• البداية
  • السابق
  • 357 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21795 / تحميل: 5452
الحجم الحجم الحجم
العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت

العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الشيء لا يكون مرئياً إلاّ بعد تحقّق شروط ضرورية هي:

ألف: أن يكون في مكانٍ وجهةٍ خاصةٍ.

ب: أن لا يكون في ظلمة، بل يشع عليه النور.

جـ: أن يكون بينه وبين الرائي فاصلة معينة ومسافة مناسبة.

ومن الواضح أنّ هذه الشرائط من آثار الكائن الجسماني ومن خصائص الموجود المادّي لا الاِلَه ذي الوجود الاَسمى والاَعلى من ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّ كون الله مرئياً لا يخلو من حالتين:

إمّا أن يكونَ كلّ وجودِه مرئياً.

وإمّا أن يكونَ بعض وجودِه مرئياً.

وفي الصورة الأُولى يكون الله المحيط؛ مُحاطاً ومحدوداً.

وفي الصورة الثانية يكونُ الحق تعالى ذا أجزاء وأبعاض.

وكلا الاَمرين لا يليقان بالله سبحانه فهو تعالى محيطٌ غير محاط به، مطلق غير مقيد، منزّه عن التركب والتبعّض.

على أنَّ ما قلناه يرتبط بالرؤية الحسيّة والبصرية، لا الرؤية القلبيّة، والشهود الباطنيّ الّذي يتحقّق للمرء بفضل الاِيمان الكامل، واليقين الصادق فإنّ هذا القسمَ خارجٌ عن محطّ البحث، وإطار النقاش. ولا ريب في إمكان وقوعه بل وقوعه لاَولياءِ الله، وعبادة الصالحين المقربين.

٨١

قال ذعلب اليمانيّ - وهو من أصحاب الامام علي (عليه السلام) - قلت للاِمام (عليه السلام) هل رأيتَ ربَّك يا أميرَ المؤمنيِن؟

قالَ الاِمامُ (عليه السلام): «أفَأَعْبُدُ ما لا أرى».

فقال ذعلب: وكيف تراهُ ؟

فقال (عليه السلام): «لاَ تراهُ العُيُونُ بمشاهدة العَيانِ وَلكِنْ تدرِكهُ القُلُوب بِحَقائِقِ الاِيمانِ»(١)

إنّ الرؤية بالبصر علاوةً على كونِها ممتنعةً عقلاً، مرفوضةً من جانبِ القرآن الكريم، فقد صرّحَ القرآن الكريم بنفِي إمكان ذلك.

فعندما طَلَب النبيّ موسى (عليه السلام) من الله (تحت إلحاحٍ وضغطٍ مِن قومه) أن يريه نفسَه ردّ عليه سبحانه بالنفي المؤكد المؤبد كما يقول: قائلاً: (رَبّ أرِنِي أَنْظُرُ إلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي)٢.

ويمكن أن يَسأَل أحد: إذا كانت رؤيةُ الله بالبصر والعَين غير ممكنة فلماذا قال القرآن الكريم: ( وُجُوهٌ يَوْمِئِذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَةٌ)٣.

والجواب على ذلك هو: أنّ المقصود من النظر في الآية الكريمة، هو انتظار الرحمة الاِلَهية، لاَنّ في الآية شاهدين على ذلك:

١ - إن النظر في هذه الآية نُسِبَ إلى الوجوه وقال ما معناه: إنّ الوجوه المسرورة تنظرُ إليه. ولو كان المقصود هو رؤية الله بالبصر لنُسِبَ النظر

____________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ١٧٩.

٢. الاَعراف | ١٤٣. ٣. القيامة | ٢٢ - ٢٣.

٨٢

إلى العيون لا إلى الوجوه.

٢ - إن الكلام في هذه السورة عن فريقين: فريق يتمتّع بوجوهٍ مسرورةٍ مشرقةٍ وقد بيّن ثوابَها بقوله: ( إلى رَبّها ناظِرَةٌ).

وفريق يتسم بوجوه حَزينة مكفهرّة وقد بيّن جزاءها وعقابها بقوله: (تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بها فاقِرَةٌ).

والمقصود من الفقرة الثانية واضح وهو أنّ هذا الفريق يعلم بأنّه سيصيبه عذابٌ يفقر الظهر، ويكسره ولهذا فهو ينتظر مثل هذا العذاب الاَليم.

وبقرينة المقابلة بين هذين الفريقين يمكن معرفة المقصود من الآية الأُولى وهو أنَّ أصحاب الوجوه المسرورة تنتظر رحمة الله، فقوله تعالى: (إلى رَبّها ناظِرة) كنايةٌ عن انتظار الرَّحمة الاِلَهية، ولهذا النّوع من التكنية وذكر شيء وإرادة شيء آخر كنايةً نظائر في المحاورات العرفية فيقال فلانٌ عينه على يد فلان أي أنّه ينتظر إفضالهَ وإنعامه عليه.

وخلاصة القول؛ أنّه كما ينتظر أصحابُ الوجوهِ الحزينةِ عذاباً إلَهيّاً، ينتظرُ أصحابُ الوجوهِ المسرورةِ رحمةً إلَهيةً كُنّي بها بالنَظَر إليه جرياً على العادةِ المألوفةِ في المحاورات العرفيّة العربيّة، وبقرينة المقابلة التي هي من قوانين البلاغة وقواعدها.

هذا مضافاً إلى أنّه يجب أن لا يُكتفى في تفسير الآيات القرآنية بآيةٍ واحدةٍ بل لابدّ من استعراض ما يشابهُها من الآيات من حيثُ الموضوع،

٨٣

والتوصل إلى المفهوم الحقيقي بعد ملاحظة مجموعة تلك الآيات.

وفي مسألة الرُؤية لو لاحظنا كلّ الآيات المتعلّقة بها في القرآن الكريم، بالاِضافةِ إلى الاَحاديثِ الشريفةِ في هذا المجال لاتّضحَ عدمُ إمكان رؤية الله تعالى في نظر الاِسلام من دون غموضٍ.

وفي خاتمة المطاف تفسّر الرؤية الواردة في قصة موسى (عليه السلام) مع أصحابه، انّ موسى (عليه السلام) اختار من قومه سبعين رجلاً لميقات ربه لكي يشاهدوا نزول التوراة، فلمّا بلغوا الميقات اقترحوا عليه ان يريهم الله سبحانه، يقول تعالى:

(وإذ قُلتم يا موسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللهَ جَهْرَةً)(١) وقال سبحانه: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتابِ أن تُنَزِّلَ عَلَيْهِم كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنا الله جَهْرةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)٢ فلما أفاقوا بدعاء من نبيهم موسى (عليه السلام) اقترحوا عليه شيئاً آخر، فقالوا: إنك تسمع كلام الله وتصفه لنا أدع ربك حتّى يريك نفسه فتنقله إلينا فأصرّوا وألَحّوا في ذلك، فطلب موسى (عليه السلام) بضغط وإِلحاح من قومه ان يريه الله ذاته مع علمه بامتناع رؤيته، وقال: (رَبِّ أَرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ) فوافاه الجواب: (قالَ لَنْ تَرانِي)٣.

فتبيَّن من ذلك انّ طلب موسى لم يكن من تلقاء نفسه بل كان إجابة لاِلحاح قومه المعروفين باللجاج والاِصرار.

____________________

١. البقرة | ٥٥.

٢. النساء | ١٥٣.

٣. الاَعراف | ١٤٣.

٨٤

الصِّفات الخَبَريّة

الاَصلُ الثالثُ والاَربعون

كُلُّ ما ذُكر إلى هُنا من الصّفاتِ الاِلَهيّة (ما عدا التكلّم) كانَ برمّته مِن نوع الصّفاتِ التّي يقضي العقلُ بِإِثباتِها للهِ أو نَفْيِها عنهُ.

غَير أنَّ هناكَ مجموعةً من الصّفات وَرَدَت في آياتِ القرآنِ وفي السُّنة ولم يكن لها من مُسْتَنَدٍ ومَصْدرٍ سوى النقلِ مثل:

١ - يَدُ الله: ( إنَّ الّذينَ يُبايعُونَكَ إنّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أيْدِيهِمْ)(١)

٢ - وَجْهُ الله: ( وَللهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأَيْنما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إنَّ اللهَ واسعٌ عَليمٌ)٢.

٣ - عَيْنُ اللهُ: ( وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)(٢)

٤ - الاِسْتواء عَلى العَرش: ( الرَّحْمنُ عَلى الْعَرْشِ استوى)٤.

والعلّة في تسمية هذا النوع من الصفات، بالصفات الخبرية، هو

____________________

١. الفتح | ١٠.

٢. البقرة | ١١٥.

٣. هود | ٣٧.

٤. طه | ٥.

٨٥

ثبوتها لله بإخبار الكتابِ والسُنّة بِها فقط.

وللحصول على التفسير الواقعيّ لهذا النوع من الصفات يجب أيضاً ملاحظة كلّ الآيات المتعلّقة بهذا المجال.

كما أنّه يجب أن نعلم أنّ اللّغة العربية شأنها شأن غيرها من اللّغات الأُخرى زاخرة بالكنايات والاِستعارات والمجازات، وبما أنّ القرآن نزل بلغة القوم لذلك استخدم هذه الاَساليب أيضاً.

وإليك الآن بيان هذه الصفات وتفسيرها في ضوءِ ما مرَّ.

ألف: في الآية الأُولى قال تعالى: ( إنّ الّذيْنَ يُبايِعُونَكَ إنّما يُبايِعُونَ اللهَ) لاَنّ مبايعة الرسول بمنزلةِ مبايعةِ المرسِلِ.

ثم يَقُول بعد ذلك: ( يَدُ اللهِ فوقَ أيْدِيهِمْ) وهذا يعني أن قدرة الله أعلى وأقوى من قدرتهم وَلا يعني أنّ لله يَداً جسمانية حِسيّة تكون فوق أياديهم.

ويشهد بذلك أنّهُ قال في ختام الآية وعقيب ما مرّ: ( فَمَنْ نَكثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوفى بما عاهَدَ عَلَيْه الله فسيُؤتيِه أَجْراً عَظِيماً).

فمن نكث بيعته فلا يضرّ الله شيئاً لاَنّ قدرة الله فوق قدرتهم.

إنّ هذا النمط من الكلام والخطاب الذي يتضمن تهديدَ الناكثين لعهدهم، والتنديد بهم، وامتداح الموفين بعهدهم وتبشيرهم، يدل على أنّ المقصود من «يَدِ الله» هو القدرةُ والحاكمية الاِلَهية.

٨٦

على أنّ لفظة «اليَد» تُستخدَم أحياناً في جميع اللُغات للكناية عن القُدرةِ والقُوةِ، والسُلطةِ والحاكميةِ، ومن هذا الباب قولِهم: فَوْقَ كل يدٍ يدٌ، أي فوقَ كُلّ قوةٍ قوةٌ أعلى، وفوق كلّ قدرةٍ قدرةٌ أكبر.

ب: إنّ المقصودَ من الوَجه الذي نُسِبَ إلى الحقّ تعالى هنا هو ذاته سبحانه لا العضوُ الخاصُ الموجودُ في جسم الاِنسان وما يشابِهُهُ.

فالقرآنُ عندما يتحدّث عن هلاك ما سوى الله وفنائه يقول: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ)(١)

ثم يخبر عقيبَ ذلك مباشرةً عن بقاء الذات الاِلَهيّة ودوامِها وأنّه لا سبيل للفناء إليها فيقول: ( وَيَبْقى وجهُ ربِّك ذو الجَلالِ والاِكرامِ)(٢)

أي تَبقى ذاته المقدسة، ولا تفنى أبداً.

من هذا البيان يتّضح بجلاءٍ معنى الآية المبحوثة هنا ويتبين أنّ المقصودَ هو أنّ الله ليس في جهةٍ أو نقطةٍ معيّنةٍ، بل وجوده محيط بجميع الاَشياء فأينما وَلَّيْنا وُجوهَنا، فقد وَلَّيْنا وجوهَنا شطرهُ.

ثم إنّ القرآن أتى لاِثبات هذه الحقيقة العظيمة بوصفين لله تعالى:

١ - واسعٌ: أيْ إِنّ وجود الله لا نهاية له ولا حدود.

٢ - عَلِيْمٌ: أيْ إنّه عارفٌ بجميع الاَشياء.

ج: في الآية الثالثة يذكر القرآنُ الكريم أنّ نوحاً (عليه السلام) كُلّف من جانب

____________________

١. الرحمن | ٢٦.

٢. الرحمن | ٢٧.

٨٧

اللهِ بصنع سفينة وإعدادها.

وحيث إنّ صنعَ تلك السفينة كان في مكان بعيدٍ عن البحر، لذلك استهزأ قومُه به، وسخر به الجهلة منهم، وآذَوه.

ولذا في مثل هذه الظروف قال له الله تعالى: إصنع أنتَ السفينة ولا تُبالي، فأنتَ تفعل ذلك تحت إشرافنا، وهو أمرٌ قد أوحينا نحن به إليك.

فالمقصود من قوله (واصنَعِ الفُلْكَ بأَعْيُننا) هو ان نوحاً قامَ بما قام من صُنْع السفينة حسب أمر الله له، ولهذا فانّ الله سيحفظه ويكَلاَوه برعايته، ويحميه، ولن يَصل إليه من المستهزئين شيءٌ إذ هو في رعاية الله، ويعمل تحت عنايته.

د: إنّ العَرشَ في اللغة العربية بمعنى السرير، ولفظ «الاستواء» إذا جاء مع لفظة «على» كان المعنى هو الاستقرار والاستيلاء.

وحيث إنّ الملوك والأُمراء بعد أن جلسوا على منصة العرش يعمدون إلى تدبير الأُمور، وتسييرها في بلادهم، لهذا كان هذا النوعُ من التعبير (أعني: الاِستواء على العرش) كناية عن الاِستيلاء، والسيادة، والقدرة على تدبير الأُمور، خاصة إذا نُسِبَ ذلك إلى الله سبحانه.

هذا مضافاً إلى أنّ الاَدِلّة العَقلية والنقلية أثبتت تنزّه الحق تعالى عن المكان.

وممّا يشهد بأنّ الهدف من هذا النمط من التعابير، ليس هو الجلوسُ على السَرير الماديّ، بل هو كناية عن تدبير أُمور العالم أمران:

٨٨

١ - إنّ هذه العبارة جاءت في كثير من آيات الكتاب العزيز مسبوقةً بالحديث عن خلق السماوات والاَرض، للاِشارة إلى أنّ هذا الصرح العظيم قائم من غير أعمدة مرئيّة.

٢ - إن هذه العبارة جاءت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز ملحوقةً بالكلام عن تدبير العالم.

إنّ مجيىَ هذا التعبير في القرآن الكريم مسبوقاً تارةً بالحديث عن الخلق، وملحوقاً تارة أُخرى بالحديث عن التدبير يمكن أن يساعِدَنا على فهم المقصود من الاستواء على العرش، وأنّ القرآن يُريدُ بهذه العبارة أن يُفَهّمَ البشريةَ أنَّ خلق الوجود على سعته، وعظمتهِ، لم يوجب خروج هذا الكون العظيم عن نطاق تدبيره ومشيئته، بل الله تعالى مضافاً إلى كونه خالقَ الكون، وموجده، فهو مدّبرُه، ومصرّفُ شؤونه.

وها نحن نختارُ من بين الآيات العديدة في هذا الصعيد آيةً جامعةً للحالتَين (المذكورتين سابقاً) تفيد ما ذكرناه:

(إنّ رَبَّكُمُ اللهُ الّذي خَلَقَ السَّماواتِ والاَرْضَ في ستَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتوى عَلى العَرْش يُدَبّرُ الاَمرَ ما مِنْ شَفِيْعٍ إلاّ مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ..)(١)

____________________

١. يونس | ٣.

٢. يراجَع في هذا الصدد الآيات: ٢ | الرعد، ٤ | السجدة، ٥٤ | الاَعراف.

٨٩

٩٠

كليات في العقيدة

٣

الفصل الرابع

العَدلُ الإلهيُّ

٩١

٩٢

الاَصلُ الرابعُ والاَربعُون: العدل من الصفات الجمالية

يعتقدُ المسلمون جميعاً بعدل الله تعالى والعَدلُ من الصفات الاِلَهيّة الجماليّة.

وَيَنطلقُ هذا الاِعتقادُ مِن نفيِ القرآن لاَيّ نوعٍ من أنواعِ الظُلْم عَنِ اللهِ تعالى، ووَصفِه بكونهِ «قائماً بالقِسط» كما يقول: ( إنّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ)(١) . ويقول أيضاً: ( إنّ اللهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً)(٢)

ويقولُ كذلك: ( شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلَه إلاّ هُوَ وَالملائكةُ وَأُوْلوا العِلْمِ قائِماً بالقسْط )(٣) .

إنّ العقل - مضافاً إلى الآيات المذكورة - يحكم بوضوح بالعَدلِ الاِلَهيّ لاَنَّ العَدْلَ صفةُ كمالٍ، والظلمُ صفةُ نقصٍ، والعقلُ يحكمُ بأنّ الله تعالى مُستجمعٌ لجميع صفاتِ الكمالِ، منزَّهٌ عن كلّ عيبٍ ونقصٍ في مقام

____________________

١. النساء | ٤٠.

٢. يونس | ٤٤.

٣. آل عمران | ١٨.

٩٣

الذات والفعل.

والظلمُ أساساً نابعٌ من أَحَدِ عواملَ ثلاثة:

١ - جَهل الفاعلِ بقبح الظُلم.

العدل الاِلَهيّ …

٢ - إحتياج الفاعلِ للظُلم إلى الظلم مع عِلمه بقبحه، أو عجزه عن القيام بالعدل.

٣ - كون فاعلِ الظُلم سفيهاً غيرَ حكيم، فهو لا يبالي بإتيان الاَفعالِ الظالِمة رغم علمه بقبحها، ورغمَ قدرتهِ على القيامِ بالعدل.

ومِن البديهي أنّه لا سبيل لاَيّ واحدٍ من هذه العَوامل إلى الذات الاِلهيّة المقدّسة، فهو تعالى منزّهٌ عن الجَهل، والعَجز، وعن الاِحتياج والسَفه، ولهذا فإنّ جميع أفعالهِ تتسم بالعَدل والحكمة.

ولقد أشار الشيخ الصدوق إلى هذا إذ قال: «والدليل على أنّه لا يقع منه عزّ وجلّ الظلم ولا يفعلهُ أنّه قد ثبت أنّه تبارك وتعالى قديم غنيٌ عالم لا يجهل، والظلم لا يقع إلاّ من جاهل بقبحه أو محتاج إلى فعله منتفع به».(١) كما أشار إليه المحقّق نصير الدين الطوسي بقوله:

«واستغناؤه وعلمه يدلاّن على انتفاء القبح عن أفْعالِهِ تعالى»(٢)

ونظراً إلى هذه الآيات اتّفقَ المسلمون على ثبوت العدل لله تعالى

____________________

١. التوحيد للصدوق ص ٣٩٦ - ٣٩٧.

٢. كشف المراد ص ٣٠٥.

٩٤

والاِعتقاد بكونه عادلاً.

إلاّ أنّهم اختلفوا في تفسير العدل الاِلَهي واختارَ كلُ فريقٍ إحدى النظريّتين التاليتين:

ألف: إنّ العقلَ البشريّ السليمَ يدرك بنفسه حسنَ الاَفعال وقبحها، ويعتبر الفعلَ الحَسَن علامةً لكمال فاعله، والفعلَ القبيحَ علامةً لنقصان فاعله.

وحيث إنّ الله مستجمعٌ بذاته لجميع صفات الكمال، لهذا فاَنّ فعلَه كاملٌ ومحمودٌ، وذاته المقدّسة منزّهةٌ عن كل فعلٍ قبيحٍ.

هذا ويجدُر التذكيرُ بنقطة هامّةٍ هنا، وهي أنّ العقلَ لا يحكم على الله بشيءٍ، ولا يقول: يجب على الله أن يكون عادلاً، بل كلُ ما يفعلهُ العقلُ هنا هو أن يكتشفَ واقعيّةَ الفعلِ الاِلَهيّ، يعني أنّه بالنَظَرِ إلى كمالِ اللهِ المطلَقِ، وتنزُّهِهِ سبحانه عن كلّ نقصٍ وعيبٍ، يكتشف أنّ فِعلَه كذلك في غاية الكمال، وأنّه منزَّه أيضاً عن النقص، فهو بالتالي سيعامل عباده بالعدل، ولا يظلم أحداً منهم أبداً.

وما ذكَرَتهُ الآياتُ القرآنيّة في هذا المجال إنّما هو في الحقيقة تأكيدٌ وتأييدٌ لما أدركه الاِنسان من طريق العقل.

وهذا هو ما اصَطُلِحَ عليه في علم الكلام الاِسلاميّ بمسألة الحُسن والقُبح العقليّين، ويُسمّى القائلون بهذه النظرية بالعَدليّة، ويقف في طليعتهم الشيعةُ الاِماميّةُ الاثنا عشرية.

٩٥

ب - وتقابل تلك النظرية، نظريةٌ اُخرى وهي أنّ العقلَ البشريّ عاجز عن إدراك الحُسن والقُبح في الاَفعال حتى في صورتها الكليّة، وتحصر الطريق لمعرفة الحسن والقبح في الوحي الاِلَهيّ، فما أمرَ به اللهُ فهو حَسَنٌ وما نهى عنه فهو قبيحٌ.

وعلى هذا الاَساس فلو أمَرَ اللهُ بإلقاءِ إنسان بَريء في النار، أو إدخال عاصٍ في الجنة كان ذلك عينَ الحسن والعدل.

وقول هذا الفريق هو: إنّ وصف الله بالعدل ليس إلاّ لكون هذا الوصف جاء في القرآن الكريم ليس إلاّ.

الاَصلُ الخامسُ والاَربعون: إدراك العقل للحسن والقبح

حيث إنّ مسألة الحُسن والقُبح العقليّين تُمَثّلُ الاَساسَ والقاعدة للكثير من عقائد الشيعة الاِمامية، لذلك نشير فيما يأتي إلى دليلَين من أدلّتها العديدة:

ألف: إنّ كلَّ إنسان - مهما كان دينه ومسلكه، وأينما حلّ من بقاع الاَرض - يدرك بنفسه حُسنَ العدل، وقبح الظلم، وكذلك يدرك حُسنَ الوفاءِ بالعهد، وقبحَ نقضه، وحسنَ مقابلة «الاِحسان بالاِحسان» وقبح مقابلةِ «الاِحسان بالاِساءة».

ودراسةُ التاريخ البشريّ تشهدُ بهذه الحقيقة وتؤكّدُها، ولم يُرَ حتى اليوم إنسانٌ عاقلٌ ينكرها قط.

٩٦

ب: لو فَرَضْنا أنّ العقل عجز تماماً عن إدراك حسنِ الاَفعال وقبحها، واحتاج الناس في معرفة حسن جميع الاَفعال وقبحها إلى الشرع، لزم من ذلك عدم إمكانِ إثبات الحسن والقبح الشرعيّين أيضاً ذلك لاَنّنا لو فَرضنا أن الشارع أخبَرَ عن حُسن فعل أو قبح آخر لا يمكننا أنْ نتوصَّل إلى معرفة حُسن ذلك الفعلِ أو قبحِه، بواسطة هذا الاِخبار، ما دمنا نحتمل الكذب في إخبار الشارع، وكلامِهِ إلاّ إذا ثبت قَبْل ذلك قبحُ المين والكذب وتنزّهِ الشارع عن هذه الصفةِ القبيحةِ، ولا يمكن إثبات ذلك إلاّ من طريق العقل.(١)

هذا مضافاً إلى أنّه يُستفاد من الآيات القرآنية أنّ العقل البشريّ قادرٌ على إدراك حسنِ بعض الاَفعال أو قبحها، ولهذا احتكم القرآنُ إلى العقل واللبّ، ودعا إلى تحكيمه أكثر من مرة إذ قال: ( أفَنَجْعَلُ المُسْلِمين كَالْمُجرِمِين * مالَكُمْ كيْفَ تَحْكُمُونَ)(٢)

وقال أيضاً: ( هَلْ جَزاءُ الاِحْسانِ إلاّ الاِحْسانُ) ٣.

وهنا يُطرح سؤال لابدّ من الاِجابة عليه وهو أن الله تعالى قال: (لايُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُون) ٤.

والسُؤال الآن هو: إذَنْ لا يمكن أن يُسأَل اللهُ عن أيّ فعل قامَ به

____________________

١. وعبارة المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد تشير إلى هذا البرهان حيث قال: «ولانتفائهما مطلقاً (أي عقلاً وشرعاً) لو ثبتا شرعاً» أي لو انحصر إثبات الحسن والقبح في إخبار الشرع لانتفى حسنُ الاَفعال وقبحُها بالكلية، ولم يثبُتا لا شرعاً ولا عقلاً.

٢. القلم | ٣٥ - ٣٦.٣. الرحمن | ٦٠.٤. الاَنبياء | ٢٣.

٩٧

والحال أنّه بناءً على كونِ الحُسن والقبح عَقْليَّيْن إذا فَعَلَ اللهُ قبيحاً - إفتراضَاً - يُسأَل ويُقال: لماذا فَعَلَ هذا الفِعْل؟

والجواب هو: إنّما لا يُسأَل الله عن فعله لاَنّه حكيمٌ، والحكيم لا يصدر منه القبيحُ قط، ففعلهُ ملازمٌ للحكمة أبداً، ولهذا لايَبقى هناك ما يَستدعي المساءلة والاِستفسار.

الاَصلُ السادسُ والاَربعون: تجلّيات العدل الاِلهي في مجالي التكوين والتقنين

إنّ للعَدل الاِلَهي في مجالات التكوين والتشريع والجزاء، مظاهر مختلفة نبيّنها واحداً بعد آخر:

ألف: العَدلُ التكوينيّ: لقد أعطى الله تعالى لكلّ مخلوقٍ خَلَقَه، ما هو لائقٌ به، ولازمٌ له، ولم تَغَبْ عنه القابليّاتُ عند الاِفاضة والاِيجاد أبداً.

يقول القرآنُ الكريمُ في هذا الصدد: ( رَبُّنا الّذِي أعطى كلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)(١) .

ب: العدلُ التشريعيّ: لقد هدى اللهُ الاِنسانَ الّذي يمتلكُ قابليّة الرُشد والتكامل، واكتساب الكمالات المعنويّة، بإرسال الاَنبياء، وتشريع القوانين الدينيّة له. كما أنّه لم يُكلّف الاِنسان بما هوَ فوق طاقته، ووُسعه، كما يقول: (إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعَدْلِ وَالاِحْسانِ وإيْتاءِ ذِي القُرْبى ويَنْهى عَنِ

____________________

١. طه | ٥٠.

٩٨

الفَحْشاءِ وَاْلمُنْكرِ والبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(١)

وحيث إنّ العَدل والاِحسان وإيتاء ذي القربى توجب كمال الاِنسان وتوجب الاَفعالُ الثلاثة الأُخرى (الفحشاء والمُنكر والبغي) سقوطَه، أمرَ سبحانه بالاَعمال الثلاثة الأُولى، ونهى عن الاَفعال الاَخيرة.

ويقول عن ملائمة التكاليف الاِلَهيّة لاستطاعة الاِنسان وقدرته وعدم كونها خارجة عن حدود هذه الاِستطاعة أيضاً: ( لا يُكَلّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَها)(٢)

ج: العدل في الجزاء: إنّ الله لا ينظر إلى المؤمن والكافر، والمحسن والمسيء من حيث الجزاء نظرةً سواء قط، بل يجازي كُلاًّ طبقاً لاستحقاقه ووفقاً لِعَمله فيثيبُ المحسنَ، ويعاقبُ المسيء.

وعلى هذا الاَساس لا يعاقبُ مَن لَمْ تبلُغْهُ تكاليفهُ عن طريق الاَنبياء والرسل، ولم تتم عليه الحجةُ كما يقول: ( وما كنُّا مُعَذّبينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٣) .

ويقول أيضاً: ( وَنَضَعُ المَوازِيْنَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيامَةِ فَلا تُظلَمُ نَفْسٌ شَيئاً)(٤) .

____________________

١. النحل | ٩٠.

٢. البقرة | ٢٨٦.

٣. الاِسراء | ١٥.

٤. الاَنبياء | ٤٧.

٩٩

الاَصلُ السابعُ والاَربعون: الهدفيّة في خلق الاِنسان

إنّ الله خلق الاِنسان، وكان لخلقه وإيجاده هدفٌ خاصٌ، وهو وُصول الاِنسان إلى الكمالِ الاِنسانِي المطلوبِ الذي يتحقّق في ظلّ عِبادةِ اللهِ، وطاعتهِ.

ولو كان وصولُ الاِنسان إلى الهدف متوقِّفاً على مقدّمات، هَيَّأ سبحانه تلكَ المقدّمات، وسهّل لَه طريق الوُصول إلى الهدف، وإلاّ كان خلقُ الاِنسان عبثاً خالياً عَنِ الهَدَف.

مِن هنا بعث اللهُ أنبياءَه ورسُله وزوّدهم بالبيّنات والمعاجز، كما أنّه ترغيباً لعبادِهِ في الطاعة، وتحذيراً لَهُمْ عن المعصيَةِ ضمَّنَ تلكَ الرِسالات وَعْدَه ووعيده، فبشّروا وأنذروا.

وهذا الّذي قُلناه هو خلاصة ما يسمّى في كلام «العدلية» بـ « قاعدةِ اللُّطف» وهي من فُروع قاعدة الحُسنِ والقبحِ العقليّين، كما أَنّها هي الاَساس والمنطلَق للكثيرِ من قضايا العقيدة ومسائلها.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

القسم الثالث من وظائف البنك:

الاستثمار

ويقصد بالاستثمار توظيف البنك لجزءٍ من أمواله الخاصّة أو الأموال المودَعة لديه في شراء الأوراق المالية، والتي تكون غالباً على شكل سنداتٍ توخّياً للربح وحفاظاً على درجةٍ من السيولة التي تتمتّع بها تلك الأوراق المالية ؛ لإمكان تحويلها السريع إلى نقودٍ في أكثر الأحيان.

واتّجار البنك بالسندات يعتبر من الناحية الفقهية كاتّجار أيّ شخصٍ آخر بشراء وبيع تلك السندات.

وتُميِّز البنوك من الناحية الفنية بين الاستثمارات والقروض بعدّة اعتبارات:

منها: أنّ القرض يقوم غالباً على استعمال الأموال لفترةٍ قصيرةٍ نسبياً، خلافاً للاستثمارات التي تؤدّي إلى استعمالٍ للأموال في آمادٍ أطول وإن كان العكس قد يصدق أحياناً.

ومنها: اختلاف دور البنك ومركزه في الاستثمار والقرض، ففي الاستثمار هو الذي يبدأ المعاملة ويدخل السوق عارضاً المال ليوظّف في فترةٍ طويلة، وفي القرض يكون الابتداء من العميل المقترض. كما أنّ دور البنك في القرض دور رئيسي ؛ لأنّه أهمّ المقرِضين، بينما دوره في الاستثمار ليس بتلك الدرجة ؛ لأنّه

١٦١

يدخل إلى سوق الأوراق المالية كواحدٍ من المستثمِرين.

وهذه تَميّزات من وجهة النظر الفنّية.

وأمّا من وجهة النظر الفقهية فيمكن تكييف تعاطي السندات على أساسين:

الأوّل: أن نفسّر العملية على أساس عقد القرض، فالجهة التي تصدّر السند بقيمةٍ اسميةٍ نفرضها (١٠٠٠) دينار، وتبيع السند ب- (٩٥٠) ديناراً مؤجّلاً إلى سنةٍ هي في الواقع تمارس عملية اقتراض، أي أنّها تقترض (٩٥٠) ديناراً من الشخص الذي يتقدّم لشراء السند، وتدفع إليه دَينَه في نهاية المدّة المقررة، وتعتبر الزيادة المدفوعة وهي (٥٠) ديناراً في المثال الذي فرضناه فائدةً ربويةً على القرض.

الثاني: أن نفسّر العملية على أساس عقد البيع والشراء بأجل، فالجهة التي تصدّر السند في المثال السابق تبيع (١٠٠٠) دينارٍ مؤجّل الدفع إلى سنةٍ ب- (٩٥٠) ديناراً حاضراً، ولا بأس أن يختلف الثمن عن المثمن في عقد البيع ويزيد عليه، ولو كانا من جنسٍ واحدٍ ما لم يكن هذا الجنس الواحد مكيلاً أو موزوناً.

والواقع أنّ تفسير العملية على أساس بيعٍ ليس إلاّ مجرّد تغطيةٍ لفظيةٍ للعملية التي لا يمكن إخفاء طبيعتها بوصفها قرضاً مهما اتّخذت من تعبير ؛ لأنّ العنصر الأساسيّ في القرض هو أن يملك شخص مالاً من شخصٍ آخر وتصبح ذمّته مثقلةً بمثله له، وهذا هو تماماً ما يقع في عمليات شراء السندات، أو تمليك الجهة المصدّرة للسندات (٩٥٠) ديناراً حاضراً وتصبح ذمّتها مثقلةً بالمبلغ مع زيادة.

فالعملية إذن عملية إقراض من البنك، ولا تختلف من الناحية الفقهية عن إقراض البنك لأيّ عميلٍ من عملائه الذين يتقدمون إليه بطلب قروض، والزيادة التي يحصل عليها البنك نتيجةً للفرق بين القيمة الاسمية للسند وقيمته المدفوعة

١٦٢

فعلاً من قبل البنك هي رباً، وحكمها حكم سائر الفوائد التي يتقاضاها البنك على قروضه. وعلى هذا فإنّ البنك اللاربوي لا يتعاطى هذه العملية الربوية إلاّ بالنسبة إلى سنداتٍ تصدّرها الحكومة أو جهة من الجهات التي يسمح البنك اللاربوي لنفسه أن يأخذ الفائدة منها، وفقاً للنقطة الرابعة من المعالم الرئيسية لسياسة البنك اللاربوي التي تقدّمت في الفصل الأوّل.

فالبنك اللاربوي يمكنه أن يوظّف جزءاً من أمواله في شراء الأوراق المالية إذا كانت تمثّل سنداتٍ حكوميةً أو سنداتٍ مصدّرةً من جهةٍ أخرى يجوز أخذ الفائدة منها للبنك اللاربوي، ولا يمكنه أن يتعاطى بيع وشراء السندات خارج نطاق هذه الحدود.

١٦٣

١٦٤

الملاحق الفقهية

١٦٥

١٦٦

الملحق (١)

[ مناقشة التخريجات التي تحوّل الفائدة إلى كسب محلّل ]

يعالج هذا الملحق - على مستوىً موسّعٍ من الناحية الفقهية - التخريجات المتعدّدة التي تستهدف تحويل الفائدة إلى كسبٍ محلّلٍ وتطويرها بشكلٍ مشروع، مع مناقشة تلك التخريجات.

لاحظنا في وضع سياسة البنك اللاربوي تجاه الفوائد الربوية على القروض أن تصاغ بشكلٍ يميّزها بقدر الإمكان نصّاً وروحاً عن فكرة الربا المحرَّم في الإسلام.

وأمّا إذا قطعنا النظر عن هذه الملاحظة فهناك تخريجات فقهية متعدّدة يمكن تصويرها بصدد محاولة تحويل الفائدة إلى وجهٍ مشروع. ولكي يستكمل البحث عناصره الفقهية نذكر في ما يلي أهمّ ما يمكن أن يقال أو قيل فعلاً من هذه التخريجات مع مناقشتها:

[ التخريج الأوّل:]

إنّه في القرض يتمثّل عنصران: أحدهما المال المقترَض من الدائن للمدين، والآخر نفس الإقراض بما هو عمل يصدر من المقرض. والربا: هو وضع زيادةٍ

١٦٧

بإزاء المال المقترَض. فالفائدة حيث توضع في مقابل المال المقترَض تصبح رباً محرَّماً، ولكنّها إذا فرضت بإزاء نفس الإقراض بما هو عمل يصدر من الدائن على أساس الجُعالة تخرج بذلك عن كونها رباً.

فالشخص الذي يحاول أن يحصل على قرضٍ يقوم بإنشاء جُعالةٍ يعيّن فيها جُعلاً معيّناً على الإقراض، فيقول: من أقرضني ديناراً فله درهم. وهذه الجعالة تُغري مالك الدينار فيتقدم إليه ويقرضه ديناراً، وحينئذ يستحق عليه الدرهم، وهذا الاستحقاق لا يجعل القرض ربوياً ؛ لأنّه بموجب عقد القرض، بل هو استحقاق بموجب الجعالة.

ولهذا لو فرض أنّ الجعالة انكشف بطلانها بوجهٍ من الوجوه ينتفي بذلك استحقاق المقرِض للدرهم وإن كان عقد القرض ثابتاً ؛ لأنّ استحقاق الدرهم نتج عن الجعالة، لا عن عقد القرض. والدرهم في الجعالة موضوع بإزاء الإقراض بما هو عمل، لا بإزاء المبلغ المقترَض بما هو مال.

فهذا نظير من يجعل جعالةً لمن يبيع بيته، فلو قال شخص: من باعني داره كان له درهم، كان البائع مستحقّاً للدرهم لا بموجب عقد البيع، بل بموجب الجعالة، وهو بإزاء نفس البيع والتمليك بعوضٍ بما هو عمل، لا بإزاء الدار المبيعة. ولهذا لا يسري على الدرهم حكم العوضين.

والكلام حول هذا التقريب من جهتين: الأولى من جهة الصغرى. والثانية من جهة الكبرى.

أمّا من جهة الصغرى فقد فرض في هذا التقريب أنّ الدرهم موضوع بإزاء نفس عملية الإقراض، لا على المال المقترَض، ولكن يمكن أن يقال بهذا الصدد: إنّ الارتكاز العقلائي قائم على كون الدرهم في مقابل المال المقترَض، لا في

١٦٨

مقابل نفس الإقراض، وجعله بإزاء عملية الإقراض مجرّد لفظ.

وعليه فلا نتصور الجعالة في ذلك ؛ لأنّ الجعالة فرض شيءٍ على عمل لا على مال. وبعد إرجاع الدرهم في محلّ الكلام بالارتكاز العقلائي إلى كونه مجعولاً في مقابل المال لا تكون هناك جعالة، بل يكون الدرهم ربوياً ؛ لأنّه زيادة على المال المقترَض.

وأمّا من جهة الكبرى بمعنى أنّا لو افترضنا أنّ المتعاملَين - الدائن والمدين - تحرّرا من ذلك الارتكاز العقلائي واتّجهت إرادة المدين حقيقةً إلى جعل الدرهم بإزاء نفس عملية الإقراض فهل هذه الجعالة صحيحة أو لا ؟

ولكي نعرف جواب ذلك لا بدّ أن نعرف حقيقة الجُعالة، فإنّه يمكن القول فيها: إنّ استحقاق الجعل المحدّد في الجعالة ليس في الحقيقة إلاّ بملاك ضمان عمل الغير بأمره به لا على وجه التبرّع، فأنت حين تأمر الخيَّاط الخاصّ بأن يخيط لك الثوب فيتمثل لأمرك تضمن قيمة عمله وتشتغل ذمّتك باُجرة المثل. وهذا نحوٌ من ضمان الغرامة في الأعمال على حدِّ ضمان الغرامة في الأموال، وبإمكانك في هذه الحالة أن تحوِّل أجرة المثل منذ البدء إلى مقدارٍ محدّد، فنقول: من خاط الثوب فله درهم، أو إذا خِطْتَ الثوب فلك درهم، فيكون الضمان بمقدار ما حدّد في هذا الجعل، ويسمّى هذا جعالة.

فالجعالة بحسب الارتكاز العقلائيّ تنحلّ إلى جزأين: أحدهما الأمر الخاصّ أو العام بالعمل، أي بالخياطة مثلاً. والآخر تعيين مبلغٍ معيّنٍ بإزاء ذلك.

والجزء الأوّل من الجعالة هو ملاك الضمان، والضمان هنا من قبيل ضمان الغرامة، لا الضمان المعاوضي.

والجزء الثاني يحدّد قيمة العمل المضمونة بضمان الغرامة، حيث إنّ أجرة

١٦٩

المثل هي الأصل في الضمان ما لم يحصل الاتفاق على الضمان بغيرها.

وإذا تحقّق هذا فيترتّب عليه أنّ الجعالة لا تُتَصوّر إلاّ على عملٍ تكون له أجرة المثل في نفسه وقابل للضمان بالأمر به، كالخياطة والحلاقة. وأمّا ما لا ضمان له في نفسه ولا تشمله أدلّة ضمان الغرامة فلا تصحّ الجعالة بشأنه ؛ لأنّ فرض الجعل في الجعالة ليس هو الذي ينشئ أصل الضمان، وإنّما يحدّد مقداره.

وعلى هذا الأساس لا تصحّ الجعالة على الإقراض بما هو عمل ؛ لأنّ مالية الإقراض في نظر العقلاء إنّما هي مالية المال المقترض، وليس لنفس العمل بما هو مالية زائدة. ومع فرض كون مالية المال المقترَض مضمونةً بالقرض فلا يتصوّر عقلائياً ضمان آخر لمالية نفس عملية الإقراض.

وبتعبيرٍ واضح ليس عندنا في نظر العقلاء إلاّ ماليَّة واحدة، وهي مالية المال المقترض، وتضاف إلى نفس عملية الإقراض باعتبار ذلك المال، فليس هناك إلاّ ضمان غرامةٍ واحد، ولا يتصوّر في الارتكاز العقلائي ضمانان من ضمانات الغرامة: أحدهما للعمل، والآخر للمال المقترض، والمفروض أنّ المال المقترَض مضمون بعقد القرض، والضمان الحاصل بعقد القرض هو من نوع ضمان الغرامة، وليس ضماناً معاوضياً، ومعه فلا مجال لفرض ضمان غرامةٍ آخر لنفس عملية الإقراض.

وبناءً على ذلك لا تصحّ الجُعالة على الإقراض ؛ لأنّ الجُعالة دائماً تقع في طول شمول أدلّة ضمان الغرامة للعمل المفروض له الجعل، ففي موردٍ لا تشمله أدلّة ضمان الغرامة ولا يكون العمل فيه مضموناً بالأمر على الآمر لا تصحّ فيه الجعالة.

١٧٠

[ التخريج الثاني: ]

إنّ الفائدة إنّما تحرم بوصفها تؤدّي إلى ربويَّة القرض، والقرض الربويّ حرام. وأمّا إذا حوّلنا العملية من قرضٍ إلى شيءٍ آخر فلا تكون الفائدة رباً قرضياً، وتصبح بالتالي جائزة. وأمّا تحويل العملية من قرضٍ إلى شيءٍ آخر فيتمّ إذا استطعنا أن نميِّز بين الحالتين التاليتين:

الأولى : إذا افترضنا أنّ زيداً مَدينٌ لخالد بعشرة دنانير ومطالب بوفائها فيأتي إلى البنك ويقترض عشرة دنانير ويسدّد بها دَيْنه.

الثانية : أنّ زيداً في الفرض السابق يتّصل بالبنك ويأمره بتسديد دَيْنه ودفع عشرة دنانير إلى خالد وفاءً لِما لَه في ذمّته.

والنتيجة واحدة في الحالتين، وهي أنّ زيداً سوف تبرأ ذمّته من دين خالد عليه، وسوف يصبح مديناً للبنك بعشرة دنانير، ولكنّ الفارق الفقهي بين الحالتين أنّ زيداً في الحالة الأولى يمتلك من البنك عشرة دنانير معيّنةً على أن يصبح مديناً بقيمتها، وهذا هو معنى القرض، فإنّه تمليك على وجه الضمان. وأمّا في الحالة الثانية فزيد لا يمتلك شيئاً، وإنّما تشتغل ذمّته ابتداءً بعشرة دنانير للبنك من حين قيام البنك بتسديد دينه. واشتغال ذمّته بذلك قائم على أساس أنّ البنك بوفائه من ماله الخاصّ لدَين زيدٍ قد أتلف على نفسه هذا المال، ولمّا كان هذا الإتلاف بأمرٍ من زيدٍ فيضمن زيد قيمة التالف، فالعشرة التي دفعها البنك إلى دائن زيدٍ لم تدخل في ملكية زيد، وإنّما هي ملك البنك ودخلت في ملكية دائن زيدٍ رأساً ؛ لأنّ وفاء دين شخصٍ بمال شخصٍ آخر أمر معقول، كما حقّقناه في محلّه، وهذا معناه أنّه لم يقع قرض في الحالة الثانية، وإنّما وقع أمر بإتلافٍ على وجه الضمان. فلو التزم

١٧١

زيد للبنك حين إصدار الأمر له بالوفاء بأن يعطيه أكثر من قيمة الدين إذا امتثل الأمر لم تكن هذه الزيادة الملتزم بها موجبةً لوقوع قرضٍ ربوي ؛ لأنّ الضمان ليس ضماناً قرضياً، وإنّما هو ضمان بسبب الأمر بالإتلاف.

وبتعبيرٍ آخر: أنّ الربا المحرّم إنّما يكون في المعاملة كعقد القرض أو البيع أو الصلح ونحو ذلك، وأمّا ضمان الغرامة بقانون الأمر بالإتلاف فهو لا يستبطن تمليكاً معاملياً فلا يجري فيه الربا المحرّم، فلا يكون فرض زيدٍ في هذه الحالة فائدةً للبنك من الفائدة القرضية المحرّمة.

ويمكن المناقشة في هذا التقريب بأمرين:

الأوّل : أنّ الدليل الدالّ على حرمة إلزام الدائن مدينَه بزيادةٍ على الدين الذي حصل بالقرض يدلّ عرفاً - وبإلغاء الخصوصية بالارتكاز العرفي - على حرمة إلزام الدائن مدينَه بالزيادة فيما إذا كان الدين حاصلاً لا بسبب القرض، بل بسبب الأمر بالإتلاف، كما في المقام بحسب الفرض ؛ لأنّ التفرقة بين الحالتين تعني أنّ المدين إذا أصبح مديناً في مقابل تملّك شيءٍ بالقرض فلا يجوز إلزامه بالزيادة، وإذا أصبح مديناً لا في مقابل تملّك شيءٍ فيجوز إلزامه بالزيادة، فكأنّ تملّك شيءٍ له دخل في الإرفاق به وتحريم إلزامه بالزيادة، وهذا على خلاف الارتكاز العرفي، وعليه فتثبت حرمة الإلزام بالزيادة في الحالة الثانية أيضاً.

الثاني : أنّا إذا سلّمنا عدم حرمة الإلزام بالزيادة في الحالة الثانية لعدم كونها زيادةً في عقد القرض فلا بدّ من سببٍ معامليّ يجعل المدين ملزماً بدفع الزيادة، والمفروض عدم وجود عقد القرض لكي يُشترط على المدين في ضمن ذلك العقد دفع الزيادة.

وقد يراد تصوير هذا السبب عن طريق جُعالةٍ يجعلها زيد فيقول للبنك: إذا

١٧٢

سددت ديني البالغ عشرة دنانير فلك دينار، فيستحقّ البنك حينئذٍ عشرة دنانير بقانون ضمان الغرامة، وديناراً بقانون الجُعالة بإزاء عمله وهو تسديد الدين، وهذه الجعالة تختلف عن الجعالة التي مرّت بنا في الوجه السابق ؛ لأنّ تلك جعالة على عملية الإقراض، أي بإزاء التمليك على وجه الضمان. وأمّا هذه فليست جعالةً على التمليك ؛ لِمَا تقدّم من أنّه لا يوجد تمليك من البنك لزيدٍ في الحالة الثانية التي ندرسها الآن، وإنّما هي جعالة على تسديد البنك لدين زيدٍ على أساس أنّ هذا التسديد عمل محترم يمكن فرض جعالةٍ له.

ولكن بالرغم من هذا فإنّ هذه الجعالة تواجه نفس الاعتراض الذي أثرناه على الجعالة المتقدّمة في التقريب السابق ؛ لأنّ تسديد البنك لدين زيدٍ ليس له ماليَّةٌ إضافية وراء مالية نفس المال الذي يسدّده لخالد بعنوان الوفاء. والمفروض أنّ هذا المال المسدَّد مضمون فلا يتحمّل المورد ضماناً آخر لنفس عملية التسديد. وإذا لم يُتصوّر الضمان لم تصحَّ الجعالة ؛ لِمَا تقدّم من أنّها لا تنشئ الضمان، وإنّما تحدِّده في الجعل المعيَّن.

نعم، إذا افترضنا أنّ تسديد البنك لدين زيدٍ كانت له قيمة مالية زيادةً على القيمة المالية للمال المسدَّد جاء فيه ضمان الغرامة، وبالتالي صحَّت الجعالة فيه، وذلك كما إذا كان تسديد البنك لدين زيدٍ يتمثّل في جهدٍ زائدٍ على مجرّد دفع المال إلى دائن زيد، وذلك حين يكون دائن زيدٍ في بلدٍ آخر مثلاً ويأمر زيدٌ البنكَ بإرسال مبلغٍ من المال إلى ذلك البلد ودفعه إلى دائنه، فإنّ ممارسة البنك لهذه العملية لها قيمة مالية زائدة على القيمة المالية لنفس المال المدفوع، وهذه القيمة المالية الزائدة مضمونة على زيدٍ بسبب أمره للبنك بتسديد دينه وتحويله إلى دائنه، وفي مثل هذه الحالة يمكن لزيدٍ أن يقوم بجعالةٍ معيّنةٍ فيجعل للبنك جعلاً خاصّاً على عملية التحويل والتسديد.

١٧٣

[ التخريج الثالث: ]

وهنا تقريب يختصّ ببعض القروض، وهي ما كان من قبيل القروض التي تدفع إلى المدين خارج البلاد. فمثلاً: قد يتقدّم شخص إلى البنك في بغداد طالباً منه أن يزوِّده بخطابٍ إلى وكيله في الهند يأمره فيه بإقراضه مبلغاً معيّناً من المال، فيزوّده البنك بهذا الخطاب، ثمّ يقدِّمه الشخص إلى الوكيل في الهند ويقترض بموجبه المبلغ المحدَّد. وعقد القرض هنا وقع في هذا المثال في الهند.

ومن حقّ المقِرض - بمقتضى إطلاق عقد القرض - إلزام المقترِض بالوفاء في نفس مكان القرض ؛ لأنّ مكان وقوع القرض هو الأصل في مكان الوفاء بمقتضى الإطلاق. وعليه فيكون من حقّ البنك أن يطالب مدينَه بالوفاء في نفس المكان الذي تَمَّ في إقراضه عن طريق وكيله في الهند، غير أنّ المدين غير مستعدٍّ لذلك، فإنّه يريد الوفاء في العراق حالة رجوعه من سفره، لا في الهند، فيمكن للبنك في هذه الحالة أن يطالب بمقدار الفائدة لا بإزاء المال المقترض، بل بإزاء تنازله عن الوفاء في ذلك المكان المعيّن. وليس هذا رباً ؛ لأنّ البنك في الواقع قد أقدم على الإقراض مستعدّاً لقبول نفس المبلغ إذا دفع له في نفس المكان، وإنّما يطالب بالزيادة لقاء تنازله عن المكان، فيكون المقترض بين أمرين: فإمَّا أن يقتصر على دفع نفس المبلغ على أن يدفعه في نفس المكان الذي وقع فيه القرض، وإمَّا أن يدفع زيادةً عليه لقاءَ إسقاط الدائن حقّه في الوفاء في المكان المعيّن. وسوف يختار المقترض الأمر الثاني.

وفي الواقع أنّ هذا الوجه هو الذي جوّزنا للبنك على أساسه أن يأخذ عمولةً على التحويل، كما يأتي مفصَّلاً. ولكن لا يمكن استخدام البنك اللاربوي

١٧٤

لهذا الوجه لكي يطالب بكامل مقدار الفائدة الربوية بإزاء إسقاط حقّ المكان إلاّ بأن ينقلب القرض ربوياً ؛ وذلك لأنّه إمّا أن يوافق على تسلّم نفس المبلغ دون زيادةٍ إذا دفع إليه في مكان القرض، وإمّا أن يرفض تسلّم المبلغ بدون زيادةٍ ولو دفع إليه في ذلك المكان. فإن كان يرفض تَحَوَّل القرض بذلك إلى قرضٍ ربوي، وإن كان يوافق فبإمكان المدين حين يحلّ أجَل دَينِه وهو في العراق وتتوفّر لديه قيمة الدين الذي اقترضه أن يتّصل ببنكٍ آخر من البنوك الأخرى الربوية، ويطلب منه تحويل قيمة الدين إلى مكان القرض - أي الهند في المثال المتقدّم - ولا تطلب منه البنوك الربوية حينئذٍ إلاّ أجرة زهيدةً على التحويل ؛ لأنّه سوف يدفع القيمة إليها نقداً.

[ التخريج الرابع: ]

ما هو شائع في بعض الأوساط الفقهية من إمكان تحويل القرض إلى بيع فيخرج بذلك عن كونه ربوياً ما دام النقد من الأوراق النقدية التي لا تمثّل ذهباً ولا فضةً، ولا تدخل في المكيل أو الموزون، فبدلاً عن أن يقرض البنك ثمانية دنانير بعشرةٍ فيكون قرضاً ربوياً، يبيع البنك ثمانية دنانير بعشرةٍ مؤجّلةٍ إلى شهرين مثلاً، والثمن هنا وإن زاد على المثمن مع وحدة الجنس ولكنّ ذلك لا يحقّق الربا المحرَّم في البيع ما لم يكن العوضان من المكيل أو الموزون. والدينار الورقي ليس مكيلاً ولا موزوناً، فيتوصّل البنك بهذا الطريق إلى نتيجة القرض الربوي عن طريق البيع.

وقد يقال: إنّ هذا لا يحقّق كلّ مكاسب القرض الربوي المحرَّم ؛ لأنّ الشخص الذي أخذ ثمانية دنانير مع تأجيل الوفاء إلى شهرين مثلاً لو كان أخذها

١٧٥

على أساس القرض الربوي فبإمكان البنك المقرِض على هذا الأساس أن يلزمه بفائدةٍ جديدةٍ فيما إذا تأخّر عن الدفع بعد شهرين. وأمّا إذا كان قد أخذها على أساس الشراء بمعنى أنّه اشترى ثمانية دنانير بعشرةٍ مؤجّلةٍ إلى شهرين، فليس للبنك أن يطالبه إلاّ بالثمن المحدَّد في عقد البيع والشراء - وهو عشرة - حتى لو تأخّر عن الدفع بعد شهرين. ولو طالبه بفائدةٍ على التأخّر كان ذلك فائدةً على إبقاء الدين، ويعود حينئذٍ محذور الربا المحرَّم.

ولكن بالإمكان التخلّص من ذلك: بأن يشترط بائع الثمانية بعشرةٍ على المشتري في عقد البيع أن يدفع درهماً مثلاً في كلّ شهرٍ يتأخّر فيه المشتري عن دفع الثمن المقرّر من حين حلول أجله، ولا يكون هذا رباً، فإنّ إلزام المدين هنا بدفع الدرهم يكون بحكم البيع، لا بحكم عقد القرض، وليس في مقابل الأجل، فكما كان يمكن للبائع أن يشترط على المشتري أن يهب له درهماً في كلِّ شهرٍ إلى سنةٍ ويكون المشتري ملزماً حينئذٍ بذلك كذلك له أن يشترط عليه أن يدفع له درهماً في كلّ شهرٍ يتأخّر فيه عن دفع الثمن. فليس الشرط هو شرط أن يكون له درهماً في جميع الشهور التي تسبق دفع الثمن من حين حلول الأجل، وحيث إنّه شرط في عقد البيع فيكون لازماً.

والحاصل: أنّ اشتراط دفع شيءٍ في عقد القرض غير جائز ؛ لأنه يُصيِّر القرض ربوياً. كما أنّ اشتراط كون شيءٍ في مقابل الأجل بنحو شرط النتيجة غير جائز ولو وقع ضمن عقد بيع ؛ لأنّه من اشتراط الربا. وفي المقام: الشرط المدّعى لا هو واقع في عقد القرض ليؤدّي إلى وجود قرضٍ ربوي، ولا هو من اشتراط كون شيءٍ في مقابل الأجل ليكون من اشتراط الربا المحرَّم، فلا مانع من نفوذه.

١٧٦

وبذلك يحصل البنك المقرِض على تمام مكاسب الربا.

والتحقيق: أنّ بيع ثمانية دنانير بعشرةٍ في الذمّة لا يجوز تبعاً للسيّد الأستاذ (دام ظلّه الوارف)(١) ؛ لأنّه في الحقيقة وبحسب الارتكاز العرفي قرض قد ألبس ثوب البيع، فيكون من القرض الربوي المحرَّم.

وليس هذا بتقريب أنّ البيع لا يصدق على مثل هذه المعاملة ؛ لأنّ البيع متقوّم بالمغايرة بين الثمن والمثمن، ولا مغايرة في المقام بينهما ؛ لأنّ الثمن ينطبق على نفس المثمن مع زيادة. فإنّ هذا التقريب يندفع بكفاية المغايرة الناشئة من كون المثمن عيناً خارجيةً والثمن أمراً كلّياً في الذمّة، ومجرّد قابليته للانطباق ضمناً على تلك العين لا ينافي المغايرة المصحِّحة لعنوان البيع، وإلاّ لَلزم البناء على عدم صحة بيع القيمي بجنسه في الذمّة مع الزيادة، كبيع فرسٍ بفرسين في الذمّة، مع أنّ هذا منصوص على جوازه في بعض الروايات(٢) . وهذا يكشف عن المغايرة المقوِّمة لحقيقة البيع يكفي فيها هذا المقدار، فليس الإشكال إذن من جهة عدم تحقّق المغايرة.

بل المهمّ في الإشكال دعوى صدق القرض على هذه المعاملة وإن أنشئت بعنوان البيع، وذلك بتحكيم الارتكاز العرفي إمّا بلحاظ الصغرى، أي تشخيص المراد الجدّي للمتعاملين، فيقال: إنّ المراد المعاملي لهما جدّاً بقرينة الارتكاز هو القرض، وليس الإنشاء بالبيع إلاّ من باب تغيير اللفظ. , وإمّا بلحاظ الكبرى، أي بتوسعة دائرة القرض بحسب الارتكاز العرفي بحيث يشمل هذه المعاملة وإن اُريد بها البيع جدّاً.

____________________

(١) منهاج الصالحين (للسيّد الخوئي) ٢: ٥٤ - ٥٥، المسألة ٢٢٠.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ١٥٣، الباب ١٦ من أبواب الربا، الحديث ٣.

١٧٧

أمّا تحكيم الارتكاز العرفي بلحظ الصغرى وجعله قرينةً على تشخيص المراد الجدّي للمتعاملَين فقد يقال في دفعه: إنّ المقصود بالمراد الجدّي الذي يستكشف بلحاظ الارتكاز إن كان هو الغرض الشخصي للبائع والمشتري من المعاملة، فمن الواضح أنّ مجرّد كون الغرض الشخصي من هذه المعاملة نفس الغرض الشخصي في موارد القرض لا يخرجها عن كونها بيعاً ؛ لأنّ الأغراض الشخصية للمتعاملين ليست مقوّمةً لأنواع المعاملات المختلفة.

وإن كان المقصود بالمراد الجدّي المنشأ جدّاً في المعاملة فمن الواضح أيضاً أنّ الإنشاء الجدّي سهل المؤونة ؛ لأنّه يرجع إلى الاعتبار، ولا معنى لتحكيم ارتكازٍ خارجيّ على اعتبارات المتعاملَين، إذ بإمكان البائع والمشتري أن يُنشئا التمليك بعوضٍ في مقام الجعل والاعتبار بدلاً عن إنشاء التمليك على وجه الضمان.

ودعوى: أنّ التمليك بعوضٍ في مقام بيع ثمانية دنانير بمثلها في الذمّة عين التمليك على وجه الضمان ؛ ولهذا يكون قرضاً، مدفوعة: بأنّ التمليك بعوضٍ يشتمل على جعل الضمان المعاوضي، ولهذا يحصل التمليك والتملّك بنفس العقد في البيع، وأمّا التمليك على وجه الضمان فهو لا يشتمل على الضمان المعاوضي، بل على التمليك بنحوٍ يستتبع جريان قانون ضمان الغرامة بتفصيلٍ لا يسعه المقام. ولهذا كان نفوذ القرض على القبض، ولم يكن عقد القرض مشتملاً على المعاوضة.

وهكذا يتّضح أنّ التمليك بعوضٍ والتمليك على وجه الضمان مجعولان اعتباريان مختلفان، وإن تصادفا بحسب النتيجة في مورد تبديل ثمانية دنانير خارجيةٍ بمثلها في الذمّة.

١٧٨

ولهذا فقد يكون من الأفضل التمسّك بالارتكاز العرفي وتحكيمه بلحاظ الكبرى، بحيث يقال: إنّه لمَّا كان القرض بمقتضى الأصل في الارتكاز العقلائي هو تبديل المال المثليِّ الخارجيِّ بمثله في الذمّة - وتعميمه للقيميات ليس إلاّ بنحوٍ من العناية - فيصدق عرفاً عنوان القرض على المعاملة التي تتكفّل بهذا التبديل ولو كان المنشأ فيها عنوان التمليك بعوض. فالعرف لا يريد من كلمة (القرض) إلاّ المعاملة التي تؤدّي إلى ذلك النحو من التبديل، ومعه يصبح بيع ثمانية دنانير بمثلها في الذمّة قرضاً عرفياً، وتلحقه أحكام القرض التي منها عدم جواز الزيادة.

[ التخريج الخامس: ]

وقد يقال انطلاقاً من فكرة تبديل القرض ببيع: إنّ الدنانير الثمانية في المثال السابق لا تُباع بثمانية دنانير في الذمّة مع زيادة دينارين - أي بعشرةٍ - ليقال: إنّ هذا يعتبر في النظر العرفي قرضاً ؛ لأنّه تبديل للشيء إلى مثله في الذمّة، بل تباع بعملةٍ أخرى تزيد قيمتها على الدنانير الثمانية بحسب أسعار الصرف بمقدار ما تزيد العشرة على الثمانية.

مثلاً: تباع ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تُومان في الذمّة، وحيث إنّ النقود الورقية من هذا القبيل لا يجري عليها أحكام بيع الصرف فلا يجب فيها التقابض في المجلس، بل يجوز أن يكون الثمن مؤجّلاً إلى شهرين، وفي نهاية شهرين يمكن للبائع أن يتقاضى من المشتري (٢٠٠) تومان، أو ما يساوي ذلك من الدنانير العراقية من باب وفاء الدين بغير الجنس.

وهكذا تحصل نفس النتيجة المقصودة لمن يريد أن يقرض قرضاً ربوياً دون قرض.

١٧٩

ولئن قبل في بيع ثمانية دنانير بعشرةٍ: إنّه قرض لكونه تبديلاً للشيء بمثله في الذمّة، فلا يقال هذا في بيع ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تومان ؛ لعدم المماثلة فيكون طابع البيع هو الطابع الوحيد لهذه المعاملة.

ولكنّ هذا إنّما يتمّ فيما إذا لم نَدَّعِ قَرضيَّة هذه المعاملة أيضاً بحسب النظر العرفي بضمّ ارتكاز إلى الارتكاز السابق الذي كان فحواه: أنّ كلّ معاملةٍ مؤدّاها تبديل الشيء بمثله في الذمّة تعتبر قرضاً عرفاً. والارتكاز الجديد الذي لا بدّ من ضمّه هو ارتكاز النظر في باب النقود إلى ماليّتها دون خصوصياتها، وهذا الارتكاز معناه أنّ المنظور إليه عرفاً من بيع ثمانية دنانير بكذا توماناً هو تبديل ماليةٍ بمالية، وحينئذٍ يشمله عنوان القرض بالنحو المقرّر في الارتكاز السابق ؛ إذ يصدق عليه أنّه تبديل للشيء إلى مثله في الذمّة، إذ بعد أن كان المركوز في النظر العرفي ملاحظة المالية فقط في الدنانير والتُوامين التي وقعت مثمناً وثمناً، فلا يبقى تغاير بين الثمن والمثمن إلاّ في كون أحدهما خارجياً والآخر ذمّياً، وهذا معنى تبديل الشيء إلى مثله في الذمّة الذي هو معنى القرض بمعناه الارتكازي الأوسع الذي يشمل بعض البيوع أيضاً.

فهذا التقريب لا يتمّ أيضاً إذا تمّت الارتكازات المشار إليها، وإلاّ أمكن تصحيحه إذا توفّرت الإرادة الجدّية لمبادلة ثمانية دنانير ب- (٢٠٠) تومان ولم تكن التوامين مجرّد ثمن مأخوذٍ في مقام اللفظ، أو في مقام اعتبارٍ غير جدّيّ يغطّي وراءه الثمن الحقيقي الذي هو عشرة دنانير.

[ التخريج السادس: ]

يمكن للبنك أن يعتبر نفسه وكيلاً عن المودِعين في الإقراض من أموالهم، فهو حين يقرض من الودائع التي لديه يحتفظ لهذه الودائع بملكية أصحابها

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357