الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية8%

الحديث النبوي بين الرواية والدراية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 676

الحديث النبوي بين الرواية والدراية
  • البداية
  • السابق
  • 676 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89371 / تحميل: 6950
الحجم الحجم الحجم
الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وقال ابن المديني: صالح، وليس بقوي.(١)

وقد أخرج الخطيب روايات أُخرى لا تنتهي إلى الرسول وإنّما تحكي عمل بعض الصحابة والتابعين من محو الكتابة.

هذه هي المناقشات في سند الرواية ومضامينها، وهناك أمر آخر وهو انّ هذه الروايات لا يساعدها الذكر الحكيم أوّلاً ، وتخالف السنة القولية و الفعلية ثانياً، والتاريخ الصحيح ثالثاً.

أمّا عدم مساعدة الكتاب فلانّه سبحانه اهتم بكتابة الدين اهتماماً بالغاً، وقال:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسمَّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالعَدْلِوَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْيَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ ) ثمّ عاد وأكّد على الموَمنين أن لا يسأموا من الكتابة، فقال سبحانه:( وَلا تسأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبيراً إِلى أَجَلِهِ ) .

فإذا كان الدَّين بهذه المنزلة من الاَهمية، فكيف بأقوال النبيوأفعاله وتقاريره التي تعتبر تالي القرآن الكريم حجية وبرهاناً؟

وثمة كلمة قيمة للخطيب البغدادي نأتي بنصِّها، قال: «وقد أدّب اللّه سبحانه عباده بمثل ذلك في الدين فقال عزّوجلّ:( وَلا تسأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذِلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا ) (٢)

فلما أمر اللّه تعالى بكتابة الدين حفظاً له واحتياطاً عليه وإشفاقاً من دخول الريب فيه، كان العلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدّين أحرى أن تباح كتابته خوفاً من دخول الريب والشكّ فيه(٣)

____________________

١ ميزان الاعتدال: ٣/٤٠٤ برقم ٦٩٣٨.

٢ البقرة: ٢٨٢.

٣ تقييد العلم: ٧٠ - ٧١ ولكلامه صلة: فراجع.

٢١

وأمّا مخالفتها للسنّة القولية والفعلية، فكما عرفت ممّا مضى من الروايات.

وأمّا مخالفتها للتاريخ الصحيح فلما ثبت من أنّ الخليفة لمّا حاول كتابة الحديث استشار أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو كان هناك حظر من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما في هذه الروايات لم يبق موضوع للاستشارة، ولما صحّ للاَصحاب أن يشيروا إلى الخليفة بالكتابة.

أخرج الخطيب البغدادي باسناده عن عروة بن الزبير : انّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير اللّه فيها شهراً، ثمّ أصبح يوماً وقد عزم اللّه له، فقال: إنّي كنت أردت أن أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب اللّه، وإنّي واللّه لا أُلبس كتاب اللّه بشيء أبداً.(١)

وأخرج أيضاً بالاسناد عن القاسم بن محمد: انّ عمر بن الخطاب بلغه أنّه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيّها الناس انّه قد بلغني انّه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى اللّه أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتاب إلاّأتاني به فأرى فيه رأيي.

قال: فظنوا انّه يريد ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثمّ قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب.(٢)

كل ذلك يدل على أنّالحظر الشرعي أُسطورة تاريخية صنعتها يد الجعل تبريراً لاَعمال الخلفاء حيث قاموا بوجه تدوين الحديث ونشره والتحدّث به كما سيوافيك بيانه، و مرّت الاِشارة إليه آنفاً.

____________________

١ تقييد العلم: ٤٩و ٥٢.

٢ تقييد العلم: ٤٩و ٥٢.

٢٢

٤- العلل المزعومة لقلة الاهتمام بالتدوين

قد عرفت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اهتمّ بكتابة حديثه ورغّب إليها، وانّ لفيفاً من الصحابة قاموا بتدوين صحف وكتب ورسائل حول حديثه وحفظوا بها سنّة الرسول في عصره وبعده، فصارت كالنواة لعصر التدوين.

كما أنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم لم يعيروا أهمية لمنع كتابة الحديث، وقد دونوا كتباً ورسائل في عصر الرسول وبعده.

ولكن هنا نكتة جديرة بالاِشارة، وهي انّ المسلمين لم يبذلوا عناية كافية بتدوين الحديث، وكان المترقب منهم - بعد رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - هو بذل المزيد من العناية بذلك في كلّعصر، وتشكيل حلقات الدراسة والمذاكرة في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخارجه كما شكّلوه في القرن الثاني.

وبذلك تعرّض تدوين الحديث لنكسة عرقلت خطاه.

فيقع الكلام في بيان ما هو السبب من وراء هذه النكسة؟ فقد ذكروا لها مبرّرات، وسنقوم بدراستها على وجه الاِيجاز.

الاَوّل: الاحتراز عن المضاهاة بكتاب اللّه تعالى

إنّ عدم الاهتمام بتدوين الحديث كان لغاية مقدسة وهي عدم اختلاط الحديث بالقرآن الكريم، فلذلك انصبَّ اهتمام المسلمين على تدوين القرآن ، دون تدوين الحديث وذلك لئلا يختلطا.

٢٣

قال الخطيب: قد ثبت انّكراهة من كره الكتاب من الصدر الاَوّل إنّما هي لئلا يضاهىَ بكتاب اللّه تعالى غيره...ونُهي عن كتب العلم في صدر الاِسلام وجِدّته، لقلة الفقهاء في ذلك الوقت والمميزين بين الوحي وغيره، لاَنّ أكثر الاَعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يُوَمن أن يُلْحِقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن ويعتقدوا أنّما اشتملت عليه كلام الرحمن.(١)

أقول: هذا الوجه مخدوش جداً وأشبه بدفع الفاسد بالاَفسد، وبالاعتذار الاَقبح، من الذنب القبيح، وذلك لاَنّ القرآن الكريم أُسلوبه وبلاغته يغاير أُسلوب الحديث وبلاغته فلا يخاف عليه من الاختلاط بالقرآن مهما بلغ غيره من الفصاحة بمكان، فقبول هذا التبرير يلازم إبطال إعجاز القرآن الكريم وهدم أُصوله من القواعد، قال سبحانه:( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الاِنْسُ وَالجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَو كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (الاِسراء/٨٨).

ومعنى هذا الاعتذار انّ كلام الرسول كان بنحو ربما لا يُميّز عن كلام ربِّ العزة، فيتصوره العرب الاَقحاح - الذين يخاطبهم القرآن بالآية الكريمة - انّه من القرآن الكريم.

وبعبارة أُخرى: انّ المراد من المضاهاة - كما عبرّ بها الخطيب، أو الاختلاط بالقرآن كما عبّر به غيره(٢) - إمّا هي المضاهاة الصورية، أو المضاهاة الواقعية الجوهرية.

أمّا الاُولى فيكفي في دفعها أن يكتب كلٌ على حدة، فيكون لكلّ موضع خاص وهو أمر سهل.

____________________

١ تقييد العلم: ٥٧.

٢ وهو الظاهر من حديث أبي هريرة حيث روى: امحضوا كتاب اللّه. ومعناه المنع عن تدوين الحديث مع القرآن.

٢٤

وأمّا الثانية فهي غيرممكنة وذلك لاَنّ للقرآن بلاغة تختص به ويتميز بها عن غيره مهما بلغ الغير من البلاغة والفصاحة بمكان، فلا تحصل المضاهاة مهما اختلطا.

على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتكلم بأُسلوب متعارف بين الناس في مقام التحديث، فلم يكن أيّ تشابه بين الحديث والقرآن حتى يحصل الاختلاط.

الثاني: عدم الاشتغال عن القرآن

وهذا هو العذر الثاني، وحاصله انّه لم يُدون الحديث النبوي لئلاّ يشتغل المسلمون عن القرآن بسواه أو «مخافة أن ينصرف الناس عن القرآن إلى سنته وسيرته وينظروا إليهما كما ينظرون إلى القرآن ، وعلى مرور الزمن تحلّ محله كما حلّت أقوال المسيح وسيرته محل الاِنجيل الذي أنزله اللّه عليه».(١)

ولعلّه إلى ذلك الوجه يشير قول عمر على ما أخرجه الخطيب بقوله: أراد عمر أن يكتب السنن، فاستخار اللّه شهراً، ثمّ أصبح وقد عزم له، فقال: ذكرت قوماً كتبوا كتاباً، فأقبلوا عليه وتركوا كتاب اللّه.(٢)

أقول: إذا كان الاشتغال بالحديث سبباً للاِعراض عن القرآن فالاشتغال بسائر العلوم الطبيعية والرياضية والاَدبية أولى بأن تكون موجبة للاِعراض عنه، وذلك لاَنّ الصلة الموجودة بين القرآن والحديث ليست موجودة بينه وبين سائر العلوم، أفيصح لعالم واع أن يفتي بتحريم الاشتغال بمطلق العلوم بذريعة انّ الاشتغال بها موجب للاِعراض عن القرآن؟!

____________________

١ انظر تقييد العلم: ٥٧ ولاحظ علوم الحديث للدكتور صبحي الصالح: ٢٠.

٢ هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والاخبار : ١٩.ويظهر من كلامه انّه رضي بذلك العذر.

٢٥

وأمّا قياس الاشتغال بالحديث باشتغال أهل الكتاب بغير كتاب اللّه تعالى فهو قياس مع الفارق، لاَنّ الاشتغال بحديث يُقيّد مطلقاته، ويبيّن مفاهيمه، ويوضح أسباب نزوله، إلى غير ذلك من الحقائق الكامنة في الحديث، اشتغال - في الواقع - بالقرآن، وهذا بخلاف اشتغال أهل الكتاب بغير التوراة والاِنجيل، فقد اشتغلوا بما كان على طرف النقيض ممّا نزل على أنبيائهم.

على أنّ التجربة أثبتت خلاف ذلك، لاَنّ المسلمين اشتغلوا منذ أوائل القرن الثاني بتدوين الحديث بجد ومثابرة، ولم يُشغلهم عن القرآن وحفظه أيّ شاغل.

الثالث: قلّة من يجيد القراءة والكتابة

وهذا الوجه يهدف إلى القول بأنّ الاَُمّية السائدة في الجزيرة العربية عاقتهم عن كتابة الحديث، وأعانهم على ذلك سعة حفظهم وسيلان أذهانهم، وقد أشار إليه الخطيب.(١)

قال ابن قتيبة: كان الصحابة أُميين لا يكتب منهم إلاّالواحد والاثنان وإذا كتب لم يُتقن ولم يُصب التهجي.(٢)

أقول: إنّ ما ذكر من الفرض باطل جداً فإنّ الاَُمية لم تمنع من كتابة القرآن الكريم وتدوينه، فكيف تمنع عن كتابة الحديث؟ فهوَلاء الكُتّاب الذين بلغ عددهم نحواً من سبعة عشر كاتباً كان في وسعهم القيام بكتابة الحديث النبوي، وقد ثبت في التاريخ انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حريصاً على مكافحة الاُمية التي كانت متفشية بين العرب في مطلع فجر الاِسلام، وقد فرض

____________________

١ تقييد العلم: ٥٧؛ وعبّر عنه بقلّة الفقهاء، ولعلّ مراده ما ذكرناه.

٢ تأويل مختلف الحديث: ٢٨٧.

٢٦

على كلّأسير كان يحسن القراءة والكتابة تعليم عشرة من الاَُميين كفدية له في مقابل الفدية النقدية التي فرضها يوم بدر على الاَسرى في حين انّه كان أحوج ما يكون إلى المال في تلك الفترة من تاريخ الاِسلام.(١)

ثمّ إنّ النهي عن كتابة الحديث دال على إمكانها وكثرة من يمارسها، وإلاّلعاد النهي لغواً والتأكيد على المنع عبثاً.

وبالجملة هذه فروض ذهنية لا تنطبق على الواقع، وهناك فرض رابع ربما يكون هو السبب الحقيقي من وراء عدم بذل العناية بكتابة الحديث، وقد أوضحناه في موسوعتنا «بحوث في الملل والنحل»(٢) ولنأت في المقام بصورة واضحة مقرونة بالشواهد.

الرابع: حظر التدوين لدافع سياسي

الظاهر انّ السبب الواقعي لعدم الاهتمام بالكتابة، هو نهي الخلفاء عنها لدافع سياسي، وقد حظي هذا الدافع من الاَهمية بمكان حتى انّ عمر ابن الخطاب، قال لقرظة بن كعب: جرّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣)

ولما نهض عمر بأعباء الخلافة نهى عن كتابة الحديث، وكتب إلى الآفاق: انّ من كتب حديثاً فليمحه(٤) ثمّ نهى عن التحدّث فتركت عدة من الصحابة الحديث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥)

____________________

١ السيرة الحلبية:٢/١٩٣، دار احياء التراث العربي.

٢ بحوث في الملل والنحل:١/٦٨-٧٢.

٣ الحاكم النيسابوري: المستدرك:١/١٠٢.

٤ تقييد العلم:٥٣؛ و كنز العمال:١٠/٢٩٢ برقم ٢٩٤٧٦.

٥ راجع مستدرك الحاكم: ١/١٠٢.

٢٧

وأغلب الظن انّ الوجه في منع تدوين الحديث ونشره ومدارسته ومذاكرته وكتابته بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو نفس الوجه الذي منع من كتابة الصحيفة يوم الخميس عند احتضار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالغاية بداية ونهاية وقبل رحلته وبعدها لم تتغير، وقد مضى حديث ابن عباس في ذلك(١)

وثمة سوَال يطرح نفسه وهو ماذا كان يريد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة وصيته؟ فلو عُلم ذلك، لعُلم وجه المنع عن كتابة وصيته، كما عُلم أيضاً وجه المنع عن تدوين سنته بعد رحيله.

فنقول: لم يكن هدف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ دعم موقفه من الوصية وتعيين الخليفة بعده، ويعلم هذا من مقارنة هذا الحديث الذي نقله ابن عباس مع حديث الثقلين المتفق عليه بين محدّثي السنّة والشيعة.

وذلك انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في شأن الكتاب الذي مُنع عن كتابته: إئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده.

وقد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين، إذ يقول فيهص: إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب اللّه وعترتي.

فالتشابه الموجود بين الحديثين يعرب عمّا كان يهدفه النبيمن وراء طلب الدواة والصحيفة، وكان الهدف دعم مفاد حديث الثقلين وتعزيز ولاية الاِمام عليعليه‌السلام وتعيين الخليفة، فقد وقف بعض الحاضرين في المجلس على أنّوصية النبيستشكّل خطراً على مصالحهم، فمنعوا عن كتابة الحديث لئلا يرد نصّمكتوب من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خليفة واحد بعينه.

يقول: سفيان بن عيينة: أراد أن ينصّ على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع

____________________

١ لاحظ ص ١٣.

٢٨

بينهم الاختلاف(١)

وهذا الوجه نفسه صار سبباً لمنع تدوين الحديث بعد رحيله لما في أحاديث الرسول من التركيز على ولاية عليعليه‌السلام ، فإنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ ان صدّع بالدعوة وأجهر بها، نص على فضائل علي ومناقبه في مناسبات شتى، فقدعرّفه في يوم الدار الذي ضم فيه أكابر بني هاشم وشيوخهم، بقولهص: «إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا».

وفي يوم الاَحزاب بقولهص: «ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين».

وفي اليوم الذي غادر فيه المدينة متوجهاً إلى تبوك، وقد ترك عليّاً خليفته على المدينة، عرّفه بقوله: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي».

إلى أن عرّفه في حجّة الوداع في غدير خم، بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه».

إلى غير ذلك من المناقب والفضائل المتواترة، وقد سمعها كثيرمن الصحابة فوعوها.

فكتابة حديث رسول اللّه بمعناها الحقيقي، لا تنفك عن ضبط ماأثر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ أوّل الموَمنين به، وأخلص المناصرين له في المواقف الحاسمة، وليس ضبط ما أثر ، أمراً يلائم ذوق الذين منعوا عن الكتابة.

إنّ هذا الوجه هو الذي اخترناه في سالف الزمان، وقد ذكر المحقّق السيد محمد رضا الجلالي (حفظه اللّه) شواهد تاريخية تدعم الموضوع، وتثبت انّ هذا الوجه هو القول الفصل.

____________________

١ ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: ١/١٦٩.

٢٩

ومن جملة تلك الشواهد التاريخية:

١. جاء علقمة بكتاب من مكة - أو اليمن - صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت، بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستأذنا على عبد اللّه[بن مسعود]، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة.

قال: فدعا الجارية، ثمّ دعا بطست فيها ماء.

فقلنا له: يا أبا عبد الرحمان، أنظر فيها، فانّ فيها أحاديث حساناً، قال:فجعل يميثها فيها، ويقول: (نَحْنُ نقصُّ عليكَ أَحْسَنَ الْقصص بِما أَوحَيْنا إليكَ هذا القُرآن) القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها ما سواه(١)

إنّ الصحيفة المعرضة للابادة ترتبط بأهل البيتعليهم‌السلام ، وكأنّ الراوي اعتنى بهذه النقطة، فاستعمل عطف البيان للتأكيد على المراد بأهل البيت، وليلفت نظر عبد اللّه بن مسعود إلى أنّهم أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن عبد اللّه لم يعر اهتماماً وأباد الصحيفة.

والتبريرات المذكورة لمنع التدوين لا يجري شيء منها هنا، فلا اختلاط لما في الصحيفة بالقرآن ولا الاشتغال بأحاديث في صحيفة، تلهي عن القرآن، و مع ذلك فانّ عبد اللّه بن مسعود أباد الصحيفة لما فيها ما يرجع إلى أهل البيت، بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وان برّر عمله بانّ الاشتغال بالحديث هو اشتغال بما سوى القرآن، ولكن هذا التبرير كان واجهة لما ارتكب، وفي الواقع كان المحتوى يسلب الشرعية عن السلطة الحاكمة وينافي سياستها القائمة، لاَنّ الاَحاديث النبوية الواردة في أهل البيتعليهم‌السلام إنّما تدل على فضلهم وتوَكد على خلافتهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتجعلهم قرناء للقرآن ليكونوا هم وهو خليفتين له من بعده. وكان عبد اللّه بن مسعود من حماة

____________________

١ تقييد العلم: ٥٤ وقد رواه بأسانيد وصور مختلفة تشترك الجميع في غسل الصحيفة التي فيها أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٠

السلطة الحاكمة إلى عصر الخليفتين الاَوّلين(١) وإن تراجع عن موقفه في عصر الخليفة الثالث كما سيوافيك عند ترجمته وسيرته.

٢. أخرج ابن كثير عن عمر انّه قال: أقلّوا الرواية عن رسول اللّه إلاّفيما يعمل به.(٢)

فإذا كان التحديث بحديث رسول اللّه موجباً للاشتغال به عن القرآن أو غير ذلك، فلماذا جوز التحديث في الفرائض والاَحكام دون غيره؟ أو ليس ذلك قرينة على أنّ الحديث في الاَحكام لا يمس كيان السلطة، بخلاف التحديث في غيرها خصوصاً فيما يرجع إلى الفضائل والمناقب.

٣. ما روى من انّخالد القسري - أحد ولاة بني أُمية - طلب من أحدهم أن يكتب له السيرة، فقال الكاتب: فانّه يمرّ بي الشيء من سير علي بن أبي طالب، فأذكره؟

فقال خالد: لا، إلاّأن تراه في قعر الجحيم.(٣)

فالحديث يكشف عن أنّ هذا هو السبب الرئيسي لمنع تدوين الحديث، فلم يكن تدوين الحديث منفكّاً عما ورد في عليٍّ وأهل بيته من الفضائل.

٤. روى الزبير بن بكار بسنده عن عبد الرحمان بن يزيد، قال: قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجاً، سنة ٨٢ ه- وهو ولي عهد، فمرّبالمدينة فدخل عليه الناس، فسلّموا عليه وركب إلى مشاهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي صلّ-ى فيها، وحيث أُصيب أصحابه بأُحد، ومعه أبان بن عثمان، وعمرو بن عثمان، وأبوبكر بن عبد اللّه، فأتوا به قُباء، ومسجد الفضيخ ومشربة أُمّإبراهيم،

____________________

١ انظر تدوين السنة: ٤١٢- ٤١٣.

٢ البداية والنهاية: ٨/١١٠.

٣ الاغاني: ٢٢/١٥.

٣١

وأُحد، وكل ذلك يسألهم؟ ويخبرونه عما كان.

ثمّ أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سِيَر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومغازيه.

فقال أبان: هي عندي قد أخذتها مصححة ممن أثق به.

فأمر بنسخها والقي فيها إلى عشرة من الكُتّاب، فكتبوها في رقٍّ فلما صارت إليه، نظر فإذا فيها ذكر الاَنصار في العقبتين،وذكر الاَنصار في بدر.

فقال: ما كنت أرى لهوَلاء القوم هذا الفضل، فأمّا أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وأمّا أن يكونوا ليس هكذا.

فقال أبان بن عثمان: أيّها الاَمير لا يمنعنا ما صنعوا...أن نقول بالحقّ، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

قال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتّى أذكره لاَمير الموَمنين لعله يخالفه، فأمر بذلك الكتاب فخُرق، وقال: أسأل أمير الموَمنين إذا رجعت، فإن يوافقه فما أيسر نسخه.

فرجع سليمان بن عبد الملك فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان.

فقال عبد الملك : وما حاجتك أن تُقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟ تُعرِّف أهل الشام أُموراً لا نريد أن يعرفوها.

قال سليمان: فلذلك - يا أمير الموَمنين - أمرت بتخريق ما كنت نسخته حتى استطلع رأي أمير الموَمنين، فصوب رأيه.(١)

____________________

١ الموفقيات للزبير بن بكار : ٢٢٢- ٢٢٣.

٣٢

قال المحقق السيد الجلالي: فإذا كانوا لا يتحملون ذكر فضل الاَنصار، فكيف يتحملون ذكر فضل أهل البيت، وسيدهم أمير الموَمنين «عليه‌السلام »؟!(١)

* * *

عدم التدوين ومضاعفاته

وعلى أية حال فسواء كانت العلة ما ذكرنا أو غيره، فقد استمر الحظر إلى عهد الخليفة الاَموي عمر بن عبد العزيز (٩٩-١٠١ه-) فأحسّ بضرورة تدوين الحديث، فكتب إلى أبي بكر بن حزم في المدينة «انظر ما كان من حديث رسول اللّه فاكتبه، فانّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا تقبل إلاّ حديث النبي، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فانّ العلم لا يهلك حتى يكون سراً.(٢)

ومع هذا الاِصرار الاَكيد من قبل الخليفة، ألا أنّ رواسب الحظر السابق حالت دون القيام بما أمر به، فلم يكتب شيء من أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّصحائف غير منظمة ولا مرتبة، إلى أن دالت دولة الاَمويين وقامت دولة العباسيين،وأخذ أبو جعفر المنصور بمقاليد الحكم، فقام المحدثون في سنة ١٤٣ه- بتدوين الحديث وفي ذلك، قال الذهبي:

«وفي سنة مائة وثلاث وأربعين شرع علماء الاِسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير، فصنف ابن جريج بمكة، ومالك الموطأ

____________________

١ محمد رضا الجلالي، تدوين السنة الشريفة: ٤٢٠.

٢ صحيح البخاري:١/٢٧ باب كيف يقبض العلم من كتاب العلم.

٣٣

بالمدينة، والاَوزاعي بالشام، وابن أبي عروبة، وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، ومعمر باليمن،وسفيان الثوري بالكوفة، وصنف ابن إسحاق المغازي، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي إلى أن قال: وقبل هذا العصر كان الاَئمة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة.(١)

إلى هنا اتضح انّالسنّة النبوية لم تستأثر بالاهتمام في عصر الخلفاء والاَمويين وأوائل العصر العباسي إلى خلافة المنصور حيث أمر بتدوين السنة وتبويبها، نعم قام المحدثون بالتدوين في منتصف القرن الثاني بعد ما بلغ السيل الزبى واندرس العلم وأبيد الصحابة ومعظم التابعين، فلم يبق منهم إلاّصبابة كصبابة الاِناء، فعند ذلك وقفوا على الرزية العظمى التي منوا بها، فعادوا يتداركونه ببذل جهود حثيثة في تقييد شوارد الحديث. يقول ابن الاَثير: لما انتشر الاِسلام ، واتسعت البلاد وتفرّقت الصحابة في الاَقطار، وكثرت الفتوح، ومات معظم الصحابة، وتفرّق أصحابهم وأتباعهم، وقلَّ الضبط، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعمري انّها الاَصل، فانّ الخاطر يغفل والذهن يغيب، والذكر يهمل، والقلم يحفظ ولا ينسى.(٢)

____________________

١ تاريخ الخلفاء للسيوطي: ٢٦١.

٢ جامع الاُصول: ١/٤٠.

٣٤

٥- تمحيص السنّة النبوية

قد تبيّنت منزلة السنّة النبويّة ومكانتها، فلابدّ من إلفات نظر القارىَ الكريم إلى أنّ تمتعها بهذه الدرجة من الاَهمية، مردّها إلى السنة الواقعية من قول النبي وفعله وتقريره لا كل ما نسب إليه وأثر عنه من دون العلم بصحّة تلك النسبة.

وربما يقال: إنّ السنة النبوية وحي إلهي، فما معنى تمحيص الوحي أوَ يصح لبشر خاطىَ أن يمحِّص الحقّ المحض؟!

ونحن نوافق هذا القائل في أنّ السنة النبوية الواقعية فوق التمحيص ، ولكن النقطة الجديرة بالذكر هي انّ السنّة الواردة، المتبلورة في الصحاح والمسانيد، هي بحاجة إلى التمحيص لفرز صحيحها عن سقيمها، وواقعها عن زائفها، فليس كلّ من ينقل عن لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثقة، وعلى فرض كونه ثقة فليس بمصون عن الخطأ والنسيان.

فتمحيص السنة ليس لغاية التشكيك فيها، وإنّما يُطلب من وراء ذلك، إحقاق الحقّ وإبطال الباطل ولا ينبغي إضفاء طابع القداسة والصحة على كتاب غير كتاب اللّه سبحانه، وغيره - وإن بلغ من الاِتقان بمكان - خاضع للتمحيص والاِمعان والبحث في السند و المتن.

وثمة كلام قيم للاِمام أبي حنيفة بيّن فيه انّ تكذيب الحديث لا يلازم تكذيب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما يراد به تكذيب الراوي، قال:

٣٥

أُكذِّب هوَلاء ولا يكون تكذيبي لهوَلاء وردِّي عليهم تكذيباً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّما يكون التكذيب لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول الرجل: أنا مكذب لقول نبي اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأما إذا قال الرجل: أنا موَمن بكلّ شيء تكلّم به النبي ، غير انّ النبي لا يتكلم بالجور ولا يخالف القرآن، فانّهذا القول منه هو التصديق بالنبي وبالقرآن وتنزيه له من الخلاف على القرآن، ولو خالف النبي القرآن وتقوّل على اللّه بغير الحقّ، لم يدعه اللّه حتى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين.(١)

وبعبارة أُخرى: اتّفق المسلمون في الكبرى، وهي انّ السنّة النبوية حجّة بلا كلام، ولو كان ثمة نقاش فإنّما هو في الصغرى، أي أنّ هذا الحديث المنقول إلينا هل هو من كلام الرسول أو لا، فالتمحيص ناظر إلى السنة الحاكية التي تتداولها الاَلسن خلف عن سلف.

وأمّا السنّة الواقعية المحكية القائمة بنفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يتردد أيّ ذي مسكة في حجيتها، فالتشكيك فيها إلحاد وكفر بالرسالة بلا ريب، وموجب للخروج عن الدين وليس التمحيص بالمعنى الذي ذكرناه بأمر غريب فانّالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي أخبر عن وجود الكذّابة في عصره كما سيوافيك.

التمحيص ، لماذا؟

إنّ هناك أسباباً كثيرة تبعث الباحث إلى التمحيص ونقد الحديث النبوي بالمعنى الذي مرّ، نشير إلى بعضها.

السبب الاَوّل: رواج الكذب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قد راج الكذب على لسان رسول اللّه في حياته وبعد رحيله، وقد تنبّأ به

____________________

١ الاِمام أبو حنيفة، العالم والمتعلم: ١٠٠.

٣٦

في حديث متضافر أو متواتر وقال: «من تعمّد عليّكذباً فليتبوأ مقعده من النار».

وهذا ليس أمراً مستغرباً، فإذا استقرأ الباحث تاريخ الحديث وتدوينه وانتشاره يتضح له بسهولة وجود أرضية خصبة لجعل الحديث على لسان رسول الاِسلام ، وذلك لاَنّ حديثاً لم يهتمّ بكتابته طوال قرن ونصف، كيف يكون حاله مع أعدائه الذين كانوا له بالمرصاد، وكانوا يكذبون عليه بما يقدرون، وينشرون كلّ غث وسمين باسم الدين وباسم الرسول؟! نحن لا ننكر انّ العلماء والمحدثين قاموا بواجبهم الديني تجاه السنة النبوية وكابدوا وتحملوا المشاق في تمحيص السنة الواقعية عما ألصق بها، لكن التمحيص الحقيقي من أشق الاُمور بعد هذه الحيلولة الطويلة.

وكلما بعد الناس من عصر الرسول ازداد عدد الاَحاديث حتى أنّ الاِمام البخاري أخرج صحيحه عن ستمائة ألف حديث(١)

وانّ أبا داود قد أورد في سننه أربعة آلاف وثمانمائة حديث وقال: انتخبته من ٥٠٠ ألف حديث.(٢)

كما انّ مسلم أورد في صحيحه أربعة آلاف حديث مع حذف المكررات انتخبها من ٣٠٠ ألف حديث.(٣) ذكر الاِمام أحمد بن حنبل في مسنده قرابة ثلاثين ألف حديث، وقد انتخبها من أكثر من سبعمائة ألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث.(٤) ولاَجل ذلك نرى أنّ قمة هرم الاَحاديث تتصل بزمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقاعدة ذلك الهرم تنتهي إلى القرون المتأخرة، فكلما قربنا من عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجد قلة

____________________

١ إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري: ١/٢٩.

٢ سنن أبي داود، قسم المقدمة:١٠.

٣ تذكرة الحفاظ للذهبي: ٢/٥٨٩.

٤ تذكرة الحفاظ:٢/٤٣١ برقم ٤٣٨.

٣٧

الحديث عنه والعكس بالعكس، وهذا يعرب عن أنّالاَحاديث عالت حسب وضع الوضاعين وكذب الكذابين.

إنّ ظاهرة التمحيص لم تكن أمراً متأخراً عن عصر الصحابة بل نجد جذورها في عصرهم، مثلاً.

لقد شاع بعد رحيل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسألة إمكان روَية اللّه، وانّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رآه في معراجه حتى انّ مسروقاً، سأل عائشة عن هذه المسألة عند ما سمع قولها: ثلاث من تكلّم بواحدة منهنّ، فقد أعظم على اللّه الفرية.

قال مسروق: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: يا أُمّ الموَمنين: انظريني ولا تعجليني، ألم يقل اللّه عزّ وجلّ:( وَلَقَدْرآهُ بِالاُفُقِ المُبين ) (التكوير/٢٣)،( ولَقد رآه نَزْلَة أُخرى ) (النجم/١٣) فقالت: أنا أوّل هذه الاُمّة سأل عن ذلك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: إنّما هو جبرئيل لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء سادّاً عظمُ خلقه ما بين السماء إلى الاَرض.

فقالت: أو لم تسمع انّ اللّه يقول:( لا تُدْرِكُهُ الاَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاََبصارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير ) (الاَنعام/١٠٣) أو لم تسمع انّ اللّه يقول:( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمهُ اللّهُ إِلاّوَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فيُوحِىَ بإذنهِ ما يَشاءُ انّهُ عَليٌّ حَكيمٌ ) (الشورى/٥١)، قالت: و من زعم ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتم شيئاًمن كتاب اللّه، فقد أعظم على اللّه الفرية، واللّه يقول:( يا أَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَوَإِنْ لَمْ تَفْعَلْفَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (المائدة/٦٧) قالت: ومن زعم انّه يخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم على اللّه الفرية، واللّه يقول:( قُل لا يعلم من في السماوات والاَرض الغيب إلاّ اللّه ) (النمل/٦٥).(١)

____________________

١ صحيح مسلم:١/١١٠، باب معنى قول اللّه عزّ وجلّ:( وَلَقَدْرَآهُ نَزْلَة أُخرى ) .وفي استنتاج نفي علم الغيب عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآية تأمل واضح.

٣٨

فالكذب على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد الاَسباب للزوم إعمال التمحيص في السنّة الحاكية من دون أي نقاش وجدل في السنة المحكية، فانّ النقاش فيها كفر وإلحاد.

السبب الثاني: فسح المجال للاَحبار والرهبان

لقد مني الاِسلام والمسلمون من جرّاء حظر تدوين الحديث و نشره بخسائر فادحة، حيث أوجد الحظر أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية وسخافات مسيحية وأساطير مجوسية من جانب علمائهم، فقد افتعلوا أحاديث كثيرة وبثّوها بين المسلمين كحقائق راهنة وتلقاها السُذَّج من المحدثين بالقبول.

يقول الشهرستاني: زادت المشبهة في الاَخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكثرها مقتبسة من اليهود، فإنّ التشبيه فيهم طباع.(١)

يقول ابن خلدون عند البحث في التفسير النقلي وانّه يشتمل على الغث والسمين والمردود: إنّ السبب في ذلك انّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنّما غلبت عليهم البداوة والاَُمية، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوق إليه النفوسُ البشرية في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم وهم أهل التوراة من اليهود و من تبع دينهم من النصارى مثل كعب الاَحبار ووهب بن منبه وعبد اللّه بن سلام وأمثالهم فامتلاَت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملاَوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة .(٢)

____________________

١ الملل والنحل، للشهرستاني: ١/١٠٦.

٢ مقدمة ابن خلدون: ٤٣٩.

٣٩

يقول ابن الجوزي: إنّ عبد الكريم كان ربيباً لحماد بن سلمة، وقد دسَّ في كتب حماد بن سلمة.(١)

ولا عجب بعد ذلك إذا رأينا انّ المحدّثين يروون باسنادهم عن حماد، عن قتادة، عن عكرمة ،عن ابن عباس مرفوعاً: «رأيت ربّي جعداً أمرد عليه حلّة خضراء» و في رواية أُخرى:«انّمحمّداً رأى ربّه في صورة شاب أمرد دون ستر ، من لوَلوَ قدميه أو رجليه في خضرة».(٢)

وهذه الاَساطير المزخرفة من مفتعلات الزنادقة أمثال ابن أبي العوجاء، فقد دسّوها في كتب المحدثين.

قال ابن الجوزي: ولما لم يُمكَّن أحدٌ منهم أن يُدخل في القرآن ما ليس منه أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينقصون ويبدلون ويضعون عليه ما لم يقل(٣) .

السبب الثالث: التجارة بالحديث

إنّ في تاريخ الحديث الاِسلامي أُناساً عُرفوا بالوضع والكذب، وكانت الغاية من بث هذه الاَحاديث، هو الطمع بالدنيا والازدلاف إلى أهلها و الانتصار للاَهواء والعقائد المدخولة، وقد جمع العلاّمة الاَميني سبعمائة رجل من هذه الزمرة كانوا يكذبون على رسول اللّه لهذه الغاية أو لغايات أُخرى.(٤) وإليك بعض النماذج:

____________________

١ ابن الجوزي: الموضوعات: ١/٣٧، طبع بيروت.

٢ ميزان الاعتدال: ١/٥٩٣.

٣ ابن الجوزي: الموضوعات: ١/٣١.

٤ الغدير: ٥/٢٧٥.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

من هذين البيانين اتضح مقصود القرآن الكريم من قوله :

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

وقوله :

( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .

كما اتضح أيضاً لماذا لا تكون الوحدة التي نصف بها الذات الإلهية، وحدة عددية، لأنّ مثل هذه الوحدة ( أي العددية ) إنّما تتصور إذا أمكن تصور فردين أو أفراد للشيء، في حين لا يمكن تصور التعدّد في مورد اللامحدود، لأنّ كل واحد من الفردين عند افتراض التعدّد، غير الآخر، ومنتهى حدود الآخر، ولهذا يكون أي واحد منهما غير محدود، وغير متناه في حين أنّنا افترضنا الأوّل غير محدود، وغير متناه.

سؤال في المقام

نرى في الكتاب العزيز مجيء وصف « القهار » عقيب وصف الله ب‍ « الواحد » مثل قوله :

( وَمَا مِنْ إِله إلّا الله الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (١) .

( سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٢) .

( وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٣) .

__________________

(١) ص: ٦٥.

(٢) الزمر: ٤.

(٣) الرعد: ١٦.

٢٨١

وهنا ينطرح سؤال عن وجه الارتباط بين وصفي الوحدانية والقهارية ؟

الجواب :

الحق أنّ « القهارية » دليل على وحدانية الله، لأنّ الشيء المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه، وعلامة المقهورية هي أن يصح سلب أُمور منه، مثلاً يصح أن يقال في شأنه :

هذا الجسم ليس هناك أو أنّه لم يكن في ذلك الوقت.

وعلى هذا فإنّ المقهورية هي سبب المحدودية.

وأمّا إذا كان الشيء « قاهراً » من كل الجهات، فلا تتحكم فيه الحدود قطعاً، واللامحدودية تستلزم الوحدانية والتفرّد، ولأجل ذلك قورنت صفة الوحدانية بوصف القاهرية، وقال:( الوَاحِدُ القَهَّارُ ) .

وفي الحقيقة يمكن اعتبار هذا النوع من الوصف ( أي الوصف بالقهارية ) إشارة إلى ذلك الدليل العقلي الذي ذكرناه في هذه الإجابة.

وهكذا يتضح وجه الارتباط بين وصفي « الوحدانية » و « القهّارية » اللّذين اجتمعا في بعض الآيات القرآنية.

سؤال آخر :

إذا كان وجود الله منزّهاً عن الوحدة العددية، ففي هذه الصورة ماذا يكون معنى الآيات التي تصف الله بأنّه « الواحد »، والواحد، كما نعلم، هو ما يقابل الاثنين والثلاث إلى غيرهما من الأعداد، كقوله سبحانه :

٢٨٢

( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إلّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) (١) .

( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٢) .

خاصة إذا عرفنا بأنّ هذه الآيات نزلت في مقام الرد على ما كان يذهب إليه المشركون من الاعتقاد ب‍ « تعدّد الآلهة »، والذين كانوا يقولون :

( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (٣) .

الجواب: انّ الهدف من هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ هو استنكار ما كان يعتقده المشركون بأنّ لكل قبيلة وقوم إلهاً خاصاً بها كانوا يعبدونه ولا يعتقدون بآلهة الآخرين.

فالمقصود من هذه الآيات هو إبطال إلوهية هذه الأوثان والآلهة المدّعاة وتوجيه الأذهان إلى « الله الواحد » بدل تلك الآلهة المتعددة.

وأمّا أنّ وحدته كيف ؟ وعلى أي وجه ؟ ومن أي نوع من أنواع الوحدات الأربع تكون هذه الوحدة ؟ فليست الآيات المذكورة ناظرة إليه، بل يجب استفادة هذا الأمر من الإشارات التي وردت في القرآن إلى هذه الوحدة في مواضع أُخرى.

أحاديث أئمّة أهل البيت: حول وحدانية الله

لقد ورد هذان الموضوعان، أعني: عدم تناهي ذاته سبحانه وعدم الوحدة العددية، المذكوران في البرهان العقلي في أحاديث أئمّة أهل البيت: أيضاً فهي

__________________

(١) البقرة: ١٦٣.

(٢) العنكبوت: ٤٦.

(٣) ص: ٥.

٢٨٣

صرّحت بنفي المحدودية والتناهي في الذات الإلهية، وصرّحت أيضاً بعدم صدق « الوحدة العددية » في حقّه سبحانه.

فقد قال الإمام الثامن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء :

« ليس له حد ينتهي إلى حده، ولا له مثل فيعرف بمثله »(١) .

ومما يستحق الإمعان والدقة أنّ الإمامعليه‌السلام ـ بعد نفيه الحد عن الله ـ نفى المثيل له سبحانه لارتباط اللامحدودية وملازمتها لنفي المثيل على النحو الذي مر بيانه.

ومن ذلك ما قاله الإمام عليعليه‌السلام في وقعة الجمل عندما كان بريق السيوف يشد إليها العيون، وكانت ضربات الطرفين تنتزع النفوس والأرواح التفت إليه رجل من أهل العراق وسأله عن كيفية وحدانية الله، فلامه أصحاب الإمام وحملوا عليه قائلين له: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ( أي تشتت الفكر واضطراب البال ) ؟!

فقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ».

ثم قال ـ شارحاً ما سأل عنه الأعرابي ـ :

« وقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ».

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٣٣.

٢٨٤

ثمّ أضافعليه‌السلام قائلاً :

« هو ( أي الله ) واحد ليس له في الأشياء شبيه، كذلك ربنا »(١) .

وهكذا يصرح الإمام بأنّ الواحدية المذكورة هنا تعنى أنّه لا عديل له لا أنّه واحد على غرار قولنا: « هذا قلم واحد » الذي يكون مظنة لإمكان الاثنينية، إذ في هذه الصورة يمكن أن يكون ذات مصاديق متعددة وأفراد متكثرة، ولكنه انحصر في الله، وهذا خلف، وغير صحيح.

الآلهة الثلاثة أو خرافة التثليث

بعد أن درسنا ـ بالتفصيل ـ الآيات المرتبطة بتوحيد الله، يلزم أن نعرف نظر القرآن في حقيقة التثليث.

الحقيقة أنّه قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها المسيحية.

كما أنّه قلّما توجد مسألة في غاية الإبهام واللامعقولية كما تكون عليه مسألة « التثليث » في تلك العقيدة.

لقد أدّى تقادم الزمن وتطور الحياة والتكامل الفكري وتضاؤل العصبيات المذهبية والتحولات الفكرية، أدّت كل هذه الأُمور إلى ظهور « طبقة » جديدة بين مفكري المسيحية وعلمائها، كما تسببت في وجود فجوة عميقة بين العلم والمنطق من جانب، وبين معتقداتهم القديمة من جانب آخر بشكل لا يمكن ملؤها بأي نحو، وأي شيء.

غير أنّ هذه « الطبقة الجديدة » من العلماء المسيحيين اتخذت لملء هذه

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٨٣.

٢٨٥

الفجوة الفكرية وهذا الخلاء العقيدي طريقين :

الطريق الأوّل: محاولة البعض منهم لتأويل تلك المعتقدات المسيحية الباطلة المرفوضة حتى في المنطق البشري الحاضر، وإعطاء هذه الأفكار الخرافية صبغة منطقية عصرية كما نشاهد ذلك في تأويلهم لمسألة التثليث.

الطريق الثاني: هو اجتناب التأويل واتباع قاعدة أتفه وهي قولهم: « بأنّ طريق العلم يختلف عن طريق الدين » وأنّه من الممكن أن يقول الدين بشيء أو يرتضي أصلاً لا يصدقه العلم فيه. وإنّه ليس من الضروري أن يطابق الدين مع العلم دائماً.

وبالتالي قبول خرافة « الدين يخالف العلم ».

ولكن هؤلاء غفلوا عن نقطة هامّة جداً وهي أنّ القول بخرافة: « مضادة الدين للعلم » ستؤدي في المآل إلى إبطال أصل الدين، لأنّ اعتقاد البشر بأي دين من الأديان يتوقف على الاستدلالات العقلية والعلمية، وفي هذه الصورة، نعني: مضادة العلم للدين، كيف يمكن إثبات صحة الدين بالاستناد إلى الأُسس العقلية والعلمية والحال أنّ بين الدين والعلم مباينة ـ حسب هذه النظرية ـ أو أنّ في الدين ما ربما يخالف العلم والعقل ؟!!

إنّ البحث في العقيدة النصرانية حول سيدنا المسيح يتركّز في مسألتين :

١. التثليث وانّ الله سبحانه هو ثالث ثلاثة.

٢. كونه سبحانه اتخذ ولداً.

والمسألتان مفترقتان من حيث الفكرة وإقامة البرهان، ولأجل ذلك نعقد لكل واحدة منهما عنواناً خاصاً.

٢٨٦

كيف تسربت خرافة التثليث إلى النصرانية ؟

ينقل الأُستاذ فريد وجدي نقلاً عن دائرة معارف « لاروس » :

« أنّ تلاميذ المسيح الأوّليّين الذين عرفوا شخصه، وسمعوا قوله، كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنّه أحد الأركان الثلاثة المكونة لذات الخالق وما كان بطرس أحد حوارييه، يعتبره إلّا رجلاً موحى إليه من عند الله، أمّا بولسن فإنّه خالف عقيدة التلامذة الأقربين لعيسى وقال: إنّ المسيح أرقى من إنسان وهو نموذج إنسان جديد أي عقل سام متولد من الله »(١) .

إنّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ـ إلى الشرك والوثنية ـ تحت تأثير المضلّين ـ وبذلك كانوا ينحرفون عن جادة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لأنبياء الله ورسله.

إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل وترك التوحيد الذي هداهم النبي العظيم موسى له، لمن أفضل النماذج لما ذكرناه وهو ما أثبته القرآن والتاريخ للأجيال القادمة، وعلى هذا فلا داعي للعجب إذا رأينا تسرب خرافة « التثليث » إلى العقائد النصرانية بعد ذهاب السيد المسيحعليه‌السلام وغيابه عن أتباعه.

إنّ تقادم الزمن قد رسخ موضوع « التثليث » وعمّقه في قلوب النصارى وعقولهم بحيث لم يستطع حتى أكبر مصلح مسيحي ونعني « لوثر » الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات وأسس المذهب البروتستانتي، لم يستطع لوثر هذا من التخلّص من مخالب هذه الخرافة وأحابيلها.

__________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين مادة ثالوث.

٢٨٧

رأي القرآن في التثليث

يعتبر القرآن الكريم « قضية التثليث » مرتبطة بالأديان السابقة على المسيحية ويعتقد أنّ المسيحعليه‌السلام نفسه ما كان يدعو إلّا إلى الله « الواحد » الأحد إذ يقول :

( لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إنّ اللهَ هُوَ المسِيحُ ابنُ مَرْيَمَ وقالَ المَسِيحُ يا بَنِي إسرائيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبّي وَرَبَّكُمْ إنّهُ مَنْ يُشْرِكْ باللهِ فَقَدْ حَرّمَ الله عَلَيْهِ الجَنَّةَ ) (١) .

ويعتقد القرآن أنّ النصارى هم الذين أدخلوا هذه الخرافة في العقائد المسيحية إذ يقول :

( وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) (٢) .

لقد أثبتت تحقيقات المتأخرين من المحققين صحة هذا الرأي القرآني بوضوح لا لبس فيه.

فهذه التحقيقات والدلائل التاريخية جميعها تدل على أنّه أدخلت ـ في القرن السادس قبل الميلاد ـ إصلاحات على الدين البراهماني، وفي النتيجة ظهرت الديانة الهندوسية.

وقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي وتجسد ـ لدى البراهمة ـ في ثلاثة مظاهر وآلهة :

١. برهما ( الخالق ).

__________________

(١) المائدة: ٧٢.

(٢) التوبة: ٣٠.

٢٨٨

٢. فيشنو ( الواقي ).

٣. سيفا ( الهادم ).

ويوجد هذا الثالوث الهندوكي المقدس في المتحف الهندي، في صورة ثلاث جماجم متلاصقة، ويوضح الهندوس هذه الأُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :

« براهما »: هو الموجد في بدء الخلق، وهو دائماً الخالق اللاهوتي، ويسمى الأب.

« فيشنو »: هو الواقي الذي يسمى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

« سيفا »: هو المفني الهادم المعيد للكون إلى سيرته الأُولى.

لقد أثبت مؤلف كتاب « العقائد الوثنية في الديانة النصرانية » في دراسته الشاملة حول هذه الخرافة وغيرها من الخرافات التي تعج بها الديانة النصرانية أثبت أنّ هذا « الثالوث » المقدس كان في الديانة البراهمانية، وغيرها من الديانات الخرافية، قبل ميلاد المسيحعليه‌السلام بمئات السنين.

وقد استدل لإثبات هذا الأمر بكتب قيمة وتصاوير حية توجد الآن في المعابد والمتاحف يمكن أن تكون سنداً حياً، ومؤيداً قوياً لرأي القرآن الكريم، الذي ذكرناه عما قريب.

ثمّ في هذا الصدد يكتب غوستاف لوبون :

« لقد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأُولى من حياتها مع

٢٨٩

أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوربية حوالي القرن الأوّل الميلادي، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوناً من الأب والابن وروح القدس مكان التثليث القديم المكون من نروپي تر، وژنون ونرو »(١) .

لقد أبطل القرآن الكريم مسألة التثليث بالبرهان المحكم إذ قال :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً ) (٢) .

نعم لم يرد في هذه الآية كلام صريح عن التثليث بل تركز الاهتمام فيها على إبطال « إلوهية المسيح »، ولكن طرحت ـ في آيات أُخرى ـ إلوهية المسيح في صورة إنكار « التثليث » ومن هذا الطرح يعلم أنّ إلوهية المسيح كانت مطروحة بصورة « التثليث » وتعدد الآلهة كما قال القرآن في موضع آخر :

( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَة وَمَا مِنْ إِلهٍ إلّا إِلهٌ واحِدٌ ) (٣) .

يقيم القرآن الكريم ـ في هذا المجال ـ برهانين في غاية الوضوح والعمومية، وها نحن نوضحهما فيما يأتي :

والبرهانان هما :

١. قدرة الله على إهلاك المسيح.

__________________

(١) قصة الحضارة.

(٢) المائدة: ١٧.

(٣) المائدة: ٧٣.

٢٩٠

٢. أنّ المسيح مثل بقية البشر يأكل ويمشي و

يقول القرآن حول البرهان الأوّل :

( فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً وَللهِ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ واللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) (١) .

ولا ريب أنّ جميع النصارى يعترفون بأنّ السيد المسيح « ابن » لمريم ولذلك يقولون: المسيح بن مريم.

فإذا كان عيسى « ابناً » لمريم فلابد أنّه بشر كسائر البشر وآدمي كبقية الآدميين، محياه ومماته بيد الله، وتحت قدرته، فهو تعالى يهبه الحياة متى يشاء، وهو تعالى يميته متى أراد، ومع هذه الحالة كيف تعتبره النصارى « إلهاً » وهو لا يملك لنفسه حياة ولا موتاً ؟!! »

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم وجّه في هذه الآية عناية كاملة إلى « بشرية » المسيح باعتبار أنّ بشرية المسيح تؤلِّف أساس البرهان الأوّل ولذلك نجد القرآن يصفهعليه‌السلام بأنّه ابن مريم، ويتحدّث عن « أُمّه » وعن جميع من في الأرض فيقول:( وََأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرضِ جَمِيعاً ) مشيراً إلى بشريته، بل وليثبت أنّ المسيح ليس أكثر من كونه واحداً من آحاد البشر وفرداً من أفراد النوع الإنساني يشترك مع بني نوعه في كل الأحكام على السواء.

وبعبارة أوضح أنّ هناك قاعدة في الفلسفة الإسلامية هي قاعدة « حكم

__________________

(١) المائدة: ١٧.

٢٩١

الأمثال » التي تقول: « حكم الأمثال فيما يجوز [ عليها ] وما لا يجوز واحد ».

فإذا كان هلاك أفراد الانسان ( ما عدا المسيح ) ممكناً كان هلاك المسيح أيضاً ممكناً كذلك، لكونه واحداً من البشر، وفي هذه الصورة كيف تعتبره النصارى إلهاً، والإله لا يجوز عليه الموت ؟!

ولتتميم هذا المطلب يختم القرآن الكريم الآية بجملة( وَللهِ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرض ) وفي الحقيقة إنّ هذه الجملة تكون علة للحكم السابق فمعناه أنّ الله يملك اهلاك عيسى وأُمّه وكل أفراد البشر لأنّهم جميعاً ملكه، وفي قبضته، وتحت قدرته، فيكون معنى مجموع الآية: انّ الله قادر على إهلاك عيسى وأُمّه، لأنّه مالكهم جميعاً وبيده ناصيتهم دون استثناء، والقدرة على إهلاكه وإهلاك أُمّه، أدل دليل على كونه مخلوقاً له سبحانه.

البرهان الثاني: المسيح والآثار البشرية

خلاصته: أنّ المسيح وأُمّه شأنهم شأن بقية الأنبياء، يأكلون الطعام، كأي بشر آخر، إذ يقول :

( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمَّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) (١) .

وعلى هذا فليس بين المسيح وأُمّه وبين غيره من الأنبياء والرسل أي فرق، وتفاوت، فهم يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلما أحسّوا بالحاجة إلى الطعام، وشأن عيسى وأُمّه شأنهم، ولا ريب أنّ « الحاجة » دليل الإمكان والإله

__________________

(١) المائدة: ٧٥.

٢٩٢

منزّه عن الحاجة والإمكان.

إنّ هذه الآية لا تبطل إلوهية المسيح فحسب، بل تبطل إلوهية أُمّه أيضاً، إذ يستفاد من بعض الآيات أنّ « أُمّه » كانت معرضاً لهذه التصورات الباطلة أيضاً حيث يقول القرآن :

( ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) (١) .

لقد استوفينا البحث حول التثليث في نظر القرآن وبقي البحث حوله من زاوية البراهين العقلية، وسيوافيك ذلك في مختتم هذا الفصل، بعد أن ندرس بنوة عيسى ومعبوديته وبطلانها قرآنياً، لنتفرغ بعده إلى دراسة التثليث عقلياً.

الله سبحانه واتخاذ الولد(٢)

تعتبر مسألة بنوة المسيح لله إحدى مظاهر الشرك في « الذات »، الذي يصوّر حقيقة الإله الواحد في صورة آلهة متعددة، ويقوم « التثليث » النصراني في الحقيقة على هذا الأساس، أي على أساس اعتبار المسيح ابناً لله سبحانه.

وقد فنّد القرآن الكريم هذا الاعتبار الخاطئ وأبطله ببراهين عديدة، وأوضح تفاهته بطريقين :

أوّلاً: عن طريق البراهين العلميّة الدالة على استحالة أن يكون لله ولد مطلقاً سواء أكان هذا الولد عيسىعليه‌السلام أم غيره.

وثانياً: عن طريق بيان تولد المسيح من أُمّه، واستعراض حياته البشرية ،

__________________

(١) المائدة: ١١٦.

(٢) هذه هي المسألة الثانية التي أشرنا إليها ـ آنفاً في مطلع بحث التثليث ـ.

٢٩٣

الدال على بطلان كونه « ولداً » لله خصوصاً.

على أنّ النصارى ليسوا هم وحدهم الذين اعتقدوا بوجود ولد لله، بل قالت بمثل ذلك اليهود حيث ينقل سبحانه عنهم :

( وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ) (١) .

وحذا حذوهم مشركو العرب حيث كانوا يتصورون أنّ « الملائكة » بنات الله إذ يقول سبحانه :

( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ ) (٢) .

وإليك هذه البراهين حول الطريق الأوّل بالتفصيل.

البرهان الأوّل

يقول سبحانه :

( بَدِيْعُ السَّمٰوَاتِ والأرض أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٣) .

أُشير في هذه الآية الشريفة إلى برهانين على استحالة اتخاذ الله للولد :

١. انّ اتخاذ الولد يتحقق بانفصال جزء من الأب باسم « الحويمن » ويستقر في رحم الأُم ويتفاعل مع ما ينفصل منها وتسمّى بالبويضة، وتواصل تلك البويضة تكاملها حتى يكون الوليد بعد زمن.

__________________

(١) التوبة: ٣٠.

(٢) النحل: ٥٧.

(٣) الأنعام: ١٠١.

٢٩٤

إذن فمثل هذه العملية تحتاج ولا ريب إلى وجود « زوجة » أو بتعبير القرآن إلى « صاحبة » في حين يعترف الجميع بعدم الصاحبة له سبحانه كما يقول القرآن( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ) .

٢. إن كان معنى « اتخاذ الولد » هو ما قلناه، إذن فلا يكون الولد مصنوعاً لله ومخلوقاً له تعالى بل يكون عدلاً وشريكاً له.

لأنّ « الوالد » ليس خالق « الولد » بل الولد جزء من والده انفصل عنه، ونما خارجه، وكبر، في حين انّ الله خالق كل شيء ما سواه من الأشياء بلا استثناء كما تقول:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

ويقول سبحانه في صدر الآية:( بَدِيعُ السَّمٰوَاتِ والأرْضِ ) بمعنى موجد السماوات والأرض وخالقهما وما فيهما.

البرهان الثاني

( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (١) .

وقد أُشير في هذه الآية إلى برهان واحد على « نفي الولد لله » وهو مسألة « المالكية التكوينية له سبحانه والوهيته المطلقة » لما سواه، وتوضيحه :

إنّ هناك نوعين من المالكية: مالكية اعتبارية، تنشأ من العقد الاجتماعي الدارج بين أبناء البشر، ومالكية تكوينية تنشأ من خالقية المالك.

إنّ مالكية الإنسان لأمواله مالكية ناشئة عن « العقد الاجتماعي » الذي

__________________

(١) الفرقان: ٢.

٢٩٥

أذعن له الإنسان لغرض إدارة الحياة وضمان تمشيتها وجريانها، في حين أنّ مالكية الله للسماوات والأرض وما بينهما مالكية تكوينية ناشئة عن خالقيته لها.

فإذا كان الله سبحانه مالكاً لكل شيء فلا يمكن حينئذ أن نتصور له ولداً لأنّ ولد الإنسان ـ بحكم كونه ليس مخلوقاً له ـ لا يكون مملوكاً له كذلك مع أنّا أثبتنا أنّ الله مالك لكل شيء لكونه خالقاً لكل شيء، وإلى هذا البرهان أُشير في هذه الآية:( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) .

كما أُشير ـ في ذيل هذه الآية ـ إلى علة هذه المالكية وأساسها وهو « الخالقية » إذ يقول:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) .

البرهان الثالث

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

استدل في هاتين الآيتين على « نفي الولد » بثلاثة براهين :

١. أنّ معنى الولد هو انفصال جزء من الوالد واستقراره في رحم الأُم، وهذا يستلزم كون الله جسماً، ومتصفاً بالآثار الجسمانية كالمكان، والزمان والجزئية، والتركب من الأجزاء بينما يكون الله سبحانه منزّهاً عن هذه الأُمور وإلى هذه الناحية أشارت الآية بكلمة « سبحانه ».

٢. انّ إلوهية الله مطلقة وربوبيته عامة وشاملة، فكل الموجودات قائمة به ومحتاجة إليه، غير مستغنية عنه.

__________________

(١) البقرة: ١١٦ ـ ١١٧.

٢٩٦

فإذا كان له « ولد » يلزم ـ حتماً ـ أن يكون الولد مثيلاً ونظيراً له في الاتصاف بجميع صفات الله ومنها: « الاستقلال والغنى عن الغير » على حين ثبت كونه سبحانه مالكاً مطلقاً للسماوات والأرض وما بينهما فهي قائمة به، تابعة له، محتاجة إليه دون استثناء ومطيعة لأمره وخاضعة لمشيئته بلا منازع، وليس هنا موجود مستقل غيره.

وإلى هذا البرهان أشار بقوله سبحانه:( لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ والأرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) .

٣. انّه لا موجب لاتخاذ الله للولد، لأنّ طلب الأبناء والأولاد، إمّا أن يكون لغرض استمرار النسل والذرية، أو بهدف الاستعانة بهم لرفع الاحتياج عند الشيخوخة والعجز، ولا يمكن أن يتصور أي واحد من هذه الدوافع في مقامه سبحانه وإلى هذا أشارت الآية بقولها :

( بَدِيعُ السَّمٰوَاتِ والأرضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

فأية حاجة تتصوّر لله إلى الولد وهو بديع كل شيء ؟

وفي آية أُخرى اعتمد على موضوع « الغنى الإلهي » لنفي الولد، إذ يقول :

( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وما فِي الأرْضِ ) (٢) .

وهكذا ينفي القرآن الكريم خرافة اتخاذ الله للبنين والبنات، تلك الخرافة التي كانت توجد في الديانات القديمة ك‍: « اليهودية » و « النصرانية »

__________________

(١) البقرة: ١١٧.

(٢) يونس: ٦٨.

٢٩٧

و « الزرادشتية » و « الهندوكية » وعند المشركين.

ولقد استدل المسيحيون على بنوة عيسى لله بتولده من غير أب، إذ قالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هل رأيت ولداً من غير أب ؟ إذن فليس لعيسى من أب إلّا الله.

فأجاب الله عن هذا الزعم بقوله :

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (١) .

أي إنّ مثل عيسى في تكونه من غير أب كمثل آدم في خلق الله له من غير أب وأُم فليس عيسى عندئذ بأبدع وأعجب من آدم فكيف أنكروا هذا وأقرّوا بذلك ؟!

خلاصة ما سبق

تلخّص مما سبق أنّ القرآن يستند في نفيه لاتخاذ الله ولداً على البراهين التالية :

١. ليست له سبحانه أية زوجة حتى يكون له ولد منها.

٢. انّه تعالى خالق كل شيء واتخاذ الولد ليس خلقاً بل هو انفصال جزء من الوالد وهو ينافي خالقيته لكل شيء.

٣. انّه مالك كل شيء مالكية ناشئة عن الخالقية وكون المسيح ولداً له سبحانه يستلزم عدم مخلوقيته وهو يستلزم عدم كونه مملوكاً وهو ينافي مالكية الله العامة.

٤. انّه سبحانه منزّه عن أحكام الجسم، واتّخاذ المسيح ولداً يستلزم كون الله

__________________

(١) آل عمران: ٥٩.

٢٩٨

جسماً ومحكوماً بالأحكام الجسمانية، لأنّ معنى كون المسيح ولداً له سبحانه هو انفصال جزء منه سبحانه وهو يستلزم كونه جسماً.

٥. انّ جميع الأشياء قائمة بالله فلا استقلال لسواه في حين يستلزم افتراض ولد لله سبحانه استقلاله كاستقلال الوالد حتى يكون الولد نظير الوالد.

٦. انّ الله تعالى غني فلا حاجة له إلى ولد.

٧. انّ كون المسيح دون والد ليس بأعجب من آدم الذي وجد من دون أبوين مطلقاً.

* * *

وأمّا الطريق الثاني(١) الذي سلكه القرآن لإبطال « بنوة خصوص المسيح » فهو بيان حياة السيد المسيح وشرحها بنحو واضح في سور مختلفة خاصة في سورة « مريم »(٢) بحيث لا يبقى أي شك لمنصف في « بشريته »عليه‌السلام .

وقد وردت في بعض الآيات التي مرت في هذا البحث نماذج عن حياته البشرية(٣) .

بقي هنا بحث هام اعتنى به القرآن الكريم بجد، وهو مسألة كون المسيح

__________________

(١) قد تقدم آنفاً في صفحة ٢٩٣ إنّ القرآن استعرض مسألة نفي الولد لله سبحانه بشكلين تارة عن طريق نفي أي ولد له سواء أكان المسيح أم غيره وأُخرى عن طريق نفي خصوص بنوة المسيح، وقد استوفينا البحث في القسم الأوّل وإليك البحث في القسم الثاني.

(٢) راجع سورة مريم: ١٦ ـ ٣٥.

(٣) راجع سورة المائدة: ١٧ و ٧٥، وسورة التوبة: ٣٠ وسيوافيك قوله سبحانه:( إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَىٰ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ ) ( النساء: ١٧١ ) فبملاحظة حالاته في هذه الدنيا نجزم بأنّه مخلوق لله سبحانه وليس ولداً له.

٢٩٩

معبوداً وانّه لا يستحق العبادة سواء أكان ابناً لله سبحانه أم لا، وسواء أصح التثليث أم لا، وهذه مسألة مستقلة تجتمع مع نفي التثليث والبنوة، ولأجل ذلك نستعرض هذا البحث مستقلاً عن البحثين الماضيين.

القرآن ومعبودية المسيح

إنّ القرآن ينزّه الله تنزيهاً مطلقاً عن أن يبعث رسلاً يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم بدل الدعوة إلى عبادة الله سبحانه، فقال :

( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيّيِنَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ *وَلا يَأْمُرَكُمْ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (١) .

وفي هاتين الآيتين نفي لمعبودية المسيح أو مشاركته في الربوبية.

كما أنّ القرآن الكريم طرح مسألة عبادة السيد المسيح في آيات أُخرى وأبطل ـ بنفي مالكية المسيح لضر عباده ونفعهم ـ إمكان كونه مستحقاً للعبادة فيقول :

( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ولا نَفْعاً والله هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (٢) .

__________________

(١) آل عمران: ٧٩ ـ ٨٠.

(٢) المائدة: ٧٥.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676