إيضاح مناسك الحج

إيضاح مناسك الحج14%

إيضاح مناسك الحج مؤلف:
المحقق: الشيخ أحمد الماحوزي
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 415

إيضاح مناسك الحج
  • البداية
  • السابق
  • 415 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111356 / تحميل: 9906
الحجم الحجم الحجم
إيضاح مناسك الحج

إيضاح مناسك الحج

مؤلف:
العربية

إيضاح مناسك الحج

لسماحة آية الله العظمى

السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله الشريف

تأليف

الشيخ أحمد الماحوزي

١

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

تابعوا بين الحجّ والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي

الكير خبث الحديد

وقال الصادقعليه‌السلام :

حجج تترى وعمر تسعى يدفعن عيلة الفقر وميتة السوء

وقالعليه‌السلام :

من حج حجج لم يعذّبه الله أبداً

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم من الآن الى قيام يوم الدين.

وبعد..

فهذا شرح موجز ومختصر لمناسك آية الله العظمى السيد علي السيستاني دام ظله، وبيان مقتضب لمناشئ الاحتياط والتردد فيه، مع استدلال مفصل في جملة من المسائل والفروع حسب ما تقتضيه الحاجة والضرورة.

وقد أضفت - زيادة على ما في المنسك - جملة من المسائل والأحكام انتخبتها من ملحق مناسك الحج، ولعلها تصل الى ما يقارب من مائة مسألة، وضعت أكثرها في المتن وبعضها القليل في الحاشية، وللتميز بينها وبين ما في أصل المنسك والشرح وضعت

٣

علامة ( * ) أمام كل مسألة وفرع أخذته من الملحق.

وابتدأت باقسام الحج، وحذفت شروط الحج لعدم الابتلاء الكثير بها، واخرّت فصل النيابة والحج المندوب واقسام العمرة الى ما بعد احكام الرمي.

والمقصود من أعاظم تلامذة سيد الفقهاء والمجتهدين الخوئيقدس‌سره المنوه إليهم في المسائل الاحتياطية، هما:

الاستاذ آية الله الشيخ ميرزا جواد التبريزي دام ظله الشريف.

والاستاذ آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني دام ظله الشريف.

والمقصود من بعض أعاظم تلامذته أحدهما دام ظلهما.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أحمد الماحوزي

غرة شهر شوال لسنة ١٤٢٠

٤

أقسام الحج

مسألة ١: أقسام الحج ثلاثة(١) ، تمتع، وإفراد، وقران.

والاول: فرض من كان البعد بين أهله ومكة أكثر من ستة عشر فرسخا(٢) .

والاخران: فرض أهل مكة ومن يكون البعد بين أهله ومكة أقل

____________________

(١) نصاً وإجماعاً بين العلماء كافة.

(٢) على المشهور، وهو ثمانية واربعين ميلا ومايقرب من اثنين وتسعين كيلومترا، وفي المبسوط والاقتصاد وروض الجنان والجمل والعقود والغنية والكافي والوسيلة والسرائر والشرائع وغيرها ان البعد المقتضي لذلك هو ستة عشر ميلا - اربعة فراسخ - من كل جانب، وما ذهب اليه المشهور هو الصحيح لدلالة جملة من الروايات الصريحة عليه، مضافا الى ضعف وسقم أدلة الثاني، لذا عدل المحقّق عما في الشرائع وقال: انه قول نادر لاعبرة به.

٥

من ستة عشر فرسخا(١) .

مسألة ٢: لايجزي حج التمتّع عمّن فرضه الإفراد أو القِران، كما لايجزي حج القِران أو الإفراد عمّن فرضه التمتّع(٢) ، نعم قد تنقلب وظيفة المتمتّع إلى الافراد كما سيأتي.

هذا بالنسبة إلى حجّة الإسلام، وأما بالنسبة الى الحجّ المندوب والمنذور مطلقا والموصى به كذلك من دون تعيين فيتخيّر فيها البعيد والحاضر بين الأقسام الثلاثة، وإن كان الأفضل التمتّع(٣) .

____________________

(١) لقوله تعالى ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) فحاضر المسجد الحرام تكون وظيفته الإفراد او القِران.

وهل البعد بالنسبة الى مكة او المسجد الحرام - كما هو نص الاية - وجهان بل قولان، والاظهر الأول لكون المقصود من المسجد مكة المكرمة، بشهادة قوله تعالى ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ) ولاريب ان الاسراء كان من مكة باتفاق الكل، مضافا الى قولهعليه‌السلام في صحيحة زرارة أن المراد من المسجد الحرام مكة المكرمة، فالتوقف في دلالتها باعمال بعض القواعد الاصولية المستحدثة في غير محله ووسوسة زائدة.

(٢) بلا خلاف أصلا قديما وحديثا.

(٣) يدل عليه وعلى ماسبقه الروايات المستفيضة.

٦

مسألة ٣: إذا أقام البعيد في مكة انتقل فرضه الى حج الإفراد أو القِران بعد الدخول في السنة الثالثة، وأما قبل ذلك فيجب عليه حج التمتع، ولافرق في ذلك بين ان تكون استطاعته ووجوب الحج عليه قبل إقامته في مكة أو في أثنائها، كما لافرق فيه بين أن تكون إقامته بقصد التوطن أم لا(١) ، وكذلك الحال فيمن أقام في غير مكة من الأماكن التي يكون البعد بينها وبين مكّة أقل من ستّة عشر فرسخاً.

____________________

(١) يشهد له إطلاقات النصوص، ففي صحيحة زرارة عن ابي جعفرعليه‌السلام « من أقام بمكة سنتين فهو من أهل مكة ولامتعة له »، وصحيحة ابن يزيد عن الصادقعليه‌السلام «المجاور بمكة يتمتع بالعمرة الى الحج الى سنتين فإذا جاوز سنتين كان قاطنا وليس له أن يتمتع » وليس في المقام مايستدل على الخلاف إلا الاصل والاجماع المدعى، اما الاول فإطلاق النصوص كافٍ في رفعه، واما الثاني فاثباته دون خرط القتاد.

ووجوب التمتع عليه قبل التوطن او الاقامة لايمنع من انقلاب حكمه لتغير الموضوع، وليس هذا بغريب اذ الصلاة بالنسبة للحاضر تامة فاذا سافر بعد دخول الوقت ينقلب الوجوب من التمام الى التقصير، فالزوال شرط لوجوب أصل الصلاة أما كيفية الاتيان فمرتهن بوقت الاداء، والاستطاعة من هذا النمط فتدبر، والمسألة ذات أربع صور، والتفصيل تجده في « مجمع مناسك الحج ».

٧

مسألة ٤: إذا أقام في مكّة وأراد أن يحج حجّ التمتّع قبل انقلاب فرضه إلى حجّ الإفراد او القِران، قيل: يجوز له أن يحرم لعمرة التمتع من أدنى الحل، ولكنه لايخلو عن إشكال، والأحوط(١) أن يخرج إلى أحد المواقيت فيحرم منه، بل الاحوط أن يخرج إلى ميقات أهل بلده، والظاهر أن هذا حكم كل من كان في مكّة وأراد الإتيان بحجَّ التمتّع ولو مستحبا(٢) .

____________________

(١) واستظهر السيد الخوئي وبعض أعاظم تلامذته جواز الاحرام من ادنى الحل وإن كان الاحوط استحبابا ماذكره الماتن دام ظله.

ومنشأ الاشكال اختلاف الروايات، وهي على طوائف ثلاث، الاولى: ان ميقاته مُهلّ أرضه وأهل بلده، والثانية: أحد المواقيت، والثالثة: أدنى الحل، فالاقوال على ذلك ثلاثة.

والذي تميل إليه النفس هو التخيير والحمل على الفضيلة، والاستدلال للاول بالاخبار الآمرة بالرجوع الى ميقات الاهل بالنسبة للجاهل والناسي للاحرام في غير محله، لعدم القطع بنفي الخصوصية اذ لعله لمقام المرور على الميقات بلا احرام، واخبار المواقيت غاية ماتفيد أنها مواقيت لمن رام دخول الحرم للحج والعمرة، وحمل الطائفة الثالثة على صورة التعذر ليس من الجمع العرفي، وندرة العامل بها لايثبت الاعراض اذ لعل منشأه ترجيح غيرها عليها، فما استظهره سيد الفقهاء والمجتهدين في محله والله العالم.

(٢) لاطلاق النصوص.

٨

حجّ التمتّع

مسألة ٥: يتألف هذا الحجّ من عبادتين: تسمى أُولاهما بالعمرة، والثانية بالحجّ، وقد يطلق حج التمتع على الجزء الثاني منهما، ويجب الإتيان بالعمرة فيه قبل الحج.

مسألة ٦: تجب في عمرة التمتّع خمسة أمور:

الامر الاول: الإحرام من أحد المواقيت، وستعرف تفصيلها.

الامر الثاني: الطواف حول البيت.

الامر الثالث: صلاة الطواف.

الامر الرابع: السعي بين الصفا والمروة.

الامر الخامس: التقصير، وهو قصّ بعض شعر الرأس أو اللحية أو الشارب، فإذا أتى المكلف به خرج من إحرامه، وحلّت له الأمور التي كانت قد حرمت عليه بسبب الإحرام.

مسألة ٧: يجب على المكلّف أن يتهيّأ لأداء وظائف الحج فيما إذا قرب منه اليوم التاسع من ذي الحجة الحرام

وواجبات الحج ثلاثة عشر· وهي كما يلي:

١ - الإحرام من مكة، على تفصيل يأتي.

٢ - الوقوف في عرفات من ظهر يوم التاسع من ذي الحجة

٩

الحرام من بعد مايمضي من زوال الشمس مقدار الإتيان بالغسل واداء صلاتي الظهر والعصر - جمعا - إلى المغرب، وتقع عرفات على بعد أربعة فراسخ من مكة.

٣ - الوقوف في المزدلفة شطراً من ليلة العيد الى ماقبيل طلوع الشمس، وتقع المزدلفة بين عرفات ومكة.

٤ - رمي جمرة العقبة في منى يوم العيد، ومنى على بعد فرسخ واحد من مكة تقريباً.

٥ - النحر أو الذبح في منى يوم العيد أو في أيام التشريق.

٦ - الحلق أو التقصير في منى، وبذلك يحل له ماحرم عليه من جهة الإحرام ماعد النساء والطيب، وكذا الصيد على الاحوط.

٧ - طواف الزيارة بعد الرجوع إلى مكة.

٨ - صلاة الطواف.

٩ - السعي بين الصفا والمروة، وبذلك يحل الطيب أيضاً.

١٠ - طواف النساء.

١١ - صلاة طواف النساء، وبذلك تحل النساء أيضاً.

١٢ - المبيت في منى ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر، بل ليلة الثالثة عشر في بعض الصور كما سيأتي.

١٣ - رمي الجمار الثلاث في اليوم الحادي عشر والثاني عشر، بل وفي اليوم الثالث عشر أيضاً فيما إذا بات المكلف هناك على

١٠

الأظهر.

مسألة ٨: يشترط في حج التمتع أمور:

١ - النية(١) ، بأن يقصد الاتيان بحج التمتع بعنوانه، فلو نوى غيره أو تردد في نيته(٢) لم يصح حجه.

٢ - ان يكون مجموع العمرة والحج في أشهر الحج(٣) ، فلو أتى بجزء من العمرة قبل دخول شوال لم تصح العمرة.

٣ - ان يكون الحج والعمرة في سنة واحدة(٤) ، فلو أتى بالعمرة وأخّر الحج إلى السنة القادمة لم يصح التمتع، ولا فرق في ذلك بين أن يقيم في مكّة إلى السنة القادمة وبين ان يرجع إلى أهله ثم يعود اليها، كما لافرق بين ان يحل من إحرامه بالتقصير وإن يبقى محرماً إلى السنة القادمة.

____________________

(١) لكون الحج من أعظم العبادات، وهي متقومة بالنية.

(٢) اذ الترديد ينافي النية كما هو واضح.

(٣) نصا واجماعا، قال الله تعالى (الحج أشهر معلومات)·

(٤) بلا خلاف فيه بين العلماء قديما وحديثا، ويشهد له قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة ثم شبكصلى‌الله‌عليه‌وآله أصابعه بعضها في بعض ».

١١

٤ - ان يكون إحرام حجه من نفس مكّة مع الاختيار(١) ، وأفضل مواضعه المقام أو الحجر، وإذا لم يمكنه الإحرام من مكّة - لعذر - أحرم من أي موضع تمكن منه.

٥ - ان يؤدي مجموع عمرته وحجه شخص واحد عن شخص واحد(٢) ، فلو استأجر اثنان لحج التمتع عن ميت أو حي أحدهما لعمرته والآخر لحجه لم يصح ذلك، وكذلك لو حج شخص وجعل عمرته عن واحد وحجه عن آخر لم يصح.

مسألة ٩: إذا فرغ المكلّف من أعمال عمرة التمتّع لم يجز له الخروج من مكة لغير الحج على الاحوط(٣) ، إلا أن يكون خروجه

____________________

(١) راجع مواقيت الاحرام.

(٢) اذ عمرة التمتع جزء من الحج، فهما جزآن لعمل واحد، فنيابة شخصين لهما بمثابة نيابة شخصين لصلاة الصبح احدهما للركعة الاولى والثاني للركعة الثانية.

وتأمل فيه سيد العروة، واستظهر صحته من خبر محمد بن مسلم حيث قال: سألته عن رجل يحج عن أبيه ايتمتع ؟ قالعليه‌السلام : « نعم المتعة له، والحج عن أبيه »، وعلق عليه سيد المشايخ والأساتذة - الگلپايگاني - لا وجه للتأمل فيه والخبر غير واضح الدلالة مع عدم ظهور عامل به.

(٣) وجزم السيد الخوئي وأعاظم تلامذته بعدم الجواز تبعا للمشهور،

=

١٢

لحاجة - وإن لم تكن ضرورية -(١) ولم يخف فوات أعمال الحج،

____________________

=

سواء علم ان الحج يفوته بالخروج او احتمل او علم بعدم الفوت، ولعل منشأ احتياط الماتن دام ظله إختلاف الروايات اذ هي على طوائف ثلاث، طائفة تنهى عن الخروج حتى يحج، واخرى تُجوّز الخروج للحاجة، وثالثة تُجوّز الخروج للاماكن القريبة كالطائف وجدة.

والظاهر كون حرمة الخروج حكماً طريقياً تحفظياً لاداء وجوب الحج فيكون في مورد الخوف وعدم العلم بالرجوع - كما افاد بعض الاساتذة - ويؤيده بل يدل عليه إستبعاد موضوعية الخروج، ولعله مفاد صحيحة علي بن جعفر عن أخيهعليه‌السلام قال: « وسألته عن رجل قدم مكة متمتعا فحلّ أيرجع ؟ قال: لايرجع حتى يحرم بالحج ولايجاوز الطائف وشبهها مخافة أن لايدرك الحج، فان أحب أن يرجع الى مكة رجع، وإن خاف أن يفوته الحج مضى على وجهه الى عرفات » فعِلّة المنع هو خوف فوات الحج.

كما يؤيد ذلك مرسل الصدوق عن الصادقعليه‌السلام قال: إذا اراد المتمتع الخروج من مكة إلى بعض المواضع فليس له ذلك لانه مرتبط بالحج حتى يقضيه، إلا ان يعلم أنه لايفوته الحج، وإن علم وخرج وعاد في الشهر الذي خرج فيه دخل مكة محلا، وإن دخلها في غير ذلك الشهر دخلها محرما » ومرسلات الصدوق لاتقل قيمة عن مرسلات ابن ابي عمير بل لعلها أكثر اعتباراً، والتفصيل في محله.

(١) فيكفي أن تكون حاجة عرفية * والتسوق والنزهة وزيارة

=

١٣

وفي هذه الحالة إذا علم أنه يتمكن من الرجوع الى مكة والإحرام منها للحج فالأظهر جواز خروجه محلا(١) ، وإن لم يعلم بذلك أحرم للحج وخرج لحاجته، والظاهر أنه لايجب عليه حينئذ الرجوع الى مكة، بل له أن يذهب الى عرفات من مكانه(٢) .

____________________

=

الاصدقاء قد تكون في بعض الموارد من مصاديق الحاجة العرفية وقد لاتكون كذلك.

(١) الروايات دالة على جواز الخروج عند الحاجة بشرط الاحرام للحج، نعم قد يستظهر من صحيحة الحلبي وفيها « وما أحب أن يخرج منها إلا محرما ولايتجاوز الطائف، أنها قريبة من مكة » مبغوضية الخروج من غير احرام، إلا انه مع الإلتزام بحرمة الخروج يمكن ان تحمل هذه الرواية على الاماكن القريبة، فيكون هناك تفصيل ثالث في المقام، مضافا الى ان لفظة «ماأحب» ليست متمحضة في الكراهة بل قد تستعمل في الحرمة فلا يكون ظهورها أقوى من ظهور روايات الحرمة.

فإن كان مستند الماتن دام ظله هذه الصحيحة فقد عرفت الخلل في دلالتها، وإن كان الوجه عدم موضوعيةٍ للخروج فاحتياطه في اصل الفرض في غير محله والله العالم.

(٢) كما هو مقتضى صحيحة حماد وفيها « فإن شاء رجع الى مكة... وإن شاء كان وجهه ذلك الى منى »، مؤيدا بقولهعليه‌السلام في صحيحة ابن جعفر « فإن أحبّ أن يرجع الى مكة رجع، وإن خاف أن يفوته الحج مضى =

١٤

هذا، ولايجوز لمن أتى بعمرة التمتع أن يترك الحج اختيارا ولو كان الحج استحبابيا(١) ، نعم إذا لم يتمكن من الحج فالاحوط(٢) أن يجعلها عمرة مفردة فيأتي بطواف النساء.

* وإذا كان في عمرة التمتع أو الحج وترك أداء المناسك إلى أن انقضى الوقت المحدد لهما بطل إحرامه، وأما لو كان في العمرة المفردة فلا يخرج من إحرامه إلا بأداء مناسكها(٣) .

____________________

= على وجهه إلى عرفات»·

(١) لاطلاق الروايات الدالة على عدم الخروج من مكة بعد العمرة، وكون المعتمر مرتهن بالحج حتى يقضيه كما في جملة من الروايات، ولامقيّد من الاخبار بالحج الواجب.

(٢) ومنشأه ان الروايات الدالة على انقلاب الحج الى عمرة مفردة عند عدم التمكن من الحج هو فيما اذا احرم للحج ولم يتمكن، اما اذا لم يحرم فهو خارج عن فرض الروايات، هكذا أفاد سيد الفقهاء في المعتمد ثم أضاف لكن الاحوط ان يجعل عمرته عمرة مفردة لاحتمال إطلاق أدلة من فاته الموقفان، ولعل فيه مجال للتأمل اذ قول الصادقعليه‌السلام في صحيحة معاوية « أيما حاج سائق للهدي أو مفرد للحج او متمتع بالعمرة الى الحج قدم وقد فاته الحج فليجعلها عمرة وعليه الحج من قابل » شامل للمقام بإطلاقه، والله العالم.

(٣) لعدم تقيّدها بوقت معين.

١٥

مسألة ١٠: يجوز للمتمتع أن يخرج من مكة قبل إتمام أعمال عمرته اذا كان متمكنا من الرجوع إليها على الاظهر(١) ، وإن كان الاحوط تركه.

مسألة ١١: المحرّم من الخروج عن مكة بعد الفراغ من أعمال العمرة إنما هو الخروج عنها الى محل آخر، وأما المحلات المستحدثة التي تعد جزءا من المدينة المقدسة في العصر الحاضر فهي بحكم المحلات القديمة في ذلك، وعليه فلا بأس للحاج أن يخرج إليها بعد الفراغ من عمرته لحاجة أو بدونها.

مسألة ١٢: إذا خرج من مكة بعد الفراغ من أعمال العمرة من دون إحرام، ففيه صورتان:

الاولى: أن يكون رجوعه قبل مضي الشهر الذي اعتمر فيه، ففي هذه الصورة يلزمه الرجوع الى مكة بدون إحرام، فيحرم منها للحج،

____________________

(١) اذ الروايات الناهية عن الخروج كلها واردة في من أتم عمرته فلا تشمل فيما اذا كان في أثنائها، نعم إطلاق بعض الروايات المرسلة تشمل المقام كمرسل الصدوق عن الصادقعليه‌السلام قال: « إذا أراد المتمتع الخروج من مكة إلى بعض المواضع فليس له ذلك لانه مرتبط بالحج حتى يقضيه، إلا أن يعلم أنه لايفوته الحج... » ومثله مرسل أبان، مضافا الى الروايات الدالة على انه مرتهن بالحج ومجرد التلبس بالعمرة يتحقق الارتهان.

١٦

ويخرج الى عرفات.

الثانية: أن يكون رجوعه بعد مضي الشهر الذي اعتمر فيه، ففي هذه الصورة يلزمه الإحرام بالعمرة للرجوع إليها(١) ·

* فإن كان قاصدا وصل العمرة الثانية بالحج فعليه أن يقصد عمرة التمتع وتكون العمرة الاولى ملغية ولايجب لها طواف النساء(٢) .

مسألة ١٣: من كانت وظيفته حجّ التمتّع لم يجزئه العدول الى غيره من إفراد او قِران(٣) ، ويستثنى من ذلك من دخل في عمرة التمتع ثم ضاق وقته عن إتمامها، فإنه ينقل نيته الى حج الافراد ويأتي بالعمرة المفردة بعد الحج(٤) ، وفي حد الضيق المسوّغ لذلك

____________________

(١) لقولهعليه‌السلام في صحيحة حماد: « ان رجع في شهره دخل بغير احرام، وإن دخل في غير الشهر دخل محرما » وغيرها من الروايات.

(٢) والوجه فيه: ان الوجوب انما يتحقق فيما اذا قصد من اول الامر العمرة المفردة - كما هو فرض الروايات - اما اذا نوى عمرة التمتع وأحل منها وحلت له النساء، فلا دليل على حرمتها ثانياً، فالحكم بالوجوب بحاجة الى دليل.

(٣) حتى وإن كان التمتع استحبابياً.

(٤) بلا خلاف ولااشكال للنصوص المستفيضة المتظافرة، ففي =

١٧

خلاف(١) ، والأظهر وجوب العدول لو لم يتمكن من إتمام أعمال

____________________

= صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن رجل أهل بالحج والعمرة جميعا ثم قدم مكة والناس بعرفات فخشي إن هو طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يفوته الموقف، قال: « يدع العمرة فإذا أتم حجه صنع كما صنعت عايشة ولاهدي عليه » وفي حسنة - بل صحيحة - ابن يقطين قال: سألت أبا الحسنعليه‌السلام عن الرجل والمرأة يتمتعان بالعمرة إلى الحج ثم يدخلان مكة يوم عرفة، كيف يصنعان ؟ قال: يجعلانها حجة مفردة، وحد المتعة إلى يوم التروية »، وغيرها.

(١) بسبب اختلاف الروايات إذ هي على ست طوائف، الاولى: أن الحد هو غروب الشمس من يوم التروية، والثانية: السحر من ليلة عرفة، والثالثة: ليلة عرفة، والرابعة: ادراك الناس في منى، والخامسة: زوال الشمس من يوم عرفة، والسادسة: خوف فوات الموقف مطلقاً.

واختار سيد الفقهاء والمجتهدين ان الضيق المسوغ للعدول هو خوف فوات الركن من الوقوف الاختياري بعرفة، تمسكا بصحيحة الحلبي قال: سألت ابا عبداللهعليه‌السلام عن رجل أهل بالحج والعمرة جميعا ثم قدم مكة والناس بعرفات فخشي انه طاف وسعي بين الصفا والمروة أن يفوته الموقف بعرفات، قال: « يدع العمرة فإذا تم حجه صنع كما صنعت عائشة ولاهدي عليه» وفوات الموقف لايتحقق الا بفوات الركن، ودخوله مكة والناس بعرفة لازمه عدم درك الواجب بأكمله عدل او لم يعدل، لكون السير من مكة الى

١٨

عرفات في ذلك الزمان بحاجة الى أكثر من أربع ساعة كما لايخفي.

وبرواية محمد بن سرو قال: كتبت الى ابي الحسن الثالثعليه‌السلام : ماتقول في رجل متمتع بالعمرة الى الحج وافى غداة عرفة وخرج الناس من منى الى عرفات، أعمرته قائمة أو قد ذهبت منه ؟ إلى أي وقت عمرته قائمة إذا كان متمتعاً بالعمرة الى الحج، فلم يواف يوم التروية ولا ليلة التروية، فكيف يصنع؟ فوقععليه‌السلام : ساعة يدخل مكة، إن شاء الله يطوف ويصلي ركعتين، ويسعى ويقصر، ويخرج بحجته ويمضي الى الموقف ويفيض مع الامام » ومن المعلوم انه اذا دخل مكة غداة يوم عرفة لايمكنه درك الوقوف الواجب بأكمله.

وصحيحة يعقوب بن شعيب قال: سمعت أبا عبداللهعليه‌السلام يقول: « لابأس للمتمتع أن لم يحرم من ليلة التروية متى ماتيسر له، مالم يخف فوات الموقفين »، والخدشة في السند لوجود اسماعيل بن مرار مدفوعة لقول ابن الوليد ان كتب يونس بن عبدالرحمن التي هي بالروايات كلها صحيحة معتمد عليها إلا ماينفرد به محمد بن عيس بن عبيد، ومن عمدة من روى كتب وروايات يونس ابن مرار، مضافا الى امكان تبديل السند لتصحيحه فراجع الفهرست والمشيخة للشيخ.

وما ذكره: سيد الفقهاء في المعتمد من كون الصحيحة أجنبية عن المقام بدعوى أنها واردة في انشاء احرام الحج وفي مقام بيان أن احرام الحج غير مؤقت بوقت خاص وإنه يجوز الاحرام له في أي زمان شاء ما لم يخف فوت الموقفين.

وجيه في الجملة: لكن ببركة هذه الصحيحة يظهر قوة مااختاره الماتن

١٩

دام ظله، إذ يجوز للحاج تأخير الاحرام للحج ما لم يستلزم منه فوات الموقفين، ومن الواضح أن الجواز هنا مغيى بعدم فوت الواجب من الوقوف فضلا عن الركن منه، إذ لااحد يقول بجواز التأخير فيما اذا استلزم فوات الواجب من الوقوف.

فقولهعليه‌السلام «مالم يخف فوات الموقفين» ليس بالضرورة خوف فوات الركن، وإنما يختلف بإختلاف الاحكام والموارد، فالتمسك بمثل هذه العبارة - التي هي من فرض الرواة في بقية النصوص - للجزم بان الضيق المسوغ للعدول هو خوف فوات الركن ليس بصحيح، وكون الناس بعرفة - كما في صحيحة الحلبي - ليس بالضرورة أن الزوال قد تحقق بل عادة مايتواجد الناس بها قبل الزوال بكثير.

ويدل أيضاً على ما اختاره الماتن دام ظله صحيحة جميل عن ابي عبداللهعليه‌السلام قال: « المتمتع له المتعة الى زوال الشمس من يوم عرفة وله الحج الى زوال الشمس من يوم النحر » وهي على وفق القواعد، إذ بزوال يوم عرفة يبدأ واجب آخر وبه ينتهي ظرف الواجب السابق.

ومرفوعة سهل عن ابي عبداللهعليه‌السلام في متمتع دخل يوم عرفة، قال: متعة تامة الى ان يقطع التلبية » وقطع التلبية يكون بزوال عرفة، وهذان النصان حاكمان على بقية النصوص، ولايعارضان الطائفة السادسة - كما قدمنا - والفرض في المقام هو منتهى أمد عمرة التمتع، ولاربط له بالوقوف بعرفة، إذ حتى على القول المختار قد لايتسنى للحاج درك الواجب بأكمله من الوقوف كما إذا فرغ قبل الزوال بلحظة او عنده، سيما في الازمنة السابقة.

٢٠

الأجساد بألفي عام(١) . وفيه نظر، لاحتمال أن يكون المراد بالأرواح الملائكة، وبالأجساد العنصريّات. كذا قيل، فليتأمّل.

لا قدمها الذاتيّ الّذي [هو] عبارة عن عدم سبق الغير على موصوفه أصلا ومطلقا، وهو من خواصّ الحقّ تعالى لا يشركه فيه شيء.

ويدلّ عليه أدلّة التوحيد المسلّمة عند المحقّقين.

والقول به تدفعه البراهين الساطعة التي أقاموها على حدوث الأجسام وأعراضها ونفوسها المتعلّقة بها، وعلى أنّه لا قديم بالذات سوى الحقّ تعالى.

فيتّضح من ذلك فساد كلمة النصارى، حيث قالوا بقدم الأقانيم الثلاثة، والثنويّة القائلين بقدم النور والظلمة، والحرنانيّين بقدم الفاعلين الباري والنفس والمنفعل غير الحيّ وهو الهيولى، والدهر والخلأ وهما غير فاعلين ولا منفعلين.

وما ذكرنا من جواز تعدّد القدماء بالقدم الدهريّ هو مذهب أكثر الحكماء، ولا دليل على امتناعه أصلا، والتفصيل مذكور في محلّه ينافي الوجيزة.

وكذا ما اخترناه من ثبوت المعدومات لا ينافي التوحيد على جميع المسالك، لأنّ القديم عندهم ما لا أوّل لوجوده، ولا مدخل للثبوت في ذلك، وقد عرفت الوجه فيما أسلفناه.

وأمّا لو جعلنا «هل» بمعنى «قد» فكذلك لو صرفنا النفي إلى القيد، ولو

__________________

(١) أنظر بصائر الدرجات: ٨٨.

٢١

صرفنا إلى المقيّد فتدلّ الآية على نفي القدم مطلقا، كما هو مسلك بعض المتكلّمين.

بوارق

الاولى: ذكر بعض الحكماء أنّ الشيئيّة إنّما هي من المعقولات الثانية الّتي ليست لها هويّات خارجيّة متأصلة بذاتها، متصوّرة بنفسها، متعقّلة أوّل الأمر، قائمة بموضوعاتها في الخارج بحيث يكون بإزائها شيء، بل هي أمر انتزاعيّ ينتزعها العقل من المهيّة حين وجودها أو ثبوتها، ومثلها الوجود والوحدة والكثرة والعلّيّة والمعلوليّة ونحو ذلك، وذلك واضح.

وبرهانه: أنّ الشيئيّة المطلقة لو كانت متأصّلة لزم أن يكون بإزائها شيء في الخارج وليس، فليس، ويتفرّع على ذلك امتناع ثبوت شيء بلا خصوص المهيّة. والتفصيل يطلب من الحكمة.

الثانية: قال الطبرسيّ رحمه الله: «لم يكن شيئا» جملة في محلّ الرفع، لأنّها صفة «حين»، والتقدير: لم يكن فيه شيئا مذكورا(١) .

أقول: ويحتمل أن يكون في محلّ النصب، لكونها حالا من «الإنسان» والرابطة هي المستتر، وهو الأولى لعدم الحاجة إلى التقدير.

الثالثة: قال بعض العارفين: إنّ الآية الشريفة تدلّ على بطلان القول بالتناسخ الّذي هو عبارة عن وجود شخص مرّة أخرى بعد وجوده في حين آخر، وهكذا لأنّه لو وجد إنسان قبل وجوده الآن لم يصدق أنّه أتى عليه، أي سبق على وجوده ومضى على ما هو إنسان بالقوّة زمان غير معيّن لم يكن فيه

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥: ٦١١.

٢٢

شيئا مذكورا، ضرورة أنّه لو كان موجوداً مرّة أخرى كان شيئا مذكورا في حين.

وعلى بطلان القول بقدم النفوس الناطقة مطلقا دهريّا وذاتيّا، لأنّ الدهر عبارة عن زمان وجود العالم من أوّله إلى آخره، والحين بعضه، فلو كانت النفس قديمة لما صحّ القول بأنّه لقد مضى عليها حين لم يكن شيئا مذكورا.

هذا حاصل كلامه.

الرابعة: من التفسيرات المليحة، تفسير «الإنسان» في الآية بـــ«القائم المهديّ المنتظر» عجّل الله فرجه، والمذكور بالشهود، أي: قد أتى على ابن الحسن العسكريّ عليه السلام زمان لم يكن فيه مشهودا مرئيّا للناس لعدم استعدادهم لرؤيته والفوز بمشاهدته وهو زماننا هذا، زمن الغيبة الطويلة.

فأخبر الله تعالى عن ذلك الزمان بلفظ الماضي، إشارة إلى أنّه يكون لا محالة كما في قوله:( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) (١) و( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) (٢) و( فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) (٣) .

وأمثال ذلك مطّردة في فصيح الكلمات.

هذا على تفسير «هل» بـــ«قد» وأمّا على تفسيرها بـــ«ما» فالمراد بالآية الإخبار عن لزوم الحجّة القائمة لكلّ أمّة في جميع الأعصار، فما مضت أمّة إلّا وقد أخبر نبيّها بالقائم الهادي المهديّ الّذي يجعل الأديان كلّها دينا واحدا

__________________

(١) النحل: ١.

(٢) القمر: ١.

(٣) النبأ: ١٩ ـ ٢٠.

٢٣

ويحمل الناس كلّهم على عبادة الله مخلصين له الدين، لا يشركون به شيئا.

فمعنى كونه عليه السلام «مذكورا» هو كونه بحيث يذكره كلّ نبيّ من آدم عليه السلام إلى محمّد صلّى الله عليه وآله الناسخ لجميع الأديان، والباقي دينه إلى آخر الزمان وأممهم بالذكر الحسن، وينتظرون فرجه، ويفرحون بمشاهدته، ويعتقدون بمجيئه وتمكنه من الأرض كلّها، وإن طالت المدّة، وعمّت الشدّة، ولا يشكّون في أمره، ولا يضلّون بغيره إلّا شرذمة مبتدعة.

أما طالعت أيّها الطالب، الفصل الثامن والسبعين من كتاب «مار متّى» من تلاميذ يسوع المسيح عليه السلام؟ فإنّه ذكر فيه: أنّ المسيح عليه السلام قال بعد كلام له لـمـّا سأله تلاميذه عن انقضاء الزمان ومجيء ابن الإنسان: الويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيّام، وسيكون ضيق عظيم لم يكن مثله من أوّل العالم حتّى الآن، ولا يكون ولو لا أنّ تلك الأيّام قصرت لم يخلص ذو جسد، لكن لأجل المنتجبين قصرت تلك الأيّام، حينئذ إن قال لكم: إنّ المسيح هنا أو هاهنا فلا تصدّقوا، فإن قالوا لكم: إنّه في البريّة فلا تخرجوا، وكما أنّ البرق يخرج من المشرق فيظهر في المغرب، كذلك يكون مجيء ابن البشر، وللوقت من بعد ضيق تلك الأيّام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوء، والكواكب تتساقط من السماء، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، وتنوح حينئذ كلّ قبائل الأرض، وترون ابن الإنسان آئبا على سحاب السماء إلى آخره.

وقريب من ذلك ما في كتاب «مارلوقا» و «مار مرقص» من تلاميذ عيسى عليه السلام.

٢٤

وعنه أيضا قد أخبر الله في «التوراة» وغيرها من الكتب السماويّة، فكان عليه السلام مذكورا في جميع الأعصار في كلّ أمّة إلى ذلك العصر، فإنّه مذكور في لسان أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله برفيع الذكر إلى زمان حضوره عليه السلام فيذكر فيه بذكر مناسب لذلك الزمان على التفصيل المذكور في كتب أخبارنا.

ويدلّ على ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» في قوله:( الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) (١) بـــ«القائم عليه السلام» أيضا. أي: الله بصفته الرحمانيّة لقد علّم محمّدا القرآن وأمر أمّته بما فيه ظاهرا، وخلق القائم عليه السلام الّذي من نسله وعلّمه بيان حقائق القرآن، وأجاز له الحكم بباطنه في زمانه، كما قال:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) (٢) فزمان البيان متأخّر عن زمان القرآن، لمكان «ثمّ» الدالّة على التراخي قطعا.

وقريب من ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» بـــ«عليّ عليه السلام» فإنّه كان مذكورا في جميع الأعصار والدهور بنوع من الذكر، وكان مع كلّ نبيّ من آدم إلى محمّد بصور مختلفة، كما قال: نحن نظهر في كلّ زمان على صورة.

ويدلّ على ذلك أيضا ما بيّنه عليه السلام في بعض خطبه المشهورة، كما لا يخفى على من تتبّعها.

__________________

(١) الرحمن: ١ ـ ٤.

(٢) القيامة: ١٧ ـ ١٩.

٢٥

ويدلّ على ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» في قوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (١) بـــ«عليّ عليه السلام». أي: حمل «عليّ» الولاية الخاصّة واتّصف بها، وكان مظلوما لتصدّي غيره الغير المستحقّ لبعض خواصّها، مجهول القدر والمقام بين أكثر الناس.

فإنّهم لو كانوا عرفوه بالنورانيّة والروحانيّة لما اختاروا غيره عليه، وما جعلوا غيره متبوعا!

فإنّ مقامه عليه السّلام مقام ساذجيّ لا يدركه ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان سوى الإجمال منه، كدرك الأدنى مقام الأعلى، وذلك واضح، فمن أدرك مقامه عليه السّلام ورتبته في القرب ولو إجمالا لا يصطفي عليه غيره بحقيقة الإيمان، فإعراضهم عنه عليه السّلام ونصبهم غيره دليل بيّن على أنّهم ما عرفوا نورانيّته فضلّوا ولم يهتدوا سبيلا.

وهذا التفسير أيضا ممّا لم يذكره أحد من المفسّرين، فاغتنم وكن من الشاكرين.

قال الله جلّ برهانه:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) .

أقول: ليس المراد من «الإنسان» في تلك الآية المشيّة التي عبّر عنها بـــ«الإنسان» في الآية المتقدّمة، لأنّها كما عرفت ما خلقت من النطفة، بل

__________________

(١) الأحزاب: ٧٢.

٢٦

خلقها الله من نفسها، وخلق الأشياء كلّها منها وبها، وهي بأجمعها راجعة إليها، ساجدة لها، متحيّرة فيها، مقبلة عليها، فهي الحاكمة على الكلّ في الكلّ، والمشهودة في الكلّ للكلّ، والمحيطة بالكلّ، والسارية في الكلّ.

فالكلّ بوجودها قائمون، وفي اكتناه مقامها متحيّرون، فهي العلّة الثانويّة لوجود كلّ شيء، والمبدأ لخلق كلّ شيء، كما قال:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) (١) .

وقال عليه السّلام: إنّ الله خلق الأشياء بالمشيّة(٢) .

ولعلّ هذا هو السرّ في تكرار لفظ «الإنسان» مع أنّ المقام مقام الإضمار، كما لا يخفى.

نعم يحتمل كونها مرادة منه في تلك الآية أيضا بملاحظة أنّه تعالى أراد أن يخبر عن الخلق الجديد الثانويّ للمشيّة، وهو إبرازها في الهيكل الناسوتيّ العنصريّ الجسمانيّ، أي لقد أتى على المشيّة حين من الدهر كانت روحانيّة ساذجيّة غير مكبولة بالجسد العنصريّ، ثمّ ألبسناها لباس العنصريّات، وخلقناها من النطفة، وهي ماء الرجل والمرأة.

وأكثر المفسّرين لقد فسّروا «الإنسان» بولد آدم عليه السّلام خاصّة نظرا إلى أنّهم خلقوا من النطفة الكذائيّة دون آدم عليه السّلام، فإنّه خلق من صلصال من طين على التفصيل المسطور في كتب الأخبار.

وبعضهم بجميع أفراد البشر، فيشمل آدم عليه السّلام أيضا نظرا إلى أنّ

__________________

(١) النساء: ١، الأعراف: ١٨٩، الزمر: ٦.

(٢) الكافي ١: ١١٠.

٢٧

باب التغليب واسع، ولا يخفى أنّه لا حاجة إلى ذلك الاعتذار لو فسّرت النطفة بالمادّة منيّا كانت أو غيرها، وسيأتي إلى ذلك الإشارة إن شاء الله.

بوارق

الاولى: في نسبته تعالى خلق الإنسان إلى نفسه إشارة إلى ما هو المقرّر في مقامه، من أنّ الممكن الحادث محتاج إلى المؤثّر القديم، فلا يمكن له الوجود بنفسه من غير تأثير المؤثّر الواجب.

وادّعى جماعة من الحكماء على ذلك أنّه ضروريّ أوّليّ، فإنّ العقل بعد تصوّر الممكن من حيث يتساوى طرفاه بالنظر إلى ذاته، وتصوّر المؤثّر المرجّح لأحد الطرفين على الآخر يجزم بأنّ الممكن محتاج في حصول الوجود أو العدم إلى المرجّح ويحكم ببداهة ذلك.

وبعضهم جعلوا بطلان وجود الممكن بنفسه من غير حاجة إلى العلّة القديمة نظريّا، واستدلّوا عليه بوجوه كثيرة لا يخلو بعضها عن وهن.

منها: أنّ مهيّة الممكن تقتضي تساوي الطرفين، ووقوع أحدهما بلا مرجّح مستلزم لرجحانه، وهو مناف للفرض.

ومنها: أنّ الواجب ما كان بذاته منشأ لانتزاع الوجود من غير حاجة إلى العلّة، والممتنع ما كان ذاته منشأ لانتزاع العدم من غير حاجة إلى شيء آخر، والممكن ما ليس ذاته منشأ لانتزاع شيء من الوجود والعدم، بل طريان كلّ منهما له محتاج إلى ضمّ علّة، فلو كان ذاته بذاته منشأ لانتزاع الوجود من غير حاجة إلى ضمّ علّة لزم كونه واجبا، فإنّ المستغني بنفس ذاته عن العلّة مطلقا هو الواجب القديم الّذي يعبّر عنه المشّائيّون بالوجود الحقيقيّ.

٢٨

والإشراقيّون بالنور العينيّ.

والمتألّهون بمنشأ انتزاع الموجوديّة.

والصوفيّة بمرتبة الأحديّة وحضرة الجمعيّة وعين الكافور والوحدة الحقيقيّة وغير ذلك، واللازم باطل، فلا بدّ من كونه مفتقرا إلى علّة، وهو المطلوب.

ومنها: أنّ الممكن ما لم يترجّح لم يوجد، لأنّ ذلك هو قضيّة الإمكان، وذلك الترجّح أمر حادث لم يكن فيكون وجوديّا، فلا بدّ له من محلّ، وليس هو الأثر لتأخّره عن الترجّح، فيكون هو المؤثّر، وهو المطلوب.

ولهم أدلّة أخرى مذكورة في الكتب المبسوطة في الحكمة.

ويدلّ على ذلك أيضا بعض ما دلّ على وجوب وجود صانع حكيم، كدليل الدور ونحوه. ولسنا نحن بصدد التفصيل.

ثمّ هل الممكن كما يحتاج في وجوده إلى العلّة يحتاج في بقائه إليها أم لا، مسألة خلافيّة متفرّعة على أنّ علّة احتياج الممكنات إلى المؤثّر هل هي الإمكان أو الحدوث، فمن قال بالأوّل ـ كما هو المشهور ـ قال بالأوّل، ومن قال بالثاني قال بالثاني، إذ لا حدوث حال البقاء فلا احتياج.

دليل المشهور: أنّ العقل حاكم بأنّ الممكن ما يتساوى وجوده وعدمه، وما كان كذلك فهو محتاج إلى المرجّح المغاير حتى يرجّح أحد الطرفين، فيعلم منه أنّ علّة الحاجة في الواقع هي الإمكان، حيث رتّب العقل الاحتياج على تساوي الوجود والعدم، وأنّه قد يتصوّر الممكن ولا يحصل العلم باحتياجه إلى المؤثّر ما لم يلاحظ إمكانه حتّى لو فرض حادث واجب بالذات يحكم باستغنائه عن المؤثّر.

٢٩

وبعد ثبوت أنّ علّة الحاجة هي الإمكان يتّضح القول بأنّ الممكن الباقي حال بقائه محتاج إلى المؤثّر، فإنّ الإمكان لازم لمهيّة الممكن غير منفكّ عنها حال البقاء أيضا، فإنّ الممكن إنّما يصير ممكنا بوصف الإمكان بالضرورة، فمتى تحقّق العلّة وهي الإمكان يتحقّق المعلول وهو الحاجة بالبديهة، ضرورة وجوب تحقّق المعلول بتحقّق علّته التامّة. وذلك واضح.

واستدلّ الآخرون بأنّ تأثير المؤثّر في الباقي محال، لأنّه إن أفاد الوجود الّذي كان حاصلا يلزم تحصيل الحاصل، وإن أفاد أمرا متجدّدا لم يكن التأثير في الباقي، بل في ذلك الأمر المتجدّد، وبأنّ البناء كما يبقى بعد فناء البنّاء، كذلك يجوز أن يبقى الممكن من غير احتياج إلى المؤثّر.

وأجيب عن الأوّل بأنّ المؤثّر يؤثّر في استمرار الوجود وبقائه، فإنّ الحاصل بالحدوث ليس إلّا الوجود في زمانه، وحصول شيء في زمان لا يوجب حصول استمراره وبقائه، فإبقاء الوجود وإدامته من المؤثّر وهو غير حصول نفس الوجود.

وعن الثاني بأنّ الكلام في العلّة الموجدة وليس البنّاء موجدا للنباء، وإنّما هو علّة لحركات الآلات، وتلك الحركات علل عرضيّة معدّة لأوضاع مخصوصة بين تلك الآلات، وتلك الأوضاع مفاضة من علل فاعليّة غير تلك الحركات المستندة إلى حركة يد البنّاء.

ويتّضح من ذلك كلّه أنّ الغنيّ المطلق عن كلّ شيء هو الذات الأحديّة، فإنّها في مقامها الجليل ورتبتها الجليلة غير مفتقرة إلى شيء في الذاتيّة والوجود والبقاء التي هي شيء واحد بحقيقة الواحديّة في عالم الحقّ، لأنّ

٣٠

ذلك من لوازم العينيّة المسلّمة، وأنّ غيرها من الأشياء الممكنة محدثة بأمرها، موجودة بإفاضة الوجود منها إليها لها، باقية بإدامة رحمتها بها بحيث لو كان فيض الحقّ منقطعا عنها في أوّل الأمر لما كانت شيئا مذكورا.

وكذا لو انقطع الفيض الآن لما يبقى شيء. ونعم ما قيل: إنّ الممكن بالنسبة إلى فيض الحقّ كالمستضيء في مقابلة الشمس إذا حجب عنها زال ضوؤه وصار مظلما.

الثانية: في تعليق «الخلق» على «الإنسان» وإيقاعه عليه إشعار بأنّ المهيّات غير مجعولات بجعل الجاعل، كما هو مذهب بعض الحكماء.

والدليل على ذلك الإشعار أنّ تعليق أمر على الشيء فرع ثبوت ذلك الشيء، فقوله( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) (١) معناه إنّا أوجدنا مهيّة الإنسان الثابتة، وألبسناها لباس الوجود، وأصبغناها بذلك الصبغ، كما يفعل الصبّاغ بالثوب، فالمهيّة شيء ثابت أزلا، والوجود شيء آخر يعرضها عروض الوصف بالموصوف.

كذا قد يخطر بالبال، وللمناقشة فيه مجال، لأنّ تعليق الأمر على شيء يتصوّر على وجهين :

الأوّل: أن يكون ذلك الأمر من الأوصاف الصرفة التي ينفكّ عن الموصوف المتصوّر، كزينة البيت، وصبغ الثوب، ونحو ذلك.

والثاني: أن يكون من الأوصاف اللازمة المقارنة التي هي في نفس الأمر مقدّمات وشرائط للشيء، كبناء البيت، ونسج الثوب.

__________________

(١) الإنسان: ٢.

٣١

ولا يخفى أنّ الأمر المعلّق إذا كان من الأوّل يجب ثبوت المعلّق عليه قبل التعليق، ولا يستلزم المقارنة، فإنّك إذا قلت: صبغت الثوب، يفهم منه ثبوت الثوب أوّلا حتّى يصبغ، وإذا كان من الثاني فلا يستلزم الثبوت السابق، بل التعليق يدلّ على المقارنة، فإنّك إذا قلت: بنيت البيت، يفهم منه أنّ ثبوت البيت قارن بناءه، وذلك واضح.

ولعلّ «الخلق» من ذلك القبيل، أي أوجدنا الإنسان وجعلنا مهيّته مهيّة مقارنة لوجوده، بمعنى أنّا جعلنا المهيّة المعقولة موجودة في الخارج بالجعل البسيط الّذي [هو] عبارة عن موجوديّة المهيّة في الخارج من غير أن تكون شيئا ثابتا في نفسها قبل ذلك، فيصبغها الجاعل بصبغ الوجود، كفعل الصبّاغ.

والحاصل أنّ فعل الحقّ للمهيّة وجعله لها هو بعينه إيجادها في الخارج، واتّصافها بالوجود مقارن لثبوتها، بل لا تمايز بينهما في الخارج حينئذ أصلا.

نعم يحصل التمايز بالتحليل العقليّ، وهما في غير خزينة العقل شيء واحد ثابتان في آن واحد، ألا ترى أنّ المتحرّك إذا تحرّك لا يجعل الحركة ولا شيئا آخر حركة، بل يفعل الحركة، وبمجرّد فعله لها تصير موجودة.

وكذا الخطّاط إذا خطّ لا يجعل الخطّ ولا شيئا آخر خطّا، بل يفعل الخطّ، وبمجرد فعله يصير موجودا في الخارج.

وهكذا، لا الجعل المركّب الّذي [هو] عبارة عن جعل الماهيّة إيّاها أوّلا، ثمّ إطراء الوجود عليها بحيث يكون كلّ منهما متميّزا عن الآخر، فإنّ

٣٢

ذلك باطل للزوم الجبر المنفيّ عقلا وشرعا، ولاستلزام وقوع الشكّ في كونها مهيّة عند الشكّ في وجود المؤثّر الجاعل. وهو باطل، فتأمّل.

وهنا مسلك آخر لبعض الحكماء، وهو أنّ الماهيّات قديمة أزليّة ثابتة بنفسها من نفسها غير مجعولة بجعل الجاعل، ولا تأثير للباري فيها لأزليّتها، وإنّما الباري خلعها خلعة الوجود، وصبغها بصبغ الوجود، كما قال:( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) (١) فزمان الإيجاد غير زمان الثبوت متأخّر عنه، كيف وهي الحقائق الأزليّة الّتي أشار إليها عليّ عليه السلام في دعاء «سهم الليل» حيث قال: أللّهمّ إنّي أسألك بالحقائق الأزليّة(٢) إلى آخره، فتأمّل.

فقوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) معناه: إنّا أبدعنا وجوده وأثّرنا فيه لا في مهيّته، والقول بأنّ الوجود أمر اعتباريّ لا يصلح، لكونه أثرا للمؤثّر ممّا لا نفهمه.

والحاصل أنّه تعالى لقد أشار في تلك الآية إلى تأثيره الاختراعيّ بالنسبة إلى الوجود خاصّة، وهو التأثير الإبداعيّ على هذا المسلك، لا بالنسبة إلى المهيّة لأزليّتها، وبعض الحكماء يطلقون التأثير الاختراعيّ على إفاضة الأثر على قابل كالصور والأعراض على المادّة القابلة، والإبداعيّ على إيجاد الأليس عن الليس المطلق.

الثالثة: قال بعض العارفين: إنّ التقديم مع التأكيد والتقرير في قوله: ( إِنَّا

__________________

(١) البقرة: ١٣٨.

(٢) انظر: البلد الأمين: ٣٤٩، مصباح الكفعميّ: ٢٦٥.

٣٣

خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) مفيد للحصر، وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهّم من إسناد التصوير إلى المصوّرة، فإنّ الفطرة السليمة تشهد بأنّ المصوّرة مركّبة كانت أو بسيطة لا تمكّن لها من هذا التصوير العجيب والتشكيل البديع الغريب، فإنّ البنيّة البهيّة الإنسيّة خلقت بوجه يترتّب عليها بأجزائها منافع شتّى.

وقد أشار الحكماء إلى خمسة آلاف منها، وقالوا: إنّ الحدس الصائب يحكم بأنّ الّذي لم يدرك من منافعها أكثر بكثير ممّا أدرك.

قال جالينوس في آخر كتابه لشرح منافع الأعضاء: إنّي بعد ما عرفت هذه المنافع تنبّهت بأنّ خلق الإنسان وأعضائه ليس باتّفاق، بل روعي فيه تلك المنافع ومصالح أخرى ليس إلّا فعل حكيم خبير قدير. انتهى.

ثمّ إنّ الغزاليّ أسند أفعال المصوّرة، بل أفعال القوى كلّها إلى الملائكة، وإنّي أستفيد من هذه الآية وغيرها ردّ هذا أيضا، فإنّ من تفطّن بها تأكيدا وحصرا وعرف أنّ الإنسان في العلم والعرفان أكثر من الملك بكثير، ونبّه بأنّ الخالق الفاعل لهذا التصوير عليم بالمنافع خبير حكيم، علم أنّه ليس ذلك إلّا فعل فاعل الكلّ ومصوّره، وأنا أرى أنّه كما يستفاد من إتقان العقل وأحكامه علم العقل كما قرّروه واستدلّوا به على علمه تعالى، كذلك يستفيد اللبيب البصير الخبير من حال إتقان المصنوع كيفيّة وكمّيّة علم الصانع، بل كثيرا من صفاته. انتهى ملخّص كلامه.

وحاصله يرجع إلى ما قرّرناه من افتقار الممكن إلى المؤثّر الواجب، ومن أنّ الممكن لا يجوز أن يصير منشأ لوجود نفسه، فلا يمكن أن يصير منشأ لوجود غيره إلّا بالتوسيط، ومن أنّ فاقد الشيء لا يصلح لأن يكون موجدا له، كما قيل:

٣٤

ذات نايافته از هستى بخش

كى تواند كه شود هستى بخش

ولكن ما استفاده من بطلان التفويض والتوسيط فغير مستفاد، لأنّ الشيء كثيرا ما يستند إلى العلّة التامّة، فيقال: أثمر الله، وأنبت الله.

ولا ريب في أنّ الله هو العلّة لجميع العلل، فكيف ينكر عليه في نسبته الخلق إلى ذاته خاصّة مع الحصر، كيف ونسبة الشيء إلى غير العلّة التامّة من العلل المعدّة مجازيّة، يقال: أثمر الشجر، وأنبتت الأرض، وإن صحّت تلك النسبة أيضا.

ألا ترى إلى قوله تعالى:( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ) (١) وقوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (٢) كيف نسب التوفّي تارة إلى نفسه، وتارة إلى الملك.

ولا ريب أنّ الأوّل حقيقيّ، كما قال:( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) (٣) وإن كان بواسطة الغير.

ألا ترى أنّ الأشياء كلّها خلقت من المشيّة مع أنّه ينسب الخلق إلى الحقّ، كما قال:( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٤) وربّما ينسب إلى المشيّة، نظرا إلى كونها واسطة، كما قال عليه السلام: أنا خالق السماوات والأرض بإذن ربّي.

وذلك واضح، فليس في الآية دلالة على أنّ الله خلق الإنسان بمباشرة ذاته من غير أن يفوّض إفاضة الوجود إليه إلى غير، وإن كان القول بالتفويض

__________________

(١) النحل: ٧٠.

(٢) السجدة: ١١.

(٣) غافر: ٦٨.

(٤) الزمر: ٦٢.

٣٥

بذلك المعنى باطلا بدليل آخر، وهنا أبحاث كثيرة لا يسعها المقام، ولا يتحمّلها أكثر الأنام.

الرابعة: يحتمل أن يكون المراد من النطفة ما هو المنشأ للوجود وهو المشيّة الأزليّة الّتي هي العلّة لوجود الأشياء الممكنة كما عرفت، وتخصيص الإنسان بالذكر لأنّ له من المقام والشرف ما ليس لغيره من الأشياء الّتي خلقت من المشيّة وبها.

وفي توصيف النطفة بالأمشاج الّتي هي الأطوار المختلفة إشارة إلى تطوّرات المشيّة وتحوّلاتها وترقّياتها وتعرّجاتها في حدّ ذاتها، فإنّها لا تزال يفيض الحقّ إليها في جميع الأحوال والأعصار بحسب ما يعلمه من المصلحة والقوّة.

ألا ترى أنّ للنطفة تحوّلات وتنقّلات بحسب الاستعداد. وإن فسّرنا «الإنسان» بمحمّد صلّى الله عليه وآله حينئذ، ففيه إشارة إلى مبادئ حاله صلّى الله عليه وآله ونهاية مآله.

أي لقد ترقّينا بمقام محمّد، بأن جعلناه إنسانا كاملا في الأنس بالحقّ، والفوز بنور الصدق بحيث لا مقام أعلى من مقامه، ولا معراج أرفع من معراجه، بعد ما كان في أوّل الأمر غير كامل واقعا موقع النطفة المستعدّة لتلك المرتبة، وذلك في زمان تشكّله بشكل آدم عليه السّلام، فإنّه في تلك الصورة له مقام النطفة. وهكذا إلى أن برز في هيكله الشريف الّذي كان عليه في زمانه بعد وساطة سائر المراتب كمرتبة نوح وإبراهيم وعيسى وموسى عليهم السّلام.

٣٦

ولقد أشار إلى تلك المراتب والتحوّلات بقوله:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) ويناسب ذلك التفريع في قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) أي جعلنا محمّدا في ذلك الهيكل الشريف والمقام المنيف، سميعا لكلماتنا المنزّلة، قابلا للحقائق الّتي ما اطلعنا على علمها أحدا من العالمين، بصيرا بآياتنا الجماليّة والجلاليّة، والبوارق الجذبيّة، والبارقات الكشفيّة الّتي لا يستطيع لها مادّة سوى مادّته الشريفة الّتي استعدّت من الأزل.

وهنا مطالب مكنونة لم يعثر عليها سوى العارفين، ولسنا نذكرها لما فيه من مظنّة ضلالة الغافلين.

وقيل: «النطفة» هي ماء الرجل الخارج من الصلب، وماء المرأة الخارج من الترائب، فما كان من عظم وعصب وقوّة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم فمن المرأة.

وعن بعض الحكماء أنّ المراد بها العناصر المعروفة، أي ركّبنا الإنسان من تلك العناصر على التفصيل المقرّر في مقامه.

و «الأمشاج» إمّا جمع لمشج ومشيج، كالخلط والخليط، والجمع أخلاط، وإمّا مفرد بمعنى المشيج، فيستقيم التوصيف، كما في الثوب الأكياس، أي نطفة مختلطة من الماءين.

وقيل: أي نطفة أطوار متغيّرة من حال إلى حال، طورا علقة، وطورا

__________________

(١) المؤمنون: ١٢ ـ ١٤.

٣٧

مضغة، وطورا عظاما، إلى أن صار إنسانا.

وقيل: مختلفة اللون، فإنّ نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء.

وقيل: أي نطفة مشجت بدم الحيض، فإذا حبلت ارتفع الحيض. والكلّ محتمل.

الخامسة: قال الطبرسيّ رحمه الله: «نبتليه» في موضع نصب على الحال(١) . انتهى.

أقول: هذا على المذهب المشهور متعيّن، وأمّا على مذهب من أجاز تقديم الوصف على الموصوف سيّما في مقام يراعى فيه السجع فالتعيين لا دليل عليه، فيحتمل كونه في موضع النصب على الوصفيّة لقوله:( سَمِيعاً بَصِيراً ) بل هو الأقوم لأنّه لا وجه للابتلاء قبل جعله سميعا بصيرا، إذ المراد به هو الاختبار بالتكليف ليظهر حاله من السعادة والشقاوة إلّا على تفسير «الإنسان» بمحمّد صلّى الله عليه وآله والنطفة الأمشاج بمراتب المشيّة، فإنّه صلّى الله عليه وآله لقد اختبر بالتكاليف في تلك المراتب السابقة بحسبها، وفي المرتبة الأخيرة الّتي هي نهاية المراتب بحسبها.

والإخبار عن جعله سميعا بصيرا بحسب تلك الرتبة لا ينفي كونه سميعا بصيرا في غيرها من المراتب بحسبها، فإنّ للإنسان الواحد تكاليف مختلفة في الأزمنة المختلفة. وذلك واضح.

والتكاليف الّتي اختبر الله بها محمّدا إمّا تعمّ التكاليف الّتي كلّف بها

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥: ٦١١.

٣٨

لأجل نفسه من الطاعات والرياضات وما كلّف به لأجل الخلق كالدعوة إلى الإيمان والأمر بالعمل بما في القرآن، كما قال( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (١) .

ولقد كان محمّد عبده الخاصّ ورسوله الّذي اصطفاه واختبره بجميع أنواع الاختبارات، فوجده قويّا لحمل التكاليف، جليدا في طاعة الخالق، صابرا على كلّ ما يصيبه في سبيل المرضاة، راضيا بجميع ما جرى عليه، كما قال:( إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) فأعطاه من الشرف والمقام ما لم يعط أحدا من العالمين، حيث قال( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً ) (٣) أي للكلمات الإلهيّة، والتغنّيات اللاهوتيّة، والترنّيات الهاهوتيّة، والتفرّدات الملكوتيّة الإنسيّة( بَصِيراً ) أي بمشاهدة الأنوار القدسيّة، والشعاشع الجذبانيّة، واللوامع الربّانيّة.

ثمّ لا يخفى أنّ الابتلاء في ذلك الكلام وغيره ممّا نطق به القرآن ليس على حقيقته، إذ حقيقة الابتلاء هو طلب الاطّلاع على المجهول، ولا يتصوّر جهل على الحقّ الموصوف بجميع صفات الكمال على أكمل الاتّصاف.

كيف ولا يعزب عن علمه شيء، وهو بكلّ شيء عليم.

كيف وهو العالم بما كان قبل أن يكون، والمطّلع على أحوال كلّ شيء قبل خلق كلّ شيء، فلا شيء إلّا وهو العالم به قبل وجوده، والمطّلع على جميع أحواله قبل شهوده، ولا تغيير في علمه أصلا.

__________________

(١) المائدة: ٦٧.

(٢) القلم: ٤.

(٣) الإنسان: ٢.

٣٩

كيف ويعلم بكلّ شيء قبل خلقه كما يعلم به بعد خلقه، وذلك من الواضحات الّتي قد برهنّا عليها في بعض فوائدنا الشريفة.

بل المراد منه إتمام الحجّة على الخلق، وإعلامهم بما هم عليه من السعادة والشقاوة، فإنّ السعيد هو المفطور على السعادة في بطن أمّه، أي في قابليّته الأزليّة، وكذلك الشقيّ مذوّت على الشقاوة من أوّل الأمر، ولكن لـمـّا كان الفريقان لم يعلما بما هم عليه أوجدهم الله وابتلاهم بالتكاليف، وأرسل إليهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ليطّلعوا على أحوالهم، ولئلّا يكون لهم على الله حجّة يوم القيامة، الّذي هو يوم بروز حقائق كلّ شيء بما هي عليه، وهو اليوم المشهود فيه خفايا ذوات كلّ شيء، كما قال:( ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) (١) وقال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) (٢) وهنا أبحاث كثيرة لا يفهمها كثير من الأنام.

هذا على المذهب المختار، وأمّا على مذهب من زعم أنّ الله تعالى لا يعلم بالشيء إلّا بعد حصوله في الخارج، ولا يلمع نور علمه على الشيء إلّا بعد البروز، كما لا ينوّر الشمس مكانا إلّا بعد رفع الحاجب المانع عن الاستضاءة والاستنارة، فالابتلاء على حقيقته، فإنّه تعالى على ذلك يريد أن يطّلع على ما لم يحط به علمه.

ولا يخفى سخافة ذلك المذهب، كما فصّلنا وجهها في بعض تحقيقاتنا.

السادسة: قد استفاد بعض العارفين من قوله: ( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) أنّ الإنسان بمزاجه في تركيبه استعدّ لهذه القوى، فإنّ في «الفاء» المفيدة

__________________

(١) هود: ١٠٣.

(٢) الطارق: ٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415