الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية8%

الحديث النبوي بين الرواية والدراية مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 676

الحديث النبوي بين الرواية والدراية
  • البداية
  • السابق
  • 676 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 89362 / تحميل: 6944
الحجم الحجم الحجم
الحديث النبوي بين الرواية والدراية

الحديث النبوي بين الرواية والدراية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ما طبكم »(1) .

وقد احتوى « نهج البلاغة » على طائفة كبيرة من خطب الامام تدل على استيائه البالغ ، وحزنه العميق من تخاذل جيشه وعدم استجابتهم لنصرته حتى ملأوا قلبه غيظا وجرعوه نغب التهمام انفاسا ـ على حد تعبيره ـ وبقي سأمهم من الحرب وكراهيتهم للجهاد مستمرا طيلة أيام أمير المؤمنين. ولما آل الأمر إلى الحسن (ع) ظهر ذلك بأبشع الصور فانه لما عرض عليهم دعوة معاوية للصلح ارتفعت أصواتهم وهم يهتفون :

« البقية البقية ».

ودل ذلك على مدى جزعهم من الحرب ، وكراهيتهم للجهاد ، وانهم لم يكونوا بأي حال مع الإمام لو فتح باب الحرب مع معاوية.

ج ـ فقد القوى الواعية :

ومما سبب تفلل الجيش العراقي فقده للقوى الواعية من أعلام الإسلام الذين آمنوا بحق أهل البيت (ع) وعرفوا فضلهم ، وكان الجيش بجميع كتائبه يكن لهم أعمق الولاء والتقدير لأنهم من خيار المسلمين ومن الذين أبلوا في الإسلام بلاء حسنا ، وكان لهم شأن كبير فى تنظيم الحركة العسكرية ، وفي توجيه الجيش في خدمة الأهداف الإسلامية ، وهم أمثال الصحابي العظيم عمار بن ياسر ، والقائد الملهم هاشم المرقال ، وثابت بن قيس ، وذو الشهادتين ونظائرهم من الذين سبقوا إلى الإسلام والإيمان ، وقد طحنتهم حرب صفين وقد أحصى رواة الأثر عدد البدرين منهم فكانوا ثلاثا وستين بدريا ، وهناك كوكبة أخرى من أبرار الصحابة وخيارهم قد استشهدوا فى تلك الحروب التي أثارها الطامعون والمنحرفون عن الإسلام ضد وصي رسول الله (ص)

__________________

(1) نهج البلاغة محمد عبده 1 / 70.

١٢١

وباب مدينة علمه ، وقد ترك فقدهم فراغا هائلا في الجيش العراقي فقد خسر الضروس والرءوس ، وبلي من بعدهم بالمنافقين والخوارج الذين كانوا سوسة تنخر فى كيانه ، ولو ضم جيش الإمام أمثال أولئك الأبرار لما التجأ إلى الصلح والموادعة مع خصمه.

د ـ الدعوة إلى الصلح :

ومما سبب ضعف العزائم ، وإخماد نار الثورة في نفوس الجيش دعوة معاوية إلى الصلح وحقن الدماء ، فقد كانت هذه الدعوى لذيذة مقبولة إلى حد بعيد ، فقد استطابها البسطاء والسذج ورحب بها عملاء معاوية وأذنابه من الذين ضمهم جيش الإمام ، ولم تكن الاكثرية الساحقة في الجيش تعلم بنوايا معاوية وما يبيته لهم من الشر فانخدعوا بدعوته إلى الصلح كما انخدعوا من قبل في رفع المصاحف ، مضافا لذلك خيانة زعمائهم ، والتحاقهم بمعسكر معاوية.

وعلى أي حال فقد رحبت أكثرية الجيش بالدعوة إلى الصلح وآثرت السلم على الحرب ، ولم يكن في استطاعة الامام أن يرغمهم على مناجزة معاوية ومقاومته.

ه ـ خيانة عبيد الله :

ويعتبر خذلان عبيد الله بن العباس من العوامل المهمة التي سببت تفكك الجيش وتخاذله ، فقد طعن بخيانته الجيش العراقي طعنة نجلاء ، وفتح باب الخيانة والغدر ، ومهد السبيل للالتحاق بمعاوية ، وقد وجد ذوو النفوس الضعيفة مجالا واسعا للغدر بخيانتهم للإمام ، فاتخذوا من غدر عبيد الله وسيلة لذلك فهو ابن عم الامام وأقرب الناس إليه ، وقديما قد قيل :

إذا فاتك الادنى الذي أنت حزبه

فلا عجب إن أسلمتك الاباعد

١٢٢

وقد أولد غدر عبيد الله في نفس الامام حزنا بالغا وأسى مريرا ، فانه لم يرع « الدين ، ولا الوتر ، ولا العنعنات القبلية ، ولا الرحم الماسة من رسول الله (ص) ، ولا من قائده الاعلى ، ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس إلى بيعة الحسن في مسجد الكوفة ، ولا الخوف من حديث الناس ، ونقمة التاريخ ».

و ـ رشوات معاوية :

وبالأموال تشترى ذمم الرجال ، وتباع الأوطان ، وتخمد الافكار ، وتسيل لها لعاب الابطال ، وقد عمد معاوية إلى بذلها بسخاء إلى الوجوه والاشراف والزعماء فانه لم ير وسيلة للتغلب على الاحداث إلا بذلك ، فغدروا بالامام ، وتسللوا إليه في غلس الليل وفى وضح النهار غير حافلين بالعار والخزي وعذاب الله ، وقد أدت خيانتهم إلى اضطراب الجيش وتفلله ، وإعلانه للعصيان والتمرد.

إن الاكثرية الساحقة من الجيش لم يكن لها أي هدف نبيل. وإنما كانت تسعى نحو المنافع والاطماع ، وقد أدلى بعضهم بذلك في بعض المعارك فقال :

« من أعطانا الدراهم قاتلنا معه ».

وهجا بعض الشعراء شخصا قتل في تلك المعارك يقول لابنائه :

ولا فى سبيل الله لاقى حمامه

أبوكم ولكن في سبيل الدراهم(1)

إن الجيش إذا كان مدفوعا بالدوافع المادية فانه لا يخلص في دفاعه ، ولا يؤمن من انقلابه ، وخطره على حكومته أعظم من الخطر الخارجي.

لقد بلغ من فساد العراقيين وجشعهم فى الحصول على أموال معاوية

__________________

(1) الطبري 2 / 19.

١٢٣

ان الإمام الحسن لما نزل بالمدائن للاستشفاء من جرحه في دار سعد بن مسعود الثقفي(1) وكان واليا على المدائن من قبل أمير المؤمنين (ع) وأقره الإمام الحسن عليها أقبل إليه ابن اخيه المختار ـ على ما قيل ـ وكان آنذاك غلاما فقال له :

« يا عم هل لك في الغنى والشرف؟ ».

« وما ذاك؟ ».

« توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية! ».

فانبرى إليه عمه وقد لسعه قوله قائلا :

« عليك لعنة الله أثب على ابن بنت رسول الله فاوثقه بئس الرجل أنت »(2) .

ولم يكن المختار وحده ـ على تقدير صحة هذه الرواية ـ قد غمره هذا الشعور بالخيانة ، فقد غمر ذلك أكثرية الجيش الذي كان مع الإمام ، فقد تسابقوا إلى مطامع الدنيا ، وليس ذلك في زمان الحسن (ع) وانما كان في زمان أمير المؤمنين (ع) فقد قال الإمام زين العابدين (ع) « إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه »(3) ان معاوية عرف نقطة الضعف في جيش

__________________

(1) سعد بن مسعود الثقفي ذكره البخاري في الصحابة ، وقال الطبراني : له صحبة ، ولاه أمير المؤمنين (ع) على بعض أعماله. واستصحبه معه إلى صفين ، وروى عنه أنه قال : كان نوح إذا لبس ثوبا حمد الله ، وإذا أكل وشرب حمد الله ، فلذا سمي عبدا شكورا ، الاصابة 2 / 34.

(2) الطبري ، والاصابة ، ونفى بعض المحققين صحة الخبر وجعله من الموضوعات ، ولا يبعد ذلك لأن المختار من خيرة الرجال في هديه وورعه وسائر نزعاته

(3) خطط المقريزي 2 / 439.

١٢٤

الإمام فأغدف عليهم بالرشوات حتى استجابوا له وتركوا عترة نبيهم ووديعته في أمته.

ز ـ الاشاعات الكاذبة

ومما سبب انحلال الجيش الاشاعات الكاذبة التي أذاعها عملاء معاوية فى ( المدائن ) بأن قيس بن سعد قد قتل ، واشاعوا أخرى بأنه قد صالح معاوية ، وقد اعتقد الجيش بصحة هذه الأنباء فارتطم بالفتن والاختلاف وأعظم هذه الدعايات بلاء وأشدها فتكا هي ما بثّه الوفد الذي أرسله معاوية للإمام ، فانه لما خرج منه أخذ يفتري عليه بأنه قد أجابهم إلى الصلح ، وحينما سمعوا بذلك اندفعوا كالموج فنهبوا أمتعته ، واعتدوا عليه ، ولو كانت عند الزعماء والوجوه صبابة من الانسانية والكرامة لقاموا بحماية الامام ، ورد الغوغاء عنه حتى يتبين لهم الأمر ، ولكنهم أقاموا في ثكناتهم العسكرية ولم يقوموا بحمايته ونجدته.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن العوامل التي أدت إلى تفكك الجيش والقضاء على اصالته ، ومن البديهي ان القوى العسكرية قلب الدولة ومصدر حمايتها فاذا أصيبت بمثل هذه الزعازع والأخطار فهل يتمكن القائد الاعلى أن يحقق أهدافه أو يفتح باب الحرب مع القوى المعادية له؟!.

2 ـ قوة العدو :

العامل الثاني الذي دعى الامام إلى المصالحة والمسالمة هو ما يتمتع به خصمه من القوى العسكرية وغيرها التي لا طاقة للإمام على مناجزتها ، ولا قابلية له للوقوف أمامها ، حتى استطاع معاوية أن يناجز أمير المؤمنين من قبل ويرغم الامام الحسن على الصلح ، ونقدم عرضا لبعضها وهي :

١٢٥

أ ـ طاعة الجيش :

وغرس معاوية حبه في قلوب جيشه ، وهيمن على مشاعرهم وعواطفهم فقد عرف ميولهم واتجاههم فسايرها حتى أحبهم وأحبوه وصاروا طوع إرادته وقد اختمر في أذهانهم بسبب دعايته وتمويهه أنه الحجة من بعد الخلفاء ، وان النبي (ص) ليس له وارث شرعي غير بني أمية فقد نقل المؤرخون أن أبا العباس السفاح(1) لما فتح الشام أقبلت إليه طائفة من الزعماء والوجوه فحلفوا له أنهم ما علموا للرسول قرابة ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حنى تولى بنو العباس الخلافة ، وفى ذلك يقول ابراهيم بن المهاجر البجلي(2) :

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجبا زاد على كل العجب

عجبا من عبد شمس إنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثوا أحمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كذبوا والله ما نعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب(3)

ويعود السبب في ذلك إلى الروايات التي تعمد وضعها الرواة المستأجرون وأشاعوها في أوساط دمشق من أن معاوية هو وارث النبيّ وأقرب الناس

__________________

(1) أبو العباس أول خلفاء بني العباس ولد سنة (108) بالحمية من ناحية البلقاء ، ونشأ بها ، وبويع له بالكوفة في 3 ربيع الاول سنة (132) وكان سريعا إلى سفك الدماء ، وسار على منواله عماله بالمشرق والمغرب ، توفى بالجدري سنة (136) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 100.

(2) ابراهيم بن المهاجر البجلي : هو أبو اسحاق الكوفي روى عن جماعة من الثقات وروى عنه آخرون اختلف فى روايته فقيل إنه ثقة وقيل إنه ضعيف ، تهذيب التهذيب 1 / 167.

(3) مروج الذهب 2 / 335.

١٢٦

إليه وقد أفاضوا عليه وعلى الشجرة الملعونة من اسرته النعوت الحسنة والاوصاف الشريفة حتى جعلوهم فى الرعيل الأول من المصلحين الاخيار وأصبحت طاعتهم فرضا من فروض الدين ، واعتقدوا فيه وفي بني أمية أكثر من ذلك يقول الاستاذ ( فان فلوتن ) : « وكان السواد الاعظم يرى في حزب بني أمية حزب الدين والنظام » وقال : « وكان معاوية فى نظر الحزب الاموي خليفة الله كما كان ابنه يزيد إمام المسلمين ، وعبد الملك إمام الاسلام وأمين الله »(1) وبلغ من ودهم وطاعتهم له أنه كان يسلك بهم جميع المسالك البعيدة التي تتنافى مع الدين حتى استطاع أن يحقق بهم جميع ما يصبو إليه ، ونظرا لمزيد طاعتهم له تمنى أمير المؤمنين أن يصارفه معاوية بأصحابه فيعطيه واحدا منهم ويأخذ عشرة من العراقيين الذين عرفوا بالشغب والتمرد.

ب ـ بساطة وسذاجة :

وأتاح الزمن الهزيل إلى معاوية أن يسيطر على جيش كان مثالا للسذاجة والبساطة فلم يعرف الاكثر منهم أي طرفيه أطول وقد احتفظ التأريخ بصور كثيرة من بلاهتهم تدل على مدى خمولهم وعدم نباهتهم ، فقد ذكر المؤرخون أن رجلا من أهل الكوفة قدم على بعير له إلى دمشق حال منصرفهم من صفين فتعلق به رجل من أهل دمشق قائلا له :

« هذه ناقتي أخذت مني بصفين ».

وحدث بينهما نزاع حاد فرفعا أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي بينة على دعواه تتألف من خمسين رجلا يشهدون انها ناقته فقضى معاوية على الكوفى وأمره بتسليم البعير إليه فورا ، فالتفت إليه العراقي متعجبا من هذا

__________________

(1) السيادة العربية ص 70.

١٢٧

الحكم قائلا :

« أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة! ».

« حكم قد مضى ».

ولما انفض الجمع أمر معاوية باحضار العراقي فلما مثل عنده سأله عن ثمن البعير فاخبره به فدفع إليه ضعفه وبرّ به وأحسن إليه ثم قال له :

« أبلغ عليا أني أقابله بمائة الف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل »(1) .

ان خمسين رجلا منهم لا يفرقون بين الناقة والجمل ، وليس من شك أن الاكثرية الساحقة منهم لا يميزون بين الحق والباطل ولا يتدبرون الفرق بين المحسوسات همج رعاع لا تفكير لهم ولا تدبر ، وأدل دليل على غفلتهم قصة الصحابي العظيم عمار بن ياسر حينما نال الشهادة فوقع الاختلاف فيما بينهم لقول النبي (ص) « ان ابن سمية تقتله الفئة الباغية » ولما رأى ابن العاص الخلاف قد دب فيهم قال لهم إن الذي قتله من أخرجه فصدقوا قوله ورجعوا إلى طاعة معاوية ومن الطبيعي ان الدولة إذا ظفرت بمثل هذا الجند المطيع الغافل توصلت الى غاياتها وتحقيق أهدافها.

وأبقى معاوية أهل الشام على غفلتهم يتخبطون في دياجير الجهالة ويسرحون في ميادين الشقاء رازحين تحت نير الاستعباد الاموي قد وضع بينهم وبين الناس حجابا حديديا فلم يسمح للغير أن يتصل بهم ولم يسمح لهم بالاتصال بالغير لئلا تتبلور أفكارهم ويقفون على الحقيقة فيتبين لهم باطل معاوية وابتزازه للخلافة من أهلها.

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 332.

١٢٨

ج ـ اتفاق الكلمة :

ذكرنا فى بحوثنا السابقة ما منى به العراق من الاختلاف والتفكك بسبب الأحزاب التي كانت تعمل على زعزة كيان الدولة الهاشمية وتحطيم عروشها وعلى العكس من ذلك كانت الشام فانها بجميع طبقاتها لم تبتل بتلك الأحزاب ولم تصب بالافكار المعادية للحكم القائم فقد كان السلام والوئام والهدوء مخيما على دمشق وجميع ملحقاتها ولم يكن في الجيش ولا في المملكة وكر للخوارج ولا دعاة لهم ولا لغيرهم ممن يعملون على قلب الحكم ، وهذا الاتفاق الداخلي هو السبب في قوة معاوية واتساع نطاقه ونفوذه.

د ـ ضخامة القوى العسكرية :

وانفق معاوية جميع جهوده المعنوية والمادية فى إصلاح جيشه وتقويته فانه لما منيت الشام بخطر الروم بادر فعقد هدنة مؤقتة مع ملكها ودفع إليه أموالا خطيرة ولم يفتح معه باب الحرب لئلا تضعف أعصاب جيشه ومضافا إلى ذلك فانه لم يستعمله في الفتوح والحروب ، فلم يكن قد ولج به حربا غير صفين فكان محتفظا بنشاطه وقوته.

وبالإضافة لجيشه الذي كان مقيما معه في دمشق فانه لما عزم على حرب الإمام الحسن كتب إلى عماله وولاته في جميع الأقطار يطلب منهم النجدة والاستعداد الكامل لحرب ريحانة رسول الله (ص) ، وفى فترات قصيرة التحقت به قوى هائلة ضخمة فضمها إلى جيوش أهل الشام ، وزحف إلى العراق بجيش جرار كامل العدد حسن الهيئة موفور القوة ، مطيع لأمره فرأى الإمام الحسن (ع) أنه لا يتمكن على مقابلته ولا يستطيع أن يحاربه بجيشه المتخاذل الذي تسوده الخيانة والغدر.

١٢٩

ه ـ حاشيته :

ومضافا إلى ما كان يتمتع به معاوية من القوى العسكرية فقد ظفر بقوة أخرى لها أثرها الفعال فى تقوية جبهته وتوجيهه وتدبير شؤنه وهي انضمام المحنكين والسياسيين إليه طمعا بماله ودنياه ، وهم كالمغيرة بن شعبة الذي قيل في حيلته ودهائه « لو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج منها إلا بالمكر والخداع لخرج المغيرة من أبوابها كلها. » وقيل فى عظيم مكره « كان المغيرة لا يقع في أمر إلا وجد له مخرجا ، ولا يلتبس عليه أمران إلا أظهر الرأي في أحدهما » ومن حاشيته عمرو بن العاص الذي كان قلعة من المكر والباطل ، وقد قيل في وصفه « ما رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص » وهو في طليعة من رفع علم الثورة على عثمان لأنه عزله عن منصبه ، وكان يثير عليه حفائظ النفوس ويحفز القريب والبعيد لمناجزته وقال فى ذلك : « والله لألقى الراعي فاحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء والوجوه » ولما بلغه مقتله قال : « أنا أبو عبد الله ما نكأت قرحة إلا أدميتها » وهو الذي خدع الجيش العراقي برفع المصاحف ، فتركه ممزق الأوصال ، مختلف الأهواء.

لقد جذب معاوية هؤلاء الدهاة الماكرين الذين يخلطون السم بالعسل ، ويلبسون الباطل لباس الحق ، ولم يتحرجوا من الاثم والمنكر في سبيل نزعاتهم الشريرة ، ولم يكن لهم هدف إلا القضاء على ذرية النبيّ (ص) ومن يمت إليهم من صالحاء المسلمين ليتسنى لهم القضاء على الإسلام حتى يمعنوا في التحلل حيثما شاءوا ، وقد وقف الإمام الحسن (ع) معهم في صلحه أحزم موقف يتخذه المفكرون فقد حفظ ذرية رسول الله (ص) وحقن دماء المؤمنين من شيعته لأن التضحية في ذلك الوقت لا يمكن بأي حال من الأحوال

١٣٠

أن تعود بالصالح العام للمسلمين لأنهم يضفون عليها أصباغا من التمويه والتظليل ما تفقد به معنويتها وأصالتها.

و ـ ضخامة الأموال :

ويسر لمعاوية من الثراء العريض الذي مهدته له بلاد الشام طيلة ملكه لها فانه لم ينفقها فى صالح المسلمين وانما شرى بها الضمائر والاديان ، ليمهد بذلك الطريق الموصل لفوزه بالإمرة والسلطان والتحكم في رقاب المسلمين. لقد وجه معاوية الجباة السود إلى أخذ الضرائب من الشعوب الإسلامية التي احتلها ، وقد عمدوا إلى أخذ أموال المسلمين بغير حق ، حتى بالغوا في إرهاقهم وإرغامهم على أدائها ، كما فرض عليهم من الضرائب ما لا يقره الإسلام كهدايا النيروز وغيرها ، وقد امتلأت خزائنه بها فأنفقها بسخاء على حرب ريحانة رسول الله (ص) والتغلب عليه ، وقد رأى السبط بعد هذه القوى التي ظفر بها ابن هند أنه لا يمكن مناجزته ، ولا الانتصار عليه ، وان الموقف يقضي بالصلح والمسالمة لا بالحرب والمناجزة فانها تجر للأمة من المضاعفات السيئة ما لا يعلم خطورتها إلا الله.

3 ـ اغتيال أمير المؤمنين :

ومن العوامل التي دعت الإمام الى الصلح ما روع به من اغتيال أبيه ، فقد ترك ذلك حزنا مقيما وأسى شديدا في نفسه لأنه قد قتل على غير مال احتجبه ولا سنة في الإسلام غيرها ، ولا حق اختص به دونهم ، وكان يحيى بينهم حياة الفقراء والضعفاء ، ويتطلب لهم حياة حافلة بالنعم والخيرات ، ويسعى جادا فى اقامة العدل ، واماتة الجور ، ونصرة المظلومين واعالة الضعفاء والمحرومين ، فعمدوا على اغتياله وتركوه صريعا في محرابه

١٣١

لم يحافظوا حرمته ، ولا حرمة رسول الله (ص) فيه وقد رأى الإمام الحسن (ع) بعد ارتكابهم لهذه الجريمة النكراء أنه لا يمكن إصلاحهم ، وإرجاعهم الى طريق الحق والصواب ، فتنكر منهم ، وزهد في ولايتهم ، وقد أدلى (ع) بذلك بقوله :

« وقد زهدني فيكم اغتيالكم أبي ».

حقا أن يكون اغتيال الامام أمير المؤمنين (ع) رائد العدالة الاجتماعية الكبرى من الأسباب الوثيقة التي زهدت الامام الحسن في ذلك الشعب الجاهل الذي غمرته الفتن والأطماع ، وانحرف عن الطريق القويم.

4 ـ حقن الدماء :

ومن دواع الصلح رغبة الإمام الملحة في حقن دماء المسلمين ، وعدم اراقتها ، ولو فتح باب الحرب مع معاوية لضحى بشيعته وأهل بيته ، ويجتث بذلك الإسلام من أصله ، وقد صرح (ع) بذلك في جوابه عن دوافع صلحه فقال :

« إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعي »

وأجاب (ع) بعض الناقمين عليه من شيعته فى الصلح فقال : « ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل »(1) . وأعرب في خطابه الذي ألقاه في المدائن عن مدى اهتمامه في دماء المسلمين فقد جاء فيه.

« أيها الناس. إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة ، وحقن دمائها. »(2)

__________________

(1) الدينوري ص 303.

(2) أعيان الشيعة 4 / 42.

١٣٢

ومن حيطته ورعايته لذلك أنه أوصى أخاه الحسين حينما وافاه الأجل المحتوم أن لا يهرق في أمره ملء محجمة دما. »

إن أحب شيء للإمام (ع) الحفاظ على دماء المسلمين ، ونشر الأمن والوئام فيما بينهم ، وقد بذل في سبيل ذلك جميع جهوده ومساعيه.

5 ـ منة معاوية :

لقد علم الإمام (ع) أنه إن حارب معاوية فان اجلاف العراقيين وأوباشهم سوف يسلمونه أسيرا الى معاوية وأغلب الظن انه لا يقتله بل يخلي عنه ويسجل له بذلك مكرمة وفضيلة ويسدي يدا بيضاء على عموم الهاشميين ويغسل عنه العار الذي لحقه من أنه طليق وابن طليق ، وقد صرح الحسن (ع) بهذه الخاطرة قائلا :

« والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، والله لئن أسالمه وأنا عزيز ، أحب إليّ من أن يقتلنى وأنا أسير أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها هو وعقبه على الحي منّا والميت. »

وهذا السبب له مكانته من التقدير فان الإمام أراد أن لا يسجل لخصمه أي فضيلة ومكرمة.

6 ـ حوادث المدائن :

ومن جملة الأسباب التي دعت الامام الى الصلح هي الحوادث القاسية التي لاقاها في المدائن ، وقد ذكرناها مشفوعة بالتفصيل وخلاصتها.

أ ـ خيانة الزعماء والوجوه واتصالهم بمعاوية.

١٣٣

ب ـ الحكم عليه بالتكفير من قبل الخوارج.

ج ـ اغتياله.

د ـ نهب أمتعته.

هذه بعض العوامل التي أدت الامام الى السلم ، وفيما نعلم انها تلزم بالصلح وعدم فتح أبواب الحرب.

7 ـ الحديث النبوي :

نظر النبي (ص) الى الحوادث الآتية من بعده فرآها بعينها وحقيقتها لا بصورها وأشكالها ، رأى أمّته ستخيم عليها الكوارث ، وتنصب عليها الفتن والخطوب ، حتى تشرف على الهلاك والدمار ، وإن إنقاذها مما هي فيه من الواقع المرير سيكون على يد سبطه الأكبر ، وريحانته من الدنيا الامام الحسن (ع) فأرسل كلمته الخالدة قائلا :

« إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين »(1) .

وانطبع هذا الحديث في أعماق الامام الحسن وفي دخائل ذاته منذ نعومة أظفاره ، وتمثل أمامه في ذلك الموقف الرهيب ، « وإنه ليطمئن الى قول جده كما يطمئن الى محكم التنزيل وها هو ذا جده العظيم يقول له : وكأن صوته الشريف يرن بعذوبته المحببة في أذنه ، ويقول لأمّه الطاهرة البتول ، ويقول على منبره ، ويقول بين أصحابه ، ويقول ما لا يحصى كثرة : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ».

وزادت هذه الذكرى تفاعلا شديدا في نفسه فقد رأى ما عناه

__________________

(1) تقدمت مصادر الحديث في الجزء الأول من هذا الكتاب ص 81.

١٣٤

جده (ص) في ( المدائن ) رأى طائفتين :

( إحداهما ) شيعته وهم من خيار المسلمين ، وصالحائهم من الذين وقفوا على أهداف الاسلام ، وعرفوا حقيقته وواقعه.

( الثانية ) اتباع معاوية من السذج والبسطاء والمنحرفين عن الاسلام ، وهؤلاء وإن كانوا بغاة قد خرجوا على إمام زمانهم ولكنهم يدعون الاسلام وهاتان الطائفتان إن دارت رحى الحرب فانها ستطحن الكثير منهم وبذلك يتضعضع كيان الاسلام وتنهار قواه ، ومن يصد عن المسلمين العدو الرابض الذي يراقب الأحداث ليثب عليهم ، ومن هو يا ترى حريص على رعاية الاسلام والحفاظ على المسلمين غير سبط النبي ووارثه ، فاثر الصلح على ما فيه من قذى في العين ، وشجى في الحلق ، ويذهب شمس الدين الصقلي ( المتوفى سنة 565 ه‍ ) الى أن الباعث لخلع الحسن نفسه عن الخلافة حديث النبي (ص) في ذلك(1) .

وزعم الرواة ان النبي (ص) كان يحدث أصحابه عن عمر الخلافة الاسلامية فقال لهم : « إن الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا. » ولاحظوا أن في مصالحة الحسن لمعاوية قد كملت الثلاثون سنة حسب ما يقولون(2) .

__________________

(1) أنباء نجباء الأبناء ص 56.

(2) البداية والنهاية 8 / 41 ، وعندي أن هذا الحديث من الموضوعات لأن الخلافة قد صارت ملكا عضوضا في أيام عثمان فهو الذي حولها عن مفاهيمها الخلاقة وآثر الأمويين في الحكم والأموال وأتاح لهم من القوى ما هيأهم لمنازعة أمير المؤمنين ، وقد تحدث النبي (ص) عما يئول إليه الأمر من بعده فقال : « إن أول دينكم بدء نبوة ورحمة ، ثم يكون ملكا وجبرية » رواه السيوطي ـ

١٣٥

نظر الحسن (ع) الى قول جده (ص) فعلم أن الأمر لا بد أن ينتقل الى معاوية ، ومضافا لذلك فقد أخبره أبوه بذلك كما حدث عنه فقال :

« قال لي أبي ذات يوم : كيف بك يا حسن إذا ولي هذا الأمر بنو أميّة؟ وأميرها الرحب البلعوم ، الواسع الاعفجاج ، يأكل ولا يشبع ، فيستولي على غربها وشرقها ، تدين له العباد ، ويطول ملكه ، ويسن البدع والضلال ، ويميت الحق وسنة رسول الله (ص) ، يقسم المال في أهل ولايته ، ويمنعه عمن هو أحق به ، ويذل في ملكه المؤمن ، ويقوى في سلطانه الفاسق ، ويجعل المال بين أنصاره دولا ، ويتخذ عباد الله خولا ، ويدرس في سلطانه الحق ، ويظهر الباطل ، ويقتل من ناوأه على الحق »(1)

إن النبي والوصي قد استشفا من حجاب الغيب ما تمنى به الأمّة الاسلامية من المحن والبلاء بسبب تخاذلها عن مناصرة الحق ومناجزة الباطل وانها من جراء ذلك سيتولى أمرها الأدعياء من الطلقاء وأبنائهم فيسومونها سوء العذاب ، ويستأثرون بمال الله ، ويتخذون المسلمين عبيدا لهم وخولا.

وكان معاوية يعلم بمصير الأمر إليه في زمان أمير المؤمنين (ع) فقد صنع فذلكة استعلم بها منه عما يؤول إليه أمره ، فبعث جماعة من أصحابه الى الكوفة ليشيعون أن معاوية قد مات ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين ، وتكرر حديث الناس حول هذه الاشاعة فقال (ع).

« قد أكثرتم من نعي معاوية ، والله ما مات ، ولا يموتن حتى يملك

__________________

ـ في تأريخ الخلفاء ص 6 ، وقد تحقق قوله (ص) فان الدين أول بدئه كان نبوة ورحمة ، ثم تحول في زمان الأمويين الى ملك وطغيان وجبرية.

(1) البحار

١٣٦

ما تحت قدمي. »(1)

ولما بلغه ذلك اعتقد به لعلمه أن الامام هو باب مدينة علم النبي (ص) ومستودع سره ، وان قوله لا يتخلف عن الواقع ولا يخطئ الحق.

ومهما يكن الأمر فان الامام الحسن (ع) بصلحه مع معاوية قد لقبه المسلمون بالمصلح العظيم ، وقد أفاض عليه هذا اللقب جده الرسول من قبل.

8 ـ العصمة :

وذكرت طائفة من العلماء الأعلام صلح الامامعليه‌السلام فعللته بالعصمة وان الامام المعصوم لا يرتكب الخطأ ولا يفعل إلا ما فيه الخير والصلاح لجميع الأمّة ولعل الوجوه التي ذكرناها قد كشفت عن مناط هذا القول وأوضحت حسنه وذلك للأسباب والعوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته الى الصلح ، ونشير الى بعض الذاهبين الى هذا القول وهم :

1 ـ الشريف المرتضى :

قال الشريف المرتضى علم الهدى(2) رحمه‌الله : « إنه ( يعني الحسن )

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 295.

(2) الشريف المرتضى : هو علي بن الحسين ينتهي نسبه الوضاح الى امام المسلمين موسى بن جعفرعليه‌السلام ، كانت له نقابة الطالبيين لقب بالمرتضى وعلم الهدى كانت ولادته في سنة ( 355 هج ) ووفاته في سنة (436) ، وكان أكبر من أخيه الشريف الرضي. قال أبو جعفر الطوسي : قد توحّد المرتضى في علوم كثيرة وكان مجمعا على فضله ومقدما في العلوم كعلم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب وغير ذلك وله ديوان شعر يزيد على عشرة آلاف بيت وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون جاء ذلك في معجم الأدباء 13 / 146.

١٣٧

قد ثبت انه المعصوم المؤيد بالحجج الظاهرة ، والأدلة القاهرة ، فلا بد من التسليم لجميع أفعاله وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل أو كان له ظاهر نفرت منه النفوس »(1) .

2 ـ السيد ابن طاوس :

وعلل نابغة الإسلام السيد الجليل ابن طاوس طيب الله مثواه(2) في وصيته لولده صلح الإمام بالعصمة وببعض الأسباب التي ذكرناها قالرحمه‌الله يخاطب ولده :

« وليس بغريب من قوم عابوا جدك الحسن على صلح معاوية وهو كان بأمر جده وقد صالح جده الكفار وكان عذره في ذلك أوضح

__________________

(1) تنزيه الأنبياء ص 69.

(2) السيد ابن طاوس : هو السيد الجليل الكامل العابد المجاهد رضي الدين أبو القاسم على بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني الحسيني ، لقب بالطاوس من جهة حسن وجهه وخشونة رجليه ، وكان من سكنة الحلة ، وهو من السادة المعظمين ، ومن النقباء وله مؤلفات كثيرة ، وقد ذكر جميع مناقبه وعلومه الحجة الثبت السيد محمد باقر الخونساري في مؤلفه روضات الجنات 3 / 43 ـ 47 وجاء في الكنى والألقاب 1 / 328 ان السيد تولى نقابة الطالبيين وكان يجلس فى قبة خضراء والناس تقصده وقد لبسوا لباس الخضرة بدل السواد وذلك عقيب وقعة بغداد ، وفي ذلك يقول علي بن حمزة :

فهذا علي نجل موسى بن جعفر

شبيه علي نجل موسى بن جعفر

فذاك بدست للامامة أخضر

وهذا بدست للنقابة أخضر

يشير بذلك الى الامام الرضا (ع) لما ولى العهد فقد لبس لباس الخضرة توفى السيد ابن طاوس يوم الاثنين خامس ذي العقدة سنة ( 664 هج ).

١٣٨

الأعذار فلما قام أخوه الحسين بنصرهم وإجابة سؤالهم وترك المصالحة ليزيد المارق كانوا بين قاتل وخاذل حتى ما عرفنا أنهم غضبوا في أيام يزيد لذلك القتل الشنيع ولا خرجوا عليه ولا عزلوه عن ولايته وغضبوا لعبد الله ابن الزبير وساعدوه على ضلالته وافتضحوا بهذه المناقصة الهائلة وظهر سوء اختيارهم النازلة فهل يستبعد من هؤلاء ضلال عن الصراط المستقيم؟ وقد بلغوا الى هذا الحال السقيم العظيم الذميم »(1) .

وعلل السيدرحمه‌الله صلح الامام ( أولا ) بالعصمة من الخطأ وقاس صلحه بصلح جده الرسول (ص) مع المشركين في قصة الحديبية فكما ان صلح الرسول لا يتطرقه الشك ولا يأتيه النقد نظرا لوجود المصلحة فيه فكذلك صلح الإمام مع خصمه فانه محفوف بالمصلحة العامة لعموم المسلمين و ( ثانيا ) ببلاء الإمام ومحنته بذلك المجتمع الضال الذي لم يقم وزنا للفضيلة ولم يفقه من القيم الروحية شيئا فانه هو الذي اضطر الإمام الى الصلح والمسالمة. وأقام السيد الدليل على تفسخ أخلاق ذلك المجتمع وتماديه في الشر وذلك بمتابعته ليزيد شارب الخمور ، ومعلن الفسق والفجور ، ومناصرته والاشتراك معه في أفظع فظع جريمة سجلها التأريخ وهي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسينعليه‌السلام ولم يظهر أحد منهم الأسف والحزن على هذه الجريمة ، وما ثاروا عليه ، ولا عزلوه عن منصبه. وقد ذكرنا في الابحاث السالفة الأسباب التي أوجبت هذا الانحطاط الهائل في جموع أهل العراق.

9 ـ ابراز الواقع الاموي :

كان معاوية قبل أن يستولي على زمام الحكم ملتزما بتعاليم الإسلام

__________________

(1) كشف المحجة لثمرة المهجة يحتوي على وصايا رفيعة لولده ص 46.

١٣٩

ظاهرا ، ويظهر الاهتمام بشئون المسلمين ، ولكن كان ذلك ـ من دون شك ـ رياء منه ومكيدة من باب المشي رويدا لأخذ الصيد ، كان يبطن الكفر والنفاق ويضمر السوء والعداء للمسلمين فأراد الإمام الحسن (ع) بصلحه أن يبرز حقيقته ، ويظهر للناس عاره وعياره ، ويعرفه للذين خدعهم بمظاهره من أنه أعدى عدو للإسلام ، فأخلى له الميدان ، وسلم له الأمر ، فاذا بكسرى العرب ـ كما يقولون ـ تتفجر سياسته الجهنمية بكل ما خالف كتاب الله ، وسنة رسول الله (ص) ، وإذا به يعمد الى فصم عرى الإسلام وإلى نسف طاقاته ، وإلى الإجهاز على القوى الواعية فيه ، فيصب عليها وابلا من العذاب الأليم ، فيعدم وينكّل بمن شاء منها ، ويرغم المسلمين على البراءة من عترة نبيهم ، واعلان سبهم وانتقاصهم على الأعواد والمنابر وبذلك ظهرت خفايا نفسه ، وفهم المسلمون جميعا حقيقة هذا الطاغية وما يبغيه من الغوائل لهم ، ولو لم تكن للصلح من فائدة إلا إظهار ذلك لكفى بها كما نصّ على ذلك الامام كاشف الغطاءرحمه‌الله في مقدمته لهذا الكتاب(1) .

إن معاوية بعد أن آل إليه الأمر حمل معول الهدم على جميع الأسس الاسلامية محاولا بذلك اطفاء نور الاسلام ، ولف لوائه ، ومحو أثره ، وقلع جذوره ، واعادة الحياة الجاهلية الأولى ، وقبل أن نعرض بعض موبقاته ومردياته التي سود بها وجه التأريخ نذكر ما أثر عن أبويه من الحقد والعداء للإسلام. وما ورد من النبي (ص) من الأخبار فى انتقاصه وذمه لنرى هل كان خليقا بأن تسند إليه الامارة ويفرض حاكما على المسلمين ويخلى بينه وبين الحكم يتصرف فيه كيفما يشاء من دون أن يحاسب أو يراقب وإلى القراء ذلك.

__________________

(1) ص 18 ـ 19.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الاَقاويل* لاَخَذْنا مِنْهُ باليَمينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتينَ* فَما مِنكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ ) (الحاقة/٤٤-٤٧) ونبي اللّه لا يخالف كتاب اللّه تعالى، ومخالف كتاب اللّه لا يكون نبي اللّه، وهذا الذي رووه خلاف القرآن، لاَنّه قال اللّه تعالى في القرآن في الزانية والزاني:( واللّذانِ يأتيانِها مِنكُم ) (النساء/١٦) فقوله: (منكم) لم يعن به اليهود و لا النصارى، إنّما عني به المسلمون، فردُّ كلّرجل يحدث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخلاف القرآن، ليس رداً على النبيعليه‌السلام ولا تكذيباً له، ولكن ردٌّ على من يحدِّث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالباطل، والتهمة دخلت عليه، ليس على نبيِّ اللّهعليه‌السلام وكذلك، كلّشيء تكلم به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمعنا به أو لم نسمعه فعلى الرأس والعين، قد آمنا به، ونشهد أنّه كما قال نبي اللّهعليه‌السلام ، ونشهد أيضاً على النبيعليه‌السلام أنّه لم يأمر بشيء نهى اللّه عنه، ولم يقطع شيئاً وصّله اللّه، ولا وصف أمراً وصف اللّه ذلك الاَمر بغير ما وصف به النبي، و نشهد انّه كان موافقاًللّه في جميع الاُمور، لم يبتدع ولم يتقوَّل على اللّه غير ما قال اللّه عزّوجلّ.ولا كان من المتكلّفين، ولذلك قال اللّه تعالى:( مَنْ يُطعِ الرسُّولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّه ) (النساء/٨٠).(١)

____________________

١ العالم والمتعلم، ص ١٠٠- ١٠٣.

٤٦١

٢٦- ابن عباس

(٣ق. ه- - ٦٨ه-)

سيرته وأحاديثه الرائعة

أحاديثه السقيمة

١.جواز التيمم مع إمكان العثور على الماء

٢. لعن زائرات القبور

٣. معاوية أوّل من نهى عن التمتع في الحج

٤. تزوج النبي و هو محرم

٥. رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه مرّتين

٦. ثلاثة اقتراحات لاَبي سفيان

٧. خويلد يزوج خديجة ثملاً

٨. تردد ابن عباس في جملة انّها من القرآن

٩. الروافض على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٠. أخذ الاُجرة على تعليم كتاب اللّه

حبر الاُمّة وفقيه العصر وإمام التفسير تلميذ الاِمام أمير الموَمنين عليعليه‌السلام ، أبو العباس عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، ولد في شعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين، صحب النبي نحواً من ثلاثين شهراً وحدّث عنه وعن: عليعليهما‌السلام ، ومعاذ، و عبد الرحمان بن عوف، و أبي ذر، وأُبيّ بن كعب، إلى غير ذلك.

قرأ عليه: مجاهد، وسعيد بن جبير، وطائفة.

روى عنه خلق كثير، منهم: ابنه علي، و مواليه عكرمة، ومقصم، و كريب،

٤٦٢

وأبو معبد نافذ، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل، وأبو امامة بن سهل، وأخوه كثير ابن العباس، وعروة بن الزبير، وعبيد اللّه بن عبد اللّه و....

انتقل ابن عباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح وقد أسلم قبل ذلك.

وكان فقيهاً مفتياً محدِّثاً عالماً بالتفسير، وهو أوّل من أملى في تفسير القرآن ناقلاً عن الاِمام عليعليه‌السلام ، وكان يسمّى البحر والحبْر لغزارة علمه.

روي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح رأسه و دعا له بالحكمة، كما روي انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا في حقّه، وقال: اللّهمّ علّمه تأويل القرآن.

تُوفي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وله من العمر خمس عشرة سنة، أو ثلاث عشرة سنة.

عُدّ من المكثرين في الفتيا من الصحابة.

مسنده ألف وستمائة وستون حديثاً، له من ذلك في الصحيحين ٧٥، وتفرّد البخاري بمائة وعشرين حديثاً، وتفرد مسلم بتسعة أحاديث.

وقد جمعت أحاديثه في المسند الجامع فبلغت ١١٨٥ حديثاً.(١)

وشهد ابن عباس مع الاِمام عليعليه‌السلام حروبه كلّها: الجمل وصفين والنهروان، وولاّه أمير الموَمنين البصرةَ بعد ظفره بأصحاب الجمل، وكان يُعدّه لمهام الاُمور.

وكان بين ابن عباس، ومعاوية وابن الزبير منافرات شديدة، رواها الموَرّخون في كتبهم، ولما دعا ابن الزبير لنفسه بالخلافة، أبى ابن عباس أن يبايعه، فأخرجه من مكة إلى الطائف فتوفي بها سنة ثمان و ستين، ولما دفن قال محمد بن الحنفية: اليوم مات ربّانيّ هذه الاُمّة.(٢)

____________________

١ انظر المسند الجامع:ج٨ وج٩.

٢ انظر أُسد الغابة: ٣/٢٩٠؛ طبقات ابن سعد: ٢/٣٦٥؛ سير أعلام النبلاء: ٣/٣٣١ برقم ٥١.

٤٦٣

روائع أحاديثه

١. أخرج البخاري في صحيحه، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «أبغض الناس إلى اللّه ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الاِسلام سنّة الجاهليّة، ومطَّلب دم امرىَ بغير حقٍّ ليهريق دمه».(١)

٢. أخرج البخاري في الاَدب المفرد، عن عبد اللّه بن المساور، قال: سمعت ابن عباس يخبر ابن الزبير، يقول: سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:

«ليس الموَمن الذي يشبع وجاره جائع».(٢)

٣. أخرج الترمذي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية اللّه، وعين باتت تحرس في سبيل اللّه».(٣)

٤. أخرج الترمذي، عن علي بن عبد اللّه بن عباس، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«احبُّوا اللّه لما يغذوكم من نعمه، واحبّوني بحبِّ اللّه، وأحبّوا أهل بيتي لحبِّي».(٤)

٥. أخرج الترمذي في سننه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:

كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حامل الحسن بن علي على عاتقه، فقال رجل: نعم المركب ركبتَ يا غلام، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ونعم الرّاكب هو».(٥)

٦. أخرج عبد بن حميد في مسنده، عن عطاء، عن ابن عباس، قال:

قيل لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي جلسائنا خير؟ قال: «من

____________________

١ صحيح البخاري: ٩/٦٧، باب من طلب دم امرىَ بغير حق.

٢ الاَدب المفرد: ٥٤ برقم ١١٢.

٣ سنن الترمذي: ٤/١٧٥برقم ١٦٢٩.

٤ سنن الترمذي: ٥/٦٦٤ برقم ٣٧٨٩.

٥ سنن الترمذي: ٥/٦٦١ برقم ٣٧٨٤.

٤٦٤

ذكَّركم باللّه روَيته، وزاد في علمكم منطقُه، وذكَّركم بالآخرة عملُه».(١)

٧. أخرج ابن ماجة في سننه، عن محمد بن كعب القُرظيّ، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لكلّدين خُلقاً، وإنّ خلق الاِسلام الحياء.(٢)

٨. أخرج أحمد في مسنده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال:

«اتّقوا الحديث عنّي إلاّما علمتم، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبّوأ مقعده من النار، و من قال في القرآن برأيه فليتبّوأ مقعده من النار».(٣)

٩. أخرج أحمد في مسنده، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«الدّين النصيحة»، قالوا: لمن؟ قال: «للّه ولرسوله ولاَئمّة الموَمنين».(٤)

١٠. أخرج مسلم في صحيحه، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن عباس، قال:

لما حُضِ-رَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هلمّ، اكتب لكم كتاباً، لا تضلّون بعده، فقال عمر: إنّ رسول اللّه صقد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه، فاختلف أهل البيت فاختصموا... فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع.

فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزيّة كلّالرزيّة ما حال بين رسول اللّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.(٥)

____________________

١ مسند عبد بن حميد: برقم ٦٣١.

٢ سنن ابن ماجة: ٢/١٣٩٩ برقم ٤١٨٢.

٣ مسند أحمد بن حنبل: ١/٢٣٣.

٤ مسند أحمد:١/٣٥١.

٥ صحيح مسلم: ٥/٧٦، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، من كتاب الوصية.

٤٦٥

وقد عزيت إليه أحاديث سقيمة لا تستقيم مع الضوابط التي ذكرناها في صدر الكتاب.

١. جواز التيمم مع إمكان العثور على الماء

أخرج أحمد، عن حنش، عن ابن عباس

انّ رسول اللّه كان يخرج و يهريق الماء و يتمسّح بالتراب، فأقول: يا رسول اللّه إنّالماء منك قريب، فيقول: فما يدريني لعلّي لا أبلغه.(١)

وفي الحديث تساوَل وهو:

إنّ الفقهاء اتفقوا على أنّ فاقد الماء إذا تمكّن من تحصيله بلا مشقة أو تغرير بالنفس يجب عليه تحصيله، قال في المغني:

إذا وجد بئراً وقدر على التوصل إلى مائه من غير ضرر أو الاغتراف بدلو أو ثوب يبلّه ثمّ يعصره لزم ذلك.(٢)

ولكن الظاهر من الحديث عدم وجوب تحصيل الماء مع التمكّن العرفي منه، بحجة انّه لا يدري لعله لا يبلغ إلى الماء، ومن المعلوم انّ مثل هذا الاحتمال مخالف لما عليه العقلاء من استصحاب الصحة وبقاء التمكن.

٢. لعن النبيّ زائرات القبور

أخرج أبو داود في سننه، عن أبي صالح يحدّث عن ابن عباس، قال: لعن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زائرات القبور، والمتّخذين عليها المساجد و السُّروج.(٣)

____________________

١ مسند أحمد:١/٢٨٨ و٣٠٣.

٢ المغني: ١/٢٤٠.

٣ سنن أبي داود: ٣/٢١٨ برقم ٣٢٣٦.

٤٦٦

إنّ الحديث تضمن أحكاماً ثلاثة:

الاَوّل: منع النساء عن زيارة القبور.

الثاني: منع اتخاذ القبور مساجد.

الثالث: منع إضاءة القبور بالسروج.

أمّا الاَوّل: فلو افترضنا صحّته فانّه منسوخ بما قام به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أُخريات حياته، فقد زار البقيع مع زوجته عائشة، حيث روت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قالص: إنّ جبرئيل أتاه، فقال له: إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قال: قلت: كيف أقول لهم يا رسول اللّه؟ قال: قولي : السَّلام على أهل الديار من الموَمنين والمسلمين ويرحم اللّه المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون.(١)

وأمّا الثاني: فهو يخالف القرآن الكريم حيث إنّ التأمل في قصة أصحاب الكهف يكشف لنا انّ بناء المسجد بجوار القبر كان سنة متبعة عند الاُمم وفي الشرائع السماوية السابقة، وقد أشار إليها القرآن من دون أي ردّ أو نقد، بل ربّما يظهر منه الاِمضاء وذلك انّ أصحاب الكهف عندما انكشف خبرهم بعد ثلاثمائة وتسع سنين، اختلف الناس في كيفية تكريمهم إلى طائفتين، فقالت طائفة: ( ابنوا علَيهِم بُنياناً) تخليداً لذكراهم.

وقالت أُخرى:(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) حتى يكون محلاً لعبادة اللّه تعالى بجوار قبور هوَلاء الذين رفضوا عبادة غير اللّه، وخرجوا من ديارهم هاربين من الكفر إلى طاعة اللّه.

وقد أجمع المفسرون على أنّالاقتراح الاَوّل كان من المشركين، والاقتراح

____________________

١ صحيح مسلم: ٣/٦٤، باب ما يقال عند دخول القبور.

٤٦٧

الثاني من الموَمنين الموحّدين، فعندئذٍ يثار هذا السوَال.

إذا كان بناء المسجد على قبور الصالحين أو بجوارها أمراً محرماً في الشريعة الاِسلامية، وكان المباشر للعمل مستحقاً للعن، فلماذا ذكر القرآن اقتراحهم من دون أيِّ نقد أو ردع؟ أليس ذلك دليلاً على الجواز ؟ بل يدل على أنّسيرة الموَمنين الموحّدين كانت جارية على هذا الاَمر و كانت بمثابة التبرّك بصاحب القبر.

هذا وانّ مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتضن القبر الشريف للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمسلمون يصلّون فيه طيلة ١٤ قرناً ولم يخطر ببال أحد منهم انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن المتخذين على القبور المساجد.

إذ لو صحّ الحديث فهو محمول على ما إذا كانت القبور قبلة المصلّين أو مسجودة لهم.

وأمّا الثالث: فلا يعلم له وجه إذا كان الاِسراج لغاية عقلائية كالصلاة وقراءة الدعاء والقرآن أو غير ذلك ممّا لا يعدّ إسرافاً ولا عبادة لصاحب القبر.

٣. معاوية أوّل من نهى عن التمتع في الحجّ

أخرج الترمذي، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: تمتع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر وعمر و عثمان، وأوّل من نهى عنها معاوية.(١)

والحديث مخالف لما اتّفق عليه قاطبة المسلمين من أنّ أوّل من نهى عن التمتع في الحج هو عمر بن الخطاب، ووضوح الاَمر يغنينا عن ذكر المصدر.

أضف إلى ذلك ما رواه نفس الترمذي عقيب هذا الحديث عن محمد بن عبد اللّه بن الحارث بن نوفل انّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس

____________________

١ سنن الترمذي: ٣/١٨٥ برقم ٨٢٢. ولاحظ أيضاً رقم ٨٢٤.

٤٦٨

وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحجّ، فقال الضحاك بن قيس: لا يَصنع ذلك إلاّ من جهل أمر اللّه.

فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي.

فقال الضحاك بن قيس: فانّعمربن الخطاب قد نهى عن ذلك.

فقال سعد: قد صنعها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصنعناها معه.

ثمّ قال الترمذي: وهذا حديث صحيح.(١)

٤. تزوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو محرم

أخرج البخاري، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس: انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوَّج ميمونة وهو محرم.(٢)

وفي الحديث عدّة احتمالات:

الاَوّل: أن يكون المراد من التزويج هو الجماع ويكون عندئذٍ مخالفاً لصريح القرآن الكريم، يقول سبحانه:( فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَوَلا جِدالَفي الحَجّ ) (البقرة/١٩٧) ومعنى الآية انّمن ألزم نفسه بالشروع في الحجّ بالنية قصداً باطناً، وبالاِحرام فعلاً ظاهراً، وبالتلبية نطقاً مسموعاً، يحرم عليه الجماع.

قال القرطبي: قال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة والحسن و عكرمة و الزهري ومجاهد ومالك: الرفث الجماع، أي فلا جماع لاَنّه يفسده.(٣)

____________________

١ المصدر السابق برقم ٨٢٣.

٢ صحيح البخاري: ٣/١٥، باب تزويج المحرم ؛ مسند أحمد: ١/٢٨٥؛ سنن النسائي: ٥/١٩١ الرخصة في النكاح للمحرم.

٣ تفسير القرطبي: ٢/٤٠٧، تفسير آية ١٩٧ من سورة البقرة.

٤٦٩

الثاني: أن يكون المراد منه إجراء صيغة العقد، وهذا ما ينافي ما رواه عثمان، يقول: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يَنكحُ المحرِمُ ولا يُنكَح ولا يُخطَب.

قال البيهقي : رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن يحيى عن مالك.(١)

وقال الشيخ الطوسي في الخلاف: إذا كان الولي أو وكيله أو الزوج أو وكيله في القبول، أو المرأة محرمين أو واحد منهم محرماً، فالنكاح باطل، وبه قال في الصحابة عليعليه‌السلام وعمر وابن عمر وزيد بن ثابت ولا مخالف لهم في الصحابة.

وإليه ذهب في التابعين سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري، وفي الفقهاء مالك والشافعي والاَوزاعي وأحمد وإسحاق.(٢)

وقال ابن حجر: اختلف العلماء في هذه المسألة(أي عقد المحرم).

فالجمهور على المنع لحديث عثمان لا ينكح المحرم ولا ينكح أخرجه مسلم.

وأجابوا عن حديث ميمونة بأنّه اختلف في الواقعة كيف كانت، ولا تقوم بها الحجّة، ولاَنّها تحتمل الخصوصية فكان الحديث في النهي عن ذلك أولى بأن يوَخذ به.(٣)

أضف إلى ذلك انّ الحجّ هو الوفود إلى اللّه سبحانه بترك العلائق الدنيوية ونسيانها والخروج إليه سبحانه بقلب طاهر ، والحاجّ الوافد إليه سبحانه يمثَّل بلبس ثوبي الاِحرام انّه لا يملك من الدنيا إلاّ الثوب، ففي هذه الحالة إذا حرم الطيب على المحرم، فأولى أن يكون التزويج، محرماً عليه.

فالرواية إمّا موضوعة أو محمولة على مورد خاصّ.

____________________

١ السنن الكبرى للبيهقي: ٥/٦٥.

٢ الطوسي، الخلاف: ٢/٣١٥.

٣ فتح الباري: ٤/٥٢.

٤٧٠

أضف إلى ذلك ما أخرجه غير واحد من المحدّثين انّ النبيتزوج ميمونة وهو حلال.

أخرج الترمذي عن سليمان بن يسار عن أبي رافع قال: تزوج رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميمونة وهو حلال، و بنى بها و هو حلال، وكنت أنا الرسول فيما بينهما.(١)

٥. رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربَّه مرّتين

أخرج الترمذي، عن عكرمة ،عن ابن عباس، قال: رأى محمدٌ ربّه.

قلت: أو ليس اللّه يقول:( لا تُدْرِكُهُ الاَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَبْصارَ ) ؟

قال: ويحك، ذاك إذاتجلّى بنوره الذي هو نوره، وقال: أُرَيه مرّتين.(٢)

نُعلّق على الحديث بالقول:

إنّ الروَية من مستوردات الاَحبار، وقد وردت في العهد القديم، وإليك مقتطفات منها:

١. رأيتُ السيد جالساً على كرسي عال...، فقلت: ويل لي لاَنّعينيّ قد رأتا الملك ربّ الجنود(اشعيا:٦/١/٦) والمقصود من السيد هو اللّه جلّذكره.

٢. كنت أرى انّه وضعت عروش وجلس القديم الاَيام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار.(دانيال:٧/٩).

٣. أما أنا فبالبرّ أنظر وجهك.(مزامير داود:١٧/١٥).

وما جاء في الرواية انّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه مرّتين مخالف للقرآن أوّلاً، والعقل الصريح ثانياً.

____________________

١ سنن الترمذي: ٣/٢٠٠ برقم ٨٤١.

٢ سنن الترمذي: ٥/٣٩٥ برقم ٣٢٧٩.

٤٧١

أمّا القرآن، فقال سبحانه:( لا تُدْرِكُهُ الاَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَبْصارَ وَهُوَ اللَّطيفُالخَبير ) (الاَنعام/١٠٣) والآية صريحة في أنّه ليس للاَبصار أن تدركه فهو فوق الاِدراك، وتفسير الادراك في الآية بالاِحاطة لاَجل تصحيح العقيدة، مهزلة لا توافقه اللغة.

وما نقل عن ابن عباس في تخصيص مفاد الآية بما إذا تجلّى بنوره، فهو تفسير بالرأي ولو قام به غيره لرمي بالجهمية.

والذي يوقفك على جليّة الحال انّه سبحانه كلما ذكر موضوع روَيته ذكره بتنديد واستنكار، قال سبحانه:( وَإِذْقُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُوْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) (البقرة/٥٥).

وقال سبحانه:( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَ-رَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) (النساء/١٥٣).

كلّذلك يدفع الاِنسان إلى أنّ روَية اللّه من الاُمور المنكرة لدى الوحي.

وثمّة كلمة قيّمة للاِمام الطاهر أبي الحسن علي بن موسى الرضا «عليهما‌السلام » - كلّم بها أبا قرّة أحد المحدّثين في عصره - قال أبو قرّة: إنّا رُوِينا انّ اللّه عزّوجلّ قسّم الروَية والكلام بين اثنين،فقسّم لموسىعليه‌السلام الكلام، ولمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الروَية؟

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : فمن المبلِّغ عن اللّه عزّ وجلّ إلى الثقلين: الجنّ والاِنس:( لا تُدْرِكُهُ الاَبْصار وَهُوَ يُدْرِكُ الاَبْصار ) (الاَنعام / ١٠٣) و( وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلْماً ) (طه / ١١٠) و( ليسَ كَمِثْلِهِشَيء ) (الشورى / ١١) أليس محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: بلى، قال: فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم انّه جاء من عند اللّه، وأنّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه، ويقول:( لا تُدْرِكُهُ الاَبْصار وَهُوَ يُدْرِكُ الاَبْصار ) و( وَلا يُحِيطُونَ بِه عِلماً ) و( ليسَ كَمِثْلِهِشَيء ) ثمّ

٤٧٢

يقول : أنا رأيته بعيني، وأحطت به علماً، وهو على صورة البشر؟ أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا: أن يكون يأتي عن اللّه بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.(١)

وأمّا العقل، فانّ روَية اللّه مستحيلة عقلاً لوجوه:

الاَوّل: انّ الروَية البصرية لا تقع إلاّ أن يكون للمرئيّ جهة ومكان وأن يكون المرئيّ مقابلاً لعين الرائي، وكلّذلك ممتنع على اللّه سبحانه، والقول بحصول الروَية الحسيّة بلا هذه الشرائط أشبه بالجمع بين الفرضين المتضادين،والروَية بلا كيف، نفي للروَية الحسية التي تحكي عنها الرواية، والروَية القلبية خارجة عن مدلولها.

الثاني: انّ الروَية إمّا أن تقع على اللّه كلّه فيكون مركباً محدوداً متناهياً محصوراً، وإمّا أن تقع على بعضه فيكون مبعّضاً مركّباً، وكلّ ذلك ممّا لا يلتزم به أهل التنزيه.

الثالث: انّ كلّمرئيّ بجارحة العين يشار إليه بحدقتها، وأهل التنزيه كالاَشاعرة وغيرهم ينزّهونه سبحانه عن الاِشارة إليه باصبع أو غيره.

الرابع: انّ الروَية بالعين الباصرة لا تتحقق إلاّبوقوع النور على المرئي وانعكاسه منه إلى العين، واللّه سبحانه منزّه عن كلّذلك.

وعلى ذلك فالرواية من الموضوعات، حتى انّ السيدة عائشة قد كذَّبت روَية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه في غير واحد من رواياتها، وقد أدخله الوضاعون في الحديث النبوي عن طريق حبر الاُمّة ووضعوا للحديث سنداً.

إنّ مسألة التجسيم وبالاَخص روَية اللّه تبارك و تعالى حازت على أهمية

____________________

١ التوحيد للصدوق:١١٠-١١١، الحديث ٩.

٤٧٣

بالغة في الاَحاديث المنسوبة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو قام الباحث بجمع ما جاء من الروايات حول هذا الموضوع ربّما ألّف رسالة، وإليك نماذج:

١.ما أخرجه الدارمي في سننه عن خالد بن اللجلاج، وسأله مكحول أن يحدّثه، قال: سمعت عبد الرحمان بن عائش، يقول: سمعت رسول اللّه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » يقول:

رأيت ربي في أحسن صورة، قال: فيم يختصم الملاَ الاَعلى؟

فقلت: أنت أعلم يا رب، قال: فوضع كفّه بين كتفيّ فوجدت بردها بين ثدييَّ، فعلمت ما في السماوات والاَرض، و تلا( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالاَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنين ) (الاَنعام/٧٥).(١)

٢.أخرج ابن ماجة، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين، قال: قلت يا رسول اللّه:

نرى اللّه يوم القيامة؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر مخلياً به؟

قال: قلت: بلى. قال: فاللّه أعظم و ذلك آية في خلقه.(٢)

٣. أخرج ابن ماجة، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ضحك ربُّنا من قنوط عباده و قرب غِيَرِهِ، قال: قلت: يا رسول اللّه أو يضحك الربّ؟ قال: نعم، قلت: لن نَعْدِم من ربٍّ يضحك خيراً.(٣)

٦. ثلاثة اقتراحات لاَبي سفيان

أخرج مسلم عن أبي زميل قال: حدثني ابن عباس، قال:

كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________________

١ سنن الدارمي:٢/١٢٦، باب في روَية الرب تعالى في النوم برقم ٢١٥٥.

٢ سنن ابن ماجة:١/٦٤ برقم ١٨٠.

٣ سنن ابن ماجة: ١/٦٤ برقم ١٨١.

٤٧٤

يا نبيّ اللّه ثلاث أُعطينهنّ، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أُمّ حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها. قال: نعم.

قال: و معاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم.

قال: وتوَمرني حتى أُقاتل الكفار كما كنت أُقاتل المسلمين ، قال: نعم.

قال أبو زميل: ولولا انّه طلب ذلك من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أعطاه ذلك لاَنّه لم يكن يُسأل شيئاً إلاّقال: نعم.(١)

وقد بيّنا حال الحديث في مقدمة الكتاب وأوضحنا انّ التاريخ الصحيح يشهد على كذب الرواية وانّ أُم حبيبة أسلمت مع زوجها في مكة المكرمة وهاجرت معه إلى الحبشة، وتزوّج بها النبيّ قبل الفتح بعد مجيئها منها إلى المدينة وقد مات زوجها، فكيف يطلب أبو سفيان من النبي تزويجها منه بعد فتح مكة عام ٨ ه- ؟!

٧. خويلد يُزوج خديجة ثملاً

أخرج أحمد في مسنده، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس:

انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر خديجة وكان أبوها يرغب أن يزوجها، فصنعت طعاماً وشراباً، فدعت أباها وزُمراً من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت خديجة لاَبيها : إنّمحمّد بن عبد اللّه يخطبني، فزوِّجني إيّاه، فزوَّجها إيّاه، فخلعته وألبسته حلّةً، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء فلمّا سُرِّي عنه سكره، نظر، فإذا هو مخلَّق وعليه حلّة، فقال: ما شأني،ما هذا؟ قالت: زوَّجتني محمد بن عبد اللّه، قال: أنا أزوِّج يتيم أبي طالب؟ ! لا لعمري. فقالت خديجة: أما تستحي؟ تريد أن تسفِّه نفسك عند قريش. تخبر النّاس أنّك

____________________

١ صحيح مسلم: ٧/١٧١، باب فضائل أبي سفيان بن حرب.

٤٧٥

كنت سكران؟ فلم تزل به حتّى رضي.(١)

لا يخفى انّ الحديث عليل من جهات:

الاُولى: انّ صدر الحديث يشعر برغبة والدها في التزويج،ولذلك قامت خديجة فصنعت شراباً وطعاماً ودعت أباها وزمراً من قريش.

ولكن ذيل الحديث يعرب انّه ما كان راضياً بالتزويج منذ بدء الاَمر، لاَنّه يعلل عدم رضاه بقوله: «أنا أُزوج يتيم أبي طالب؟ لا لعمري».

الثانية: انّه لوأخذنا بذيل الحديث يلزم أن نرمي السيدة خديجة بإعمال الحيلة بغية الزواج من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث صنعت طعاماً و شراباً لاَبيها و زمراً من قريش وأثملتهم كي تتوصل بذلك إلى رضا أبيها بالزواج مخاطبة إياه، وهو ثمل بقولها: إنّ محمد بن عبد اللّه يخطبني فزوجني إيّاه، فزوجها إياه فخلعته وألبسته الحلة.

والسيدة خديجة من أعفِّ النساء و من سيدات نساء الجنة .روى مسلم عن عبد اللّه بن جعفر يقول: سمعت علياً بالكوفة يقول: سمعت رسول اللّه يقول: خير نسائها مريم بنت عمران و خير نسائها خديجة بنت خويلد ، قال أبو كريب: وأشار وكيع إلى السماء والاَرض.(٢) فهي أجل من أن تتوصل إلى مطلوبها بهذه الحيلة الشيطانية.

الثالثة: انّ غير واحد من أصحاب السير ذكروا انّ أبا طالب ولفيفاً من أعمام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضروا المجلس وتقدم أبو طالب بإيراد الخطبة بقوله: ثمّ إنّ ابن أخي محمد بن عبد اللّه لا يوزن به رجل إلاّرجح به شرفا

____________________

١ مسند أحمد:١/٣١٢.

٢ صحيح مسلم: ٧/١٣٢، باب فضائل خديجة.

٤٧٦

ونبلاً وفضلاً وعقلاً، وإن كان في المال، فانّ المال ظل زائل وأمر حائل وعارية مسترجعة، له في خديجة رغبة ولها فيه رغبة، والصداق ما سألتم عاجله وآجله من مالي، و محمد من قد عرفتم قرابته. فأجاب ورقة بن نوفل بن أسد الذي كان من أقارب خديجة بقوله: لا تُنكر العشيرة فضلَكم، ولا يرد أحد فخركم وشرفكم،وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم. ثمّ أجري عقد النكاح ومهرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعمائة دينار وقيل أصدقها عشرين بكرة.(١) هذه الاُمور تعرب عن أنّالمجلس كان مجلسَ عقل و وعي وصلاح و فلاح، وانّ التزويج كان على ملاك الشرف و الفضل وعن رغبة ورضاً. وأين هذا مما جاء في الرواية من أنّ السيدة خديجة تُقدِّم كوَوس الشراب إلى أبيها وزمراً من قريش إلى آخر ما جاء في الرواية؟! وقد روي عن ابن عباس في تاريخ الخميس ما يخالف المروي هنا فقد جاء فيه: قالت خديجة لاَبيها: إنّ محمد بن عبد اللّه يخطبني، فزوجها إيّاه، فخلعته وألبسته حلّة، وكذلك كانوا يصنعون إذا زوّجوا نساءهم.(٢)

٨. تردّد ابن عباس في جملة أنّها من القرآن أخرج مسلم في صحيحه، عن عطاء، يقول: سمعت ابن عباس، يقول: سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:لو انّ لابن آدم ملء وادٍمالاً، لاَحبَّ أن يكون إليه

____________________

١ تاريخ الخميس:١/٢٦٤؛ السيرة الحلبية:١/١٣٩؛ مناقب آل أبي طالب: ١/٣٠.

٢ الديار بكري، تاريخ الخميس:١/٢٦٤.

٤٧٧

مثله ولا يملاَ نفس ابن آدم إلاّ التراب،واللّه يتوب على من تاب. قال ابن عباس: فلا أدري أمن القرآن هو أم لا ؟(١) إنّ هذا الحديث يحطّ من شأن القرآن الكريم كما يحطّ من مقام حبر الاُمّة، فقد بلغ القرآن من الفصاحة والبلاغة بمكان جعله متميزاً بجوهره عمّا سواه فلا يشتبه القرآن بغيره، وإلاّلزم بطلان الاحتجاج به. كما أنّ حبر الاُمّة وإمامها أجل من أن لا يُميِّز حديث الرسول عن القرآن، فلو صحّ فإنّما يصحّ صدر الحديث لا ذيله، إلاّ إذا اريدت منه المبالغة في علوّ المضمون.٩. الروافض على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرج عبد بن حميد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يكون في آخر الزمان قوم ينبزون: الرافضة يرفضون الاِسلام و يلفظونه، اقتلوهم فانّهم مشركون.(٢) إنّ الحديث موضوع على لسان ابن عباس، والغاية من الوضع التنديد بشيعة آل البيت من أبناء الرسول، ولكن الواضع غفل عن أنّ الرافضة في عهد الرسول وبعده إلى قرن لم يكن يستعمل إلاّ في من يرفض الحكومات السائدة، لا في الموالين لعلي وأهل بيتهعليهم‌السلام ولذلك أطلق اصطلاح الرافضة على طلحة والزبير ومروان بن الحكم ممّن قاموا في وجه عليعليه‌السلام وحكومته.

____________________

١ صحيح مسلم:٣/١٠٠، باب لو ان لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً ؛صحيح البخاري: ٨/٩٢ باب ما يتقى من فتنة المال، نقله باسنادين يشتمل النقل الثاني على قوله قال ابن عباس: «فلا أدري من القرآن هو أم لا».

٢ مسند عبد بن حميد برقم ٦٩٨، رواه في المسند الجامع: ٩/٥٩٦ برقم ١١٧٦.

٤٧٨

هذا وقد كتب معاوية إلى عمرو بن العاص وهو في البِيَع. أمّا بعد: فانّه كان من أمر عليّوطلحة والزبير ما قد بلغك،وقد سقط إلينا(١) قى مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة....(٢) ويوَيد ذلك انّ ابن منظور يفسر الروافض بجنود تركوا قائدهم وانصرفوا، وقال: فكلّطائفة منهم رافضة والنسبة إليهم رافضيّون. فلم يكن في عهد الرسول ولا في عهد الخلفاء أيّ اصطلاح خاص في لفظ الرافضة، سوى ما ذكرناه، أعني: من يخالف السلطة الحاكمة، من غير فرق بين شيعيّ وسنّي، علويّ أو أموي.١٠. أخذ الاَُجرة على تعليم كتاب اللّه أخرج البخاري في صحيحه، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: أنّ نفراً من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّوا بماء فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟ إنّ في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب اللّه أجراً،حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول اللّه أخذ على كتاب اللّه أجراً، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّأحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللّه.(٣) قال ابن الجوزي: قال ابن عدي : روى عمر بن المحرم البصري، عن ثابت الحفار عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: سألت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________________

١ سقط إلينا أي نزل إلينا.

٢ وقعة صفين لنصر بن مزاحم المنقري، ص ٣٩.

٣ صحيح البخاري:٧/١٣٢، باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم من كتاب الطب، ورواه أيضاً:٣/٩٣، باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب، من كتاب الاجارة.

٤٧٩

عن كسب المعلمين فقال: إنّ أحقّ ما أخذ عليه الاَجر كتاب اللّه. قال ابن عدي: لعمرو أحاديث مناكير، وثابت لا يعرف والحديث منكر.(١) قال ابن حجر: وقال الحنفية: لا يجوز أخذ الاَُجرة في تعليم الكتاب وأجازوه في الرقى كالدواء، قالوا: لاَنّ تعليم القرآن عبادة والاَجر فيه على اللّه. وادّعى بعضهم نسخه بالاَحاديث الواردة في الوليد على أخذ الاُجرة على تعليم القرآن وقد رواها أبو داود وغيره.(٢) وعلى أيّة حال فأخذ الاُجرة على تعليم كتاب اللّه أمر مرغوب عنه، ولو جاز فليس قطعاً من أحقّ ما يوَخذ عليه الاَجر، فالرواية ضعيفة جداً أو مكذوبة.

____________________

١ الموضوعات:١/٢٢٩، باب أخذ الاُجرة على التعليم.

٢ فتح الباري: ٤/٣٤٥٣؛ وانظر كتاب الموضوعات لابن الجوزي:١/٢٢٨، فقد نقل الاَحاديث المجوزه والناهية.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676