعد، تملك أن تواجه وأن تنتصر؛ ولأنّ الثورتين قد أسقطتا الإسلام وقامتا على أساس قومي فارسي بعيد عن الإسلام، فحاربهما العرب لفارسيتهم، وحاربهما المسلمون غير العرب لابتعادهما عن الإسلام. بقي أن نلاحظ أنّه حتى في العصر العباسي الذي كان نفوذ الفرس هو المسيطر والطاغي، كان النسب العربي ساحراً جذّاباً يتعلّق به من لا يمنعه وضوح نسبه غير العربي من التعلّق به والانتماء إليه. وهذا ما نراه واضحاً في هجاء بعض الموالي الذين تركوا نسبهم الأصلي واستبدلوا به نسباً عربياً. بل هذا ما نجده في هجاء بعض العرب من المغموزين في نسبهم فأشجع السلمي، يريد شاعر أن يهجوه فلا يجد لذلك منفذاً إلاّ عن طريق نسبه فيقول:

إنّما أنت من سليم كواو

ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو

والهيثم بن عدي الطائي يهجوه أبو نواس، وهو الذي يسخر من تميم وقيس والعرب كلهم فيقول فيه:

إذا نسبت عدياً في بني ثعل

فقدّم الدال قبل العين في النسبِ

وحتى أبو عمرو بن العلاء يغضب بشّار على ابنه خلف فيقول:

أرفق بعمرو إذا حرّكت نسبته

فإنّه عربي من قوارير

والأمثلة على ذلك كثيرة.

١٠٩

وما أظن النسب العربي كان يحظى بكل هذا الاهتمام من جانب المنتسب أو من جانب النافي له، لو لم يكن له شأن وحساب ولو لم يكن موضع اعتزاز وفخر في ذلك الوقت.

والآن أعود بعد هذه الرحلة الطويلة لأؤكّد ما سبق أن قلته عن الشعوبية في بداية الحديث: من أنّها كانت ستظهر يوماً ما دامت هناك أُمّة غالبة حاكمة وأُمّة وأمم مغلوبة محكومة. فهذا أول أسباب الصراع حتى لو تخلّفت الأسباب الأخرى، ولا بد لهذا الصراع أن ينفجر ثورة عندما تتوفّر ظروف نجاحها، وأحياناً حتى لو لم تتوفّر ظروف نجاحها.

لقد بقي العرب زهاء سبعة قرون تحت الحكم العثماني المسلم، لكن لا طول المدة ولا إسلام العثمانيين أنسيا العرب عروبتهم ومنعهم من المطالبة الدائمة باستقلالهم الذي حصلوا عليه عبر ثورات ودماء وشهداء.

وهذا الاتحاد السوفيتي، ما أسرع ما رجعت كل قومية من قومياتها إلى ذاتها تبني دولتها الخاصة بها، بالرغم ممّا كان يربطها خلال سبعين عاماً من نظام اقتصادي وسياسي واحد.

وحتى يوغوسلافيا، هذا البلد الصغير، لم يسلم من التمزّق وانقسامه إلى دول بعدد القوميات التي كان يتألّف منها.

وأظنني بعد هذا استغرب ممّن يستغرب حركة الشعوبية وكأنّها حركة خارج التأريخ.

١١٠

الفهرس

المقدّمة: 2

الإهداء: 3

القسم الأوّل: فـي الزندقة 4

الفصـل الأوّل: مفهوم الزندقة عند المسلمين .5

الفصـل ا لثاني: الزندقـة في الجاهليـة 10

1 - الزندقة وقريش: 10

2 - المجوسيّة في تميم: 16

الفصل الثا لث: الزندقـة فـي الإسلام 20

الفصـل ال رابع: المجوسيّة 25

الفصل ال خامس: المانويّـة 26

الفصـل ا لسـاد س: المزدكيّـة 27

الفصـل السـا بع: البـرامكـة 32

الفصل ال ث ا من: آل سهل .43

الفصل ال ت ا س ـ ع: عبد الله بن أبي عبيد الله .46

الفصل ال ع ا ش ـ ر: عبد الله بن المقفّع .49

الفصـل ال ح ا دي عشـر: صالح بن عبد القدوس .56

الفصـل ال ث ا ن ي عشـر: عبد الكريم بن أبي العوجاء 59

الفصـل الثا لث عشـر: بشّار بن بُـرْد 63

القسـم الثانـي: الشعوبيّة 75

القسم الثالـث: العـلاقـة بين الزندقة وبين الشعـوبية 98

تقييم لحركَتَي: الـزندقة والشعوبية 106

١١١

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

كليات في العقيدة

٥

الفصل السادس

النُبوّةُ الخاصَّة

١٤١

١٤٢

الاَصلُ السبعون: طرق إثبات النبوّة الخاصّة

تحدَّثْنا في الفصل السابق حول النبوّة بصورةٍ عامةٍ، وفي هذا الفصل نتحدَّث حول نبوّةِ رسولِ الاِسلام «محمد بن عبد الله» (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّة، وقبل ذلك نُذكّرُ بأنَّ النبوّة يمكن أنّ تثبت لشخصٍ بثلاثة طرق:

ألف: الاِتيان بالمعجزة مقروناً بادّعاء النبوّة.

ب: جمع القرائن والشواهد التي تشهد بصدق دعواه.

ج: تصديق النبي السابق.

إنّ نبوّة رسولِ الاِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) يمكن أن تثبت بجميع الطُرُق الثلاثة المذكورة، وها نحن نذكرها بصورة مختصرة:

١٤٣

القرآنُ أو المعجزةُ الخالدةُ

إنّ التاريخَ القاطعَ الثابتَ يشهد بأنّ رسول الاِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قَرَنَ دعوَته بالاِتيان بمعاجز عديدة مختلفة، إلاّ أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يؤكّد - من بين هذه المعاجز - على واحدة منها، وهي في الحقيقة معجزته الخالدة، ألا وهي «القرآن الكريم».

القرآنُ أو المعجزةُ الخالدةُ …

فإنّ نبيّ الاِسلام أعلن عن نبوّته ورسالته بالاِتيان بهذا الكتاب السَّماويّ، وتحدّى الناسَ به، ودعاهم إلى الاِتيان بمثله إن استطاعوا، ولكن لم يستطع أحدٌ - رغم هذا التحدِّي القرآنيّ القاطع - أنْ يأتي بمثله في عَصر النبوّة.

واليوم وبعد مرور القرون العديدة لا يزال القرآنُ يتحدّى الجميع ويقول: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الاِنسُ والجِنُّ على أنْ يَأْتوا بِمثْلِ هذَا القرآنِ لا يَأتونَ بَمثلهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لبعضٍ ظهيراً)(١)

وفي موضع آخر يقول - وهو يقنع بأقلّ من ذلك -: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر سُوَرٍ مِثلِهِ مُفْتَرَياتٍ)(٢) (فَأْتُوا بِسُورةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٣)

إنّنا نعلمُ أنّ أعداء الاِسلام لم يألوا جُهداً طيلة (١٥) قرناً من بدء ظهور الاِسلام من توجيه الضربات إليه، ولم يفتروا عن محاولة إلحاق

____________________

١. الاِسراء | ٨٨.

٢. هود | ١٣.

٣. البقرة | ٢٣.

١٤٤

الضرر بهذا الدين، والكيد له بمختلف ألوانِ الكيد، وحتى أنّهم استخدموا سلاح اتّهام رسولِ الاِسلام بالسّحرِ، والجنون، وما شابه ذلك، ولكنّهم لم يَستطيعوا قطّ مقابلةَ القرآن الكريم، ومعارضته فقد عجزوا عن الاِتيانِ حتى بآية قصيرة مثل آياته.

والعالمُ اليوم مجهَّزٌ كذلك بكل أنواع الاَفكار والآلات، ولكنّه عاجز عن مجابهة هذا التحدّي القرآنيّ القاطع، وهذا هو دليلٌ على أنّ القرآنَ الكريمَ فوق كلامِ البشر.

الاَصلُ الواحدُ والسبعون: الاِعجاز الاَدبي للقرآن

كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معاجزُ مختلفة ومتعدّدة دُوّنَتْ في كُتُب التاريخ والحديث، ولكنّ المعجزة الخالدة التي تَتَلاَلأُ من بين تلك المعاجز في جميع العُصُور والدهور هو القرآن الكريم، والسرُّ في اختصاص رسول الاِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، بمثل هذه المعجزة من بين جميع الاَنبياء، هو أنَّ دينه دينٌ خاتِمٌ، وشريعَتهُ شريعةٌ خاتمةٌ وخالدةٌ، والدينُ الخالدُ والشريعة الخاتمة بحاجة إلى معجزةٍ خالدةٍ لتكون برهانَ الرسالة القاطع لكلِ عصرٍ وجيلٍ، ولتستطيع البشرية في جميع القرون والدُّهور أنْ ترجع إليه مباشرةً من دون حاجةٍ إلى شهاداتِ الآخرين وأقوالهم.

إنّ القرآنَ الكريم يتّسمُ بصفة الاِعجاز مِن عدة جهات، يحتاج البحث فيها بتفصيلٍ، إلى مجالٍ واسعٍ لا يناسب نطاق هذه الرسالة، ولكنّنا نشير إليها على نحو الاِيجاز:

١٤٥

في عصر نزول القرآن الكريم كان أوّلُ ما سَحَر عيونَ العرب، وحيّر أرباب البلاغة والفصاحة منهم جمالُ كلمات القرآن، وعجيبُ تركيبه، وتفوّقُ بيانه، الذي يُعبَّر عن ذلك كله بالفصاحةِ والبلاغة.

إنّ هذه الخصُوصية كانت بارزةً ومشهودةً للعرب يومذاك بصورةٍ كاملةٍ، ومن هنا كان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - بتلاوة آيات الكتاب، مرةً بعد أُخرى، وبدعوته المكرّرة إلى مقابلته والاِتيان بمثله إن استطاعوا - يدفع عمالقة اللغة والاَدب، وأبطال الشعر وروّاده، إلى الخضوع أمام القرآن، والرضوخ لعظمة الاِسلام، والاعتراف بكون الكلام القرآنيّ فوق كلامِ البشر.

فها هو «الوليد بن المغيرة» أحد كبار الشعراء والبلغاء في قريش يقول - بعد انْ سمع آياتٍ من القرآنِ الكريمِ تلاها عليه رسولُ الاِسلام، وطُلب منه أنْ يبدي رأيه فيها-: «وَوالله إنّ لِقَوله الّذي يقولُ لَحلاوةً، وإنّ عليه لطَلاوةً، وإنّه لَمُثْمرٌ أَعلاهُ، مُغدِقٌ أَسْفَلُهُ، وإنّه لَيَعْلُو وما يُعلى»(١)

وليس «الوليدُ بن المغيرة» هو الشخص الوحيدُ الذي يحني رأسه إجلالاً لجمال القرآن الظاهري، ولجلاله المعنوي، بل ثمة بلغاء غيره من العرب مثل: «عتبة بنِ ربيعة» و «الطفيلِ بن عمرو» أَبدَوا كذلك عجزَهم تجاه القرآن، واعترَفُوا بإعجاز القرآن الاَدَبي.

على أنّ العَرَب الجاهليين نَظَراً لِتَدَنّي مستوى ثقافتهم لم يُدرِكوا من القرآن الكريم إلاّ هذا الجانبَ، ولكن عندما أشرقت شمسُ الاِسلام على

____________________

١. مستدرك الحاكم ٢ | ٥٠.

١٤٦

رُبع الكرة الاَرضية، وعَرَفَتْ به جماعاتٌ بشريةٌ أُخرى اندفعَ المفكّرون إلى التدبّر في آيات هذا الكتاب العظيم، ووقفوا مضافاً إلى فصاحَته وبلاغته، وجمال اُسلوبه، وتعبيره، على جوانب أُخرى من القرآنِ الكريم والتي يكون كلُ واحدة منها بصورة مستقلّة خيرَ شاهدٍ على انتمائه إلى العالم القدسيّ، ونشأتهِ من المبدأ الاَعلى للكون.

وهكذا تنكشف في كلّ عَصر جوانب غير متناهية لهذا الكتاب العظيم.

الاَصلُ الثاني والسَّبعون: المجالات الأُخرى للاِعجاز القرآني

لقد بَيّنّا في الاَصلِ السابقِ إعجاز القرآن من الناحية الاَدبية، باختصار، والآن نريد أن نستعرض المجالات الأُخرى للاِعجاز القرآنيّ بصورة مختصرة.

إذا كان الاِعجاز القرآنيُ من الناحية الاَدبية قابلاً للدَرك والفهم عند طائفة خاصّة لها إلمامٌ كافٍ بالاَدب العربي، فإنّ الجوانبَ الأُخرى من الاِعجاز القرآني ولحسن الحظ مفهومة لآخرين.

ألف: إنّ الآتي بالقرآن الكريم كان شخصاً أُميّاً لم يدرُس، ولم يَتلقَّ تعليماً قبل النبوة، فلا هو دخل مدرسة أو كَتّاباً، ولا هو تلمَّذ على أحد، أو قَرَأَ كتاباً كما قال: (ما كُنْتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمينِكَ إذاً لاْرتابَ المُبْطِلُونَ)(١)

____________________

١. العنكبوت | ٤٨.

١٤٧

إنّ نبيَّ الاِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية على قومٍ كانوا يعرفون حياتَه وتفاصيلها، تمام المعرفة، فإذا كان له سابقة تحصيل وتعلّم لكذّبوا ادّعاءَهُ هذا.

وأمّا اتّهام البعض إيّاه بأنه (يُعَلِّمهُ بَشَرٌ)(١) فهي تهمة لا أساس لها مثل سائر التهم الأُخرى، كما يقول: (لسانُ الّذي يُلْحِدُونَ إليْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبيْنٌ)(٢)

ب: لقد تُلي القرآنُ الكريم على الناسِ طيلةَ ثلاثٍ وعشرينَ سنة وفي ظروف مختلفة (في الصلح والحرب، في السفر والحضر، و...) بواسطة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقتضي طبيعة هذا النمط من التحدُّث والتكلّم أن يقع في كلام المتكلّم نوعٌ من الاختلاف والتعدُّديّة في الاُسلوب والخصُوصِيّات البيّانية فلطالما يقع المؤلّفون الذين يُؤَلِّفُونَ كُتُبَهُمْ في ظُروفٍ عاديّةٍ متماثِلةٍ - رغم مراعاة قواعد التأليف والكتابة، وأُصولِها - في الاِختلاف والاِضطراب في الكلام، فكيف بالذي يُلقي كلاماً بالتدريج، وفي أوضاع متباينة وأحوال مختلفة تتراوح بين الشدّة والرخاء، والحزن والفرح، والقتال والسلام، والاَمن والخطر؟!

إنّ المُلفت للنظر هو أنّ رسول الاِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) تَحدَّث حول موضوعات مختلفة ومتنوعة، بدءاً بالاِلَهيّات ومروراً بالتاريخ، والتشريع، والاَخلاق،

____________________

١. النحل | ١٠٣.

٢. النحل | ١٠٣.

١٤٨

والطبيعة، والاِنسان، وانتهاء بالحياة الأُخرى، وفي نفس الوقت تمتّع كلامه هذا من بدئه إلى ختمه بأعلى نوع من الانسجام، والتناغم، من حيث الاسلوب، والمحتوى.

يقول القرآن نفسُهُ عن هذا الجانب من الاِعجاز: (أفَلا يَتَدبَّرُون القرآنَ ولو كانَ مِنْ عِند غيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فيهِ اختلافاً كثيراً)(١)

ج: إنّ القرآنَ الكريمَ جعل الفطرةَ الاِنسانيةَ الثابتة نُصب عَينيه وشرّع على أساسها قانونَه، فكانت نتيجةُ هذه الرؤية الاَساسِيّة أنْ أخَذَ في نظر الاِعتبار جميع أبعاد الروح والحياة الاِنسانية، وذكّر بالأُصول والأُسس الكلية التي لا تقبَلُ الزوال والاندثار.

فمن خصائص القوانين الاِسلامية الكليَّة هو أنَّ هذه القوانين قابلةٌ للتطبيق في جميع الظروف المختلفة والبيئات المتنوعة ويوم كان المسلمون يسيطرون على مساحة جدُّ كبيرة من العالم، كانوا يديرون المجتمعات البشرية قروناً عديدة في ظلّ هذه القوانين والتشريعات بقوّة، ونجاح.

يقول الاِمام محمّد الباقر (عليه السلام): «إنَّ اللهَ لَمْ يَدَع شَيْئاً تَحْتاجُ إلَيْهِ الأُمَّةُ إلاّ أَنْزَلَهُ في كتابهِ، وَبَيَّنَهُ لِرَسُولِهِ وجَعَلَ لِكُلّ شيءٍ حَدَّاً، وَجَعَلَ عَلَيْهِ دَلِيْلاً»(٢) .

____________________

١. النساء | ٨٢.

٢. الكافي: ١ | ٥٩.

١٤٩

الاَصلُ الثالثُ والسبعون: الاِعجاز القرآني في مجال أسرار الكون وأخبار المستقبل

د: إنّ القرآن الكريم بيّن في آيات مختلفة ومتعدّدة وفي مناسبات متنوّعة أسرارَ عالَم الخلق التي لم يَكُنْ لدى البَشَر أيُّ عِلمٍ، ولا إلمام بها.

ولا شكَّ أنَّ الكشف عن هذه الاَسرار لشخصٍ لم يتلقَّ تعليماً، ولم يدرس، وذلك في مجتمع جاهليّ لا يعرف شيئاً أصلاً، لا يمكن إلاّ عن طريق الوحي.

إنّ الكشف عن قانون الجاذبية الذي يفسَّر على أساسِه قيامُ صرح الكون يُعَدّ من مفاخر العِلم الحديث.

ولقد كَشَفَ القرآنُ الكريمُ القناعَ عن هذا القانونِ في عبارةٍ قصيرةٍ إذ قال: (اللهُ الَّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تروْنَها)(١)

إنّ الكَشْفَ عن قانون الزوجية العامّة هو الآخر يُعدّ من مكتسَبات العِلم الحديث، وقد تحدّث عنه القرآنُ الكريمُ في عَصرٍ لم يكنِ البشرُ يعرف عنه أيَّ شيء مطلقاً إذ قال: (وَمن كُلّ شَيءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْن لَعَلّكُمْ تَذَكَّرُون)(٢) .

هذا وثمّت نماذج أُخرى في هذا المجال جاء ذكرُها في كتب التفسير والعقيدة، أو دوائر المعارف.

____________________

١. الرعد | ٢.

٢. الذاريات | ٤٩.

١٥٠

هـ: إنّ القرآنَ الكريم أخبر عن طائفة من الحوادث والوقائع المستقبلية إخباراً قطعيّاً، وقد وقعت تلك الوقائع والحوادث فيما بعد بصورةٍ دقيقةٍ، ولهذا النمط من الاِخبارات نماذج عديدة، وكثيرة إلاّ أنّنا نشير إلى واحدة منها هنا على سبيل المثال:

يَوم غَلَبَ الساسانيون عُبّادُ النار على الرُّوم الموحّدين تفاءَلَ المشركونَ العرب بهذا الحَدَث وقالوا سننتصر نحن على موحِّدي الجزيرة العربية (المسلمين) أيضاً، وعند ذاك أَخبر القرآنُ الكريمُ بانتصار الرُّوم على الفُرس:

(غُلِبَتِ الرُّوْمُ * في أدْنى الاَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِيْنَ لله الاَمرُ مِن قبلُ ومِن بَعْدُ ويَوْمَئِذٍ يَفرَحُ المؤمنونَ)(١)

ولم تمض بضع سنوات إلاّ وتحقّقت النبوءةُ المذكورة، وانتصر كلا الفريقين المؤمنين (الرّوم المسيحيّون ومسلمو الجزيرة العربية) على أعدائهم (الساسانيين ومشركي قريش).

ولهذه الناحية تحدّثَ القرآن في ذيل الآية عن سرور المؤمنين إذ قال: (يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ).

لاَنّ كلا الانتصارين حدثا في وقتٍ واحدٍ.

و: إنّ القرآنَ الكريمَ تَحدَّثَ عن حياة الاَنبياء وأُممهم السابقة في سورٍ مختلفةٍ بتعابيرَ مختلفةٍ.

____________________

١. الروم | ٢ - ٤.

١٥١

إنّ هذه الوقائع وَرَدَت كذلك في كتاب العَهدين (التوراة والاِنجيل) أيضاً، ولكن إذا ما قيست تلك مع ما وَرَدَ في القرآنِ الكريمِ اتّضح أن القرآن الكريم من الوحي الاِلَهيّ برمَّته، وأنّ ما جاء في العهدين لم يسلم من تحريف المحرّفين.

ففي رواية القرآن لقصص الاَنبياء لا يوجَد أيُّ موضوع يخالف العقلَ، والفطرة، ولا يناسب مقام الاَنبياء، في حين تزخر الرِوايات والقصص الموجودة في كتاب العهدين بهذه العيوب والنواقص.

وفي هذا الصعيد يكفي إجراء مقارنة بين القرآن والعهدين في قصة آدم.

الاَصلُ الرابع والسبعون:القرائن والشواهد على نبُوّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

إنّ جمع القرائن والشَّواهد - كما أسلفنا - يمكن أنْ تكون من الطُرُق الكفيلة بإثبات صدق دعوى الاَنبياء، وها نحن نشير باختصار إلى القرائن الدّالة على صحَّة دعوى النبيّ الاَكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

ألف: النبيٌّ الاَكرم وسوابقُهُ المشرِقةُ:

كانت قريش تسمّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ابتعاثه بالرسالة «محمد الاَمين» وتودع عنده أماناتِها الثمينة، وتستأمنه على أشيائها القيّمة.

وعندما حصل خلافٌ بين أربعة قبائل في وضع «الحَجَرِ الاَسودِ» في موضعه بعد تجديد بناء الكعبة، رضي الجميعُ بأن يقومَ عزيزُ قريش

١٥٢

أي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه المهمّة لكونه رجلاً صادقاً أميناً.(١) ب: النَقاء من تلوّث البيئة الاجتماعية:

لقد نشأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وترعرع في بيئةٍ لم يكن فيها إلاّ الخمر والميسر ووأد البنات، وإقبارهن أحياءً، و إلاّ أكل الميتة والظلم والغارة، ومع ذلك ورغم نشوئه وترعرعه في مثل هذه البيئة، كان إنساناً نقيّ الجيب، طاهِرَ السُّلوك، لم يُوصف بأي شيء من الصفات الرَّذيلة، ومن دونِ أن يتلوَّث بأيّةِ لوثةٍ عقيديّة، وفكريّةٍ.

ج: محتوى الدعوة الاِسلامية:

عندما نُلقي نظرةً فاحصة على محتوى دعوةِ النبي الاَكرمِ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) نراها تدعو الناس بالضبط إلى مخالفةِ كلّ ما كان رائجاً في تلك البيئة، ورفضه رفضاً مطلقاً.

إنّهم كانوا يعبدون الاَوثان وقد دعاهم إلى التوحيد، ورَفض الاَوثان.

إنّهم كانوا يُنكرون المعادَ، وقد دعاهُم إلى الاِيمان به، واعتبره شرطاً من شروط الاِسلام.

وكانوا يئدون البنات ويقبرونهنّ وهنّ أحياء، ولم يكن للمرأة أيّة قيمة، ولكنّه أعاد إليها كرامتها الاِنسانيّة، ومنزلتها اللائقة بها، كأفضل ما يكون.

____________________

١. السيرة النبويّة لابن هشام، ج ١، ص ٢٠٩.

١٥٣

د: أدوات الدعوة ووسائلها:

إنّ الاَدوات والوسائل التي استخدمها النبيُّ، لِنشر دعوته، واستعان بها لِنشر دينه، كانت إنسانيةً وأخلاقية تماماً.

فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستخدم أبداً الاَساليبَ اللا إنسانية كقطع الماء على خصومه، أو تسميمه وتلويثه، أو قطع الاَشجار وما شابه ذلك من الاَساليب اللا إنسانية(١)

بل وأوصى بأن لا يُلحَق الاَذى بالنساء والاَطفال والعجائز وكبار السن، وان لا تُقطَع الاَشجار، وان لا يُشرع في قتال العدوّ قبل الدعوة إلى الاِسلام وإتمام الحجة عليه.

إنّ الاِسلام يرفض رفضاً قاطعاً المنطق المكيافيلي القائل: «بأنّ الغاية تبرّر الوسيلة» وكمثال رَفَضَ اقتراح أحد اليهود لاِخضاع العدوّ في وقعة خيبر عن طريق إلقاء السم في الماء.

إنّ حياة رسول الاِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) زاخرة بقصص التعامل الاِنساني النبيل مع الاَعداء.

هـ: شخصيّةُ المؤمنين به وخصالُهم:

إنّ دراسة أفكار المؤمنين بالنبيّ، والمنضوين تحت لوائه، وأحوالهم وشخصياتهم يمكن أن توضح مدى صدقه وصحة دعواه.

____________________

١. راجع الكتب التاريخية في هذا المجال.

١٥٤

فإنّ من البديهيّ أن الدعوة إذا تأثّر بها الشخصياتُ المتميزة في المجتمع فانضووا تحت رايتها، واعتنقوها بصدق وإخلاص، كان ذلك آية صدقها وصحتها ودليلاً على حقّانيتها، وواقعيّتها.

ولكن إذا التفَّ حولَه طلاّب الدنيا، وعُبّادُ المال والشهوة، كان ذلك دليلاً على ضعف ادّعائه.

لقد كان بين المنضوين تحت لواء رسول الاِسلام شخصيات عظيمة في غاية النُبل والفَضيلة كالاِمام عليّ (عليه السلام) وكسلمان، وعمّار، وبلال، ومصعب، وابن مسعود، والمقداد، وأبي ذر وغيرهم ممّن شهد لهم التاريخُ بالطهر والصفاء، وسموّ الشخصية، ونزاهة الاَخلاق.

و: التأثيرُ الاِيجابي في البيئة الاجتماعية، وتأسيسُ حضارة عظيمة:

إِنّ رسول الاِسلام استطاع في مدة لا تتجاوز ثلاثاً وعشرين سنة أنْ يغيّر وضعَ الجزيرة العربية تغييراً جوهرياً.

لقد استطاع أنْ يصنع من قُطّاع طُرُق، وسَلاّبين، أشخاصاً أُمناء، ومن عُبَّاد أوثان وأصنام، موحّدين بارزين، لم يَصنَعوا حضارةً عظيمة في محلّ سكونتهم فقط بل مدّوا حضارتهم الاِسلامية الرائعة الفريدة، إلى مناطق أُخرى من العالم، كذلك.

فها هو جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) من مسلمي صَدر الاِسلام يؤكّد على هذه النقطة عندما قال في معرَض الاِجابة على سؤال النجاشيّ الذي سأله عن أحوال النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم):

١٥٥

« أيّها المَلِك؛ إنّ الله بَعَث إلينا رَسولاً مِنّا فَدعانا إلى الله لِنوَحّدَه ونعبدَه، ونخلعَ ماكنّا نعبُدُ نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والاَوثان، وأمَرَنا بصدقِ الحديث... وأمَرَنا بالصلاةِ، والزكاة وصلة الرَحم، وحُسن الجوار، ونهانا عن الفواحِشِ، وقولِ الزُّور»(١)

إنّ هذه القرائن، ونظائرها، يمكن أنْ تقودَنا إلى صدقِ قول رسول الاِسلام وحقانيّة هدفه..

إنّ من المحتم أنّ رجلاً بهذه الخصوصيّات لا يرتكب الكذِبَ أبداً، وفي النتيجة يجب أن يُقال: إنّه كان صادقاً في ادّعائه النبوّة، وارتباطه بعالم الغيب كما تؤيّد القرائنُ الأُخرى بالذات هذا الموضوع أيضاً.

الاَصلُ الخامسُ والسبعون: تصديقُ النبيّ السابق

إنّ تصديقَ النبيّ السابق للنبيّ اللاحقِ هو أحد الطرق لاِثبات دعوى النبوة وذلك لاَنّ الفرض هو أنّ نبوة النبيّ السابق قد ثبتت بالاَدلّة القاطعة، ولهذا من الطبيعي أن يكون كلامُه سنداً قاطعاً للنبوّة اللاحقة، ويُستفادُ من بعض الآيات القرآنيّة أنَّ أهلَ الكتاب كانوا يعرفون رسول الاِسلام كما يعرفون أبناءهم، يعني أنّهم قرأوا علائم نبوَّته في كتبهم السَّماوية، وقد ادّعى رسولُ الاِسلام هذا الاَمر، ولم يكذّبه أحدٌ منهم أيضاً، كما يقول:

(الّذيْنَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرفُونَهُ كما يَعْرفُونَ أبناءَهم وإنَّ فريقاً منهم

____________________

١. السيرة النبويّة لابن هشام ج ١، ص ٣٥٩ - ٣٦٠.

١٥٦

لَيَكتمونَ الحقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(١)

إنّ رسولَ الاِسلام ادّعى أنّ السيد المسيحَ عيسى ابنَ مريم (عليه السلام) بشّر به، وانّه يأتي من بعده نبيٌّ اسمُه «أحمد»: (ومُبَشّراً بِرَسُولٍ يأتي مِنْ بَعدِي اسْمُهُ أحْمَدْ)(٢)

كما وأنَّ من الطريف أنْ نَعلمَ أنّ الاِنجيل رغم تعرُّضه للتحريف منذ قرون قد جاءَ في إحدى نُسَخِهِ وهو إنجيل يوحنا (الاِصحاح ١٤، ١٥، ١٦) تَنَبّؤٌ بمجيء شخصٍ بعد السيد المسيح يُدعى «فارقلِيطا» (أي محمد - بالسريانيّة) يمكن للمحقّقين الرجوع إلى ذلك، للوقوف على الحقيقة.(٣)

الاُصلُ السادسُ والسَبعون: معاجز أُخرى للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) غير القرآن

إنّ معاجز رسولِ الاِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما أسلفنا - لا تنحصر في القرآن الكريم، بل إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ربما قام بإتيان بعض المعجزات في مناسباتٍ مختلفة بهدف إقناع الناس.

وفي هذا الصعيد يجب التذكيرُ بأن ثمّت محاسبةً عقليّةً تثبت أساساً وجودَ معاجزَ لرسولِ الاِسلام عدا القرآنِ الكريم.

____________________

١. البقرة | ١٤٦.

٢. الصف | ٦.

٣. وقد دُوّنت كتبٌ تجمع بشاراتِ العهدين بمجيَ رسول الاِسلام، وتبحث حولها وللمثال راجع في الصدد كتاب «أنيس الاَعلام».

١٥٧

فالنبيُّ الاَكرمُ (صلى الله عليه وآله وسلم) تحدّث عن(٩) معاجز للنبيّ موسى (عليه السلام)(١) وعن(٥) معاجز للنبي عيسى (عليه السلام) كذلك(٢)

فهل يمكن أنْ نقبل بأنْ يكون رسولُ الاِسلام أعلى وأفضل من الاَنبياء السابقين، وخاتمهم، وأنّه أثبتَ معاجز عديدة للاَنبياءالسابقين، ومع ذلك لا تكون له إلاّ معجزة واحدة؟ترى أما كانَ الناسُ - وهم يَسمعون بصُدُور كل تلك المعجزات عن الاَنبياء السابقين - يتمنّون صدورَ معاجز مختلفة ومتنوّعة على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يكتفون برؤية معجزةٍ واحدةٍ فقط؟؟!

وكيف لا تكون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معاجز سوى «القرآن الكريم» وهذا هو القرآنُ نفسُه يثبت صدور معاجز متعددة على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نشير إليها فيما يأتي:

ألف: شَقّ القَمَر: عندما اشترط المشركون إيمانهم برسول اللهِ ودعوته بشقّ القَمَر نصفين، قام النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك بإذن الله تعالى، كما يقول القرآن الكريم:

(إقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وانْشَقَّ القَمَرُ * وإنْ يَرَوْا آيَةً يُعرضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسَتمِرٌّ)(٣) .

إنّ ذيلَ هذه الآية شاهدٌ واضحٌ على أنّ المقصود من الآية ليس هو

____________________

١. انظر سورة الاِسراء | ١٠١.

٢. انظر آل عمران | ٤٩.

٣. القمر | ١ - ٢.

١٥٨

انشقاق القمر في يوم القيامة بل يرتبط بعصر النبيّ الاَكرمِ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ب: المعراج: إنّ عروجَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة واحدةٍ من المسجد الحرام في مكة المكرَّمة إلى المسجد الاَقصى في فلسطين، ومنه إلى السَّماء، وقد تمّت هذه الرحلة الفضائيّة العظيمة في مُدّةٍ قصيرةٍ جداً، يُعتَبَرُ هو الآخر من معاجز رسول الاِسلام التي ذُكِرتْ في القرآن الكريم.(١) على أنّ قُدرة الله أقوى وأسمى من أن تحول العواملُ الماديةُ والطبيعيةُ دون تحقّق معراج نبيه الكريم إلى العالَم الاَعلى، ووقوعه.

ج: مباهلته مع أهل الكتاب: لقد قام رسول الاِسلام - بهدف - إثبات حقّانيّته، وصدق دعوته بدعوة طائفة من أهل الكتاب إلى «المباهلة» وقال: (فَمَنْ حاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ ما جاءَك مِنَ العِلْمِ فقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبناءَنا وأَبْناءَكُمْ ونِساءَنا وَنِسَاءَكُمْ وأنفُسَنَا وأنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الكاذِبِين)(٢) .

ومن المُسَلَّم أنّ المباهَلة تنتهي بفناء أحد الفريقين المتباهِلَيْن، ولكنّ النبيَّ مع ذلك أعلن عن استعداده لذلك، فكانت النتيجةُ أنَّ أهلَ الكتاب لمّا شاهَدوا قاطعيّة النبي، وثباته العجيب، وكيف أنّه أتى بأعزّ أقربائِهِ إلى ساحة «المباهَلَة» من غير خوفٍ أو تهيّبٍ، انسحَبُوا، وقبلوا شرائط النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولقد قلنا عند الحديث عن الاِخبار بالغَيب أن السيدَ المسيحَ (عليه السلام) كان

____________________

١. انظر الاِسراء | ١، والنجم | ٧ - ١٨.

٢. آل عمران | ٦١.

١٥٩

يخبر عن الغيب(١) وقد أخبر النبيُّ الاَكرمُ محمدّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الغيب عن طريقِ الوحي كذلك، ومن إخباراته: الاِخبار بغَلَبة الروم على الفرس(٢) وبفتح مكة(٣) .

إنّ هذه المعاجز هي التي ذَكَرَها القرآن الكريم، وأمّا ما ذكرهُ المؤرّخون والمحدّثون المسلمون من معاجز أُخرى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيفوق ما جاء ذكرُه في القرآنِ الكريمِ، وهي وإنْ لم تكن - في الاَغلب - متواترة إلاّ أنّه يتمتع مجموعُها بتواترٍ إجماليٍ.

____________________

١. انظر آل عمران | ٤٩.

٢. انظر الروم | ٢.

٣. انظر الفتح | ٢٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357