بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 601

  • البداية
  • السابق
  • 601 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123072 / تحميل: 6204
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

اختصاص الخطاب والوعظ بهؤلاء شيء، وجواز تكرار الرسالة بعد عصر القرآن شيء آخر، يحتاج اثباته إلى دليل غير هذه الآية، فإنّ أقصى ما في هذه، هو وعظ الجيل الإسلامي بقصص المرسلين، ولا بد أن يكون المتعظ به قبلهم، كما أنّ القرآن يعظ الجيل الإسلامي، بقصة موسى وفرعون، ولا تحدث نفس صاحبهما بأنّ ذلك المتعظ به، يجب أن يتكرر في المستقبل.

الشبهة الثانية :

استدلت الفرقة التعيسة « البهائية » على عدم اختتام الرسالة، وعدم انتهائها بآية ثانية، وتقوّلت بأنّها تدلّ على خلاف ما هو المنصوص في غير موضع من الذكر الحكيم، ودونك الآية :

( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) ( غافر ـ ١٥ ).

قال المستدل في فرائده: إنّ قوله سبحانه:( يُلْقِي الرُّوحَ ) بصيغة المضارع ينبئ عن عدم اختتام الرسالة، وأنّ الروح ينزل بأمره على من يشاء من عباده في الأجيال المستقبلة(١) .

الجواب :

توضيحه يحتاج إلى بيان أمرين :

١. الظاهر من « الروح » هو الوحي(٢) فاستعير له الروح، لأنّه به تحيا القلوب وفيه حياة المجتمع، ويوضح ذلك قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا

__________________

(١) الفرائد: ص ٣١٣ وص ١٢٦ من الطبعة الحجرية.

(٢) وقريب منه تفسيره بالقرآن أو كل كتاب أنزله سبحانه أو جبرئيل أو النبوّة، وما اخترناه هو الأولى، فتدبر.

١٨١

كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) ( الشورى ـ ٥٢ ) ومنه يعلم أنّ المحتمل أن يكون الروح المسؤول عنه في القرآن الكريم هو حقيقة الوحي حيث قال سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء ـ ٨٥ ).

٢. يوم التلاق: إنّما هو يوم لقاء الله، يوم يلتقي فيه العبد والمعبود، وأهل الأرض والسماء، كما يوضحه ما بعد الآية:( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر ـ ١٦ ).

والمراد من قوله:( لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) أي ليحكم في ذلك اليوم بين عباده فينتصف المظلوم من ظالمه، ويجزي المحسن والمسيء، أو لينذر عباده سبحانه عن عذاب ذلك اليوم.

إذا عرفت الأمرين، فالجواب عن الاستدلال بها واضح جداً بعد ما عرفت عند البحث عن الشبهة الاُولى من أنّ الفعل في تلك المواضع مجرد عن الزمان، والهدف إنّما هو بيان نسبة الفعل إلى الفاعل واتصافه بها، بلا نظر إلى زمان النسبة، سواء أكان الماضي، أم الحال أم المستقبل، كما في قوله :

من يفعل الحسنات لله يشكرها

والشر بالشر عند الله سيان

وعلى هذا، فسيقت الآية لبيان كونه سبحانه مالكاً على الإطلاق، لا ينازعه في ملكه ولا يناضله في مشيئته واختياره أحد، والوحي أحد الأشياء التي أمرها بيده، يختص به من يؤثره على عباده ويختاره منهم، وليس لأحد أن يعترض عليه ويقول:( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان ـ ٣٢ ). أو يطعن ويقول:( لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف ـ ٣١ ) فإذا كان هدف الآية بيان هذا الأمر، وانّ الوحي بكمّه وكيفه ومن ينزل عليه موكول إليه سبحانه، فلا يتفاوت في ابلاغ هذا الغرض، التعبير بالماضي، أو المضارع، فسواء أقال: « القى الروح » أم قال:( يُلْقِي الرُّوحَ ) فهما في افهام المقصود سواسية فلا يدلاّن على زمان الاتصاف، والمقصد الأسنى ،

١٨٢

اتصافه سبحانه بالاختيار التام في انزال الوحي على أي فرد من عباده، من دون دلالة على زمان الاتصاف.

ودونك مثالاً عرفياً يقرّب المقصود.

فلو نصب الملك المستبد ( والملوكية خاصتها الاستبداد ) أحد ولده ولياً للعهد وجلعه وارثاً للعرش والاكليل، وشاغلاً لمنصة الملوكية بعده، فإذا اعترض عليه أحد وزراءه بأنّ ولده الآخر كان أحق بهذا المنصب، فيجيب الملك بقوله: إنّ الامر بيدنا، نقدم من نشاء، ونؤخر من نشاء، نرفع من نشاء ونضع من نشاء

فليس لك عند ذلك أن تستظهر من عبارته، وتتهمه بأنّه قد أخبر حتماً عن نصب فرد آخر في المستقبل، متمسكاً بأنّه قال: « نقدم » بصيغة المضارع ولم يقل: « قدمت ».

لا، ليس لك ولا لغيرك هذا، لأنّ المفهوم في هذه المواضع إنّما هو بيان أصل الإتصاف، أي إتصاف الفاعل ( الملك ) بالفعل ( تقديم من تعلّقت إرادته بتقديمه ) لا بيان زمان الإتصاف واستمراره في الجيل الآتي، فلاحظ.

فلو تنازلنا عن كلّ ما قلناه حول هذه الآية وما قبلها وفرضنا أنّ ما نسجوه من الأوهام حقيقة راهنة فنقول: إنّ ما ذكروه كلّه لا يتجاوز حدّ الاشعار فهل يجوز في ميزان العقل والانصاف ترك ما سردناه من البراهين الدامغة والنصوص الناصعة والضرورة والبداهة بين المسلمين عامة، الدالّة على كون النبي الأعظم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات، لأجل هذه الاُمور الواهية التي لا يستحق أن يطلق عليها اسم الدلالة.

قال الشيخ المفيد: إنّ العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء وإنّما منع ذلك الاجماع، والعلم بأنّه خلاف دين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار(١) .

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ٣٩.

١٨٣

قال الفاضل المقداد في أثره القيّم(١) أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى كافة الخلق والدليل على ذلك إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك المعلوم تواتراً مع ثبوت نبوّته المستلزمة لإتصافه بصفات النبوّة التي من جملتها العصمة المانعة من الكذب، إلى أن قال: يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء وإلّا لم تكن عامة للخلق، ولقوله تعالى:( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نبي بعدي.

الشبهة الثالثة :

وقد تمسكت هذه الفرقة بظاهر آيتين اُخريين :

الاُولى: قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ( يونس ـ ٤٧ ).

الثانية: قوله سبحانه:( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إلّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( يونس ـ ٤٩ ).

تقرير هذه الشبهة أنّ الله حدد حياة الاُمم بحد خاص، والاُمّة الإسلامية إحدى هذه الاُمم، فلها أجل خاص، ومدة محدودة، ومعه كيف يدعي المسلمون دوام دينهم وبقاءه إلى يوم القيامة ؟

وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن أجل الاُمّة الإسلامية، فأجابصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: إن صلحت اُمّتي فلها يوم، وإن فسدت فلها نصف يوم(٢) .

الجواب :

لا أدري ماذا يريد القائل من الاستدلال بهاتين الآيتين: أمّا الآية الاُولى، أعني قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ) فصريح الآية هو أنّ الله سبحانه يبعث إلى كل اُمّة ،

__________________

(١) اللوامع الالهية في المباحث الكلامية: ص ٢٢٥.

(٢) الفرائد: ص ١٧ الطبعة الحجرية.

١٨٤

مثل اُمّة نوح وعيسى وموسى، رسولاً يدعوهم إلى دين الحق ويهديهم إلى صراطه، وأمّا أمد رسالة الرسول وكميتها، فالآية غير ناظرة إليه، لا صريحاً ولا تلويحاً لا مفهوماً ولا منطوقاً ولا مانع من أن يكون إحدى هذه الرسالات غير محدودة بحد خاص، ويكون صاحبها خاتم الرسل ودينه خاتم الأديان، وقد دلّ القرآن على أنّ نبي الإسلام هو ذاك، كما تقدمت دلائله.

ونظير ذلك قوله سبحانه:( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) ( النحل ـ ٣٦ ).

أتجد من نفسك أنّ الآية تشير إلى تحديد الشريعة بعد الإسلام، لا، لا تجده من نفسك، ولا يجد ذلك أيضاً كل متحرر عن قيد العصبية.

وأمّا الآية الثانية، فكشف الغطاء عن محيا الحق، يحتاج إلى توضيح وتحقيق معنى « الاُمّة » الواردة في الكتاب والسنّة، فنقول :

قال الراغب: الاُمّة، كل جماعة يجمعهم أمر ما: أمّا دين، أو مكان، أو زمان، وهذا الجامع ربّما يكون اختيارياً وقد يكون تسخيرياً(١) .

هذه الحقيقة التي كشف عنها الراغب، هو الظاهر من الكتاب والسنّة وموارد الاستعمال وصرّح بها الجهابذة من اللغويين، ودونك توضيح ما أفاده الراغب :

الجامع الديني، كما في قوله سبحانه:( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) ( البقرة ـ ١٢٨ ) وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ) ( آل عمران ـ ١١٠ ).

الجامع الزماني كقوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ٢٣ مادة « اُم » وكان الأولى أن يضيف إلى هذه الجوامع لفظ « أو غيره » إذ لا ينحصر الجامع بهذه الثلاثة وليس المقصود أنّ هذه الجوامع داخلة في مفهموم « الاُمّة » حتى يقال: أنّ توصيف الاُمّة في الآية بكونها « مسلمة » دليل على خروجها عن مفهوم الآية، بل المراد أنّ هذه الجوامع تكون مصححة، لاطلاقها على الجماعة.

١٨٥

سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف ـ ٣٤ ) وفسّرها المفسّرون بلازم المعنى وقالوا: بعد حين، أي بعد انقضاء أهل عصر، كأنّه يجمعهم زمان واحد في مستوى الحياة، ومثله قوله سبحانه:( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ( هود ـ ٨ ) وفسره في الكشاف بلازم المعنى، وقال: إلى جماعة من الاوقات.

الجامع المكاني: نحو قوله سبحانه:( ولـمّاوَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) ( القصص ـ ٢٣ ) أي وجد حول البئر جماعة يسقون مواشيهم، فالجهة الجامعة لعدّهم اُمّة واحدة، إنّما هي اجتماعهم في مكان واحد، أو غيرها من الجهات التي يمكن أن تجمع شمل الأفراد والآحاد.

الجامع العنصري والوشيجة العنصرية، والرابطة القومية كما في قوله سبحانه:( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ) ( الأعراف ـ ١٦٠ ).

وقوله:( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ) ( الأعراف ـ ١٦٨ ) فبنوا إسرائيل كلهم أغصان شجرة واحدة، يجمعهم ترابط قومي ووشيجة عنصرية، إلّا أنّه كلّما ازدادت الشجرة نموّاً ورشداً إزدادت أغصاناً وأفناناً، فعد كلّ غصن مع ما له من الفروع، أصلاً برأسه وهم مع كونهم اُمماً اُمّة واحدة أيضاً يربطهم الجامع العنصري.

القرآن يتوسّع في استعمال الاُمّة :

إنّ القرآن يتوسّع في استعمال الكلمة فيطلقها على الفرد، إذا كان ذا شأن وعظمة تنزيلاً له منزلة الجماعة كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا ) ( النحل ـ ١٢٠ ) أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة، وروى أنّه يحشر « زيد بن عمرو » اُمّة وحده.

بل يتوسّع ويستعمله في صنوف من الدواب، إذا كانت تجمعهم جهة خاصة ،

١٨٦

كقوله سبحانه:( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ) ( الأنعام ـ ٣٨ ).

فعدّ الله كل صنف من الدواب والطيور اُمماً، لما بينها من المشاكلة والمشابهة حيث الخلق والخلق، فهي بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة، ومدخرة كالنمل ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع(١) .

ويمكن أن يقال: إنّ ما ألمحنا إليه من موارد الاستعمال للفظ « الاُمّة » ليست معاني مختلفة، حتى يتصور أنّ اللفظ وضع عليها بأوضاع متعددة، بل كلها مصاديق لمعنى وسيع وضع عليه اللفظ ( الاُمّة ) وهو كل اجتماع من الانسان وغيره من الحيوان، يجمعهم أمر ما من الزمان والمكان والدين والعنصر وغيرها.

الاُمّة: الطريقة والدين :

نعم للاُمّة معنى آخر اُستعملت فيه، في الكتاب والسنّة، وهو الطريقة والدين، كقوله سبحانه:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ( الزخرف ـ ٢٢ ) وقوله سبحانه:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) ( الزخرف ـ ٢٣ ).

قال الجوهري في صحاحه: الاُمّة، الطريقة والدين، يقال لا اُمّة له، أي لا دين ونحلة، قال الشاعر :

وهل يستوي ذو اُمّة وكفور

وقال الفيروز آبادي: الاُمة ـ بالكسر ـ الحالة والشرعة والدين ويضم.

هذه هي الاُمة ومعناها وقد عرفت أنّه لم يستعمل في الكتاب إلّا في هذين المعنيين ( الجماعة والدين ) وقد ذكروا لها معاني اُخرى يمكن ارجاعها إلى ما ذكرناه.

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ٢٣.

١٨٧

فلنرجع إلى مفاد الاُمّة :

إذا عرفت ما ذكرناه: فلنرجع إلى مفاد الاُمّة فنقول قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) يحتمل في بادئ الأمر أن يراد منها الطريقة أو الجماعة، ولكن الأوّل مدفوع بما في ذيله:( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) إذ يجب حينئذ أن يقول: فإذا جاء أجلها بإفراد الضمير، لو صح إطلاق الأجل على الدين والشريعة(١) فلا مناص من حمل الآية على المعنى الثاني: أعني الجماعة، التي يربطهم في الحياة أمر ما، والمراد أنّ كل كتلة من الناس إذا طويت صحيفة حياتهم وانتهت مدة عيشهم لا يمهلون بعد شيئاً، فلا يستقدمون ولا يستأخرون بل يتوفّاهم ملك الموت الذي وكل بهم، فلا إمهال ولا تأخير، فالآية ناظرة إلى بيان أمر تكويني جرت عليه مشيئته سبحانه وهو أنّ حياة الاُمم في أديم الأرض محدود إلى أجل لا يمهلون بعده وليس فيها أي نظر إلى توقيت الشرائع وتحديدها وتتابع الرسل ونزول الكتب.

وأمّا حملها على خصوص الاُمّة الدينية أي الاُمّة التي يجمعها دين واحد فيحتاج إلى الدليل والقرينة(٢) وقد عرفت أنّ الاُمّة عبارة عن الجماعة التي يجمعهم أمر ما، سواء أكان ذلك الجامع زماناً أو مكاناً أو اتحاداً في الشغل والمهنة أو ديناً، أو عنصراً، إلى غير ذلك من عشرات الوحدات الجامعة بين المتشتتين من الناس.

وقد تكرر مضمون الآية في الذكر الحكيم بصور مختلفة كلها تهدف إلى ما ذكرناه، وأوضحناه، ودونك بعضها :

( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (٣) *مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا

__________________

(١) سيوافيك أنّه لم يستعمل الأجل في القرآن في أمد الأديان.

(٢) وعلى فرض شمول الآية للاُمة الدينية بعمومها، فمن أين وقف المستدل على أنّه جاءأجلهم ولماذا لا يمتد إلى يوم القيامة كما سيوافيك بيانه تحت عنوان « سؤال من المستدل ».

(٣) أي مكتوب معلوم كتب فيه أجلها.

١٨٨

يَسْتَأْخِرُونَ ) ( الحجر ٤ ـ ٥ )، وقوله سبحانه:( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ *مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) ( المؤمنون ٤٢ ـ ٤٣ ).

وقريب منه قوله سبحانه:( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ *وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المنافقون: ١٠ ـ ١١ )، وقوله سبحانه:( يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( نوح ـ ٤ ).

نظرة في موارد استعمال الأجل في القرآن :

ويؤيد ذلك أنّه لم يستعمل « الأجل » في الذكر الحكيم في أجل الشرائع، وانتهاء أمدها، بل قصر استعماله على موارد اُخرى، لبيان آجال الديون، والعقود كقوله تعالى:( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) ( البقرة ـ ٢٨٢ ).

وقوله سبحانه:( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) ( البقرة ـ ٢٣٥ ).

أو بيان انتهاء استعداد الاشياء للبقاء كقوله سبحانه:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) ( الأنعام ـ ٢ ) وقوله سبحانه:( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ( الرعد ـ ٢ ).

وأمّا قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد ـ ٣٨ ) فيحتمل وجوهاً :

١. إنّ لكل وقت حكماً خاصاً مكتوباً معيناً، كتب وفرض في ذلك الأجل، دون غيره لأنّ الفرائض تختلف حسب اختلاف الأوضاع والأحوال، فلكل وقت حكم يكتب ويفرض على العباد حسب مقتضيات المصالح.

٢. ما فسر به أمين الإسلام وهو قريب ممّا ذكرناه آنفاً، وقال إنّ لكل وقت كتاباً خاصاً، فللتوراة وقت وللانجيل وقت وكذلك القرآن، فالفرق بينه وبين ما ذكرناه هو

١٨٩

أنّه حمل الكتاب على الكتاب المصطلح، ونحن حملنا على الحتم والفرض.

٣. انّ المراد منه: انّ لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه، فللاجال كلّها كتاب كتب فيه.

٤. انّ لكل أمر قضاه الله كتاب كتب فيه، وأبعد الوجوه هو الأخير، إذ هو تفسير بالأعم، وهو سبحانه يقول:( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ولم يقل لكل أمر كتاب وأقرب الوجوه هو الأوّل بقرينة قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد ـ ٣٨ ) فلقد كانوا يقترحون على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعض الآيات، فأجابهم سبحانه بأنّ لكل وقت حكماً خاصاً، كتبه الله لذلك الوقت، ولا يجري إلّا فيه.

وعلى أي وجه من الوجوه الأربعة، فلا تدل الآية على أنّ لكل دين أجلاً وأمداً، إلّا على الوجه الثاني، ودلالته عليه إنّما هي بالالتزام لا بالمطابقة لأنّه إذا كان لكل وقت كتاباً خاصاً مثل التوراة والإنجيل يدل بالملازمة على أنّ لكل وقت شريعة وديناً.

وأمّا على ما فسّرنا الآية به فمآله إلى أنّ لكل وقت حكماً، والحكم ليس نفس الدين والشريعة، بل جزء منه وتكون الآية دالّة على رد من زعم امتناع وقوع النسخ في الشريعة الواحدة.

وأمّا على المعنى الثالث والرابع، فعدم دلالته على أنّ لكل دين أجلاً، واضح لا يحتاج إلى البيان.

سؤال من المستدل :

وفي الختام نسأل المستدل هب أنّ الآية بصدد بيان آجال الشرائع وتحديدها وأنّ لكل دين واُمّة دينية أجلاً، ولكنّه من أين وقف على أنّ الإسلام قد انتهى أمده وجاء أجله، وأنّه لا يمتد إلى يوم القيامة، إذ لنا أن نقول: إنّ أمد الإسلام ينتهي بانتهاء نوع الانسان، في أديم الأرض وقيام القيامة، وحضور الساعة، فلو دلّت الآية على أنّ لدين الإسلام أو الاُمّة الإسلامية أجلاً قطعياً فنستكشف ببركة الآيات الدالّة على اختتام النبوّة

١٩٠

والرسالة عن امتداد تلك الرسالة إلى اليوم الذي تنطوي فيه صحيفة حياة الانسان في هذه السيارة، وأنّ أجله وأجلها واحد.

الاكذوبة التي نسبها إلى رسول الله :

هلم نسأله، عن مصدر الاكذوبة التي نسبها الكاتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: أنّه بعد ما نزلت آية:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) طفق أصحابه يسألونه عن أجل الاُمّة الإسلامية، فأجابه بقوله: إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن لم تصلح فلها نصف يوم(١) .

فقد أعتمد الكاتب في نقله على نقل الشعراني، وليس في لفظه ما يدل على سؤال أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أجل الاُمّة الإسلامية بعد نزول الآية، وإنّما هو اكذوبة نحتها الكاتب ونسبها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

نعم تفسير اليوم بألف عام، كما نقله الشعراني عن تقي الدين رجم بالغيب إذ كما يمكن تفسيره بألف مستند إلى قوله سبحانه:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( الحج ـ ٤٧ ) يمكن تفسيره بخمسين ألف سنة، استناداً إلى قوله سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج ـ ٤ ).

وأمّا ما رواه العلّامة المجلسي، مسنداً عن كعب الأحبار، على نحو يشعر بكون تفسير اليوم بألف عام، من الحديث، فمما لا يقام له وزن، فإنّ كعب الأحبار وضّاع

__________________

(١) الفرائد: صفحة ١٧ الطبعة الحجرية.

(٢) ودونك نص الشعراني في كتابه اليواقيت والجوهر التي ألّفها عام ٩٥٥ ه‍ قال في بيان أنّ جميع أشراط الساعة حق: انّه لابد أن يقع كلّها قبل قيام الساعة وذلك كخروج المهدي ( عج ) ثمّ الدجال، ثمّ نزول عيسى، وخروج الدابة و حتى لو لم يبق من الدنيا إلّا مقدار يوم واحد، فوقع ذلك كلّه، قال الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور في عقيدته: وكل ذلك تقع في المائة الأخيرة ( هذا تخرص من الرجل وتنبؤ منه، أعاذنا الله منه ) من اليوم الذي وعد به رسول الله بقوله في اُمّته: إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم، يعني من أيام الرب المشار إليه بقوله تعالى:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) لاحظ اليواقيت ج ٢ ص ١٦٠ ونقل عن بعض العارفين أنّ أوّل الألف محسوب من وفاة علي بن أبي طالب.

١٩١

كذّاب مدلس، لم تخرج اليهودية من قلبه، تزيا بزي الإسلام فأدخل الإسرائيليات والقصص الخرافية، في أحاديث المسلمين فلا يقام لحديثه وزن ولا قيمة، فلنضرب عنه صفحاً.

أضف إليه أنّ الرجل لم يسنده إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا إلى الولي، فكيف يكون حجّة ؟

ثمّ إننا نسأل صاحب الفرائد(١) ومن مشى مشيه، ونقول: إنّ رسول الله قال ( بزعمكم ): إن صلحت اُمّتي فلها يوم فهل صلحت الاُمّة الإسلامية في هذه القرون العشرة ومشت سبل الصلاح والسلام، وازدهر فيهم العدل والإحسان، أو شاع فيهم الجور والطغيان والقتل الذريع وسفك الدماء وحبس أبرياء الاُمّة واعتقالهم ونهب أموالهم وعند ذاك يلزم انتهاء أمد الإسلام بإنقراض خمسمائة عام، التي هي نصف يوم، من اليوم الربّاني، لأنّه لم تصلح الاُمّة بعد لحوق الرسول بالرفيق الأعلى ولكن الكاتب لا يرضى به لأنّه لا يوافق ما يدعيه ويرتئيه.

وأعجب من ذلك أنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ( ألف عام ) العام الذي تمّت فيه غيبة ولي الله الأعظم، الحجة بن الحسن العسكري ( عجل الله فرجه ) لا عام بعثة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو هجرته أو وفاته، أو سنة صدور الحديث. أو ما كانت الاُمّة العائشة في هذين القرنين ونصف من الاُمّة الإسلامية ؟! ( سله أنا لا أدري ولا المنجّم يدري ) أظنّك أيها القارئ الكريم لا يفوتك سر هذا الجعل، وإنّه لماذا جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني، عام غيبة الولي، أعني عام ٢٦٠ من الهجرة النبوية، ذلك العام الذي غاب فيه خاتم الأوصياء عن الأبصار إلى الوقت الذي لا يعلمه إلّا هو سبحانه، فقد عمد بذلك إلى أن ينطبق مبدأ خروج الباب(٢) على اختتام ألف عام(٣) .

فقد خرج « الباب » وادّعى ما ادّعى، مفتتح عام ١٢٦٠ من الهجرة النبوية.

__________________

(١) أبو الفصل الجرفادقاني.

(٢) المراد منه « علي محمد » الشيرازي الملقّب بالباب، عند الفرق الضالّة البابية والازلية والبهائية.

(٣) فالرجل قد وضع فكرة معينة، ثمّ أراد تصيّد الأدلّة لاثباتها، ولكن الباحث المخلص يتجرّد عن

١٩٢

الشبهة الرابعة :

استدل صاحب « الفرائد » بآية رابعة، زعم دلالتها على عدم انقطاع الوحي والرسالة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي قوله سبحانه:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور ـ ٢٥ ).

قال: إنّ صيغة « يوفيهم » تبشّر عن دين حق يوفيه سبحانه على من يشاء من عباده في الأجيال الآتية بعد الإسلام، وليس لك أن تحمله على الإسلام وتفسّره به، لأنّه قد أكمل نظامه وتمت اُصوله وفروعه عام حجة الوداع بنص الذكر الحكيم، كما قال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ) وهو سبحانه يخبر في هذه الآية عن وقوع الأمر ( توفية الدين الحق ) في الجيل الآتي(١) .

الجواب :

هذا مبلغ علم الرجل ومقياس عرفانه بالكتاب وغوره في الأدب العربي وقد كان في وسع الرجل أن يرجع إلى أحد التفاسير، أو إلى ابطال العلم وفطاحل الاُمّة وكانت بيئة مصر(٢) تجمع بينه وبين فطاحلها وأعلامها العارفين، هذا هو أمين الإسلام الطبرسي، فسّره في مجمعه بقوله: يتم الله لهم جزائهم الحق، فالدين بمعنى الجزاء(٣) ، وقال الزمخشري: الحق، صفة الدين وهو الجزاء(٤) لا الطريقة والشريعة.

__________________

كلّ هوى وميل شخصي، ويتابع النصوص ومفادها، فما أدت إليه بعد التمحيص، تكون هي النتيجة التي ينبغي عليه اعتبارها حقيقة راهنة.

(١) الفرائد: صفحة ١٢٢ الطبعة الحجرية.

(٢) فقد ألّف « الفرائد » بمصر، أيام اقامته هناك، وفرغ منه عام ١٣١٥.

(٣) مجمع البيان: ج ٧ ص ١٣٤.

(٤) الكشّاف: ج ٣ ص ٢٢٣.

١٩٣

وليت الكاتب، أمعن النظر في الظرف ( يوم ) الوارد في الآية المتقدمة أعني قوله سبحانه:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ) ففي أي يوم تشهد ألسنة المجرمين وأيديهم على أعمالهم الإجرامية، فهل هذا اليوم إلّا يوم البعث ؟ ففي ذلك اليوم يوفيهم الله جزاء الطغاة العصاة المفترين الكذّابين المبدعين، الجزاء الحق الذي يستحقّونه بأعمالهم. ففي يوم واحد تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، ويوفي الله دينه الحق والجزاء الذي يستحقّونه.

على أنّ سياق الآية يوضح المقصود، فإنّ الآية وردت في الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، فعاتبهم بالآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، لإستعظام ما ركبوا من ذلك، وما أقدموا عليه، إذ قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور: ٢٣ ـ ٢٥ ).

ترى أنّه سبحانه حكم على هؤلاء العصاة اللاعبين باعراض الناس وحرماتهم بأحكام ثلاثة :

١. اللعن عليهم في الدينا والآخرة.

٢. شهادة أعضائهم على أعمالهم الإجرامية.

٣. توفية جزائهم الحق في ذلك اليوم.

ومع ذلك كيف عمي بصر الرجل وبصيرته، وأرخى قلمه ولسانه، وفسّر الآية برأيه الباطل ؟!

الشبهة الخامسة :

قد عرفت ما لدى الكاتب ومن لفّ لفه من شبهات تافهة، أو تأويلات كاذبة اختلقوها لاغواء السذّج من الناس. هلم معي نقرأ آخر شبهة للقوم، وهي الاستدلال

١٩٤

بالآية التالية:( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( السجدة ـ ٥ ).

فقد فسّر صاحب الفرائد(١) تدبير الأمر بانزال الشريعة من السماء إلى الأرض وجعل عروجه في يوم كان مقداره ألف سنة، بإندراس الشريعة تدريجاً طول هذه المدة بابتعاد الناس عن الدين، ورفضه في مراحل الحياة، وصيرورة القلوب مظلمة بالمعاصي، مدلهمّة بالخطايا، مريضة بشيوع الفساد والفوضى، فيبعث الله عند ذلك رجلاً آخر يجدد الشريعة ويؤسّسها ويذهب بظلمات القلوب، وعلى هذا فلا تدوم الشريعة أي شريعة كانت إلّا يوماً ربّانياً، وهو ألف سنة ممّا تعدون(٢) .

الجواب :

ما ذكره بصورة الشبهة، لا يصح إلّا بعد تسليم اُمور، لم يسلم واحد منها :

١. إنّ التدبير عبارة عن نزول الوحي وبلوغ الشريعة إلى النبي.

٢. إنّ الأمر في الآية هو الشريعة والطريقة.

٣. العروج هو انتهاء أمد الرسالة وانقضاء استعداد بقاء الشريعة واندراسها بشيوع الفساد والمعصية بين الاُمّة.

وليس أي واحد منها صحيحاً ولا قابلاً للقبول :

أمّا الأوّل: فلأنّ التدبير في اللغة والكتاب عبارة عن الإدارة على وجه تستوجبه المصلحة، وتقتضيه الحكمة وأين ذاك عن نزول الشريعة من السماء إلى الأرض، باحدى

__________________

(١) الفرائد الطبعة الحجرية.

(٢) ثمّ إنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني عام غيبة ولي الله الأعظم المهدي ( عج ) عن الأبصار حتى يطابق مختتمه مفتتح عام ظهور الباب، هذا مصداق واضح للتفسير بالرأي، وكأنّه قد قرر النتيجة أوّلاً ثمّ راح يتفحّص عن دليل يوصل إليها فلم يجد دليلاً، إلّا بتحريف كلام الله وتأويله السخيف.

١٩٥

الطرق المقررة في محلها.

وإن شئت قلت: التدبير هو التفكير في عاقبة الاُمور ودبرها، كما قال سبحانه:( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ( النازعات ـ ٥ ) أي الملائكة الموكلة بتدبير الاُمور.

وقوله سبحانه:( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد ـ ٢٤ ).

وقوله سبحانه:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص ـ ٢٩ ) إلى غير ذلك.

أو ليس تفسير التدبير بالنزول عند ذاك يكون تفسيراً بالرأي الذي نهى عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوعد عليه النار وقال: من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار(١) .

وأمّا الثاني: فلأنّ الأمر في القرآن لم يستعمل بمعنى الشريعة والأحكام الالهية من واجب وحرام ومكروه ومستحب ومباح، وسائر الأحكام الوضعية الجارية في العقود والايقاعات والسياسات.

هؤلاء هم أصحاب المعاجم وأعلام اللغة، لا تجد أحداً منهم فسر الأمر بالشريعة بل تدور معانية بين الشأن والشيء والتكليف.

سؤال: إذا اعترفتم بأنّ التكليف من معانيها، كما يقال أمرته: إذا كلّفته، فيصح تفسيره بالشريعة، إذ الشريعة عبارة عن تكاليف يوجهها الشارع إلى عباده ؟

الجواب: انّ حمل الأمر في الآية على الأمر والتكليف التشريعي خلاف مساق آيات السورة، بل خلاف صريح سائر الآيات الواردة في هذا المضمار فلحاظ السياق يدفعنا إلى أن نحمل الأمر على التكويني الذي هو عبارة عن إرادته الفعلية ومشيئتة التكوينية الجارية في صحيفة الكون والوجود، فإنّ كل ما يسيطر على العالم، من نظام وسنن وقوانين، كلّها بأمر تكويني وإرادة فعلية منه سبحانه كما يصرح به قوله سبحانه:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ *فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) حديث متفق عليه ورواه الفريقان بصور مختلفة.

١٩٦

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( يس: ٨٢ ـ ٨٣ ).

حصيلة البحث :

انّ هنا قرائن ثلاث لابد من البحث عنها، كي نقرّب إلى الأذهان كيفية حمل لفظ الأمر على الأمر التكويني، أعني النظم والسنن الجارية في دائرة الكون والقوانين المكتوبة على جبين الدهر ودونك هذه الشواهد :

١. لفظ التدبير، فقد عرفت أنّه عبارة عن الإدارة على وجه تقتضيه المصلحة والحكمة، فهو سبحانه يدبر الخلق بعامة أجزائه من السماء إلى الأرض، على وجه تقتضيه المصلحة، فسبحان الذي خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ،. ودبرها على وفق الحكمة، فلا السماء تسقط على الأرض، ولا الأرض تنخسف بنا، ولا الشمس تظللنا دائماً ولا الظلمة تحيط بنا سرمداً، إلى غير ذلك من سنن ونظم

٢. سياق ما تقدمها من الآيات، فإنّ محور البحث في سابقها، هو خلق السماوات والأرض واستوائه سبحانه على العرش، ودونك الآية المتقدمة عليها :

( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) ( السجدة ـ ٤ ). « يدبر الأمر » من السماء إلى الأرض أفلا تفهم من تقارن الآيتين أنّ اللام في الأمر إشارة إلى أمر الخلقة، وأنّ الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما في أيام وأدوار مخصوصة ولم يكتف سبحانه بأصل الخلقة، بل استوى على عرش ملكه فدبّر أمرها على وجه توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة، وأنّه سبحانه يدبّر أمر الخلق، أي خلق تتصور وينفذه على وجهه، حتى أنّه سبحانه توخياً للتوضيح شبّه المقام الربوبي الذي ينزل منه التدبير، ويصدر منه الحكم بعرش الملك البشري الذي يجلس الملك عليه فيصدر منه أوامره لتدبير اُمور الملك، غير أنّ أوامره طلبات عرفية اعتبارية، ولكن أوامره سبحانه، أوامر تكوينية، لا يقوم بوجهها شيء، فما قال له كن، فيكون، بلا تراخ ولا تمرّد.

١٩٧

٣. الآيات المنزّلة في هذا المضمار، فإنّ هذه الآية ليست فريدة في بابها فقد ورد في هذا المضمون ( أي تدبير أمر الخليقة ) آيات اُخرى كلها تهدف إلى ما أوضحناه، وهو أنّ تدبير الخلق بعد إيجاده من شؤونه سبحانه، من دون نظر إلى الشرائع وتجديدها، ودونك الآيات :

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ( يونس ـ ٣ ).

وقوله سبحانه:( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) ( يونس ـ ٣١ ).

وقوله سبحانه:( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ( الرعد ـ ٢ ).

نعم هذه الآيات ساكتة عن عروج الأمر وصعوده في المقدار الذي صرحت به هذه الآية، ولا يوجب ذلك فرقاً جوهرياً بين أهدافها ومراميها.

ومن ذلك تقف على أنّ الأمر في قوله سبحانه:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف ـ ٥٤ ) هو أمر الخليقة، أي هو الذي خلق الأشياء كلّها، وهو الذي صرفها على حسب إرادته فيها، فما عن بعض أعلام العرفان والفلسفة من تسمية المادي والماديات بعالم الخلق، والمجردات والابداعيات بعالم الأمر، استناداً إلى هذه الآية ضعيف جداً، وإن كان تقسيم الموجود إلى المجرد والمادي، صحيحاً لا ريب فيه.

وأمّا الثالثة: فلأنّ تفسير العروج بإندراس الشريعة ونسخها باطل جداً، لأنّ العروج عبارة عن ذهاب في صعود كقوله سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ( المعارج ـ ٤ ) وجعله كناية عن انتهاء أمد الشريعة وبطلانها واندراسها من الكنايات البعيدة التي يجب تنزيه القرآن عنها، إذ لا معنى لعروج الشريعة المنسوخة إليه سبحانه

١٩٨

إذ لا يفهم من نسخها إنّها تعرج إلى السماء، بل كل ما يستفاد، إنّها تعطل عن العمل بها والسير عليها، لا إنّها تعرج إليه سبحانه.

أضف إليه أنّه لو كان مراد المولى سبحانه، هو الإخبار عن تجديد كل شريعة بعد ألف عام، لاقتضى ذلك أن يعبّر عن مقصوده بعبارة واضحة يقف عليها كل من له إلمام باللغة العربية، ولماذا جاء بكلام لم يفهم منه مراده سبحانه إلّا بعد حقب وأجيال إلى أن وصلت النوبة لكاتب مستأجر فكشف الغطاء عن مراده سبحانه وقد خفى على الاُمّة جميعاً، وفيها نوابغ العربية وفطاحلها، حتى تفرّد هو بهذا الكشف ؟!

مشكلة المفتتح والمختتم :

بقيت في المقام مشكلة، وهي ابتداء تلك المدة واختتامها، وقد حار فيها فاختار أنّ مبدأها هو عام غيبة الإمام المنتظر، حتى يتطابق ختم ذلك اليوم الذي مقداره ألف سنة مع ظهور الباب(١) ولما رأى أنّ ذلك تفسيراً منه بالرأي، اعتذر عن ذلك بأنّ الإسلام لم يكتمل إلّا عام غيبة الإمام، حيث حوّل الأمر إلى الفقهاء.

وأنت خبير بأنّ ما اعتذر به يتناقض مع صريح القرآن القاضي باكمال الدين بلحوق النبي بالرفيق الأعلى، فقال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ).

ولو قال إنّ الآية ناظرة إلى الاكتمال من جانب الاُصول وتدعيم مبادئ الإسلام واُسسه بنصب الولي، وأمّا الإكتمال من جانب الفروع فقد امتد بعد لحوق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى، إلى عشرات السنين من عهود الأئمّة وأعصارها إلى غيبة وليّه، فينتقض كلامه من جانب آخر، فإنّه فسّر عروج الأمر بالنسخ التدريجي للشريعة، وجعل النسخ عبارة عن ترك العمل بها واندارسها في مراحل الحياة، وعلى ذلك يجب أن يكون مبدأ

__________________

(١) فقد اتفقت غيبة الإمام عام ٢٦٠، وادّعى الباب ما ادّعى، بعد مضي ألف سنة من ذلك حيث كان خروجه سنة ١٢٦٠.

١٩٩

النسخ التدريجي عام فوت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ العصور التي جاءت من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن عصوراً ازدهر فيها الإسلام بل كانت عهد الجور والعدوان، حيث تآمرت قريش على تداول الخلافة في قبائلها واشرأبت إلى ذلك اطماعها، فتصافقوا على تجاهل النص، وأجمعوا على صرف الخلافة من أوّل يومها عن وليّها المنصوص عليه إلى غير ذلك من الملمّات والنوازل.

ولو كان ظهور العيث والفساد في المجتمع الإسلامي ورفض الشريعة في مراحل الحياة، ملازمة للنسخ التدريجي للشريعة، فليكن عهد يزيد الخمور والفجور من هذه العهود التي أخذت تعربد بلسان قائله :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

أفلا تعجب من الكاتب، أنّه جعل تلك العهود المظلمة التي امتدت عشرات السنين وكانت وبالاً على الإسلام من العصور الزاهرة، مع أنّه أخرج عهود القسط والعدل الموعود بخروج الإمام الثاني عشر ( التي ترفرف فيها أعلام القسط والعدل وتخفق رايات الحق والهداية في كل صقع ) من الأصقاع التي ينمو فيها الإسلام، ويزدهر. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

وأمّا البحث عن هدف الآية وأنّه سبحانه ماذا يريد من قوله:( يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) فله منّا بحث آخر، وسوف نعطي حقه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم، فإنّ اليوم الذي يعادل ألف سنة من الآيام الاخروية.

الشبهة السادسة(١) :

* ينص القرآن على أنّ الإسلام شريعة عالمية، وأبدية وأنّ بالإسلام أقفل باب الشرائع، ونسخ جميعها.

__________________

(١) هذه الشبهة لها صلة بعالمية الإسلام وصلة بخاتميته ولأجل ذلك جعلناها آخر الشبهات وفصّلنا الكلام فيها بما لا يدع لمشكك شك.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الفصل الرابع عشر في زهده عليه السلام و إعراضه عن الدّنيا و عدله و تواضعه و فيه ذكر الحقوق

٣٦١

١

الخطبة ( ٢٠٩ ) و من كلام له عليه السلام بالبصرة ، و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي ،

و هو من أصحابه يعوده ، فلما رأى سعة داره قال :

مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ اَلدَّارِ فِي اَلدُّنْيَا أَمَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي اَلْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا اَلْآخِرَةَ تَقْرِي فِيهَا اَلضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا اَلرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا اَلْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا اَلْآخِرَةَ فَقَالَ لَهُ ؟ اَلْعَلاَءُ ؟ يَا ؟ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ؟ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي ؟ عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ ؟ قَالَ وَ مَا لَهُ قَالَ لَبِسَ اَلْعَبَاءَةَ وَ تَخَلَّى عَنِ اَلدُّنْيَا قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اِسْتَهَامَ بِكَ اَلْخَبِيثُ أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ أَ تَرَى اَللَّهَ أَحَلَّ لَكَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ قَالَ يَا ؟ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ ؟ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اَللَّهَ فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ اَلْعَدْلِ

٣٦٢

أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ اَلنَّاسِ كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ قال ابن أبي الحديد : الذي رويته عن الشيوخ و رأيته بخط ابن الخشاب أنّ الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشابة في جبينه ، فكانت تنتقض عليه في كلّ عام ، فأتاه علي عليه السلام عائدا فقال له : كيف تجدك ؟ قال : أجدني لو كان لا يذهب ما بي إلاّ بذهاب بصري لتمنّيت ذهابه قال : و ما قيمة بصرك عندك ؟ قال : لو كانت لي الدنيا لفديته بها قال : لا جرم ليعطينك اللّه على قدر ذلك ، إن اللّه تعالى يعطي على قدر المصيبة و عنده تضعيف كثير .

قال الربيع : أشكو إليك عاصم بن زياد أخي . قال : ماله ؟ قال : لبس العباء و ترك الملاء و غم أهله و حزن ولده . فقال عليه السلام : ادعو لي عاصما ، فلما أتاه عبّس في وجهه ، و قال : ويحك يا عاصم أترى اللّه أباح لك اللذّات و هو يكره ما أخذت منها ؟ لأنت أهون على اللّه من ذلك ، أو ما سمعته يقول مرج البحرين يلتقيان و قال : يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان ١ و قال : و من كلّ تأكلون لحما طريا و تستخرجون حلية تلبسونها ٢ ، اما و اللّه ابتذال نعم اللّه بالفعال ،

أحبّ إليه من ابتذالها بالمقال ، و قد سمعتم اللّه يقول : و أمّا بنعمة ربّك فحدّث ٣ و يقول : من حرّم زينة اللّه التي أخرج لعباده و الطّيبات من الرّزق ٤ إن اللّه تعالى خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين فقال : يا أيّها الذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم ٥ و قال : يا أيّها الرّسل كلوا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الرحمن : ١٩ و ٢٣ .

( ٢ ) فاطر : ١٢ .

( ٣ ) الضحى : ١١ .

( ٤ ) الاعراف : ٣٢ .

( ٥ ) البقرة : ١٧٢ .

٣٦٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

من الطيّبات و اعملوا صالحا ١ و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبعض نسائه : مالي أراك شعثاء مرهاء سلتاء قال عاصم : فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن و أكل الجشب ؟ قال : إنّ اللّه افترض على أئمة العدل أن يقدّروا لأنفسهم كيلا يتبيّغ بالفقير فقره فما قام علي عليه السلام حتى نزع عاصم العباء و لبس ملاءه . . ٢ .

قلت : لا ريب ان من دخل أمير المؤمنين عليه السلام عليه يعوده ، الربيع ابن زياد الحارثي ، لا العلاء بن زياد ، كما قال المصنف ، فقد اتّفقت الخاصّة و العامّة على جعل الربيع صاحبه عليه السلام في ذلك . رواه ابن عبد ربه في ( عقده ) و سبط ابن الجوزي في ( تذكرته ) و الكليني في ( كافيه ) .

رواه الأول مثل ابن أبي الحديد ٣ ، و قال الثاني جاء الربيع بن زياد الحارثي إلى علي عليه السلام فقال : أعد لي على أخي عاصم فقال عليه السلام : ما باله ؟

فقال : لبس العباء و تنسك و هجر أهله فقال : علي به ، فجاء و قد ائتزر بعباءة و ارتدى بأخرى اشعث أغبر فقال له : ويحك يا عاصم أما استحييت من أهلك ، أما رحمت ولدك ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : و يحلّ لهم الطيبات ٤ أترى اللّه أباحها لك و لأمثالك ، و هو يكره أن تنال منها ، أما سمعت قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان لنفسك عليك حقّا فقال عاصم : فما بالك في خشونة ملبسك و جشوبة مطعمك و إنّما تزييت بزيّك ؟ فقال : ويحك إنّ اللّه فرض على أئمة الحقّ أن يتّصفوا بأوصاف رعيتهم أو بأفقر رعيتهم لئلا يزدري

ــــــــــــــــــ

( ١ ) المؤمنون : ٥١ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١١ : ٣٥ .

( ٣ ) العقد الفريد ٢ : ١٨١ .

( ٤ ) الاعراف : ١٥٧ .

٣٦٤

الفقير بفقره و ليحمد اللّه الغني على غناه ١ .

و قال الثالث في كتاب ( حجّة الكافي ) : روى علي بن محمد عن صالح بن أبي حماد و عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد و غيرهما بأسانيد مختلفة في احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على عاصم بن زياد حين لبس العباء و ترك الملاء و شكاه أخوه الربيع إليه عليه السلام ، فلما رآه عبّس في وجهه فقال له : أما استحييت من أهلك ، أما رحمت ولدك أترى اللّه أحل لك الطيبات و هو يكره أخذك منها ، أنت أهون على اللّه من ذلك أو ليس اللّه يقول : مرج البحرين إلى يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان ٢ ، فباللّه لابتذال نعم اللّه بالفعال أحب إليه من ابتذالها بالمقال ، و قد قال تعالى : و أما بنعمة ربك فحدّث ٣ . فقال عاصم :

فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة ؟ فقال : ويحك إنّ اللّه تعالى فرض على أئمة العدل الخ ٤ .

هذا ، و في ( فتوح البلاذري ) : لما توجّه عبد اللّه بن عامر في سنة ( ٣٠ ) إلى خراسان وجّه الربيع بن زياد الحارثي إلى سجستان ، فسار الربيع حتى أتى رستاق زالق حصن على خمسة فراسخ من سجستان فأغار على أهله في يوم مهرجان ، فأخذ دهقانه ، فافتدى نفسه بأن ركز عنزته ثم غمرها ذهبا و فضة و صالح الدهقان على حقن دمه إلى أن قال ثم حاصر الربيع مدينة زرنج فبعث إليه مرزبانها يستأمنه ليصالحه ، فأمر بجسد من أجساد القتلى فوضع له فجلس عليه و اتكأ على آخر ، و أجلس أصحابه على القتلى و كان آدم أخوه طويلا فلما رآه المرزبان هاله فصالحه على ألف وصيف ، مع كل

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تذكرة الخواص : ١١١ .

( ٢ ) الرحمن : ١٩ ٢٢ .

( ٣ ) الضحى : ١١ .

( ٤ ) الكافي ١١ : ٤١٠ ح ٣ ، و النقل بتلخيص .

٣٦٥

وصيف جام من ذهب إلى أن قال و أتى القريتين و هناك مربط فرس رستم فقاتلوه فظفر بهم ١ .

و في ( الأسد ) : قال عمر دلوني على رجل إذا كان في القوم أميرا فكأنّه ليس بأمير ، و إذا كان في القوم و ليس بأمير فكأنّه أمير بعينه . فقالوا : ما نعرف إلاّ الربيع بن زياد ، قال : صدقتم ، و استعمله زياد لمّا كان على الكوفة و البصرة من قبل معاوية على خراسان ، و كان لا يكتب إلى زياد إلاّ في اختيار منفعة أو دفع مضرة ، و لا كان في موكب قط فتقدّمت دابّته على دابّة من إلى جانبه و لا مسّ ركبته ركبته .

و قال ابن حبيب : كتب زياد الى الربيع أنّ معاوية يأمرك أن تحرز الصفراء و البيضاء و تقسّم ما سوى ذلك فكتب اليه الربيع : إنّي وجدت كتاب اللّه قبل كتاب معاوية ، و نادى في الناس : ان اغدوا على غنائمكم ، فأخذ الخمس و قسّم الباقي على المسلمين و دعا اللّه أن يميته فما جمّع حتى مات ، قال : و مر أن هذا القول قاله الحكم بن عمرو الغفاري ، و أما الربيع فانّه لمّا أتاه مقتل حجر بن عدي قال : اللّهمّ إن كان للربيع عندك خير فاقبضه ، فلم يبرح من مجلسه حتّى مات ٢ .

قول المصنف : « و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي و هو من أصحابه » كما أن جعل المصنف دخوله عليه السلام على العلاء و هم ، كما عرفت من الاتفاق على كون دخوله عليه السلام على الربيع كذلك كون العلاء من أصحابه عليه السلام فكان من مبغضيه ، ففي غارات الثقفي عن إسماعيل بن حكيم عن أبي مسعود الجريري قال : كان ثلاثة من أهل البصرة يتواصلون على بغض علي ، و هم :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) فتوح البلدان : ٣٨٥ و ٣٨٦ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) اسد الغابة ٢ : ١٦٤ و النقل بتصرف يسير .

٣٦٦

مطرف بن عبد اللّه بن الشخير ، و العلاء بن زياد ، و عبد اللّه بن شقيق ١ .

و من الغريب ان ابن أبي الحديد قال : و أما العلاء بن زياد الّذي ذكره الرضي فلا أعرفه ، لعلّ غيري يعرفه ، مع أنّه نقل الخبر في موضع آخر . كما أنّ من العجيب أن ابن ميثم مع أنّه رأي كلام ابن أبي الحديد لم يقل شيئا في كلام المصنف بنفي و لا إثبات ٢ .

« يعوده » العيادة إحدى حقوق المسلّم على أخيه ، و كان عليه السلام إذا مرض أحد أصحابه يعوده . روى الكشي أن صعصعة مرض فعاده عليه السلام و قال له : لا تتخذ عيادتي لك أبّهة على قومك فقال صعصعة : بلى و اللّه أعدّها منّة من اللّه علي و فضلا ، فقال عليه السلام له : إن كنت ما علمتك لخفيف المؤنة حسن المعونة .

فقال صعصعة له عليه السلام : و أنت و اللّه ما علمتك إلاّ باللّه عليما و بالمؤمنين رؤفا رحيما . و في خبر : و كان اللّه في صدرك عظيما ٣ .

و في ( كامل المبرد ) : دخل علي عليه السلام على الحرب بن رويم يعود ابنه يزيد ، فقال له : عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك فسماها يزيد لطيفة ٤ .

« فلما رأى سعة داره » روى ( الكافي ) : أنّ رجلا من الأنصار شكا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان الدور قد اكتنفته ، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : ارفع صوتك ما استطعت و سل اللّه أن يوسّع عليك .

و قال صلّى اللّه عليه و آله : من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع .

و عن أبي جعفر عليه السلام : من شقاء العيش ضيق المنزل .

و عن أبي الحسن عليه السلام : فضل العيش سعة المنزل ، و كثرة المحبّين .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الغارات ٢ : ٥٥٧ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١١ : ٣٧ و ٤ : ٩٤ ، و شرح ابن ميثم ٤ : ١٧ .

( ٣ ) اختيار معرفة الرجال : ٦٧ ح ١٢١ .

( ٤ ) كامل المبرد ٨ : ٤٤ .

٣٦٧

و عن أبي عبد اللّه عليه السلام : ثلاثة للمؤمن فيها راحة : دار واسعة توارى عورته و سوء حاله من الناس ، و أمرأة صالحة تعينه على أمر الدنيا و الآخرة ،

و ابنة أو أخت يخرجها من منزله إمّا بموت أو بتزويج .

و روى أنّ أبا الحسن عليه السلام قال لمولى له : منزلك ضيق ، فاشترى له دارا و أمره بالتحوّل إليها فقال : إنّ هذه الدار قد أحدثها أبي ، فقال عليه السلام : إن كان أبوك أحمق ينبغي أن تكون مثله ١ .

« قال : ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، اما أنت في الآخرة كنت أحوج » هكذا في ( المصرية و ابن أبي الحديد ) ، و لكن في ( ابن ميثم ) « ما أنت إليها في الآخرة أحوج » و نسب « اما أنت إليها في الآخرة أحوج » إلى رواية ٢ ،

و الظاهر أنّه أشار إلى نقل ابن أبي الحديد مع أن الأصح نقله لكون نسخة الرضي عنده ، و حينئذ فان « ما » في الكلام بمعنى ما دام ، قال تعالى : و إنّ الدار الآخرة لهي الحيوان ٣ .

« و بلى إن شئت بلغت بها الآخرة » الدنيا إذا كانت مقدّمة للآخرة ممدوحة ،

و إنّما كانت مذمومة إذا كانت منظورة من حيث هي .

« تقري فيها الضيف » عن ( أخبار زمان المسعودي ) : إنّ اللّه تعالى أوحي إلى ابراهيم عليه السلام أنّك لمّا سلّمت مالك للضيفان ، و ولدك للقربان ، و نفسك للنيران و قلبك للرحمن اتخذناك خليلا ٤ .

و في ( الكافي ) عن عبد اللّه بن محمد الجعفري : أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان في بعض مغازيه ، فمرّ به ركب و هو يصلي ، فوقفوا على أصحابه و سائلوهم عنه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) هذه الاحاديث أخرجها الكليني في الكافي ٦ : ٥٢٥ و ٥٢٦ ح ٢ ٨ .

( ٢ ) كذا في شرح ابن ميثم ٤ : ١٧ ، و الفظ ابن أبي الحديد ١١ : ٣٢ ، « و أنت إليها » .

( ٣ ) العنكبوت : ٦٤ .

( ٤ ) نقله عنه الحر العاملي في الجواهر السنية : ٢٣ .

٣٦٨

و دعوا و أثنوا و قالوا : لو لا أنّا عجال لا نتظرناه ، فاقرأوه منّا السلام و مضوا ،

فلما انصرف من صلاته قال لهم : يقف عليكم الركب و يسألونكم عني و يبلغوني السلام ، و لا تعرضون عليهم الغداء ليعزّ علي قوم فيهم خليلي جعفر أن يجوزوه حتى يتغدّوا عنده .

و عن عبد الرحمن بن الحجاج : أكلنا مع أبي عبد اللّه عليه السلام فأوتينا بقصعة من ارزّ فجعلنا نعذر فقال : ما صنعتم شيئا ، إنّ أشدّكم حبّا لنا أحسنكم أكلا عندنا ، فرفعت كسحة المائدة فأكلت ، فقال : نعم ، الآن ، و أنشأ يحدّثنا أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أهدي إليه قصعة أرزّ من ناحية الأنصار فدعا سلمان و أباذر و المقداد ، فجعلوا يعذرون في الأكل فقال ما صنعتم شيئا أشدّكم حبّا لنا أحسنكم أكلا عندنا ، فجعلوا يأكلون اكلا جيدا ، ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام رحمهم اللّه ، و رضي عنهم ، و صلّى عليهم .

و عن الباقر عليه السلام : ممّا علّم النبي صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السلام و عن الصادق عليه السلام ممّا علّم النبي فاطمة عليها السلام من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فليكرم ضيفه .

و عن الصادق عليه السلام : إنّ يعقوب كان له مناد ينادي كلّ غداة من منزله على فرسخ : ألا من أراد الغداء فليأت إلى منزل يعقوب و إذا أمسى ينادي : ألا من أراد العشاء فليأت إلى منزل يعقوب عليه السلام ١ « و تصل فيها الرحم » قال تعالى : و اتقوا اللّه الّذي تساءلون به و الارحام ان اللّه كان عليكم رقيبا ٢ .

و في ( الكافي ) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله : أوصي الشاهد من أمتي ، و الغائب منهم و من في اصلاب الرجال و ارحام النساء إلى يوم القيامة ، أن يصل الرحم و ان

ــــــــــــــــــ

( ١ ) هذه الاحاديث أخرجها الكليني في الكافي ٦ : ٢٧٥ ح ١ و ٢٧٨ ح ٢ و ٢٨٥ ح ١ و ٢ و ٢٨٧ ح ١ .

( ٢ ) النساء : ١ .

٣٦٩

كانت منه على مسيرة سنة ، فإنّ ذلك من الدّين ١ .

و عن مولاة أبي عبد اللّه عليه السلام قالت : كنت عنده عليه السلام حين وفاته ، فأغمي عليه فلما أفاق قال : اعطوا الحسن بن علي بن الحسين و هو الأفطس سبعين دينارا ، فقلت : أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة قال : تريدين ألاّ أكون من الّذين قال تعالى : الذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب ٢ إنّ اللّه خلق الجنة و طيّب ريحها و أنّها لتوجد من مسيرة ألفي عام ، و لا يجد ريحها عاقّ و لا قاطع رحم ٣ و عنه عليه السلام : إنّ القوم ليكونون فجرة فيصلون أرحامهم فتنمى أموالهم و تطول أعمارهم ، فكيف إذا كانوا بررة ٤ .

« و تطلع منها الحقوق مطالعها » ، عن الصادق عليه السلام : من منع درهما في حقّ أنفق درهمين في غير حقّه ، و من منع حقّا في ماله طوّقه اللّه به حيّة من نار يوم القيامة و عنه عليه السلام يقول إبليس : ما أعياني في ابن آدم فلن يعيين منه واحدة من ثلاث : أخذ ماله من غير حلّه ، أو منعه من حقّه ، أو وضعه في غير وجهه .

و عن الباقر عليه السلام : يبعث يوم القيامة ناس مشدودة أيديهم إلى أعناقهم ،

معهم ملائكة يعيّرونهم يقولون : هؤلاء الذين منعوا خيرا قليلا من خير كثير ،

هؤلاء الذين أعطاهم اللّه فمنعوا حقّ اللّه في أموالهم ٥ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٢ : ١٥١ ح ٥ .

( ٢ ) الرعد : ٢١ .

( ٣ ) الكافي ٧ : ٥٥ ح ١٠ ، و النقل بتلخيص .

( ٤ ) الكافي ٢ : ١٥٥ ح ٢١ ، و النقل بتلخيص .

( ٥ ) أخرج الحديث الاول و الاخير الكليني في الكافي ٣ : ٥٠٤ و ٥٠٦ ح ٧ و ٢٢ ، و أخرج الثاني الصدوق في الخصال ١ : ١٣٢ ح ١٤١.

٣٧٠

« فاذا أنت قد بلغت بها » أي : بتلك الدار « الآخرة » لأنّه جعلها وسيلة تحصيلها .

« فقال له العلاء » قد عرفت أن الصواب « الربيع » « يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد » و كان للربيع أخ آخر غير عاصم ، مهاجر بن زياد قتل في كور الأهواز أيام عمر ، استقتل صائما ، فشكاه الربيع أيضا إلى أميرهم أبي موسى . ففي ( فتوح البلاذري ) : سار أبو موسى إلى مناذر فحاصر أهلها فاشتدّ قتالهم ، فكان المهاجر بن زياد الحارثي أخو الربيع في الجيش ، فأراد أن يشري نفسه و كان صائما فقال الربيع لأبي موسى : إنّ المهاجر عزم على ان يشري نفسه و هو صائم ، فقال أبو موسى : عزمت على كل صائم أن يفطر أو لا يخرج إلى القتال ، فشرب المهاجر شربة ماء و قال : قد أبررت عزمة أميري ، و اللّه ما شربتها من عطش ، ثم راح في السلاح فقاتل حتى استشهد ،

و أخذ أهل مناذر رأسه و نصبوه على قصرهم بين شرفتين ١ .

« قال : و ما له ؟ قال : لبس العباءة » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « العباء » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٢ « و تخلّى عن الدنيا » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « من الدنيا » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) ٣ .

« قال عليَّ به فلما جاء قال : يا عدّي » تصغير عدوّ « نفسه لقد استهام بك » أي :

جعلك هائما متحيرا « الخبيث » أي : الشيطان فأضلّك بهذا الطريق . فقالوا عليهم السلام :

ليس منا من ترك دنياه لآخرته ، كمن ترك آخرته لدنياه ٤ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) فتوح البلدان : ٣٧٠ .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١١ : ٣٢ ، لكن في شرح ابن ميثم ٤ : ١٦ ، نحو المصرية .

( ٣ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١١ : ٣٢ ، لكن في شرح ابن ميثم ٤ : ١٦ ، نحو المصرية .

( ٤ ) يبعد هذا ان يكون لفظ حديث ، نعم ، هذا المضمون جاء في أخبار كثيرة نقل بعضها المجلسي في البحار ٧٠ : ١١٣ ، باب ٥١ .

٣٧١

و سأل الصادق عليه السلام عن رجل ، فقيل صالح ، و لكنه ترك التجارة ،

فقال عليه السلام ثلاثا عمل الشيطان ، أما علم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله اشترى عيرا أتت من الشام فاستفضل فيها ما قضي دينه و قسّم في قرابته ١ .

هذا ، و في ( الأغاني ) بعد ذكر توبة أبي العتاهية قال مخارق المغني :

تشوقته فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي ، فدخلت فاذا هو قد أخذ قوصرتين و ثقب إحداهما و أدخل رأسه و يديه فيها و أقامها مقام القميص و ثقب أخرى و أخرج رجليه منها و أقامها مقام السراويل ، فلما رأيته نسيت كل ما كان عندي من الغمّ عليه ، و الوحشة لعشرته ، و ضحكت و اللّه ضحكا ما ضحكت مثله قط ، فقال : من أي شي‏ء تضحك ؟ فقلت : أسخن اللّه عينك ، هذا أي شي‏ء هو ،

من بلّغك عنه أنّه فعل مثل هذا من الأنبياء و الزهّاد و الصحابة و المجانين ،

إنزع هذا عنك يا سخين العين فكأنه استحى منّي ٢ .

« أ ما رحمت أهلك و ولدك » ، روى الخطيب : أن زيد بن صوحان كان يقوم الليل و يصوم النّهار ، و إذا كانت ليلة الجمعة أحياها ، فان كان ليكرهها إذا جاءت مما كان يلقي فيها ، فبلغ سلمان ما كان يصنع ، فأتاه فقال : اين زيد ؟ قالت أمرأته : ليس هاهنا . قال : فإنّي أقسم عليك لمّا صنعت طعاما ، و لبست محاسن ثيابك ، ثمّ بعثت إلى زيد . فجاء زيد فقرب الطعام ، فقال سلمان : كل يا زيد . قال :

إنّي صائم ، قال : كل يا زيد ، لا ينقص دينك ، إنّ شر السير الحقحقة ، إنّ لعينك عليك حقا ، و إن لبدنك عليك حقّا ، و إنّ لزوجتك عليك حقّا ، كل يا زيد فأكل و ترك ما كان يصنع ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الكليني في الكافي ٥ : ٧٥ ح ٨ .

( ٢ ) الأغاني ٤ : ١٠٨ .

( ٣ ) تاريخ بغداد ٨ : ٤٣٩ .

٣٧٢

و في ( الاستيعاب ) : روى أبو جحيفة أن سلمان جاء يزور أبا الدرداء ، فرأى امّ الدرداء مبتذلة فقال : ما شأنك ؟ قالت له : إنّ أخاك ليس له حاجة في شي‏ء من الدنيا ، فلما جاء أبو الدرداء رحّب بسلمان و قرب له طعاما فقال سلمان :

اطعم قال إنّي صائم ، قال : أقسمت عليك أنّي لست بآكل حتّى تطعم ، و بات عند أبي الدرداء ، فلما كان الليل قام أبو الدرداء ، فحبسه سلمان و قال له : إنّ لربك عليك حقا و إنّ لجسدك عليك حقّا فأعط لكلّ ذي حقّ حقّه ، فلما كان وجه للصبح قال : قم الآن . فقاما فصلّيا ثم خرجا إلى الصلاة ، فلمّا صلّى النبي صلّى اللّه عليه و آله قام إليه أبو الدرداء و أخبره بما قال سلمان ، فقال النبي : مثل ما قال سلمان ١ .

« أ ترى اللّه أحلّ لك الطيبات » قل أحلّ لكم الطيبات ٢ اليوم أحلّ لكم الطيبات ٣ كلوا ممّا في الأرض حلالا طيبا ٤ .

« و هو يكره أن تأخذها » كيف و قد قال : لا تحرّموا طيبات ما أحلّ اللّه لكم و لا تعتدوا إنّ اللّه لا يحب المعتدين . و كلوا ممّا رزقكم اللّه حلالا طيبا ٥ .

و روى الكافي : أنّه عليه السلام بعث ابن عباس إلى ابن الكواء و أصحابه و عليه قميص رقيق و حلّة ، فلما نظروا إليه قالوا له : أنت خيرنا في أنفسنا ،

و أنت تلبس هذا اللباس ؟ فقال : و هذا أول ما أخاصمكم فيه قل من حرم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق ٦ و قال تعالى :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الاستيعاب ٢ : ٢٦٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) المائدة : ٤ .

( ٣ ) المائدة : ٥ .

( ٤ ) البقرة : ١٦٨ .

( ٥ ) المائدة : ٨٧ و ٨٨ .

( ٦ ) الاعراف : ٣٢ .

٣٧٣

خذوا زينتكم عند كلّ مسجد ١ .

و روى أنّ سفيان الثوري : مرّ على الصادق عليه السلام في المسجد الحرام و عليه ثياب كثيرة القيمة حسان ، فقال : و اللّه لآتينّه و لأوبّخنّه ، فدنا منه فقال : ما لبس النبي عليه السلام مثل هذا اللباس و لا علي عليه السلام و لا أحد من آبائك ، فقال عليه السلام له :

كان النبي في زمان قتر مقتر ، و كان يأخذ لقتره و إقتاره ، و إنّ الدنيا بعد ذلك أرخت عز اليها ، فأحقّ أهلها بها أبرارها ، ثم تلا عليه السلام : قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده و الطيّبات من الرزق ٢ و نحن أحق من أخذ منها ما أعطاه اللّه ، غير أنّي يا ثوري ما ترى علي من ثوب إنّما ألبسه للناس ثمّ اجتذب يد سفيان فجرّها إليه ثمّ رفع الثوب الأعلى و أخرج ثوبا تحت ذلك على جلدة غليظا فقال : هذا ألبسه لنفسي و ما رأيته للناس ، ثم جذب ثوبا على سفيان اعلاه غليظ خشن و داخل ذلك ثوب لين ، فقال : لبست هذا الأعلى للناس و لبست هذا لنفسك تسترها و روى أيضا : أنّ الصادق عليه السلام بينا هو في الطواف إذا بعبّاد بن كثير البصري يجذب ثوبه ، و قال : تلبس مثل هذه الثياب و أنت في هذا الموضع مع المكان الّذي أنت فيه من علي عليه السلام . فقال عليه السلام : ثوب فرقبي اشتريته بدينار ،

و كان علي عليه السلام في زمان يستقيم له ما لبس فيه ، و لو لبست مثل ذلك اللباس في زماننا لقال الناس : هذا مراء مثل عباد ٣ .

« أنت اهون على اللّه من ذلك » بأن يخصك كالأنبياء و الأئمة عليهم السلام بترك لذائذ الدنيا مع حلّيتها لحكم كما يأتي في كلامه عليه السلام .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الاعراف : ٣١ .

( ٢ ) الاعراف : ٣٢ .

( ٣ ) هذه الأحاديث أخرجها الكليني في الكافي ٤ : ٤٤١ ٤٤٣ ح ٦ و ٨ و ٩ .

٣٧٤

في ( تاريخ الطبري ) : أنّ عبد اللّه بن أبي السمط قال : إنّ المأمون لا يبصر الشعر . فقال له عمارة بن عقيل : و من ذا يكون أعلم به منه ، ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره فقال : أنشدته بيتا أجدت فيه فلم أره تحرّك له ، فقال له : و ما الّذي أنشدته ؟ قال : أنشدته :

اضحى امام الهدى المأمون مشتغلا

بالدين و الناس بالدنيا مشاغيل

فقال له : إنّك و اللّه ما صنعت شيئا و هل زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها سبحتها ، فمن القائم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها ، و هو المطوّق بها ، هلاّ قلت فيه كما قال عمك جرير في عبد العزيز بن الوليد :

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه

و لا عرض الدنيا عن الدين شاغله

فقال الآن علمت أنّي أخطأت ١ .

« قال : يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك و جشوبة مأكلك » قال الجوهري : طعام جشب أي : غليظ ، و يقال هو الّذي لا أدم معه ٢ .

روى ( المناقب ) عن الأشعث العبدي قال : رأيت عليا عليه السلام اغتسل في الفرات يوم جمعة ثم ابتاع قميصا كرابيس بثلاثة دراهم ، فصلّى بالناس الجمعة و ما خيط جربانه بعد و روى عن جندب : أنّ عليّا عليه السلام قدم إليه لحم غثّ ، فقيل له نجعل لك فيه سمنا ، فقال عليه السلام : إنّا لا نأكل أدامين جميعا و اجتمع عنده عليه السلام في يوم عيد أطعمة فقال : إجعلها بأجا و خلط بعضها ببعض فصارت كلمته عليه السلام مثلا ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٧ : ٢٢٠ ، سنة ٢١٨ .

( ٢ ) صحاح اللغة ١ : ٩٩ ، مادة ( جشب ) .

( ٣ ) مناقب السروي ٢ : ٩٦ و ٩٩ .

٣٧٥

« قال عليه السلام : ويحك إنّي لست كأنت » فلكلّ وظيفة « إنّ اللّه فرض على أئمة العدل » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) « إنّ اللّه تعالى فرض على أئمة الحقّ » ١ « أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ » من تبيغ الدم به أي : هاج ، قال الجوهري : و قيل أصل تبيّغ بغي فقلب مثل جبذ و جذب ٢ « بالفقير فقره » فينكر على اللّه تعالى ، و يهلك .

٢

الخطبة ( ١٦٠ ) وَ اَللَّهِ لَقَدْ رَقَّعْتُ مِدْرَعَتِي هَذِهِ حَتَّى اِسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَاقِعِهَا وَ لَقَدْ قَالَ لِي قَائِلٌ أَ لاَ تَنْبِذُهَا عَنْكَ فَقُلْتُ اُعْزُبْ عَنِّي فَعِنْدَ اَلصَّبَاحِ يَحْمَدُ اَلْقَوْمُ اَلسُّرَى أقول : رواه ( أمالي الصدوق ) عن الدقاق عن محمد بن الحسن عن محمد بن الحسين عن محمد بن محسن عن المفضل عن الصادق عن آبائه عليهم السلام عنه عليه السلام مع زيادات هكذا : قال عليه السلام : و اللّه ما دنياكم عندي إلاّ كسفر على منهل حلو ، إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا ، و لا لذاذتها في عيني إلاّ كحميم أشربه غساقا و علقم أتجرّعه زعاقا و سم افعى أسقاه دهاقا ، و قلادة من نار أوهقها خناقا ، و لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها و قال لي : اقذف بها قذف الاتن لا يرتضيها ليرقعها ، فقلت له : « أعزب عنّي فعند الصباح يحمد القوم السرى » ، و تنجلي عنهم علالات الكرى ، و لو شئت لتسربلت بالعبقري المنقوش من ديباجكم و لأكلت لباب هذا البرّ بصدور دجاجكم ، و لشربت الماء الزلال برقيق زجاجكم ، و لكنّي أصدّق اللّه جلّت عظمته حيث يقول : من كان

ــــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١١ : ٣٢ ، لكن في شرح ابن ميثم ٤ : ١٦ ، مثل المصرية .

( ٢ ) صحاح اللغة ٤ : ١٣١٧ ، مادة ( بوغ ) .

٣٧٦

يريد الحياة الدنيا و زينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون .

اولئك الّذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار ١ .

« و اللّه لقد رقعت مدرعتي هذه » في ( جمل المفيد ) : روى أبو مخنف أنّه عليه السلام لمّا أراد التوجه من البصرة قام فيهم فقال : ما تنقمون عليّ يا أهل البصرة : و اللّه إنّهما و اشار إلى قميصه و ردائه لمن غزل أهلي ، ما تنقمون منّي يا أهل البصرة : و اللّه ما هي و اشار إلى صرّة في يده إلاّ من غلتي بالمدينة ، فان أنا خرجت من عندكم بأكثر مما ترون فأنا عند اللّه من الخائنين . ثم خرج و شيّعه الناس ٢ .

و قال ابن أبي الحديد : انه عليه السلام كان يطوف الأسواق مؤتزرا بأزار مرتديا برداء و معه الدّرة كأنّه إعرابيّ بدوي ، فطاف مرّة حتى بلغ سوق الكرابيس فقال لواحد : بعني قميصا قيمته ثلاثة دراهم ، فلما عرفه لم يشتر منه شيئا ثم أتى آخر ، فلما عرفه لم يشتر منه شيئا ، فأتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ، فلما جاء أبوه ، اخبروه فأخذ درهما ثم جاء إليه عليه السلام و قال له : إنّ القميص الّذي باعك ابني كان يساوي درهمين ، فلم يأخذ عليه السلام الدرهم و قال : باعني رضاي و أخذ رضاه .

و قال : و عن أبي النوار بائع الخام بالكوفة ، قال : جاءني علي عليه السلام إلى السوق و معه غلام له و هو خليفة ، فاشترى منّي قميصين و قال لغلامه : اختر أيّهما شئت ، فأخذ أحدهما و أخذ علي عليه السلام الآخر ، ثم لبسه و مدّ يده فوجد كمّه فاضلة ، قال : إقطع الفاضل ، فقطعه ثم كفّه و ذهب .

و عن الصمال بن عمير قال : رأيت قميص علي عليه السلام الّذي أصيب فيه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أمالي الصدوق : ٤٩٥ ح ٧ ، المجلس ٩٠ . و الآيات ١٥ و ١٦ من سورة هود .

( ٢ ) الجمل : ٢٢٤ .

٣٧٧

و هو كرابيس سبيلاني ، و رأيت دمه سال عليه كالدردي .

و قال أحمد بن حنبل : لمّا أرسل عثمان إلى علي عليه السلام وجدوه مؤتزرا بعباءة محتجزا بعقال و هو يهنأ بعيرا له ١ .

« حتى استحييت من راقعها » و للحمدوني في طيلسان مرقوع :

طيلسان رفوته و رفوت

الرفو منه حتى رفوت رقاعه

فاطاع البلى و صار حليقا

ليس يعطى الرفا على الرفو طاعه

« و لقد قال لي قائل أ لا تنبذها » أي : تطرحها « فقلت : اعزب » أي : أبعد بضم الهمزة و كسرها « عنّي فعند الصباح يحمد القوم السرى » أي : السير بالليل . و قد عرفت من مستنده أن بعده « و تنجلي عنهم علالات الكرى » و كلاهما شعر جاء مثلا لتعب آخره راحة طويلة ، و لا يعلم الأصل في المثل ، و ربع في الشعر فقيل :

يا نفس قومي بي فقد نام الورى

إن تفعلي خيرا فذو العرش يرى

و أنت يا عين دعي عنك الكرى

عند الصباح يحمد القوم السرى

و لكن قال العسكري : هو في شعر للخيم يقول فيه :

تسألني عن بعلها أي فتى

خب جبان و إذا جاع بكى

لا خطب القوم و لا القوم سقى

و لا ركاب القوم إذا ضاعت بغا

كأنه غرارة ملأ خشى

لما رأى الرمل و فيران الغضى

بكا و قال هل ترون ما أرى

أليس للسير الطويل منقضى

قلت اعرى صاحبى إلا بلا

عند الصباح يحمد القوم السرى

و تنقضي عنهم غيابات الكرى ٢

و قال في ( أمثال الكرماني ) : قال المفضل : بعث أبو بكر إلى خالد بن

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٢٣٥ و ٢٣٦ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) جمهرة الامثال للعسكري : ١٤٠ .

٣٧٨
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

الوليد و هو باليمامة أن سر إلى العراق ، فأراد سلوك المفازة فقال له رافع الطائي : قد سلكتها في الجاهلية هي خمس للابل الواردة و لا أظنّك تقدر عليها إلاّ أن تحمل من الماء ، فاشترى ماه شارف فعطشها ثمّ سقاها الماء حتى رويت ، ثم كبتها و كعم أفواهها ، ثم سلك المفازة حتى إذ مضي يومان و خاف العطش على الناس و الخيل ، و خشي أن يذهب ما في بطون الإبل ، نحر الإبل فاستخرج ما في بطونها من الماء فسقى الناس و الخيل و مضى ، فلما كان في الليلة الرابعة قال رافع : أنظروا هل ترون سدرا عظاما ؟ فان رأيتموها و إلاّ فهو الهلاك فنظروا فرأوا فأخبروه ، فكبّر و كبّر الناس ثم هجموا على الماء ، فقال خالد :

للّه درّ رافع أنّى اهتدى

فوزّ من قراقر إلى سوى

خمسا إذا ساربه الجيش بكى

ما سارها من قبله ليس يرى

عند الصباح يحمد القوم السرى

و تنجلي عنهم غيابات الكرى ١

و قريب من المثل قولهم « التمر في البئر » ٢ يعني : ما لم تستق من البئر للنخيل ، لم تصر صاحب التمر .

و من أمثالهم في السّرى و الصباح قولهم : « إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنّه مصبح » . قال الكرماني ، قال الأصمعي : أصله أن القين بالبادية ينتقل في مياههم ، فيقيم بالموضع أياما ، فيكسد عليه عمله ، ثم يقول لأهل الماء : إني راحل عنكم الليلة ، و إن لم يرد ذلك ، و لكنه يشيعه ليستعمله من يريد استعماله ،

فكثر ذلك من قوله حتى صار لا يصدق ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) مجمع الامثال ٢ : ٣ .

( ٢ ) أورده الميداني في مجمع الامثال ١ : ١٣٧ ، و الزمخشري في المستقصى ١ : ٣٠٧ .

( ٣ ) مجمع الامثال ١ : ٤١ .

٣٧٩

عن ( تفسير الثعلبي ) : قال جعفر بن محمّد عليه السلام : رأى النبي صلّى اللّه عليه و آله فاطمة عليها السلام و عليها كساء من جلة الإبل و هي تطحن بيدها و ترضع ولدها ،

فدمعت عينا النبي فقال : يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة . فقالت :

الحمد للّه على نعمائه و الشكر للّه على آلائه ، فأنزل تعالى : و لسوف يعطيك ربك فترضى ١ .

هذا ، و في السير ، أن المعتز ولّى يعقوب بن الليث ، و علي بن شبل ،

كرمان ليغلب أحدهما الآخر ، فأقبل يعقوب و طوق بن المغلس من قبل ابن شبل إلى كرمان و لم يقاتلا ، و ارتحل يعقوب بعد شهرين و أظهر الارتحال إلى سجستان ، فقعد طوق للأكل و الشرب و الملاهي ، و إذا هو بيعقوب قد رفع طوى مرحلتين في يوم ، ففر أصحاب طوق و أسر طوق ، فنزع يعقوب خفّه ،

فتساقط منه كسر خبز يابسة ، فقال لطوق : هذا خفّي لم أنزعه منذ شهرين من رجلي ، و خبزي فيه آكل منه ، و أنت جالس في الشراب و قال أبو تمام :

رب خفض تحت السّرى و غناء

من عناء و نضرة من شحوب

إذا شام الفتى برق المعالي

فأهون فائت طيب الرقاد

أيضا :

فليس بياض المجد إلاّ لمكتس

سواد الليالي ساهرا غير راقد

و كم ليلة راعيت فيها فراقدا

لكسب على فوق السها و الفراقد

و ذكروا ، أن بقابس منارا كبيرا ، يحدو به الحادي ، إذا ورد من مصر يقول :

يا قوم لا نوم و لا قرارا

حتى نرى قابس و المنارا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) نقله عن تفسير ثعلبي ، و تفسير القشيري السروي في مناقبه ٣ : ٣٤٢ . و الآية ٥ من سورة الضحى .

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601