بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 601

  • البداية
  • السابق
  • 601 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 123051 / تحميل: 6201
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

يسبقوه إلى أهله، فجعل يقول: يا صباحاه يا صباحاه اوتيتم اوتيتم(١) .

هكذا بدأت الدعوة الإسلامية، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطو خطوات قصيرة، يجابه ضوضاء الالحاد بحكمه وعظاته حتى دخل في الإسلام بعض الشخصيات البارزة ممن كانت لهم مكانة مرموقة بين الناس، وانجذبت إليه قلوب كثير من الشبان وأصبحت أفئدتهم تهوى إليه، غير أنّ الجو المفعم بالاحن والضغائن عرقل خطا دعوته، وتفاقمت جرائم قريش نحوه، فأجمعوا أمرهم على أن يخنقوا نداءه، بإنهاء حياته وإطفاء نوره، حيث اجتمع سادتهم في دار الندوة، وأجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً، ويسلّموا له سيفاً صارماً، وأوصوا هؤلاء الشباب بأن يضربوه ضربة رجل واحد، حتى يموت، فيستريحوا منه، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعاً، ولا يقدر بنو هاشم، على حربهم.

ولكنّ الله ردّ كيدهم، وصدّهم عن ذلك، وخيّب حيلتهم، وأخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المكيدة الداهمة، فغادر مكة متوجهاً إلى « يثرب » حتى دخلها، فاجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج، وبايعوه، ووعدوه بالنصر، والمؤازرة والحراسة.

والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن غادر مكة، وترك قومه، إلّا أنّ قومه لم يتركوه، بل أجّجوا نار الشحناء عليه، ودارت بينهم وبين الرسول حروب دامية، وحملات طاحنة، وبذلت قريش آخر ما في وسعها، ورمت كل ما في كنانتها، وبالغت في تقويض الإسلام، وهدم بنائه، إلى أن دخل العام السادس، من الهجرة، فتعاهد الفريقان في أرض الحديبية على هدنة تدوم عشر سنوات، بشروط خاصة.

هذا الصلح الذي تصالح به المسلمون في الحديبية، انقلب الى فتح مبين للإسلام، فانتهز الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الفرصة لنشر دعوته في البلاد البعيدة، فبعث سفراءه وفي أيدي كل واحد كتاب خاص إلى قيصر الروم، وكسرى فارس، وعظيم القبط، وملك الحبشة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام، وهوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة ،

__________________

(١) السيرة الحلبية، ج ١، ص ٣٢١ المقصود: هوجمتم من قبل العدو.

٤١

بل إلى رؤساء العرب، وشيوخ القبائل، والاساقفة، والمرازبة، والعمال، يدعوهم إلى دين الإسلام، الذي هو دين السلام، ورسالته من الله وما اُنزل إليه من ربّه.

وهذه المكاتيب أول دليل على أنّ رسالته، عالمية لا تحدد بحد، بل تجعل الأرض كلها مجالاً لإقامة هذا الدين، ودونك نماذج ممّا ورد في تلكم الرسائل :

١. كتب إلى كسرى ملك فارس :

« بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى أدعوك بدعاية الله فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة، لاُنذر من كان حيّاً، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس »(١) .

٢. وكتبصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قيصر ملك الروم :

« بسم الله الرحمن الرحيم، إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الاريسيين »(٢) .

وما ذكرناه نماذج من رسائله، وكتاباته الإبلاغية، وفيه وفي غيره مصارحة شديدة بأنّه رسول الله إلى العرب والعجم، وإلى الناس كلهم، من غير فرق بين اللون والجنس، والعنصر والوطن، ويمتد شعاع رسالته بامتداد الحضارة، ووجود الانسان، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يكافح كل مبدأ يضاد دينه، وكل رساله تغاير رسالته، وقد جرى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه طيلة حياته الرسالية، حتى التحق بالرفيق الأعلى.

يقول السير توماس ارنولد: « انّ هذه الكتب قد بدت في نظر من اُرسلت إليهم ضرباً من الخرق، فقد برهنت الأيام على أنّها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء وتدل هذه الكتب دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام ».

__________________

(١) تاريخ الطبري، ج ٢، ص ٢٩٥، تاريخ اليعقوبي، ج ٢، ص ٦١ وغيرهما.

(٢) السيره الحلبية، ج ٢، ص ٢٧٥، مسند أحمد، ج ١، ص ٢٦٣ وغيرهما.

٤٢

فقد قال الله تعالى في سورة ص ٨٧ ـ ٨٨:( إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ *وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) .

وفي سورة يس ٦٩ ـ ٧٠:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ *لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) .

وفي سورة الفرقان ١:( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .

وقال سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) سورة سبأ: ٢٨.

وقال سبحانه:( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) . سورة الأعراف ١٥٨.

وقال سبحانه:( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) . سورة آل عمران: ٨٥.

وقال سبحانه:( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) . سورة النساء: ١٢٥.

وقال سبحانه:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ *اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَٰهَ إلّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إلّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) . التوبة: ٢٩ ـ ٣٣(١) .

__________________

(١) الدعوة إلى الإسلام، ص ٣٤.

٤٣

تأثير تلكم الكتب :

وممّا يدل على أنّ هذه الكتب لم تصدر عن حماسة جوفاء، أنّه قد كان لها أثر بديع في أكثر هذه الأوساط، إذ تجاوبت معها شعور كثير منهم، فنبهتهم من رقدتهم، وانهضتهم من كبوتهم، فأصبحوا متفكّرين من ملبّ لدعوته، وخاضع لرسالته، ومؤمن بما أتاه، إلى معظّم لرسله، ومجيز لهم، ومكبّر إيّاه بإرسال التحف الثمينة، ودونك صورة مصغّرة ممّا أثارته تلكم الكتب في هذه البيئات، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أُموراً كثيرة يطول بنا المقام بذكرها :

قال قيصر لأخيه ـ حين أمره برمي الكتاب ـ: أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، وقال لأبي سفيان: إن كان ما تقول حقّاً فإنّه نبي، ليبلغنّ ملكه ما تحتي قدمي.

وخرج ضغاطر أسقف الروم بعد قراءة الكتاب، إلى الكنيسة وقال في حشد من الناس: يا معشر الروم أنّه قد جاءنا كتاب أحمد، يدعونا إلى الله وأنّي أشهد أن لا إلهَ إلّا الله وأنّ أحمد رسول الله.

وقال المقوقس: إنّي قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده ساحراً ضالاّ، ولا كاهناً كذّاباً.

وكتب فروة عامل قيصر بعمان إلى رسول الله كتاباً، أظهر فيه إسلامه، فلمّا اطّلع عليه قيصر أخذه واستتابه، فأبى فأمر بقتله، فقال حينما يقتل :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني

سلم لربّي أعظمي وبناني

وكتب هوذة بن علي ملك اليمامة إلى رسول الله: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

ولبّي المنذر بن ساوى ملك البحرين دعوة الرسول وأظهر إسلامه.

وأجابه ملوك حمير، وأساقفة نجران، ولبّاه عمّال كسرى باليمن، واقيال

٤٤

حضرموت، وملك ايلة ويهود مقنا بالإسلام، أو بإعطاء الجزية.

وكتب النجاشي ملك الحبشة، كتابه المعروف، وأظهر إسلامه إلى درجة صلّى عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما بلغه موته(١) .

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، من تأثير دعوته العالمية ورسالته العامّة.

نعم قد شذ منهم كسرى ـ ومن لفّ لفه ـ وهو ذلك الملك الذي ورث السلطة والحكم عن أجداده من آل ساسان، فأبى أن يكون تابعاً للعرب، وخشى من هذا الدين على شخصه وملكه.

ولأجل ذلك لا تعجب إذا ثارت ثائرة كسرى، فمزّق كتاب الرسول، وأرسل إلى باذان، عامله باليمن، وكتب إليه: « ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين فليأتياني به »(٢) .

هذه صورة اجمالية من بدء دعوته إلى ختامها، أتينا بها بصورة مصغّرة، ليقف القارئ على أنّ دعوته لم تكن مقصورة على بلد خاص، أو شعب خاص بل كانت عالمية غير محدودة، وأنّ مرماه كان هو القضاء على جميع النزعات الاقليمية والمحلية والأديان السالفة وتذويبها في اطار رسالته العالمية الواسعة النطاق، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصرّح بذلك في بدء دعوته، وأثنائها ومختتم أمره.

النصوص القرآنية في عالمية رسالته :

هلم معنا نتلو عليك نصوص القرآن الدالّة على أنّ رسالته، رسالة عالمية وأنّ دعوته لا تختص بإقليم خاص، أو اُمّة معيّنة، وإنّ مرماه هو إصلاح المجتمع البشري على وجه الاطلاق، ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه :

__________________

(١) راجع لمعرفة نصوص ما دار بينهم وبين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كتاب « مكاتيب الرسول ».

(٢) الكامل، ج ٢، ص ٨١، السيرة الحلبية، ج ٣، ص ٢٧٨، إلى غير ذلك.

٤٥

الأوّل: إنّ كثيراً من الآيات تصرّح بأنّ رسالته عالمية، وأنّه رسول الله إلى الناس جميعاً، وأنّ الله أرسله رحمة للعالمين، وأنّه بشير ونذير للناس كافة، وأنّه ينذر بقرآنه كل من بلغه كتابه وهتافه، من غير فرق بين شخص وشخص، أو عنصر وآخر، ودونك بعض النصوص من هذا القسم :

١.( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف ـ ١٥٨ ).

٢.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ ـ ٢٨ ).

٣.( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ) ( النساء / ٧٩ ).

٤.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء ـ ١٠٧ ).

٥.( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان ـ ١ ).

٦.( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

ـ أي كل من بلغه القرآن، ووصلت إليه هدايته في أقطار الأرض ـ.

٧.( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( الصف ـ ٩ ).

٨.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) ( النساء ـ ١٧٠ ).

٩.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

١٠.( هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران ـ ١٣٨ ).

وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم ننقلها، صريحة في أنّ هتاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يختص باُمّة دون اُمّة، وأنّه بعث إلى الناس كافة مبشّراً ومنذراً لهم جميعاً.

الثاني: إنّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء، وهذا دليل

٤٦

واضح على أنّ هتافاته وتوجيهاته تعم الناس كافة، ودونك نماذج من هذا القسم.

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة ـ ٢١ ).

٢.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ( البقرة ـ ١٦٨ ) إلى غير ذلك

فترى أنّه يخاطب الناس، ويقول: يا أيّها الناس تصريحاً منه على أنّ رسالته السماوية إلى الناس كلهم، لا إلى صنف خاص منهم.

فلو كان الإسلام ديناً اقليمياً، ورسالته طائفية، فلماذا تأتي هتافاته بلفظ:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ؟!.

فقد تكرر هذا النداء في الكتاب ست عشرة مرة.

بل لماذا يخاطب أهل الكتاب ويناديهم بقوله( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) ؟ فقد ورد هذا الخطاب في الذكر الحكيم اثنتي عشرة مرة.

وربّما يستدل في المقام بالخطابات الواردة في القرآن موجهة إلى بني آدم لكن الاستدلال بها لا يخلو من الاشكال، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن ختم الدين والرسالة(١) .

الثالث: إنّ القرآن ربّما يأخذ العنوان العام موضوعاً لكثير من أحكامه، من غير تقييد بلون، أو عنصر، أو شعب أرض خاصة، وهذا يكشف عن أنّه بعث إلى إصلاح المجتمع البشري في مشارق الأرض ومغاربها، وأنّ الرسالة التي اُلقيت على عاتقه لا تحدد بحد، ودونك نماذج من هذا القسم :

١.( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ( آل عمران ـ ٩٧ ).

فقد أوجب حج البيت على الناس إذا استطاعوا إليه، عرباً كانوا، أم غير عرب ،

__________________

(١) لاحظ الفصل الثاني ـ في هذا الكتاب ـ ص ١١٣.

٤٧

فلم يقل: لله على الاُمّة العربية ـ مثلاً ـ حج بيته.

٢.( وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ( الحج ـ ٢٥ ).

٣.( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( لقمان ـ ٦ ). فالجملة الخبرية بمعنى الانشاء وتحريم الاشتراء ولذا استدل الفقهاء بها على حرمة كسب المغنيّات تبعاً للسنّة(١) .

فذم سبحانه كل من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله كائناً من كان إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع: يقضي صريح القرآن بأنّ هدايته لا تختص بمجتمع خاص، بل تعم كل من تظلّه السماء، وتقلّه الأرض. ودونك بعضها :

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء: ١٧٤ ).

٢.( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ) ( البقرة ـ ١٨٥ ).

٣.( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الزمر: ٢٧ ).

٤.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

أليست هذه الآيات صريحة في أنّ القرآن نور وهدى للناس كلّهم، لا للعرب خاصة، ومع ذلك كيف يمكن أن نحمل رسالته على أنّها مختصة باُمّة دون اُمّة ؟! هذا ونجد سبحانه يقول:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الجمعة: ٣ ) وما المراد من ال‍:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) ـ أي من المؤمنين ـ ؟ أليس المراد كل من جاء بعد

__________________

(١) راجع المكاسب، ص ٣٨، للشيخ الأعظم الأنصاري.

٤٨

الصحابة إلى يوم القيامة من العرب والعجم ؟(١) فالآية دالة على عمومية الرسالة مضافاً إلى خاتميتها.

هذه جوانب تلقي ضوءاً على البحث، وتهدف إلى أمر واحد: وهو أنّ رسالته ذات نزعة عالمية، غير محدودة بحد، فلا يحدها قطر، ولا يقيّدها شيء آخر من ألوان التحديد والتقييد، نعم مبدأ البرهان في كل واحد منها يختلف مع ما في الآخر ـ كما يظهر ذلك بالإمعان والتدبّر ـ(٢) .

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر :

وهناك لون آخر من البحث يتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام، وبفكرته الكلية، عن الكون والحياة والإنسان، ونظرته الوسيعة الثاقبة في التقنين والتشريع وإن شئت فاجعله خامس الوجوه.

بيانه: أنّ الحقائق الراهنة التي جاء بها الصادع بالحق، في مختلف الأبواب والفصول، لا تستهدف سوى تبنّي الواقع، ولا تأخذ غيره دعامة، ولا تخضع لشرط من الشرائط الزمانية إلّا لنفس الأمر.

وإن شئت فقل: إنّ الإسلام لا يعتمد في أحكامه وتشريعاته وما يرجع إلى الانسان في معاشه ومعاده، إلّا على مقتضى الفطرة التي فطر عليها كلّ بني الإنسان والسائدة في كافة أفراده، في عامة أقطار الأرض جميعاً، وإذا كان الحكم والتشريع موضوعاً على طبق الفطرة الانسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فلا وجه

__________________

(١) مجمع البيان، ج ٥، ص ٢٨٤.

(٢) هذه الوجوه الأربعة تختلف في طريق البرهنة على المطلب، فقد استدل في الوجه الأوّل بتصريح القرآن على عموم رسالته، واعتمد في الثانية على شمولية هتافات القرآن وعمومية خطاباته في الفروع والاُصول، وفي ثالثها على أنّ القرآن كثيراً ما يتخذ العنوان العام لموضوع أحكامه، وفي رابعها على نص القرآن بأنّ هدايته وانذاره لا يختص بشعب خاص.

٤٩

لاختصاصه بإقليم دون إقليم، أو بشعب دون شعب.(١)

ولا يجد الباحث ـ مهما اُوتي من مقدرة علمية كبيرة ـ في ما جاء به نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على سعة نطاقه، وبحثه في شتى الجهات، ومختلف النقاط أىّ طابع إقليمي، أو صبغة طائفية، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معيّنة، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة.

هذا هو الإسلام وتعاليمه القيّمة ومعارفه الاعتقادية، وسننه التشريعية فأمعن فيها النظرة مرة بعد اُخرى، فهل تجد فيه ما يشير إلى كونه ديناً إقليماً خاص، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على خصوصيات بيئية، أو ظروف محلية، بحيث لو انقلبت تلكم الخصوصيات إلى غيرها، أصبحت السنن والطقوس المعتمد عليها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وصار النافع منها ضاراً، فهل تجد أيّها الباحث في ما جاء به الإسلام شيئاً من تلكم الامارات.

هلم معي نحاسب بعض ما جاء به الإسلام في مجالات العلم والعمل، ونضعها على طاولة الحساب، فنكون على بصيرة كاملة في هذا الموضوع: فقبل كل شيء، لاحظ كتاب الله العزيز، ومعجزة الإسلام الخالدة، فقد انبثق نوره منذ أربعة عشر قرناً، حين كانت البشرية تسبح في ظلام دامس مخيف، ضاعت فيه كرامة الانسان وحريته، وساد العداء والتنازع بين الناس، وكان نظام الغاب وحده، مفزعاً للناس وملجأ إليهم.

وفي تلك الظروف جاء القرآن نوراً يستضيء به العالم، ويعيد للانسان كرامته ومكانته وحريته، مؤسّساً لمجتمع قائم على أساس وطيد من العدالة الاجتماعية، سواء في ذلك انسان الجزيرة العربية أم غيرها.

هلم معي نستعرض تعاليمه، فهل نرى آية من آياته الباهرة، أو قانوناً من قوانينه، أو حكمة من حكمه ومعارفه، أو سننه من سنة، أو فريضة من فرائضه تنفع في

__________________

(١) سوف نرجع إليه في ختام البحث، ونجعله دليلاً مستقلاً على عمومية رسالته.

٥٠

مجتمع دون آخر ؟ تفيد في إقليم دون إقليم ؟ تبلغ بمجتمع خاص إلى قمّة الرقي والحضارة، وتسف بجماعة اُخرى إلى هوة الضلال والجهل ؟!

ليت شعري ماذا يريد القائل من كلمته القارصة، أو فريته الشانئة ؟: « الإسلام دين طائفي، أو مبدأ إصلاح إقليمي، لا يصلح لعامة المجتمعات، ولا يصلح لعامة القارات، ولا تسعد به الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها ».

ليت شعري ماذا يريد منها ؟ أيريد معارفه العليا في باب الصانع وصفاته، وما جاء في ذلك الباب من الحقائق الغيبية، والكنوز العلمية، التي لم تحم حولها فكرة انسان قبله، ولم توجد في زبر الاوّلين مثلها، أو شبهها.

فلو أراد ذلك، فتلك فرية بيّنة، إذ الإسلام قد أتى بفلسفة صحيحة وعرفان رصين وتوحيد خالص، فيه دواء المجتمع البشري في الأقطار كلها.

ترى ويرى كل من له إلمام بالإسلام أنّه كافح كل لون من ألوان الشرك، كافح عبدة الأصنام والأجرام السماوية، كافح كل تعلّق بغيره سبحانه، وتخضع لشيء دون الخالق، وأنقذ المجتمع البشري من مخالب الشرك، ومصائد الضلال، ونهاه عن عبادة حجر لا يعقل أو شجر لا يفهم، أو حيوان لا يدفع عن نفسه، أو انسان محتاج مثله، أو غيرها من الأرباب الكاذبة، فأعاد للانسان كرامته وحريته ومكانته المرموقة سواء في ذلك انسان الجزيرة أم غيره.

أيحسب هذا القائل أنّ ذلك التوحيد، وهذا العرفان مختصان بقوم دون قوم كيف ؟ فإذا كان النبي لا يستهدف سوى الواقع ولا يتبنّى غيره، وبعبارة صحيحة: إذا كان لا يوحى إليه سوى الحقيقة المجردة عن شوب كذب، فلا وجه لأن يختص باُمّة دون اُمّة.

ودونك سورة الحديد والآيات التي وقعت في صدرها، فاقرأها بإمعان وتدبّر فهل يعلق الشك بضميرك الحر، بأنّها تعاليم ومعارف تختص بمنطقة خاصة ولا تصلح للتطبيق في مناطق اُخرى، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العقائد والمعارف.

أم يريد أنّ أحكام الإسلام وتشريعاته في العبادات والمعاملات والأخلاق

٥١

وغيرها، قوانين إقليمية، لا تصلح إلّا لظروف خاصة، ولا تفيد إلّا في شبه الجزيرة العربية، ولا يسعد بها إلّا انسانها، دون اناس المناطق الاُخرى، إلّا أنّ تلك فرية بيّنة ليست فيها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، فهذه فروعه ودساتيره وفرائضه لا تجد فيها أثراً للطائفية أو أمارة للإقليمية.

ضع يدك على النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام في أبواب النكاح والزواج، وأحكام الأولاد والنشوز والطلاق والفرائض، وإصلاح حال اليتامى وإنفاذ الوصايا، والإصلاح بين الناس، وأداء الأمانة، وحسن السلوك معهم، والتعاون والاحسان، إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في النظام الاجتماعي للإسلام.

ضع يدك على النظام الأخلاقي الذي فاق به الإسلام، كافة الأنظمة الخلقية التي كانت قبله، أو تأسّست بعده، فأمر بالصدق وأداء الأمانة، والصبر والثبات وحسن الظن بالناس، والعفو والغفران والقرى والضيافة، والتواضع، والشكر والتوكل، والاخلاق في العمل إلى غير ذلك ممّا أمر به، أو ما نهى عنه كالبخل والاختيال، والبهتان والغضب، والاثرة، والحسد، والغش والبغي والخمر والميسر، والجبن والغيبة والكذب، والاستكبار والرياء، والعجب والتنابز بالألقاب والانتحار والغدر و .

ضع يدك على نظامه السياسي في باب الحكم والسياسة، وما أتى به في اصلاح نظام الحرب، ودفع مفاسدها، وقصرها على مافيه من الخير للبشر، وايثار السلم على الحرب، وعلى الأنظمة والقوانين التي جاء بها في أبواب العقود والمعاملات، فأوجب حفظ المال عن الضياع والاقتصاد فيه وجعل فيه حقوقاً مفروضة ومندوبة، وأحلّ البيع وحرّم الربا، ونهى عن الغش والتطفيف، إلى غير ذلك ممّا يجده المتعمّق في كتب الفقه والأحكام.

قل لي بربّك هل تجد في هذه الأنظمة، أو في ثنايا هذه الأبواب والأحكام حكماً أو أحكاماً فيها تفكير طائفي أو نزعة اقليمية ؟ وإن كنت في ريب فاقرأ الآيات التالية ومئات نظائرها، تجدها دواء المجتمع الانساني في الأقطار كلها :

٥٢

١.( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل ـ ٩٠ ). أليست هذه القوانين عماد الاصلاح، وسناد الفلاح في عامة القارات ؟

٢. هلاّ كان منه قوله سبحانه( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء ـ ٥٨ ).

وقد ندد الله باليهود لتجويزهم خيانة الاُميين، يعني العرب المشركين ومن ليس في دينهم، وقال:( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران ـ ٧٥ ).

وليس هذا إلّا لأنّ دينهم على زعمهم كان طائفياً، فالحرام عندهم هو خيانة يهودي ليهودي مثله لا غير، وأمّا الإسلام فلمّا كان ديناً عالمياً غير مختص بطائفة دون اُخرى، فحرّم الخيانة مطلقاً على المسلم والكافر، وذلك آية كونه عالمياً لا طائفياً ولا إقليمياً.

٣. أو ليس منه قوله سبحانه:( وَلْتَكُن منكُمْ اُمّة يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ ) ( آل عمران ـ ١٠٤ ).

وقد عرضنا هذه الآيات على سبيل التنويه، فليس معنى هذا، أنّ ما جاء به الإسلام في طريق إصلاح المجتمع، محصور في هذا النطاق، فإنّ في كثير من الآيات التي لم نأت بها تنويهاً بمختلف الأخلاق الفاضلة الإنسانية، والشخصية والاجتماعية من صدق، وعدل، وبر، وأمانة، وصلة رحم، ولين جانب، ووفاء عهد، ووعد، ورحمة للضعيف، ومساعدة للمحتاج، ونصرة للمظلوم، وصبر، ودعوة إلى الخير، وتواص بالحق، وعدم اللجاج فيه، والانفاق لله، والدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والتعاون على البر والتقوى، والرغبة في السلم.

كما احتوت آيات كثيرة تنديداً بمختلف الأخلاق السيئة والخصال المذمومة من

٥٣

كذب، وظلم، وبغي، واثم، وقتل نفس، وارتكاب فاحشة، وانتهاك عرض وافك وزور، وعربدة سكر، وإسراف وتبذير، وخيانة ونكث غدر، وخديعة، وقطع رحم، وأكل أموال الناس بالباطل، وجبن، وشح وأمر بمنكر وغلظة قلب، وفظاظة خلق، ورياء ومكابرة وانتقام باغ، وتناقض بين القول والعمل وغرور، وصد عن الحق، إلى غير ذلك من مساوئ الأخلاق ومحاسنها التي تجد نصوصها مبثوثة في القرآن الكريم. وتسهل عليك مراجعتها والاهتداء والتدبّر في معانيها إذا لا حظت كتاب « تفصيل آيات القرآن الكريم »(١) ، « والمعجم المفهرس »(٢) وغيرهما من الكتب والمعاجم.

هذا وقد عاشت الاُمّة الإسلامية بل الانسانية جمعاء(٣) في ظل هذه الدساتير ونظائرها الوافرة في أجيال متتابعة، وفي حقب من الزمان والمكان، فلو كانت مختصة بإقليم خاص، لأدّت إلى التناحر والاندحار في الأقاليم الاُخر، لا إلى الرقي والحضارة(٤) .

الدعوة إلى الفطرة، أساس الأحكام الإسلامية :

لقد بنى الإسلام أحكامه وتوجيهه في العلم والعمل على الفطرة الإنسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فدعا إلى التوحيد المطلق، وقرّر مبادئ العدالة والحرية والمواساة والاخاء بين الناس كافة والديمقراطية الحقة، ونشر العلم والحضارة

__________________

(١) تأليف المسيو جول لابوم، وقد وضع كتاباً باللغة الفرنسية، جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها، ووضع كلا منها في باب أو أبواب خاصة، حسب ما فهم منها، ولكنّه أخطأ في كثير من معانيها، فإنّه اكتفى في ترتيبه وتنسيقه بما فهمه من ظواهر الآيات حسب اللغة العربية وقواعدها، من دون أن يرجع إلى أسباب النزول، وسنّة النبي وسيرته والأئمّة من بعده.

(٢) تأليف محمد فؤاد عبد الباقي المصري.

(٣) اعترف به المستشرق غوستاف لوبون في آخر كتابه.

(٤) نعم كل اُمّة ركنت إلى الدعة والراحة، وحنت إلى تقليد عادات الأجانب في معترك الحياة، ونسيت مكانتها ورسالتها وقوانينها وأخذت بغيرها، رجعت إلى ورائها القهقرى وعلى هذا الأساس تعيش الاُمّة الإسلامية في هذا العصر في أنحاء العالم، فتراها متفرقة الكلمة ممزّقة، تأكلها حثالات الأرض.

٥٤

وقضى على الرذائل والمنكرات، والشهوات الجامحة، والتقاليد البالية، والخرافات الكاذبة، والرهبانية المبتدعة، وأمر بالفضائل والصدق في القول والوفاء بالعهد، والاجتناب عن العزوبة بنكاح الحرائر إلى غير ذلك من الوف الأحكام والتشريعات التي أشرنا إلى كثير منها وتعتبر بمجموعها دعائم الاصلاح في العالم كله، ولا تنازع الفطرة بل تطابقها ولا تتخلّف عنها قدر شعرة.

فإذا كانت الفطرة الإنسانية واحدة في الجميع، وكانت الأحكام الإسلامية مبنية عليها في جانب التشريع، فلا وجه لأن تختص بقوم دون قوم، وهذا بحث لطيف سوف نرجع إليه إن شاء الله عند البحث عن كون نبي الإسلام خاتم النبيين، ودينه خاتم الأديان وبه نجيب على الاشكال الدارج على ألسنة بعض المستهترين ممّن لا يؤمن بصريح القرآن في مسألة الخاتمية ويقول: « إنّ النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة محدودة، وحوادث الناس ومقاصدهم متجددة ومتغيّرة ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث المتجددة الطارئة » فارتقب حتى يأتيك الجواب والبيان.

الإسلام يكافح المبادئ الرجعية :

وأدل دليل على أنّ الإسلام رسالة عالمية، أنّه يكافح النزعات الاقليمية والطائفية ولا يفرق بين اللون والجنس والعنصر ولا يفضّل أحداً إلّا بالتقوى، ويزيّف كل مقياس سواه ويقول:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات ـ ١٣ ).

كفى له فخراً أنّه أوّل من حارب العصبية والنعرات الطائفية ودعا إلى الاخوة الانسانية، والزمالة البشرية، والانضواء تحت لواء واحد وهو لواء التوحيد المطلق.

أجل حارب العصبية، والنعرات الطائفية في ظل وحدات ثمان، وهو أوّل من أسّسها وأشاد بنيانها، أعني: وحدة الاُمّة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع، وحدة الاخوة الروحية، وحدة الجنسية الدولية، وحدة القضاء، بل وحدة اللغة

٥٥

الدينية(١) .

وقد بلغت بها الاُمّة الإسلامية في العصور السالفة المزدهرة، الذروة من المجد والعظمة، فأصبحت ساسة البلاد وحكّام العباد.

أو ليس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قائل تلكم الكلم الدرية التالية، القاضية على كل نعرة طائفية، والانتماء إلى فئة خاصة والاتجاه إلى نجاح شعب خاص، فكيف ترمى شريعته بالطائفية وانقاذ جماعة معينة دون غيرها ؟

١. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّها الناس إنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ألا إنّكم من آدم وآدم من طين، ألا إنّ خير عباد الله، عبد إتّقاه »(٢) .

٢. « ألا إنّ العربية ليست بأب والد، ولكنّها لسان ناطق، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه »(٣) .

٣. « إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا، مثل أسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى »(٤) .

٤. « إنّما الناس رجلان: مؤمن تقي، كريم على الله; وفاجر شقي، هيّن على الله »(٥) .

وللدكتور حسن إبراهيم حسن هنا كلمة قيّمة، يقول :

« ينكر بعض المؤرخين أنّ الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون ديناً عالمياً برغم هذه الآيات البيّنات ومن بينهم « وليم ميور » إذ يقول :

« إنّ فكرة عموم الرسالة جاءت فيما بعد، وأنّ هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنّه فكّر فيها ،

__________________

(١) كل ذلك دليل على عالمية تشريعه، وسعة نطاق رسالته، ويجد الباحث في الذكر الحكيم والأحاديث الإسلامية دلائل واضحة على كل واحدة من هذه الوحدات، فلا نقوم بذكرها لئلاّ يطول بنا المقام وقد بحثنا عنها في الجزء الثاني.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات: روضة الكافي، ص ٢٤٨، سيرة ابن هشام ج ٢، ص ٤١٢، بحار الأنوار، ج ٢١، ص ١٠٥، والشرح الحديدي، ج ١٧، ص ٢٨١، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.

٥٦

كان تفكيره تفكيراً غامضاً، فإنّ عالمه الّذي كان يفكّر فيه إنّما كان بلاد العرب كما أنّ هذا الدين الجديد لم يهيأ إلّا لها، وأنّ محمداً لم يوجّه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلّا للعرب دون غيرهم، وهكذا نرى أنّ نواة عالمية الإسلام قد غرست ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فاّنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج ».

وكذلك شك « كيتاني » في أن يكون النبي قد تخطّى بفكره حدود الجزيرة العربية ليدعو اُمم العالم في ذلك الوقت إلى هذا الدين.

ومن الغريب أن يشك « وليم ميور » في صحة دعوى عموم الرسالة، وأن يبني شكه هذا على أنّ محمداً ما كان يعرف غير الجزيرة، وأنّها كانت عالمه الذي لم يفكّر في سواه، وأنّ هذا الدين لم يهيأ إلّا لتلك البلاد، وأنّ محمداً منذ بعث إلى أن مات لم يوجّه دعوته إلّا للعرب دون غيرهم، فهل خفيت على ذلك المؤرّخ صلة قريش بدول ذلك العهد، وما أتاحته لها التجارة من دراية وخبرة بشؤون هذه الاُمم وأحوالهم، وأنّ محمداً بوجه خاص قد سافر غير مرة للتجارة إلى بلاد الشام، فقد سافر وهو صبي مع عمه « أبي طالب » في تجاراته حتى إذا بلغ خديجة ما بلغها عن خبرته وأمانته، ألقت بمالها بين يديه، فكان من مهارته وحذقه ما جعلها تعرض عليه الزواج منها، ثم ظل يشتغل بالتجارة حتى بعث، فبعد ذلك يمكن أن يقال عن محمد أنّه كان لا يعرف غير بلاد العرب وهو رجل عصامي لم يكسب مركزه الممتاز في مكّة قبيل البعثة إلّا من ذكاء عقله وكفاية مواهبه.

هل يستبعد على محمد الذي خرج من مكّة ناجياً بنفسه ونفس صاحبه أن يتخطفها الناس لائذاً بأهل المدينة الذين آووه ونصروه، ثم صبر وصابر حتى عاد إلى مكة بعد ثماني سنين وهو السيد الآمر فيها وفي الجزيرة، تحوم حول شخصه مائة ألف من القلوب أو تزيد، ومن ورائهم كثيرون من أرجاء الجزيرة العربية يدينون له بالطاعة يقدم عليه رؤساؤها وأكابرها هل يبعد على هذا الرجل أن يرنو بناظره إلى ما وراء الجزيرة ليبسط عليه سلطانه، إن كان من محبي السلطة والحكم أو ليفيض عليها من

٥٧

الذي غمر الجزيرة وملأها عدلاً وأمناً ودعة وحبّاً ؟

لو قيل أنّ الاسكندر المقدوني كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالم القديم كلّه وتجعله يلتف حول هذا الشاب الإغريقي لصدقنا، ولو قيل أنّ « نابليون » كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالمين القديم والجديد، ليجلس على عرشها الفتي لصدقنا.

أمّا إذا قيل أنّ محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكّر في أن يدعو خلق الله المتاخمين لجزيرة العرب والمتّصلين بقريش ـ اتصالاً تعيش عليه قريش وينبني على أساسه كلّ شيء في البنية القرشية ـ فذلك أمر يعز على البحث النزيه والعقل الحر ( بزعم « وليم ميور » ) أن يقبله إلّا أن يكون تفكير ذلك النبي في هذا الأمر تفكيراً على نحو غامض.

وأمّا القول بأنّ ذلك الدين لم يهيأ إلّا لبلاد العرب، فإنّ ذلك لم يمنع محمداً من التفكير في تعميم دينه، لأنّ هذا التفكير سواء أتحقق أم لم يتحقق، إنّما يعتمد على اعتقاده أن دينه صالح لذلك، وقد ثبت من القرآن أنّه كان يعتقد أنّ الإسلام قد هيّئ لكلّ حالة، وأنّ القرآن قد تكفّل بتبيان كلّ شيء، إذ يقول الله تعالى لرسوله في غير آية:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ) ( سورة النحل ـ ٨٩ ).

ويؤيد دعوى عموم الرسالة للجنس البشري قول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بلالاً أوّل ثمار الحبشة، وأنّ صهيباً أوّل ثمار الروم، وكذلك ما قاله عن سلمان الذي كان أوّل من أسلم من الفرس، فكان عبداً نصرانياً بالمدينة اعتنق هذا الدين الجديد في السنة الاُولى من الهجرة، وهكذا صرّح الرسول في وضوح وجلاء، أنّ الإسلام ليس مقصوراً على الجنس العربي قبل أن يدور بخلد العرب أي شيء يتعلّق بحياة الفتح والغزو بزمن طويل، ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم في تلك الآيات البينات »(١) .

__________________

(١) تاريخ الإسلام السياسي ـ الطبعة الخامسة ـ ج ١، ص ١٦٧ ـ ١٧٠، وذكر في المقام بعض الآيات التي تدل على عمومية رسالته.

٥٨

نظرة في الآيات

المشعرة بعدم العمومية

قد عرفت ما هو الحق في المقام بأنّ القرآن الكريم والسنّة النبوية، وسيرتها تدل بوضوح على عمومية رسالته لكل من في الأرض جميعاً.

غير أنّ هناك آيات ربّما يستشم منها عدم عمومية رسالته، وقد وقعت هذه الآيات سنداً للخصم، فنحن نذكر تلك الآيات ونوضح المقصود منها.

١. آيات الانذار :

انّ بعض الآيات في هذا الصدد توجه انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قومه وربّما تشعر باختصاص الرسالة ودونك هذه الآيات :

١.( وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( القصص ـ ٤٦ ).

٢.( بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( السجدة ـ ٣ ).

٣.( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس ـ ٦ ).

٤.( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ) ( مريم ـ ٩٧ ).

٥٩

فهذه الآيات ونظائرها تخص انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوم خاص، وبذلك تضيق دائرة الدعوة.

الجواب :

إنّ الإجابة على الاستدلال بهذه الآيات سهلة بعد الوقوف على ما ذكرنا من الآيات المصرحّة بعمومية الرسالة.

لأنّها أوّلاً: لا تخرج من حدّ الاشعار الضعيف الذي لا يعتمد عليه في مقابل الآيات المصرّحة بأشد التصريح بعمومية الدعوة.

وثانياً: إنّ هناك آيات بهذا الصدد تصرّح بعمومية الانذار، ففي سورة يس التي ورد فيها:( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قوله سبحانه:( لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( يس ـ ٧٠ ).

فهذه الآية تشعر بأنّ دائرة الانذار تشمل كلّ حي يعقل ويخاطب به وهو يعم كلّ مستعد للهداية سواء أكان من قومه وممن يعيش في الجزيرة العربية أم لا.

وقال سبحانه أيضاً:( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) ( الكهف ـ ٤ ).

وهم يعم اُمّة الكليم والمسيح الذين قالوا: اتّخذ الله ولداً.

فاليهود قالوا بأنّ الله اتّخذ عزيراً ولداً.

والنصارى قالوا: بأنّ الله اتّخذ المسيح ولداً.

وبذلك يظهر أنّ كلّ ما ورد في هذا الصدد من آيات الانذار لا يدل على التخصيص بل هو خطاب بمقتضى المقام.

فقد تقتضي البلاغة توجيه الكلام إلى قسم خاص كما تقتضي المصلحة في مقام آخر توجيه الكلام لكلّ من بعث لانذاره فلاحظ الآيات التالية حيث يقول سبحانه :

( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) ( الأنبياء ـ ٤٥ ).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

فقال عليه السلام : هذه ممّا في بيتك ١ .

هذا و قال ابن أبي الحديد : ذمّ عليه السلام أهل البصرة فقال « عائلهم مجفو و غنيهم مدعو و العائل : الفقير » ، و هذا كقول الشاعر :

فإن تملق فأنت لنا عدو

فان تثر فأنت لنا صديق ٢

قلت : كلامه خبط ، فان قوله عليه السلام الجملة صفة « قوم » ، فهو ذمّ لذلك الرجل الذي دعا عثمان ، لأن طعامه لم يكن اللّه ، كما أن الشعر في مقام آخر غير ذمّ أحد ، فإنّه في مقام بيان أنّ الفقير مبغض إلى النّاس طبعا ، حتى أنّه لو كان صديقا يكون عندهم كالعدو و الغني بالعكس ، حتى أنّه لو كان عدوا كان عندهم كالصديق هذا ، و في ( العيون لابن قتيبة ) ، قال عدي بن حاتم لابن له حدث : قم بالباب فامنع من لا تعرف و أذن لمن تعرف فقال : لا و اللّه لا يكون أوّل شي‏ء وليته من أمر الدنيا منع قوم من الطعام ٣ .

« فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم » من قضمت الدابة شعيرها بالكسر « فما اشتبه عليك علمه » هل هو حلال أو حرام « فالفظه » من لفظ الشي‏ء من فمه ،

أي : رماه منه ، و ما رماه لفاظه .

و في ( المروج ) : كان لأنوشروان مائدة من الذهب عظيمة عليها أنواع من الجواهر مكتوب عليها من جوانبها « ليهنه طعامه من أكله من حلّه ، و عاد على ذوي الحاجة من فضله ، ما أكلته ، و أنت تشتهيه ، فقد أكلته ، و ما أكلته ، و أنت لا تشهيه ، فقد أكلك » ٤ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه الكليني في الكافي ٦ : ٢٧٦ ح ٤ ، و البرقي في المحاسن : ٤١٥ ح ١٦٩ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٦ .

( ٣ ) عيون ابن قتيبة ١ : ٣٣٥ .

( ٤ ) مروج الذهب ١ : ٢٩٤ .

٤٦١

« و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه » لعدم وجود تبعة فيه . في الخبر ولّى عليه السلام رجلا من ثقيف و قال له : إذا صلّيت الظهر فعد إليّ ، فعدت إليه فلم أجد عنده حاجبا ، فوجدته جالسا و عنده قدح و كوز ماء ، فدعا بوعاء مشدود مختوم فقلت في نفسي : لقد آمنني حتى أخرج إلي جوهرا ، فكسر الختم و حلّه فإذا فيه سويق ، فأخرج منه فصبّه في القدح و صبّ عليه ماء فشرب و سقاني ،

فلم أصبر أن قلت : أتصنع هذا في العراق و طعامه كما ترى في كثرته ؟ فقال :

أما و اللّه ما أختم عليه بخلا به ، و لكني أبتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن ينقص ،

فيوضع فيه من غيره ، و أنا أكره أن يدخل بطني إلاّ طيّبا ، و إيّاك و تناول ما لا تعلم حلّه » ١ .

و في الخبر : ما من عبد إلاّ و به ملك يلوي عنقه وقت حدثه حتى ينظر إليه ثم يقول له الملك : يا ابن آدم هذا رزقك فانظر من أين أخذته و إلى ما صار ،

فينبغي عند ذلك أن يقول : اللّهمّ ارزقني الحلال و جنّبني الحرام ٢ .

« ألا و إنّ لكلّ مأموم إماما يقتدي به و يستضي‏ء بنور علمه » في ( الإرشاد ) :

خرج عليه السلام ذات ليلة من المسجد و كانت ليلة قمراء فأمّ الجبانة ، فلحقه جماعة يقفون أثره ، فوقف ثم قال : من أنتم ؟ قالوا : نحن شيعتك ، فتفرّس في وجوههم ثم قال : ما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة قالوا : و ما سيماء الشيعة ؟ قال :

صفر الوجوه من السهر ، عمش العيون من البكاء ، حدب الظهور من القيام ،

خمص البطون من الصيام ، ذبل الشفاه من الدعاء ، عليهم غبرة الخاشعين ٣ .

و في الخبر قال أبو الصباح الكناني للصادق عليه السلام : يكون بيننا و بين

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجه أحمد في الورع و أبو حاتم السجستاني في المعمرين و أبو نعيم في حلية الأولياء ، عنهم ذيل احقاق الحقّ ٨ : ٢٧٨ و ٢٧٩ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الإرشاد : ١٢٧ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

٤٦٢

الرجل الكلام فيقول : جعفري خبيث فقال عليه السلام : يعيركم النّاس بي ما أقلّ و اللّه من يتّبع جعفرا منكم إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه ، و عمل لخالقه ، و رجا ثوابه .

و قال الكاظم عليه السلام : كثيرا ما كنت أسمع أبي يقول : ليس من شيعتنا من لا يتحدّث المخدرات بورعه في خدورهن ، و ليس من أوليائنا من هو في قرية عشرة آلاف رجل فيهم خلق للّه أورع منه ١ .

في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) عن كتاب ابن الغطريف بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : نظر النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى علي عليه السلام فقال : هذا و شيعته هم الفائزون يوم القيامة ٢ .

« ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه » بالكسر ، الثوب الخلق .

قال الباقر عليه السلام : كان علي عليه السلام يأكل أكل العبد و يجلس جلسة العبد ، و إنّه كان ليشتري القميصين السنبلانيين ، فيخيّر غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر ،

فإذا جاز أصابعه قطعه ، و إذا جاز كعبيه حذفه ، و لقد ولّي خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة ، و لا لبنة على لبنة ، و لا أقطع قطيعا و لا أورث بيضاء و لا حمراء ، و ان كان ليطعم النّاس خبز البر و اللحم و ينصرف إلى منزله و يأكل خبز الشعير و الزيت و الخل ٣ .

و في ( ذيل الطبري ) : كان عطاء سلمان خمسة آلاف ، و كان على ثلاثين ألفا من النّاس يخطب في عباءة يفترش نصفها و يلبس نصفها ، و كان إذا خرج

ــــــــــــــــــ

( ١ ) أخرجهما الكليني في الكافي ٢ : ٧٧ و ٧٩ ح ٦ و ١٥ .

( ٢ ) تذكرة الخواص : ٥٣ .

( ٣ ) أخرجه الصدوق في أماليه : ٢٣٢ ح ١٤ ، المجلس ٤٧ ، و أبو جعفر الطوسي في أماليه ٢ : ٣٠٣ ، المجلس ٢١ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٦٣

عطاؤه أمضاه و يأكل من سفيف يده ١ .

« و من طعمه بقرصيه » و أدامه الملح أو اللبن الحامض ، فعن سويد بن غفلة : دخلت على علي عليه السلام فوجدت بين يديه إناء فيه لبن أجد ريح حموضته ،

و في يده رغيف أرى قشير الشعر في وجهه ، و هو يكسره بيده و يطرحه فيه ،

فقال : أدن فأصب من طعامنا ، فقلت : إنّي صائم . فقلت لفضة و هي بقرب منه قائمة ويحك ألا تتقين اللّه في هذا الشيخ بنخل هذا الطعام ؟ قالت : تقدم إلينا ألا ننخل له طعاما . قال : ما قلت لها ؟ فأخبرته فقال : بأبي و امّي من لم ينخل له طعام ، و لم يشبع من خبز البر ثلاثة أيّام حتى قبضه اللّه ٢ و كان عليه السلام يجعل جريش الشعير في وعاء و يختم عليه ، فقيل له في ذلك فقال : أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئا من زيت أو سمن ٣ .

في ( رجال الكشي ) : قال أبوذر : من جزى اللّه عنه الدنيا خيرا ، فجزاه اللّه عني مذمة ، بعد رغيفي شعير أتغذّى بأحدهما و أتعشّى بالآخر ، و بعد شملتي صوف اتّزر بإحداهما و أرتدي الاخرى ٤ .

« ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك » إنّما كان يقتدى به في الملبس و المطعم سلمان ، و أبوذر كما مرّ .

و في ( جمل المفيد ) عن الواقدي أنّه عليه السلام في حرب البصرة دعا بدرعه البتراء و لم يلبسها بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلاّ يومئذ فكان بين كتفيه منها متوهيا ،

و جاء و في يده شسع نعل ، فقال له ابن عباس : ما تريد بهذا الشسع ؟ قال : أربط بها ما قد توهّى من هذا الدرع من خلفي . فقال له : أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل

ــــــــــــــــــ

( ١ ) منتخب ذيل المذيل : ٥٠ .

( ٢ ) رواه الخوارزمي في مناقبه : ٦٧ . و السروي في مناقبه ٢ : ٩٨ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) روى هذا ابن أبي الحديد في شرحه ١ : ٢٦ .

( ٤ ) اختيار معرفة الرجال : ٢٨ ح ٥٤ .

٤٦٤

هذا ؟ فقال عليه السلام : لا تخف أن أوتي من ورائي ، و اللّه يا ابن عباس ما ولّيت في زحف قط ١ .

و في النهج قال ابن عباس : دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار ( عند خروجه إلى الجمل ) و هو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل ؟ فقلت : لا قيمة لها . فقال عليه السلام : و اللّه لهي أحب إليّ من أمرتكم الخ ٢ .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) عن الأحنف بن قيس قال : دخلت على معاوية فقدّم إلي من الحلو و الحامض ما كثر تعجّبي منه ، ثم قال : قدّموا ذلك اللون فقدّموا لونا ما أدري ما هو ، فقال : مصارين البط محشوة بالمخ و دهن الفستق قد ذر عليه السكر . قال : فبكيت فقال :

ما يبكيك ؟ فقلت : للّه درّ ابن أبي طالب ، لقد جاء من نفسه بما لم تسمح به أنت و لا غيرك . فقال : و كيف ؟ قلت : دخلت عليه ليلة عند افطاره ، فقال لي : قم فتعشّ مع الحسن و الحسين ثم قام إلى الصلاة ، فلما فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه فأخرج منه شعيرا مطحونا ثم ختمه ، فقلت :

لم أعهدك بخيلا يا أمير المؤمنين ، فقال : لم أختمه بخلا و لكن خفت أن يبسّه الحسن أو الحسين بسمن أو اهالة . فقلت : أحرام هو ؟ قال : لا و لكن على أئمة الحقّ أن يتأسّوا بأضعف رعيتهم حالا في الأكل و اللباس ، و لا يتميّزون عليهم بشي‏ء ، ليراهم الفقير فيرضى عن اللّه تعالى بما هو فيه ، و يراهم الغني فيزداد شكرا و تواضعا ٣ .

« و لكن أعينوني بورع » عن المحارم قال تعالى : إنّما يتقبّل اللّه

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الجمل : ١٨٩ .

( ٢ ) نهج البلاغة ١ : ٨٠ ، الخطبة ٣٣ .

( ٣ ) تذكرة الخواص : ١١٠ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٦٥

من المتّقين ١ و قال نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : أفضل الأعمال الورع عن محارمه ٢ .

« و اجتهاد » في الطاعات و العبادات . قال الصادق : كان علي عليه السلام ليعمل عمل رجل كان وجهه بين الجنّة و النّار ، يرجو ثواب هذه و يخاف عقاب هذه ٣ .

و كان عليه السلام لا تفوته عبادة حتّى إعانة المرأة و الكسب و غرس الأشجار .

قال الباقر عليه السلام : كان علي عليه السلام ما ورد عليه أمران كلاهما رضا للّه إلاّ أخذ بأشدّهما على بدنه ٤ ، و لقد اعتق ألف مملوك من كدّ يده ، تربت فيه يداه ، و عرق فيه وجهه و ما أطاق عمله أحد من النّاس ، و إنّه كان يصلّي في اليوم و الليلة ألف ركعة ، و كان أقرب النّاس شبها به حفيده علي بن الحسين عليه السلام و ما أطاق عمله أحد من النّاس بعده .

و قال الحسن عليه السلام صبيحة وفاته كما في ( مقاتل أبي الفرج ) لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ، و لا يدركه الآخرون بعمل ، و لقد كان يجاهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقيه بنفسه ، و لقد كان يوجّهه برايته ،

فيكتنفه جبرئيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه الخبر ٥ .

و روي عنه عليه السلام أنّه قال : ما تركت صوم شعبان بعد ما سمعت منادي النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : إنّ شعبان شهري ، فأعينوني على صيامه ٦ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) المائدة : ٢٧ .

( ٢ ) روى هذا المعنى بألفاظ مختلفة المجلسي في البحار ٧٠ : ٢٩٦ ، باب ٥٧ ، و المتقي الهندي في منتخب كنز العمال ١ : ٢٥٤ و ٢٥٥ .

( ٣ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ١١٠ ، و النقل بالمعنى .

( ٤ ) رواه السروي في مناقبه ٢ : ١٠٣ . عن الباقر عليه السلام و ابن أبي الحديد في شرحه ٤ : ١١٠ عن الصادق عليه السلام .

( ٥ ) مقاتل الطالبيين : ٣٢ .

( ٦ ) رواه الطوسي في المصباح : ٧٥٧ ، و ابن طاووس في الاقبال ، عنه البحار ٩٧ : ٧٩ ح ٤٤ ، و النقل بالمعنى .

٤٦٦
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد السادس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و كان عليه السلام يرد بيته بعد الظهر ، فإن كان طعام أتى عليه السلام به و إلاّ كان ينوي الصيام .

و ورد في إنفاقه عليه السلام آيات الذين ينفقون أموالهم بالليل و النّهار سرّا و علانية فلهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون ١ و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة ٢ و يطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً و يتيماً و أسيراً . إنّما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم جزاءً و لا شُكوراً . إنّا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً . فوقاهم اللّه شرّ ذلك اليوم و لقّاهم نظرة و سروراً . و جزاهم بما صبروا جنّة و حريراً إلى قوله تعالى : إن هذا كان لكم جزاءً و كان سعيكم مشكوراً ٣ .

و في الخبر : كان علي عليه السلام يمشي في الأسواق وحده و هو وال يرشد الضّالّ و يعين الضعيف ، و يمرّ بالبقال و البيّاع فيفتح عليه ، و يتلو : تلك الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض و لا فساداً و العاقبة للمتّقين ٤ و يقول نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة ٥ .

و جاء في الأثر : كان علي عليه السلام يحتطب ، و يستسقي ، و يكنس ، و كانت فاطمة عليها السلام تطحن و تعجن و تخبز ٦ .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) البقرة : ٢٧٤ .

( ٢ ) الحشر : ٩ .

( ٣ ) الانسان : ٨ : ٢٢ .

( ٤ ) القصص : ٨٣ .

( ٥ ) رواه الطبرسي في مجمع البيان ٧ : ٢٦٩ ، و السروي في مناقبه ٢ : ١٠٤ .

( ٦ ) رواه السروي في مناقبه ٢ : ١٠٤ .

٤٦٧

و في الخبر أنّه عليه السلام غرس مائة ألف نخلة ١ .

« و عفّة » قال رجل للباقر عليه السلام : إنّي ضعيف العمل قليل الصيام ، و لكنّي أرجو ألاّ آكل إلاّ حلالا ، فقال عليه السلام له : أيّ الاجتهاد أفضل من عفّة بطن و فرج ٢ .

« و سداد » بالفتح إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون . نحن أوليائكم في الحياة الدّنيا و في الآخرة ، و لكم فيها ما تشتهي أنفسكم و لكم فيها ما تدّعون ٣ .

« فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا » التبر : الذهب غير المضروب ، فإذا ضرب فهو عين .

في ( الكافي ) : قال عبد الأعلى مولى آل سام لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ النّاس يرون أنّ لك مالا كثيرا ، فقال : ما يسوؤني ذلك إنّ أمير المؤمنين عليه السلام مرّ ذات يوم على ناس شتى من قريش و عليه قميص مخرّق ، فقالوا : أصبح علي لا مال له ، فسمعها عليه السلام فأمر الذي يلي صدقته أن يجمع تمره و لا يبعث إلى انسان شيئا و أن يوفّره ، ثم قال له بع الأوّل فالأوّل و اجعلها دراهم ثمّ اجعلها حيث يجعل التّمر ، فاكبسه معه حيث لا يرى ، و قال للذي يقوم عليه إذا دعوت بالتّمر فاصعد و انظر المال فاضربه برجلك كأنّك لا تعمد الدراهم حتى تنثرها ، ثم بعث إلى رجل منهم يدعوهم ، ثم دعا بالتمر ، فلما صعد ينزل بالتمر ضرب برجله فانتشرت الدراهم فقالوا : ما هذا يا أبا الحسن ؟ قال : هذا مال من لا مال له ثمّ أمر بذلك المال فقال : انظروا كلّ أهل بيت ابعث إليهم ،

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الكليني في الكافي ٥ : ٧٤ ح ٦ .

( ٢ ) رواه الكليني في الكافي ٢ : ٧٩ ح ٤ .

( ٣ ) فصلت : ٣٠ ٣١ .

٤٦٨

فانظروا ماله ، و ابعثوا له ١ .

« و لا ادّخرت من غنائمها وفرا » أي : مالا كثيرا كالنّاس .

في ( المروج ) : بنى عثمان داره في المدينة و شيّدها بالحجر و الكلس ،

و جعل أبوابها من الساج و العرعر ، و اقتنى اموالا و جنانا و عيونا بالمدينة ،

و كان عند خازنه يوم قتل من المال خمسون و مائة ألف دينار و ألف ألف درهم ، و قيمة ضياعه بوادي القرى و حنين و غيرهما مائة ألف دينار ، و خلّف خيلا كثيرا و إبلا و بلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار ، و خلّف ألف فرس و ألف عبد و ألف أمة و خططا في البصرة و الكوفة و مصر و الاسكندرية و داره بالبصرة المعروفة به في هذا الوقت سنة ( ٣٣٢ ) تنزلها التّجار ، و أرباب الأموال ، و أصحاب الجهات من البحرين و غيرهم .

و كذلك طلحة داره بالكوفة المشهورة به في هذا الوقت المعروفة بالكناس بدار الطلحيين ، و كانت غلته من العراق كلّ يوم ألف دينار و قيل أكثر ،

و بناحيته سراة أكثر ، و شيّد داره بالمدينة و بناها بالآجر و الجصّ و الساج .

و كذلك عبد الرحمن بن عوف ابتنى داره و وسّعها و كان على مربطه مائة فرس و له ألف بعير و عشرة آلاف من الغنم ، و بلغ ربع ثمن ماله أربعة و ثمانين ألفا .

و ذكر سعيد بن المسيّب ، أن زيد بن ثابت خلّف من الذهب و الفضة ما كان يكسر بالفؤوس ، غير ما خلف من الأموال و الضياع بقيمة مائة ألف دينار .

و مات يعلى بن اميّة و خلف خمسمائة ألف دينار ، و ديونا على النّاس

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الكافي ٦ : ٤٣٩ ح ٨ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٦٩

و عقارات و غيرها ما قيمته مائة ألف دينار ١ .

في ( جمل المفيد ) : روى الثوري عن داود بن أبي هند عن أبي حريز الأسود قال : لما قدم طلحة و الزبير البصرة أرسلا إلى أناس من أهل البصرة أنا فيهم ، فدخلنا بيت المال معهما ، فلما رأيا ما فيه من الأموال قالا : هذا ما وعدنا اللّه و رسوله وعدكم اللّه مغانم كثيرة تأخذونها فعجّل لكم هذه و قالا : نحن أحقّ بهذا المال من كلّ أحد إلى أن قال بعد ظفره عليه السلام دعانا علي عليه السلام فدخلنا معه بيت المال ، فلما رأى ما فيه ضرب إحدى يديه على الاخرى و قال : غري غيري و قسّمه بين أصحابه خمسمائة خمسمائة بالسوية حتى لم يبق إلاّ خمسمائة درهم و عزلها لنفسه ، جاءه رجل و قال : إنّ اسمي سقط من كتابك ، فقال عليه السلام : ردّوها عليه . ثم قال : الحمد للّه الذي لم يصل إليّ من هذا المال شيئا و وفّره على المسلمين .

و فيه روى أبو مخنف عن رجاله قال : لمّا أراد علي عليه السلام التوجّه إلى الكوفة قام في أهل البصرة ، فقال : ما تنقمون علي يا أهل البصرة و اللّه إنّهما و أشار إلى قميصه و ردائه لمن غزل أهلي ، و ما تنقمون مني يا أهل البصرة و اللّه ما هي و أشار إلى صرّة في يده فيها نفقته إلاّ من غلّتي بالمدينة ، فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر ممّا ترون فأنا عند اللّه من الخائنين ٢ .

« و لا أعددت لبالي » أي : اندراس « ثوبي طمرا » . و في الخبر أنّه عليه السلام كان يغسل ثوبه و يلبسه و يجفّه على بدنه لعدم وجود عوض له « و لا حزت من أرضها شبرا و لا أخذت منه إلاّ كقوت اتان » انثى الحمار « دبره » من « دبر البعير و أدبره القتب » .

ــــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٢ : ٣٣٢ و ٣٣٣ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الجمل : ٢١٤ و ٢٢٤ ، و النقل بتصرف يسير .

٤٧٠

« و لهي في عيني أوهى و أهون من عفصة » من « طعام عفص » فيه تقبض « مقره » من « مقر الشي‏ء » صار مرّا ، و ليس في ( ابن ميثم ) قوله « و لا حزت » إلى هنا و انما هو في ابن أبي الحديد أخذته ( المصرية ) عنه ، لكن ، ليس فيه « أوهى و أهون » معا ، و الظاهر أنّها رأتهما بالنسخة البدليّة فجمعت بينهما ١ .

قوله عليه السلام « و إنّما هي نفسي اروضها » من رضت المهر أروضه رياضا و رياضة ، أو من روّضته للمبالغة « بالتقوى » . في الخبر : بعث النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سريّة ، فلمّا رجعوا قال : مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر ، و بقي عليهم الجهاد الأكبر . قيل له : و ما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد النفس ، أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه ٢ .

و في ( الحلية ) ، في سفيان بن عيينة : عن عاصم بن كليب عن أبيه أنّ عليّا عليه السلام قسّم ما في بيت المال على سبعة أسباع ، ثم وجد رغيفا فكسره سبع كسر ، ثمّ دعا أمراء الأجناد فأقرع بينهم و عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه قال : رأيت الغنم تبعر في بيت مال علي عليه السلام فيقسّمه .

و عن الأعمش عن رجل : إنّ عليّا عليه السلام كان إذا قسّم ما في بيت المال نضحه ثمّ صلّى فيه ركعتين ٣ .

« لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر و تثبت على جوانب المزلق » مزلق الأقدام يوم لا ينفع مال و لا بنون إلاّ من أتى اللّه بقلب سليم ٤ ، الذين آمنوا

ــــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٧ ، و شرح ابن ميثم ٥ : ٩٩ .

( ٢ ) هذا تلفيق حديثين أخرجهما الصدوق في أماليه : ٣٧٧ ح ٨ ، المجلس ٧١ ، و في معاني الأخبار : ١٦٠ ح ١ ، و ابن الأشعث في الاشعثيات : ٧٨ ، و أخرج الأوّل الكليني في الكافي ٥ : ١٢ ح ٣ .

( ٣ ) حلية الأولياء ٧ : ٣٠٠ .

( ٤ ) الشعراء : ٨٨ ٨٩ .

٤٧١

و لم يلبسوا إيمانهم بظلم اولئك لهم الأمن و هم مهتدون ١ و إن منكم إلاّ واردها كان على ربّك حتما مقضيّاً . ثمّ ننجي الذين اتّقوا و نذر الظّالمين فيها جثيّاً ٢ تلك الجنّة التي نورث من عبادنا من كان تقيّا ٣ .

و في الخبر : على الصراط قنطرة ، لا يجوزها من كان في رقبته مظلمة ٤ .

ورد في تفسير قوله تعالى : إنّ ربّك لبالمرصاد ٥ لا تدع النفس و هواها ، فإن هواها في رداها ، و كفّ النفس عمّا يهوى دواها .

هذا ، و نظر رجل إلى روح بن حاتم واقفا في الشمس ، فقيل له في ذلك ،

فقال : ليطول وقوفي في الظل .

أهين لهم نفسي لأكرمها بهم

و من يكرم النّفس التي لا تهينها

« و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل » . في ( المروج ) :

استسقى عليه السلام يوم الجمل فأتي بعسل و ماء ، فحسا منه حسوة و قال :

هذا الطائفي ، و هو غريب بهذا البلد ، فقال له عبد اللّه بن جعفر : أما شغلك ما نحن فيه عن علم هذا ؟ قال : انّه و اللّه يا بنيّ ما ملأ صدر عمّك شي‏ء قط من أمر الدّنيا ٦ .

« و لباب » بالضم اللب ضدّ القشر ، قال :

أ ليس بذي المكارم في قريش

إذا عدّت ، و ذي الحسب اللباب ٧

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الانعام : ٨٢ .

( ٢ ) مريم : ٧١ .

( ٣ ) مريم : ٦٣ .

( ٤ ) أخرجه الكليني في الكافي ٢ : ٣٣١ ح ٢ ، و غيره و النقل بتصرف يسير .

( ٥ ) الفجر : ١٤ .

( ٦ ) مروج الذهب ٢ : ٣٦٨ .

( ٧ ) أورده أساس البلاغة : ٤٠٢ ، مادة ( لب ) .

٤٧٢

« هذا القمح » أي : البّرّ ، و في حديث الحسن البصري « لباب البرّ بلعاب النحل » ١ .

هذا ، و في ( النفحة ) : أرسل سنّيّ إلى شيعيّ شيئا من الحنطة و كانت عتيقة فردّها عليه ، ثم أرسل إليه عوضها جديدة لكن فيها تراب ، فكتب إليه بعد قبولها :

بعثت لنا بدال البرّ برّا

رجاء للجزيل من الثواب

رفضناه عتيقا و ارتضينا

به إذ جاء و هو أبو تراب

و لا يخفى ما فيه من النكات اللطيفة ، جمعه بين الرفض دلالة على تشيعه ، و تركه العتيق و هو لقب أبي بكر ، و المرتضى لقب أمير المؤمنين ،

و أبي تراب كنيته عليه السلام .

« و نسائج » جمع نسيج ، أي : منسوجات « هذا القز » أي : الإبريسم .

و كان يقال لعمرو بن عامر من ملوك اليمن « مزيقياء » ، لأنّه كان يلبس كلّ يوم حلّتين ، فيمزّقهما بالعشي ، و يكره أن يعود فيهما ، و يأنف أن يلبسهما غيره .

قال ابن أبي الحديد : روى بدل قوله عليه السلام « و لو شئت إلى هذا القز » « و لو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفّى و لباب هذا البرّ المنقّى ، فضربت هذا بذاك حتّى ينضح وقودا و يستحكم معقودا » ٢ .

قلت : و روى ابن بابويه في ( أماليه ) : « و لو شئت لتسربلت بالعبقريّ المنقوش من ديباجكم ، و لأكلت لباب هذا البرّ بصدور دجاجكم ، و لشربت الماء الزلال برقيق زجاجكم ، و لكنّي أصدّق اللّه جلّت عظمته حيث يقول : من

ــــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه أساس البلاغة : ٤٠٢ ، مادة ( لب ) .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٧ .

٤٧٣

كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار ١ ، فكيف أستطيع الصبر على نار لو قذفت بشرره إلى الأرض لأحرقت نبتها ، و لو اعتصمت نفس بقلّة لأنضجها وهج النّار في قلّتها » ٢ .

« و لكن هيهات » أي : بعد « أن يغلبني هواي » و أمّا من خاف مقام ربّه و نهى النّفس عن الهوى . فإنّ الجنّة هي المأوى ٣ .

« و يقودني جشعي » الجشع : شدّة الحرص على الطعام ، قال :

و إن مدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن

بأعجلهم إذا عجل القوم أجشع

« إلى تخيّر الأطعمة » قالوا : من كان همّه ما يدخل في بطنه ، كانت قيمته ما يخرج من بطنه .

« و لعلّ بالحجاز » في ( المعجم ) عن الأصمعي : الحجاز : من تخوم صنعاء من العبلاء و تبالة إلى تخوم الشام ، و انما سمّي حجازا لأنه حجز بين تهامة و نجد ، فمكّة تهاميّة ، و المدينة حجازية ، و الطائف حجازيّة ، و عن هشام الحجاز ما بين جبلي طي إلى طريق العراق لمن يريد مكّة ٤ .

و في ( الصحاح ) : سمّيت بذلك لأنّها حجزت بين نجد و الغور ، و قال الأصمعي لأنّها احتجزت بالحرار الخمس منها حرّة بني سليم و حرّة واقم ،

يقال : احتجز بأزار ، أي : شدّه على وسطه ٥ .

« أو اليمامة » في ( المعجم ) : في السير اليمامة كانت منازل طسم و جديس

ــــــــــــــــــ

( ١ ) هود : ١٥ و ١٦ .

( ٢ ) أمالي الصدوق : ٤٩٦ ، المجلس ٩٠ .

( ٣ ) النازعات : ٤٠ و ٤١ .

( ٤ ) معجم البلدان ٢ : ٢١٩ .

( ٥ ) صحاح اللغة ٢ : ٨٦٩ ، مادة ( حجز ) .

٤٧٤

و كانت تدعى جوا ١ .

و في ( الصحاح ) : اليمامة : اسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام ، يقال أبصر من زرقاء اليمامة ،

سمّيت البلاد باسم هذه الجارية ٢ .

« من لا طمع له في القرص و لا عهد له بالشبع » في ( عيون القتيبي ) : قيل ليوسف عليه السلام مالك تجوع و أنت على خزائن الأرض ؟ قال : أخاف أن أشبع فأنسى الجائع ٣ .

« أو أبيت مبطانا » ممتلأ البطن « و حولي بطون غرثى » أي : جائعة . قال بعضهم :

يملّى‏ء بطنه و الجار جائع

و يحفظ ماله و العرض ضائع

« و أكباد حرّى » أي : عطشى . كتب المأمون إلى الرستمي و قد تظلّم منه غريم ليس من المروة أن تكون أوانيك من الذهب و الفضة ، و جارك طاو و غريمك عاو .

و لدعبل :

و ضيف عمرو و عمرو يسهران معا

عمرو لبطنته و الضيف للجوع

و للصابي :

و شبع الفتى لؤم

إذا جاع صاحبه

و في ( عقاب الأعمال ) عن السجاد عليه السلام : من بات شبعان و بحضرته مؤمن جائع طاو ، قال اللّه عزّ و جلّ : ملائكتي أشهدكم على هذا العبد إنّني أمرته

ــــــــــــــــــ

( ١ ) معجم البلدان ٥ : ٤٤٢ .

( ٢ ) صحاح اللغة ٥ : ٢٠٦٥ ، مادة ( يم ) .

( ٣ ) عيون ابن قتيبة ٢ : ٣٧٤ .

٤٧٥

فعصاني ، و أطاع غيري ، وكلته إلى عمله ، و عزّتي و جلالي لا غفرت له أبدا ١ .

« أو أكون كما قال القائل :

و حسبك داء أن تبيت ببطنة

و حولك أكباد تحنّ إلى القد »

القدّ بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ ، و فلان ما يعرف القد من القد ،

أي : مسك السخلة من السير ، و في الجمهرة قدّ الشي‏ء قدّا إذا قطعه قطعا مستطيلا ، و به سمّي القد الذي يقد من الأديم الفطير ، و القدّ ( بفتح القاف ) خلاف القط ، لأن القد طولا و القط عرضا ، و في الحديث « إنّ عليّا عليه السلام كان إذا اعتلى قدّ و إذا اعترض قط » ، و القد ( بكسر القاف ) سيور تقد من جلد فطير يشد بها الأقتاب و المحامل و غيرها ٢ .

قال ابن أبي الحديد : هذا البيت منسوب إلى حاتم الطائي ، و أوّل أبياته :

أيا ابنة عبد اللّه و ابنة مالك

و يا ابنة ذي الجدّين و الفرس الورد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له

أكيلا فإنّي لست آكله وحدي

قصيّا بعيدا أو قريبا فإنّني

أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي

كفى بك عارا أن تبيت ببطنة

و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ

و إنّي لعبد الضيف ما دام نازلا

و ما من خلالي غيرها شيمة العبد ٣

قلت : لم يذكر مستنده في كون الأبيات لحاتم ، و قد نسب المبرد في ( كامله ) الأبيات الثلاثة الاولى و الأخير إلى قيس بن عاصم المنقري ، و لم ينقل فيها الرابع شعر كلامه عليه السلام . و نقل ابن قتيبة في ( عيونه ) أيضا الأبيات الثلاثة الاولى و ذكر بدل الأخيرين :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) عقاب الأعمال : ٢٩٨ ح ١ .

( ٢ ) جمهرة اللغة ١ : ٨٥ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٨ .

٤٧٦

و كيف يسيغ المرء زادا و جاره

خفيف المعى بادي الخصاصة و الجهد

و للموت خير من زيارة باخل

يلاحظ أطراف الأكيل على عمد

و لم يذكر قائلها ١ ، فلعلّ ابن أبي الحديد قال منسوب إلى حاتم حدسا لشهرته في الجود و الإيثار ، فكان يتجوّع و يشبع جاره ففي ( شعراء ابن قتيبة ) : قالت نوّار امرأة حاتم : أصابتنا سنة أقشعرّت لها الأرض و اغبرّت الآفاق ، فضنّت المراضع عن أولادها فما تبض بطرة و راحت الإبل حدبا حدابيس ، و حلقت ألسنة المال و أيقنا انّه الهلاك من الجوع ،

فقام حاتم إلى الصبيّين و قمت إلى الصبيّة ، فو اللّه ما سكتوا إلاّ بعد هدأة من الليل ، و أقبل يعلّلني بالحديث فعلمت الذي يريد فتناومت ، فلما تجوّرت النجوم إذا شي‏ء قد رفع كسر البيت ، فقال : من هذا ؟ فذهب ثم عاد فقال : من هذا ؟ فذهب ثم عاد في آخر الليل ، فقال : من هذا ؟ فقال : جارتك فلانة أتتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع فما أجد معولا إلاّ عليك أبا عدي . فقال :

أعجيلهم قد أشبعك اللّه و إيّاهم . فأقبلت المرأة تحمل اثنين و تمشي جنباتها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها ، فقام إلى فرسه ، فوجا لبته بمدية ثم كشطه و دفع المدية إلى المرأة فقال : شأنك الآن فاجتمعوا على اللحم ، فقال : سوأة أتأكلون دون الصريم ، ثم أقبل يأتيهم بيتا بيتا ، و يقول : هبّوا أيها القوم عليكم بالنّار ، فاجتمعوا فالتفع ناحية بثوبه ينظر إلينا ، و لا و اللّه ما ذاق منه مضغة و انّه لأحوج إليه منّا فأصبحنا و ما على الأرض إلاّ عظم و حافر ، فعذلته على ذلك فقال :

ــــــــــــــــــ

( ١ ) كامل المبرد ٥ : ١٤٤ ، و عيون ابن قتيبة ٣ : ٢٦٣ .

٤٧٧

مهلا نوّار أقلّي اللوم و العذلا

و لا تقولي لشي‏ء فات ما فعلا

و فيه أيضا : أتى حاتم ماوية بنت عفرز يخطبها ، فوجد عندها النابغة الذبياني و رجلا من نبيت يخطبانها ، فقالت : انقبلوا إلى رحالكم ، و ليقل كلّ واحد منكم شعرا يذكر فيه فعاله و منصبه ، فإنّي متزوّجة أكرمكم و أشعركم ،

فانطلقوا و نحر كلّ واحد منهم جزورا و لبست ماوية ثياب امة لها و اتبعتهم ،

فأتت النبيتي فاستطعمته فأطعمها ذنب جزوره فأخذته ، و أتت النابغة فأطعمها مثل ذلك ، و أتت حاتما فأطعمها عظما من العجز و قطعة من السنام و قطعة من الحارك أي الكاهل فانصرفت ، و أهدى كلّ منهم باقي جزوره و أهدى لها حاتم مثل ما أهدى إلى واحدة من جاراته ، و صبّحها القوم فأنشدها النابغة :

هلاّ سألت هداك اللّه ما حسبي

إذا الدّخان تغشى الأشمط البرما

إنّي أتمم أيساري و أمنحهم

مثنى الأيادي و أكسوا الجفنة الأدما

و أنشدها النبيتي :

هلاّ سألت هداك اللّه ما حسبي

عند الشتاء إذا ما هبت الريح

إذا اللقاح غدت ملقى اصرتها

و لا كريم من الولدان مصبوح

و أنشدها حاتم :

أ ماوي ، إنّ المال غاد و رائح

و يبقى من المال الأحاديث و الذكر

أ ماوي ، إنّي لا أقول لسائل

إذا جاء يوما حل في مالنا نزر

أ ماوي إمّا مانع فمبين

و إمّا عطاء لا ينهنهه الزجر

أ ماوي ، أن يصبح صداي بقفرة

من الأرض لا ماء لدي و لا خمر

ترى ان ما انفقت لم يك ضرّني

و إنّ يدي ممّا بخلت به صفر

و قد علم الأقوام لو أنّ حاتما

أراد ثراء المال كان له وفر

فلمّا فرغوا من إنشادهم ، دعت بالمائدة و قدّمت إلى كلّ واحد

٤٧٨

منهم ما كان أطعمها ، فنكس النبيتي و النابغة رؤوسهما ، فلما رأى حاتم ذلك رمى بالذي قدّم إليه إليهما و أطعمهما ، فتسلّلا لو اذا ، فتزوّجت حاتم و كانت من بنات ملوك اليمن ١ .

و في ( المروج ) : قال عبد الملك لبنيه : أحسابكم أحسابكم صونوها ببذل أموالكم ، فما يبالي رجل منكم ما قيل فيه من الهجو بعد قول الأعشى :

تبيتون في المشتى ملآ بطونكم

و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا ٢

و في ( كنايات الثعالبي ) : كان أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا قعدوا عنده كأنّ على رؤوسهم الطير ، فانبرى يوما حسّان فأنشده قول الأعشى :

كلا أبويكم كان فرعي دعامة

و لكنّهم زادوا او أصبحت ناقصا

تبيتون في المشتى ملا بطونكم

و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا

فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : لا تنشد هجاء علقمة ، فإن أبا سفيان شغب منّي عند هرقل فعزب عليه علقمة ، فقال حسّان : يا رسول اللّه ، من نالتك يده وجب علينا شكره . فما سمع في الكناية عن الوقيعة بأحسن من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم « شغب مني » و لا في الكناية عن الإنكار و الاحتجاج كقوله « فعزب عليه » و لا في الاعتذار كقول حسان « من نالتك يده » الخ ٣ .

هذا ، و في ( الأغاني ) : قال متمم بن نويرة لعمر لمّا سأله عن أخيه مالك : إنّه أسرني حيّ من العرب ، فشدّوني وثاقا بالقد و ألقوني بفنائهم ،

فبلغه خبري فأقبل على راحلته حتى انتهى إلى القوم و هم جلوس في ناديهم ،

فلما نظر إليّ أعرض عنّي ، و نظر القوم إليه فعدل إليهم و عرفت ما أراد ، فسلّم

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الشعر و الشعراء : ٧١ ٧٤ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) مروج الذهب ٣ : ١٦٦ .

( ٣ ) منتخب النهاية في الكناية : ٢٠٩ .

٤٧٩

عليهم و حادثهم و ضاحكهم و أنشدهم ، فو اللّه ، إن زال كذلك حتى ملأهم سرورا و حضر غداءهم ، فسألوه ليتغدّى معهم فنزل و أكل ثم نظر إليّ و قال :

إنّه لقبيح بنا أن نأكل و رجل ملقى بين أيدينا لا يأكل معنا ، و أمسك يده عن الطعام ، فلما رأى ذلك القوم نهضوا ، و صبّوا الماء على قدّي حتى لان و حلّوني ،

ثم جاءوا بي فأجلسوني معهم على الغداء ، فلمّا أكلنا قال لهم : أما ترون ، تحرم هذا بنا و أكل معنا انّه لقبيح بكم أن تردوه إلى القد فخلوا سبيلي ١ .

و فيه : مرّ فضالة بن شريك بعاصم بن عمر بن الخطاب و هو منتبذ بناحية المدينة ، فنزل به ، فلم يقره شيئا و لم يبعث إليه و لا إلى أصحابه بشي‏ء .

و قد عرّفوه مكانهم ، فارتحلوا عنه و التفت فضالة إلى مولى لعاصم فقال له : قل له ، أما و اللّه لأطوقنّك طوقا لا يبلى . و قال :

ألا أيّها الباغي القرى لست واجدا

قراك إذا ما بتّ في دار عاصم

إذا جئته تبغي القرى بات نائما

بطينا و أمسى ضيفه غير نائم ٢

و روي في ( الحلية ) : أن أويس القرني كان إذا أمسى تصدّق بما في بيته من الفضل من الطعام و الثياب ، ثم يقول : اللّهمّ من مات جوعا فلا تؤاخذني به ،

و من مات عريانا فلا تؤاخذني به ٣ .

هذا ، و روي أنّ علي بن الحسين عليه السلام قال لمولاة له يوم جمعة : لا يعبر على بابي سائل إلاّ أعطيتموه ، فإن اليوم الجمعة . فقال له أبو حمزة الثمالي :

ليس كلّ من يسأل مستحقّا ، فقال عليه السلام : أخاف أن يكون بعض من يسألنا مستحقّا فلا نطعمه فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب ، إنّ يعقوب كان يذبح

ــــــــــــــــــ

( ١ ) الأغاني ١٥ : ٢١٠ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) الأغاني ١٢ : ٧٣ .

( ٣ ) حلية الأولياء ٢ : ٨٧ .

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601