بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 601

  • البداية
  • السابق
  • 601 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123078 / تحميل: 6204
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وقد أدان هؤلاء القادة أنفسهم بهذه الحجّة ، وذلك لأنّ الخلافة إذا كانت بالسبق إلى الإسلام والقرابة القريبة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما يدّعون ـ فهي لعليّعليه‌السلام وحده ، لأنّه أوّل الناس إسلاماً وإيماناً وتصديقاً بالرسالة الإسلامية ، وأخوه بمقتضى المؤاخاة التي عقدها النبيّ بينه وبين عليّ يوم آخى بين المهاجرين في مكّة ، وبينهم وبين الأنصار في المدينة ، وابن عمّه نسباً وأقرب الناس إلى نفسه وقلبه بلا شكّ في ذلك .

تحليل اجتماع السقيفة :

سارع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة ، وعقدوا لهم اجتماعاً سرّياً أحاطوه بكثير من الكتمان والتحفّظ ، وأحضروا معهم شيخ الخزرج سعد بن عبادة الذي كان مريضاً ، فقال لبعض بنيه : إنّه لا يستطيع أن يسمع المجتمعون صوته لمرضه ، وأمره أن يتلقّى منه قوله ويردّده على مسامع الناس ، فكان سعد يتكلّم ويستمع إليه ابنه ، ويرفع صوته بعد ذلك ، قال سعد مخاطباً الحاضرين :

إنّ لكم سابقةً إلى الدين وفضيلةً في الإسلام ليست لقبيلة من العرب ، إنّ رسول الله لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان ، فما آمن من قومه إلاّ قليل ، حتى أراد بكم خير الفضيلة ، وساق إليكم الكرامة ، وخصّكم بدينه ، فكنتم أشد الناس على من تخلّف عنه ، وأثقلهم على عدوّه من غيركم ، ثمّ توفّاه الله وهو عنكم راضٍ فشدّوا أيديكم بهذا الأمر فإنّكم أحقّ الناس وأولاهم .

لكنّ المتتّبع للأحداث يلمح أنّ اجتماع الأنصار لم يكن في بداية أمره للاستئثار بتراث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واغتصاب الخلافة من أهلها الشرعيّين ، وذلك من خلال ملاحظة ما يلي :

١ ـ عدم حضور خيار الأنصار وهم البدريّون في الاجتماع ، مثلُ : أبي أيوب الأنصاري ، حذيفة بن اليمان ، البراء بن عازب ، عبادة بن الصامت .

١٠١

٢ ـ إنّ الأنصار كانوا يعلمون جيّداً النصوص النبويّة ويحفظونها ، ومنها :(إنّ الأئمة من قريش) ، وعرفوا جيّداً الأحكام الواردة في شأن العترة الطاهرة وشهدوا تنصيب عليّعليه‌السلام في غدير خم ، وأوصاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعليّ وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وحين أدركوا أنّه ليس له دور رئيس في الحكم أخذوا يقولون : لا نبايع إلاّ عليّاً(١) .

٣ ـ ثمّ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا زال مسجّىً ولم يُدفن بعدُ ، فهل يعقل أن لا يشارك خيارهم في شرف حضور مراسم الدفن وينشغلوا في اجتماع انتخاب الخليفة ؟

٤ ـ من الممكن تفسير اجتماعهم هذا بأنّه لتقرير مصيرهم من الحكم الجديد بعد علمهم بما تخطّط له قريش من تطبيق قرارهم (لا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم) ، وهم ليست لهم دوافع كالتي كانت في نفوس زعماء قريش ، ثمّ إنّ تخوّفهم هذا له سوابق فبعد فتح مكّة ؛ خشيت الأنصار أن لا يعود معهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان طبيعيّاً أن يتخوفوا من العزلة السياسية والإداريّة .

وإذا قرّرت قريش صرف الخلافة عن صاحبها الشرعيّ، وهو عليّعليه‌السلام ؛ فما دور الأنصار وهم الثقل الأكبر في جمهور المسلمين ، ولهم الدور الفاعل والرئيس في نشر الرسالة الإسلاميّة ؟!

إنّ اجتماع الأنصار في السقيفة لم يكن حاسماً في قراراته ، فقد عُقد لدراسة الاحتمالات المتوقّعة للخلافة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأيضاً لم يكن جميع الأنصار على رأي واحد ، فقد كانت تختفي في أفق الاجتماع نوايا متنافرة وتنطوي النفوس على رغبات متضادّة ، فنجد بعضهم يجيب سعداً قائلاً : وفّقت في الرأي وأصبت في القول ، ولن نعدو ما رأيت ، نولّيك هذا الأمر .

ثمّ ترادّوا في الكلام فقالوا : فإن أبى المهاجرون وقالوا نحن أولياؤه وعشيرته .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٣ ط مؤسسة الأعلمي .

١٠٢

وهنا انبرى آخرون فقالوا : نقول : منّا أمير ومنكم أمير ، فعلّق سعد على هذا الاقتراح قائلاً : فهذا أوّل الوهن(١) .

إنّ الأنصار بموقفهم هذا قد هيَّئوا فرصة سياسية ثمينة ما كانت لتفوت الجناح المترقّب للفوز بالسلطة ، وفتحوا باب الصراع على مصراعيه بعيداً عن القيم والأحكام الإسلامية ؛ إذ قدّمت فيه الحسابات القبلية على الحسابات الشرعية ، وتقدّمت فيه مصلحة القبيلة على مصلحة الرّسالة الإسلامية .

وقد اعتذر عمر من مباغتة الأنصار في السقيفة فقال : وإنّا والله ما وجدنا أمراً هو أقوى من مبايعة أبي بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة ، فإمّا أن نتابعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون الفساد(٢) .

وهكذا أخذ الموقف السياسي يزداد تعقيداً وإعضالاً .

نظرة قريش للخلافة :

حين انطلقت الرسالة الإسلامية في مكّة وبين ظهراني قريش ؛ لم تتمكّن قريش من تحمّل ظهور نبيّ في بطنٍ من خيار بطونها ، بل أفضلها وهي بنو هاشم ، فاجتمعت كلمة قريش على محاربة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبني هاشم بكلّ وسائل الحرب ومقاومتهم بشتّى فنون المقاومة وخطّطت للتآمر لا حُبّاً بالأصنام وما هم عليه من العبادة ولا كراهية للدعوة الجديدة ، فليس في الإسلام ما لا ترتضيه الفطرة السليمة(٣) ، لكن قريشاً لا تريد أن تغيّر صيغتها السياسية القائمة على اقتسام مناصب الشرف والسيادة ، وخصوصاً أنّ مجتمع الجزيرة كانت تحكمه النزعة القبلية .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٢ / ٤٤٤ ط مؤسسة الأعلمي حوادث سنة ١١ هـ .

(٢) صحيح البخاري : كتاب المحاربين ٦ ح ٦٤٤٢ ، وسيرة ابن هشام : ٤ / ٣٠٨ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٧ ط مؤسسة الأعلمي .

(٣) يروى أنّ كثيراً من زعماء قريش كانوا يجاهرون بالعداء للدين ولكنّهم يذهبون خلسةً لاستماع القرآن .

١٠٣

من هنا لم تكن قريش تريد أن يتميّز البطن الهاشمي عن بقيّة بطونها ولا أن يتفوّق عليها ، وقد تصوّرت أنّ التفاف الهاشميّين حول النبوّة ودفاعهم المستميت عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو إصرار هاشمي على التميّز والرغبة بالتفوّق على الجميع ، فحاصرت قريش الهاشميّين في شِعب أبي طالب ، وتآمرت على قتل النبيّ ، وفشل الحصار وفشلت كلّ محاولات الاغتيال لشخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلا طوفان الرسالة الإسلامية على كلّ القوى المناوئة ، وأسلمت قريش طوعاً أو كرهاً ، فلم تعد لقريش قدرة على الوقوف في وجه النبوّة .

ولكنّ إعداد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العدّة لتكون الخلافة من بعده لعليّ ولذرّيّتهعليهم‌السلام بأمر من الله تعالى وباعتبارهم أجدر وأعلم بأصول الشريعة وأحكامها ، وأنّهم الأفضل من كلّ أتباعه ، والأنسب لقيادة الأمة ، قد أثار هذا المنطق في نفوس قريش النزعة القبلية والحقد الجاهلي فعزمت أن لا تجمع النبوّة والخلافة في بني هاشم ، فالنبوة والخلافة في عرف قريش سلطان وحكم كما صرّح بذلك أبو سفيان يوم فتح مكّة بقوله للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً(١) .

هذه الفكرة والعقلية سادت في الأجواء السياسية المحمومة في آخر أيّام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقريش مدركة أنّ النبيّ ميّت لا محالة في مرضه هذا ، وقد أخبرهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، وأيضاً لو تركت الأمور على مجراها الطبيعي فالخلافة ستئول إلى عليّعليه‌السلام حتماً من هنا كان تحرّك الحزب المناوئ لبني هاشم بصورة عامّة ولعليّعليه‌السلام خاصّة ، فكانت السقيفة .

ونجد فكرة عدم اجتماع النبوّة والخلافة في بني هاشم من خلال المحاورة

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة : ١٧ / ٢٧٢ .

١٠٤

بين عمر وابن عباس في زمن خلافة عمر ، حين قال له عمر : يا ابن عباس ! أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه فقلت : إن لم أكن أدري فإنّ أمير المؤمنين يدري ، فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتجحفوا على قومكم ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت(١) .

وثمّة أمر آخر يتعلّق بموضوع تحويل الخلافة عن عليّعليه‌السلام وهو أنّ عليّاًعليه‌السلام قد وتر قريشاً في حروبها ضد الإسلام وإنّ كلّ دم أراقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيف عليّعليه‌السلام وسيف غيره فإنّ العرب بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عصبت تلك الدماء بعليّ وحده ، لأنّه لم يكن في رهط النبيّ مَن يستحق في شرع قريش وعاداتهم أن يعصب به تلك الدماء إلاّ عليّ وحده(٢) .

ملامح التخطيط لإقصاء الإمام عليّعليه‌السلام عن الخلافة :

نلاحظ أنّ هناك تخطيطاً محكماً لدى الخطّ المناوئ لعليّعليه‌السلام لأخذ الخلافة منه من خلال ما يلي:

١ ـ بقاؤهم في المدينة ومحاولتهم عدم الخروج منها مهما يكن من أمر ، وذلك عندما عرفوا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تدهورت صحّته، كما لاحظوا بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الأيام كان يكثر من التوصية بعليّعليه‌السلام وضرورة اتّباعه لسلامة الدين والدولة.

٢ ـ حضورهم الدائم قرب الرسول ومحاولتهم الحيلولة دون حصول شيء يدعم ولاية عليّعليه‌السلام ، فكان الشغب في مجلس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشعار الذي رفعه عمر :( حسبنا كتاب الله ) ثمّ اتهام النبيّ المعصومصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغلبة الوجع ممّا أزعج النبيّ ، حيث إنّ قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إئتوني بدواة وكيف ) من غير المعقول أن يثير النفور والشكّ في نفوس الجميع دون سابق مضمر في نفوس البعض ، فلم يكن داعٍ لاعتراضهم إلاّ إثارة الشغب ومنع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكتابة .

ــــــــــــ

(١) مروج الذهب : ٢ / ٢٥٣ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : ١ / ١٨٩ ط دار إحياء التراث العربي ، الكامل في التأريخ : ٣ / ٦٣ و ٦٤ .

(٢) نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٢٨٣ .

١٠٥

٣ ـ السرعة في البتّ بموضوع الخلافة وإتمام البيعة عبر استغلالهم الفرصة بانشغال الإمام عليعليه‌السلام وبني هاشم بمراسم تجهيز النبيّ ودفنه ، فحين علم عمر بنبأ الاجتماع في السقيفة ؛ أرسل إلى أبي بكر حين دخل إلى بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن اُخرج فقد حدث أمر لابدّ أن تحضره ، ولم يوضّح ذلك خشية أن يطّلع عليه عليّ أو أحد من بني هاشم ، وإلاّ لماذا ؟ فهل كان هذا الأمر المهمّ يعني أبا بكر دون بقيّة المسلمين وفيهم من هو أحرص على الإسلام من أبي بكر وعمر ؟ ولماذا لم يدخل عمر بنفسه إلى داخل دار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يجتمع الناس فيتحدّث إليهم ؟ يدخل عمر بنفسه إلى داخل دار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يجتمع الناس فيتحدّث إليهم ؟

٤ ـ سعيهم لضمان حياد الأنصار وإبعادهم عن ميدان التنافس السياسي بدعوى أنّهم ليسوا عشيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥ ـ الترتيب في أخذ البيعة أوّلاً من الأنصار ، لأنّ قريشاً لو بايعت الخليفة الجديد ؛ لما كان لبيعتها أدنى قيمة واقعية ، ولأمكن الإمام فيما بعد أن يقيم الحجّة على قريش ، ولا يمكن لأيّ فرد أن يقف في موقع الندّ لعليّعليه‌السلام إذا كانت الأنصار في كفّة الإمام .

ويمكن ملاحظة ذلك من طريقة أخذ البيعة بعد الخروج من السقيفة ، إذ كان الناس مجتمعين في المسجد فقال عمر : ما لي أراكم مجتمعين حلقاً شتّى ؟! قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار ، فقام عثمان ومن معه من بني أمية فبايعوا ، وقام سعد وعبد الرحمن ومعهما بنو زهرة فبايعوا .

١٠٦

٦ ـ دخول عناصر من خارج المدينة معدّةً سلفاً لتأييد الطرف المناوئ لبني هاشم ، بدليل قول عمر : ما هو إلاّ أن رأيت ( أسلم ) فأيقنتُ بالنصر(١) .

٧ ـ محاولتهم التعتيم على الإجراءات التي تمّت مخاتلةً ، واتهامهم لكلّ مَن يعارضهم بأنّه يريد الفتنة وشقّ عصا المسلمين ، وقد اتّضح ذلك من خلال الحوادث التي تتابعت فيما بعدُ ، والقضاء على من ثبت على عدم البيعة وخالف قرار السقيفة(٢) .

٨ ـ ومن الأدلّة على التخطيط السابق : أنّ عثمان بن عفّان كتب اسم عمر في الوصية كخليفة من بعد أبي بكر(٣) من دون أن يأمره بذلك ، فقد كان مغمىً عليه ، فمن أين علم عثمان أنّ عمر هو الخليفة بعد أبي بكر ؟

٩ ـ ثمّ إنّ عمر وضع عثمان ضمن مجموعة أحدها يكون خليفة المسلمين بحيث يضمن ترشيحه مؤكّداً ، وأيّ خبير بالتأريخ مُلمّ بمجريات الأمور وتركيبة المرشّحين الستّة يستطيع أن يحلّل ذلك كما حلل الإمام عليّعليه‌السلام الموقف بوضوح(٤) .

١٠ ـ حين تشكّلت الحكومة التي تمخّضت عن اجتماع السقيفة ؛ توّلى أبو بكر الخلافة ، وأبو عبيدة المال ، وعمر القضاء(٥) ، وهذه هي أهمّ المناصب وأكثرها حساسيةً في مناهج الحكم والدولة ، هذه التركيبة لجهاز الدولة والعناصر الحاكمة لا تتأتّى صدفةً ولا يتمّ ذلك إلاّ عن تخطيط سابق .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٥٩ ط مؤسسة الأعلمي .

(٢) راجع طبقات ابن سعد : ٣ / ق ٢ / ١٤٥ ، وأنساب الأشراف : ١ / ٥٨٩ ، والعقد الفريد : ٤ / ٢٤٧ ، السقيفة والخلافة لعبد الفتاح عبد المقصود : ١٣ ، والسقيفة انقلاب أبيض : اغتيال خالد بن سعيد بن العاص ، وابن عساكر : ترجمة سعد بن عبادة وكنز العمّال : ٣ / ١٣٤ .

(٣) تأريخ الطبري : ٢ / ٦١٨ ط مؤسسة الأعلمي ، وسيرة عمر لابن الجوزي : ٣٧ ، والكامل في التأريخ : ٢ / ٤٢٥ .

(٤) أنساب الأشراف : ٥ / ١٩ .

(٥) الكامل في التأريخ : ٢ / ٤٢٠ .

١٠٧

١١ ـ قول عمر حين حضرته الوفاة : لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته(١) .

وليس كفاءة أبي عبيدة هي التي أوحت إلى عمر بهذا التمنّي ، لأنّه كان يعتقد أهليّة عليّعليه‌السلام للخلافة ، ومع ذلك لم يشأ أن يتحمّل أمر الأمة حيّاً كان أو ميّتاً .

١٢ ـ اتّهام معاوية لأبي بكر وعمر بالتخطيط لاستلاب الخلافة من عليّعليه‌السلام ، كما جاء ذلك في كتابه إلى محمّد بن أبي بكر إذ قال : فقد كنّا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عنده وأتمّ وعده وأظهر دعوته وأفلج حجّته وقبضه إليه ؛ كان أبوك والفاروق أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره ، على ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثمّ إنّهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم(٢) .

١٣ ـ قول أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لعمر :احلب يا عمر حلباً لك شطره ، اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً (٣) .

١٤ ـ اتهام الزهراءعليها‌السلام للحاكمين بالحزبيّة السياسية والتآمر للانقضاض على السلطة وتجريد بني هاشم منها(٤) بقولها :(فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ؟ ( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَُمحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ) .

سلبيّات حادثة السقيفة :

١ ـ الاستبداد بالرأي والقرار ، فقد استهان المشاركون في السقيفة بوصايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين بالاهتمام بعترته الطاهرة ، واستخفّوا بأوامره المصرّحة

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ١٩٠ ط دار إحياء التراث العربي ن وتأريخ الطبري : ٣ / ٢٩٢ قصة الشورى ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٦٥ .

(٢) مروج الذهب للمسعودي : ٣ / ١٩٩ ، وقعة صفّين لنصر بن مزاحم ك ١١٩ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٢٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٦ / ١١ .

(٤) راجع خطبة الزهراء في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبحار الأنوار ك ٢٩ / ٢٢٠ .

١٠٨

بلزوم الاقتداء بهم والتمسّك بحبلهم ، ولو فرض ـ جدلاً ـ أنّه لا نصّ بالخلافة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أحد من آل محمد وفرض كونهم غير متميّزين في حسب أو نسب أو أخلاق أو جهاد أو علم أو عمل أو إيمان أو إخلاص ، بل كانوا كسائر الصحابة ، فهل كان ثمّة مانع شرعيّ أو عقليّ أو عرفيّ يمنع تأجيل عقد البيعة إلى حين الانتهاء من تجهيز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ؟!

إن هذا الاستعجال من المبادرين لسدّ الفراغ الذي خلّفته وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على وجود نصوص أو أرضية تشريعية كان ينبغي تفويتها والمبادرة لأخذ زمام الأمر ، لئلاً تأخذ النصوص فاعليتها إن جرت الأمور بشكل طبيعي ، ولهذا قال عمر عن بيعة أبي بكر : إنّها كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها ألا ومن عاد لمثلها فاقتلوه(٢) .

٢ ـ البيعة لم تكن جامعة لأهل الحلّ والعقد الذي يعتبر شرطاً أساسياً في حصول الإجماع وفي مشروعية الانتخاب ، إذ اُلغي في السقيفة استشارة الطبقة الرفيعة من الصحابة مثل عليّعليه‌السلام والعباس وعمار بن ياسر وسلمان وخزيمة بن ثابت وأبي ذر وأبي أيوب الأنصاري والزبير بن العوام وطلحة وأبي بن كعب ، وغيرهم كثير .

٣ ـ استعمال العنف والقسوة في طريقة أخذ البيعة من المسلمين ، فإنّ كثيراً من المسلمين قد أرغموا عليها ، وقد لعبت دِرَّة عمر في سبيل تحقيقها وإيجادها دوراً كبيراً .

٤ ـ لقّنت السقيفة مفاهيم منحرفة للأمة ، منها :

أ ـ الاستعلاء على الأمة والاستخفاف بشأنها تحت شعار (مَن ذا ينازعنا سلطان محمّد ؟ ! ) .

ــــــــــــ

(١) النص والاجتهاد للسيد شرف الدين : ٢٥ ط اُسوة .

(٢) تذكرة الخواص : ٦١ ، وراجع صحيح البخاري : كتاب الحدود ، باب رجم الحبُلى .

١٠٩

ب ـ تحويل مفهوم النبوّة الرّبانية وخلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مفهوم السلطة العشائرية التي تستمد قوّتها وشرعيتها من انتخاب أبناء العشيرة وليس من نصوص الشريعة المقدّسة .

ج ـ فسح المجال أمام المسلمين لطرح التعددية في السلطة ومنافسة مَن فرض الله طاعته بالنصّ ، وتشجيع التمرّد على الحاكم المعصوم المنصوب بأمر من الله تعالى ، كما قالوا : منّا أمير ومنكم أمير .

د ـ هيّأ اجتماع السقيفة الأرضيّة المناسبة لتجاوز وجود الأمة وتجاوز رأيها السياسي كما حصل ذلك مرة أخرى عند تعيين عمر ، وثالثة عند وفاة عمر متمثلاً في الشورى التي فرضها عمر على المسلمين .

موقف الإمامعليه‌السلام من اجتماع السقيفة :

لم يكن الإمام عليّعليه‌السلام طامعاً وساعياً في استلام الخلافة والتربّع على عرشها مثل الآخرين ، إذ كان همّه الأوّل والأخير تثبيت دعائم الإسلام ونشره ، وإعزاز الدين وأهله ، وإظهار عظمة الرسول وبيان سيرته ، وحثّ الناس على الاقتداء بمنهجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانشغل بمراسم تجهيز النبيّ والصلاة عليه ودفنه ، وما كان يدور في خَلَده أنّ الخلافة تعدوه وهو المؤهّل لها رسالياً والمرشّح لها نبوّياً ، ولكنّ نفوس القوم أضمرت ما ينافي وصايا نبيّهم في غزوتي أُحد وحنين ، وأغراهم الطمع في سلطان بغير حقّ ، فتركوا نبيّهم مطروحاً بلا دفن كما تركوه وفرّوا عنه في حياته عند الشدائد والهزائز .

لقد وصل خبر اجتماع السقيفة إلى بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يجتمع عليّعليه‌السلام وبنو هاشم والمخلصون من الصحابة حول جسد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال العباس عمّ الرسول لعليّ : يا ابن أخي ، اُمدد يدك أبايعك ، فيقال : عمّ رسول الله بايع ابن عمّ رسول الله ، فلا يختلف عليك اثنان .

فقالعليه‌السلام :يا عمّ ، وهل يطمع فيها طامع غيري ؟

قال العباس : ستعلم .

١١٠

غير أنّ الإمامعليه‌السلام لم يكن ليخفى عليه ما كان يجري في الساحة من مؤامرات آنذاك فأجابه بصريح القول :( إنّي لا أحب هذا الأمر من وراء رِتاج ) (١) .

موقف أبي سفيان :

روي : أنّ أبا سفيان جاء إلى باب دار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّعليه‌السلام والعباس موجودان فيه ، فقال : ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش ؟! والله لئن شئت لأملأنّها عليهم خيلاً ورجالاً ، فقال عليّعليه‌السلام :ارجع يا أبا سفيان ! طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضرّه بذاك شيئاً .

وروي أيضاً : أنّه لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر ؛ أقبل أبو سفيان وهو يقول : والله إنّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلاّ دم ، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم ! أين المستضعفان عليّ والعباس ، وقال : أبا حسن ، ابسط يدك أبايعك ، فأبى عليّعليه‌السلام عليه وزجره وقال :إنّك والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك طالما بغيت الإسلام شرّاً ، لا حاجة لنا في نصيحتك (٢) ولمّا بويع أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل ، إنما هي بنو عبد مناف !

فقيل له : إنّه قد ولّى ابنك ، قال : وصلته رحم(٣) .

لم تكن معارضة أبي سفيان للسقيفة عن إيمانه بحقّ الإمام عليّعليه‌السلام وبني هاشم ، وإنّما كانت حركة سياسية ظاهرية أراد بها الكيد بالإسلام والبغي عليه ، فإنّ

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٢١ والرِتاج : الباب المغلق .

(٢) تاريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ ، والكامل في التاريخ : ٢ / ٣٢٦ ط دار الفكر .

(٣) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ ط دار الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٢ / ٣٢٦ .

١١١

علاقة أبي بكر مع أبي سفيان كانت وثيقة للغاية(١) .

أقطاب المعارضة للسقيفة :

كان من الطبيعي أن تبرز أطراف معارضة لنتائج السقيفة التي لم تتمتّع بالأهليّة الكافية والاحقيّة في الزعامة ، فبرزت ثلاثة أطراف :

الأوّل : الأنصار باعتبارهم كتلة سياسية واجتماعية كبيرة لابدّ من حسابها في ميزان الترشيح والانتخاب ، فنازعوا الخليفة الفائز وصاحبيه في سقيفة بني ساعدة ، ووقعت بينهم المنازعة التي انتهت بفوز قريش .

وقد انتفع أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار من :

١ ـ تركّز فكرة الوراثة الدينية في الذهنية العربية في قوله بأنّهم شجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقربهم إليه ، فهم أولى به من سائر المسلمين ، وأحق بخلافته وسلطانه .

٢ ـ انشقاق الأنصار على أنفسهم بين مؤيّد ومعارض لأبي بكر ، نتيجة تجذّر النزعة القبلية من نفوسهم ، أو لحسد بعضهم لبعض ، أو الرغبة في نيل الحظوة والقُربة لدى السلطة الحاكمة الجديدة ، حتى برزت هذه الظاهرة واضحة في قول أسيد بن حضير في السقيفة : لئن ولّيتموها سعداً عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة ولا جعلوا لكم نصيباً فيها أبداً فقوموا فبايعوا أبا بكر(٢) .

ــــــــــــ

(١) فقد روي أنّ أبا سفيان اجتاز على جماعة من المسلمين منهم أبو بكر وسلمان وصهيب وبلال ، فقال بعضهم : أما أخذت سيوف الله من عنق عدّو الله مأخذها ؟ فزجرهم أبو بكر وقال لهم : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم ؟ ومضى مسرعاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بمقالة القوم فردّ عليه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً : يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله صحيح البخاري : ٢ / ٣٦٢ .

(٢) الكامل في التأريخ : ٢ / ٣٣١ .

١١٢

لقد أعطى اجتماع السقيفة لأبي بكر القوّة من ناحيتين :

١ ـ إضعاف دور القاعدة الشعبية للإمام عليّعليه‌السلام فإنّ الأنصار سجّلوا على أنفسهم بذلك مذهباً لا يسمح لهم بأن يقفوا بعد السقيفة إلى صفّ الإمام ويخدموا قضيته وأحقّيته في الخلافة .

٢ ـ بروز أبي بكر كمدافع وحيد عن حقوق المهاجرين بصورة عامّة وعن قريش خاصّة في مجتمع الأنصار ، حيث إنّ الظرف كان مناسباً جدّاً ، إذ خلا من أقطاب المهاجرين الذين لم يكن لتنتهي المسألة في محضرهم إلى نتيجتها التي انتهت إليها .

الثاني : الأمويون الذين كان لديهم مطمع سياسيّ كبير في نيل نصيب مرموق من الحكم ، واسترجاع شيء من مجدهم السياسي في الجاهلية وعلى رأسهم أبو سفيان ، وقد تعامل معهم أبو بكر وحزبه وفق معرفتهم بطبيعة النفس الأموية وشهواتها السياسيّة والمادية ، فكان من السهل على أبي بكر أن يتنازل عن بعض المبادئ والحقوق الشرعية ، فدفع لأبي سفيان جميع ما في يده من أموال المسلمين وزكواتهم التي جمعها من سفره الذي بعثه فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجباية الأموال ، ولم يعبأ الفائزون بالسقيفة بمعارضة الأمويين وتهديد أبي سفيان وما أعلنه من كلمات الثورة والرغبة في تأييد الإمامعليه‌السلام وبني هاشم .

بل استفاد أبو بكر وحزبه من الأمويين في إضعاف دور بني هاشم حاضراً ومستقبلاً بأن جعلوا للأمويين حظّاً في العمل الحكومي في عدّة من المرافق الهامّة في الدولة .

الثالث : الهاشميّون وأخصّاؤهم كعمار وسلمان وأبي ذر والمقداد رضوان الله عليهم ، وجماعات كثيرة من الناس الذين كانوا يرون البيت الهاشمي هو صاحب الحقّ الشرعي بالخلافة ، وهو الوارث الطبيعي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحكم نصّ الغدير ومناهج السياسة التي كانوا يألفونها .

ولم تكن لتنطلي عليهم الحجج الواهية التي طرحتها أطراف السقيفة ، فرأت فيهم تيارات تسعى للاستئثار بالحكم لإرضاء شهواتهم ونذيراً بانحراف التجربة الإسلامية من مسارها الصحيح .

١١٣

نتائج السقيفة :

نجح أبو بكر وحزبه في مواجهة الأنصار والأمويين ، وكسب الموقف بأن أصبح خليفة للمسلمين ، ولكنّ هذا النجاح جرّه إلى تناقض سياسي واضح ، لأنّه لم يملك في السقيفة من رصيد إلاّ أن يجعلوا حجّتهم مبنيّة على أساس القرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ثَمّ يقرّوا مذهب الوراثة للزعامة الدينية .

غير أنّ وجود بني هاشم كطرف معارض بدّل الوضع السياسي ، واحتجّت المعارضة على أبي بكر وحزبه بنفس حجّتهم على باقي الأطراف ، وهي إذا كانت قريش أولى برسول الله من سائر العرب فبنو هاشم أحقّ بالأمر من بقية قريش .

وهذا ما أعلنه الإمام عليّعليه‌السلام حين قال :إذا احتجّ المهاجرون بالقُرب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت الحجّة لنا على المهاجرين بذلك قائمة ، فإن فلجت حجّتهم كانت لنا دونهم ، وإلاّ فالأنصار على دعوتهم .

وأوضحه العباس في حديث له مع أبي بكر إذ قال له : وأمّا قولك نحن شجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنكم جيرانها ونحن أغصانها(١) .

فالإمام عليّعليه‌السلام كان مصدر رعب ورهب في نفوس الفائزين في لعبة السقيفة وسدّاً منيعاً إزاء رغباتهم وطموحاتهم ، وكان بإمكانه أن يستغلّ النفعيّين ـ وما أكثرهم ! ـ والذين يميلون مع كلّ ريح وينعقون مع كلّ ناعق والذين يعرضون أصواتهم ومواقفهم رخيصة في الأسواق السياسية ، وأن يشبع نهمهم ممّا خلّفه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخمس وغلاّت أراضي المدينة ونتاج (فدك) التي كانت تدرّ بالخيرات ، إلاّ أنّهعليه‌السلام أبى عن كلّ ذلك لكمال شخصيّته وسموّ منزلته ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان بوسعهعليه‌السلام أن يتحرّك محتجّاً أمام أرباب السقيفة بمبدأ القرابة الذي يعدّ ورقة رابحة بيده حتى ألمح لذلك بقولهعليه‌السلام :(احتجوّا بالشجرة وأضاعوا الثمرة) وكان السواد الأعظم من الناس يقدّسون أهل البيت ويحترمونهم لذلك السبب ، وبالتالي سيدفع السلطة الحاكمة إلى أزمة سياسية حرجة لا مخرج منها ، بيد أنّهعليه‌السلام كان أسمى من ذلك وأجلّ ، حيث قدّمعليه‌السلام المصلحة الإسلامية العليا على كلّ المصالح الخاصة .

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٦ / ٥ .

١١٤

ولتلافي احتمال تحرّك الإمام على هذا المسار تردّدت السلطة بين موقفين :

أوّلاً : أن لا تقرّ للقرابة بشأن في الخلافة ، وهذا معناه نزع الثوب الشرعي عن خلافة أبي بكر الذي تقمّصه يوم السقيفة .

ثانياً : أن تناقض السلطة الحاكمة نفسها وإصرارها على مبادئها التي أعلنتها في السقيفة مقابل بقيّة الأطراف ، فلا ترى أيّ حق للهاشميّين في السلطة وهم أقرب الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو تراه لهم ، ولكن في غير ذلك الظرف الذي يكون معنى المعارضة مقابلة حكم قائم ووضع قد تعاقد عليه الناس .

وكان الخيار الثاني هو خيار السلطة(١) .

ــــــــــــ

(١) راجع تفصيل ذلك في ( فدك في التأريخ ) للشهيد الصدر ك ٨٤ ـ ٩٦ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ و ٤٥٠ ( أحداث السقيفة ) .

١١٥

الفصل الثاني: الإمام عليّعليه‌السلام في عهد أبي بكر

خطوات السلطة لمواجهة المعارضة :

ما كانت الفئة المسيطرة لتتنازل عن السلطة بعد أن سعت وخطّطت للاستيلاء عليها ، فثبتت على آرائها التي روّجتها في السقيفة ودعمتها بشتّى الوسائل والسبل بغض النظر عن شرعيّتها أو صحّتها في المحافظة على سلامة الدعوة الإسلامية ، لذا فإنّنا نلاحظ بعض الظواهر والخطوات السياسية التي اتّبعتها هذه الفئة من أجل إبعاد آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الحكم نهائياً والقضاء على الفكرة التي أمدّت الهاشميين بالقوة ، بل القضاء على كلّ معارضة محتملة مستقبلاً ، وهي:

١ ـ إنّ السلطة الجديدة أخذت على المعارضين أنّ مخالفتهم الخليفة الجديد ليس إلاّ إحداثاً للفتنة المحرّمة في شريعة الإسلام ، وكان يدعم إدانتهم للمعارضة هذه أنّ ظروف الدولة الإسلامية كانت غير مستقرّة بعد ، وكان الأعداء من خارج البلاد يهدّدون الدولة الإسلامية إضافة إلى أحداث الردّة التي حصلت بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داخل حدود الدولة الإسلامية الفتيّة .

١١٦

٢ ـ أسلوب الشدّة والعنف الذي اتّبعه الخليفة وحزبه مع الإمام عليّعليه‌السلام ومن معه بنفس الطريقة التي اتّبعوها مع سعد بن عبادة في السقيفة ، فقد بلغت الشدّة منهم أنّ عمر هدّد بحرق بيت الإمام عليّعليه‌السلام وإن كانت فاطمةعليها‌السلام فيه(١) ، ومعنى هذا أنّ فاطمة وغيرها من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس لهم حرمة تمنعهم عن أن يتّخذ الجهاز الحاكم الطريقة نفسها معهم .

٣ ـ إنّ أبا بكر ومن معه لم يشرك شخصاً من الهاشميّين في شأن من شؤون الحكم المهمّة خشية أن يصل الهاشميّون إلى الخلافة(٢) ولا جعل منهم والياً على شبر من الدولة الإسلامية الواسعة .

٤ ـ إعداد وتهيئة كتلة سياسية ضخمة تنافس آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعاديهم ، لنيل الخلافة والمركز الأعلى في الحكم ، فإنّنا نلاحظ أنّ الأمويين ذوي الألوان والطموحات السياسية الواضحة قد احتلوا الصدارة في المناصب الإداريّة أيام أبي بكر وعمر ، وإضافة إلى ذلك أنّ مبدأ الشورى الذي ابتكره الخليفة الثاني سوف يجعل من عثمان بن عفّان المرشح الأوفر حظّاً من غيره من المنافسين .

هذه الكتلة السياسية من شأنها أن تطول وتتّسع لأنّها ليست متمثلة في شخص بل في بيت كبير ، وبالتالي سوف لن تكون الظروف مهيأة لصعود آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سدّة الخلافة بسهولة على أقلّ تقدير .

٥ ـ عزل كلّ العناصر التي تميل إلى بني هاشم ، فقد روي أنّ أبا بكر عزل خالد بن سعيد بن العاص عن قيادة الجيش الذي وجّهه لفتح الشام بعد أن أسندها إليه لا لشيء إلاّ لأنّ عمر نبّهه إلى نزعته الهاشمية وميله إلى آل محمد ، وذكّره بموقفه المعارض لهم بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) .

٦ ـ إضعاف القدرة الاقتصادية للإمام عليّعليه‌السلام خشية أن يستثمرها الإمام في الدعوة لاستعادة حقّه الشرعي في الخلافة ، فقام الخليفة بمصادرة فدك من الزهراءعليها‌السلام لعلمه أنّهاعليها‌السلام كانت سنداً قوياً لقرينها في دعوته إلى نفسه ، هذا إذا علمنا أنّ أطرافاً سياسية باعت صوتها للحكومة ، فمن الممكن أن تفسخ المعاملة إذا عرض عليها ما ينتج ربحاً أكبر ، كما

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٣ / ١٩٧ ط دار الوفاء .

(٢) تأريخ الطبري : ٢ / ٦١٨ ، ومروج الذهب على هامش تأريخ ابن الأثير : ٥ م ١٣٥ .

(٣) تاريخ الطبري : ٢ / ٥٨٦ ط مؤسسة الأعلمي .

١١٧

وأنّ الخليفة أبا بكر نفسه اتّخذ المال وسيلة من وسائل الإغراء وكسب الأصوات(١) .

وإذا أضفنا لذلك أنّ الزهراء كانت دليلاً يحتجّ به أنصار الإمام عليّعليه‌السلام على أحقّيته بالخلافة نستوضح أنّ الخليفة كان موفَّقاً كلّ التوفيق في مسعاه السياسي لإظهار موقف الزهراءعليها‌السلام الداعم لأمير المؤمنينعليه‌السلام موقفاً محايداً ، وذلك بأسلوب لبق وغير مباشر لإفهام المسلمين أنّ فاطمةعليها‌السلام امرأة من النساء ولا يصحّ أن تؤخذ آراؤها ودعاويها دليلاً في مسألة بسيطة كفدك ، فضلاً عن موضوع مهم كالخلافة ، وأنّها إذا كانت تطلب أرضاً ليس لها بحقّ ؛ فمن الممكن أن تطلب(٢) لقرينها الدولة الإسلامية كلّها ، وليس له فيها حقّ كما يدّعيه هؤلاء الصحابة الذين رشّحوا أنفسهم لخلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيطروا على زمام الأمر .

فقد روي أنّه لمّا استقرّ الأمر لأبي بكر ، بعث إلى وكيل الزهراء فأخرجه منها واستولى على فدك ، واحتجّ بحديث لم يروه غيره ، وهو أنّه سمع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( إنّا معاشرَ الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة ) فالنبيّ لا يورث وإنّما ميراثه في المساكين وفقراء المسلمين(٣) .

الاحتجاجات على خلافة السقيفة :

إنّ الصفوة الخيّرة من الصحابة الذين وقفوا مع الإمام عليّعليه‌السلام في المطالبة بحقّه الشرعي في الخلافة احتجّوا بصلابة وثقة وعلانية وبحجّة واضحة دامغة وبدليل شرعيّ منصوص وبأسلوب يدلّ على الحرص على إصابة الحقّ وصيانة الحكم الإسلامي من الانحراف على الحكومة ، فقد وقفوا في مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانبرى الصحابيّ الجليل خزيمة بن ثابت فقال : أيّها الناس ! ألستم تعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قَبِل شهادتي وحدي ، ولم يرد معي غيري ؟ فقالوا : بلى ، قال : فأشهد أنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :(أهل بيتي يفرّقون بين الحقّ والباطل ، وهم الأئمّة الذين يقتدى بهم) ، وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين .

ــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد : ٣ / ١٨٢ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : ١ / ١٣٣ .

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٢٨٤ ط المحققة / أبو الفضل إبراهيم وفيه جواب مدرس المدرسة الغربية علي بن الفارقي بهذا المعنى عندما سأله ابن أبي الحديد .

(٣) راجع سنن البيهقي : ٦ / ٣٠١ ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١٦ / ٢١٨ ـ ٢٢٤ ، ودلائل الصدق للمظفر : ٣ / ٣٢ .

١١٨

واحتجّ عمار بن ياسر فقال : يا معاشر قريش ويا معاشر المسلمين ! إن كنتم علمتم وإلاّ فاعلموا أنّ أهل بيت نبيّكم أولى به وأحقّ بإرثه وأقوم باُمور الدين وآمن على المؤمنين وأحفظ لملّته وأنصح لاُمّته ، فمروا صاحبكم فليردّ الحقّ إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ويظهر شقاقكم وتعظم الفتنة بكم .

ووقف سهل بن حنيف فقال : يا معشر قريش ! أشهد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد رأيته في هذا المكان ـ يعني مسجد النبيّ ـ وقد أخذ بيد عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وهو يقول :( أيّها الناس ، هذا عليّ إمامكم من بعدي ووصيّي في حياتي وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، وأوّل من يصافحني على حوضي ، وطوبى لمن تبعه ونصره ، والويل لمن تخلّف عنه وخذله ) .

ثمّ قام أبو الهيثم بن التيهان فقال : وأنا أشهد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أقام عليّاً يوم غدير خم ، فقالت الأنصار : ما أقامه إلاّ للخلافة ، وقال بعضهم : ما أقامه إلاّ ليعلم الناس أنّه مولى من كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مولاه ، وكثر الخوض في ذلك فبعثنا رجلاً منّا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه عن ذلك ، فقال :( هو وليّ المؤمنين بعدي وأنصح الناس لأمتي ) ، وأنا أشهد بما حضرني ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، إنّ يوم الفصل كان ميقاتاً .

١١٩

ثمّ قام آخرون منهم أبو ذر وأبو أيوب الأنصاري وعتبة بن أبي لهب والنعمان بن عجلان وسلمان الفارسي فاحتجّوا على القوم(١) .

محاولة إرغام الإمامعليه‌السلام على البيعة :

كان لامتناع الإمام عن البيعة وقيام عدد من الصحابة الأجلاّء بالاحتجاج العلني ومطالبة السلطة بالتنحّي عنها وتسليمها إلى صاحبها الشرعي الأثر الفعّال في تحريك مشاعر المسلمين وتعبئتهم في صف أمير المؤمنينعليه‌السلام ، هذا بالإضافة إلى وجود بعض العشائر المؤمنة المحيطة بالمدينة مثل أسد وفزارة(٢) وبني حنيفة وغيرهم ممن شاهد بيعة يوم الغدير (غدير خم) التي عقدها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّعليه‌السلام بإمرة المؤمنين من بعده الذين رفضوا بيعة أبي بكر ، وامتنعوا عن أداء الزكاة للحكومة الجديدة باعتبارها غير شرعية ، وكانوا يقيمون الصلاة ويؤدّون جميع الشعائر ، كلّ هذا كان يشكّل خطراً على الحكم القائم ، فرأت السلطة الحاكمة أن تصنع حدّاً لهذا الخطر ، وذلك بإجبار رأس المعارضة وهو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على بيعة أبي بكر .

وذكر بعض المؤرّخين أنّ عمر أتى أبا بكر فقال له : ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة ؟ يا هذا لم تصنع شيئاً ما لم يبايعك عليّ ! فابعث إليه حتى يبايعك .

فأجمعوا آراءَهم على إرغام الإمامعليه‌السلام وقسره على البيعة لأبي بكر ، فأرسلوا قوة عسكرية فأحاطت بداره فدخلوا داره بعنف(٣) ، وأخرجوه منها بصورة لا تليق بمكانة شخص قال عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ) .

ــــــــــــ

(١) تأريخ أبي الفداء : ١ / ١٥٦ ، والخصال للصدوق : ٤٣٢ ، والاحتجاج للطبرسي : ١ / ١٨٦ .

(٢) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٧٦ ط مؤسسة الأعلمي .

(٣) الإمامة والسياسة : ٣٠ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٣ .

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

« فقال عليه السلام : إنّ من حقّ من عظم جلال اللّه في نفسه ، و جل موضعه من قلبه أن يصغر عنده لعظم ذلك كلّ ما سواه » . روي في ( توحيد الصدوق ) عن زينب العطّارة قالت : سألت النبي صلّى اللّه عليه و آله عن عظمة اللّه . فقال صلّى اللّه عليه و آله : إنّ هذه الأرض بمن فيها و من عليها عند الّتي تحتها كحلقة في فلاة قيّ ، و هاتان و من فيهما و من عليهما عند الّتي تحتها كحلقه في فلاة قيّ ، و الثالثة حتى انتهى إلى السابعة ، ثم تلا هذه الآية : خلق سبع سماوات و من الأرض مثلهن ١ الخبر ٢ .

« و إنّ أحقّ من كان كذلك » أي : يكون كلّ ما سواه تعالى صغيرا عنده « لمن عظمت نعمة اللّه عليه و لطف إحسانه إليه » مثله عليه السلام « فانه لم تعظم نعمة اللّه على أحد إلاّ ازداد حقّ اللّه عليه عظما » .

و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام : من عظمت نعمة اللّه عليه اشتدّت مؤنة الناس عليه ، فاستديموا النعمة باحتمال المؤنة و لا تعرّضوها للزوال ، فقلّ من زالت عنه النعمة فكادت أن تعود إليه ٣ .

« و إن من أسخف حالات الولاة » و أقربها إلى دقّة عقولهم « عند صالح الناس أن يظنّ بهم حبّ الفخر و يوضع أمرهم على الكبر » و في ( الكافي ) عن النبي صلّى اللّه عليه و آله :

آفة الحسب الافتخار و العجب .

و عن الصادق عليه السلام : جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال : أنا فلان بن فلان حتى عدّ تسعة فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله : أما إنّك عاشرهم في النار ٤ .

« و قد كرهت أن يكون جال في ظنّكم أنّي أحبّ الإطراء » أي : المدح لي « و استماع الثناء » علي .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الطلاق : ١٢ .

( ٢ ) توحيد الصدوق : ٢٧٥ ح ١ .

( ٣ ) الكافي ٤ : ٣٧ ح ١ .

( ٤ ) الكافي ٢ : ٣٢٨ و ٣٢٩ ح ٢ و ٥ .

٤٤١

قال ابن أبي الحديد : ناظر المأمون البوشنجاني في مسألة كلاميّة ،

فجعل يستخذي له ، فقال له المأمون : أراك تنقاد إليّ ما أقوله لك قبل وجوب الحجّة عليك ، و قد ساءني منك ذلك ، و لو شئت ان اقتسر الامور بعزّة الخلافة وهيبة الرياسة لصدقت و ان كنت كاذبا و عدلت و ان كنت جائرا و صوبت و ان كنت مخطئا ، و لكن لا أقنع إلاّ بإقامة الحجّة و إزالة الشبهة ، و إن أنقص الملوك عقلا و أسخفهم رأيا من رضي بقولهم : صدق الامير و قال ابن المقفع في ( يتيمته ) : إيّاك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حبّ المدح و التزكية و أن يعرف الناس ذلك منك ، فتكون ثلمة يقتحمون عليك منها و بابا يفتحونك منه و غيبة يغتابونك بها و يسخرون منك لها ١ « و لست بحمد اللّه كذلك ، و لو كنت أحبّ أن يقال ذلك لتركته انحطاطا للّه سبحانه عن تناول ما هو أحق به من العظمة و الكبرياء » .

جاء في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام : أوحى اللّه إلى داود : كما أن أقرب النّاس من اللّه ، المتواضعون كذلك أبعد الناس المتكبّرون .

و نقل أيضا عن الباقر عليه السلام : أنّ ملكا أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال : إن اللّه تعالى مخيّرك بين أن تكون عبدا رسولا متواضعا أو ملكا رسولا . فنظر النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى جبرئيل عليه السلام ، و أومأ جبرئيل بيده أن تواضع ، فقال النبي : عبدا متواضعا رسولا ٢ .

و في ( عقاب الأعمال ) عن الصادق عليه السلام : الكبرياء رداء اللّه ، فمن نازعه شيئا من ذلك كبه اللّه في النار ٣ ٤ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١١ : ١٠٤ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الكافي ٢ : ١٢٢ و ١٢٣ ح ٥ و ١١ .

( ٣ ) عقاب الاعمال : ٢٦٤ ح ٢ .

( ٤ ) لم يتعرض الشارح بشرح فقره « و ربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء » .

٤٤٢

« فلا تثنوا علي بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى اللّه و إليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها و فرائض لا بدّ من إمضائها » قرأ ابن أبي الحديد من التقية ( من البقية ) لأنّه قال معنى كلامه عليه السلام « و ربما استحلى الناس إلى لا بدّ من إمضائها » أن بعض من يكره الإطراء و الثناء ، قد يحب ذلك بعد البلاء و الإختبار ، كما قال مرداس بن أدية لزياد « إنّما الثناء بعد البلاء و إنّما يثنى بعد أن يبتلى » فقال عليه السلام : لو فرضنا أن ذلك سائغ و جائز و غير قبيح لم يجز لكم أن تثنوا علي في وجهي و لا جاز لي أن أسمعه منكم لأنّه قد بقيت علي بقية لم أفرغ من أدائها و فرائض لم أمضها بعد ، و لا بدّ لي من إمضائها ، و إذا لم يتمّ البلاء الّذي قد فرضنا أن الثناء يحسن بعده ، لم يحسن الثناء ١ .

و اما ابن ميثم فقال : و في خط الرضيّ « من التقية » بالتاء ، و المعنى فإن الذي أفعله من طاعة اللّه انّما هو إخراج لنفسي إلى اللّه و إليكم من تقية الحقّ فيما يجب علي من الحقوق ، إذ كان عليه السلام إنّما يعبد اللّه للّه غير ملتفت في شي‏ء من عبادته و أداء واجب حقّه إلى أحد سواه خوفا منه أو رغبة إليه ٢ .

« فلا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة » جاء في ( تاريخ الطبري ) : خطب الوليد ابن عبد الملك بعد أبيه و كان جبّارا عنيدا فقال : أيّها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ، و من سكت مات بدائه ٣ .

« و لا تتحفظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة » أي : أهل الحدّة .

في ( العقد الفريد ) : قام رجل إلى هارون و هو يخطب بمكة فقال : كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون ٤ فأمر به فضرب مائة سوط ، فكان يئنّ

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الجحديد ١١ : ١٠٧ .

( ٢ ) شرح ابن ميثم ٤ : ٤٧ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٥ : ٢١٤ ، سنة ٨٦ .

( ٤ ) الصف : ٣ .

٤٤٣

الليل كلّه و يقول الموت الموت .

و فيه : بقي الوليد بن عبد الملك يوم الجمعة على المنبر حتى اصفرّت الشمس ، فقام إليه رجل فقال : ان الوقت لا ينتظرك و ان الربّ لا يعذرك قال :

صدقت و من قال مثل مقالتك فلا ينبغي له أن يقوم مثل مقامك من هاهنا من الحرس يقوم فيضرب عنقه ١ ؟

« و لا تخالطوني بالمصانعة » . في ( العقد ) ، قال الربيع بن زياد الحارثي :

كنت عاملا لأبي موسى على البحرين ، فكتب إليه عمر يأمره بالقدوم عليه هو و عمّاله و أن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتى يرجعوا ، فلمّا قدمنا أتيت يرفأ غلام عمر فقلت : يا يرفأ ابن سبيل مسترشد ، أخبرني ، أيّ الهيئات أحبّ إلى عمر أن يرى فيها عمّاله ؟ فأومأ إلى الخشونة ، فأخذت خفين مطارقين و لبست جبّة صوف و لثت رأسي بعمامة دكناء ، ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه و صعّد فينا نظره و صوّب ، فلم تأخذ عينه أحدا غيري فدعاني الخ ٢ .

هذا ، و روى صاحب كتاب ( البصائر ) ، و كذا ( المناقب ) ، عن إبراهيم بن عمر أنّه عليه السلام قال : لو وجدت رجلا ثقة لبعثت معه المال إلى المدائن إلى شيعته .

فقال رجل من أصحابه في نفسه : لآتينه و لأقولن له أنا أذهب به فهو يثق بي فإذا أنا أخذته أخذت طريق الكرخة ، فأتاه فقال له عليه السلام : أنا أذهب بهذا المال إلى المدائن ، فرفع رأسه إليه ثم قال له : إليك عنّي خذ طريق الكرخة و روى في ( الخرائج ) كذلك و لكن فيه قال : فإذا أخذته ، أخذت طريق الشام إلى معاوية إلى أن قال فقال عليه السلام له : إليك عنّي تأخذ طريق الشام ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) العقد الفريد ١ : ٤٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) العقد الفريد ١ : ١٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) بصائر الدرجات : ٢٦٠ ح ٢٠ ، و مناقب السروي ٢ : ٢٥٨ ، و الخرائج و الجرائح ١ : ١٨٥ .

٤٤٤

« و لا تظنّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي ، و لا التماس إعظام لنفسي ، فانّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه » في ( بلاغات نساء البغدادي ) عن الشعبي قال : استأذنت سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية على معاوية ، فاذن لها ، فلما دخلت قال لها معاوية : هية يا بنت الأسك ألست القائلة يوم صفين :

شمّر كفعل أبيك يا ابن عمارة

يوم الطعان و ملتقى الأقران

و انصر عليّا و الحسين و رهطه

و اقصد لهند و ابنها بهوان

إنّ الإمام أخو النّبيّ محمّد

علم الهدى و منارة الإيمان

فقه الحتوف و سر أمام لوائه

قدما بأبيض صارم و سنان

قالت : أي و اللّه ما مثلي من غرب عن الحقّ أو اعتذر بالكذب إلى أن قال قالت لمعاوية : إنّك أصبحت للناس سيّدا و لأمرهم متقلّدا ، و اللّه سائلك عن أمرنا و ما افترض عليك من حقّنا ، و لا يزال يقدم علينا من ينوء بعزّك و يبطش بسلطانك ، فيحصدنا حصد السنبل و يدوسنا دوس البقر و يسومنا الخسيسة و يسلبنا الجليلة ، هذا بسر بن إرطأة قدم علينا من قبلك ، فقتل رجالي و أخذ مالي يقول لي : فوهي بما استعصم اللّه منه و الجأ إليه فيه تعني سبّه عليه السلام و لو لا الطاعة لكان فينا عزّ و منعة ، فإمّا عزلته عنّا فشكرناك ، و إمّا لا ، فعرفناك .

فقال لها معاوية : أ تهدديني بقومك لقد هممت أن أحملك على قتب اشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه . فأطرقت تبكي ثم قالت :

صلّى الإله على جسم تضمّنه

قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلا

فصار بالحقّ و الإيمان مقرونا

قال لها : و من ذلك ؟ قالت : علي بن أبي طالب ، قال : و ما صنع بك حتّى صار عندك كذلك ؟ قال : قدمت عليه في رجل ولاّه صدقاتنا فكان بيني و بينه ما بين الغثّ و السمين ، فأتيت عليّا عليه السلام لأشكو إليه ، فوجدته قائما يصلّي ،

٤٤٥

فلمّا نظر إليّ انفتل من صلاته ، ثمّ قال لي برأفة و تعطف : ألك حاجة ؟ فأخبرته الخبر ، فبكى ثمّ قال : اللّهم إنّك أنت الشاهد علي و عليهم ، إني لم آمرهم بظلم خلقك و لا بترك حقّك ، ثمّ أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجواب فكتب فيها « بسم اللّه الرحمن الرحيم » ، « قد جآءتكم بيّنة من ربّكم فأوفوا الكيل و الميزان بالقسط و لا تبخسوا النّاس أشياءهم و لا تعثوا في الأرض مفسدين » ، « بقيّة اللّه خير لكم إن كنتم مؤمنين ، و ما أنا عليكم بحفيظ ١ » ، إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يدك من عملنا ، حتى يقدم علينا من يقبضه منك » ،

فأخذته منه ، و اللّه ما ختمه بطين و لا خزمه بخزام فقرأته فقال لها معاوية : لقد لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئا ما تفطمون الخ ٢ .

هذا ، و في ( العقد ) : جلس المأمون للمظالم ، فتقدّمت إليه امرأة فقال لها :

اين خصمك ؟ قالت : الواقف على رأسك و أومأت إلى العباس ابنه فقال لأحمد بن أبي خالد : خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم ، فجعل كلامها يعلو كلام العباس ، فقال لها أحمد اخفضي من صوتك فانّك تكلّمين الأمير فقال له المأمون : دعها فإن الحقّ أنطقها و أخرسه ، ثمّ أمر بردّ ضيعتها إليها ٣ .

« فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة » بسكون الشين و فتح الواو ، أو ضمّ الشين و سكون الواو .

و في ( العقد ) : قيل لرجل من عبس ما أكثر صوابكم ؟ قال : نحن ألف رجل و فينا حازم واحد ، فنحن نشاوره ، فكأنّا ألف حازم ٤ .

« فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ و لا آمن ذلك » هكذا في ( المصرية )

ــــــــــــــــــ

( ١ ) هذا خلط بين آية الأعراف : ٨٥ ، و آيتي هود : ٨٥ و ٨٦ .

( ٢ ) بلاغات النساء : ٤٧ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) العقد الفريد ١ : ٢٠ ، و النقل بتلخيص .

( ٤ ) العقد الفريد ١ : ٤٧ .

٤٤٦

و الصواب : ( ذاك ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) « من فعلي إلاّ أن يكفي اللّه من نفسي ما هو أملك به منّي » ١ .

و هذا القول صدر منه عليه السلام كقول يوسف عليه السلام : و ما أبرّئ نفسي إنّ النّفس لأمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم ٢ ، و كقول النبي صلّى اللّه عليه و آله في خبر « و لا أنا إلاّ أن يتداركني اللّه برحمته » ٣ . فلا ينافي عصمته عليه السلام فان عصمتهم عليهم السلام إنّما باللّه تعالى ، قال تعالى : و لقد همّت به و همّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ٤ فقال عليه السلام ما قال على مقتضى الغرائز البشرية من حيث هي .

« فانّما أنا و أنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره ، يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا » و لا حول و لا قوّة لأحد إلاّ به تعالى .

« و أخرجنا ممّا كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه ، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى و أعطانا البصيرة بعد العمى » ، قال ابن أبي الحديد : لم يشر عليه السلام إلى خاصّ نفسه لأنّه عليه السلام لم يكن كافرا فأسلم ، و لكنّه أشار إلى القوم الذين يخاطبهم من افناء النّاس ، و أتى بصيغة الجمع توسعا . و يجوز أن يكون معناه لولا ألطاف اللّه تعالى ببعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله لكان الجميع على عبادة الأصنام ،

كما قال تعالى لنبيّه و وجدك ضالاًّ فهدى ٥ ، فليس معناه أنّ النبي كان كافرا ، بل معناه : إنّه لو لا اصطفاء اللّه تعالى لك لكنت كواحد من قومك ، فكأنّه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١١ : ١٠٢ ، لكن في شرح ابن ميثم ٤ : ٤١ « ذلك » .

( ٢ ) يوسف : ٥٣ .

( ٣ ) لم أجده .

( ٤ ) يوسف : ٢٤ .

( ٥ ) الضحى : ٧ .

٤٤٧

كان ضالاّ بالقوّة لا بالفعل ١ .

قلت : و كأن في الكلام سقطا ، و إن وجدنا رواية الروضة أيضا كذلك ،

فعطف قوله « و أخرجنا » على قوله « يملك منّا » كما ترى .

و كيف كان فقد عرفت من رواية ( الروضة ) أن من كلامه عليه السلام بعد ما مرّ « و أنا استشهدكم عند اللّه على نفسي إلى و لا يجوز عنده إلاّ مناصحة الصدور في جميع الامور » ٢ و لم ينقله المصنف .

١٠

الخطبة ( ١٢٩ ) و من كلام له عليه السلام :

أَيَّتُهَا اَلنُّفُوسُ اَلْمُخْتَلِفَةُ وَ اَلْقُلُوبُ اَلْمُتَشَتِّتَةُ اَلشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ وَ اَلْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ أَظْأَرُكُمْ عَلَى اَلْحَقِّ وَ أَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ اَلْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ اَلْأَسَدِ هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ اَلْعَدْلِ أَوْ أُقِيمَ اِعْوِجَاجَ اَلْحَقِّ اَللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ اَلَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ وَ لاَ اِلْتِمَاسَ شَيْ‏ءٍ مِنْ فُضُولِ اَلْحُطَامِ وَ لَكِنْ لِنَرِدَ اَلْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ وَ نُظْهِرَ اَلْإِصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ فَيَأْمَنَ اَلْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وَ تُقَامَ اَلْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ وَ سَمِعَ وَ أَجَابَ لَمْ يَسْبِقْنِي إِلاَّ ؟ رَسُولُ اَللَّهِ ص ؟ بِالصَّلاَةِ أقول : قال ابن الجوزي في ( مناقبه ) كما في ( البحار ) روى مجاهد عن ابن عباس قال : خطب أمير المؤمنين عليه السلام يوما على منبر الكوفة « أيّتها النفوس . . . الخ » مثله ٣ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١١ : ١٠٨ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الكافي ٨ : ٣٥٧ و ٣٥٨ .

( ٣ ) نقله عنه في بحار الأنوار ٧٧ : ٢٩٤ ح ٣ ، و هذا خلط بين الكتاب ابن الجوزي و سبطه و ما نقله فهو من تذكرة الخواص : ١٢٠ .

٤٤٨

« أيّتها النفوس المختلفة » في الآراء « و القلوب المتشتّتة » في العقائد « الشاهدة أبدانهم » في المجالس « و الغائبة عنهم عقولهم » في العمل لمصالحهم و معائشهم .

و في الخطبة ٢٩ « أيّها النّاس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم » و في الخطبة ٩٥ « أيّها الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ،

المبتلى بهم أمراؤهم » .

« أظأركم » أي : أعطفكم « على الحقّ و أنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة » في ( الجمهرة ) : سمعت وعوعة القوم أي : اختلاط أصواتهم ، و يسمى ابن آوى الوعوع ، و الوعوعة صوت الديك إذا دارك ، و كذلك الذئب في عدوه ،

قال امرؤ القيس :

كأنّ خضيعة بطن الجواد

وعوعة الذئب في الفدفد ١

« الأسد » كلامه عليه السلام « و أنتم . . . الخ » ، نظير قوله تعالى : كأنّهم حمر مستنفرة . فرّت من قسورة ٢ .

« هيهات » أي : بعيد « أن أطلع بكم » أي : أخرج بكم « سرار العدل » أي : مخفيّة من سرار الشهر ليلة أو ليلتين من آخر الشهر يستسّر فيهما القمر بطلوع الشمس « أو اقيم » بكم « اعوجاج الحقّ » و زيغه ، لأنّهم منشأ سرار العدل ، فكيف يطلع بهم ، و موجب اعوجاج الحقّ فكيف يقام بهم ؟

« اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا » من ترغيبكم إلى جهاد العدو و تأنيبكم على تقاعدكم عن حفظ الثغور « منافسة » أي : رغبة « في سلطان » الدنيا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) جمهرة اللغة ١ : ١٦٠ .

( ٢ ) المدثر : ٥٠ و ٥١ .

٤٤٩

كالمتقدّمين عليه عليه السلام « و لا التماس » أي : و لا لطلب « شي‏ء من فضول الحطام » الأصل في الحطام : ما تكسر من اليبيس ، شبّه به متاع الدنيا .

« و لكن لنرد المعالم من دينك » معالم الدين : آثاره المستدل بها عليه ،

« و نظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك و تقام المعطّلة من حدودك » نقل نصر ابن مزاحم في كتابه ( وقعة صفين ) عن حبة العرني : أنّه لما نزل علي عليه السلام في طريق صفّين بمكان يقال له بليخ ، نزل راهب من صومعته فقال له عليه السلام إنّ عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه عيسى بن مريم عليه السلام ، أعرضه عليك ؟ قال عليه السلام : نعم إلى أن قال فيه فإذا توفّى اللّه نبيّهم صلّى اللّه عليه و آله اختلفت امّته ثمّ اجتمعت ، فلبثت بذلك ما شاء اللّه ، ثمّ اختلفت فيمرّ رجل من أمّته بشاطئ هذا الفرات ، يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، و يقضي بالحقّ ، و لا يرتشي في الحكم ، الدّنيا أهون عليه من الرّماد في يوم عصفت الريح ، و الموت أهون عليه من شرب الماء على الظمأ ، يخاف اللّه في السرّ ، و ينصح له في العلانية ، و لا يخاف في اللّه لومة لائم ١ .

و في ( تاريخ الطبري ) عن ناجية القرشي عن عمّه يزيد بن عدي قال : رأيت عليّا عليه السلام خارجا من همدان ، فرأى فئتين يقتتلان ففرّق بينهما ثم مضى فسمع صوتا « يا غوثا باللّه » ، فخرج يحضر نحوه حتى سمع خفق نعله و هو يقول : أتاك الغوث ، فإذا رجل يلازم رجلا فقال له عليه السلام : بعت هذا ثوبا بتسعة دراهم و شرطت عليه أن لا يعطيني مغموزا و لا مقطوعا و كان شرطهم يومئذ فأتيته بهذه الدراهم ليبدلها لي فأبى فلزمته ، فلطمني فقال له : ابدلها له ( ففعل ) ثمّ قال عليه السلام : بيّنتك على اللطمة ؟ فأتاه بالبيّنة فأقعده ، ثم قال : دونك فاقتص فقال : إنّي قد عفوت ، ثم ضرب الرجل تسع

ــــــــــــــــــ

( ١ ) وقعة صفين : ١٤٧ .

٤٥٠

درّات و قال : هذا حقّ السلطان .

و رواه في إسناد آخر عنه عن أبيه ، و فيه : اشترى منّي شاة و قد شرطت عليه ألاّ يعطيني مغموزا و لا محذقا فأعطاني درهما مغموزا ، فرددته فلطمني إلى أن قال أو أعفو . قال : ذاك إليك ، فلمّا جاز الرجل قال عليه السلام : يا معشر المسلمين خذوه فأخذوه ، فحمل على ظهر رجل كما يحمل صبيان الكتاب ثم ضربه خمس عشرة درّة و قال : هذا نكال لما انتهكت من حرمته ١ .

« اللهمّ إنّي أوّل من أناب » أي : أقبل إلى اللّه « و سمع » دعوة النبي صلّى اللّه عليه و آله « و أجاب » و في ( الإرشاد ) قال عليه السلام : أخبركم بما يكون قبل أن يكون ، لتكونوا منه على حذر ، و لتنذروا به من اتعظ و اعتبر ، كأنّي بكم تقولون إنّ عليّا يكذب ، كما قالت قريش لنبيّها و سيّدها نبي الرحمة ، فيا ويلكم أفعلى من أكذب ، أعلى اللّه ،

فأنا أوّل من عبده و وحده ، أم على رسول اللّه فأنا أوّل من آمن به و صدقه و نصره الخبر ٢ .

و في ( تاريخ الطبري ) : لما نزلت و انذر عشيرتك الأقربين ٣ جمع النبي صلّى اللّه عليه و آله بني عبد المطلب و قال لهم : إنّي و اللّه ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة ، و قد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم ؟ قال علي عليه السلام : فأحجم القوم عنها جميعا و قلت :

و إنّي لأحدثهم سنّا ، و أرمصهم عينا ، و أعظمهم بطنا ، و أحمشهم ساقا أنا أكون وزيرك عليه ، فأخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله برقبتي ثم قال : إنّ هذا أخي ، و وصيي ،

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ١٢٠ ، سنة ٤٠ .

( ٢ ) الإرشاد : ١٤٨ .

( ٣ ) الشعراء : ٢١٤ .

٤٥١
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و خليفتي فيكم ، فاسمعوا له و أطيعوا ، فقام القوم يضحكون ، و يقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع ١ .

« لم يسبقني إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالصلاة » عن الصادق عليه السلام : أوّل جماعة كانت ، أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله كان يصلّي و أمير المؤمنين عليه السلام معه ، إذ مرّ أبو طالب به و جعفر معه قال : يا بني صل جناح ابن عمّك ، فلمّا أحسّ النبي صلّى اللّه عليه و آله تقدّمهما و انصرف أبو طالب مسرورا و هو يقول :

إنّ عليّا و جعفرا ثقتي

عند ملمّ الزمان و الكرب ٢

١١

الكتاب ( ٧٠ ) و من كتاب له عليه السلام إلى سهل بن حنيف الأنصاريّ و هو عامله على المدينة في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية :

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى ؟ مُعَاوِيَةَ ؟ فَلاَ تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ وَ يَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ فَكَفَى لَهُمْ غَيّاً وَ لَكَ مِنْهُمْ شَافِياً فِرَارُهُمْ مِنَ اَلْهُدَى وَ اَلْحَقِّ وَ إِيضَاعُهُمْ إِلَى اَلْعَمَى وَ اَلْجَهْلِ فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا وَ مُهْطِعُونَ إِلَيْهَا وَ قَدْ عَرَفُوا اَلْعَدْلَ وَ رَأَوْهُ وَ سَمِعُوهُ وَ وَعَوْهُ وَ عَلِمُوا أَنَّ اَلنَّاسَ عِنْدَنَا فِي اَلْحَقِّ أُسْوَةٌ فَهَرَبُوا إِلَى اَلْأَثَرَةِ فَبُعْداً لَهُمْ وَ سُحْقاً إِنَّهُمْ وَ اَللَّهِ لَمْ يَنْفِرُوا مِنْ جَوْرٍ وَ لَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ وَ إِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هَذَا اَلْأَمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اَللَّهُ لَنَا صَعْبَهُ وَ يُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ إِنْ شَاءَ اَللَّهُ وَ اَلسَّلاَمُ أقول : و رواه اليعقوبي في ( تأريخه ) مع اختلاف فقال : و كتب علي عليه السلام

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٦٣ .

( ٢ ) رواه السروي في مناقبه ٢ : ١٩ .

٤٥٢

إلى سهل ، و هو على المدينة : « أما بعد فقد بلغني أنّ رجالا من أهل المدينة خرجوا إلى معاوية ، فمن أدركته فامنعه ، و من فاتك فلا تأس عليه ، فبعدا لهم ،

فسوف يلقون غيّا ، أما لو بعثرت القبور و اجتمعت الخصوم ، لقد بدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون ، و قد جاءني رسولك يسألني الاذن ، فأقبل عفا اللّه عنّا و عنك و لا تذر خللا إن شاء اللّه ١ .

قول المصنف : « و من كتاب له عليه السلام إلى سهل بن حنيف الأنصاري » روى الشيخ أنّ سهلا كان بدريا ، أحديا ، عقبيا ، نقيبا ٢ .

و روى الكليني ، أنّ سهلا لمّا توفي صلّى عليه السلام عليه خمس صلوات ، كلمّا أدركه النّاس و قالوا : لم ندرك الصلاة على سهل ، يضعه فيكبر عليه خمسا ٣ .

و روى أبو عمر في ( استيعابه ) : أنّ سهلا ممّن ثبت مع النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم أحد ٤ .

و روى الجزري في ( اسده ) : أنّ سهلا ممّن شهد على سماعه من النبي صلّى اللّه عليه و آله قوله في علي عليه السلام « من كنت مولاه فعليّ مولاه » لما أنشد على النّاس في الرحبة ذلك رواه في عبد الرحمن عبد ربّ ٥ .

« و هو عامله عليه السلام على المدينة » و روى الدينوري في ( طواله ) : أنّ عليّا عليه السلام لمّا بايعه النّاس استعمل عمّاله ، و استعمل سهلا على الشام ، فلمّا انتهى إلى تبوك و هي تخوم أرض الشام استقبله خيل لمعاوية فردّوه ، فانصرف إلى علي فعلم عند ذلك أن معاوية قد خالف .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٣ .

( ٢ ) رواه شيخ الطوسي في التهذيب ٣ : ٣١٨ ح ١١ .

( ٣ ) الكافي ٣ : ١٨٦ ح ٣ .

( ٤ ) الاستيعاب ٢ : ٩٢ .

( ٥ ) أسد الغابة ٣ : ٣٠٧ .

٤٥٣

« في معنى » أي : مقصد « قوم من أهلها » أي : أهل المدينة « لحقوا بمعاوية » و روى في ابن قتيبة ( تأريخه ) : أنّه عليه السلام لمّا شخص من المدينة إلى البصرة كتب عقيل إليه من مكة ، أنّه رأى ابن أبي سرح في نحو من أربعين راكبا من أبناء الطلقاء من بني اميّة يلحقون بمعاوية يريدون إطفاء نور اللّه ١ .

قوله عليه السلام : « أما بعد فقد بلغني أنّ رجالا ممّن قبلك » و كانوا في ناحيتك « يتسلّلون » أي : يخرجون خفية لا مطلق الخروج ، كما قال ( الصحاح ) ٢ « إلى معاوية ، فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ، و يذهب عنك من مددهم » قال تعالى :

فلا تأس على القوم الكافرين ٣ .

« فكفى لهم غيّا و لك منهم شافيا فرارهم من الهدى و الحقّ » قال تعالى : و لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنّهم لن يضرّوا اللّه شيئا ٤ .

« و إيضاعهم » أي : اسراعهم « إلى العمى و الجهل ، و إنّما هم أهل دنيا » و في نسخة ( ابن ميثم ) « الدنيا » « مقبلون عليها و مهطعون » أي : مسرعون « إليها و قد عرفوا العدل و رأوه و سمعوه و وعوه » أي : استمعوه .

و جاء في ( تأريخ الخلفاء ) بعد ذكر خطبته عليه السلام في استيلاء بني اميّة عليهم بعده بتخاذلهم ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال : إنّ أمير المؤمنين أكرمه اللّه قد أسمع من كانت له أذن واعية و قلب حفيظ ، أن اللّه قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حقّ قبولها حيث نزّل بين أظهركم ابن عم رسوله صلّى اللّه عليه و آله و خير المسلمين و أفضلهم و سيّدهم بعده ، يفقهكم في الدين و يدعوكم إلى جهاد المحلّين ، فو اللّه لكأنّكم صمّ لا تسمعون ، و قلوبكم غلف مطبوع عليها

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الإمامة و السياسة ١ : ٥٥ .

( ٢ ) صحاح اللغة ٥ : ٧٣١ ، مادة ( سلّ ) .

( ٣ ) المائدة : ٦٨ .

( ٤ ) آل عمران : ١٧٦ .

٤٥٤

فلا تستجيبون ، عباد اللّه أليس إنّما عهدكم بالجور و العدوان أمس ، و قد شمل العباد و شاع في الإسلام فذو حقّ محروم ، و مشتوم عرضه ، و مضروب ظهره ، و ملطوم وجهه ، و موطوء بطنه ، و ملقى بالعراء ، فلمّا جاءكم أمير المؤمنين عليه السلام صدع بالحق ، و نشر بالعدل ، و عمل بالكتاب ، فاشكروا نعمة اللّه عليكم و لا تتولّوا مجرمين ، و لا تكونوا كالذين قالوا سمعنا و هم لا يسمعون ١ .

« و علموا أن النّاس عندنا في الحقّ اسوة » أي : متساوون « فهربوا إلى الأثرة » أي : الاستبداد « فبعدا لهم و سحقا » أي : دقّا كاملا من « سحق الدواء » .

« إنّهم و اللّه لم ينفروا » أي : لم يهربوا « من جور و لم يلحقوا بعدل » و إنّما في طبيعة النّاس الجور ، فيحبّون الجائرين ، و النفرة من الحقّ ، فيعرضون عن المحقّين .

« و إنّا لنطمع في هذا الأمر أن يذلّل اللّه لنا صعبه » ، و في نسخة ( ابن ميثم ) « أصعبه » ٢ « و يسهل لنا حزنه » الحزن بالفتح فالسكون ، ما غلظ من الأرض في قبال السهل ، و في نسخة ( ابن ميثم ) « أحزنه » ٣ « إن شاء اللّه ، و السلام » و زاد في ( ابن أبي الحديد ) « عليك و رحمة اللّه و بركاته » ٤ .

١٢

الكتاب ( ٤٥ ) و من كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاريّ و هو عامله على البصرة و قد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الإمامة و السياسة ١ : ١٥٢ .

( ٢ ) في النسخة المطبوعة من شرح ابن ميثم ٥ : ٢٢٦ ، نحو المصرية .

( ٣ ) المصدر السابق .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٥٢ .

٤٥٥

أَمَّا بَعْدُ يَا ؟ اِبْنَ حُنَيْفٍ ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ ؟ اَلْبَصْرَةِ ؟ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ اَلْأَلْوَانُ وَ تُنْقَلُ إِلَيْكَ اَلْجِفَانُ وَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَ غَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا اَلْمَقْضَمِ فَمَا اِشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ وَ مَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ أَلاَ وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَ يَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلاَ وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اِكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلاَ وَ إِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اِجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَ لاَ اِدَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَ لاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَ لاَ حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَ لاَ أَخَذْتُ مِنْهُ إِلاَّ كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ وَ لَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَ أَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ إلى أن قال :

وَ إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ اَلْخَوْفِ اَلْأَكْبَرِ وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ اَلْمَزْلَقِ وَ لَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ اَلطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا اَلْعَسَلِ وَ لُبَابِ هَذَا اَلْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا اَلْقَزِّ وَ لَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ اَلْأَطْعِمَةِ وَ لَعَلَّ ؟ بِالْحِجَازِ ؟ أَوْ ؟ اَلْيَمَامَةِ ؟ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي اَلْقُرْصِ وَ لاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَ أَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ اَلْقَائِلُ

وَ حَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ

وَ حَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى اَلْقِدِّ

أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا ؟ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ ؟ وَ لاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ اَلدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ اَلْعَيْشِ فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ اَلطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ اَلْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ اَلْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً

٤٥٦

أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ اَلضَّلاَلَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ اَلْمَتَاهَةِ ألى أن قال : فَاتَّقِ اَللَّهَ يَا ؟ اِبْنَ حُنَيْفٍ ؟ وَ لْتَكْفُكَ أَقْرَاصُكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلنَّارِ خَلاَصُكَ أقول : و عن ( روضة الفتال ) و ( مناقب السروي ) و ( خرائج الراوندي ) روايته ١ .

قول المصنف : « و من كتاب له عليه السلام » و غرضه من هذا الكتاب التنبيه على نكتتين مهمّتين : الاولى : التجنب عمّا لا يكون للّه ، و إليه الإشارة بقوله عليه السلام فيه « ما ظننت أنّك تجيب » . و الثانية : التجنّب عن الحرام بل المشتبه ، و إليه الإشارة بقوله عليه السلام « فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم » ، فبرعايتهما قوام الدين ،

و بالاخلال بهما تحصل مفاسد كثيرة بيقين .

« إلى عثمان بن حنيف » بالضم « الأنصاري » قال ابن أبي الحديد : هو ابن حنيف بن واهب بن العكم بن ثعلبة بن الحارث ٢ . قلت : بل « بن عكيم » كما في ( ذيل الطبري ) و في ( الاستيعاب ) ٣ كما أن الظاهر « بن ثعلبة بن عمرو بن الحرث » كما يظهر من الأول في أخيه سهل و ان قال فيه « بن ثعلبة بن الحرث » .

« و هو » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « و كان » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) ٤ « عامله على البصرة » . في ( المروج ) : لما أتى طلحة و الزبير إلى البصرة مانعهم عثمان بن حنيف و جرى قتال ، ثم إنّهم اصطلحوا على كفّ الحرب إلى قدوم علي عليه السلام ، فلما كان في بعض

ــــــــــــــــــ

( ١ ) روى الفتال في روضة الواعظين ١ : ١٢٧ . و السروي في مناقبه ٢ : ١٠١ ، و الراوندي في الخرائج و في البحار ٤٠ : ٣١٨ ح ٢ . بعضه بلفظ آخر .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٥ .

( ٣ ) منتخب ذيل المذيل : ٣٧ و ٦٧ ، و الاستيعاب ٢ : ٩٢ .

( ٤ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٥ ، لكن في شرح ابن ميثم ٥ : ٩٨ « و هو » .

٤٥٧

الليالي بيّتوه فأسروه و ضربوه و نتفوا لحيته ، ثم إنّهم خافوا على مخلّفيهم بالمدينة من أخيه سهل فخلّوا عنه ١ .

« و قد بلغه أنّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها » و قالوا : من شهد الولائم لقي الألائم .

قوله عليه السلام « أما بعد يا ابن حنيف » و في الكشّي عن الفضل بن شاذان أنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام ٢ .

« فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة » قال ابن أبي الحديد أي : من شبابها أو من أسخيائهم ٣ . قلت : بل المراد به الأول مريدا به لازمه ، و هو الجهل ، كأنّه قيل من جهالها بقرينة كونه عليه السلام في مقام ذمّ إجابته .

« دعاك إلى مأدبة » بضم الدال طعام يدعى النّاس إليه ، و جمعها : المآدب قال الشاعر :

كأنّ قلوب الطير في قعر عشّها

نوى القسب ملقى عند بعض المآدب ٤

« فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان » أي : ألوان الطعام « و تنقل إليك الجفان » بالكسر جمع الجفنة . قال ابن أبي الحديد : و يروى « و كثرت عليك الجفان فكرعت و أكلت أكل ذئب نهم أو ضبع قرم » ٥ .

« و ما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم » أي : فقيرهم « مجفو » فلا يدعونه « و غنيّهم مدعو » و من كان كذلك ممّن يفرّق بين الغني و العائل ، و لا يريد

ــــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٢ : ٣٥٧ و ٣٥٨ .

( ٢ ) اختيار معرفة الرجال : ٣٨ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٦ .

( ٤ ) أورده لسان العرب ١ : ٢٠٦ ، مادة ( أدب ) .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٥ .

٤٥٨

بإطعامه وجهه تعالى فهو مذموم عنده تعالى .

فعن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : من أطعم طعاما رياءا و سمعة ، أطعمه اللّه مثله من صديد جهنم ، و جعل ذلك الطعام نارا في بطنه حتّى يقضي بين النّاس ١ .

و كذلك كلّ عمل أريد به غير اللّه تعالى ، فعن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : من بنى بنيانا رياءا و سمعة حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين ثمّ يطوّقه نارا توقد في عنقه ثمّ يرمى به في النار ٢ .

و عنهم عليهم السلام : من نكح امرأة حلالا بمال حلال غير أنّه أراد بها فخرا أو رياءا لم يزده اللّه بذلك إلاّ ذلاّ و هوانا ، و أقامه اللّه بقدر ما استمتع منها على شفير جهنم ثم يهوى فيها سبعين خريفا ٣ .

كما أن التفريق بين الغني و العائل في الإطعام ملوم عند الأحرار ، و في بخلاء الجاحظ أن صاحب المأدبة إذا جاء رسوله و القوم في أنديتهم فقال :

أجيبوا إلى طعام فلان فجعلهم جفلة واحدة و هي الجفالة فذلك هو المحدود ،

و إذا انتقر فقال : قم أنت يا فلان ، و قم أنت يا فلان فدعا بعضا و ترك بعضا فقد انتقر ، قال الهذلي :

و ليلة يصطلي بالفرث جازرها

يخص بالنقرى مثرين داعيها

و قال بعضهم :

آثر بالجدي و بالمائدة

من كان يرجو عنده الفائده

و قال طرفة :

نحن في المشتاة ندعو الجفلى

لا ترى الآدب فينا ينتقر ٤

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الصدوق في عقاب الأعمال : ٣٣٨ .

( ٢ ) أخرجه الصدوق في عقاب الأعمال : ٣٣١ .

( ٣ ) أخرجه الصدوق في عقاب الأعمال : ٣٣٣ .

( ٤ ) البخلاء : ٣٣٦ .

٤٥٩

و لما غزا بسطام بن قيس الشيباني مالك بن المتفق الضبي ، و أثبته عاصم بن خليفة الضبي ، شدّ عليه فطعنه ، و هو يقول : هذا و في الحفلة لا يدعوني ، كأنّه حقد عليه حين لم يدعه .

كما أن الإجابة إنّما تحسن إذا كان الداعي مؤمنا ، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : لو أنّ مؤمنا دعاني إلى طعام ذراع شاة لأجبته و كان ذلك من الدّين ، و لو أن مشركا أو منافقا دعاني إلى جزور ما أجبته و كان ذلك من الدّين ١ .

و في وصايا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأبي ذر : أطعم طعامك من تحبّه في اللّه ، و كل طعام من يحبّك في اللّه ٢ .

و عنهم عليهم السلام : لو دعي صائم ندب ، كان ثواب إجابة أخيه المؤمن أفضل من صومه بمراتب ، بل لو كان صوم فرض له عنه مندوحة ، فالفضل بالإجابة ٣ .

روى الجزري في إبراهيم بن عبيد أنّ أبا سعيد الخدري صنع طعاما فدعا النبي و أصحابه ، فقال رجل منهم : إنّي صائم . فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : تكلّف لك أخوك و صنع طعاما فأطعم و صم يوما مكانه ٤ .

و كان عليه السلام يجيب المؤمنين ، و في الخبر : إنّ حارث الأعور قال له عليه السلام :

أحبّ أن تكرمني بأن تأكل عندي ، فقال عليه السلام : على أن لا تتكلّف لي شيئا ،

فدخل عليه السلام بيته و أتاه الحارث بكسر ، فجعل عليه السلام يأكل ، فقال الحارث : معي دراهم و كانت له دراهم في كمه فإن أذنت لي اشتريت لك شيئا غيرها .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الكليني في الكافي ٦ : ٢٧٤ ح ١ ، و أخرج صدره البرقي في المحاسن : ٤١١ ح ١٤٢ .

( ٢ ) أخرجه أبو جعفر الطوسي في أماليه ٢ : ١٤٨ ، المجلس ١ ، و الطبرسي في مكارم الأخلاق : ٤٦٦ .

( ٣ ) روى أحاديث بهذا المضمون الحر العاملي في الوسائل ١٦ : ٥٠١ ، و المحدث النوري في المستدرك ٣ : ٩٥ .

( ٤ ) اسد الغابة ١ : ٤٣ .

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601