بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 601

  • البداية
  • السابق
  • 601 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123136 / تحميل: 6216
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

« إنّ الآية لا تدل على أنّ النبي كان اُمياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه ».

« ولو دلّت الآية على أنّه لم يكن يحسن الكتابة قبل الايحاء إليه، لدلّت بالمفهوم على أنّه كان يحسنها بعد الايحاء إليه، حتى يكون فرقاً بين الحالتين ولا يكون الاتيان بالقيد ـ قبله ـ لغواً »(١) .

وفي ما أفاده مواقع للنظر :

أوّلاً: ففرق واضح بين من يحسن الكتابة ويتركها، ومن لا يحسنها أصلاً، فانّ من يحسن الكتابة، لا يتركها دائماً، بل يتركها مؤقتاً بسبب ظروف تلم به ولا يصح الاستدلال بتركه مؤقتاً، على أنّه لا يحسنها ولا يستكشف حاله منه، وأمّا من لم يكتب منذ نعومة أظفاره إلى أن بلغ الأربعين بل ناهز الخمسين كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيعد ذلك دليلاً عند العرف على أنّه لا يحسنها أصلاً وبتاتاً.

فالآية حسب ما يفهم منها عرفاً، تدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمياً لا يقدر على الكتابة، وقوله سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) بالنظر إلى ذيله وهو رفع الشك عن قلوب المبطلين، كناية عن كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يحسن شيئاً من القراءة، لا أنّه كان عارفاً بها ولكنّه تركها لمصلحة أو غيرها.

وثانياً: إنّ استفادة المفهوم من الآية ودلالة القيد ـ من قبله ـ عليه مشكلة جداً وإن قلنا بدلالته على المفهوم في مقام آخر، وذلك أنّ دلالة القيد عليه إنّما هي إذا كان بقاء الحكم وعدمه عند ارتفاع القيد سواسية، فعند ذلك يستدل بأخذ القيد في موضوع الحكم على دخله في الغرض وفي الحكم المذكور في القضية ويكون مرجعه إلى ارتفاع الحكم السابق بارتفاع القيد كما إذا قيل: أكل زيد قبل طلوع الشمس، وأمّا إذا كان بقاء

__________________

(١) التبيان: ج ٨ ص ٢١٦ ط لبنان ويظهر من الآلوسي في تفسيره الاعتماد على هذا الوجه.

٣٢١

الحكم عند ارتفاع القيد أولى في نظر السامع كما في المقام فلا يستنبط منه المفهوم فإنّ من بقى على اُميته حتى ناهز الأربعين بل الخمسين أولى بأن يبقى على تلك الحالة في ما بقي من عمره، فإنّ الرجل إذا لم يحصل على ملكة الكتابة إلى أن ورد في العقد الخامس من عمره لا يحتمل في حقه عادة أن يعود إلى تحصيلها بعد هذه المراحل الطويلة، وعلى ذلك فلا يمكن الاستدلال على رفع الحكم المستفاد من قوله:( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ ) وقوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) عند ارتفاع القيد، أي لا يدل على أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد بعثته كما هو المقصود.

خلاصة القول: إنّ الآية غير دالة على وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بزوغ دعوته ولا يدل على شيء من الطرفين والتمسك بمفهوم القيد:( مِن قَبْلِهِ ) إنّما يصح إذا سيق الكلام لأجل افادته والإيماء إلى اختلاف حاله في المقامين وأمّا إذا سيق الكلام لغير هذه الغاية فلا يدل على ما استظهره من المفهوم، فانّ الغاية من الإتيان بالقيد هو الاستدلال باُمّيته قبل نزول الوحي عليه، على صدق مقاله ودعوته فإنّ الاُمّي إذا أتى بكتاب أخرس بفصاحته فرسان البلاغة وقادة الخطابة وسادات القوافي وملوك البيان بل أدهش بقوانينه اساطين القوانين والنظام، يعد كتابه هذا بهذه الأوصاف والنعوت آية على كونه وحياً إلهياً خارجاً عن طوق القدرة البشرية، وأمّا أنّه هل بقي على الاُمّية بعد ما صار نبيّاً يوحى إليه أو لا ؟ فخارج عن هدف هذه الآية وليست له صلة بمرماها ومقصدها وعلى ذلك نظائر في اللغة والعرف.

ولقد أحسن المرتضى، فلم يجعل الآية دليلاً على تغيّر حاله بعد بعثته، وسلك مسلكاً متوسطاً غير ما سلكه استاذه الشيخ المفيد وما قصده تلميذه شيخ الطائفة الطوسي ودونك نقل كلامه :

هذه الآية:( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) تدل على أنّ النبي ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فالذي نعتقده في ذلك، التجويز لكونه عالماً بالقراءة والكتابة، والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع بأحد الأمرين وظاهر الآية يقتضي

٣٢٢

أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها، ولأنّ التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة(١) لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون تعلّمها من جبرئيل بعد النبوّة(٢) .

وكلامه هذا يعرب عن توقفه في المسألة كما هو صريح قوله: « من غير قطع بأحد الأمرين » وما ذكره « ظاهر الآية يقتضي أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها » صحيح لو أراد بذلك نفي دلالة الآية على أحد الأمرين وأمّا لو أراد به دلالتها على كونه قارئاً وكاتباً بعد فموهون بما أوضحناه عند البحث عن كلام تلميذه الجليل شيخ الطائفة رحمه الله، مع أنّه بعيد عن ظاهر كلامه.

وأمّا ما أفاده من « إنّ المبطلون إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلّق له بالريبة والتهمة » غير ثابت ولا ظاهر بل يمكن أن يتطرق الشك إلى نبوّته لو كان يحسنها بعد النبوّة إذا تظاهربها في مرآى ومسمع من الناس، فلاحظ التعليقة السابقة.

٣. الاستدلال بقوله سبحانه:( يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً )

استدل الدكتور عبد اللطيف الهندي بقوله سبحانه:( رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً *فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) ( البينة: ٢ ـ ٣ ) قال: « إنّه يدل على تحقق التلاوة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيام رسالته وفي رحاب دعوته ».

لكنّه لا يدل على ما رامه فإنّ التلاوة كما تصدق على التلاوة عن الكتاب، تصدق

__________________

(١) اختصاص التعليل بما قبل النبوّة غير ظاهر بل لو تظاهر النبي بالقراءة والكتابة بعد نبوته، فهو وإن كان يعد معجزة ومفخرة له عند من خلصت نيته، وطهر قلبه، لكنّه يوجب تسلل الشك إلى اُمّيته قبل نبوته عند المبطلين والمشككين فيضلّون ويضلّون، وينشرون الأوهام والأراجيف حول دعوته ورسالته، نعم لو كان عارفاً بها غير متظاهر لصح اختصاص التعليل بما قبل النبوّة.

(٢) مجمع البيان: ج ٨ ص ٢٨٧، مناقب آل أبي طالب: ج ١ ص ١٦١.

٣٢٣

على التلاوة عن ظهر القلب، ويؤيده أنّه لم يرو عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيام رسالته أنّه تلا القرآن عن غير ظهر قلبه، أضف إلى ذلك ما ذكره المفسّرون في « صحف مطهرة » من الاحتمالات التي تخرجها عن محيط هذه الصحف المادية التي يرومها المستدل ومن شاء الاحاطة بها فليرجع إلى التفاسير.

ونظير ذلك قوله سبحانه:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ * إلّامَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ) ( الأعلى: ٧ ـ ٨ ) إذ معناه: سنقرأ عليك القرآن فلا تنساه ونجعلك قارئاً باذن منه فلا تنسى ما تتلقاه من أمين الوحي، إلّا بمشيئة منه فإنّ الاقراء والانساء كليهما بيده سبحانه، فلا يدل إلّا على تلاوة القرآن وقراءته عن ظهر القلب فقط كما كان هو دأب النبي في تلاوة كل ما اُوحي إليه، وهو غير ما يرومه الدكتور وأمثاله.

قال الزمخشري: بشّر الله تعالى باعطاء آية بيّنة وهي أن يقرأ عليه جبرئيل ما يقرأ عليه من الوحي وهو اُمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه.

وأمّا الاستثناء فلا يدل على تحقق الانساء منه سبحانه بالنسبة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بل هو للتنبيه على أنّ الأمر كله بيده، وإن منحت كرامة الحفظ إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله فليس بمعنى تفويض الأمر إليه وخروجه عن يد الله سبحانه، بل الأمر في كلا الحالين بيده، فالله الذي جعله قارئاً لا ينسى، قادر على أن يصيره ناسياً لا يحفظ شيئاً، ولا يخطر على روعه شيء، فوزان الاستثناء في هذه الآية وزان الاستثناء في قوله سبحانه:( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إلّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ( هود ـ ١٠٨ ).

فلا يدل على تحقق المشيئة في المستقبل منه سبحانه حتى ينافي خلود المؤمنين في الجنة.

٤. الاستدلال بقوله سبحانه:( اكْتَتَبَهَا )

استدل بعض الأعلام بقوله سبحانه:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ ٥ ) وفسّره في الكشّاف بقوله: اكتتبها: اكتتبها لنفسه

٣٢٤

وأخذها كما تقول: استكب الماء واصطبه: إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه(١) وكأنّه يريد أن يفهم أنّ زيادة التاء في « اكتتبها » للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه بخلاف المجرد عنها كقولنا « كتب فلان » فإنّه أعم من أن يكون ذلك لنفسه أو لغيره.

وقال الشيخ الطوسي: اكتتبها هو وانتسخها فهي تملى عليه حتى ينسخها(٢) وجه الاستدلال، أنّ المشركين قالوا: إنّ القرآن أساطير كتبها محمد لا من تلقاء نفسه بل بالإملاء عليه من غير، فقولهم: يكتب الأساطير بإملاء الغير عليه، صريح في أنّه بعد الايحاء إليه كان كاتباً يكتب القرآن، وبما أنّ الكتابة صفة كمال لا ينسبها إليه خصومه كذباً وافتراء فلا بد أن تكون ثابتة له في تلك الحال(٣) .

ولكن ما أقامه من الدليل موهون جداً فإنّ الكتابة وإن كانت صفة كمال إلّا أنّ شهادة الخصم إنّما تدل على اتصافه بها إذا كانت الشهادة صادرة عن خلوص وصفاء وأمّا إذا جعلها ذريعة لإنكار نبوّته، فلا يعد رميه بها دليلاً على صدق النسبة فإنّ القوم لما عجزوا عن الوقيعة في قرآنه ولم يتمكنوا من معارضته ومباراته دخلوا من باب آخر، حتى يفتحوا بذلك باب الريب على نبوّته وكتابه وقالوا إنّ هنا من يملي عليه القرآن بكرة وأصيلاً، وهو يكتب ما يملى عليه ولا هدف لهم من تلك الفرية إلّا التشكيك في نبوّته ونزول الوحي عليه ولولا ذلك لما وصفوه بها ولا بغيرها من الصفات، فإنّ التوصيف، بأدنى مراتب الكمال، يخالف ما يرمون إليه من انتقاصة.

على أنّ هنا في لفظة « اكتتبها » احتمالاً آخر وهو أنّه أمر بالكتابة والاستنساخ، احتمله الرازي بل اختاره وقال: معنى « اكتتب » ههنا، أنّه أمر أن يكتب له كما يقال: « احتجم » و « افتصد » إذا أمر بذلك(٤) .

إلى هنا تم ما وقفنا عليه من الأدلّة القرآنية التي أقامها القائلون على أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً بعد نزول الوحي عليه، وقد عرفناك وهن الجميع، ووقفت على ما فيها من

__________________

(١) الكشاف: ج ٢ ص ٤٠٠.

(٢) التبيان: ج ٧ ص ٤٧٢.

(٣) تفسير الآيات المتشابهات: ص ٤٧ ـ ٤٨.

(٤) مفاتيح الغيب: ج ٦ ص ٣٥٣.

٣٢٥

المناقشات.

نعم هناك وجوه عقلية واستحسانات، اعتمد عليها بعض من اختار هذا النظر، ونحن نأتي بها.

٥. الاستدلال بالأولوية :

استدل بها المجلسي وقال إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قادراً على التلاوة والكتابة بالاعجاز وكيف لا يعلم من كان عالماً بعلوم الأوّلين والآخرين، انّ هذه النقوش موضوعة لهذه الحروف، ومن كان قادراً باذن الله على شق القمر وأكبر منه، كيف لا يقدر على نقش الحروف والكلمات على الصحائف والألواح والله تعالى يعلم(١) .

وما ذكره لا يخرج عن حدود الاستحسان إذ من الممكن أن لا يمكنه الله من القراءة والكتابة لمصلحة هو أعلم بها، أو لأجل رفع الريب والشك عن جانب نبوّته كما هو غير بعيد حتى بالنسبة إلى ما بعد النبوّة، إذا تظاهر بالقراءة والكتابة.

٦. التجارة تتوقّف على الكتابة :

قال بعض من عاصرناه: « إنّ المشركين رموه بالكذب والسحر والجنون والفرية ولم ينسبوه إلى الاُمية مع كونها صفة نقص لا سيما للتجار ذوي رحلة الشتاء والصيف، فإذا لم يعيبوه بالاُمّية كان ذلك دليلاً على أنّه كان بعد النبوّة قارئاً وكاتباً »(٢) .

ونناقش ما أفاده :

أوّلاً: إنّ عدم رميهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاُمّية، فلعدم كونها عيباً عندهم، كيف والقوم كانوا جماعة اُمّية وكانت تلك الصفة هي السائدة عليهم، وكان الرامي بها والمرمى إليها في هذا الوصف سواسية.

__________________

(١) بحار الأنوار: ج ١٦ ص ١٣٦.

(٢) تفسير الآيات المتشابهات: ص ٥٠.

٣٢٦

ثانياً: إنّ التجارة وإن كانت تتوقف على القراءة والكتابة في الأوساط المدنية غير أنّ الدارج في البيئات البعيدة عن الحضارات كان غير ذلك، خصوصاً قريش الذين كانت لهم رحلة الشتاء والصيف، فكانوا يبيعون أو يشترون، ويرجعون، من دون أن يبقى لهم أو عليهم شيء.

هذا ما لدى القائلين من الأدلّة على كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله قارئاً وكاتباً بعد بزوغ نبوّته، هلم معي ندرس بعض ما وقفنا لهم في المقام من كلمات تؤكد من نقلناه عنهم.

قال الشيخ: « إنّ الحاكم يجب أن يكون عالماً بالكتابة والنبي عليه وآله السلام كان يحسن الكتابة بعد النبوّة وإنّما لم يحسنها قبل البعثة »(١) .

وتبعه ابن ادريس الحلي في باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وجاء بعين ما نقلناه عن الشيخ(٢) .

واختاره العلّامة الحلي في كتاب النكاح عن تذكرته عند البحث عن مختصات النبي الأكرم حيث قال: كان يحرم عليه الخط والشعر تأكيداً لحجته وبياناً لمعجزته قال الله تعالى:( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) وقال تعالى:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ) ( يس ـ ٦٩ ).

وقد اختلف في أنّه هل كان يحسنها أو لا: وأصح قولي الشافعي الثاني وإنّما يتجه التحريم عل الأول(٣) أي على القول بأنّه كان يحسن الكتابة إذ على فرض عدم عرفانه بها، فالتحريم يكون لغواً وتحصيلاً للحاصل.

غير أنّ دلالة الآية على حرمة الكتابة عليه، مبني على كون « لا » في قوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) ناهية وهو خلاف الظاهر، خصوصاً بملاحظة سياق الآية أي قوله تعالى:( مَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) فإنّه جملة خبرية وهو يقتضي أن تكون الجملة التالية لها أيضاً خبرية لا انشائية.

__________________

(١) المبسوط: كتاب القضاء ج ٨ ص ١٢٠.

(٢) السرائر: باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وهو غير مرقم.

(٣) تذكرة الفقهاء: ج ٢ ص ٥٦٦ الطبعة الجديدة المرقمة.

٣٢٧

وقد اقتفى في ذلك قول الشيخ في مبسوطه حيث قال: « وقد خصّ الله نبيّه محمداً بأشياء وميّزه بها عن خلقه أربعة: واجب، ومحظور، ومباح، وكراهة ـ إلى أن قال: ـ وأمّا المحظورات فحظرت عليه الكتابة وقول الشعر وتعليم الشعر »(١) .

اُمّية النبي في الأحاديث :

لقد بان الحق وظهرت الحقيقة من هذا البحث الضافي حول هذه الآيات، فلم نجد آية تدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بزوغ دعوته، صار قارئاً أو كاتباً.

نعم وردت أحاديث وروايات، رواها الفريقان، ربّما يركن إلى بعضها، ويستدل به على تمكنه من القراءة والكتابة بعد بعثته، بإعجاز منه سبحانه، وإن كان الكل لا يخلو من اشكال ونحن نورد هنا تلكم الأحاديث :

منها: حديث بدء الوحي

ررى أصحاب السير والتفسير :

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يجاور في حراء من كل سنة شهراً حتى إذا كان الشهر الذي بعثه الله سبحانه فيه خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حراء حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، جاءه جبرئيل بأمر الله، ولنترك وصف ذلك إلى ما ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله :

« فجاءني جبرئيل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ ؟ قلت: ما أقرأ ؟ فغتني به(٢) حتى ظننت أنّه الموت، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ ؟ قال: قلت: ما أقرأ ؟ قال: فغتني

__________________

(١) راجع المبسوط أوائل كتاب النكاح: ج ٤ ص ١٥٢ ـ ١٥٣.

(٢) كذا في جامع الاُصول والطبري والغت: حبس النفس، وفي صحيح البخاري والمواهب « غطني » وهي بمعنى الغت أيضاً.

٣٢٨

به حتى ظننت أنّه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ ؟ قال: قلت: ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلّا افتداءاً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي فقال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) قال: فقرأتها ثمّ انتهى، فانصرف، وهببت من نومي، فكأنّما كتبت في قلبي، قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوت من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء انظر فإذا بجبرئيل في صورة رجل صف قدميه في افق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل ».

ويظهر من البخاري من صحيحه أنّ جبرئيل نزل بسورة العلق حينما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقضاً لا نائماً، وأنّه تحمّل بدء الوحي في حال اليقظة حيث قال: فجاءه الملك فقال: اقرأ ؟ ما أنا بقارئ(١) قال: فأخذني فغطني حتى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ ؟ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ ؟ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثمّ أرسلني فقال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) .

كلمة حول سند الحديث :

إنّ سند الحديث ينتهي إلى أشخاص ثلاثة يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ودونك أسمائهم.

١. عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، أخرج الحديث عنه ابن هشام في سيرته ج ١ ص ٢٣٥، والطبري في تفسيره ج ٣٠ ص ١٦٢، وتاريخه ج ٢ ص ٣٠٠، وقد ترجم الرجل ابن الاثير في اُسد الغابة ج ٣ص ٣٥٣، وقال ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي، وهو معدود في كبار التابعين يروي عن عمر وغيره من

__________________

(١) وهذا شاهد على أنّ الملك لم يرد أن يلقنه الآيات ليتابعه في القراءة فإنّ ذلك أمر مقدور للقارئ والاُمّي، ولو أراد هذا كان المناسب أن يقول ماذا أقرأ، بل أراد أن يقرأه النبي بنفسه بلا متابعة.

٣٢٩

الصحابة.

٢. عبد الله بن شداد، أخرج الحديث عنه الطبري في تفسيره ج ٣٠ ص ١٦٢ وفي تاريخه ج ٢ص ٢٩٩. ترجمه ابن الأثير في اُسد الغابة ج ٤ ص ١٨٣. وقال ولد على عهد النبي روى عن أبيه وعن عمر وعلي.

وعلى ذين السندين فالحديث مرسل غير موصول السند إلى النبي الأكرم إذ من البعيد أن يرويا الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

٣. عائشة اُمّ المؤمنين، أخرج البخاري عنها الحديث في صحيحه ج ١ص ٣ وج ٣ ص ١٧٣ في تفسير سورة العلق والطبري في تفسيره ج ٣٠ ص ١٦١. وعلى ذلك فقد تفردت هي بنقل هذا الحديث، ومن البعيد جداً أن لا يحدث النبي هذا الحديث بغيرها، مع اشتياق غيرها إلى سماع أمثال هذه الأحاديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وعند ذلك يشكل الاستدلال بالحديث جداً.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكري كما في البحار ج ١٨ ص ٢٠٦ لكن كون التفسير من الإمام فيه كل الشك والريب ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه ج ١ص ٤٠ ـ ٤٤، والمجلسي في بحاره ج ١٨ ص ١٩٦.

توضيح مفاد الرواية :

إنّنا مهما جهلنا بشيء من الأشياء، فلا يمكن أن نجهل بأنّ النبوّة منصب الهي لا يتحمله إلّا الأمثل فالأمثل من الناس، ولا يقوم بأعبائها إلّا من عمر قلبه بالإيمان، وزود بالخلوص والصفاء وغمره الطهر والقداسة، واُعطي مقدرة روحية عظيمة لا يتهيب حين ما يتمثل له رسول ربّه وأمين وحيه، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه، وتلك المقدرة لا تفاض من الله على عبد إلّا بعد معدّات ومقدّمات :

منها: شموخ أصلاب آبائه وطهارة أرحام اُمّهاته، حتى ينتقل من صلب شامخ إلى صلب آخر مثله، ومن رحم طيبة إلى اُخرى مثلها.

٣٣٠

منها: البخوع للعبادة، والعكوف على المجاهدات النفسانية والرياضات التي لا تنازع الفطرة، بل تعدل الميول والغرائز وتهديها سبيل الرشاد والسلام.

منها: التفكير في آثار صنعه وعجائب خلقه وبدائع كونه بتعمّق وتدبّر حتى يهديه التفكير في جمال الطبيعة إلى معرفة بارئها معرفة تامة تليق بحال نبيّه.

منها: أن يكون في رعاية أكبر ملك يهديه إلى طرق المكارم ومحاسن الأخلاق كما أشار إليه مولانا أمير المؤمنين في الخطبة القاصعة: « لقد قرن بهصلى‌الله‌عليه‌وآله من لدن ان كان فطيماً، أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر اُمّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى إلّا أنّك لست بنبي ولكنّك وزير، وأنّك لعلى خير »(١) .

هذا البيان الضافي من أمير الإسلام والبيانعليه‌السلام يؤمي إلى كثير مما ذكرناه من المقدمات، ويرسم لنا صورة اجمالية من حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الأكرم قبل بعثته وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ نعومة أظفاره، ومنذ أن فطم من الرضاع، وقع تحت كفالة أكبر ملك يسلك به طريق المكارم، ويرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال، ويصونه طيلة حياته من طفولته إلى شبابه وإلى كهولته من كل سوء.

هذا البيان يفيدنا بأنّ نفس أي انسان لا تستعد لقبول الوحي إلّا بعد اقتحام عقبات وطي مراحل، وأنّ الملك الأكبر لم يزل يواصل نبي الإسلام ليله ونهاره حتى استعدت نفسه لقبول الوحي، وتمثّل أمينه بين يديه، والقاء كلام ربّه إليه ووعيه له منه، بانطباعه في لوح نفسه، وإذا اقتحم تلكم العقبات وتحققت تلكم المقدمات والمعدات

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة القاصعة ص ٣٧٤ طبع عبده.

٣٣١

وتم الاستعداد، ارتقت نفسه إلى ذلك الحد الأسمى فانحسرت عن قلبه الأغطية وارتفعت عنه الحجب، حيث أخذ يعاين الأشياء على ما هي عليه، ويقف على الحقائق على النحو الذي يليق به ويقدر على تلاوة ما لم يكن قادراً عليها.

وقد تحققت تلك الغاية وبلغت نفسه الشريفة إلى ذلك الحد في الشهر الذي اختاره الله تعالى فيه رسولاً إلى الناس، فجاءه أمين الوحي بلوح برزخي يحتوي على آيات من القرآن الكريم فعرضه على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وطلبه منه أن يقرأه فأبى وتجافى عن قراءته قائلاً بأنّه اُمّي لا يقرأ ولا يكتب، وأنّه ماقرأ وما كتب طيلة عمره فغطه الأمين ثلاث مرات فإذا به يقرأ.

نحن لا نعلم كنه هذا الغط ولا نستطيع إدراكه، وليس هو إلّا أثراً مادّياً لأمر معنوي كاماطة الستر عن روحه وقلبه، وهذا أمر طبيعي في مثل هذا الموقف العظيم الجليل الذي تنوء به أجسام وأرواح البشر، فإنّ لكل عمل روحي ولا سيما لمثل كشف الغطاء أثراً خاصاً في أبداننا، والأثر البارز المادي لكشف الغطاء عن قلب النبي ونفسه، هو الغط الذي أحسّه في ذلك الحين، وإلّا فالغط المادي لا مدخلية له في القدرة على القراءة والتلاوة.

هكذا كانت هذه اللحظة الحاسمة من حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله منعطفاً رائعاً إلى مرحلة جديدة، فكشف عنه الغطاء آن الغط، فقدر على قراءة ما لم يقدر عليه فعرف الحروف والنقوش، بل الحقائق فصار أكمل إنسان يطأ الأرض بقدميه، ويعيش في اديمها ويتظلّل بسمائها.

وهذا البيان منضمّاً إلى ما سمعته من حديث بدء الوحي يدفعنا إلى القول بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد انقلبت حاله بعد البعثة بإعجاز من الله سبحانه واقدار منه تعالى. غير أنّ ما ذكرنا مبني على صحة الحديث واتصال سنده إلى النبي ولكنّك عرفت أنّ الحديث مقطوع غير موصول بالنبي الأكرم فلاحظ.

٣٣٢

منها: حديث المطالبة بالقلم والدواة :

أخرجه أصحاب الصحاح والسنن ونقلها أهل السير والأخبار كافة ويكفيك ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، فقال عمر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : قوموا، فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية ما حال بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم(١) .

أخذ المستدل بظاهر الحديث وقال: النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طلب أن يكتب كتاباً، وظاهره كون الكاتب نفسه لا غير، لكنّه نسى أو تناسى أنّ في الإسناد مجازاً وأنّه من باب كتب الأمير، أو كتب الملك وليس معناه أنّه كتب بنفسه، بل السيرة على أنّ الملك أو الأمير يمليان والكاتب يكتب وينفّذانه بخاتمهما، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يملي والكاتب يكتب ولا يكتب بيده، وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده، ما كانوا يكتبون إلّا في مواقف خاصة.

منها قصة الحديبية :

ملخّصه: لما اعتمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب، هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا: لا نقر بهذا، لو نعلم أنّك رسول لله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله، فقال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، ثمّ قال لعليعليه‌السلام :

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ٢ ص ٢٢ كتاب العلم، وأخرجه مسلم في آخر الوصايا في صحيحه: ج ٢ ص ١٤، وأحمد في مسنده: ج ١ ص ٣٢٥ وغيرهم من أعلام الاُمّة.

٣٣٣

امح رسول الله، قال علي: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدخل مكة السلاح إلّا السيف في القراب الخ(١) .

وقد تمسك بظاهر الرواية « أبو الوليد الباجي » فادّعى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كتب بيده بعد أن لم يكن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة وانّ الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم :

برئت ممّن شرى دنيا بآخرة

وقال إنّ رسول الله قد كتبا

فجمعهم الأمير فاستظهر « الباجي » عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنّه قيد النفي بما قبل ورود القرآن، فقال:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) وبعد أن تحققت اُمنيته وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة اُخرى.

وذكر « ابن دحية » أنّ جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك منهم شيخه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد، عن عون بن عبد الله، قال: ما مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى كتب وقرأ، قال مجاهد: فذكرته للشعبي فقال: صدق قد سمعت من يذكر ذلك(٢) .

الجواب عن الاستدلال بالرواية :

إنّ ما رواه البخاري وغيره ممّن جنح إليه على خلاف ما يرتئيه المستدل أدل، فإنّ

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ٥ باب عمرة القضاء ص ١٤١، الكامل: ج ٢ ص ١٣٨، مسند أحمد: ج ٤ ص ٢٩٨ ولفظه هكذا: فكتب مكان رسول الله، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله إلّا يدخل مكة السلاح إلّا في القراب.

(٢) فتح الباري: ج ٩ ص ٤٤ وأضاف الباجي بأنّ في معرفة الكتاب بعد اُمّيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله معجزة اُخرى لكونها من غير تعليم، لاحظ مناهل العرفان: ج ١ ص ٣٥٨.

٣٣٤

قوله: « وأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » أصدق شاهد على اُميته.

أضف إلى ذلك ما ورد في بعض الروايات من قول النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: « أرني إيّاها » أو قوله: « فضع يدي عليها » فهو شاهد صدق على بقائه على ما كان عليه من الاُمّية.

ولأعلام الحديث والتاريخ كلمات ضافية حول الرواية تميط الستر عن وجه الحقيقة، فلنأت بما وقفنا عليه.

١. قال ابن حجر: إنّ النكتة في قوله: « فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » هو بيان قوله: « أرني إيّاها » فإنّه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع عليعليه‌السلام من محوها، إلّا لكونه لا يحسن الكتابة.

على أنّ قوله بعد ذلك « فكتب » فيه حذف تقدير، أي فمحاها لعلي فكتب وبهذا جزم ابن التين وأطلق « كتب » بمعنى أمر بالكتابة، وهو كثير كقوله: كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى.

وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة، أن يصير عالماً بالكتابة ويخرج عن كونه اُمّياً فإنّ كثيراً ممّن لا يحسن الكتابة، يعرف تصوير بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده وخصوصاً الأسماء ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً.

واحتمل أن يكون المراد: جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج الكتاب على وفق المراد، فيكون معجزة اُخرى في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمّة الاُصول من الأشاعرة وتبعه « ابن الجوزي » وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأنّ هذا وإن كان ممكناً ويكون آية اُخرى لكنّه يناقض كونه اُمّياً لا يكتب وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وان حسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة، وقال السهيلي والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضاً، والحق أنّ معنى قوله فكتب: أي أمر علياً

٣٣٥

أن يكتب(١) .

٢. قال الحلبي: تمسك بعضهم بظاهر الحديث وقال: إنّ النبي كتب بيده يوم الحديبية معجزة له، مع أنّه لا يقرأ ولا يكتب وجرى على ذلك أبو الوليد الباجي المالكي فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه وقالوا: هذا مخالف للقرآن.

ـ إلى أن قال ـ: والجمهور على أنّ الروايات التي فيها « أنّه أخذ الكتاب بيده فكتب » محمول على المجاز أي أمر أن يكتب الكاتب(٢) .

أقول: إنّ لفظة « بيده » ليست في نسخ صحيح البخاري ونص على ذلك الحلبي أيضاً وقوله: « ليس يحسن أن يكتب » الوارد في صحيحه وغيره من المصادر الأصلية(٣) دال على ما نرتئيه في هذا المقال.

نعم رواه البخاري في كتاب الصلح بصورة اُخرى قال: « فلمّا كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا: لا نقرّ بها فلو نعلم أنّك رسول الله ما منعناك ـ إلى أن قال ـ: ثم قال لعلي: امح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة سلاح إلّا في القراب »(٤) .

إنّ تلك الواقعة قد رويت بصورتين اُخريين، رواهما أعلام السير والتاريخ.

الاُولى: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر علياً أن يمحو لفظ « رسول الله » فامتنع علي من محوه فقال رسول الله: أرنيه، فأراه علي، فمحاه بيده الشريفة، ثم أمر علياً أن يكتب ودونك لفظ الرواية: أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علياً أن يكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) فتح الباري: ج ٩ ص ٤٥.

(٢) السيرة الحلبية: ج ٣ ص ٢٤ وسيرة زينى دحلان في هامش السيرة: ج ٢ ص ٢١٤ ولكن اللفظ للأخير.

(٣) راجع الأموال: ص ١٥٨ ونقله عن المجلسي في بحاره: ج ٢٠ ص ٣٧١.

(٤) صحيح البخاري: ج ٣ ص ١٨٥ فحذف قوله وليس يحسن يكتب.

٣٣٦

سهيل بن عمرو، فقال: فعلى مَ نقاتل ؟ اكتب اسمك واسم أبيك، فقال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، فأمر بمحوها فعند ذلك كثر الضجيج واللغط وأشاروا إلى السيوف فقال عليعليه‌السلام ما أنا بالذي أمحوه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ستدعى إلى هذا وأنت مضطهد مقهور(١) إلى أن قال: وضج المسلمون وارتفعت الأصوات وجعلوا يقولون لا نعطي هذه الدنية، وجعل رسول الله يخفضهم ويومي بيده إليهم أن اسكتوا ثمّ قال: أرنيه، فأراه عليٌّعليه‌السلام فمحاه بيده الشريفة ثمّ أمر علياً أن يكتبه.

نعم يظهر من البخاري أنّ النبي محاه من دون أن يريه عليّاعليه‌السلام وربّما يستدل به على تمكّنه من القراءة، فروى في كتاب الصلح: لما صالح رسول الله أهل الحديبية ـ إلى أن قال: ـ فقال لعلي: أمحه، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله بيده وصالحهم على أن يدخل(٢) .

ويحتمل أنّه تركه للاختصار، اعتماداً على ما نقله في كتاب « الجزية والموادعة مع أهل الحرب » وقد نقل القصة فيه عن « البراء » هكذا فقالوا: لو علمنا أنّك رسول الله لم نمنعك ولبايعناك ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ـ إلى أن قال: ـ فقال لعلي: امح رسول الله، فقال عليٌّ: لا أمحاه أبداً، قال: فأرنيه؟ قال: فأراه إيّاه، فمحاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بيده(٣) .

ومع هذا التصريح لا يعبأ بما نقله من دون هذه الزيادة.

__________________

(١) هذا من أعلام النبوّة فلاقى علي أمير المؤمنين يوم صفين عندما رضوا بالحكمين ما لاقاه رسول الله في هذا اليوم، روى أهل السير والتاريخ أنّ علياً أمر لكاتبه أن يكتب: هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ومعاوية بن أبي سفيان، فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك ولكن أكتب: هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : صدق الله وصدق رسوله أخبرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ثم كتب الكتاب، راجع السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣.

(٢) صحيح البخاري كتاب الصلح: ج ٣ ص ١٨٤.

(٣) صحيح البخاري كتاب الجزية: ج ٤ ص ١٠٤.

٣٣٧

وروى الشيخ الأكبر المفيد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي: فضع يدي عليها، فمحاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيده وقال لأمير المؤمنينعليه‌السلام ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض ثم تمم أمير المؤمنينعليه‌السلام الكتاب(١) .

وفي اعلام الورى: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : امحها يا علي، فقال له: يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة. قال: فضع يدي عليها فمحاها رسول الله بيده وقال لعلي: ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض(٢) .

روى أمين الإسلام الطبرسي القصة بطولها وقال: ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله امح رسول الله، فقال: يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمحاه، ثم قال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله(٣) .

وعلى هذه الصورة من الرواية: أنّ رسول الله نفسه محا لفظة رسول الله، لكن علياً كتب الكتاب بأمره دون رسول الله.

الثانية: وهي تشترك مع الاُولى في التصريح بأنّ الكتاب كتبه عليعليه‌السلام من بدئه إلى ختمه بأمر رسول الله واملاء منه وتفترق عنها بأنّه ليس فيها عن محو لفظة رسول الله عين ولا أثر.

خلاصتها: أنّه عندما أحسّ الهدوء وانخفضت الأصوات بإيماء منهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر رسول الله علياً أن يكتب هذا ما صالح أو قاضى عليه محمد بن عبد الله فكتب على حسب ما املاه عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ودونك نقل ما رواه الطبري في تاريخه.

قال سهيل: لو شهدت أنّك رسول الله لم اقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) السيرة الحلبية: ج ٣ ص ٢٤ وسيرة زيني دحلان: ج ٢ ص ٢١٢، والارشاد: ص ٦ واللفظ للأخير.

(٢) اعلام الورى: ص ١٠٦.

(٣) مجمع البيان: ج ٩ ص ١١٨ راجع تفسير القمي: ص ٦٣٤.

٣٣٨

وسهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب(١) وقريب منه ما رواه البخاري نفسه في موضع آخر(٢) واليعقوبي في تاريخه(٣) والواقدي في مغازيه(٤) وابن هشام في سيرته(٥) وغيرهم من أساطين التاريخ والحديث(٦) ويقرب منه ما رواه الكليني في روضته حيث قال: قال رسول الله لعلي: اكتب: هذا ما قاضى رسول الله وسهيل بن عمرو، فقال سهيل: فعلى مَ نقاتلك يا محمد ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله، فقال له الناس أنت رسول الله، قال: اكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال له الناس: أنت رسول الله(٧) .

فبعد هذا الاتفاق والاصفاق من أعلام التاريخ والحديث والتفسير على أنّ الكتاب كتبه علي باملاء من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أوّله إلى آخره فهل يصح الركون إلى ما تفرد به البخاري وأحمد واعتمد عليهما الجزري في كامله، مع أنّ البخاري نقض ما نقله في باب « عمرة القضاء » في كتاب الصلح على ما عرّفناك.

على أنّ التضارب الصريح الذي نشاهده في نقل البخاري في المقام يمنع النفس عن الركون إليه، فقد اضطرب نقله وكلامه من وجوه :

١. تراه أنّه نقل القصة في موضع هكذا « أخذ رسول الله الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله »(٨) ، وفي الوقت نفسه ساقها في موضع آخر من كتابه بنفس اللفظ السابق، ولكنه حذف قوله: « وليس يحسن يكتب »(٩) .

٢. تراه أنّه يصرح بأنّ النبي أمحا لقبه بإراءة عليعليه‌السلام حيث يقول: فقال لعلي: امحه، فقال عليعليه‌السلام لا أمحاه أبداً، قال: فأرينه ؟ قال: فأراه إيّاه فمحاه النبي بيده(١٠) .

__________________

(١) تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٢٨١.

(٢) صحيح البخاري كتاب الصلح: ج ٣ ص ١٩٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي: ج ٢ ص ٤٥.

(٤) المغازي: ج ٢ ص ٦١٠.

(٥) السيرة: ج ٢ ص ٣١٧.

(٦) راجع صحيح مسلم: ج ٥ ص ١٧٤.

(٧) روضة الكافي: ص ٣٢٦.

(٨) صحيح البخاري: ج ٥ ص ١٤١.

(٩) نفس المصدر: ج ٣ ص ١٨٥.

(١٠) صحيح البخاري: ج ٤ ص ١٠٤.

٣٣٩

ومع ذلك تراه ينقل امحاء النبي، من دون أن يشير بأنّه كان بإراءة من علي حيث قال: « فقال لعلي: امح رسول الله، فقال: ما أنا بالذي امحاه، فمحاه رسول الله بيده »(١) .

٣. يظهر منه في موضع أنّ علياً هو الذي كتب اسم النبي بعد امحائه ما امحاه حيث قال: « فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : والله إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني، اكتب محمد بن عبد الله »(٢) .

منها كتاب النبي إلى العذار :

روى البخاري عن العذار بن خالد قال كتب لي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا ما اشترى محمد رسول الله من العذار بن خالد بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبيئة ولا غائلة(٣) .

ودلالته على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كتب الكتاب بنفسه ضعيفة، لا يمكن الركون إليه في هذه المسألة إذ كثيراً ما يسند الفعل إلى الاُمراء والملوك ويراد منه التسبيب لا المباشرة.

كما أنّ الاستدلال على بقاء النبي على ما كانت عليه قبل الدعوة بقوله في الحديث المروي: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب، ليس بسديد إذ يكفي في صدق مضمونه كون أكثر من بعث إليه اُمّيون لا يكتبون ولا يحسنون.

فذلكة البحث :

ما سردناه لك من الأحاديث في هذه الصحائف، قد رواه الجمهور في صحاحهم، وقد وافاك عدم دلالة كثير منها على ما نرتئيه، غير حديث بدء الوحي ولو صح سنده واعتمدنا على ما تفردت بنقله « عائشة » فإنّما يدل على أنّه سبحانه مكّن عبده من قراءة اللوح الذي كان بيد أمين الوحي، ولم يكن ذاك اللوح، لوحاً مادياً

__________________

(١) المصدر السابق: ج ٣ ص ١٨٥.

(٢) راجع المصدر السابق: ج ٣ ص ١٩٥.

(٣) صحيح البخاري: ج ٣ ص ٧.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و قال عمر بن أبي ربيعة :

و من أجل ذات الخال أعملت ناقتي

أكلفها سير الكلال مع الظلع

و من أجل ذات الخال أحببت منزلا

تحلّ به لا ذا صديق و لا زرع

هذا ، و في دار السلام عن زين العابدين السلماسي : رأيت في الطيف بيتا عاليا له باب كبير و على جدرانه مسامير من الذهب ، فسألت عن صاحبه فقيل لي : إنّه للسيد محسن الكاظمي و هو صاحب الوسائل و الوافي فتعجّبت و قلت : داره في الكاظمية صغيرة حقيرة ضيّقة الباب و الفناء ، فمن أين اوتي هذا البناء ؟ قالوا : لمّا دخل من ذاك الباب الحقير أعطاه اللّه تعالى هذا البيت العالي الكبير قال : و كان بيته في غاية الحقارة ، و لم يكن له ما يضع سراجه فيه ، فكان يوقد الشمعة على الطابوق و المدر ١ .

٣

الحكمة ( ١٠٣ ) وَ قَدْ رُئِيَ عَلَيْهِ إِزَارٌ خَلَقٌ مَرْقُوعٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ يَخْشَعُ لَهُ اَلْقَلْبُ وَ تَذِلُّ بِهِ اَلنَّفْسُ وَ يَقْتَدِي بِهِ اَلْمُؤْمِنُونَ أقول : رواه أحمد بن حنبل في ( فضائله ) هكذا : قيل لعليّ عليه السلام : لم ترقّع قميصك ؟ قال : ليخشع القلب ، و يقتدي بي المؤمنون ٢ .

روى أبو نعيم في ( حليته ) ، عن زيد بن وهب قال : قدم على علي عليه السلام وفد من أهل البصرة فيهم خارجي ، فعاتب عليا عليه السلام في لبوسه فقال : مالك و لبوسي ، ان لبوسي أبعد من الكبر ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) دار السلام ٢ : ٢١٣ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) رواه عنه السبط في تذكرة الخواص : ١١٣ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ١ : ٨٢ ، و الحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٣ ، و أحمد في الفضائل ، عنه ينابيع المودة : ٢١٧ .

٣٨١

٤

من الكتاب ( ٤٥ ) و من هذا الكتاب و هو آخره :

إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ قَدِ اِنْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ وَ أَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ وَ اِجْتَنَبْتُ اَلذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ أَيْنَ اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِكِ أَيْنَ اَلْأُمَمُ اَلَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ هَا هُمْ رَهَائِنُ اَلْقُبُورِ وَ مَضَامِينُ اَللُّحُودِ وَ اَللَّهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً وَ قَالَباً حِسِّيّاً لَأَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اَللَّهِ فِي عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ وَ أُمَمٍ أَلْقَيْتِهِمْ فِي اَلْمَهَاوِي وَ مُلُوكٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَى اَلتَّلَفِ وَ أَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ اَلْبَلاَءِ إِذْ لاَ وِرْدَ وَ لاَ صَدَرَ هَيْهَاتَ مَنْ وَطِئَ دَحْضَكِ زَلِقَ وَ مَنْ رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ وَ مَنِ اِزْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ وَ اَلسَّالِمُ مِنْكِ لاَ يُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ وَ اَلدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمٍ حَانَ اِنْسِلاَخُهُ اُعْزُبِي عَنِّي فَوَاللَّهِ لاَ أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي وَ لاَ أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي وَ اَيْمُ اَللَّهِ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اَللَّهِ لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى اَلْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً وَ تَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً وَ لَأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا أَ تَمْتَلِئُ اَلسَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ وَ تَشْبَعُ اَلرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ وَ يَأْكُلُ ؟ عَلِيٌّ ؟ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ إِذَا اِقْتَدَى بَعْدَ اَلسِّنِينَ اَلْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِيمَةِ اَلْهَامِلَةِ وَ اَلسَّائِمَةِ اَلْمَرْعِيَّةِ طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا وَ عَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وَ هَجَرَتْ فِي اَللَّيْلِ غُمْضَهَا حَتَّى إِذَا غَلَبَ اَلْكَرَى عَلَيْهَا اِفْتَرَشَتْ أَرْضَهَا وَ تَوَسَّدَتْ كَفَّهَا فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ وَ تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ وَ هَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ وَ تَقَشَّعَتْ بِطُولِ اِسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ

٣٨٢

أُولئِكَ حِزْبُ اَللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اَللَّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٤٩ ٥٧ ٥٨ : ٢٢ قول المصنف : « و من هذا الكتاب و هو آخره » هكذا في ( المصرية ) أخذا من ( ابن أبي الحديد ) لكنّه ليس في ( ابن ميثم ) ١ و نسخته بخط المصنف .

قوله عليه السلام « إليك » أي : أمسكي « عنّي يا دنيا فحبلك على غاربك » الغارب ما بين سنام الإبل و عنقها ، شبّه عليه السلام في هذه الفقرة حاله مع الدنيا بامرأة غير موافقة ، طلّقها زوجها و أجرى صيغة طلاقها ، فالفقرة من كنايات الطلاق عند العرب ، و أصله أنّ الناقة إذا رعت و عليها الخطام لم يهنها شي‏ء .

« قد انسللت » أي : خرجت خفيفة « من مخالبك » و المخالب للسباع كالأظفار للانسان . شبّه عليه السلام في هذه الفقرة حاله مع الدنيا بسبع صاد صيدا و أخذه بمخالبه ، فانسلّ الصيد منها و هرب .

« و أفلت » أي : خرجت دفعة « من حبائلك » الّتي تصيد بها . شبّه عليه السلام في هذه الفقرة حاله معها بصيد وقع في حبالة صياد ، فأفلت منها ، فلا يقربها بعد « و اجتنبت الذهاب في مداحضك » و المدحض مكان زلق . شبّه عليه السلام حاله معها في هذه الفقرة بمن كان في طريقه مواضع دحض ، فاجتنب المرور عليها لئلاّ يخرّ و يهوى .

« أين القوم » هكذا في ( المصرية و ابن ميثم ) و لكن في ( ابن أبي الحديد و الخطية ) « القرون » ٢ « الذين غررتهم بمداعبك » أي : مزاحاتك .

« أين الامم الذين فتنتهم بزخارفك » أي : تزويراتك و تمويهاتك .

و الأقوام الذين غرّتهم و الأمم الذين فتنتهم بمداعبها و زخارفها كانوا في كلّ عصر كثيرين و لم يبق منهم أثر .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٩٢ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ١٠١ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٩٣ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ١٠١ .

٣٨٣

في ( المروج ) : كتب ملك الصين إلى أنو شروان : من فغفور ملك الصين صاحب قصر الدر و الجوهر ، الّذي يجري في قصره نهران يسقيان العود و الكافور الّذي توجد رائحته على فرسخين ، و الّذي تخدمه بنات ألف ملك ،

و الّذي في مربطه ألف فيل أبيض ، إلى أخيه كسرى انو شروان ، و أهدى إلى انو شروان فرسا من در منضّدا ، عينا الفارس و الفرس من ياقوت أحمر ،

و قائم سيفه من زمرّد منضّد بالجوهر ، و ثوب حرير صيني عسجدي فيه صورة الملك جالسا في أيوانه و عليه حليته و تاجه ، و على رأسه الخدم و بأيديهم المذابّ ، و الصورة منسوجة بالذهب و أرض الثوب لازورد ، في سفط من ذهب ، تحمله جارية تغيب في شعرها ، تتلألأ جمالا . و هدايا أخر من عجائب الصين .

و كتب إليه ملك الهند : من ملك الهند ، و عظيم أراكنة المشرق ، و صاحب قصر الذهب و أبواب الياقوت و الدّرّ ، إلى أخيه ملك فارس صاحب التاج و الراية كسرى أنو شروان ، و أهدى إليه ألفا منّ من عود هندي يذوب في النار كالشمع ، و يختم عليه كما يختم على الشمع فتبين فيه الكتابة ، و جاما من الياقوت الأحمر فتحه شبر مملوءا درّا ، و عشرة أمنان كالفستق و اكبر من ذلك ، و جارية طولها سبعة أشبار تضرب أشفار عينها خدها ، و كأن بين أجفانها لمعان البرق من بياض مقلتيها مع صفاء لونها و دقّة تخطيطها و إتقان تشكيلها ، مقرونة الحاجبين لها ضفائر تجرّها ، و فرشا من جلود الحيّات ألين من الحرير و احسن من الوشي ، و كان كتابه في لحاء الشجر المعروف بالكاذي ، مكتوب بالذهب الأحمر ، و هذا الشجر يكون بأرض الهند و الصين ،

و هو نوع من النبات عجيب ذو لون حسن و ريح طيب ، لحاؤه أرقّ من الورق الصيني ، تتكاتب فيه ملوك الصين و الهند .

و أهدى إليه خاقان ملك التبت أنواعا من العجائب الّتي تحمل من أرض

٣٨٤

تبّت ، منها أربعة آلاف منّ من المسك في نوافج عزلانه إلى أن قال و قال عدي بن زيد العبادي :

اين كسرى خير الملوك انو شر

و ان ؟ ام اين قبله سابور ؟

لم يهبه ريب المنون ، فولّ

ي الملك عنه فبابه مهجور

حين ولّوا كأنّهم ورق ج

فّ فألوت به الصبا و الدبور ١

و قال سلم الخاسر في المنصور و بنائه بغداد :

أين ربّ الزوراء إذ قلدته

الملك عشرين حجّة و اثنتان

و في ( تاريخ بغداد ) : قال المنصور للربيع : هل تعلم في بنائي هذا موضعا ان أخذني فيه الحصار خرجت خارجا منه على فرسخين ؟ قال : لا .

قال : بلى فيه كذا موضعا الخ ٢ .

قلت : و لم ينجه ذلك لمّا حاصره الموت .

« ها هم رهائن القبور و مضامين اللحود » في الخبر انطلق ذو القرنين يسير في البلاد حتى مر بشيخ يقلّب جماجم الموتى ، فوقف عليه بجنوده فقال له :

أخبرني أيها الشيخ : لأي شي‏ء تقلّب هذه الجماجم ؟ قال : لأعرف الشريف من الوضيع و الغني من الفقير فما عرفت ، و إنّي لأقلبها منذ عشرين سنة . فانطلق ذو القرنين و تركه و قال : ما عنيت بهذا أحدا غيري ٣ .

و في ( عيون ابن قتيبة ) : تذاكر حذيفة و سلمان أمر الدنيا ، فقال سلمان : و من أعجب ما تذاكرنا صعود غنيمات الغامدي سرير كسرى و في العرصة سرير رخام كان يجلس عليه كسرى فتصعد غنيمات

ــــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ١ : ٢٩٣ و ٢٩٥ .

( ٢ ) تاريخ بغداد ١ : ٧٧ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) أخرجه في ضمن حديث طويل الصدوق في أماليه : ١٤٥ ، المجلس ٣٢ .

٣٨٥

الغامدي إلى ذلك السرير ١ .

و قال أبو حامد الشهرزوري :

و من عرف الدنيا و لؤم طباعها

و أصبح مغرورا بها فهو ألأم

ترديك و شيا معلما و هو صارم

و تعطيك كفا رخصة و هو لهذم

و تصفيك ودّا ظاهرا و هي فارك

و تسقيك شهدا رائقا و هو علقم

فأين ملوك الأرض كسرى و قيصر

و اين مضى من قبل عادو جرهم

كأنهم لم يسكنوا الأرض مرّة

و لم يأمروا فيها و لم يتحكّموا

« و اللّه لو كنت شخصا مرئيا و قالبا حسيا لأقمت عليك حدود اللّه في عباد غررتهم بالأماني » أي : التمنيّات « و امم ألقيتهم في المهاوي » جمع المهواة ما بين الجبلين .

و للوحيد البغدادي :

لو تجلّى لي الزمان للاقى

مسمعيه منّي عتاب طويل

إنّما نكثر الملامة للدهر

لانّ الكرام فيه قليل

« و ملوك أسلمتهم إلى التلف و أوردتهم موارد » أي : مشارع « البلاء إذ لا ورد » في ماء رخاء « و لا صدر » عنه . قال :

حيران يعمه في ضلالته

مستورد الشرائع الظلم

قال الفيروز آبادي في ( قاموسه ) : المنصورة : بلدة بالسند إسلامية ، و بلدة بنواحي واسط ، و اسم خوارزم القديمة الّتي كانت شرقي جيحون ، و بلدة قرب القيروان ، و بلدة ببلاد الديلم ، و بلدة بين القاهرة و الدمياط . و من العجب ان كلاّ منها بناها ملك عظيم في جلال سلطانه و علو شانه و سماها المنصورة تفاؤلا بالنصر و الدوام ، فخربت

ــــــــــــــــــ

( ١ ) عيون ابن قتيبة ٢ : ٣٧١ .

٣٨٦

جميعها و اندرست و تعفّت رسومها و اندحضت ١ .

« هيهات من وطي‏ء » أي : وضع قدمه « دحضك » أي : مزلتك « زلق » و ما قدر على الثبات . قال الشاعر :

إنّ هذي الديار قد نزلت قبل و حلّت

فأين أهل الديار

أين أين الملوك في سالف الدهر

و ما أثروا من الآثار

كلّ ذي نخوة و أمر مطاع

و امتناع و عسكر جرّار

ملكوا برهة فسادوا و قادوا

ثمّ صاروا أحدوثة السمار

لم تخلّدهم الكنوز الّتي قد كنزوها

من فضّة و نضار

لم تغثهم يوم الحساب و لكن

حملوا وزرها مع الأوزار

« و من ركب لججك غرق » هذا تشبيه للدنيا بالبحر ، مضافا إلى التشبيهات الأربعة المتقدّمة بمرأة سليطة غادرة ، و سبع ذي مخلب ، و صياد ذي حبالة ،

و مكان زلق .

و عن الكاظم عليه السلام قال لقمان لابنه : يا بني ، إنّ الدنيا بحر عميق قد غرق فيه عالم كثير ، فلتكن سفينتك فيها تقوى اللّه و حشوها الإيمان و شراعها التوكّل و قيّمها العقل ، و دليلها العلم و سكّانها الصبر ٢ .

« و من أزوّر » أي : عدل « عن حبالك » حتى لا يقع فيها « وفّق » لأنّه أتى بما يقتضيه العقل .

جاء في ( الكافي ) : أنّ الكاظم عليه السلام قال لهشام بن الحكم : يا هشام إنّ العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة و لم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا ، فلذلك ربحت تجارتهم . يا هشام : إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف

ــــــــــــــــــ

( ١ ) القاموس المحيط ٢ : ١٤٣ ، مادة ( نصر ) .

( ٢ ) رواه ابن شعبة في تحف العقول : ٣٨٦ .

٣٨٧

الذنوب و ترك الدنيا من الفضل و ترك الذنوب من الفرض . يا هشام : إنّ العاقل نظر إلى الدنيا و إلى أهلها فعلم أنها لا تنال إلاّ بالمشقّة ، و نظر إلى الآخرة فعلم أنّها لا تنال إلاّ بالمشقة ، فطلب بالمشقة أبقاهما . يا هشام : ان العقلاء زهدوا في الدنيا و رغبوا في الآخرة لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة مطلوبة و أنّ الآخرة طالبة مطلوبة ، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتّى يستوفي منها رزقه ، و من طلب الدنيا و رغبوا في الآخرة لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة مطلوبة و أنّ الآخرة طالبة الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه و آخرته ١ .

« و السالم منك » يا دنيا « لا يبالي » لنجاته من هلكة شديدة « إن ضاق به مناخه » بضم الميم ، أي : مستقره و الأصل فيه « انخت الجمل فاستناخ » أي :

أبركته فبرك .

هذا و « تنوخ » ليس من هذا كما توهم الجوهري ، فقال ابن دريد : تنخ بالمكان إذا اقام به ، و منه تنوخ ٢ . و هذا من نوخ الإبل .

و وجه عدم مبالاته بضيق مناخه ، لأن من سلم منها كمن سلم ممن يريد إهلاكه بالاختفاء في موضع ضيق ، فهو لا يحسّ ضيق ذاك المكان مادام همه النجاة .

« و الدنيا عنده كيوم حان انسلاخه » أي : صار وقت تقضيه .

قال الصادق عليه السلام : إصبروا على طاعة اللّه و تصبّروا عن معصية اللّه ،

فإنّما الدنيا ساعة فما مضى فلست تجد له سرورا و لا حزنا و ما لم يأت فلست تعرفه ، فاصبر على تلك الساعة الّتي أنت فيها فكأنّك قد اغتبطت ٣ .

« اعزبي » بالضم و الكسر ، أي : ابعدي يا دنيا « عنّي فو اللّه لا أذل لك » أي :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ١ : ١٧ .

( ٢ ) صحاح اللغة ١ : ٤٣٤ ، مادة ( نوخ ) ، و جمهرة اللغة ٢ : ٨ .

( ٣ ) الكافي ٢ : ٤٥٩ ح ٢١ .

٣٨٨

لا أكون لك ذلولا « فتستذليني » أي : تجعليني ذليلا « و لا أسلس » أي : لا أنقاد « لك فتقوديني » حيث شئت .

عن الصادق عليه السلام فيما ناجى اللّه تعالى به موسى عليه السلام : يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين ، و ركون من اتخذها أبّا و أمّا ، يا موسى : لو وكّلتك إلى نفسك لتنظر لها إذن ، لغلب عليك حبّ الدنيا و زهرتها ١ .

« و ايم اللّه » قال الجوهري : أيمن اللّه بضم الميم ، و النون اسم وضع للقسم إلى أن قال و ربما حذفوا منه النون فقالوا أيم اللّه و ايم اللّه بكسر الهمزة ٢ .

« يمينا » قال الجوهري : اليمين : القسم ، يقال سمّي بذلك لأنّهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كلّ أمري‏ء منهم يمينه على يمين صاحبه الخ ٣ . و نصبه على المصدرية .

« استثنى فيها بمشية اللّه » إشارة إلى قوله تعالى : و لا تقولنّ لشي‏ء إنّي فاعل ذلك غدا إلاّ أن يشاء اللّه ٤ .

« لأروضنّ » و الأصل فيه من « رضت المهر » داراه حتى يركبه .

« نفسي رياضة » و الأصل روّاضة « تهشّ » أي : ترتاح النفس « معها » أي : مع تلك الرياضة « إلى القرص » من الخبز « إذا قدرت عليه مطعوما » .

في الكشّي عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أرسل عثمان إلى أبي ذر موليين له و معهما مائتا دينار فقال لهما : قولا له يقول لك عثمان استعن بهما على ما نابك . فقال لهما : هل أعطى أحدا مثل ما أعطاني ؟ قال : لا ، قال : فإنّما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسعهم ، قالا له : يقول عثمان : إنّها من صلب مالي

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٢ : ١٣٥ ح ٢١ .

( ٢ ) صحاح اللغة ٦ : ٢٢٢١ و ٢٢٢٢ ، مادة ( يمن ) .

( ٣ ) صحاح اللغة ٦ : ٢٢٢١ ، مادة ( يمن ) .

( ٤ ) الكهف : ٢٣ .

٣٨٩

و ما خالطها حرام . قال : لا حاجة لي فيها ، و أنا من أغني الناس . فقالا له : ما نرى في بيتك قليلا و لا كثيرا . فقال : بلى تحت هذا الاكاف الّذي ترون رغيفا شعير قد أتى عليهما أيام ، فما أصنع بهذه الدنانير ؟ ١ .

« و تقنع بالملح مأدوما » أي : ما يؤكل الخبز معه .

في ( المناقب ) : رآه عليه السلام عدي بن حاتم و بين يديه شنة فيها قراح ماء ،

و كسرات من خبز شعير و ملح ، فقال له عليه السلام : إني لأراك لتظلّ نهارك طاويا مجاهدا ، و بالليل ساهرا مكابدا ، ثم يكون هذا فطورك فقال عليه السلام :

علّل النّفس بالقنوع و إلاّ

طلبت منك فوق ما يكفيها

و فيه : ترصّد عمرو بن حريث غذاءه عليه السلام ، فأتت فضّة بجراب مختوم فأخرج منه خبزا متغيّرا خشنا ، فقال عمرو : يا فضّة لو نخلت هذا الدقيق و طيبته ، قالت : كنت أفعل فنهاني و كنت أضع في جرابه طعاما طيّبا فختم جرابه ، ثم أنّه عليه السلام فتّه في قصعة و صبّ عليه الماء ثم ذرّ عليه الملح و حسر عن ذراعه ، فلما فرغ قال : يا عمرو : لقد حانت هذه و أشار إلى محاسنه و حسرت هذا و أشار إلى بطنه أن أدخلها النّار من أجل الطعام ، و هذا يجزيني ٢ .

و في ( كامل المبرد ) : قال أبو نيزر : جاءني علي عليه السلام و أنا أقوم بالضيعتين عين أبي نيزر و البغيبغة فقال لي : هل عندك من طعام ؟ فقلت :

طعام لا أرضاه لك ، قرع من قرع الضيعة صنعته باهالة سنخة . فقال : علي به إلى أن قال و قال من أدخله بطنه النار فأبعده اللّه ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) اختيار معرفة الرجال : ٢٧ ح ٥٣ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) مناقب السروي ٢ : ٩٨ .

( ٣ ) كامل المبرد ٧ : ١٣٥ .

٣٩٠

هذا ، و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام : أنّ يوسف عليه السلام لمّا كان في السجن شكا إلى ربه أكل الخبز وحده و سأل أداما يأتدم به ، و قد كان كثر عنده قطع الخبز اليابس ، فأمره أن يأخذ الخبز و يجعله في إجّانة و يصبّ عليه الماء و الملح فصار مريا و جعل يأتدم به ١ .

« و لأدعن » أي : أتركن « مقلتي » شحمة العين الّتي تجمع البياض و السواد « كعين ماء نضب » أي : غار و سفل « معينها » أي : جاريها . و معين : فعيل ، و قيل : هو مفعول من « عنت الماء » إذا استنبطته .

« مستفرغة » حال من « مقلتي » « دموعها » روى الكافي : أنّه عليه السلام أقبل ذات يوم على الناس بعد صلاة فجره و قال : لقد أدركت أقواما يبيتون لربهم سجدا و قياما ، يخالفون بين جباههم و ركبهم كأن زفير النار في آذانهم ، إذا ذكر اللّه عندهم مادوا كما يميد الشجر ، ثم قال عليه السلام فما رئي ضاحكا حتى قبض ٢ .

« ا تمتلي السائمة » أي : الماشية الراعية « من رعيها » بالكسر ، أي : كلاءها ،

و أمّا بالفتح فمصدر ، حملناه على الأول لقوله عليه السلام بعد « و تشبع الربيضة من عشبها » .

« فتبرك » من برك البعير إذا استناخ .

و في ( الأساس ) : وصف أعرابي أرضا خصبة فقال : تركت كلاءها كأنّه نعامة باركة . و ابتركوا في الحرب جثوا على الركب ٣ .

« و تشبع الربيضة » قال الجوهري : ربوض البقر و الغنم و الفرس مثل بروك الإبل و جثوم الطير ، و المرابض للغنم كالمعاطن للإبل ، و الربيض الغنم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٦ : ٣٣٠ ح ١ .

( ٢ ) الكافي ٢ : ٢٣٦ ح ٢٢ .

( ٣ ) أساس البلاغة : ٢١ ، مادة ( برك ) .

٣٩١

برعاتها المجتمعة في مربضها ١ .

« من عشبها » أي : علفها « فتربض » بكسر العين ، أي : تنام على الركب .

« و يأكل علي من زاده فيهجع » أي : ينام ليلا « قرت إذن عينه » كلام تهكّمي .

« اذن اقتدي بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة » أي : بلا راع « و السائمة المرعية » الّتي لها راع .

« طوبى لنفس » اتصفت بما قاله عليه السلام بعد ، لأنها المخاطبة بقوله تعالى :

يا أيّتها النفس المطمئنّة ارجعي إلى ربك راضية مرضيّة . فادخلي في عبادي و ادخلي جنّتي ٢ .

« أدّت إلى ربها فرضها » فأعبد الناس من أقام الفرائض و لم يخل بشي‏ء منها .

« و عركت » أي : دلكت « بجنبها بؤسها » أي : شدّتها ، من قولهم « عرك البعير جنبه بمرفقه » و المراد احتملت الشدائد و تحمتلها بنفسها . قال الشاعر :

إذا أنت لم تعرك بجنبك بعض ما

يسوء من الأدنى جفاك الأباعد ٣

« و هجرت » أي : تركت « في الليل غمضها » بالضم ، أي : نومها ، قال تعالى :

كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ٤ و فسرت بأنّهم كانوا أقل الليالي تفوتهم حتّى لا يقومون .

« حتى إذا غلب الكرى » أي : الميل إلى النوم « عليها » هكذا في ( المصرية و ابن ميثم ) و لكن في ( ابن أبي الحديد و الخطية ) بدل « حتى إذا غلب الكرى

ــــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة ٣ : ١٠٧٦ ، مادة ( ربض ) .

( ٢ ) الفجر : ٢٨ .

( ٣ ) أورده أساس البلاغة : ٢٩٩ ، مادة ( عرك ) ، و لسان العرب ١٠ : ٤٦٤ ، مادة ( عرك ) .

( ٤ ) الذاريات : ١٧ .

٣٩٢

عليها » . « حتى إذا الكرى غلبها » ١ و قلنا غير مرّة أن المقدّم نقل ابن ميثم لكون نسخته بخط مصنفه .

« افترشت ارضها » أي : جعل الأرض فراشها « و توسّدت كفها » أي : جعل كفّها و سادها ، و المراد أنه إذا غلب النوم عليها تركت القيام و نامت لقوله تعالى : و لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى ٢ أي من النوم كما فسر في خبر ٣ ليفهم ما يقول ، لكن ليس نومه نوم استراحة و اطمئنان ، بل هكذا ليقوم ثانيا بعد رفع غلبة النوم .

و في ( تذكرة السبط ) : و في ( الصحيحين ) و ( مسند أحمد بن حنبل ) ، عن أبي حازم قال : جاء رجل إلى سهل بن سعد فقال : هذا فلان يذكر علي بن أبي طالب عند المنبر . فقال : ما يقول ؟ قال : يقول أبو تراب و يلعن فغضب سهل و قال : و اللّه ما كناه به إلاّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ، و ما كان اسم أحبّ إليه منه ، دخل على فاطمة عليها السلام فأغضبته في شي‏ء فخرج إلى المسجد فاضطجع على التراب و خلص التراب على ظهره ، فجاء النبي صلّى اللّه عليه و آله فمسح التراب عن ظهره و قال :

إجلس أبا تراب ٤ .

و في ( تاريخ الطبري ) مسندا عن عمار قال : كنت أنا و علي عليه السلام رفيقين مع النبي صلّى اللّه عليه و آله في غزوة العشيرة و كانت في السنة الثانية من الهجرة ، و كان النبي خرج فيها يعترض لعيرات قريش فنزلنا منزلا فرأينا رجالا من بني

ــــــــــــــــــ

( ١ ) لفظ شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٩٥ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ١٠٢ ، مثل المصرية الا ان ابن ميثم أورد . . . عليها « بعد . . . افترشت ».

( ٢ ) النساء : ٤٣ .

( ٣ ) جاء احاديث و هذا المضمون في البرهان ١ : ٣٧٠ .

( ٤ ) كذا في تذكرة الخواص : ٥ ، و الحديث في صحيح البخاري ١ : ٨٨ و ٢ : ٣٠٠ و ٤ : ٨١ و ٩٥ ، و صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٤ ح ٣٨ ، لكن أخرجه أحمد في مسنده ٤ : ٢٦٣ ، عن عمار .

٣٩٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

مدلج يعملون في نخل لهم ، فقلت : لو انطلقنا فنظرنا إليهم كيف يعملون ،

فانطلقنا فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النعاس ، فعمدنا إلى صور من النخل فنمنا تحته في دقعاء من التراب ، فما أيقظنا إلاّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله أتانا و قد تتربنا في ذلك التراب ، فحرّك عليّا عليه السلام برجله فقال : قم يا أبا تراب : ألا أخبرك بأشقى الناس أحمر ثمود عاقر الناقة و الّذي يضربك على هذا يعني قرنه فيخضب هذه و أخذ بلحيته منها ١ .

« في معشر أسهر » أي : منع من النوم « عيونهم خوف معادهم » . جاء في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام : صلّى النبي صلّى اللّه عليه و آله الصبح بالناس فنظر إلى شاب في المسجد ، و هو يخفق و يهوى برأسه مصفرا لونه قد نحف جسمه و غارت عينه في رأسه ، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله : كيف أصبحت يا فلان ؟ قال : موقنا فعجب النبي من قوله و قال : إن لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك ؟ قال : إنّ يقيني هو الّذي أحزنني و أسهر ليلي و أظمأ هو اجري فعزفت نفسي عن الدنيا و ما فيها ،

كأنّي أنظر إلى عرش ربّي و قد نصب للحساب ، و حشر الخلائق لذلك ، و أنا فيهم ، و كأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة و يتعارفون على الأرائك متكئون ، و كأني أنظر إلى أهل النّار و هم فيها معذّبون مصطرخون ، و كأنّي الآن أسمع زفير النّار يدور في مسامعي . فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله لأصحابه : هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان . ثم قال له : إلزم ما أنت عليه ، فقال الشاب له صلّى اللّه عليه و آله : أدع لي أن أرزق الشهادة معك فدعا له فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي فاستشهد بعد تسعة و كان هو العاشر ٢ .

« و تجافت » أي : نبت « عن مضاجعهم » و فرشهم « جنوبهم » قال تعالى :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ١٢٣ ، سنة ٢ .

( ٢ ) الكافي ٢ : ٥٣ ح ٢ ، و النقل بتصرف يسير .

٣٩٤

تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفا و طمعا و ممّا رزقناهم ينفقون . فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون ١ .

« و همهمت » أي : رددت الصوت ، من همهم الأسد « بذكر ربّهم شفاههم » قال تعالى : الذين يذكرون اللّه قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكّرون في خلق السماوات و الارض ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النّار إلى فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ٢ .

« و تقّشعت » أي : تفرقت « بطول استغفارهم ذنوبهم » و في الخبر : لكلّ داء دواء ، و دواء الذنوب الاستغفار ٣ .

و روي أنّ عبّاد البصري قال للصادق عليه السلام : بلغني أنّك قلت ما من عبد يذنب ذنبا الاّ أجلّه اللّه سبع ساعات من النهار . فقال : ليس هكذا قلت ، و لكن قلت :

ما من عبد مؤمن و كذلك كان قولي ٤ .

« أولئك حزب اللّه ألا إنّ حزب اللّه هم المفلحون » هكذا في ( المصرية و الخطية ) ، و ليس الكلام كلّه في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) ٥ ، و كيف فالمفلحون إنّما حزبه تعالى ، و الأحزاب الأخرهم الخاسرون .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) السجده : ١٦ و ١٧ .

( ٢ ) آل عمران : ١٩١ ١٩٥ .

( ٣ ) رواه الصدوق في ثواب الاعمال : ١٩٧ ح ١ ، و سيوطي في الجامع الصغير ٢ : ١٢٥ ، و المناوي في كنوز الحقائق ٢ : ٦٩ .

( ٤ ) أخرجه الاهوازي في كتابه ، عنه البحار ٦ : ٣٨ ح ٦٣ ، و الحميري في قرب الاسناد : ٢ ، و في رواية الحميري « الحسن البصري ».

( ٥ ) توجد الكلام في شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٩٥ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ١٠٢ .

٣٩٥

٥

الخطبة ( ٣٣ ) و من خطبة له عليه السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة .

قَالَ ؟ عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ ؟ دَخَلْتُ عَلَى ؟ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ع ؟ ؟ بِذِي قَارٍ ؟ وَ هُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي مَا قِيمَةُ هَذِهِ اَلنَّعْلِ فَقُلْتُ لاَ قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ ع وَ اَللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلاَّ أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ اَلنَّاسَ فَقَالَ الخ و مرّ في ( ٢٠ ) التوحيد في ( الخطبة ٨٠ ) عن نوف أنّه عليه السلام خطب قائما على حجارة و عليه مدرعة من صوف و حمائل سيفه ليف و في رجليه نعلان من ليف ، و كأنّ جبينه ثفنة بعير .

قول المصنف : « قال عبد اللّه بن العباس : دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار » و في رواية ( إرشاد الشيخ المفيد ) أنّ ذلك كان بالربذة ، فقال :

لما توجّه عليه السلام إلى البصرة ، نزل الربذة فلقيه بها آخر الحاج ،

فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه و هو في خبائه ، قال ابن عباس : فأتيته فوجدته يخصف نعلا ، فقلت له : نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منّا إلى ما تصنع ، فلم يكلّمني حتى فرغ من فعله ثم ضمها إلى صاحبتها ، و قال لي : قوّمهما ، فقلت : ليس لهما قيمة ، قال : على ذاك ، قلت : كسر درهم . قال : و اللّه لهما أحبّ إليّ من أمركم هذا إلاّ أن أقيم حقّا او أدفع باطلا ، قال : قلت إنّ الحاجّ اجتمعوا ليسمعوا من كلامك فتأذن لي أن أتكلّم ، فان كان حسنا كان منك و ان كان غير ذلك كان منّي . قال : لا ، أنا أتكلّم ، ثمّ وضع يده على صدري و كان شثن الكفّين فآلمني ، ثم قام فأخذت بثوبه و قلت : نشدتك اللّه و الرحم . فقال :

٣٩٦

لا تنشدني ، ثمّ خرج فاجتمعوا عليه الخ ١ .

« و هو يخصف نعله » قال الفيومي : خصف النعل كرقع الثوب ٢ .

و كان عليه السلام يخصف نعله كالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، يخصف عليه السلام نعله و نعل النبي ،

و حديث « خاصف النعل » فيه مشهور . روى الخطيب مع نصبه في ربعي بن حراش الّذي قال فيه : تابعي ثقة ، و يقال أنّه لم يكذب كذبة قط و نقل شاهدا في ذلك مسندا عنه قال : سمعت عليا عليه السلام و هو بالمدائن قال : جاء سهيل بن عمرو إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال : إنّه قد خرج إليك ناس من أرقائنا ليس بهم الدين تعبّدا فارددهم علينا . فقال أبو بكر و عمر : صدق ، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله : لن تنتهوا معشر قريش حتى يبعث اللّه عليكم رجلا امتحن اللّه قلبه بالايمان ، يضرب رقابكم و أنتم مجفلون عنه إجفال النعم ، فقال أبو بكر : انا هو . قال : لا ، قال عمر :

أنا هو . قال : لا ، و لكنّه خاصف النعل ، و في كفّ علي نعل يخصفها للنبيّ و رواه الترمذي مثله ٣ .

و روى أحمد بن حنبل في ( فضائله ) كما في ( تذكرة السبط ) مسندا عن أنس قال : قال النبي صلّى اللّه عليه و آله : لينتهين بنو وليعة أو لأبعثنّ إليهم رجلا كنفسي ،

يمضي فيهم إمري ، يقتل المقاتلة و يسبي الذرية ، قال أبوذر : فما راعني الاّ برد كفّ عمر من خلفي ، فقال : من تراه يعني ؟ فقلت : ما يعنيك و إنما يعني خاصف النعل علي بن أبي طالب ٤ ٥ .

« فقال عليه السلام : و اللّه لهي أحب إلي من أمرتكم إلاّ أن اقيم حقّا أو أدفع باطلا » و مرّ

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الإرشاد : ١٣٢ .

( ٢ ) المصباح المنير ١ : ٢٠٨ ، مادة ( خصف ) .

( ٣ ) أخرجه الترمذي في سننه ٥ : ٦٣٤ ح ٣٧١٥ ، و الخطيب في تاريخ بغداد ٨ : ٤٣٣ .

( ٤ ) تذكرة الخواص : ٣٩ .

( ٥ ) السقط الشارح هنا شرح عبارة : « فقال لي : ما قيمة هذه النعل ؟ فقلت : لا قيمة لها » .

٣٩٧

في الشقشقيّة قوله عليه السلام « أما و الّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ، لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود الناصر ، و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها و لألفتيم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز » ١ .

قول المصنف : في الثاني « و عليه مدرعة من صوف و حمائل سيفه ليف و في رجليه نعلان من ليف » ، في ( المناقب ) : رآه عليه السلام عقيل الخولاني جالسا على برذعة حمار مبتلة ، فقال لأهله في ذلك فقالت : لا تلوموني فو اللّه ما يرى شيئا ينكره إلاّ أخذه و طرحه في بيت المال ٢ .

و في خبر : قال عليه السلام لأهل البصرة ، إن قميصي لمن غزل أهلي ٣ .

« و كأنّ جبينه ثفنة بعير » من كثرة سجداته ، و ثفنات البعير ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ .

و في ( العدد ) عن الباقر عليه السلام : و لقد كان أبي تسقط منه كلّ سنة سبع ثفنات من موضع سجوده لكثرة صلواته و كان يجمعها فلما مات دفنت معه .

و جاء في ( أمالي الشيخ الطوسي ) : أنّ فاطمة بنت علي عليه السلام أتت جابر الأنصاري و قالت له : هذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين عليه السلام قد انخرم أنفه و ثفنت جبهته و ركبتاه و راحتاه ادأبا منه لنفسه في العبادة الخبر ٤ .

و كان عليه السلام إذا أكثروا عليه في عبادته قال : أين تقع عبادتي من عبادة جدّي ٥ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) نهج البلاغة ١ : ٣٦ .

( ٢ ) مناقب السروي ٢ : ٩٧ .

( ٣ ) رواه في ضمن خطبة المفيد في الجمل : ٢٢٤ .

( ٤ ) أمالي أبي جعفر الطوسي ٢ : ٢٤٩ ، المجلس ١٣ .

( ٥ ) روى هذا المعنى ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ٢٧ ، و السروي في مناقبه ٢ : ١٢٥ .

٣٩٨

٦

الحكمة ( ٢٣٦ ) و قال عليه السلام :

وَ اَللَّهِ لَدُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَهْوَنُ فِي عَيْنِي مِنْ عُرَاقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ و مرّ في سابقة قوله « و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز » .

و في خطبة ٢٢٢ : و إن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ، ما لعليّ و لنعيم يفنى و لذة لا تبقى ، نعوذ باللّه من سبات العقل و قبح الزلل .

هذا ، و في ( الصحاح ) : العرق بالفتح ، العظم الّذي أخذ عنه اللحم ، و الجمع عراق بالضم ١ . و في ( الأساس ) قيل لبنت الخس : ما أطيب العراق ؟ قالت : عراق الغيث ، و ذلك ما خرج من النبات على أثر الغيث ، لأنّ الماشية تحبّه فتسمن عليه ، فيطيب عراقها ٢ .

و في ( أنساب السمعاني ) قال المدائني : خطب الديباج محمد بن عبد اللّه بن عمر بن عثمان ، و الديباج عبد العزيز بن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب أمرأة ، فجعلت تبحث عن أحسنهما ، فخرجت في ليلة مقمرة ، فرأتهما يتعاتبان في أمرها أو أمر آخر ، و كان وجه عبد العزيز إليها فرأت بياضه و طوله فقالت : حسبي به : فتزوجها هو ، و دعا الآخر في وليمتها ، فأكل ثم خرج و هو يقول :

بينا ارجى أن أكون وليّها

رضيت بعرق من وليمتها سخن ٣

ــــــــــــــــــ

( ١ ) صحاح اللغة ٤ : ١٥٢٣ ، مادة ( عرق ) .

( ٢ ) أساس البلاغة : ٢٩٩ ، مادة ( عرق ) .

( ٣ ) لم يوجد في مظانه من انساب السمعاني .

٣٩٩

٧

الحكمة ( ٧٧ ) وَ مِنْ خَبَرِ ؟ ضِرَارِ بْنِ ضَمْرَةَ اَلضَّابِيِّ ؟ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى ؟ مُعَاوِيَةَ ؟ وَ مَسْأَلَتِهِ لَهُ عَنْ ؟ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ ع ؟ قَالَ فَأَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَ قَدْ أَرْخَى اَللَّيْلُ سُدُولَهُ وَ هُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ اَلسَّلِيمِ وَ يَبْكِي بُكَاءَ اَلْحَزِينِ وَ يَقُولُ يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي أَ بِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ لاَ حَانَ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِيهَا فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ وَ خَطَرُكِ يَسِيرٌ وَ أَمَلُكِ حَقِيرٌ آهِ مِنْ قِلَّةِ اَلزَّادِ وَ طُولِ اَلطَّرِيقِ وَ بُعْدِ اَلسَّفَرِ وَ عَظِيمِ اَلْمَوْرِدِ أقول : رواه ( مروج المسعودي ) هكذا قال : دخل ضرار بن ضمرة و كان من خواص علي عليه السلام على معاوية وافدا ، فقال له صف لي عليا . قال : إعفني قال : لا بدّ من ذلك ، فقال : أما إذا كان لا بدّ من ذلك ، فانه كان و اللّه بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا و يحكم عدلا ، يتفجّر العلم من جوانبه و تنطق الحكمة من نواحيه ، يعجبه من الطعام ما خشن و من اللباس ما قصر ، و كان و اللّه يجيبنا إذا دعوناه و يعطينا إذا سألناه ، و كنّا و اللّه على تقريبه لنا و قربه منّا لا نكلّمه هيبة له ، و لا نبتدئه لعظمه في نفوسنا ، يبسم عن ثغر كاللؤلؤ المنظوم ،

يعظّم أهل الدين ، و يرحم المساكين و يطعم في المسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ، يكسو العريان و ينصر اللهفان ، يستوحش من الدنيا و زهرتها و يأنس بالليل و ظلمته ، و كأنّي به و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه و هو في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين و يقول : يا دنيا غرّي غيري ، ألي تعرضت أم إلي تشوّقت ؟ هيهات هيهات لا حان حينك قد أبنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، عمرك قصير و عيشك

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601