بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 601

  • البداية
  • السابق
  • 601 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123063 / تحميل: 6201
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

اختصاص الخطاب والوعظ بهؤلاء شيء، وجواز تكرار الرسالة بعد عصر القرآن شيء آخر، يحتاج اثباته إلى دليل غير هذه الآية، فإنّ أقصى ما في هذه، هو وعظ الجيل الإسلامي بقصص المرسلين، ولا بد أن يكون المتعظ به قبلهم، كما أنّ القرآن يعظ الجيل الإسلامي، بقصة موسى وفرعون، ولا تحدث نفس صاحبهما بأنّ ذلك المتعظ به، يجب أن يتكرر في المستقبل.

الشبهة الثانية :

استدلت الفرقة التعيسة « البهائية » على عدم اختتام الرسالة، وعدم انتهائها بآية ثانية، وتقوّلت بأنّها تدلّ على خلاف ما هو المنصوص في غير موضع من الذكر الحكيم، ودونك الآية :

( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) ( غافر ـ ١٥ ).

قال المستدل في فرائده: إنّ قوله سبحانه:( يُلْقِي الرُّوحَ ) بصيغة المضارع ينبئ عن عدم اختتام الرسالة، وأنّ الروح ينزل بأمره على من يشاء من عباده في الأجيال المستقبلة(١) .

الجواب :

توضيحه يحتاج إلى بيان أمرين :

١. الظاهر من « الروح » هو الوحي(٢) فاستعير له الروح، لأنّه به تحيا القلوب وفيه حياة المجتمع، ويوضح ذلك قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا

__________________

(١) الفرائد: ص ٣١٣ وص ١٢٦ من الطبعة الحجرية.

(٢) وقريب منه تفسيره بالقرآن أو كل كتاب أنزله سبحانه أو جبرئيل أو النبوّة، وما اخترناه هو الأولى، فتدبر.

١٨١

كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) ( الشورى ـ ٥٢ ) ومنه يعلم أنّ المحتمل أن يكون الروح المسؤول عنه في القرآن الكريم هو حقيقة الوحي حيث قال سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء ـ ٨٥ ).

٢. يوم التلاق: إنّما هو يوم لقاء الله، يوم يلتقي فيه العبد والمعبود، وأهل الأرض والسماء، كما يوضحه ما بعد الآية:( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر ـ ١٦ ).

والمراد من قوله:( لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) أي ليحكم في ذلك اليوم بين عباده فينتصف المظلوم من ظالمه، ويجزي المحسن والمسيء، أو لينذر عباده سبحانه عن عذاب ذلك اليوم.

إذا عرفت الأمرين، فالجواب عن الاستدلال بها واضح جداً بعد ما عرفت عند البحث عن الشبهة الاُولى من أنّ الفعل في تلك المواضع مجرد عن الزمان، والهدف إنّما هو بيان نسبة الفعل إلى الفاعل واتصافه بها، بلا نظر إلى زمان النسبة، سواء أكان الماضي، أم الحال أم المستقبل، كما في قوله :

من يفعل الحسنات لله يشكرها

والشر بالشر عند الله سيان

وعلى هذا، فسيقت الآية لبيان كونه سبحانه مالكاً على الإطلاق، لا ينازعه في ملكه ولا يناضله في مشيئته واختياره أحد، والوحي أحد الأشياء التي أمرها بيده، يختص به من يؤثره على عباده ويختاره منهم، وليس لأحد أن يعترض عليه ويقول:( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان ـ ٣٢ ). أو يطعن ويقول:( لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف ـ ٣١ ) فإذا كان هدف الآية بيان هذا الأمر، وانّ الوحي بكمّه وكيفه ومن ينزل عليه موكول إليه سبحانه، فلا يتفاوت في ابلاغ هذا الغرض، التعبير بالماضي، أو المضارع، فسواء أقال: « القى الروح » أم قال:( يُلْقِي الرُّوحَ ) فهما في افهام المقصود سواسية فلا يدلاّن على زمان الاتصاف، والمقصد الأسنى ،

١٨٢

اتصافه سبحانه بالاختيار التام في انزال الوحي على أي فرد من عباده، من دون دلالة على زمان الاتصاف.

ودونك مثالاً عرفياً يقرّب المقصود.

فلو نصب الملك المستبد ( والملوكية خاصتها الاستبداد ) أحد ولده ولياً للعهد وجلعه وارثاً للعرش والاكليل، وشاغلاً لمنصة الملوكية بعده، فإذا اعترض عليه أحد وزراءه بأنّ ولده الآخر كان أحق بهذا المنصب، فيجيب الملك بقوله: إنّ الامر بيدنا، نقدم من نشاء، ونؤخر من نشاء، نرفع من نشاء ونضع من نشاء

فليس لك عند ذلك أن تستظهر من عبارته، وتتهمه بأنّه قد أخبر حتماً عن نصب فرد آخر في المستقبل، متمسكاً بأنّه قال: « نقدم » بصيغة المضارع ولم يقل: « قدمت ».

لا، ليس لك ولا لغيرك هذا، لأنّ المفهوم في هذه المواضع إنّما هو بيان أصل الإتصاف، أي إتصاف الفاعل ( الملك ) بالفعل ( تقديم من تعلّقت إرادته بتقديمه ) لا بيان زمان الإتصاف واستمراره في الجيل الآتي، فلاحظ.

فلو تنازلنا عن كلّ ما قلناه حول هذه الآية وما قبلها وفرضنا أنّ ما نسجوه من الأوهام حقيقة راهنة فنقول: إنّ ما ذكروه كلّه لا يتجاوز حدّ الاشعار فهل يجوز في ميزان العقل والانصاف ترك ما سردناه من البراهين الدامغة والنصوص الناصعة والضرورة والبداهة بين المسلمين عامة، الدالّة على كون النبي الأعظم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات، لأجل هذه الاُمور الواهية التي لا يستحق أن يطلق عليها اسم الدلالة.

قال الشيخ المفيد: إنّ العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء وإنّما منع ذلك الاجماع، والعلم بأنّه خلاف دين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار(١) .

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ٣٩.

١٨٣

قال الفاضل المقداد في أثره القيّم(١) أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى كافة الخلق والدليل على ذلك إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك المعلوم تواتراً مع ثبوت نبوّته المستلزمة لإتصافه بصفات النبوّة التي من جملتها العصمة المانعة من الكذب، إلى أن قال: يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء وإلّا لم تكن عامة للخلق، ولقوله تعالى:( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نبي بعدي.

الشبهة الثالثة :

وقد تمسكت هذه الفرقة بظاهر آيتين اُخريين :

الاُولى: قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ( يونس ـ ٤٧ ).

الثانية: قوله سبحانه:( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إلّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( يونس ـ ٤٩ ).

تقرير هذه الشبهة أنّ الله حدد حياة الاُمم بحد خاص، والاُمّة الإسلامية إحدى هذه الاُمم، فلها أجل خاص، ومدة محدودة، ومعه كيف يدعي المسلمون دوام دينهم وبقاءه إلى يوم القيامة ؟

وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن أجل الاُمّة الإسلامية، فأجابصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: إن صلحت اُمّتي فلها يوم، وإن فسدت فلها نصف يوم(٢) .

الجواب :

لا أدري ماذا يريد القائل من الاستدلال بهاتين الآيتين: أمّا الآية الاُولى، أعني قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ) فصريح الآية هو أنّ الله سبحانه يبعث إلى كل اُمّة ،

__________________

(١) اللوامع الالهية في المباحث الكلامية: ص ٢٢٥.

(٢) الفرائد: ص ١٧ الطبعة الحجرية.

١٨٤

مثل اُمّة نوح وعيسى وموسى، رسولاً يدعوهم إلى دين الحق ويهديهم إلى صراطه، وأمّا أمد رسالة الرسول وكميتها، فالآية غير ناظرة إليه، لا صريحاً ولا تلويحاً لا مفهوماً ولا منطوقاً ولا مانع من أن يكون إحدى هذه الرسالات غير محدودة بحد خاص، ويكون صاحبها خاتم الرسل ودينه خاتم الأديان، وقد دلّ القرآن على أنّ نبي الإسلام هو ذاك، كما تقدمت دلائله.

ونظير ذلك قوله سبحانه:( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) ( النحل ـ ٣٦ ).

أتجد من نفسك أنّ الآية تشير إلى تحديد الشريعة بعد الإسلام، لا، لا تجده من نفسك، ولا يجد ذلك أيضاً كل متحرر عن قيد العصبية.

وأمّا الآية الثانية، فكشف الغطاء عن محيا الحق، يحتاج إلى توضيح وتحقيق معنى « الاُمّة » الواردة في الكتاب والسنّة، فنقول :

قال الراغب: الاُمّة، كل جماعة يجمعهم أمر ما: أمّا دين، أو مكان، أو زمان، وهذا الجامع ربّما يكون اختيارياً وقد يكون تسخيرياً(١) .

هذه الحقيقة التي كشف عنها الراغب، هو الظاهر من الكتاب والسنّة وموارد الاستعمال وصرّح بها الجهابذة من اللغويين، ودونك توضيح ما أفاده الراغب :

الجامع الديني، كما في قوله سبحانه:( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) ( البقرة ـ ١٢٨ ) وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ) ( آل عمران ـ ١١٠ ).

الجامع الزماني كقوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ٢٣ مادة « اُم » وكان الأولى أن يضيف إلى هذه الجوامع لفظ « أو غيره » إذ لا ينحصر الجامع بهذه الثلاثة وليس المقصود أنّ هذه الجوامع داخلة في مفهموم « الاُمّة » حتى يقال: أنّ توصيف الاُمّة في الآية بكونها « مسلمة » دليل على خروجها عن مفهوم الآية، بل المراد أنّ هذه الجوامع تكون مصححة، لاطلاقها على الجماعة.

١٨٥

سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف ـ ٣٤ ) وفسّرها المفسّرون بلازم المعنى وقالوا: بعد حين، أي بعد انقضاء أهل عصر، كأنّه يجمعهم زمان واحد في مستوى الحياة، ومثله قوله سبحانه:( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ( هود ـ ٨ ) وفسره في الكشاف بلازم المعنى، وقال: إلى جماعة من الاوقات.

الجامع المكاني: نحو قوله سبحانه:( ولـمّاوَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) ( القصص ـ ٢٣ ) أي وجد حول البئر جماعة يسقون مواشيهم، فالجهة الجامعة لعدّهم اُمّة واحدة، إنّما هي اجتماعهم في مكان واحد، أو غيرها من الجهات التي يمكن أن تجمع شمل الأفراد والآحاد.

الجامع العنصري والوشيجة العنصرية، والرابطة القومية كما في قوله سبحانه:( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ) ( الأعراف ـ ١٦٠ ).

وقوله:( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ) ( الأعراف ـ ١٦٨ ) فبنوا إسرائيل كلهم أغصان شجرة واحدة، يجمعهم ترابط قومي ووشيجة عنصرية، إلّا أنّه كلّما ازدادت الشجرة نموّاً ورشداً إزدادت أغصاناً وأفناناً، فعد كلّ غصن مع ما له من الفروع، أصلاً برأسه وهم مع كونهم اُمماً اُمّة واحدة أيضاً يربطهم الجامع العنصري.

القرآن يتوسّع في استعمال الاُمّة :

إنّ القرآن يتوسّع في استعمال الكلمة فيطلقها على الفرد، إذا كان ذا شأن وعظمة تنزيلاً له منزلة الجماعة كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا ) ( النحل ـ ١٢٠ ) أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة، وروى أنّه يحشر « زيد بن عمرو » اُمّة وحده.

بل يتوسّع ويستعمله في صنوف من الدواب، إذا كانت تجمعهم جهة خاصة ،

١٨٦

كقوله سبحانه:( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ) ( الأنعام ـ ٣٨ ).

فعدّ الله كل صنف من الدواب والطيور اُمماً، لما بينها من المشاكلة والمشابهة حيث الخلق والخلق، فهي بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة، ومدخرة كالنمل ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع(١) .

ويمكن أن يقال: إنّ ما ألمحنا إليه من موارد الاستعمال للفظ « الاُمّة » ليست معاني مختلفة، حتى يتصور أنّ اللفظ وضع عليها بأوضاع متعددة، بل كلها مصاديق لمعنى وسيع وضع عليه اللفظ ( الاُمّة ) وهو كل اجتماع من الانسان وغيره من الحيوان، يجمعهم أمر ما من الزمان والمكان والدين والعنصر وغيرها.

الاُمّة: الطريقة والدين :

نعم للاُمّة معنى آخر اُستعملت فيه، في الكتاب والسنّة، وهو الطريقة والدين، كقوله سبحانه:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ( الزخرف ـ ٢٢ ) وقوله سبحانه:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) ( الزخرف ـ ٢٣ ).

قال الجوهري في صحاحه: الاُمّة، الطريقة والدين، يقال لا اُمّة له، أي لا دين ونحلة، قال الشاعر :

وهل يستوي ذو اُمّة وكفور

وقال الفيروز آبادي: الاُمة ـ بالكسر ـ الحالة والشرعة والدين ويضم.

هذه هي الاُمة ومعناها وقد عرفت أنّه لم يستعمل في الكتاب إلّا في هذين المعنيين ( الجماعة والدين ) وقد ذكروا لها معاني اُخرى يمكن ارجاعها إلى ما ذكرناه.

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ٢٣.

١٨٧

فلنرجع إلى مفاد الاُمّة :

إذا عرفت ما ذكرناه: فلنرجع إلى مفاد الاُمّة فنقول قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) يحتمل في بادئ الأمر أن يراد منها الطريقة أو الجماعة، ولكن الأوّل مدفوع بما في ذيله:( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) إذ يجب حينئذ أن يقول: فإذا جاء أجلها بإفراد الضمير، لو صح إطلاق الأجل على الدين والشريعة(١) فلا مناص من حمل الآية على المعنى الثاني: أعني الجماعة، التي يربطهم في الحياة أمر ما، والمراد أنّ كل كتلة من الناس إذا طويت صحيفة حياتهم وانتهت مدة عيشهم لا يمهلون بعد شيئاً، فلا يستقدمون ولا يستأخرون بل يتوفّاهم ملك الموت الذي وكل بهم، فلا إمهال ولا تأخير، فالآية ناظرة إلى بيان أمر تكويني جرت عليه مشيئته سبحانه وهو أنّ حياة الاُمم في أديم الأرض محدود إلى أجل لا يمهلون بعده وليس فيها أي نظر إلى توقيت الشرائع وتحديدها وتتابع الرسل ونزول الكتب.

وأمّا حملها على خصوص الاُمّة الدينية أي الاُمّة التي يجمعها دين واحد فيحتاج إلى الدليل والقرينة(٢) وقد عرفت أنّ الاُمّة عبارة عن الجماعة التي يجمعهم أمر ما، سواء أكان ذلك الجامع زماناً أو مكاناً أو اتحاداً في الشغل والمهنة أو ديناً، أو عنصراً، إلى غير ذلك من عشرات الوحدات الجامعة بين المتشتتين من الناس.

وقد تكرر مضمون الآية في الذكر الحكيم بصور مختلفة كلها تهدف إلى ما ذكرناه، وأوضحناه، ودونك بعضها :

( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (٣) *مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا

__________________

(١) سيوافيك أنّه لم يستعمل الأجل في القرآن في أمد الأديان.

(٢) وعلى فرض شمول الآية للاُمة الدينية بعمومها، فمن أين وقف المستدل على أنّه جاءأجلهم ولماذا لا يمتد إلى يوم القيامة كما سيوافيك بيانه تحت عنوان « سؤال من المستدل ».

(٣) أي مكتوب معلوم كتب فيه أجلها.

١٨٨

يَسْتَأْخِرُونَ ) ( الحجر ٤ ـ ٥ )، وقوله سبحانه:( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ *مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) ( المؤمنون ٤٢ ـ ٤٣ ).

وقريب منه قوله سبحانه:( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ *وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المنافقون: ١٠ ـ ١١ )، وقوله سبحانه:( يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( نوح ـ ٤ ).

نظرة في موارد استعمال الأجل في القرآن :

ويؤيد ذلك أنّه لم يستعمل « الأجل » في الذكر الحكيم في أجل الشرائع، وانتهاء أمدها، بل قصر استعماله على موارد اُخرى، لبيان آجال الديون، والعقود كقوله تعالى:( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) ( البقرة ـ ٢٨٢ ).

وقوله سبحانه:( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) ( البقرة ـ ٢٣٥ ).

أو بيان انتهاء استعداد الاشياء للبقاء كقوله سبحانه:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) ( الأنعام ـ ٢ ) وقوله سبحانه:( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ( الرعد ـ ٢ ).

وأمّا قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد ـ ٣٨ ) فيحتمل وجوهاً :

١. إنّ لكل وقت حكماً خاصاً مكتوباً معيناً، كتب وفرض في ذلك الأجل، دون غيره لأنّ الفرائض تختلف حسب اختلاف الأوضاع والأحوال، فلكل وقت حكم يكتب ويفرض على العباد حسب مقتضيات المصالح.

٢. ما فسر به أمين الإسلام وهو قريب ممّا ذكرناه آنفاً، وقال إنّ لكل وقت كتاباً خاصاً، فللتوراة وقت وللانجيل وقت وكذلك القرآن، فالفرق بينه وبين ما ذكرناه هو

١٨٩

أنّه حمل الكتاب على الكتاب المصطلح، ونحن حملنا على الحتم والفرض.

٣. انّ المراد منه: انّ لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه، فللاجال كلّها كتاب كتب فيه.

٤. انّ لكل أمر قضاه الله كتاب كتب فيه، وأبعد الوجوه هو الأخير، إذ هو تفسير بالأعم، وهو سبحانه يقول:( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ولم يقل لكل أمر كتاب وأقرب الوجوه هو الأوّل بقرينة قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد ـ ٣٨ ) فلقد كانوا يقترحون على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعض الآيات، فأجابهم سبحانه بأنّ لكل وقت حكماً خاصاً، كتبه الله لذلك الوقت، ولا يجري إلّا فيه.

وعلى أي وجه من الوجوه الأربعة، فلا تدل الآية على أنّ لكل دين أجلاً وأمداً، إلّا على الوجه الثاني، ودلالته عليه إنّما هي بالالتزام لا بالمطابقة لأنّه إذا كان لكل وقت كتاباً خاصاً مثل التوراة والإنجيل يدل بالملازمة على أنّ لكل وقت شريعة وديناً.

وأمّا على ما فسّرنا الآية به فمآله إلى أنّ لكل وقت حكماً، والحكم ليس نفس الدين والشريعة، بل جزء منه وتكون الآية دالّة على رد من زعم امتناع وقوع النسخ في الشريعة الواحدة.

وأمّا على المعنى الثالث والرابع، فعدم دلالته على أنّ لكل دين أجلاً، واضح لا يحتاج إلى البيان.

سؤال من المستدل :

وفي الختام نسأل المستدل هب أنّ الآية بصدد بيان آجال الشرائع وتحديدها وأنّ لكل دين واُمّة دينية أجلاً، ولكنّه من أين وقف على أنّ الإسلام قد انتهى أمده وجاء أجله، وأنّه لا يمتد إلى يوم القيامة، إذ لنا أن نقول: إنّ أمد الإسلام ينتهي بانتهاء نوع الانسان، في أديم الأرض وقيام القيامة، وحضور الساعة، فلو دلّت الآية على أنّ لدين الإسلام أو الاُمّة الإسلامية أجلاً قطعياً فنستكشف ببركة الآيات الدالّة على اختتام النبوّة

١٩٠

والرسالة عن امتداد تلك الرسالة إلى اليوم الذي تنطوي فيه صحيفة حياة الانسان في هذه السيارة، وأنّ أجله وأجلها واحد.

الاكذوبة التي نسبها إلى رسول الله :

هلم نسأله، عن مصدر الاكذوبة التي نسبها الكاتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: أنّه بعد ما نزلت آية:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) طفق أصحابه يسألونه عن أجل الاُمّة الإسلامية، فأجابه بقوله: إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن لم تصلح فلها نصف يوم(١) .

فقد أعتمد الكاتب في نقله على نقل الشعراني، وليس في لفظه ما يدل على سؤال أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أجل الاُمّة الإسلامية بعد نزول الآية، وإنّما هو اكذوبة نحتها الكاتب ونسبها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

نعم تفسير اليوم بألف عام، كما نقله الشعراني عن تقي الدين رجم بالغيب إذ كما يمكن تفسيره بألف مستند إلى قوله سبحانه:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( الحج ـ ٤٧ ) يمكن تفسيره بخمسين ألف سنة، استناداً إلى قوله سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج ـ ٤ ).

وأمّا ما رواه العلّامة المجلسي، مسنداً عن كعب الأحبار، على نحو يشعر بكون تفسير اليوم بألف عام، من الحديث، فمما لا يقام له وزن، فإنّ كعب الأحبار وضّاع

__________________

(١) الفرائد: صفحة ١٧ الطبعة الحجرية.

(٢) ودونك نص الشعراني في كتابه اليواقيت والجوهر التي ألّفها عام ٩٥٥ ه‍ قال في بيان أنّ جميع أشراط الساعة حق: انّه لابد أن يقع كلّها قبل قيام الساعة وذلك كخروج المهدي ( عج ) ثمّ الدجال، ثمّ نزول عيسى، وخروج الدابة و حتى لو لم يبق من الدنيا إلّا مقدار يوم واحد، فوقع ذلك كلّه، قال الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور في عقيدته: وكل ذلك تقع في المائة الأخيرة ( هذا تخرص من الرجل وتنبؤ منه، أعاذنا الله منه ) من اليوم الذي وعد به رسول الله بقوله في اُمّته: إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم، يعني من أيام الرب المشار إليه بقوله تعالى:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) لاحظ اليواقيت ج ٢ ص ١٦٠ ونقل عن بعض العارفين أنّ أوّل الألف محسوب من وفاة علي بن أبي طالب.

١٩١

كذّاب مدلس، لم تخرج اليهودية من قلبه، تزيا بزي الإسلام فأدخل الإسرائيليات والقصص الخرافية، في أحاديث المسلمين فلا يقام لحديثه وزن ولا قيمة، فلنضرب عنه صفحاً.

أضف إليه أنّ الرجل لم يسنده إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا إلى الولي، فكيف يكون حجّة ؟

ثمّ إننا نسأل صاحب الفرائد(١) ومن مشى مشيه، ونقول: إنّ رسول الله قال ( بزعمكم ): إن صلحت اُمّتي فلها يوم فهل صلحت الاُمّة الإسلامية في هذه القرون العشرة ومشت سبل الصلاح والسلام، وازدهر فيهم العدل والإحسان، أو شاع فيهم الجور والطغيان والقتل الذريع وسفك الدماء وحبس أبرياء الاُمّة واعتقالهم ونهب أموالهم وعند ذاك يلزم انتهاء أمد الإسلام بإنقراض خمسمائة عام، التي هي نصف يوم، من اليوم الربّاني، لأنّه لم تصلح الاُمّة بعد لحوق الرسول بالرفيق الأعلى ولكن الكاتب لا يرضى به لأنّه لا يوافق ما يدعيه ويرتئيه.

وأعجب من ذلك أنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ( ألف عام ) العام الذي تمّت فيه غيبة ولي الله الأعظم، الحجة بن الحسن العسكري ( عجل الله فرجه ) لا عام بعثة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو هجرته أو وفاته، أو سنة صدور الحديث. أو ما كانت الاُمّة العائشة في هذين القرنين ونصف من الاُمّة الإسلامية ؟! ( سله أنا لا أدري ولا المنجّم يدري ) أظنّك أيها القارئ الكريم لا يفوتك سر هذا الجعل، وإنّه لماذا جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني، عام غيبة الولي، أعني عام ٢٦٠ من الهجرة النبوية، ذلك العام الذي غاب فيه خاتم الأوصياء عن الأبصار إلى الوقت الذي لا يعلمه إلّا هو سبحانه، فقد عمد بذلك إلى أن ينطبق مبدأ خروج الباب(٢) على اختتام ألف عام(٣) .

فقد خرج « الباب » وادّعى ما ادّعى، مفتتح عام ١٢٦٠ من الهجرة النبوية.

__________________

(١) أبو الفصل الجرفادقاني.

(٢) المراد منه « علي محمد » الشيرازي الملقّب بالباب، عند الفرق الضالّة البابية والازلية والبهائية.

(٣) فالرجل قد وضع فكرة معينة، ثمّ أراد تصيّد الأدلّة لاثباتها، ولكن الباحث المخلص يتجرّد عن

١٩٢

الشبهة الرابعة :

استدل صاحب « الفرائد » بآية رابعة، زعم دلالتها على عدم انقطاع الوحي والرسالة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي قوله سبحانه:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور ـ ٢٥ ).

قال: إنّ صيغة « يوفيهم » تبشّر عن دين حق يوفيه سبحانه على من يشاء من عباده في الأجيال الآتية بعد الإسلام، وليس لك أن تحمله على الإسلام وتفسّره به، لأنّه قد أكمل نظامه وتمت اُصوله وفروعه عام حجة الوداع بنص الذكر الحكيم، كما قال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ) وهو سبحانه يخبر في هذه الآية عن وقوع الأمر ( توفية الدين الحق ) في الجيل الآتي(١) .

الجواب :

هذا مبلغ علم الرجل ومقياس عرفانه بالكتاب وغوره في الأدب العربي وقد كان في وسع الرجل أن يرجع إلى أحد التفاسير، أو إلى ابطال العلم وفطاحل الاُمّة وكانت بيئة مصر(٢) تجمع بينه وبين فطاحلها وأعلامها العارفين، هذا هو أمين الإسلام الطبرسي، فسّره في مجمعه بقوله: يتم الله لهم جزائهم الحق، فالدين بمعنى الجزاء(٣) ، وقال الزمخشري: الحق، صفة الدين وهو الجزاء(٤) لا الطريقة والشريعة.

__________________

كلّ هوى وميل شخصي، ويتابع النصوص ومفادها، فما أدت إليه بعد التمحيص، تكون هي النتيجة التي ينبغي عليه اعتبارها حقيقة راهنة.

(١) الفرائد: صفحة ١٢٢ الطبعة الحجرية.

(٢) فقد ألّف « الفرائد » بمصر، أيام اقامته هناك، وفرغ منه عام ١٣١٥.

(٣) مجمع البيان: ج ٧ ص ١٣٤.

(٤) الكشّاف: ج ٣ ص ٢٢٣.

١٩٣

وليت الكاتب، أمعن النظر في الظرف ( يوم ) الوارد في الآية المتقدمة أعني قوله سبحانه:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ) ففي أي يوم تشهد ألسنة المجرمين وأيديهم على أعمالهم الإجرامية، فهل هذا اليوم إلّا يوم البعث ؟ ففي ذلك اليوم يوفيهم الله جزاء الطغاة العصاة المفترين الكذّابين المبدعين، الجزاء الحق الذي يستحقّونه بأعمالهم. ففي يوم واحد تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، ويوفي الله دينه الحق والجزاء الذي يستحقّونه.

على أنّ سياق الآية يوضح المقصود، فإنّ الآية وردت في الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، فعاتبهم بالآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، لإستعظام ما ركبوا من ذلك، وما أقدموا عليه، إذ قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور: ٢٣ ـ ٢٥ ).

ترى أنّه سبحانه حكم على هؤلاء العصاة اللاعبين باعراض الناس وحرماتهم بأحكام ثلاثة :

١. اللعن عليهم في الدينا والآخرة.

٢. شهادة أعضائهم على أعمالهم الإجرامية.

٣. توفية جزائهم الحق في ذلك اليوم.

ومع ذلك كيف عمي بصر الرجل وبصيرته، وأرخى قلمه ولسانه، وفسّر الآية برأيه الباطل ؟!

الشبهة الخامسة :

قد عرفت ما لدى الكاتب ومن لفّ لفه من شبهات تافهة، أو تأويلات كاذبة اختلقوها لاغواء السذّج من الناس. هلم معي نقرأ آخر شبهة للقوم، وهي الاستدلال

١٩٤

بالآية التالية:( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( السجدة ـ ٥ ).

فقد فسّر صاحب الفرائد(١) تدبير الأمر بانزال الشريعة من السماء إلى الأرض وجعل عروجه في يوم كان مقداره ألف سنة، بإندراس الشريعة تدريجاً طول هذه المدة بابتعاد الناس عن الدين، ورفضه في مراحل الحياة، وصيرورة القلوب مظلمة بالمعاصي، مدلهمّة بالخطايا، مريضة بشيوع الفساد والفوضى، فيبعث الله عند ذلك رجلاً آخر يجدد الشريعة ويؤسّسها ويذهب بظلمات القلوب، وعلى هذا فلا تدوم الشريعة أي شريعة كانت إلّا يوماً ربّانياً، وهو ألف سنة ممّا تعدون(٢) .

الجواب :

ما ذكره بصورة الشبهة، لا يصح إلّا بعد تسليم اُمور، لم يسلم واحد منها :

١. إنّ التدبير عبارة عن نزول الوحي وبلوغ الشريعة إلى النبي.

٢. إنّ الأمر في الآية هو الشريعة والطريقة.

٣. العروج هو انتهاء أمد الرسالة وانقضاء استعداد بقاء الشريعة واندراسها بشيوع الفساد والمعصية بين الاُمّة.

وليس أي واحد منها صحيحاً ولا قابلاً للقبول :

أمّا الأوّل: فلأنّ التدبير في اللغة والكتاب عبارة عن الإدارة على وجه تستوجبه المصلحة، وتقتضيه الحكمة وأين ذاك عن نزول الشريعة من السماء إلى الأرض، باحدى

__________________

(١) الفرائد الطبعة الحجرية.

(٢) ثمّ إنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني عام غيبة ولي الله الأعظم المهدي ( عج ) عن الأبصار حتى يطابق مختتمه مفتتح عام ظهور الباب، هذا مصداق واضح للتفسير بالرأي، وكأنّه قد قرر النتيجة أوّلاً ثمّ راح يتفحّص عن دليل يوصل إليها فلم يجد دليلاً، إلّا بتحريف كلام الله وتأويله السخيف.

١٩٥

الطرق المقررة في محلها.

وإن شئت قلت: التدبير هو التفكير في عاقبة الاُمور ودبرها، كما قال سبحانه:( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ( النازعات ـ ٥ ) أي الملائكة الموكلة بتدبير الاُمور.

وقوله سبحانه:( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد ـ ٢٤ ).

وقوله سبحانه:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص ـ ٢٩ ) إلى غير ذلك.

أو ليس تفسير التدبير بالنزول عند ذاك يكون تفسيراً بالرأي الذي نهى عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوعد عليه النار وقال: من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار(١) .

وأمّا الثاني: فلأنّ الأمر في القرآن لم يستعمل بمعنى الشريعة والأحكام الالهية من واجب وحرام ومكروه ومستحب ومباح، وسائر الأحكام الوضعية الجارية في العقود والايقاعات والسياسات.

هؤلاء هم أصحاب المعاجم وأعلام اللغة، لا تجد أحداً منهم فسر الأمر بالشريعة بل تدور معانية بين الشأن والشيء والتكليف.

سؤال: إذا اعترفتم بأنّ التكليف من معانيها، كما يقال أمرته: إذا كلّفته، فيصح تفسيره بالشريعة، إذ الشريعة عبارة عن تكاليف يوجهها الشارع إلى عباده ؟

الجواب: انّ حمل الأمر في الآية على الأمر والتكليف التشريعي خلاف مساق آيات السورة، بل خلاف صريح سائر الآيات الواردة في هذا المضمار فلحاظ السياق يدفعنا إلى أن نحمل الأمر على التكويني الذي هو عبارة عن إرادته الفعلية ومشيئتة التكوينية الجارية في صحيفة الكون والوجود، فإنّ كل ما يسيطر على العالم، من نظام وسنن وقوانين، كلّها بأمر تكويني وإرادة فعلية منه سبحانه كما يصرح به قوله سبحانه:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ *فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) حديث متفق عليه ورواه الفريقان بصور مختلفة.

١٩٦

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( يس: ٨٢ ـ ٨٣ ).

حصيلة البحث :

انّ هنا قرائن ثلاث لابد من البحث عنها، كي نقرّب إلى الأذهان كيفية حمل لفظ الأمر على الأمر التكويني، أعني النظم والسنن الجارية في دائرة الكون والقوانين المكتوبة على جبين الدهر ودونك هذه الشواهد :

١. لفظ التدبير، فقد عرفت أنّه عبارة عن الإدارة على وجه تقتضيه المصلحة والحكمة، فهو سبحانه يدبر الخلق بعامة أجزائه من السماء إلى الأرض، على وجه تقتضيه المصلحة، فسبحان الذي خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ،. ودبرها على وفق الحكمة، فلا السماء تسقط على الأرض، ولا الأرض تنخسف بنا، ولا الشمس تظللنا دائماً ولا الظلمة تحيط بنا سرمداً، إلى غير ذلك من سنن ونظم

٢. سياق ما تقدمها من الآيات، فإنّ محور البحث في سابقها، هو خلق السماوات والأرض واستوائه سبحانه على العرش، ودونك الآية المتقدمة عليها :

( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) ( السجدة ـ ٤ ). « يدبر الأمر » من السماء إلى الأرض أفلا تفهم من تقارن الآيتين أنّ اللام في الأمر إشارة إلى أمر الخلقة، وأنّ الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما في أيام وأدوار مخصوصة ولم يكتف سبحانه بأصل الخلقة، بل استوى على عرش ملكه فدبّر أمرها على وجه توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة، وأنّه سبحانه يدبّر أمر الخلق، أي خلق تتصور وينفذه على وجهه، حتى أنّه سبحانه توخياً للتوضيح شبّه المقام الربوبي الذي ينزل منه التدبير، ويصدر منه الحكم بعرش الملك البشري الذي يجلس الملك عليه فيصدر منه أوامره لتدبير اُمور الملك، غير أنّ أوامره طلبات عرفية اعتبارية، ولكن أوامره سبحانه، أوامر تكوينية، لا يقوم بوجهها شيء، فما قال له كن، فيكون، بلا تراخ ولا تمرّد.

١٩٧

٣. الآيات المنزّلة في هذا المضمار، فإنّ هذه الآية ليست فريدة في بابها فقد ورد في هذا المضمون ( أي تدبير أمر الخليقة ) آيات اُخرى كلها تهدف إلى ما أوضحناه، وهو أنّ تدبير الخلق بعد إيجاده من شؤونه سبحانه، من دون نظر إلى الشرائع وتجديدها، ودونك الآيات :

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ( يونس ـ ٣ ).

وقوله سبحانه:( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) ( يونس ـ ٣١ ).

وقوله سبحانه:( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ( الرعد ـ ٢ ).

نعم هذه الآيات ساكتة عن عروج الأمر وصعوده في المقدار الذي صرحت به هذه الآية، ولا يوجب ذلك فرقاً جوهرياً بين أهدافها ومراميها.

ومن ذلك تقف على أنّ الأمر في قوله سبحانه:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف ـ ٥٤ ) هو أمر الخليقة، أي هو الذي خلق الأشياء كلّها، وهو الذي صرفها على حسب إرادته فيها، فما عن بعض أعلام العرفان والفلسفة من تسمية المادي والماديات بعالم الخلق، والمجردات والابداعيات بعالم الأمر، استناداً إلى هذه الآية ضعيف جداً، وإن كان تقسيم الموجود إلى المجرد والمادي، صحيحاً لا ريب فيه.

وأمّا الثالثة: فلأنّ تفسير العروج بإندراس الشريعة ونسخها باطل جداً، لأنّ العروج عبارة عن ذهاب في صعود كقوله سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ( المعارج ـ ٤ ) وجعله كناية عن انتهاء أمد الشريعة وبطلانها واندراسها من الكنايات البعيدة التي يجب تنزيه القرآن عنها، إذ لا معنى لعروج الشريعة المنسوخة إليه سبحانه

١٩٨

إذ لا يفهم من نسخها إنّها تعرج إلى السماء، بل كل ما يستفاد، إنّها تعطل عن العمل بها والسير عليها، لا إنّها تعرج إليه سبحانه.

أضف إليه أنّه لو كان مراد المولى سبحانه، هو الإخبار عن تجديد كل شريعة بعد ألف عام، لاقتضى ذلك أن يعبّر عن مقصوده بعبارة واضحة يقف عليها كل من له إلمام باللغة العربية، ولماذا جاء بكلام لم يفهم منه مراده سبحانه إلّا بعد حقب وأجيال إلى أن وصلت النوبة لكاتب مستأجر فكشف الغطاء عن مراده سبحانه وقد خفى على الاُمّة جميعاً، وفيها نوابغ العربية وفطاحلها، حتى تفرّد هو بهذا الكشف ؟!

مشكلة المفتتح والمختتم :

بقيت في المقام مشكلة، وهي ابتداء تلك المدة واختتامها، وقد حار فيها فاختار أنّ مبدأها هو عام غيبة الإمام المنتظر، حتى يتطابق ختم ذلك اليوم الذي مقداره ألف سنة مع ظهور الباب(١) ولما رأى أنّ ذلك تفسيراً منه بالرأي، اعتذر عن ذلك بأنّ الإسلام لم يكتمل إلّا عام غيبة الإمام، حيث حوّل الأمر إلى الفقهاء.

وأنت خبير بأنّ ما اعتذر به يتناقض مع صريح القرآن القاضي باكمال الدين بلحوق النبي بالرفيق الأعلى، فقال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ).

ولو قال إنّ الآية ناظرة إلى الاكتمال من جانب الاُصول وتدعيم مبادئ الإسلام واُسسه بنصب الولي، وأمّا الإكتمال من جانب الفروع فقد امتد بعد لحوق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى، إلى عشرات السنين من عهود الأئمّة وأعصارها إلى غيبة وليّه، فينتقض كلامه من جانب آخر، فإنّه فسّر عروج الأمر بالنسخ التدريجي للشريعة، وجعل النسخ عبارة عن ترك العمل بها واندارسها في مراحل الحياة، وعلى ذلك يجب أن يكون مبدأ

__________________

(١) فقد اتفقت غيبة الإمام عام ٢٦٠، وادّعى الباب ما ادّعى، بعد مضي ألف سنة من ذلك حيث كان خروجه سنة ١٢٦٠.

١٩٩

النسخ التدريجي عام فوت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ العصور التي جاءت من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن عصوراً ازدهر فيها الإسلام بل كانت عهد الجور والعدوان، حيث تآمرت قريش على تداول الخلافة في قبائلها واشرأبت إلى ذلك اطماعها، فتصافقوا على تجاهل النص، وأجمعوا على صرف الخلافة من أوّل يومها عن وليّها المنصوص عليه إلى غير ذلك من الملمّات والنوازل.

ولو كان ظهور العيث والفساد في المجتمع الإسلامي ورفض الشريعة في مراحل الحياة، ملازمة للنسخ التدريجي للشريعة، فليكن عهد يزيد الخمور والفجور من هذه العهود التي أخذت تعربد بلسان قائله :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

أفلا تعجب من الكاتب، أنّه جعل تلك العهود المظلمة التي امتدت عشرات السنين وكانت وبالاً على الإسلام من العصور الزاهرة، مع أنّه أخرج عهود القسط والعدل الموعود بخروج الإمام الثاني عشر ( التي ترفرف فيها أعلام القسط والعدل وتخفق رايات الحق والهداية في كل صقع ) من الأصقاع التي ينمو فيها الإسلام، ويزدهر. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

وأمّا البحث عن هدف الآية وأنّه سبحانه ماذا يريد من قوله:( يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) فله منّا بحث آخر، وسوف نعطي حقه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم، فإنّ اليوم الذي يعادل ألف سنة من الآيام الاخروية.

الشبهة السادسة(١) :

* ينص القرآن على أنّ الإسلام شريعة عالمية، وأبدية وأنّ بالإسلام أقفل باب الشرائع، ونسخ جميعها.

__________________

(١) هذه الشبهة لها صلة بعالمية الإسلام وصلة بخاتميته ولأجل ذلك جعلناها آخر الشبهات وفصّلنا الكلام فيها بما لا يدع لمشكك شك.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

فبما كسبت أيديكم ١ فقال عليه السلام : كلاّ ما هذا فينا نزلت إنما نزلت فينا ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك على اللّه يسير . لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم ٢ فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا من الدنيا و لا نفرح بما آتانا منها ٣ .

٦

الحكمة ( ٣٧٧ ) و قال عليه السلام :

لاَ تَأْمَنَنَّ عَلَى خَيْرِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ عَذَابَ اَللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ ٥ ١١ ٧ : ٩٩ وَ لاَ تَيْأَسَنَّ لِشَرِّ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكافِرُونَ ١٥ ٢٣ ١٢ : ٨٧ « لا تأمنن على خير هذه الامة » و في الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : خيركم من أطعم الطعام ، و أفشى السلام ، و صلّى و النّاس نيام ٤ .

« عذاب اللّه لقوله تعالى » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « لقول اللّه سبحانه » كما في ( ابن ميثم و الخطيّة ) ، و لكن في ( ابن أبي الحديد ) : « لقوله سبحانه » ٥ فلا يأمن مكر اللّه أي : تدبيره تعالى في امور عبيده كما يريد إلا القوم الخاسرون لقلّة معرفتهم ، و غفلتهم .

و قد كان الزبير بن العوام في الظاهر من خيار الامّة حتى أنّه دافع يوم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الشورى : ٣٠ .

( ٢ ) الحديد : ٢٣ .

( ٣ ) تفسير القمي ٢ : ٣٥٢ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٤ ) أخرجه البرقي في المحاسن : ٣٨٧ ح ٢ ، و الصدوق في الخصال ١ : ٩١ ح ٣٢ ، و أخرجه بفرق يسير أبو يعلى في مسنده ، عنه الجامع الصغير ٢ : ١١ ، و الصدوق في عيون الأخبار ٢ : ٦٥ ح ٢٩٠ .

( ٥ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٣١٤ ، و اما في شرح ابن ميثم ٥ : ٤٣١ فنحو المصرية .

٣٠١

السقيفة عن أمير المؤمنين عليه السلام حتى كسر عمر سيفه ، و مع كونه من أسد قريش ، كان يعدّ في عداد بني هاشم ، و ازدادت أمواله ، و نشأ ولده عبد اللّه ،

و فتن به ، كما قال تعالى إنّما أموالكم و أولادكم فتنة ١ حتى صار محاربا للّه و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمحاربته أمير المؤمنين عليه السلام ، فقد قال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم :

« حربك حربي ، و حربي حرب اللّه » ٢ و صار سببا لقتل آلاف من المسلمين .

قال ابن أبي الحديد لقائل أن يقول : الآية لا تدلّ على ما أفتى به ، لأن معنى الآية أنّه لا يجوز للعاصي أن يأمن مكر اللّه على نفسه و هو مقيم على عصيانه ،

ألا ترى أن قبلها أ فأمن أهل القرى إلى و هم يلعبون ٣ .

قلت : خصوص المورد لا يخصص عموم العلة ، و أغلب جمل القرآن كالكلام المستقل .

« و لا تيأسن لشرّ هذه الامة » و قد جعل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شرار الامّة طبقات .

و روى ( الكافي ) : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطب فقال : ألا أخبركم بشراركم .

قالوا : بلى . قال : الذي يمنع رفده ، و يضرب عبده ، و يتزوّد وحده ، فظنوا أنّ اللّه لم يخلق خلقا هو شرّ من هذا ، فقال : ألا أخبركم بمن هو شرّ من ذلك ؟ قالوا : بلى .

قال المتفحّش اللعّان ، الذي إذا ذكر عنده المؤمنون لعنهم ، و إذا ذكروه لعنوه ٤ .

من روح اللّه أي : رحمته لقوله تعالى : انّه لا ييأس من روح اللّه إلاّ القوم الكافرون باللّه .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الانفال : ٢٨ و التغابن : ١٥ .

( ٢ ) هذا المعنى أخرجه ابن المغازلي في مناقبه : ٥ ح ٧٣ و ٢٣٧ ح ٢٨٥ ، و الصدوق في أماليه : ٨٦ ح ١ المجلس ٢١ ، و الكراجكي في كنز الفوائد : ٢٨١ ، و الخزاز في كفاية الأثر : ١٥٧ في ضمن أحاديث .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٣١٤ . و الآيات ٩٧ ، ٩٨ من سورة الأعراف .

( ٤ ) الكافي ٢ : ٢٩٠ ح ٧ ، و النقل بتقطيع .

٣٠٢

في ( كشكول البهائي ) : قال بعض أصحابه عليه السلام له : هل نسلم على مذهب هذه الامة ؟ فقال : يراه اللّه للتوحيد أهلا و لا تراه للسلام أهلا .

و في ( ذيل الطبري ) : أصاب الزهري دما خطأ ، فخرج و ترك أهله ،

و ضرب فسطاطا و قال : لا يظلّني سقف بيت أبدا ، فمر به علي بن الحسين عليه السلام فقال له : يا ابن شهاب قنوطك أشدّ من ذنبك ، فاتق اللّه و استغفره و ابعث إلى أهله بالديّة و ارجع إلى أهلك و كان يقول علي بن الحسين عليه السلام أعظم الناس علي منة ١ .

و في الخبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : أن رجلا قال : لا و اللّه لا يغفر اللّه لفلان فقال عزّ و جل : من ذا الذي تألى عليّ أن لا أغفر لفلان ، فإنّي قد غفرت لفلان ،

و أحبطت عمل ذاك القائل ٢ .

و روي : أنّ رجلا كان في بني إسرائيل منهمكا في المعاصي ، فأتى في بعض أسفاره على بئر فإذا كلب قد لهث من العطش فرقّ له ، فأخذ عمامته و شدّها بخفه و استقى الماء و أروى الكلب ، فأوحى اللّه تعالى إلى نبي ذاك الزمان : إنّي قد غفرت ذنبه بشفقته على خلق من خلقي ، فسمع ذلك فتاب .

و روي : أنّ عابدا عبد اللّه ثمانين سنة ثمّ أشرف على امرأة فوقعت في نفسه ، فنزل إليها ، فراودها عن نفسها فطاوعته ، فلمّا قضى منها حاجته طرقه الموت ، فاعتقل لسانه ، فمرّ سائل فأشار إليه أن خذ رغيفا كان في كسائه ، فأحبط اللّه عمل ثمانين سنته بتلك الزنية ، و غفر اللّه له بذلك الرغيف .

و روي : أنّه كان في بني إسرائيل عابد غائظ إبليس ، فاحتال عليه فجاء

ــــــــــــــــــ

( ١ ) منتخب ذيل المذيل : ١١٩ .

( ٢ ) أخرجه أبو علي الطوسي في أماليه ١ : ٥٧ ، جزء ٢ .

٣٠٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

عنده ، و قام إلى الصلاة ليلا و نهارا بدون ملل ، فتعجب العابد و قال له : من أين لك هذه القوة في العبادة ؟ فقال له : لأني زنيت بفلانة الفاجرة ، فانخدع العابد ،

فذهب اليها و قصّ عليها قصّته ، فقالت له : إنّه كان الشيطان فلا تنخدع . فماتت من ليلتها ، فأصبحت ، و اذا على بابها مكتوب احضروا فلانة فانها من أهل الجنّة ، فارتاب الناس و مكثوا ثلاثة أيام لا يدفنونها ، فأوحى تعالى إلى نبيّهم أن ائت فلانة فصلّ عليها و مر الناس أن يصلّوا عليها ، فإنّي أوجبت لها الجنّة بتثبيطها عبدي فلانا عن معصيتي ١ .

و في ( الخصال ) ، عن الصادق عليه السلام : تبع حكيم حكيما سبعمائة فرسخ في سبع كلمات ، فلما لحق به قال له : يا هذا ، ما أرفع من السماء و أوسع من الأرض و أغنى من البحر ، و أقسى من الحجر ، و أشدّ حرارة من النار ،

و أشد بردا من الزمهرير ، و أثقل من الجبال الراسيات ؟ فقال له : الحقّ أرفع من السماء ، و العدل أوسع من الأرض ، و غنى النفس أغنى من البحر ، و قلب الكافر أقسى من الحجر ، و الحريص الجشع أشد حرارة من النار ، و اليأس من روح اللّه أشدّ بردا من الزمهرير ، و البهتان على البرى‏ء أثقل من الجبال الراسيات ٢ و مرّ في فصل الإمامة العامّة قوله عليه السلام : « لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها » ٣ و تلا عقيب ذلك و نريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمّة و نجعلهم الوارثين ٤ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الكليني في الكافي ٨ : ٣٨٤ ح ٥٨٤ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الخصال ٢ : ٣٤٨ ح ٢١ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

( ٤ ) القصص : ٥ .

٣٠٤

٧

الحكمة ( ١٣٥ ) و قال عليه السلام :

مَنْ أُعْطِيَ أَرْبَعاً لَمْ يُحْرَمْ أَرْبَعاً مَنْ أُعْطِيَ اَلدُّعَاءَ لَمْ يُحْرَمِ اَلْإِجَابَةَ وَ مَنْ أُعْطِيَ اَلتَّوْبَةَ لَمْ يُحْرَمِ اَلْقَبُولَ وَ مَنْ أُعْطِيَ اَلاِسْتِغْفَارَ لَمْ يُحْرَمِ اَلْمَغْفِرَةَ وَ مَنْ أُعْطِيَ اَلشُّكْرَ لَمْ يُحْرَمِ اَلزِّيَادَةَ قال ؟ الرضي ؟ و تصديق ذلك كتاب الله قال الله في الدعاء اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ٤ ٦ ٤٠ : ٦٠ و قال في الاستغفار وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللَّهَ يَجِدِ اَللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ١ ١٤ ٤ : ١١٠ و قال في الشكر لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ٥ ٧ ١٤ : ٧ و قال في التوبة إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ١ ٢١ ٤ : ١٧ أقول : نقلناه في هذا الفصل لكون جملة « و تصديق ذلك » إلى آخرها من كلامه عليه السلام على الأصح دون كونه من كلام الرضي ، و لخلو ابن ميثم الذي نسخته بخط مصنّفه من فقرة « قال الرضي » ١ و ( الخطية ) أيضا خالية منها و ( المصرية ) الاولى أيضا خالية منها ، و انما زادها في الثانية اخذا من ابن أبي الحديد ، لكن ابن أبي الحديد و إن زادها إلاّ انّه قال : في بعض الروايات أن الجملة من كلامه عليه السلام . . . الخ ٢ .

قلت : و لو كانت الجملة من كلام الرضي رضي اللّه عنه عنه لقال : « و تصديق قوله عليه السلام » لا أن يقول : « و تصديق ذلك » ، فان التعبير يشهد بكونه كلامه عليه السلام

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٣١٧ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٣١ .

٣٠٥

ذكره شاهدا و مستندا ، و إنّما توهم من زاد الجملة أنّه كلام الرضي لسوء فهمه فزادها توضيحا لما زعم .

ثم ما نقلناه « و تصديق ذلك كتاب اللّه » إنّما هو في ( المصرية ) ،

و الصواب : « و تصديق ذلك في كتاب اللّه سبحانه » كما في ( ابن ميثم ) الذي نسخته بخط مصنّفه ، و كذا في ( ابن أبي الحديد و الخطية ) ذلك لكن فيهما بدل سبحانه « تعالى » ١ .

ثم نظير ذلك في استشهاده عليه السلام بالآيات ما رواه في ( مهج الدعوات ) علي بن طاووس عن خط ابن الباقلاني النحوي المتكلّم ، قال حدّثني السيّد الأوحد العالم مؤيد الدين شرف القضاة عبد الملك أنّه كان مريضا فجاءه أمير المؤمنين عليه السلام أي في المنام و كأنّه قد نزل من الهواء و قال له « الشفاء » و أمرّ يده على ذراعه الأيمن ثمّ قال له قل ثلاث مرّات « أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ، الذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا اللّه و نعم الوكيل ٢ ، أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ، و أفوض أمري إلى اللّه إنّ اللّه بصير بالعباد ٣ ، أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم ، ما يفتح اللّه للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده و هو العزيز الحكيم » ٤ إذا قلت « الّذين قال لهم النّاس » قال تعالى فانقلبوا بنعمة من اللّه و فضل لم يمسسهم سوء ٥ و اذا قلت

ــــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٣١ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ٣١٧ .

( ٢ ) آل عمران : ١٧٣ .

( ٣ ) غافر : ٤٤ .

( ٤ ) فاطر : ٢ .

( ٥ ) آل عمران : ١٧٤ .

٣٠٦

و أفوض أمري إلى اللّه قال تعالى فوقاه اللّه سيئات ما مكروا و حاق بآل فرعون سوء العذاب ١ و اذا قلت « ما يفتح اللّه » فهذا الايمان التام الخبر ٢ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) فاطر : ٤٥ .

( ٢ ) مهج الدعوات : ٩٧ .

٣٠٧

الفصل الثاني عشر في قضاياه عليه السلام

٣٠٨

١

الحكمة ( ٢٧٠ ) وَ رُوِيَ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَ ؟ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ ؟ فِي أَيَّامِهِ حَلْيُ ؟ اَلْكَعْبَةِ ؟ وَ كَثْرَتُهُ فَقَالَ قَوْمٌ لَوْ أَخَذْتَهُ فَجَهَّزْتَ بِهِ جُيُوشَ اَلْمُسْلِمِينَ كَانَ أَعْظَمَ لِلْأَجْرِ وَ مَا تَصْنَعُ ؟ اَلْكَعْبَةُ ؟ بِالْحَلْيِ فَهَمَّ ؟ عُمَرُ ؟ بِذَلِكَ وَ سَأَلَ ؟ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ع ؟ فَقَالَ إِنَّ ؟ اَلْقُرْآنَ ؟ أُنْزِلَ عَلَى ؟ اَلنَّبِيِّ ص ؟ وَ اَلْأَمْوَالُ أَرْبَعَةٌ أَمْوَالُ اَلْمُسْلِمِينَ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ اَلْوَرَثَةِ فِي اَلْفَرَائِضِ وَ اَلْفَيْ‏ءُ فَقَسَّمَهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ وَ اَلْخُمُسُ فَوَضَعَهُ اَللَّهُ حَيْثُ وَضَعَهُ وَ اَلصَّدَقَاتُ فَجَعَلَهَا اَللَّهُ حَيْثُ جَعَلَهَا وَ كَانَ حَلْيُ ؟ اَلْكَعْبَةِ ؟ فِيهَا يَوْمَئِذٍ فَتَرَكَهُ اَللَّهُ عَلَى حَالِهِ وَ لَمْ يَتْرُكْهُ نِسْيَاناً وَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَكَاناً فَأَقِرَّهُ حَيْثُ أَقَرَّهُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ فَقَالَ لَهُ ؟ عُمَرُ ؟ لَوْلاَكَ لاَفْتَضَحْنَا وَ تَرَكَ اَلْحَلْيَ بِحَالِهِ « و روي أنّه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلي الكعبة و كثرته فقال قوم : لو أخذته فجهّزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر و ما تصنع

٣٠٩

الكعبة بالحلي » أقول : في تاريخ الطبري كان تبّع و قومه أصحاب أوثان يعبدونها ، فأتاه نفر من هذيل فقالوا له : ألا ندلّك على بيت مال قد أغفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ و الزبرجد و الياقوت و الذهب و الفضة ، قال : بلى ، قالوا : بيت بمكة يعبده أهله و يصلّون عنده و انما أراد الهذليون بذلك هلاكه لما قد عرفوا من هلاك من أراده من الملوك و بغى عنده فلمّا أجمع لما قالوا ، أرسل إلى حبرين من أحبار اليهود كانا أعلم أهل زمانهما و كان خرج بهما معه ، فقالا له :

ما أراد القوم إلاّ هلاكك و هلاك جندك ، و لئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن و ليهلكن من معك من جندك ، قال : فماذا تأمرانني أن أصنع ؟ قالا : ما يصنع أهله تطوف به و تعظّمه و تحلق عنده رأسك ، و تتذلل له حتى تخرج من عنده ،

قال : فما يمنعكما أنتما من ذلك ؟ قالا : أما و اللّه انّه لبيت أبينا إبراهيم ، و لكن أهله حالوا بينه و بيننا بالأوثان التي نصبوا حوله ، و بالدماء التي يهريقون عنده و هم نجس ، فعرف نصحهما ، فقرّب الهذليين فقطع أيديهم و أرجلهم ، ثم مضى حتى قدم مكة و أري في المنام أن يكسو البيت فكساه بالخصف ، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملاءة و الوصائل ، فكان تبّع فيما يزعمون أوّل من كساه ، و أوصى به ولاته من جرهم ، و أمرهم بتطهيره و ان لا يقرّبوه دما و لا ميتة و لا ميلاثا و هي الحائض و جعل له بابا و مفتاحا ١ .

( فهمّ عمر بذلك ) : في ( ملاحم ابن طاووس ) نقلا عن فتن نعيم بن حمّاد و هو من رجال العامة في أخبارهم المهدي عليه السلام عن ابن وهب عن إسحاق بن يحيى عن طلحة التميمي عن طاوس قال : ودع عمر البيت ثم قال : و اللّه ما أدري أدع خزائن البيت ، و ما فيه من السلاح و المال ، أم أقسمه في سبيل اللّه ، فقال له

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ١ : ٥٣١ ، و النقل بتصرف يسير .

٣١٠

علي عليه السلام : امض فلست بصاحبه ، إنما صاحبه منّا شابّ من قريش يقسمه في سبيل اللّه في آخر الزمان ١ .

و أخذ أموال الكعبة بغير حقّ جمع ، منهم ابن الأفطس ، ففي ( تأريخ الطبري ) جلس حسين بن الحسن الأفطس في أول يوم من محرم سنة مائتين بعد تفرّق الحاجّ خلف المقام على نمرقة مثنية ، فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجرّدت منها حتى لم يبق من كسوتها شيئا و بقيت حجارة مجرّدة ، ثم كساها ثوبين من قّز رقيق كان أبو السرايا وجّه بها معه ، و عمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه ، و جعلوا يحكّون الذهب الرقيق الذي في رؤوس أساطين المسجد فيخرج من الاسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهب أو نحوه ، حتى عمّ ذلك أكثر أساطين المسجد الحرام ، و قلعوا الحديد الذي على شبابيك زمزم ، و من خشب الساج فبيع بالثمن الخسيس ٢ .

و منهم الجنابي القرمطي ، ففي ( صلة تاريخ الطبري ) : سار الجنابي القرمطي في سنة ( ٣١٦ ) إلى مكة فدخلها و أوقع بأهلها عند اجتماع الموسم و اهلال الناس بالحج يقتل المسلمين بالمسجد الحرام و هم متعلقون بأستار الكعبة و اقتلع الحجر و ذهب به و اقتلع أبواب الكعبة و جرّدها من كسوتها ،

و أخذ جميع ما كان فيها من آثار الخلفاء التي زيّنوا بها الكعبة و ذهبوا بدرة اليتيم و كانت فيما ذكر أهل مكة أربعة عشر مثقالا ، و قرن كبش ابراهيم و عصا موسى ملبسين بالذهب مرصّعين بالجوهر ، و طبق و مكبّة من ذهب و سبعة عشر قنديلا كانت بها من فضّة ، و ثلاث محاريب فضّة كانت دون

ــــــــــــــــــ

( ١ ) نقله عن فتن نعيم بن حمّاد ابن طاووس في الملاحم : ٧٢ ، و المقدسي في عقد الدرر : ١٥٤ ، و السيوطي في العرف الوردي : ١٥٤ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٧ : ١٢٤ و ١٢٥ ، سنة ٢٠٠ ، و النقل بتقطيع .

٣١١

القامة منصوبة في صدر البيت ، ثم ردّ الحجر بعد أعوام ، و لم يرد من سائر ذلك شي‏ء .

و قيل إنّ الجنابي صعد إلى سطح الكعبة ليقلع الميزاب و هو من خشب ملبس بالذهب ، فرماه بنو هذيل الأعراب من جبل أبي قبيس بالسهام حتى أزالوه و لم يصل إلى قلعه ١ .

و بعضهم بدّل كسوته و بابه ، ففي ( تاريخ الطبري ) : نزع المهدي سنة ( ١٦٠ ) كسوة الكعبة التي كانت عليها و كساها كسوة جديدة ، و ذلك أنّ حجبة الكعبة رفعوا إليه أنّهم يخافون على الكعبة أن تهدم لكثرة ما عليها من الكسوة ، فأمر أن يكشف عنها ما عليها من الكسوة حتى بقيت مجردّة ، ثم طلى البيت كلّه بالخلوق ، و ذكر أنّهم لمّا بلغوا إلى كسوة هشام وجدوها ديباجا ثخينا جيّدا ، و وجدوا كسوة من كان قبله عامّتها من متاع اليمن ٢ .

و في ( كامل الجزري ) : قلع الخليفة المقتفي في سنة ( ٥٥٢ ) باب الكعبة و عمل عوضه بابا مصفحا بالنقرة المذهبة ، و عمل لنفسه من الباب الأوّل تابوتا يدفن فيه إذا مات ٣ .

« و سأل » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « و سأل عنه » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٤ « أمير المؤمنين عليه السلام » في ( تاريخ الخطيب ) ، قال المهدي لشريك القاضي : ما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال : ما قال فيه جدّك العباس و عبد اللّه . قال : و ما قالا فيه ؟ قال : فأما العباس فمات ، و علي عنده أفضل الصحابة ، و قد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمّا ينزل من النوازل ، و ما

ــــــــــــــــــ

( ١ ) صلة تاريخ الطبري : ٥٩ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) تاريخ الطبري ج ٦ ص ٣٦٦ ، سنة ١٦٠ .

( ٣ ) الكامل في التاريخ ١١ : ٢٢٨ ، سنة ٥٥٢ .

( ٤ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ١٥٨ . لكن في شرح ابن ميثم ٥ : ٣٨١ ، مثل المصرية .

٣١٢

احتاج هو الى أحد حتى لحق باللّه إلى آخر ما فيه ١ .

و كما أشار عليه السلام عليه بعدم تعرّضه لحلي الكعبة كذلك أشار عليه بعدم إقرار بهار كسرى . قال الجزري في ( كامله ) في فتح القادسية : أرسل سعد بن أبي وقاص بعد الفتح في الخمس كلّ شي‏ء أراد أن تعجب منه العرب و أراد إخراج خمس القطيف و هو بهار كسرى فلم تعتدل قسمته ، فقال للمسلمين :

هل تطيب أنفسكم عن أربعة أخماسه فنبعث به الى عمر يضعه حيث يشاء ،

فانا لا نراه ينقسم و هو بيننا قليل و هو يقع من أهل المدينة موقعا ؟ قالوا : نعم ،

فبعثه و هو بساط طوله ستون ذراعا و عرضه ستون ذراعا مقدار جريب ،

كانت الأكاسرة تعدّه للشتاء إذا ذهبت الرياحين شربوا عليه فكأنّهم في رياض ، فيه طرق كالصور ، و فيه فصوص كالأنهار ، أرضها مذهّبة ، و خلال ذلك كالدر و في حافاته كالأرض المزروعة و الأرض المبقلة بالنبات في الربيع ، و الورق من الحرير على قضبان الذهب و زهره الذهب و الفضة و ثمرة الجوهر و أشباه ذلك ، و كانت العرب تسمّيه القطيف ، فقال عمر : أشيروا علي فيه ، فمن بين مشير بقبضه و آخر مفوض إليه ، فقال له علي عليه السلام : لم تجعل علمك جهلا و يقينك شكّا ، انّه ليس لك من الدنيا إلاّ ما أعطيت فأمضيت ، أو لبست فأبليت أو أكلت فأفنيت ، و إنّك إن تبقه على هذا اليوم لم تعدم في غد من يستحق به ما ليس له ؟ فقال : صدقتني و نصحتني ، فقطّعه بينهم فأصاب عليّا عليه السلام منه قطعة لم تكن بأجود تلك القطع ، فباعه بعشرين ألفا ٢ .

و كما أشار عليه السلام على عمر بعدم تعرّض حليّ الكعبة أشار علي بن الحسين عليه السلام على الحجاج بمنعه من هتك تراب البيت .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ بغداد ٩ : ٢٩٢ .

( ٢ ) الكامل ٢ : ٥١٨ ، سنة ١٦ ، و أيضا تاريخ الطبري ٣ : ١٣٠ ، سنة ١٦ ، و النقل بتصرف يسير .

٣١٣

و في ( الكافي ) عن أبان بن تغلب : لما هدم الحجاج الكعبة ، فرّق الناس ترابها ، فلما صاروا إلى بنائها فأرادوا أن يبنوها ، خرجت عليهم حيّة فمنعت الناس البناء حتى هربوا ، فأتوا الحجاج فأخبروه ، فخاف أن يكون قد منع بناءها ، فصعد المنبر ثم قال : أنشد اللّه عبدا عنده ممّا ابتلينا به علم لمّا أخبرنا به فقام إليه شيخ فقال : إن يكن عند أحد علم فعند رجل رأيته جاء إلى الكعبة فأخذ مقدارها ثم مضى ، فقال الحجاج : من هو ؟ فقال : علي بن الحسين . فقال :

معدن ذلك ، فبعث اليه عليه السلام فأخبره بما كان من منع اللّه إيّاه البناء ، فقال له : إنّك عمدت إلى بناء إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام ، فألقيته في الطريق و انهبته كأنّك ترى انّه تراث لك إصعد المنبر و أنشد الناس أن لا يبقى أحد عنده شي‏ء إلاّ ردّه ،

فردّوه ، فلما جمع التراب أتى عليه السلام ، فوضع الأساس و أمرهم أن يحفروا فتغيّبت عنهم الحيّة ، و حفروا حتى انتهوا إلى موضع القواعد ، قال عليه السلام لهم : تنحّوا ،

فتنحّوا فدنا منها فغطّاها بثوبه ، ثم غطّاها بالتراب بيده ثم دعا الفعلة فقال :

ضعوا بناءكم . . . الخبر ١ .

« فقال عليه السلام : إنّ القرآن أنزل على النبي » هكذا في ( المصرية و ابن ميثم و الخطية ) و لكن في ( ابن أبي الحديد ) « على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم » ٢ « و الأموال أربعة » إن عمر لم يكن يعرف ما يعرفه باقي الصحابة و التابعين .

فقال ابن عبد البر في ( استيعابه ) في عنوان صعصعة : صعصعة هو القائل لعمر حين قسّم المال الذي بعث اليه أبو موسى و كان ألف ألف درهم ،

و فضلت منه فضلة ، فاختلفوا عليه حيث يضعها ، فقام خطيبا و قال : أيّها الناس إنّه قد بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس ، فما تقولون فيها ؟ فقام صعصعة ،

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٤ : ٣٢٢ ح ٨ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ١٥٨ ، لكن في شرح ابن ميثم ٥ : ٣٨١ ، مثل المصرية .

٣١٤

و هو غلام شاب فقال : إنّما تشاور الناس في ما لم ينزل اللّه فيه قرآنا ، و أما ما أنزل اللّه به القرآن و وضعه مواضعه فضعه في مواضعه التي وضعه اللّه تعالى فيها فقال صدقت ١ .

« أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة في الفرائض » فقال في الطبقة الاولى :

يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظّ الأنثيين فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك و إن كانت واحدة فلها النصف و لأبويه لكلّ واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد و ورثه أبواه فلامّه الثلث فإن كان له إخوة فلامّه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين ٢ .

و قال في الطبقة الثانية : يستفتونك قل اللّه يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له ولد و له أخت فلها نصف ما ترك و هو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك و إن كانوا إخوة رجالا و نساء فللذّكر مثل حظّ الأنثيين يبيّن اللّه لكم أن تضلّوا و اللّه بكلّ شي‏ء عليم ٣ .

و قال جل و علا : و ان كان رجل يورث كلالة أو امرأة و له أخ أو أخت فلكلّ واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضارّ ٤ .

و قال في الطبقة الثالثة : و أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه ٥ .

و ذكر ميراث الأزواج فقال : و لكم نصف ما ترك أزواجكم إلى قوله

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الاستيعاب ٢ : ١٩٦ .

( ٢ ) النساء : ١١ .

( ٣ ) النساء : ١٧٦ .

( ٤ ) النساء : ١٢ .

( ٥ ) الانفال : ٧٥ .

٣١٥

فلهن الثّمن مما تركتم من بعد وصيّة توصون بها أو دين ١ .

و ذكر إبطال العصبة في مورد البنات و الأخوات التي يقول بها مخالفونا فقال : للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون و للنّساء نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون ممّا قلّ منه أو كثر نصيبا مفروضا ٢ .

و دلّ على بطلان العول و ورود النقص على البنات و الأخوات دون الأزواج و الآباء و الامهات ، بأن جعل للاولى فريضة واحدة و للأخيرة فريضتان . قال ابن عباس : و أول من أعال عمر فقال ما أدري أيكم قدّم و أيكم أخر ، و لو قدّم من قدّم اللّه و أخّر من أخّر اللّه ما عالت فريضة ، فقيل له : فما قدّم و ما أخّر ؟ فقال : المقدّم فريضة الزوجين و الامهات و المؤخر فريضة البنات و الأخوات . فقيل له : فما منعك أن تشير بهذا على عمر ؟ قال : هبته ٣ .

« و الفي‏ء فقسّمه على مستحقيه » فقال جلّ و علا : و ما أفاء اللّه على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل و لا ركاب و لكن اللّه يسلّط رسله على من يشاء و اللّه على كلّ شي‏ء قدير . ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ٤ .

و قال تعالى : يا أيها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت اجورهن و ما ملكت يمينك ممّا أفاء اللّه عليك ٥ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) النساء : ١٢ .

( ٢ ) النساء : ٧ .

( ٣ ) أخرجه الكليني في الكافي ٧ : ٧٩ ح ٣ ، و الصدوق في الفقيه ٤ : ١٨٧ ح ٣ ، و في العلل ٢ : ٥٦٨ ح ٤ ، و الطوسي في التهذيب ٩ : ٢٤٨ ، ح ٦ ، و الحاكم في المستدرك ٤ : ٣٤٠ ، و البيهقي في سننه و أبو الشيخ في الفرائض ، عنهما منتخب كنز العمال ٤ : ٢٠٨ .

( ٤ ) الحشر : ٦ ٧ .

( ٥ ) الأحزاب : ٥٠ .

٣١٦

قالوا : أي بالسبي كصفية و جويرية .

« و الخمس فوضعه اللّه حيث وضعه » قال تعالى : و اعلموا أنّ ما غنمتم من شي‏ء فأن للّه خمسه و للرسول ولذي القربى و اليتامى و المساكين ١ .

و الفي‏ء كلّه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السلام ، و الغنيمة خمسها له و لهم .

و في ( أدب كتّاب الصولي ) : ولّى عمر السائب قسمة الغنائم بنهاوند لما فتحها اللّه على المسلمين ، فجمع السائب الغنائم فقسّمها ، ثم جاء من دلّه على كنز الفخير جان و كان سفطين من جوهر ، فاستخرجهما فأتى بهما عمر ،

فأمره أن يبيعهما و يقسّم ثمنها بين الذرية و لم يأمره أن يخمسه ، فتبيّن أنّه جعله فيئا و لم يجعله غنيمة ٢ .

و عن كتاب ( خراج أبي يوسف ) أن نجدة بن عامر سأل ابن عباس عن سهم ذي القربى ، فكتب إليه : هو لنا و إن عمر دعانا إلى أن ننكح منه أيّمنا و نقضي به عن مغرمنا و نخدم منه عائلنا ، فأبينا إلاّ أن يسلمه إلينا و أبى ذلك علينا ٣ .

« و الصدقات فجعلها اللّه حيث جعلها » فقال تعالى : إنّما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلّفة قلوبهم و في الرّقاب و الغارمين و في سبيل اللّه و ابن السبيل ٤ .

« و كان حلي » بالفتح فالسكون و جمعه « حلي » بالضم فالكسر من حلي المرأة « الكعبة فيها يومئذ فتركه اللّه على حاله و لم يتركه نسيانا و لم يخف » بالفتح من خفي « عليه » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « عنه » كما في ( ابن أبي الحديد

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الانفال : ٤١ .

( ٢ ) أدب الكتّاب : ١٩٨ .

( ٣ ) الخراج : ٢٠ .

( ٤ ) التوبة : ٦٠ .

٣١٧

و الخطيّة ) ١ « مكانا فأقرّه » بكسر القاف « حيث أقرّه اللّه و رسوله » .

إنّما أمر عليه السلام بإقرار حليها على حالها ، و أما ما يهدى اليها لا حليا ، فلحاجّ لم يكن له نفقة الرجوع . ففي الكافي : أنّ قوما أقبلوا من مصر فمات منهم رجل فأوصى بألف درهم للكعبة ، فلما قدم الوصي مكة سأل فدلّوه على بني شيبة ،

فأتاهم فأخبرهم فقالوا : قد برئت ذمّتك ادفعها إلينا ، فسأل الناس فدلوه على أبي جعفر الباقر عليه السلام ، فأتاه فسأله فقال : إنّ الكعبة لغنية عن هذا ، انظر إلى من أمّ هذا البيت ، فقطع به أو ذهبت نفقته أو ضلّت راحلته أو عجز أن يرجع إلى أهله فادفعها إليه . فأتى الرجل بني شيبة فأخبرهم بقوله عليه السلام ، فقالوا له : هذا ضالّ مبتدع ليس له علم و لا يؤخذ عنه ، و نحن نسألك لمّا أبلغته عنّا هذا الكلام ،

فأتاه فقال له : زعموا أنّك كذا و كذا و سألوني بالعظيم ألاّ بلّغتك ما قالوا ، قال :

و انا أسألك بما سألوك لمّا آتيتهم فقلت لهم : إنّه يقول إنّ من علمي أن لو ولّيت شيئا من امور المسلمين لقطعت أيديهم ثمّ علقتها في أستار الكعبة ثم أقمتهم على المصطبة ثم أمرت مناديا ينادي : ألا إنّ هؤلاء سرّاق اللّه فاعرفوهم .

و فيه عن الكاظم عليه السلام : جعل رجل جاريته هديا للكعبة ، فقال له أبي عليه السلام :

قوّم الجارية أو بعها ثم مر مناديا يقوم على الحجر فينادي : ألا من قصرت به نفقته أو قطع به أو نفد طعامه فليأت فلان بن فلان ، و مره أن يعطي أولا ، فأوّلا حتى ينفد ثمن الجارية ٢ .

« فقال له » هكذا في ( المصرية ) ، و كلمة « له » زائدة لعدم وجودها في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) ٣ « عمر لولاك لافتضحنا و ترك الحلي بحاله »

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ١٥٨ .

( ٢ ) الكافي ٤ : ٢٤١ و ٢٤٢ ح ١ و ٢ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) توجد لفظة « له » في شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ١٥٨ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ٣٨١ .

٣١٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و عرف خطأ المشيرين عليه بأخذه .

و ورد شكر عمر له عليه السلام لما أرشده في مواضع اخر في امور شخصه و في امور غيره بألفاظ مختلفة :

منها : ما روي عن الربيع بن زياد و قد نقله ابن أبي الحديد في موضع آخر قال : قدمت على عمر بمال من البحرين ، فصلّيت معه العشاء ثم سلّمت عليه فقال : ما قدمت به ؟ قلت : خمسمائة ألف . قال : ويحك إنّما قدمت بخمسين ألفا ، قلت : بل خمسمائة الف ، قال : كم يكون ذلك . قلت : مائة ألف و مائة ألف حتى عددت خمسا . فقال : إنّك ناعس ، ارجع إلى بيتك ثم اغد علي ، فغدوت عليه فقال : ما جئت به ؟ قلت : ما قلت لك ، فاستشار الصحابة فيه فأشير عليه بنصب الديوان ، فنصبه و قسّم المال بين المسلمين ففضلت عنده فضلة ، فأصبح فجمع المهاجرين و الأنصار و فيهم علي بن أبي طالب عليه السلام و قال للناس : ما ترون في فضل ، فضل عندنا من هذا المال ؟ فقال الناس : إنّا شغلناك بولاية امورنا عن أهلك و تجارتك و صنعتك فهو لك ، فالتفت إلى علي عليه السلام فقال : ما تقول أنت ؟ قال : قد أشاروا عليك قال : فقل أنت ، فقال له : لم تجعل يقينك ظنّا .

فلم يفهم عمر ما قال ، فقال له : لتخرجن ممّا قلت . قال : أجل و اللّه لأخرجن منه ،

أتذكر حين بعثك النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ساعيا فأتيت العباس فمنعك صدقته فكان بينكما شي‏ء ، فجئتما إليّ و قلتما : انطلق معنا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، فجئنا اليه فوجدناه خاثرا ، فرجعنا ثم غدونا عليه فوجدناه طيّب النفس ، فأخبرته بالذي صنع العباس فقال لك : يا عمر أما علمت أنّ عمّ الرجل صنو أبيه فذكرنا له ما رأينا من خثوره في اليوم الأول و طيب نفسه في اليوم الثاني ، فقال : إنّكم أتيتم في اليوم الأول و قد بقي عندي من مال الصدقة ديناران ، فكان ما رأيتم من خثوري ، و أتيتم في اليوم الثاني و قد وجّهتهما فذاك الذي رأيتم من طيب نفسي . أشير عليك أن لا تأخذ من هذا الفضل شيئا و ان تفضّه على فقراء

٣١٩

المسلمين ، فقال عمر : صدقت و اللّه لأشكرن لك الاولى و الأخيرة ١ .

و منها : ما روي عن أبي سعيد الخدري و نقله ابن أبي الحديد في موضع آخر قال : حججنا مع عمر أوّل حجّة حجّها في خلافته ، فلما دخل المسجد الحرام ، دنا من الحجر الأسود فقبّله و استلمه ، و قال : إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ و لا تنفع ، و لو لا أني رأيت النبي قبّلك و استلمك لما قبّلتك و لا استلمتك . فقال له علي عليه السلام : بلى إنّه يضر و ينفع ، و لو علمت تأويل ذلك من كتاب اللّه لعلمت أنّ الذي أقول لك كما أقول ، قال اللّه تعالى : و اذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى ٢ ، فلما أشهدهم و أقرّوا له أنّه الربّ و أنّهم العبيد كتب ميثاقهم في رقّ ،

ثم ألقمه هذا الحجر ، و إنّ له لعينين و لسانا و شفتين تشهد لمن وافاه بالموافاة ،

فهو أمين اللّه تعالى في هذا المكان . فقال عمر : لا أبقاني اللّه بأرض لست بها يا أبا الحسن ٣ .

و روى الكافي عن الصادق عليه السلام قال : إنّ اللّه تعالى لما أخذ مواثيق العباد أمر الحجر فالتقمها و لذلك يقال « أمانتي أدّيتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة » ٤ .

و منها : ما رواه الكافي عن الصادق عليه السلام : إن امرأة كانت تؤتى ، فبلغ ذلك عمر فبعث إليها فروّعها و أمر أن يجاء بها إليه ، ففزعت المرأة ، فأخذها الطلق فانطلقت إلى بعض الدور فولدت غلاما فاستهلّ الغلام ثمّ مات ، فدخل عليه من روعة المرأة و من موت الغلام ، فقال له بعض جلسائه ما عليك من هذا شي‏ء

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٢ : ٩٩ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الاعراف : ١٧٢ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٢ و ١٠٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٤ ) الكافي ٤ : ١٨٤ ح ١ .

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601